التخطي إلى المحتوى

رواية عذرا لكبريائي للكاتبة أنستازيا الفصل الرابع والعشرون

لا يمكنه ان يكون جاداً! أ. أنا حتى لم اخبره بمشاعري. لم أخبره بأنني أحبه! لم أعد اهتم بردة فعله ولا بتسلطه على اريد فقط ان ابوح له بما اشعر به وليحدث ما يحدث ويرضي غروره ولكن كل شيء إلا هذا! ما الذي فعلته له لأستحق عقاب كهذا؟!
أنا السبب! أنا السبب. لو لم أتدخل واوقفه لما أُصيب. لن اسامح نفسي!

من بين بكائي التقطت اذناي صوت مكابح سيارة قوي وبدون انتظار وجدت تيا وجوش يدخلان محدقان إلى المكان والفوضى بذهول قبل ان يصوبا اعينهما نحونا.
جوش: بحق الإله! ما المجزرة التي حدثت هنا تحديداً؟ لفت انتباهي صوت شهقات شارلوت فأسرعت انظر لليسار و أتجمد في مكاني بذعر!
أرجوا اننا لم نتأخر! تحركت نحوهما بينما ظلت تيا تقف متسمرة بصدمة.

انحنيت امامهما لأرى عنق شارلوت ينزف وتبدو كالطفلة المذعورة وهي تحتضن رأس كريس المستقرة في حجرها ورفعت عينيها المتوردة نحوي: سيد جوش علينا ان نتحرك بسرعة.
لحسن الحظ انني رافقت تيا التي كانت تنوي الذهاب لكريس وحدها، لو وصلت هنا من دوني فستبقى في مكانها كما هي الآن!
اعلم انها تحت تأثير الصدمة وتحاول تكذيب عينيها وعاجزة عن الحركة ولكن على ان اتصرف بسرعة ولا وقت اسمح فيه للمشاعر بالتدخل.

جثيت على الأرض واسرعت اسحب يدا كريس لألفها حول كتفاي واحمله على ظهري، وقفت شارلوت كذلك وهي تضع يدها على ظهره وكأنها تخشي سقوطه أو ان يصيبه مكروه.
اللعنة لو لم يكن يفوقني طولاً لكان الوضع أسهل!
تحركت نحو الباب قائلا بحزم: تيا تحركي.
نظرت إلى بعدم استيعاب وتبعتنا كما لو كانت تحت تأثير مخدر قوي المفعول!
وقوعها تحت تأثير الصدمة يظل أفضل من الإنفعال والصراخ فهي متعلقة به وقد تفقد عقلها حتماً!

بعد لحظات كنت أقود السيارة وقد اتسخت ملابسي بدماء كريس الذي وضعته في المقعد الخلفي وشارلوت تحاول ان تثبت وضعيته وتحيطه بذراعها ولم تتوقف عن البكاء!
تيا تجلس بجانبي وبالكاد تطرف بعينيها! إنه هدوء ما قبل العاصفة. ستنفجر في أي لحظة أدرك هذا جيداً.
علي ان اصل بسرعة فأنا ايضا متوتر من بكاء شارلوت وهي لا تيأس من محاولة إيقاظه.
كم هو مظهر صعب لأراك هكذا يا كريس!

فاقدا لوعيه وعاجزاً عن الحركة بوجه شاحب مليء بالكدمات والجروح.
ليس وكأنها المرة الأولى التي نجده فاقدا لوعيه فلطالما حدث ذلك بسبب باتريشيا. ولكنني ظننت ان الخطر قد تركه وشأنه! ليس الآن وهو يبلغ السابعة والعشرون.!
لا يجب ان يعلم ماكس بالأمر، ولا كلوديا التي اعرف كيف ستنهار وتفقد اعصابها.

علي ان اتأكد من سلامته أولاً، ذلك اللعين الجشع براد نجح بالفعل من الهروب من سجنه. بل وذهب مباشرة إلى منزل كريس مدركاً لوجهته.
لن أتهاون معه عليه ان يدفع الثمن.
انا قلق ايضا بشأن شارلوت، لا أدري ما الذي كانت تفعله في منزله بعد انفصالهما مؤقتا ولكن يا له من توقيت سيء جداً فهي أيضا مصابة.
لا يبدو جرحا واحدا فالدماء على عنقها تبدو متوزعة بطريقة ما!

اختلست نظرة لتيا لأرى تلك الصدمة لم تختفي عن وجهها. هذا أيضا سيء جداً!
بعد دقائق وعندما وصلنا للمشفى أُخذ كريس فوراً إلى غرفة العمليات وها نحن نقف في الممر ننتظر بفارغ الصبر وبقلق، وفي كل مرة يرن فيها هاتفي إما من ستيف او كلوديا او شخص آخر أقوم بتجاهله فوراً فبالرغم من كل هذا فانا كذلك أشعر بأن قواي وقدرتي على التحمل قد خارت.

اخبرني أحد الممرضين انه تم تقديم بلاغ من المشفى إلى الشرطة لأن حالة كريس كانت حالة التعرض للطعن ولهذا ذهبت معه للتحدث قليلا وعندما عدت وجدت شارلوت تجلس وقد أنهكها البكاء أخيرا لتهدأ وتحدق إلى الأرض تارة وإلى باب غرفة العمليات الذي يعتليه الضوء الأحمر تارة أخرى.
أما تيا فتجلس مقابلها على المقعد الآخر وقد ارتخت ملامحها وشحب وجهها ولم تنطق بحرف واحد حتى الآن!
تقدمت نحوهما وقلت بقلق: شارلوت. عنقك!

في هذه اللحظة اتت ممرضة وقالت: عذرا سيدي. ولكن علينا النظر إلى جرح الآنسة.
أومأت برأسي فأسرعت شارلوت تقول بحزم: أنا لن أتحرك ولا يهمني هذا الجرح.
ثم اشاحت بوجهها فقلت محاولاً اقناعها: شارلوت انتظارك هنا لن يأتي بنتيجة لكريس! طهري جرحك وانظري إلى مدى خطورته وعودي فوراً إلى هنا!
لن أتحرك.

لقد استمر الجدال دقائق عديدة حتى ان الممرضة قد غادرت مؤقتا بعد ان اخبرتها انني سأنجح في اقناعها ولكنني عجزت وفشلت! وحينها فكرت بأنه من السيء جعلها هكذا وعلى إخبار أحد أفراد اسرتها.
وهذا ما دفعني لأسأل تيا التي لا تزال على حالها: انا بحاجة لمكالمة احد أفراد اسرتها. هل تعلمين كيف اجد رقم أحدهم؟ هي منفعلة ولن أتمكن من الإستفادة من سؤالها.

مدت يدها نحوي دون ان تنظر إلى بوجهها المصدوم الشارد، كانت تعطيني الهاتف فتناولته منها باستغراب لأجدها تهمس: رقم إيثان لا زال في هاتفي.
إيثان! آه. شقيق شارلوت الذي كانت تيا تواعده.

اسرعت اخذ هاتفها باحثا عن إسمه وفورا ضغطت على زر الإتصال وانتظرت ولكنني لم أجد رداً، حاولت مرة أخرى والنتيجة نفسها ولكنني كنت مستمرا دون يأس حتى اتى صوتٌ منزعج: يدهشني انكِ لا زلتِ تحتفظين برقم هاتفي. ما الذي تريدينه الآن؟
ارتفع حاجباي وفكرت للحظة بأنه بالرغم من كل هذه السنوات فصوته المألوف لا يزال يحتفظ بعمقه المميز، لقد تذكرته جيداً الآن. كان مجداً في العمل ولافتاً للأنظار.

ولكن منذ تلك القضية اختفى تماما ولم أسمع بإسمه من تيا او ماكس.
اسرعت اتذكر الزمان والمكان وأقول بهدوء: إيثان؟ هل هذا أنت؟
لحظة صمت تلاها صوته المستنكر: من أنت!
آه. انا جوش! زوج عمة كريس إن كنتَ تذكرني.
هاه!
هذا ليس موضوعنا، لم أكن أريد قولها بهذه الطريقة ولكن وقع امر طارئ وأفضل ان تسرع إلى هذه المدينة يوجد مسألة مهمة جداً.

اتى صوته بهدوء وجمود: انا لازلت هنا ولكنني لن أذهب إلى أي مكان. سأعود إلى منزلي بعد قليل.
أسرعت اعترض: مهلاً! شقيقتك في المشفى وعنقها مصاب ولكنها ترفض معالجة نفسها. طالما انك هنا فلتأت إذاً وبسرعة من فضلك.
بدى مذهولا وهو يتلعثم: ش. شارلوت! هل هي بخير؟ كيف حدث ذلك! ما الذي أصابها تحديداً! ما الذي تفعله في هذه المدينة اصلاً!
اجبت باستغراب: كانت في منزل كريس.!
ذلك الوغد! لقد تجرأ بالفعل!

كريس أسوأ حالاً من شارلوت. هذا ليس الوقت المناسب، نحن في انتظارك في المشفى لذا أسرع.
أ. أنا قادم!
اغلقت الهاتف متنهداً واقتربت من تيا لأناولها هاتفها ولكنها لم تستجب، ذهنها لم يعد معها.
يا الهي!
وضعت الهاتف بين يديها وحينها همستْ بضياع: سأفقده. سيتركني وحدي.
جلست بجانبها مهدئا: رويدك يا تيا كريس سيكون بخير لا تقلقي!

نفيت ببطء: سيتركني وحيدة. لن يكون لي ظهراً استند عليه. سيرحل عني! كريس سيتركني حتماً، وأدرك جيداً أنني سأموت بعده فوراً!
لا تقولي هذا!
لو حدث له شيء. فلن يكون هناك لي دافعا بالإستمرار في هذه الحياة. أفضل الموت على سماع خبر سيء بشأنه. أريد الموت!
ظلت تتحدث بضياع وارتياب فزميت شفتاي بلا حيلة. وكل ما فعلته هو التربيت على كتفها بلطف.

مر الوقت ونحن ننتظر خروج كريس من غرفة العمليات، وأثناء انتظارنا سمعت خطوات تقترب مصدرة صوتا واضحا في الممر الذي يكاد يكون فارغاً، التفتُ لأرى شابا طويل القامة يقترب بوجه قلق.
علمتُ فورا أنه إيثان نظرا للشبه الكبير بينه وبين شارلوت ولأنني تذكرت ملامحه هذه أيضاً! لم يتغير بل بدى وكأن لقائي الأخير به كان في الأمس.
قبل ان اقول شيئا أو احييه أسرع نحو شارلوت واقفا امامها بذعر وهو يمسك بوجهها بعدم تصديق!

نظرت شارلوت إليه للحظة دون استيعاب ولكنها انفجرت فجأة لتبكي وتقفز لتعانقه قائلة: كريس مصاب بسببي! أنا السبب يا إيثان. لم يخرج حتى الآن! لو لم أوقفه واتدخل لما أُصيب.
رفع يديه يهدئها وهو يربت على رأسها بملامحه القلقة متسائلا: ماذا عنكِ؟ هل أنتِ بخير؟ ما هذه الدماء على ملابسك وعنقك!
حين كان يتفقدها لمحت تيا التي وقفت بوجه متفاجئ واقتربت نحوهما لتتساءل بنبرة ارتياب: ما الذي تقصدينه بأنكِ السبب؟

ابعدت شارلوت رأسها عن صدر إيثان ببطء واجابت من بين شهقاتها الباكية: لقد كان يتشاجر مع براد ولكنني تدخلتُ وطلبت من كريس التوقف. وبسببي ارخى دفاعه وطعنه براد ليهرب. تسببتُ في إصابته!

اقتربت منهم عندما تملكني توجس وشعور بعدم الإرتياح لأمر قد يحدث، وكنتُ محقا لأن تيا امسكت بشارلوت من قميصها بإنفعال شديد: ماذا! وتقولينها بكل بساطة! هل رأيتِ كيف هي حالته بحق الإله؟ هل كان عليك التدخل وحشر أنفسك! أخبريني. هل أنتِ سعيدة الآن؟ أنا لن أسامحك هل تسمعين هذا؟ هل تسمعين؟
نفيت برأسها وهمست بضعف: تيا أنا حقا. آسفة.
بماذا سيفيد أسفك! هل اعتذارك سيُخرج كريس؟ هل هذا كل شيء!

اسرعت احيل بينهما وكذلك إيثان الذي ابعد شارلوت ولكن تيا كانت عنيدة وهي تحاول الإقتراب منها بالرغم من منعي لها لتنجح في إمساكها من قميصها مجددا وتصرخ بكلمات منفعلة ساخطة فحاولت تهدئتها: هذا يكفي يا تيا! ما تفعلينه لن يفيد كريس بشيء!

انفعلت ببكاء وقد انفجرت هي الأخرى: وهل اعتذارها سيفيده! بل وأنني أخبرتها بأنه يعني لي كل شيء! هي تعيش بين عائلتها ولن تشعر بما أمر به! لديها والديها واشقاؤها ولن تفهمني! اخي وصديقي الوحيد طريحٌ بلا حيلة وهي كل ما تفعله الإعتذار! هل كان عليها التدخل في شجارهما؟ ماذا لو لم يخرج كريس؟ هل تعتقد بأنني سأستمر في هذه الحياة حقاً؟! سأقتلها وأفتل نفسي فوراً!

كان إيثان ينظر إليها بنظرات عميقة متضايقة بعض الشيء وفي الوقت انه يمرر يده على رأس شارلوت ليوقفها عن البكاء فأسرعت أقول برزانة: تيا سيتم طردنا من هنا! لا يجب ان نتسبب في الإزعاج اهدئي وفرغي غضبك في وقت لاحق. ولكن انظري إليها هي أيضا جريحة وتنزف مع ذلك لم تبالي سوى بكريس. نحن أيضا قلقون!

بكت تيا ومُزج صوت بكاؤها بصوت بكاء شارلوت مما جعل الممرضين والممرضات يحدقون إلينا بحيرة وإرتياب، عادت تلك الممرضة متجهة نحونا ونظرت لشارلوت وتيا بتوتر وتوجس قبل ان تتساءل بتردد: هل يمكنني تطهير جرحها الآن؟
نظرت بدوري لإيثان ووضحت له ان شارلوت كانت ترفض تضميد عنقها، نظر إليها بهدوء: هيا. لنذهب لتطهير جرحك وإيقاف النزيف.
نفيت شارلوت بعناد وبعين دامعة: أريد انتظار كريس.
لن نتأخر.

لا! ماذا لو خرج ولم أكن بجانبه!
بدلا من اهدار وقتك بالعناد دعينا نرافق الممرضة وننهي الوضع إن كنتِ تنوين انتظاره حقاً.
حاول إقناعها حتى رضخت أخيراً وذهبت معه وهو يمسك بيدها تقودهما الممرضة إلى إحدى الغرف القريبة.
كنت أجلس انا وتيا وفي كل حين أحدق إلى الساعة في معصمي.
نظرت إليها وهو تمسح أنفها المتورد بالمنديل وتنظر للأرض بصمت بعيون دامعة وشفتيها ترتجفان دون توقف.

ربع ساعة أو أكثر وعادت شارلوت وشقيقها وجلسنا جميعنا بتوتر.
قال إيثان بهدوء موجها حديثه إلي: عذرا سيد جوش على فظاظتي لم أقم بتحيتك.
نفيت برأسي بهدوء مماثل يجوبه تعب من الإنتظار: لا بأس. الأمر طبيعي.
ما الذي حدث تحديداً؟
هل تذكر الموظف براد الذي أوقع بك في قضية الاختلاس وورطك؟
لمعت عيناه الخضراوان بالدهشة وسرعان ما احتدتا ليقول بتهكم: بالطبع. ما خطبه الآخر؟!

لقد هرب من السجن وذهب إلى منزل كريس مباشرة وانتهى الأمر به هارباً. الشرطة تبحث عنه مسبقا ولا زلنا بانتظار الأخبار لنطمئن.
عقد حاجبيه بشيء من الإستنكار ونظر لشارلوت لثواني قبل ان يسألها: ما الذي كنتِ تفعلينه هناك؟
أخفضت رأسها بتردد وهي تجيب: ذهبت لأنهي مسألة الزواج ولكن حدث ما حدث.
متى ذهبتِ! انتِ لم تكوني في منزله قبل ساعتين عندما كنت أنا هناك!

ظهر الإرتباك على ملامحها بوضوح في حين ضاقت عينيه بتركيز وحزم!
أجابت على مضض: لقد. كان متعباً في الأمس، و. كما ترى!
كما أرى. ماذا؟
لم أستطع تركه كما ان الاجواء لم تسمح بذلك! فانتظرت في منزله وع.
هذا يعني انكِ كنت هناك منذ الأمس، ما أسألك عنه لما لم أراك هناك اليوم!

سألها بحدة فانتفضتْ بوضوح وأشاحت بنظرها بعيداً قبل ان تتمتم بتوتر: لماذا تسألني عن هذا الآن! إيثان انا حقاً متعبة ولستُ في مزاج يسمح لي بالحديث حول مشاكلك معه.
اومأ برأسه بغيض واشاح بوجهه للجهة الأخرى، تنهدت بعمق وبلا حيلة.
هكذا إذاً. لا يبدو راضيا عن علاقة شارلوت بكريس بعد ما حدث. من منا قادر على لومه! ولكن اعتقد بأنه لا يجب ان يخلط بين الأمور ويظلم شارلوت فلا ذنب لها بتلك المشاكل القديمة.

مر الوقت بطيئاً حتى اضاء اللون الأخضر مما جعلنا نقف بسرعة وبترقب، فُتح الباب ليخرج الأطباء.
رأيت السرير الذي يدفعه الممرضون ويستلقي كريس فوقه وكم ادهشني وافجعني وجهه الذي باتت الكدمات والجروح فيه أكثر وضوحاً وبروزاً! بل وشحوبه كمن لو كان جسد لا روح فيه!
تسمرت في مكاني ولكن شارلوت اندفعت نحوهم تتبعهم بسرعة وكذلك تيا.

وقفت انا وإيثان ننظر إلى الطبيب الذي اقترب فسألته بإهتمام وقلق: كيف حاله أيها الطبيب؟
ابعد الكمامة عن وجهه ليرخيها أسفل ذقنه وابتسم بهدوء ورسمية: تجاوز مرحلة الخطر، فقد الكثير من الدماء ولحسن الحظ ان فصيلة دمه ليست نادرة، سيبقى في العناية حتى تستقر حالته تماماً وحينها سننقله إلى غرفة أخرى.
انهى جملته وغادر فأخذت شهيقا عميقا واطلقته براحة!

الحمد لله! وأخيراً. لا يمكنني وصف راحتي النفسية الآن وسعادتي، تبعت تيا وشارلوت وخلفي إيثان.
باختصار كنا نتبع الممرضون حتى تم ادخاله إلى العناية، تم منعنا من مجرد الدخول عند المدخل فوقفنا نحدق جميعنا إليهم وهم يوصلون المغذي إلى يده وجهاز القلب وكذلك الأوكسجين.
شارلوت:.

لا يمكنني وصف الراحة التي أشعر بها لمجرد خروجه من غرفة العمليات! حالته لم تعد خطيرة. صدري يعلو ويهبط جراء شعوري بالإرتباك وانا انظر إلى الممرضين اللذين خرجوا من الغرفة فأسرعت اتساءل: أرجو المعذرة، ألا يمكنني الإطمئنان عليه اكثر والدخول ولو لبضع دقائق؟
أجابني الممرض وهو يغلق الباب: لا يا أنسة الزيارة ممنوعة حتى تستقر حالته ويُنقل إلى غرفة أخرى.
تقدمت تيا لتسأل بقلق: ومتى ستسقر حالته ويفيق؟

أتى رده بلباقة: حالياً نستبعد استيقاظه اليوم، ربما في الغد مساءً. لا داع للقلق سيكون الإشراف عليه مشدداً لا سيما وانه قد تم تقديم بلاغ من الشرطة بشأن حالته، وبالمناسبة قد لا يكون قادرا على التجاوب بسرعة حين يستيقظ لذا من الأفضل ان تنتظروا ليلتان حتى يصبح السيد واعيا تماماً.

أضاف مفكراً: ولكن ان استيقظ غداً وزال تأثير المخدر فسيُسمح لشخص واحد بالمبيت معه، ولكن بعد نقله من العناية. والآن أرجو المعذرة.
غادر الممرض وتركنا ننظر إلى باب العناية. تقدمت لأنظر من خلال النافذة الزجاجية إلى كريس الغائب عن الوعي. على الأقل أعلم انه بخير. هذا يكفيني.
حينها قال السيد جوش بأنه بحاجة للتحدث مع إدارة المشفى بشأن البلاغ ورحل.

فواصلت انا وتيا التحديق من خلال النافذة بجانب بعضنا، وقبل أن أتمكن من التفكير أكثر تفاجأت بيد تمسكني وتبعدني عن الباب، لم يكن سوى إيثان الذي جرني بهدوء لأسير بجانبه فتساءلت بحيرة: ما الأمر!
أجابني دون ان يلتفت: ما الذي تقصدينه؟ إنه بخير وستعودين معي للمنزل.
اتسعت عيناي: ماذا!
طرفت بعيني بلا استيعاب وحاولت إيقافه: إيثان انتظر من قال بأنني سأعود للمنزل! قلت لك انتظر أرجوك!

ظل يتجاهلني وحاولت مرارا و تكرارا انتزاع يدي دون جدوى!
تيا:
حدقت إليهما بإستياء وإنهاك.
بسبب خوفي على كريس تصرفت مع شارلوت بعنف ولكنني حقاً لا زلت غير قادرة على إستيعاب الأمر. أعلم ان وقوفي هنا أمام العناية لا فائدة ترجى منه ولكنني لستُ قادرة على الإبتعاد!

لقد انفجرت باكية في وجهها بسبب صدمتي التي حاولت تخطيها طوال الوقت وأنا أفكر. ماذا لو فقدته كما فقدت أبي! ماذا لو رحل كريس وتركني وحدي. ماذا لو وجدتُ نفسي وحيدة؟ أنا واثقة بأنني سألحق بنفسي بأذى كالإنتحار أو الجنون.

هو الوحيد الذي كان بجانبي عندما لم أجد أحداً حولي. كريس من كان يؤنس وحدتي بالرغم من لا مبالاته وشخصيته الصعبة، هو من كان يملأ على خلوتي ولم يجعلني من بعد صداقته أشعر بالوحدة واكتفيت بعلاقتي به!
ظننت بأنني سأخسره، ولو حدث هذا، فيعني أن حياتي صارت بلا طعم لا سيما وانني قد سبق وخسرت إيثان الشخص الذي أحببته ولا زلت.

وبذكره الآن وجدت قدماي تتحركان بسرعة طالما انه لا يوجد ما أفعله هنا، غادرت باحثة عن شارلوت وإيثان حتى خرجت من المشفى ولم أكلف نفسي عناء الإنتظار فيوجد إثنان صوتهما العالي يلفت الأنظار في حديقة المشفى.
لمحتهما يتحدثان او يتشاجران على الأغلب، اقتربت منهما وفي هذه اللحظة نظر كل منهما للآخر بغضب وحدة، تجاهلت الجو المشحون وقلتُ بهدوء يجوبه تردد: شارلوت، لقد كنتُ منفعلة قبل قليل ولم أقصد الصر.

ولكنني تفاجأتُ بها تسرع نحوي لتقف خلفي وكأنها تحتمي بي وتقول بحزم: لن أغادر حتى أرى كريس قد استعاد وعيه. لن تجبرني يا إيثان!
احتدت عيناه وزمجر بصوت حاد: أيتها المغفلة العنيدة! ما الذي حدث لرأسك! لماذا أنتِ قلقة بشأنه إلى هذا الحد؟ الم تقولي بأنك اتيت لإنهاء الزواج؟ لماذا إذاً تصرين على البقاء؟

ولكنه سرعان ما تدارك أمراً واقترب خطى صغيرة ينظر إليها خلفي بدهشة: لا تخبريني. بأنكِ أحببته! لا تقولي بأنه كان جاداً عندما قال لي أنكِ واقعة في حبه!
شعرت بيد شارلوت التي تمسك بي وهما ترتجفان لتجادله: كل ما أريده هو الإطمئنان عليه فقط وأعدك بأنني سأعود للمنزل بنفسي!
أنتِ لم تجيبي على سؤالي!
انا حقا منهكة ولم أعد استطيع مجادلتك يا إيثان. من فضلك اتركني حتى يستيقظ وسنتفاهم!

استمر شجارهما والتفت الكثيرون نحونا فانتابني القليل من الإحراج من هذا الوضع كما لو كنت أقف بين طفلان لا يجيدان سبل الحوار!
تدخلت مهدئة: حسنا هذا يكفي الجميع ينظر إلينا! شارلوت عودي إلى المنزل و.
ولكن نظراته نحوي أخرستني وألجمت لساني! بدى من الواضح ان صوتي في هذه اللحظة كان آخر صوت يريد سماعه! بل ولوى شفته بازدراء مما آلمني كثيرا وجعلني أسرع بإبعاد عيناي عنه لئلا اشعر بالضعف أكثر!

ولكنه في النهاية لم يرحم ضعفي وقال بحزم مشيرا إلي: حين أتحدث مع أختي لا تتدخلي. ما الذي تفعلينه بالوقوف بيننا على أي حال!
تفاجأت بنبرته وكلماته وطرفت بعيني أنظر إليه وكأنني أرجو أن أعود بالزمن لدقيقة فقط وانسحب قبل ان يخرسني بهذه الطريقة! حديثه معي هكذا وبهذه النبرة وتلك العينان التي لم تعد تنظران إلى بلطف حاني دليل واضح وكافي على أن مشاعره نحوي لم يعد لها وجود!

اجفلت لتدخل شارلوت بحدة: لا تتحدث إليها هكذا! نحن نحتضر قلقاً على كريس بينما انت مشغول بالنبش في أمور الماضي! توقف عن اقحام امور نستطيع تأجيلها لوقت لاحق!
رص على اسنانه بغضب: تحدثي إلى شقيقك الأكبر بإحترام يا شارلوت!
شعرت بها استاءت او انتابها الندم للحظة ولكنها همست بغيض: سأصمت ولكن دعني وشأني.
إلا أنه تقدم محاولاً الإمساك بيدها فأسرعت تحركني معها رغما عني لتتفادى ان يمسكها!

وهذا ما جعلني أُرغم كذلك على ان ارفع يداي على صدره محاولة تهدئته بصمت وابعاده عنها وعني! ولكنه لم يكن منتبها لذلك بل عيناه الخضراوان التي احدق إليها كالأسيرة المكبلة بالقيود لمعت بحنق وهو يهدد شارلوت وهي تجادله، في الواقع لم أكن اسمع أي صراخ لأنني كنت مشغولة بالنظر إليه! بدى في هذه اللحظة أن العالم المحيط بي لا أصوات فيه، ولا كائنات حية سوى إيثان فقط!، انه غاضب مع شقيقته بينما انا شاردة الذهن استغل هذه اللحظات الغير مناسبة في تأمل ملامح وجهه عن قرب! بل وان افكاري المنحرفة قادتني لرغبة عارمة معانقته وتقبيله لأدرك الواقع متذكرة خيانتي وغدري به واتراجع فوراً بإنكسار شديد.

ولا أدري كم مر من الوقت حتى سمعته يقول بحدة: حسنا يا شارلوت ستندمين على هذا، لا تلوميني على ما قد يحدث. سنرى إلى أي مدى سترغبين في البقاء هنا.
قالها واراد الإبتعاد ولكنني فاجأته بالتمسك به متشبثة بالجزء العلوي من معطفه!
نظر إلى بشيء من الدهشة وكذلك نظرت إليه بتوتر شديد!
طرف ببطء ولعدة ثواني قبل ان تأخذ الحدة مجراها على ملامحه وهو يبعد وجهه عني وكأنه قد ازدرد ريقه بصعوبة: ابتعدي.

حاول ابعادي وهو يتحرك مبتعدا إلا أنني لازلت متشبثة مما أثار استغرابه لتتسع عيناه، فأسرعت أهمس بتلعثم وصوت اتضح فيه ارتباكي: أود الابتعاد ولكن ازرار معطفك علقت بقميصي!
اخفض عيناه بعدم فهم يجوبه إمتعاض ونفاذ صبر ليجد ازرار معطفه قد تخللت الخيوط في قميصي مما جعلني أسرع قائلة: ا. انتظر.

قلتها وانا احاول اخراج ازرة معطفه من قميصي ولا أدري هل تخيلت ذلك بفعل مشاعري ام لا ولكنني شعرت به يحدق إلي.! وهذا ما جعل حركة يدي مضطربة غير متزنة!
شارلوت:
من يلقي نظرة خاطفة عليهما سوف يسيء الظن بلا شك! انهما قريبان من بعضهما جداً وهذا ما جعلني انظر إليها انتظر تحرير الازرة في معطفه وأقف مشاهدة بصمت كبعض الناس من حولنا!

كنت انظر إلى إيثان الذي يحدق إليها، فبالرغم من ان ملامحه كانت غاضبة. إلا أن عيناه لم تكونا كذلك! أنا لا أدري كيف أصف الأمر ولكن يبدو وكأنه ينظر إليها كشخص التقى بأخر ويرغب في حفظ تفاصيل ملامح وجهه! بدأت أتساءل بسبب هذه النظرات عن سر علاقتهما! هما يعرفان بعضهما بسبب العمل ولكن.
ما طبيعة هذه العلاقة أصلاً! هل هي زمالة أو معرفة سطحية؟

واصلت التحديق إليهما وانا ارفع يدي اليمنى امررها على الضمادة الموجودة على عنقي غارقة في أفكاري حتى رأيت تيا تبتعد عنه بسرعة قائلة: انتهيت.
رمقها بصرامة قبل ان يستدير: هذا جيد. لأنني كنت سأقوم بخلع معطفي وتركه لو طال الوضع.
اتسعت عيناي لكلماته الغير مراعية وتابعته أكاد أحرقه بنظري مغتاظة وهو يبتعد!
اقتربت من تيا بفضول لأراها تلاحقه بعينيها التركوازية الواسعة بأسى وخيبة أمل واضحة!
ما خطبهما تحديداً!

لم أدرك انها عادت لتوجه إهتمامها نحوي لأنني كنت مشغولة بالتفكير، ولكنني أفقت من شرودي عندما قالت بهدوء: هل أوصلك إلى منزل السيد ماكس؟
نفيت فوراً: لا! لن أذهب. لا يجب ان اعود هناك.
ثم ترددت كثيراً ومررت يدي على ملابسي المتسخة والمنكمشة لأتمتم: لقد رحل إيثان، ولا أعرف ما على فعله! لا يمكنني البقاء هنا بالرغم من أنني قلت هذا للتو!
أنتِ بالفعل حمقاء! هل قلت هذا بدافع العناد وحسب؟
أ. أعتقد هذا!

ما الهدف من افتعال شجار كهذا!
لا أدري، ربما كان على أن أنتقي كلمات أفضل وأتوقف عن مجادلته. ولكنه أغضبني! وكانه لا يبالي بما حدث لكريس.
أنت وأخاك. لا تختلفان إطلاقا! يبدو انكما ولدتما في هذا العالم لتكونا عبيدا للكبرياء.
احترت لجملتها متسائلة بعدم فهم: ما مدى عمق معرفتك به!
تجاهلت سؤالي نافية وهي ترمي المفتاح نحوي فالتقطته القي عليه نظرة، إنه مفتاح سيارة! ماذا أفعل به؟

بادرت أقول مقتربة نحوها: أنا لا أجيد القيادة!
أعلم. انتظريني في السيارة ريثما اتفقد جوش لأرى إن كان بحاجة إلى وسأعود.

أومأت برأسي موافقة فعادت هي لتدخل المشفى. استدرت على عقباي اخرج من حديقة المشفى واعبر المدخل وكم كان مظهري مريبا ومخيفا بالنسبة للناس وانا امشي بقميص ملطخ بالدماء وعنق مضمدة، بالإضافة إلى شعري الطويل المنسدل والمبعثر بإهمال وكأنه تعرض لشحنات كهربائية أدت إلى تنافره لتتخاصم كل خصلة مع شقيقتها الأخرى.

عندما وصلت لموقف السيارات كنت أضغط على الزر في مفتاح السيارة لأبحث عنها وأنا أتذكر انها سيارة حمراء من طراز وشركة معينة لذا بحثت بعيناي وانا أفكر بجملتها قبل قليل، عبيد للكبرياء هاه؟
لماذا قالت هذا عن إيثان؟ وأتساءل أيضا إن كان سيعود إلى منزلنا مباشرة، بذكر الأمر على أن أتصل بأمي وأطمئنها بشأني ففي الأمس فقدت وعيي ونسيت الإتصال بها. لحظة!

انا لم اتناول فطوري او غدائي حتى الآن! وفي الأمس لم أتناول عشاءي أو حتى شيء خفيف! على أن أنقذ جسدي أنا أسمعه يصرخ ويرجوني ولو بقطعة خبز متعفنة. بمجرد الإطمئنان على حالة كريس بدأت اشعر أن الهواء خفيف والإستنشاق بات أسهل بكثير.
من يصدق أنني تلك المجنونة التي كانت تصرف بطريقة هستيرية عليه!

سمعت صوت خافت للسيارة فعلمت بمكانها وركبت لأنتظر تيا، وبينما أنا أنتظرها لويت شفتي أشعر برغبة عارمة في لقاء ذلك الوغد براد والقنه درساً بنفسي ليندم على فعلته.
لن أنسى مشهد إصابة كريس طالما حييت، بل وأراهن على أنني سأحكيه لأحفادي كأول موقف مرعب أمر به!
فُتح الباب لتدخل تيا وتستقر خلف المقود فسألتها: ما الذي قاله السيد جوش؟

كل شيء على ما يرام أخبرني أنه لن يكشف الأمر للعائلة قبل ان تستقر حالة كريس كما وقع على إجراءات ليتم نقله إلى الجناح الخاص عندما يخرج من العناية. بالإضافة إلى أن الشرطة تبحث في أمر براد والأهم من هذا إلى أين أنتِ ذاهبة إن كنتِ لن تعودي إلى منزل عائلة كريس!

فكرت قليلا بحيرة، إن كنت لن أعود لمنزلي أو أذهب لمنزل السيد ماكس فأين على إنتظار عودة كريس لوعيه؟ هل انهي الأمر واعود لمنزلي وارتاح ثم اتي لهنا لاحقاً؟ ولكن تيا ستسلك طريقا طويلا بهذه الطريقة ولا أريد ان اتعبها او اهدر وقتها معي فيكفي ما حدث اليوم.
ما الذي على فعله؟

إن كنتِ تفكرين في قضاء الليلة في أحد الفنادق فانظري إلى نفسكِ جيداً، لو دخلت الفندق هكذا فسيتم استدعاء الطوارئ فوراً. تبدين وكأنك هاربة من عصابة ما.
أردفت بملل: يمكنك الإستحمام وتغيير ملابسك في شقتي.
و. ولكنك.
ابقي حتى اسأم منكِ وحسب، على أي حال ان لن أقدر على تحريك يداي أكثر لذا دعيني اتوجه إلى شقتي واصمتِ.
زميت شفتاي بتردد: لا أعلم.
لست في انتظارك رأيك.

قالتها وهي تبدأ في تحريك السيارة فنظرت إليها بطرف عيني بحيرة، من يصدق أنها تيا التي كانت تعاملني بتعجرف وتحاول استفزازي طوال الوقت! بذكر تيا القديمة. لماذا هي مختلفة معي الآن؟ بل منذ الأمس! هي لم تكن تطيقني حتى وتبدو على قيد الحياة بغرض اللعب بأعصابي أنا لن أنسى تصرفاتها! هل تكون مثل كريس تتقمص مئة شخصية مختلفة!

اقتحم عالم تساؤلاتي جسدي الذي يميل لليمين واليسار جراء تجاوزها للسيارات بسرعة فالتصقت في المقعد بذعر وهمست بريبة: ما الذي تفعلينه!
نظرت إلى ببرود وملل فانزعجتُ متسائلة وأنا أكاد اخترق المقعد: لا تجعلي الأمر يبدو وكأننا في فيلم سينمائي! هل نحن مطاردون أم ماذا؟!
علقت بتثاقل: أكره الإنتظار كثيراً، الديك مشكلة؟
بالطبع لدي! لماذا تقودين بتهور؟
أنا حرة في طريقتي بالقيادة.

حسنا كنت أتساءل عن تغيرها للتو واتضح انها تيا نفسها.!
تنهدتُ بعمق مستسلمة: افعلي ما شئتِ ولكن تأكدي من إيصالي وأنا على قيد الحياة لا أزال في الحادية والعشرون من عمري فقط.

بعد فترة اوقفتْ السيارة أمام مبنى كبير. ترجلنا من السيارة وصعدنا درجات مدخل العمارة لأتبعها إلى المصعد، ضغطت على الزر السابع وعندما دخلنا شهقت بخفة متناسية ان الإنعكاس على المرآة يعود لي! بحق الإله ما هذا المظهر المريع لا عجب ان الناس لا يكفون عن ملاحقتي بنظراتهم الهلعة!

أُغلق باب المصعد لأواصل التحديق إلى نفسي بعدم استيعاب! وجهتي منتفخ بسبب البكاء وشعري أقل ما يقال عنه أنه مجموعة من عشوش العصافير بل وكأنني أضع فوق رأسي شعرا مستعارا صُنع من القش!
نظرت إلى الضمادة على عنقي ومررت يدي عليها هامسة: هل ستترك سكينه أثراً يا ترى وأعيش بعنق مشوه؟!
اتى صوت تيا التي تبحث في حقيبتها عن شيء ما: لو كان حرقاً فسيأخذ وقتا طويلا ليختفي ولكنه جرح وليس بعميق. لا أظن بأنه يدعو للقلق.

يبدو انها وجدت ما تريد لتخرج مفتاحاً من حقيبتها وعندما فُتح المصعد خرجنا لننعطف يمينا وتفتح باب شقتها، دخلت قبلي وأضاءت الإنارة لتقول بفتور ولا مبالاة: لستِ بحاجة إلى دعوة خاصة.
أومأت برأسي وتبعتها مبتسمة بهدوء: سأكون ضيفة خفيفة.

دخلت ببطء أحدق إلى الشقة التي كانت ذات أثاث في قمة الأناقة، فما ان دخلت حتى وجدت غرفة الجلوس أمامي مباشرة وعلى اليمين يوجد ممر سلكته تيا، أغلقت الباب خلفي و أوصدته بالمفتاح لأعاود تأمل المكان. إنها غرفة الجلوس حديثة الطراز بأثاث أبيض وأسود مُزج لونهما بالزهري والبني ليعطي اندماج مريح ولطيف من الألوان.

إنها مجموعة من الأرائك وفي منتصفها عند الحائط شاشة تلفاز كبيرة رفيعة وحولها رفوف مليئة بالكتب والأقراص المدمجة وعلى جانبيها سماعات لتكبير الصوت بشكل طولي. بالإضافة إلى السجادة ذات الوبر البارز البني مؤكدة لي ان الجلوس فوقها سيكون مريحا أكثر من الأريكة بحد ذاتها.
ستظلين هنا؟
قالتها بملل فالتفتُ أنظر إليها بسرعة: آه! توصلتُ للتو فقط بأن أثاث شقتك مشابه لأثاث منزل كريس.

هو من اختار هذا الأثاث عندما رافقني لتغيير تصميم الشقة.
هكذا إذاً.
نزعت معطفها ووضعته على مرفقها لتقول بهدوء: أخرجتُ لكِ بعض الملابس، الماء ساخن فلقد قمت بتجهيزه قبل خروجي، استحمي واغتسلي من هذه الدماء. وإياك والتأخر فأنا أيضا بحاجة لأخذ حمام دافئ يريح أعصابي بعد ما حدث اليوم.
حسنا.
أشارت بيدها: غرفتي في نهاية الممر ستجدين بابها مفتوحاً.

أردفتْ مفكرة بلا حيلة وإمتعاض: لن أتمكن من إعداد العشاء كما أنها الرابعة مساءً فقط. سنتناول شيئاً خفيفاً وسأطلب من المطعم للعشاء عندما يحين الوقت.
كما تريدين. سأسرع للحمام.
في الواقع اعتراني شعور السعادة الشديد لمجرد ذكرها للطعام! فأنا اتضور جوعاً ولن أتمالك نفسي أكثر!
اتجهت لغرفتها بعد ان مررت بباب المطبخ، وجدت غرفتها مفتوحة كما وصفتها ولم أهتم بتفاصيلها لأنني بحاجة ماسة للإستحمام.

نزعت ملابسي وكنتُ حذرة أثناء الإستحمام لئلا أبلل مكان الضمادة في عنقي بقدر الإمكان. وفي أثناء وقوفي أسفل الماء الساخن لم يشأ عقلي التفكير بأي شيء، بل على العكس. كنتُ مسترخية إلى أقصى درجة شاكرة لهذه المياه لقدرتها على انتزاع التعب و تليين اعصابي.

عندما انتهيت خرجتُ الف المنشفة حول جسدي و خرجت من الحمام لأرتدي ما أخرجته تيا لي ووضعته على السرير، ناسبتني الملابس تقريبا فتيا ليست طويلة القامة أو قصيرة، بل متوسطة الطول مثلي تماما.
كنت أجفف شعري بالمنشفة عندما رأيتها تدخل الغرفة متمتمة: من الجيد أنك انتهيت، أرجو ألا تكوني قد اهدرتِ الماء الساخن كله!
ابتسمت: لا تقلقي، بالمناسبة هل لديكِ مج.
إنه هناك.

قالتها بهدوء مشيرة بعينيها إلى مكان بجانبي فارتفع حاجباي ونظرت حيث تقصد، إلى مجفف الشعر!
علقت ممازحة باستغراب: ش. شكرا يا قارئة الأفكار.
دخلتْ الحمام بينما اخذت مجفف الشعر وأسرعت بتجفيف شعري ثم قمت برفعه بإهمال وجلست على طرف السرير أغمض عيناي بتعب. أنا جائعة، ارجو ألا تطيل تيا في الحمام لأنني لن أجرؤ على طلب تناول الطعام هكذا.

مع أنني قررت هذا ولكن قدماي حركتني نحو باب الحمام لأتساءل: تيا. أنا جائعة!
أتى صوتها متثاقلاً: كنتُ أنعم بأفضل لحظة للهدوء والإسترخاء حتى سمعت صوتك. اذهبي للمطبخ وسترين طبقاً فيه بعض الشطائر قومي بتسخينها، أعدي لكِ كوبا من الشاي أو القهوة لو أردتِ. ابتعدي من هنا فقط.
ركضت نحو المطبخ ولعابي يكاد يسيل وانا افكر بالشطائر، أنا اسمع عصافير بطني تغرد بوضوح ومعدتي تتقلص بقوة.

رأيت طاولة في المطبخ أمامها كرسيان، اقتربت منها ووجدت الطبق وبدون تفكير أخذته لغرفة تيا وانا اتناول في طريقي الشطائر بنهم وعدم قدرة على الصبر أكثر، حتى أنني تجاهلت أمر تسخينه.
وبينما انا التهم الطعام وابدأ بالشطيرة الثانية لفت انتباهي الرف العلوي بجانب السرير و الذي وُضع عليه ألبوم كبير بعض الشيء.
وقفت بفضول وتناولته بحيرة. على أن استئذن أولاَ!

وضعته على السرير وتجنبت فتحه قبل ان اخبر تيا فانتظرت فترة من الوقت حتى خرجت بدورها وهي تضع المنشفة على جسدها وشعرها الأصهب القصير المبلل تتساقط منه قطرات الماء على كتفيها فتساءلتُ بفضول: ما هذا؟
البوم صور.
قالتها باستخفاف فزمجرت بإمتعاض: أوه حقاً؟ أدهشتني! اقصد. ما نوع الصور التي بداخله؟
تبدين فضولية جداً.
أ. أنا كذلك!

تحركت نحو المرآة وامسكت بالمجفف لتقول بهدوء: انها الصور التي التقطتها منذ صغري في المراحل الدراسية المختلفة حتى اليوم.
هل تسمحين لي بإلقاء نظرة؟
افعلي ما يحلو لكِ ولكن توقفي عن الثرثرة والسؤال عن كل شيء.
قالتها ببرود وهي تجلس على الكرسي المقابل للمرآة فأسرعت أستلقي على بطني، ووضعته أمامي وبدأت بتصفحه.

كانت الصفحات الأولى لتيا وهي صغيرة جدا، ابتسمت وانا اعبر بملامحي كم هي لطيفة آنذاك! لقد تغيرتْ كثيرا وباتت ملامحها أكثر حدة.
لفت انتباهي رجل ما يمسك بها ويبتسم بلطف مرتديا نظارة طبية ذو شعر أشقر فوجدت نفسي أتساءل: هل هذا والدكِ يا تيا؟!
انتظرتُ لحظات انظر إليها بترقب وهي تضع بعضاً من المرطب على يديها ثم تعاود تدليك رأسها وشعرها حتى اجابتني باختصار: نعم.

أومأتُ وعاودت أنظر إليه، من الواضح أنه كان شخص حنون وطيب القلب فلديه ملامح هادئة مسالمة جداً. لن أسألها لأنني أدرك كم سيكون صعبا الثرثرة حوله ولاسيما وأنه توفي ليتركها وحيدة وعانت كثيراً.
وبالطبع لم أرى صورة ولو واحدة لها برفقة والدتها فكما أذكر أخبرتني أنها توفيت بعد ولادتها مباشرة.
أكملت تصفح الصور حتى استوقفتني إحداها.
من الواضح أنه كريس!

لقد كانا يبدون أصغر وخمنت أنها في المرحلة الثانوية وعلى الأغلب العام الأخير! ولكن يا لها من صورة كئيبة اثارت امتعاضي واوقفتني عن مضغ الشطيرة، الا يمكنه ان يبدو مرحاً قليلا وهو يلتقطها؟ هو الآن يبتسم فما المشكلة في ذلك الوقت؟ ربما كان لا يزال يتظاهر بأنه لا يريد صداقتها ولم يسمح له عناده بالإبتسام. بلا شك. فهو كريس الذي أحبه وأدرك براعته في إظهار مشاعر غير متوقعة في لحظات غير مناسبة.

بعدها وجدت الكثير من الصور التي كانت لهما في أماكن مختلفة وتيا من تبتسم بسعادة وهي تتأبط ذراعه، وكلما تصفحت أكثر كلما ترتسم الإبتسامة على ثغر كريس شيئاً فشيئاً حتى رأيت صوراً يبتسم فيها بطريقة طبيعية.
وبينما انا منهمكة ومندمجة انهت تيا ارتداء ملابسها واقتربت لتجلس على السرير وتأخذ شطيرة لتتناولها وتلقي نظرة خاطفة إلى أي مرحلة قد وصلت.

وبينما هي تتلذذ بطعامها بهدوء وسلام افزعتها وانا اشهق بدهشة: إيثان!
عقدت حاجبيها بغيض وهي تسعل: سأقتلكِ!
آ. آسفة! ولكن.
عاودت أنظر للصورة بعدم استيعاب، فأقل ما يمكنني وصفه هو أنها وضعية حميمة جداً. إنها تقف بجانبه واضعة يدها على خصره بينما هو يحيطها بذراعيه! طرفت بعيني الخضراء ببطء وانا انقل بصري بين الصورة ووجهها الممتعض لأتساءل: هذه الوضعية.

أسرعت تقول وقد عاد الهدوء لوجهها: كان هذا منذ سنوات وانتهت علاقتنا.
هاه! هل. كنتما تتواعدان؟
اليس هذا واضحاً؟
زميت شفتاي للحظات مفكرة. تيا وإيثان؟
كيف هذا! هو حتى لم يذكر إسمها يوماً! هو لم يخفي علاقته بكريس من والداي فقط بل وحتى تيا! ما الذي يحدث تحديداً؟

بصراحة كان من الواضح انها تتمنى ألا أسألها بشأنه، بل وتنظر للجهة الأخرى بعيداً لتتفادى النظر إلى ولم يفتني الضيق والإستياء اللذان قاما ببسط عرشهما على ملامحها!
احترمت رغبتها هذه متمنية ان تتحدث من تلقاء نفسها وتخبرني بالأمر! الفضول سيقتلني ولكنني سأصبر أربعة وعشرون ساعة قبل ان اسألها. سأصبر حتى تنتهي المهلة.
بعد بضعة دقائق كنا قد جلسنا في غرفة الجلوس نشاهد التلفاز. ممسكتان بكوب من الشاي.
أخبريني.

رمقتها بتساؤل: ماذا؟
ما المشاعر التي تكنيها لكريس؟
انتفضت قليلا ولكنني أجبت أنظر للتلفاز بتوتر وبإذعان: حسناً. لا أدري إن كان على إخباركِ أو لا فأنا لا أعلم إن كنتِ ستعودين لمزاجك السيء الغريب ذاك أو ستسمرين بطريقتك هذه.

أضفت متنهدة بأسى: بعد ما حدث اليوم أدركت أن الصمت عن المشاعر أسوأ خيار وقرار قد اتخذته لا سيما وانني ظننت بأنني سأفقده وأكون سبباً في موته. لذا سأفكر قليلاً في الأمر وأرى ما على فعله.
لم تعطني إجابة واضحة. هل أعتبر إجابتك أحبه؟ .
مع الأسف.
همستُ بها وأنا أهز برأسي بتوتر، فابتسمتْ بسخرية لأحتار قليلا: ماذا؟ ما هذه النظرة!

تجاهلت سؤالي وأجابت بسؤال آخر: وهل أخبرته بمشاعرك ولو دون قصد؟! أقصد. ردة فعل قد بذرت منكِ!
لا! بالطبع لا.
قلتها محاولة ألا أتذكر أمورا كثيرة اقترفتها بحماقتي وانا امسك امامه لوحة كبيرة مكتوب عليها أنا واقعة في حبك ولكن تظاهر بأنك لم تقرأ شيئاً ! فلقد أبديت غيرتي في مرات معدودة كما كدت اتهور ذات مرة وأقبله وظننته نائماً ولكن اتضح انه ممثل عظيم يستحق جائزة الأوسكار!

لا أدري هل أصابني الجنون أم لا ولكنني وقفت أمامه مباشرة وجثيت لأمد يدي نحوه!
ما الذي سأفعله؟ أنا حتى لا اعلم! ولكن استقرت يدي على وجنته وهذا ما فاجأني.
لا زلت أحاول ان افهم ما الذي أحاول فعله! وكأن جسدي يتحرك من تلقاء نفسه ويتم التحكم به عن بعد!

وجنته باردة جداً مقارنة بيدي الدافئة! ارتخت ملامحي بشدة وانتابني ذلك الشعور مجددا ولكن هذه المرة خفقات قلبي كانت تخفق بشكل جنوني أكثر! ثم وكأن شخصا قام بالضغط على زر التحريك ليتحكم بي وقربتُ وجهي نحوه دون شعور وعندما لم تفصلني عنه مسافة تصلبت في مكاني بارتياب وكأن الزمن قد توقف لثانية عندما استوعبت أمر عينيه المفتوحتان اللتان تنظران إلى ثغري فشهقت بذعر ووقفتُ فوراً بل وأنني فقدت توازني لأسقط من أعلى هذه الدرجات القليلة لأستقر فوق رمال الشاطئ الناعمة.

لم أعر اهتماما لسقوطي بل رفعت رأسي فوراً أنظر إليه متمنية أن ما رايته كان من صنع خيالي ولكنني شعرت بالذعر وأنا أجده يحدق إلى باستخفاف شديد.
س. سحقا! ما الذي. دهاني!
هل كنت سأقبل ذلك الشيطان حقا؟ لماذا! ما الذي يحدث لي بحق السماء؟!
كنت أحدق إليه بعين متسعة حذرة وأسرعت أقف أقول بحزم وصوت عالي: إياك وأن تسيء فهمي!

عدت للواقع وانا ادفن رأسي في الوسادة وأهزها هامسة بإحراج: لم أكن أرغب في تذكر هذا لقد كان موقفي صعبا جداً. يا الهي!
شعرت بها تنظر إلى بعدم استيعاب واستغراب فأسرعت أستقيم متنهدة ومحاولة استعادة هدوئي، اسندت ظهري على الأريكة وارتشفت من الشاي بكل بساطة.
هذا غريب.
قالتها بإستخفاف فاحترت: ما الغريب!

تقولين بأنكِ لم تتصرفي معه بطريقة تظهر مشاعرك و لكنه يتحدث دائما كما لو كان واثقا جدا بأنك تحبينه. بل ومستعد لوضع رهان بأغلى ما يملك ليثبت ذلك.
ثم ضحكت بخفوت فجأة فارتفع حاجباي باستغراب بينما أكملت بإستخفاف: أعلم بأنه واثق من نفسه دائماً ولكنني أعلم جيداً بأنكِ تصرفت بحماقة تسببت في تغذية كاملة لغروره. هل أنا مخطئة؟

لويت شفتي بإستسلام: حسناً أنتِ الفائزة هل يرضيك هذا؟ نعم تهورت في بعض المرات وندمت على هذا.
ثم استوعبت أمراً لأسألها بسرعة: ماذا عنه؟ أنتِ صديقته المقربة وتعرفين الكثير من التفاصيل. ك. كيف تظنينه ينظر إلي؟ أقصد. هل حقا يكرهني كما يقول؟

أضفت بهدوء: لقد كان يتصرف معي بعدائية، وأنانية ولا مبالاة، لم أجد منه تصرف قد يجعلني أشك في كونه يكن لي ولو القليل من المشاعر أو أنه أمر سيحدث مستقبلاً، ولكن في الأمس عندما زرته في المنزل. كان يتصرف بغرابة وشعرت بانه يعاملني كما لو كان يعامل فتاة.
يحبها؟
انتفضت نافية بسرعة: لا! ربما يتملكها هي الكلمة الأنسب.
سمعتها تهمس بشرود: انه يملكك منذ تلك القبلة قبل أربعة سنوات.

انتهت جملتها. وكان المسيطر على هذه الجلسة هو صمتنا و ثرثرة التلفاز متردداً صوته في الغرفة.
لحظات من تحديق كل منا بالأخرى حتى شهقت بدهشة بينما شهقتْ هي بذعر لتقول: سيقتلني كريس!
عقدت حاجباي بعدم فهم ثم رددتُ بتعجب: لقد قلتِ قبلة أربعة سنوات. كيف تعرفين ان قبلتي الأولى كانت آنذاك! بل ما الذي تقصدينه بجملتك من أول حرف إلى آخره؟!

بدى وكأنها بدأت تحدق إلى وإلى الكوب حتى ارتخت ملامحها بأمل وراحة لتنفي: آه. علمتُ بذلك صدفة!
بالرغم من ذلك لم أستطع تصديقها.!
ولكن يوجد صدى لجملتها لا يزال يتردد في عقلي
انه يملكك منذ تلك القبلة قبل أربعة سنوات
قبل اربعة سنوات. كريس؟!
علي في المكان صوت شهقة أصدرتها أقوى من التي سبقتها ووضعت الكوب على الطاولة بقوة لتنسكب بضعة قطرات على الطاولة ونظرت إليها اطرف بعيني بذهول!

ذلك الشعور الذي انتابني بالأمس. بالتفكير بالأمر الآن لقد بدى مشابها كثيراً لتلك اللحظة قبل أربعة سنوات! لم يكن لأنني متعبة ومرهقة في كلا الموقفين. ولكن. يوجد شيء غريب كان مشابهاً تماما لذلك الموقف!

رأيتها تعض على شفتيها بتوتر فصرخت بدهشة وإندفاع: الشخص الغامض الذي سرق قبلتي الأولى كان كريس! أخبريني بأنكِ تمزحين! أرجوكِ قولي بأنكِ تمزحين معي لا فكرة لديكِ كم ستحطمين أحلامي! لا يمكنني تصديق هذا. كريس!
ولكنني تفاجأتُ بها تقول متداركة بسرعة برجاء: أرجوكِ لا تقولي بأن لساني قد زل وأخبرتك بالأمر وإلا سيلقنني درساً! ربما يدفنني حية تصرفي وكأنكِ علمتِ بالأمر وحدك!

اتسعت عيناي وكادت تخرجان من مكانهما بل وفغرت فاهي وشعرت بفكي يكاد ينخلع من وجهي ليسقط على الأرض!
غير معقول!
بل معقول! انها اللحظة ذاتها ولكن تختلف في المكان والزمان فقط! ذلك الشخص المجهول. لم يكن سوى كريس؟! حسناً تلقيتُ أقوى صفعة في حياتي.

لماذا فعل ذلك؟! ألا يدري بحق الإله كم كنت أشك في قواي العقلية وانا احسبه حلماً ثم اتراجع وأقسم بانه حقيقة؟ بل وجعلني أعيش أوهاماً كثيرة جعلت سقوطي في عالم الواقع قوياً مؤلماً! ما الذي كان يفكر به آنذاك!
للحظة انتابني شعور خيبة شديدة وألم مفاجئ في صدري لأهمس متسائلة بصوت أبح: لا تخبريني بأنه كان يرغب في استغلالي للإنتقام مني منذ ذلك الوقت!

لم تجب بل أشاحت بوجهها متظاهرة بأنها لم تسمعني! تركت مشاعر الضيق جانباً وقلتُ ببرود ارفع حاجباي بفتور: ظننت بأننا سنتحدث بصراحة وأخبركِ بشأن بعض الأمور التي تخص إيثان في فترة مواعدته لكاترين.
اجفلت تنظر إلى بدهشة لتتساءل بإندفاع ودهشة: هل هناك من يواعدها؟ تمزحين!

ابتسمتُ بخبث واقتربت منها لأجلس بجانبها وقلت بمكر: أخبركِ بشأنهما وتخبرينني بحقيقة ذلك الموقف. أعدكِ بأنني سأخفي الأمر عن كريس ولن أذكر اسمك. فقط اطفئي الحريق بداخلي وصوت التساؤلات لأنني لم أعد أحتمل! هيا لنتبادل المنفعة. اتفقنا؟
نفيت بحزم: لستُ حمقاء.
لقد وعدتك.

ظهر التردد على وجهها وهي ترمقني بشك قبل ان تزفر بقوة وتقول: نعم هذا صحيح. ذلك الشخص قبل أربعة سنوات كان كريس والآن انتِ لم تأتِ إلى شقتي أو تسمعي هذه الجملة مني مفهوم؟
مهلاَ! هل هذا كل شيء؟ أ. اقصد. كيف هذا! كنت حينها لم أبلغ الثامنة عشر حتى، كريس سيكون في الثالثة والعشرون هل هو مجنون ليقبل فتاة قاصر حينها؟
لوت شفتيها وقلبت عينيها بملل: يا الهي. انصتِ ولا تقاطعيني.
تيا:.

لم أتوقع ان اورط نفسي معها! انا واثقة بأن كريس سيشتعل غضبا لو علم بأنني من أخبرتها بالأمر ولا سيما وانه حاول جاهداً إخفاؤه عنها.
ظلت تحدق إلى بترقب وإهتمام شديد حتى اعتدلت متكتفة متظاهرة بالبرود وانا اتذكر وأعود بذاكرتي أربعة سنوات للوراء. وتحديداً أثناء مواعدتي لإيثان.
كنت أجلس بجانب كريس في السيارة، ليستقر هو خلف المقود وينظر بعينيه للمكان بحيرة ثم إلى ويتساءل: هل هذا هو المكان؟

هل هي فكرة جيدة يا كريس؟!
أضفت باستغراب: لماذا أنت مصر على زيارة إيثان في منزله! هو لا يعيش وحده على أي حال.
أجابني بهدوء: أنتما تتواعدان ولكن أمره لا يزال غامض جداً. اليس الأمر مريبا بالنسبة لك؟ ماذا لو كان يخدعك وانتِ تتبعينه كالمغفلة؟
ولكن. ربما هو يفضل الإحتفاظ بخصوصياته وحسب!

سأقطع الشك باليقين. صحيح بأنني بدأت اعتاد عليه ولكن الأمر لا يزال غريبا، الا ترين انه ينسحب من الحديث كلما سألتهِ عن عائلته أو حياته؟ الستِ تشعرين بالفضول؟
كريس أنا من أواعده ولست أنت. وسأحترم رغبته هذه.
حسنا اخرسي قليلا ودعيني أبحث عن المنزل.
لماذا أنت عنيد! لنعد إلى المدينة يا كريس هذا يكفي. لا أدري لماذا وافقت على الذهاب معك أصلاً!

تجاهلني وهو يبحث ان المنزل بعد ان دخلنا الحي الذي طلب كريس الحصول على عنوانه بطرقه الخاصة، يقول بأنه اعتاد على إيثان ولكن بعض الحروف لا يوجد فوقها النقاط ويريد ان يتأكد من الأمر بنفسه! اعترف ان الأمر يثير حيرتي ولكن. ربما إيثان لديه مشاكل خاصة ولا يحب الحديث عن عائلته مثلاً!
ولأنني أحبه و أريد أن احترم رغبته وحسب. هذا ما كنت أفكر به عندما سمعته يقول: اعتقد بأنه المنزل.

تنهدت بعمق وحينها لم أنكر ان الفضول والإهتمام بدأ يجتاحني، أي نوع من العائلات هي عائلته؟ كيف هي شخصياتهم! كم عددهم؟ أمور كثيرة كنت أفكر بها عندما لفت انتباهنا شخص يقترب من ذلك المنزل، ولأننا كنا نقف عند الرصيف لم نكن قريبان منه كفاية ولم نكن أمام المنزل مباشرة وانما مقابله فلم يكن كيان الشخص واضحا جدا.
ولكن.
إنها فتاة!
من تكون؟

عقدت حاجباي وانا اقترب من مكان كريس لأنظر من خلال نافذته بحيرة فتمتم بهدوء: لا تلتصقي بي.
أصمت قليلا ودعني أركز!
قلتها وعاودنا ننظر من خلال النافذة. وكلما اقتربت كلما كان النظر اليها اكثر وضوحاً شيئا فشيئا.
تلك الفتاة ترسم على ثغرها ابتسامة هادئة، شعرها بني طويل ينساب على ظهرها ويبدو انها كانت تتبضع ممسكة بأكياس مشتريات بينما ترتدي ملابس صيفية قصيرة.

لمعت عينيها بلون أخضر بينما تنظر الى بعض الاطفال اللذين يلعبون بالكرة وما ان وصلت الى قدمها حتى راوغتهم وركلتها فوراً بمرح! كانت جميلة وملامحها تبسط الراحة بشكل غريب! وجدت نفسي احدق الى ابتسامتها بشرود وقد الصقت وجهي في النافذة بلا شعور حتى صعدت بدورها الدرج ودخلت الى المنزل البسيط المقابل!
الم تدخل المنزل الذي اظنه عنوان إيثان؟ أعتقد بأنها لا تزال مراهقة. هل هي شقيقته؟ بطريقة ما تذكرني به كثيرا!

ربما لم تتجاوز الثامنة عشر من عمرها!
عقدت حاجباي بتركيز وحينها وبالصدفة نظرت إلى كريس بنظرة سريعة ثم إلى النافذة. ولكنني عاودت انظر إليه احدق نحوه باستغراب!
كانت عيناه معلقتان حيث كانت تلك الفتاة بل وبدى شارد الذهن بوضوح! عيناه العسليتان كانتا تلمعان بشيء غريب لم أره في حياتي! ولكنني. اعلم جبدا ان بريق الدهشة فيهما.!
ابتعدت قليلا عن مكانه بينما ظل يحدق إلى باب المنزل بذهن شارد.

طرف بعينه أخيراً ونظر للأمام بصمت.
ما خطبه فجأة! همست بإسمه بإستنكار ثم أعقبت بسؤالي: ما الأمر؟
طرف بعينه ببطء شديد وظل صامتا لبرهة قبل ان نفي برأسه بهدوء وهو يحرك السيارة: لنعد.
هاه! الم تكن للتو مُصراً على أن ن.
غيرت رأيي. شعرت بالجوع فجأة هل هذا مناسب؟
من الواضح انك تكذب.
ومن الواضح انني اتجنب سؤالك.
إذاً يوجد بالفعل خطب ما. تلك الفتاة هل تعرفها؟ كنت تحدق إليها بطريقة غريبة!

ولكنه لم يجبني، وعوضا عن ذلك فهو منذ ذلك اليوم يشرد بذهنه كثيراً.
وبعد ذلك اليوم بأسبوع ونصف تقريباً ذهب إلى مكان ما ولم يخبرني إلى أين ولم أعرف شيئاً، ولكن وعندما حانت الساعة العاشرة مساءً وكنت أتأهب للنوم سمعت صوت جرس شقتي.
نظرت من خلال عدسة الباب لأفتحه بسرعة باستغراب: كريس!

تجاوزني ليدخل ولم يعلق ورأيت انه كان يرتدي بدلة سوداء انيقة رسمية مما دفعني لأغلق الباب واتساءل بسخرية: لما هذه الأناقة في هذا الوقت! هل كنت في حفل ما؟
بالرغم من أنني كنت أسخر، إلا انني تفاجأتُ به يميل برأسه إيجابا فلانت ملامحي واقتربت منه مستنكرة: أذكر جيداً انك تكره الذهاب للحفلات.
جلس على الأريكة وارخى جسده وهو ينزع ربطة العنق متمتما: تلك الفتاة كانت في الحفل.
هاه! عن أي فتاة تتحدث؟!
لقد قبَلتُها.

طرفت بعيني بدهشة واقتربت منه لأجلس مقابله بعدم استيعاب: ما الذي تقوله؟! لحظة. من التي. م. مهلاً! لا تخبرني انها تلك الفتاة التي بدوت في عالم اخر بعد رؤيتها ذلك اليوم!
بدى يفكر قليلا ثم اسند وجنته على كفه وقال: قبلتها وهي تبدو غير واعية بما يحدث، أُغشي عليها فتركتها وعدت.
لحظة. أنا لا أفهم شيئاً! هل ذهبت إلى تلك المدينة لحضور الحفل؟ تلك الفتاة. انت حتى لا تعرف عنها شيئا بحق خالق الكون ما الذي تفعله!

حسناً شعرتُ بالفضول وفكرت بأي نوع من الحفلات قد تذهب إليه.
لماذا تهتم بها أصلاً!
من قال بأنني مهتم؟ أخبرتك بأنه مجرد فضول.
هذا يحمل المعنى نفسه برأيي! لماذا قبلتها! تلك الفتاة تبدو قاصر. لديك ابن يبلغ عام فقط كما انك.
اخبرتك لم تكن في وعيها أصلاً. لا أعتقد بأنها ستتذكر شيئاً.
ضاقت عيناي بشك: لماذا قبلتها؟

ابتسم ابتسامة جانبية وتمتم: تلك الفتاة ابتسامتها مألوفة جداً، أعتقد بأنها تلك الصغيرة في ذلك العام، لا أظن أن رؤيتي لها قبل أسبوع ونصف كانت مجرد صدفة.
أتقول بأنك تعرفها مسبقاً؟!
لستُ واثقاً بعد.
نظرت إليه بعدم فهم فأنا حقا لا أفهم شيئا من اجاباته المتقطعة تلك! ما الذي يجول في رأسه بحق الإله؟!
وما هو دافعك من قطع هذه المسافة يا تُرى؟ أردت ان تسألها إن كانت تعرفك؟ تتأكد بأنها الفتاة ذاتها مثلاً؟

أغمض عينيه لثواني قبل ان ينظر إلى بهدوء ويقول ببساطة: أظنني أريدها.
فغرت فاهي بعدم استيعاب ورددت جملته بصوت خافت! واسرعت اتساءل في نفسي إن كان ثملاً! ولكن رائحة النبيذ لا تفوح منه! لا يمكن انه في كامل وعيه.
طرفت بعيني ببطء شديد حتى سمعته يقول بتثاقل وملل: لم تكن تقف مع صديق ما، يبدو أنها لا تواعد أحداً بعد. سيكون من السهل ان أمتلكها ألا تعتقدين ذلك؟
هل كنت تتعاطى قبل المجيئ إلى هنا؟

ضحك بسخرية ووقف بلا اكتراث ليتجه للمطبخ ثم يعود ممسكاً بقارورة عصير ويرتشف منها ليقول: تعتقدينني مجنون؟
أنا لا أعتقد. أنت بالفعل مجنون!
ابتسم بلا مبالاة وارتشف من العصير مجددا ثم قال بنظرة تفكير عميقة: هي من مواليد شهر ديسمبر. ستبلغ الثامنة عشر بعد أشهر قليلة. سيكون الأمر سهلاً حينها.

عدت للواقع عندما شهقت شارلوت بدهشة وقالت بإعتراض وعدم فهم: ما الذي يعنيه هذا! هل حقا كان يخطط لإستغلالي لصالحه منذ وقت طويل!
أضافت بغيض شديد: لا أصدق! إلى أي مدى عقله إجرامي بحق الإله؟

ظلت تلقي بتساؤلاتها الغاضبة، بينما فكرت احدق إليها وافكر كم هي ساذجة غبية. هي حتى لا تدري انها الفتاة الوحيدة التي لفتت انظاره. بصراحة لازلت لا أدري ما الذي يريده كريس منها ولكنني اعلم جيداً ان نظراته التي كانت موجهة نحوها آنذاك كانت بعيدة كل البعد عن الخبث او المكر والتخطيط لحيلة ما!
بل بدت بطريقة ما دافئة!

انتفضت على تهديدها بحزم: وانا التي كنت أفكر في الإعتراف له بمشاعري! هه. أشكر الإله على أنه أنقذني مما كنتُ سأوقع نفسي فيه. يمكنني الشعور بالرحمة قد هبطت على من السماء!
شردتُ بذهني بعيدا عن تذمرها الغاضب كونه سرق قبلتها الأولى وظهر في حياتها وإلى آخره من الاعتراضات.
تجاهلتها تذمرها ووجدت نفسي أفكر بما حدث بعدها.

فبعد ان فاجأني بذلك. ابتسم بلا مبالاة وارتشف من العصير مجددا ثم قال بنظرة تفكير عميقة: هي من مواليد شهر ديسمبر. ستبلغ الثامنة عشر بعد أشهر قليلة. سيكون الأمر سهلاً حينها.

فبعد هذه الليلة بيومان فقط. لا أدري لماذا انقلب كريس فجأة على إيثان عندما كان في الشركة، رأيته عائد من مكتب ماكس يشتعل غضبا و سخطا بل ويتبعه والده محاولا إيقافه ويرجوه ليتفاهما، وبعد اختفاؤهما عن انظاري خرج إيثان كذلك من مكتب السيد ماكس بوجه متأزم قلق، حتى انه لم يلقي لي بالا وغادر فوراً.

ظل كريس بعدها بيومان يهدد ويقول بأن إيثان سيدفع الثمن وبالرغم من محاولاتي لفهم الأمر إلا أنني لم ألتقط سوى بضع جمل تتضمن كون إيثان غدر بكريس وحاول خداعه وإخفاء هويته، أنا حتى لم أفهم ما يقصده حتى يومنا هذا ويرفض اخباري بأي شيء او إعلامي ولو بقليل من التفاصيل!، وبعدها بليلة فقط حدثت قضية الإختلاس وتشاجرا شجارا عنيفا.

ثم غدرت بإيثان بدوري ووقفت إلى جانب كريس الذي منذ ذلك العام وهو لا يكف عن القاء مختلف الشتائم على إيثان. إلى أن فاجأني قبل فترة وهو يقول لي بنبرة خبيثة: لذلك تحديدا شعرت ان وجهها مألوف جداً، فليكن. إنها الآن زوجتي. سنرى إلى أي مدى سيشعر بأن السور الذي بناه حول عائلته قد هُدم.
هو كان يقصد إيثان ولكن. لماذا؟ يوجد أمر ما بينهما ولكنني عجزت عن اكتشافه! حتى السيد ماكس يخفي الأمر عني ويرفض الحديث بشأنه!

بعدها كنتُ مرغمة على مجاراة كريس وهو يطلب مني التصرف مع شارلوت بلؤم.!
أعادني من أرض الأفكار صوت شارلوت المحتار الممزوج بالإمتعاض: أين ذهبتِ؟
اجبتها بملل: أنا هنا. ماذا!
اضفت بإستيعاب وإندفاع: حسناً لقد أخبرتك بالأمر. أعلميني بتفاصيل مواعدة إيثان لتلك المرأة!

لوت شفتيها بغضب: ظننت بأنك ستواسينني. لقد كنتُ ملاحقة طوال الوقت بأفكار كريس الشريرة والقشعريرة تسري في جسدي الآن! أنتِ حقا لن تفهمي الأمر لقد ظننت أن شخص ما سيظهر في حياتي فجأة ويخبرني أنه من قبلني في الحفل وأنه الشخص المنتظر المناسب لي ولكن كريس هدم كل أحلامي! اللعنة. لو لم يكن مصاباً طريحاً لأوسعته ضرباً! ذلك المغرور عقاب لي من السماء لكل ذنب اقترفته منذ نعومة أظفاري أنا واثقة من هذا! والكارثة الأكبر التي لا تغتفر عندما اخبرته بأن قبلتي الاولى كانت منذ سنوات من شخص لا أعرفه وتظاهر بالإشمئزاز مني وكأنني فتاة مستعدة لتقبل أي شخص يتنزه او يقرأ أو حتى يغني! سألعنه حتى الممات.!

كتمت ضحكتي ببراعة لإنفعالها وتورد وجهها بغضب وقلت بهدوء: تحدثي هيا، لا يهمني ما تمرين به.
يا لكِ من قاسية!
قالتها بتذمر وهي بالكاد تحاول استيعاب الأمر ولكنها استسلمت وتمتمت على مضض: حسناً.

ثم قلبت عينيها بغيض وهي تحاول انتزاع نفسها من انزعاجها لتبدأ الحديث: قبل عامين ونصف كما أذكر. واعد إيثان فتاة تُدعى كاترين، حدث هذا فجأة دون مقدمات ولهذا لم أشعر بالراحة لمواعدتهما. لا سيما وأنها فتاة تفتقر للذوق والأدب! لديها أسوأ أسلوب قد تكوني مضطرة للتعامل معه!

عقدت حاجباي وقد انتابني الضيق! هو واعد امرأة أخرى بالفعل.! لقد كنتُ طوال هذه الفترة أضع حاجزا قويا حول حياتي لأمنع نفسي من الإقتراب إلى أي شخص آخر. لم يكن لي الحق في انتظاره ولكنني فعلت! ولكنه.

أردفتْ مفكرة: ولكنه كان يتصرف معها بغرابة. بصراحة لم يكونا يبدوان كأي اثنان يتواعدان، هي من كانت تتصل به وتزوره في المنزل. لا اظنني رأيته يوماً يتصل بها او قام بدعوتها ليخرجا معاً! كما انهما انفصلا مؤخرا فقط.
سألتها بعدم فهم وشعلة أمل قد ظهرتا أمام عيناي: لماذا!

رفعت كتفيها: لا أدري. ولو لم يفعل لكنت تسببت في انفصالهما، تشاجرت معها كثيرا حتى انني لا اتذكر عدد المرات إلى شوهتُ فيها ذراعها بأسناني او عدد المرات التي قامت هي بشد شعري فيها.
استرسلت بغيض: لا أريد ذكر هذا الأمر. ولكنني عانيت أسبوعا كاملا لا أستطيع فيه الجلوس على مؤخرتي.
لم استطع منع الابتسامة المتسللة وانا اسألها: كيف ذلك؟

تورد وجهها بإحراج ولكنها ضحكت بسخرية: حسنا الأمر محرج. قامت برد العضة لي في هذه المنطقة المحظورة. اتظنين بأنني سمحت لها بالذهاب؟ هه. لقد أوقعت نفسها في شر أعمالها لأرد لها الصاع صاعين. تشاجرت معها في المتجر الذي تعمل به وتسببت لها بإحراج كبير ولم أرى وجهها بعدها بشهر كامل. على كل حال هي لا تستحق إيثان. لو كان على ذكر مساوئها فصدقيني سيحل الصباح ونحن لا زلنا في المنتصف فقط.

لا أصدق ان ايثان كان يواعد فتاة شرسة كتلك! ولكن. لماذا!؟
أردتُ سؤالها ولكنني توقفت عندما تعالى في المكان صوت جعلها تُحرج وتضحك بتوتر: أ. يبدو ان معدتي قد سبق وهضمت الشطائر.
كان صوت عصافير معدتها واضحا وعالياً، فلتت مني ضحكة خافتة وامسكت بهاتفي واتفقنا حول ما سنطلبه من طعام.

وبعدها تحدثنا حول دراستها، عملي، شقيقها سام، علاقتي بكريس، والكثير من الأمور التي جعلت الوقت يمضي إلى ان رن جرس المنزل ولم يكن سوى رجل توصيل الطلبات، بدأنا بتناول الطعام ونحن نشاهد التلفاز. ولن أنكر أنني كنتُ أتحدث معها براحة تامة.
هي أول فتاة اتحدث معها كل هذا الوقت وبهذا العمق! كريس كان الشخص الوحيد الذي أثرثر معه ولكن. الأمر لا يُقارن بالحديث مع فتاة تشاركني بعض الاهتمامات.

لم أشعر بهذا مسبقاً أبداً. ولهذا تملكني هاجس او شعور ببعض الخوف، ربما لأنني لم يسبق وشعرت بالرغبة في الثرثرة الى شخص لست معتادة عليه كثيراً. ولكنها نجحت ببساطتها وعفويتها بانتزاع الكلمات مني.

لا أدري لماذا ولكنني أخبرتها ببعض الأمور المتعلقة بكريس، مثلا هو يحب ان تتم مداعبة شعره، كما أخبرتها بكونه يبلل شفتيه مرارا وتكرارا عندما يشعر بالحرج. وكم كانت مستنكرة وهي تسخر متخيلة ان شخص مثله قد يشعر بالإحراج!
حتى قالت بتركيز: أخبريني أنتِ. ما مدى عمق علاقتك بإيثان وكيف تواعدتما.!
أجبتها على مضض: لا أريد سرد امور اكثر لكِ. أعتقد بأنني منحتك شرف التحدث معي بما فيه الكفاية.
ما هذا فجأة بحق الإله!

ولكنني سأخبرك بأن إيثان. كان الشخص الوحيد الذي اسمع منه كلمات لطيفة طوال الوقت.
قلتها بشرود و إستياء قاومت اظهاره وفشلت.
مثل ماذا!
أشياء كثيرة. مثلاً.
تورد وجهي دون شعور وانا اسمع صوته في عقلي تيا عندما تنظرين إلى مباشرة لا أستطيع ابعاد عيناي عنكِ. ولا سيما حين تلمع عيناكِ هكذا.

انا اسمع خفقات قلبي لمجرد تذكر قطرة من غيث كلماته المعسولة! كنتُ أرى الصدق في عينيه، كان من طلب مواعدتي بعد فترة من محاولة صده بشتى الطرق.
تمتمتُ بهدوء: لقد اشتقت إليهِ كثيراً. اليوم تصرف وكأنه لا يعرفني. لا فكرة لديه كم يؤلمني هذا.
قضمتْ من البيتزا ومضغتها مفكرة ثم نظرت إلى بحيرة: لماذا لا تعودا إلى بعضكما؟ الستِ تحبينه حتى الآن؟

أومأتُ بإستسلام فتنهدتْ: هل عليكِ الإكتفاء بالتفكير به او بمراقبته من بعيد فقط؟
بأي وجه سأعود إليه! لا يمكنني فعل ذلك.
لن أسألك عن التفاصيل ولكن. طالما لازلت تكنين له مشاعر عميقة لا يمكنكِ تجاوزها اذاً حاولي وربما لن تندمي.
نفيتُ بهدوء: لن أجرؤ.
لماذا أنتِ عنيدة! يمكنني مساعدتك. إنه اخي وأعرف نقاط ضعفه لا داعي للقلق.

قالتها بشيء من الخبث فابتسمت بأسى: لم يعد هناك فرصة لي معه. هذا يكفي أنتِ ثرثارة جداً كما أنني لستُ معتادة على السهر.
ولكنها أسرعت تقول بفضول وهي تحدق إلى بتمعن: انتِ بالفعل مختلفة عن تيا الكريهة التي عرفتها بالبداية.
لويت شفتي بإمتعاض: وأنتِ تصبحين ثرثارة مزعجة أكثر وأكثر.

هذا هو لونك الحقيقي اليس كذلك؟ أنتِ لستِ تلك التي تحاول استفزازي طوال الوقت! أنا مشتتة وأشعر بأنني سأستيقظ صباحا وتعودين إلى ما كنتِ عليه معي في البداية.
لست متفرغة لأهدر طاقتي عليكِ أيتها الحمقاء! وكأنني سأضيع وقتي في الجدال معكِ.
إن كنتِ تظاهرتِ في البداية فأتساءل عن حقيقة كريس أيضاً.

أردفت بعدم فهم: أيهما كريس الحقيقي! ذلك المرح الذي قابلته في البداية؟ أم ذلك المجنون الذي يغضب بسرعة. أو ربما الهادئ الذي من الصعب استفزازه. يا الهي كنتُ أعلم بأنه مختل مصاب بإنفصام!
هو ليس مختل. كما أنكِ تحبينه.
ما مناسبة ذكر مشاعري!
أذكركِ بأنك أحببته بالرغم من صعوبة التعامل معه.

كانت هذه آخر جملة قلتها قبل ان أذهب للنوم، كما تركتها تنام في الغرفة الأخرى واتفقنا على الذهاب صباحاً لزيارة كريس في المشفى والإطمئنان عليه، فنحن لم نتلقى اتصالا حتى الآن من المشفى لا أنا أو جوش ليتم اعلامنا انه خرج من العناية.
شارلوت:
كنتُ أجلس إلى جانبها في السيارة افرك كلتا يداي بتوتر، إنها الثامنة صباحا ولم نتلقى اتصالاً حتى الآن! لماذا؟ الا يجب ان تكون حالته قد استقرت؟

أنا حتى لم أستطع تناول سوى بضعة ملاعق صغيرة من الإفطار بسبب التفكير العميق الذي يؤرقني! أتمنى أن تسير الأمور على ما يرام.
لحظات حتى ورد تيا اتصال من جوش وتحدثت معه بهدوء حتى قالت بدهشة: حقاً! ح. حسنا سيد جوش، نحن في طريقنا إلى المشفى.
أغلقت الهاتف فقلت بلهفة: أُخرج من العيانة؟
نفيت برأسها وهي تلقي على نظرة سريعة: لقد علمت كلوديا والجميع بالأمر وهم في طريقهم للمشفى واعتقد بأنهم سيصلون قبلنا.

ألا بأس بهذا؟
انهم في النهاية عائلته، الأهم ألا يعلم السيد ماكس حتى لا تسوء صحته فجأة أو يتلقى الأمر كالصاعقة، أراد جوش ان يتأنى قليلا حتى تستقر حالة كريس. ولكن. حسناً من الصعب إخفاء الأمر أكثر لا سيما وان الشرطة تكثف جهودها في البحث عن براد لإلقاء القبض عليه بأسرع وقت.
أومأت بقلق ونظرت للنافذة وأنا أشعر بأن الوقت بطيء جداً، أو ان الطريق بات طويلاً فجأة!

وصلنا إلى المشفى ونزلت بقدمين ثقيلتان جداً بالكاد احركهما، دخلنا معاً وصعدنا إلى الطابق المحدد وهناك وبينما نمشي في الممر استطعت لمح كلوديا وستيف وجوش، حتى السيدة أولين تجلس هناك!
همستُ لتيا بأسى: أرى كلوديا منهارة في البكاء!
تمتمتْ بصوت خافت ضعيف: لا أريد رؤية أحد منفعل، يكفيني ما أمر به!

نظرت لها وبدأ شعور الندم الذي اعتراني بالأمس يعود مجددا ليطرق الأبواب مرة أخرى ويذكرني بما فعلته بحشر أنفي في شجار كريس وبراد.
لا يمكنني الصمود أمام تأنيب الضمير هذا أشعر بأنني سأنفجر قريباً! ما الذي سأقوله لهم؟ بأنني السبب وبكل بساطة! هذا. دنيء ومخجل جداً.
عندما وصلنا إليهم رفع الجميع رؤوسهم وأولهم ستيف الذي ما ان رآنا حتى وقف بعين متسعة وهمس بقلق: عنقك! أصبتِ أنتِ أيضا يا شارلوت!

نظرت كلوديا نحوي بعيونها الدامعة وانفها المحمر وسرعان ما وقفت هي أيضا لتقترب مني وتتساءل بهلع: شارلوت! هل أنت بخير؟ ما الذي حدث لكِ؟ ظننت أن كريس وحده المصاب هنا! بماذا أخبركِ الطبيب؟
حركت اولين عيناها بصعوبة واضحة والشحوب يعتلي ملامح وجهها بشدة، بل وبدت تحدق إلى وكأنني أقابل امرأة لم تسكن الروح جسدها من قبل أو غير قادرة على صنع أي تعبير على وجهها! لا يوجد أي شكل من أشكال الحياة يحيط بها!

وهذا ما دفعني لأتدارك الأمر وأنفي مهدئة: أنا بخير. إنه مجرد جرح بسيط لا تقلقوا. إصابتي ليست بالشيء الكبير.
همست بجملتي الأخيرة بصوت مرتجف محاولة ان احافظ على رباطة جأشي بقدر الإمكان.
جلست كلوديا وهي تلقي بجسدها على الكرسي بتعب لتقول ببكاء: لماذا يحدث لنا هذا؟ ظهور كلارا ثم إنفصالكما وها هو الآن طريح لا حول أو قوة. لماذا كريس! الآن يكفيه ما حدث منذ نعومة أظافره! ما قسوة الحياة هذه.

تنهد ستيف واقترب منها ليربت على ظهرها ثم نظر إلى وتساءل: ما الذي حدث! سمعنا ان براد هرب من السجن وذهب فوراً إلى منزل كريس، صادف أنكِ هناك ولكن كيف أُصيب هل حقا كان ينوي قتله؟! ظننته مجرد محتال!

شحب وجهي كثيراً وشعرت بضغط شديد، بل وكأن رئتي قدمت استقالة فورية عن أداء وظيفتها لم تعد قادرة على التنفس بشكل طبيعي مما دفعني لأتحرك واستند على الجدار اخذ نفسا عميقاً وأطأطأ رأسي وقبل ان أتفوه بحرف تدخل جوش بهدوء: ستيف هي أيضا متعبة لا ترهقها بأسئلتك أكثر.
ذهبت تيا نحو جوش وسألته بإهتمام وقلق: ما الذي قاله الطبيب؟ متى سيتم إخراجه من هذه الغرفة بحق الإله!

لقد تمت معاينته ولكنهم في انتظار ان يبدأ بإستعادة وعيه، تعرض للضرب بقوة على وجهه وهذا الأمر لم يكن في صالحه أيضا، كما انه يوجد بعض الرضوض القوية في صدره.
دمعت عينا تيا وامسكت بإحكام بحقيبتها محاولة السيطرة على نفسها وعقدت حاجبيها لتسرع فوراً بالإرتماء على الكرسي بقوة.

وحينها سمعنا صوت شهقة خافتة كان مصدرها أولين! توجهت أنظار الجميع إليها لنجدها تبكي بصوت خافت، أسرعت لأجلس بجانبها امرر يدي على كتفها المرتجف محاولة تهدئتها: لا تبكي سيدة أولين أرجوكِ! ستسقر حالته تماماً وسيستعيد وعيه ثقي بي.
قلتها وأنا أشعر بأنني مجرمة قتلت ضحية وزيفت علاقتها بالأمر! أبدو. منافقة وانا أجلس هكذا وكأنني لم أفعل شيئاً!
بل وأتيت بكل ثقة إلى هنا! بأي وجه؟!

حتى لو استعاد كريس وعيه. هل سأستطيع النظر إليه!
ابني. كريس! ماذا لو ساءت حالته! أشعر بأنني سأموت حتماً. ابني جريح طريح الفراش، وأنا عاجزة عن فعل أي شيء! أفضل الموت على ان يمسه ضر! لا أستطيع.

قالتها من بين شهقاتها الخافتة وكم حاولت جاهدة وانا اواسيها وكذلك ستيف الذي كان يخفف عنها وعن والدته، وهذا جعل الحمل على عاتقي أثقل شيئاً فشيئا ويدفعني للهرب حالاً من المشفى إلى أبعد مكان لا أسمع فيه شيئاً عن ما حدث!

ظلت السيدة أولين منهارة ولم نستطع تهدئتها، حتى عندما ذهبت برفقة ستيف لشراء شيء ساخن لتشربه كلوديا وأولين ليريح أعصابهما. بل وحتى تيا التي اشتريت لها ما قد يلهيها او يرخيها فهي أيضا تشعر بالخوف وقد اصفر وجهها ما ان اخبرها جوش بأمر الرضوض والكدمات التي أضافت لموضوع طعنه المزيد من الشعور بالتوجس.
يا الهي. الجميع في حالة صعبة. وبسبب من؟ بسببي أنا!

كنت استند على الحائط عندما اقترب ستيف ليستند بجانبي وينظر إلى للحظات ويهمس دون ان ينظر نحوي: أنتِ قوية.
ارتفع حاجباي ببطء ونظرت إليه بعدم فهم لأجده منتبها بالتحديق إلى والدته وأولين ثم أكمل وقد زفر: تجبرين نفسك على تهدئة الجميع. من الواضح أنكِ تحاولين جاهدة كتم بكاؤك.

مازحته أخفي تعبي وخوفي: لقد بكيت في الأمس كثيراً وجفت دموعي صدقني. لم تعد عيناي قادرة على انتاج المزيد، ثم لو بكيت انا ايضا ستفقد عقلك انت ووالدك بلا شك.
ابتسم بهدوء ثم حدق إلى عنقي وقال بحيرة: ألا يؤلمك!
رفعت يدي امررها على الضمادة ونفيت: آه. لا إنه بسيط لا تفكر كثيراً.
أمال برأسه ونظر للسيدة أولين بقلق قبل ان يتكتف ويقول بجدية بعين هادئة: لماذا كنتِ في منزل كريس بالأمس؟ هل قررت العودة أخيراً؟

كنتُ أطالبه بالإنفصال.
اتسعت عينيه وابتعد عن الحائط قليلاً وكأنه سمع أمراً فريداً من نوعه ليفاجئه هكذا! بادلته النظرات بشيء من الإستغراب فأسرع يردد: تمزحين! تطالبينه بالإنفصال؟! أيتها الحمقاء ما الذي تفعلينه! لماذا؟ هل فكرت بالأمر جيداً؟ وهل انفصلتما؟ وافق كريس!؟
لم ننفصل بعد. كان متعبا يعاني من أعراض حساسية البرد كما كنت مرهقة أنا أيضاً بل وهبت عاصفة رعدية ثم حل الصباح ووجدنا براد. كل شيء كان ضدي.

كل شيء كان ضدك لسبب ما. ربما انت تحاولين الإنفصال عنه في حين هو وأنتِ مقدران لبعضكما، أنا جاد يا شارلوت قد يكون مصيرك معه ولا داعي للعجلة هكذا.
ابتسمت أسايره: على أي حال أجلتُ هذا الموضوع حتى تتحسن حالته.

لفت انتباهنا إحدى الممرضات التي تقدمت إلينا وتحديدا نحو باب الغرفة، دخلت وبعد لحظات أتى ممرضان كذلك ليدخلا الغرفة فانتظرنا ونحن على أعصابنا، خرجت الممرضة ونظرت إلينا ثم قالت: سيتم نقل السيد كريس إلى الجناح الخاص الآن. استقرت حالته وخرج من مرحلة الخطر.
وكأنها بكلامها هذا حررت أسرى حرب كانوا في انتظار أن تُفرج أساريرهم!

وقفت تيا فوراً واندفعت إليها: متى يمكننا زيارته؟ أريد رؤيته بنفسي عن قرب لن أكتفي بالنظر إليه عن بعد!
بالطبع يا آنسة يمكنكِ زيارته ولكن الزيارة مسموحة لشخص واحد فقط. كما انه سيكون بحاجة إلى مرافق الليلة وحتى يعود وعيه بالكامل، سيكون بحاجة شخص ما إلى جانبه.

قالتها ثم اعتذرت لتعود للداخل مجدداً وخرجت بعد دقائق هي والممرضان ليدفعوا سرير كريس الذي ما ان رأته السيدة أولين حتى وقفت تتجه إليه بخطى مشتتة وعيناها تحاولان تكذيب ما تراه.
انا ايضا كنتُ أشعر بألم يعتصر قلبي! مظهره من قريب وهو نائم هكذا. بوجه مليء بالكدمات والجروح شديد الشحوب لهو أمر يجعلني أقف متسمرة في مكاني بينما الجميع قاموا باتباعه.

راقبتهم وهم يبتعدون وغشت الرؤية قليلا، اسرعت امسح دموعي واتنهد لأتحرك ببطء أتوسل قدماي على ان تساعدني قليلاً ولكنها لا ترغب في الإقتراب أكثر.
أشعر بذنب يمزقني! وأدرك أنني كلما توغلت في هذا الشعور كلما يهمس صوت في اذني ليحثني على الهرب! لو استيقظ كريس ورأى وجهي فأي نوع من التعابير سأرى على ملامحه؟
لا شيء سوى اللوم بلا شك.

ومع ذلك تبعتهم وانا اترك مسافة كافية كي لا أقترب كثيراً فحتى لو حاولت أشعر بوجود حاجز خفي يمنعني!
أُدخل للجناح الخاص، كنا نقف أمام الباب في الانتظار وعندما خرج الممرضون قالت تلك الممرضة ذاتها مبتسمة بهدوء: كما ذكرت سلفاً. شخص واحد مسموح له بالدخول الآن ومرافقته ليلاً.

غادرت وتركتنا نتبادل النظرات بصمت جميعنا، وكأن كل شخص يقيم الأحق في مرافقته والأفضل للبقاء إلى جانبه. ، علقت تيا بحزن: أريد البقاء معه. يجب أن أبقي إلى جانبه.
نفيت كلوديا بسرعة: سأرافقه أنا.
أضافت تعقد حاجبيها وكأنها ترجونا: دعوني أبقي معه الليلة على الأقل ونتناوب في الأمر غداً!
اقترب جوش منها ليحيط كتفها بذراعه ومربتاً عليه: عزيزتي لا تكوني عجولة، ثم انظري هنا شارلوت زوجته كما تعلمين.

انتفضت فجأة أسمع كلمته تلك التي نسيت امرها بالفعل! ثم أي زوجة هذه التي ستتسبب في إصابة زوجها هكذا! لا يجب أن أبقى معه ولست مناسبة إطلاقا لأمر كهذا.
لقد خذلته وهو في كامل وعيه فكيف وهو طريح الفراش الآن؟! يوجد من هي أحق بهذا.

المرأة التي تبكي بصمت وتوردت اطراف عينيها بسبب تواصل البكاء، هي التي اعتنت به منذ صغره على أي حال وهي أكثر من انفطر قلبها بكل تأكيد، لا بد وأن الأمر كان فاجعاً ومؤلما بالنسبة لها فها هي لا يبدو وان عقلها معنا، بل في مكان آخر تماماً وهي تنظر للفراغ بشرود وضعف.

وجه جوش انظاره نحوي وادركت أنني ابتعدت عنهم بذهني للحظات فاسرعت اتذكر ما كان يقوله لأجيب مبتسمة بهدوء: سيد جوش، أعتقد أن شخص آخر أولى بالدخول وتفقد كريس.
وجهت نظرة نحو أولين التي نظرت إلى بصمت مستاء وأكملت: سيدة أولين انت بمقام والدته تماما، كريس بحاجة ليشعر بوجود شخص مهم في حياته بجانبه كما تعلمين، لذا وجودك معه سيكون الأفضل في حالته هذه، لربما يفيق ويجدك أنت بجانبه فتنشرح وتنفرج أساريره!

ثم هدأتُ للحظات قبل ان اقترب منها اضع يداي على كتفيها: نحن بحاجة إلى الأم في مواقف كهذه، هي الوحيدة القادرة على تخفيف أي نوع من الألم مهما كان نوعه. عليكِ مرافقته سيدة أولين.
مرت لحظات صمت تبادلني فيها النظرات اليائسة بعين دامعة لامعة حتى تنهد ستيف: إنها محقة.
علقت تيا بشيء من القنوط: تفضلي سيدة أولين، وابقي معه. شارلوت معها حق فهو بحاجتك كثيراً ولطالما كنتِ من تقف إلى جانبه في لحظاته الصعبة.

وهذا ما حدث. في النهاية دخلت السيدة أولين إلى الغرفة، وأخبرها جوش بأنه سيرسل لها بعض الملابس واللوازم في حقيبة ويرسلها مساءً، كما اتفقنا على اننا سنتواجد هنا في الصباح.

وعندما استعدوا للمغادرة اقترح ستيف مفكراً: أبي، سيسألنا خالي عن سبب خروجنا من المنزل فجأة وهو ليس معتاداً على أن أخرج معك أنت وأمي في أجواءكما المملة لذا أخبره بأنني أوقعت نفسي في ورطة وذهبتما لحل المشكلة وإن سأل عن نوعها فسنقول بأنني تشاجرت مع شخص ما وحسب، أما السيدة أولين فطلبت إجازة لزيارة عائلتها في الريف ولم تسمح لها الفرصة بإخباره لأن أحد أفراد عائلتها مرض فجأة، أما كريس فلا داعي لذكره لأنه لا يجيب أصلا على اتصالات خالي.

نظرت إليه تيا للحظات قبل ان تعلق ببرود وهي تضع حقيبتها على كتفها: شخص مثلك ماهر في الكذب لن يواجه صعوبة في اختلاق كل هذه الأعذار وبدائلها.
رمقها ببرود مماثل: على الأقل أنا أجيد تسويغ الأمور بشكل مناسب ولن أفضح ما نحاول إخفاؤه على عكسك. ستصنعين أجواء درامية وتوقعيننا في ورطة.
تدخل جوش: لنعد إذاً.
اقتربت مني كلوديا ونظرت إلى عن قرب وهي تتساءل بلطف: شارلوت الن تعودي معنا للمنزل؟

نفيت برأسي بإمتنان: لا شكراً جزيلاً ولكنني سأعود مع تيا وانتظر حتى يفيق كريس ثم أعود إلى مدينتي.
يا الهي بالتفكير بالأمر أنا لم أتصل بأمي حتى الآن! على ان اطمئنها حتى لا تقلق او تبدأ بالتفكير الذي يحمل مئات الافتراضات المرعبة والتي تقلق نفسها بها.
بينما كنت أفكر تحرك جوش وكلوديا ليغادرا وخلفهما ستيف الذي همس لي مبتسماً: اعتني بنفسك.
أومأت له: كن حذرا بشأن السيد ماكس.
دعي الأمر لي.

قالها بثقة ولوح بيده مبتعدا ولكن قبل ان يختفي قال بصوت مسموع لتيا: تعلمي أن تكوني هادئة في مثل هذه المواقف كشارلوت ايتها الصهباء العجوز.
اختفى بينما اتسعت عينا تيا لتزمجر حنق: هذا الفتى الوقح الجبان!
أردفت تنظر إلى بغيض: عن أي هدوء يتحدث أنتِ لم تكفي عن البكاء في الأمس.
ابتسمتُ مسايرة: على الأقل لم أنفجر في وجه شخص ما فجأة مسببة الفزع.
فليكن. لنعد إلى المنزل.

دخلنا إلى المصعد معاً وحينها تساءلتُ بفضول وإهتمام: تيا، لماذا تعتبر السيدة أولين كريس ابنها إلى هذه الدرجة؟ أقصد. ماذا عن أبناءها؟ ادرك ان عنايتها به جعلتها تشعر نحوه بالأمومة ولكن. حسنا لا أدري كيف اصف ما اريد السؤال عنه!
ظننتك تعلمين.
أعلم بماذا!
استدارت تمرر يدها في شعرها وهي تنظر إلى نفسها في المرآة مجيبة: السيدة أولين عقيم.
هاه!

كانت متزوجة ولكنها لم تنجب قط، وعندما هجرها زوجها كانت ما تزال شابة يافعة. والدتها كانت تعمل لدى السيد إفليك جد كريس، وعندما لم تجد اولين مكانا يأويها كان الجد قد طلب منها ان تعمل لديهم، لذا علاقتها بالأسرة قوية جدا كما ترين، السيد جوش والعمة كلوديا وحتى السيد ماكس وكريس يحترمونها كثيرا، فهي امرأة تستحق كامل التقدير لإخلاصها لهم. ولا تنسي أن ستيف وكريس وجيمي قد كبروا جميعهم ونضجوا أمام عينيها، أما كريس فهو حالة خاصة تقريبا إذ وُلد وتمت رعايته بشكل كامل على يديها وهذا ما أعرفه. وكما ترين، كريس يناديها ببعض الأحيان بالسيدة أولين وفي أحيان أخرى كان يناديها بأمي، ولكن قبل وفاة باتريشيا كان يناديها بعمتي فقط.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *