التخطي إلى المحتوى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل العاشر

من كتاب خُلق القلب عصيًا: -كنتُ أريد أن نتوقف. أن نهرب بعيداً عن اللحظات القادمة، أن نتوارى عن العالم، أن نقف نحن
ونترك الزمن يمضي كما يشاء
لم أعد أريد الحياة
إنها طويلة ومُنهكة ومُملّة
كنتُ أنا أريد أن أعيشك.
لكن جريمتك اقنعتني بأن الحياة ليست عادلة الحياة قاسيةٌ كقساوة قلبك
مصير الحي يتلاقى.

تلك الجملة هي عزائي الوحيد، وعكاز صبري لعامين ماضيين، يومًا ما سيجمعنا سلطان الأقدار، وسترد الحقوق، و سأسقيك مر ما أسقيتني أياه.
وهذا هو وعدي لك، رسيل التي اعتادت دومًا على كسر عصى الظُلم، فلم ولن تتنازل عن كسرك مثلها.

صباحًا
فقل لطَبيبِ الحُبِّ إِن كانَ صادِقًا. بِأَيِّ الرقى تَشفي الفؤاد المُتَيَّما؟
يُطالعها بعيني أبت أن تنام كي لا تغفو عنها، ممددًا على فراشه بجوارها باحثًا عن السر الذي ميزها عن معشر النساء اللاتي سبقوها، تركت طرف السرير لذيل شعرها الطويل وتوسطت الفراش الذي جمعهما معًا وهي تتأبط ذراعه ولم تسمح له إلا بمساحة صغيرة لا تمكنه أن ينقلب يمينًا أو يسارًا.

شرع أن يُدخن ولكنه تراجع كي لا يُزعجها، باتت جوارحه مضطربه بها وبرائحتها الساحرة، فلم يعتاد أمر امتناعه عن امرأة من قبل! وكونه يتحاشها متجاهلًا دواخله وفطرته البشرية يعني أنها خطت بعيونها إلى أعتاب روحه التي تتوق لروحها قبل جسدها.

رفع جزء جسده العلوي العارٍ عن الوسادة بحرص، أمسك هاتفه ليتفقد الرسائل التي تجاهلها أمس، فلم يمر الكثير على نهوضها، فتحت عينيها ببطء شديد وهي تراه صورة مشوشة، تململت بخفة فاتنة تمتمت بنبرة مُفعمة بالنوم: -هي الساعة كام؟
ترك هاتفه وولى نحوها مبتسمًا: -اسمها صباح الخير على فكرة!
فتحت عيونها لترى الصورة واضحة ثم قالت بخفوت: -أحنا بقينا الصبح؟
-شوفتي؟ أيه حكاية النوم ده كله؟

نهضت بتكاسل وهي تفرك بعينيها وتتثاوب: -بجد مش عارفة، عايزة أنام وخلاص.
-ياستي نامي. حد يلاقي نوم ويقوله لا!
ثم وضع كفه فوق بطنها برفق وسألها: -بطنك لسه بتوجعك؟
رعشة خفيفة دبت بجسدها أثرت على نبرة صوتها الذي ارتعد قليلًا وقالت: -أحسن شوية.
-شوفي لو تعبتك تاني نروح لدكتور.
-تمام.

غمغمت بتوتر خاصة وجوده بجوارها بدون سترته العلوية كان شعورًا مُربكًا للغاية، بعناء بعدت أنظارها عنه وقالت: -كده ممكن تاخد برد على فكرة.
ابتسم الثعلب الماكر الذي يراوغها من جميع النواحي بفطنة وقال: -لا متعود على كده.
رفعت الغطاء من فوقها وفرت هاربة من جواره وهي تقول: -براحتك.
ألتوى ثغره بابتسامة خبيثة وقال بصوت مرتفع: -كنت فاكر أن تاليا وداليا هما بس الأشقية في نومهم. طلعتي أشقى منهم!

توقفت إثر سخافته وقالت: -قصدك أن نومي وحش؟
غادر فراشه واقترب منها: -أنا قولت شقية بس…
أطرقت بخجل: -تمام، عموما محدش قال لك تنام جمبي!
عقد حاجبيه مُتسائلًا: -عايزاني أنام فين يعني!
هزت كتفيها بلا مبالاة: -اتصرف، أنت متعود تتصرف في كل حاجة اشمعنا جيت هنا وعطلت!
غمز بطرف عينه: -جايز بتلكك!
ردت بجفاء تتوارى خلفه ابتسامتها: -يبقى استحمل كل اللي يجرالك.

رمقها بعينيه الماكرة: -مستحمل وأمري لله، لحد ما يجي الأوان وتتلجمي!
بعدم فهم: -قصدك أيه بتتلجمي دي؟ مش فاهمة!
تحمحم بخفوت: -لما يجي أوانه هتفهمي.
ثم وضع كفه على كتفها: -اجهزي عشان يومنا طويل النهاردة.
-هنروح فين؟
-هتفهمي كل حاجة، بس يلا مفيش وقت، هعمل كام تليفون تكوني جهزتي…
استقبلت طلبه بطاعة ثم توجهت نحو المرحاض الصغير باليخت، أما عنه اشعل سيجارته وأجرى مكالمته الهاتفية قائلًا: -أيوة يا عالية.

جففت دموعها وقالت بنبرة مبحوحة: -أيوة يا عاصي.
زفر باختناق: -أنتِ لسه بتعيطي من أمبارح؟ قلت لك الموضوع عندي يبقى خلاص يا عالية! ليه تصرفات المراهقات دي!
نشجت بحزن: -يا عاصي دي بتحطني قُدام الأمر الواقع، ومامته طول الليل بتفرز فيا زي البضاعة. انا مش عايزة اتجوز ولا عايزة بشر في حياتي.
رد بحدة: -وأنا قولت لك مفيش حاجة هتحصل غصب عنك.

قومي روحي جامعتك يا عالية، وأنا راجع بالليل وهنشوف الموضوع ده. يلا قومي.

ده أيه النشاط ده كُله
تلك الجملة التي أردفها تميم بصوت مفعم بالنوم، الذي اعتاد على ألا يسبقه أحد في الاستيقاظ لكن شمس كسرت القاعدة، فرغت من لف حجابها وقالت بحماس:
-هنزل المستشفى عشان أخلص من أخر سنة امتياز بقا، وبعدين نفوق لحوار المستشفى.
ثم وثبت بخفة واقتربت منه: -تعرف أنا ما نمتش طول الليل أصلا، لأول مرة أحس لقلبي أجنحة ونفسه يطير.

صمتت للحظة وهي تطالعه بأعين لامعة: -أنا ليا كتير ما فرحتش كده، كل ده بفضل لك يا تميم.
كان صامتًا يراقب شغفها وحماسها الطفولي بإعجاب شديد وابتسامة لم تُفارقه، جلست بجواره على طرف السرير ثم قالت باستغراب: -أنت بتبص لي كده ليه؟
ثم ضحكت بخفوت وأكملت: -شكلك بتقول هي مالها دي اتجننت ولا أيه!
احتوى كفها الناعم وقال بهدوء: -إطلاقًا، أنا كل يوم بكتشف فيكي حاجة جديدة أصلًا.
-بجد! واكتشفت أيه المرة دي؟

أصدر إيماءة خافتة وهو يداعب كفها بإبهامه وقال: -كنتي الأول جد كده ورسمي طول الوقت، مكنتش متوقع أن السعادة هتخرجك من روح الطفلة الجميلة دي!
اتسعت ابتسامتها بدهشة: -يعني أنت دلوقتِ شايفني طفلة!
-روح طفلة في قالب أحلى بنوتة!
أحمرت وجنتها بخجلٍ ثم تملصت هاربة: -أنا جهزت لك فطار، هنزل بس أعمل لك القهوة وهخرج. اااه ممكن اتأخر شوية.
رفض ترك يدها متسائلًا: -شوية أد أيه يعني؟
-معرفش حسب الظروف، بس ليه؟

فكر لبرهة قبل أن يفصح عن سر افتقاده لها وقال محتجًا: -يعني هنتغدى سوا زي كُل يوم ولا هتغدى لوحدي النهاردة.
ابتسمت متحيرة: -اتغدى عشان علاجك.
ثم حانت منها نظرة على الساعة جعلتها تنهض كالملدوغة: -يا خبر، الوقت اتاخر.
أخذت تتجول بالغرفة بعشوائية وتلملم متعلقات حقيبتها بعجلٍ والكثير من الارتباك إثر نظراته الصقرية، هتف تميم: -على مهلك، سعيد هيوصلك وهيستناكي.
فكرت للحظة: -لازم؟ كنت هروح مواصلات أصلًا.

-ماينفعش يا شمس، أنا مش هطمن عليك كده. شوفي ظروفك أيه عشان تتعلمي السواقة الفترة الجاية ويكون ليكي عربية لوحدك.
تسمرت بالغُرفة لما قاله: -هاه! لا طبعا، عربية أيه بس ماليش أنا في الجو ده.
ابتسم بخفوت: -طيب نشوف الموضوع ده بعدين، يالا عشان ما تتأخريش
تأهبت حتى وصلت لباب الغرفة ولكنه اوقفها مُناديًا: -استنى.
ولت إليه منتظرة ما سيقوله، فتح درج الكومود وأخر منه بطاقته البنكية ومد يده إليها: -خليها معاكي.

أحمر وجهها من الخجل وأخذت تبلل حلقها: -لا مايصحش، أصلًا معايا فلوس، والوزارة كمان بتنزلنا مرتب كل فترة، مرسي.
أصر بحدة: -شمس، خليها معاكِ احتياطي من غير كلام كتير.
وقفت باضطراب كأن مهب الريح من تحت قدميها وقالت معتذرة: -بجد مش محتاجة حاجة، همشي عشان متأخرش أكتر من كده.

مجرد ما انتهت من جملتها الأخيرة غادرت الغُرفة وقفلت الباب خلفها وهي تتنفس عدة مرات كي تهدأ من سيل المشاعر الذي اندفع بقلبها، هبطت السُلم سريعًا فألتقت ب عالية ، دنت منها ببسمة هادئة:
-ده أيه الصباح القمر ده! رايحة الجامعة؟
ردت عالية بخفوت: -ااه عندي مشروع شغالة عليه وهنزل كتير الفترة دي.
-افهم من كدة أننا مش هنعرف نقعد مع بعض ونتكلم الفترة الجاية؟

نفت عالية بتوجس: -لا ازاي، أنا و نوران بنرغي طول الليل أصلا، تعالى أقعدي معانا.
ربتت شمس على كتفيها وقالت معتذرة: -أسفة يا عالية الفترة دي واللي فاتت أنا قصرت معاكي جامد، متزعليش مني.
تقبلت عالية الأمر برضا: -ماتقوليش كده، أنتِ كفاية عليكي الجامعة والشغل وتميم. ربنا يقويكي يا حبيبتي.
-بالمناسبة تميم كان بيظبط لنا سفرية سوا عشان نغير جو، شوفي وقتك عشان نتفق على الميعاد.

ردت بملل: -ان شاء الله يا شمس. يلا عشان مانتأخرش.

في الغردقة
خرجت حياة من الميناء فوجدته بانتظارها أمام سيارته السوداء جي كلاس مرسيدس ، كانت ترتدي jumpsuit فضفاضة، تضم ألوان الطبيعة وعلى كتفيها شالًا باللون الأبيض، رافعة شعرها على هيئة ذيل حصان.
قطعت مسافة الميناء الخشبية تحت قدميها، كانت خطواتها ثابتة كثبات عينيه التي تراقبها عن بُعد. رفع نظارته السوداء منتظرًا قدومها حتى وقفت أمامه معتذرة: -سوري اتأخرت؟
-لا ابدًا، جاهزة!

ألقت نظرة سريعة على عدد الحراس خلفه وسألته: -أحنا هنروح فين؟
-هتعرفي كل حاجة؟
ألقت نظرة سريعة على الرجال خلفه: -هم جايين معانا؟
-اااه، متقلقيش، يلا اركبي.
كادت أن تصعد بالمقعد الخلفي ولكنه أوقفها قائلًا: -خليكي قُدام.
ثم أشار للسائق قائلًا: -خليك مع الرجالة، هسوق انا.
-أوامرك يا عاصي بيه.

صعد السيارة بجوارها وتقدم سيارات الحرس التي اتبعت خُطاه في منظر مهيب للعين، كانت ترمقه من نظرة لأخرى ثم تعاود النظر إلى البحر الممتد بجانب طريقهم، أحست بالملل فأخذت تفتش في صندوق سيارته بفضول، وجدت سلاحه الفضي وبجواره عُلبة عطره المميزة من ماركة (No1 masculine).

مسكت العُبلة واطلعت على تركيبتها والمادة المتكونة منها ثم نفث عطرها على كفها، ألقى نظرة كاشفة عليها ثم عاد لينتبه للطريق. قفلت العُلبة ثم رفعت كفها لأنفها بتردد حتى استقرت تحت أنفاسها، أغمضت جفونها وبد انتشائها بالرائحة واضحًا كوضوح الشمس.

ملأت جيوب صدرها من تلك الرائحة التي كانت تبغضها يومًا ما، طالعها بذهول عن موقفها الغامض الذي ارتكبته وما سبب تعلقها بعطره لهذه القدر كأنها أول مرة تسنشقه. فاقت من سُكرها على صوته:
-عجبك!
ردت بتوجس: -مش عارفة، مكنتش بحب ريحة البرفيوم ده خالص، بس كإني أول مرة اشمه النهاردة.
عقد حاجبيه بغرابة: -وهو اللي حصل؟

-مش عارفة! فجأة كده! ساعات الإنسان بيحب روائح غريبة زي الطين والمانيكير. وحتى هوا البحر، لما شميت البرفيوم ده النهاردة حسيت بحاجة شبه كده! تفتكر ليه؟
ارتسم على محياه ابتسامة طفيفة وقال ممازحًا: -عموما أنا مش بغيرها، لما تحبي تشميها حضني موجود!
رمقته باستنكار: -أنا هاخد الازازة معايا.
ضحك بصوت مسموع ثم قال: -أنتِ الخسرانة. عموما دي رجالي على فكرة.
-مالكش فيه.

دار مقود السيارة ثم قال: -هنسافر باريس قُريب، وهوديكي المكان اللي بجيب منه البرفيوم بتاعي، عشان أنت كمان تختاري النوع اللي تفضليه ويكون خاص بيكي لوحدك.
-واضح أنك بتفهم في الحاجات دي كويس؟
-جدًا، العطر أول وأخر حاجة بتفارق ذاكرة الإنسان. طابع مميز لكل شخص بيظهر شخصيته.
فكرت بحديثه مقتنعة ثم قالت: -تعرف أن الأشخاص كمان ليهم ريحة مميزة.

أيدها باقتناع: -مظبوط. يعني من أول ما بشوفك، بحس أني واقف قُدام البحر وشامم ريحته وهواه.
قطعت لحن عزفه على أوتار قلبه وهي تخبره بسرعة: -لو سمحت اقف على جمب.
تفقد الطريق على جانبيه وسالها: -أي جمب؟ في أيه.
أشارت نحو الصيدلية على يسارها وقالت: -معلش، اقف هنا.
مجرد ما وقف هبطت من السيارة بسرعة ودخلت إلى الصيدلية بدون كلام، هتف مناديًا: -معاكي فلوس طيب؟

انتظر قليلًا حتى هبط خلفها وتبع خُطاها، دخل المكان باحثًا عنها حتى سأل الصيدلانية: -فين المدام اللي لسه داخلة من شوية؟
-في التويلت.
اصدر إيماءة خافتة ثم وقف حائرًا للحظات وقال: -اشترت حاجة؟
-ايوة.
-طيب ممكن الحساب.
أشارت إلى الكاشير وقالت إليه: -حساب المدام اللي لسه داخلة.
أنهى عاصي إجراءات الدفع وغادر المكان لينتظرها بالخارج، تمشي على استحياء وسألت الفتاة: -ممكن أعرف كام الحساب؟

ابتسمت الصيدلانية وقالت: -جوزك دفعه.
أطرقت بخفوت ثم تمتمت بخجل: -أيه نزله من العربية ده.
ثم ولت وجهها للفتاة وشكرتها وغادرت، وقفت خلفه بحياء وقالت: -تمام، ممكن نكمل طريقنا.
أومأ بصمت تام وتهذيب، فتح لها باب السيارة لتصعد بها ثم صعد هو بالناحية المجاورة لها، تعمدت أن تُطالع الطريق على يمينها متحاشية النظر إليه تمامًا، تحمحم بخفوت وسألها: -المشكلة اتحلت؟
انتفضت من مكانها: -هاااه؟

-أيه مالك؟ قصدي أقول لسه تعبانة!
غمغمت: -أنا تمام.
طوى ابتسامته الخبيثة وشغل الأغنية التي تفضلها مرة ثانية كي تتناسى همومها قليلاً.

بعد ليلة طويلة من الحيرة والقلق والشعور بالذنب، وتمهيد القلب لطرق للعقل، والتجول الطويل في الطرقات بدون فائدة حسمت عالية قرارها أخيرًا وصفت سيارتها البيضاء أمام مبنى شركة مراد المحلاوي.

هبطت من السيارة بخطوات مترددة ثم توجهت للشركة مُتسائلة عن مكتبه حتى عاونها أحد العاملين على الوصول، فأخبرها العامل أن تنتظر حتى يعود الاستاذ حمدي مدير مكتبه، جلست عالية طويلًا منتظرة قدوم حمدي ولكن بدون فائدة، فنهضت على الفور طرقت باب مكتبه حتى أتاها صوته سامحًا بالدخول.
فتحت الباب فوجدته جالسًا بجوار المهندسة بتول أمام لوحات الرسم الإنشائي والتصميمي، اتسع بؤبؤ عينيه من الذهول متمتمًا:
-عالية؟

ألقت نظرة خاطفة على بتول وملابسها الرسمية القصيرة وقالت موضحة بتردد: -أنا استنيت كتير مدير مكتبك، بس اتأخر وكنت مستعجلة وو
ترك مراد مقعده قائلًا: -ااه حمدي نزل الموقع يخلص كام حاجة، تعالى واقفة عندك ليه؟
تقدمت عالية خطوتين وهي تفحص بتول التي تبادلها بنفس النظرات الغامضة وقالت بتوجس:
-لو مشغول أجي لك وقت تاني؟
-لالا مفيش وقت تاني، تحبي نعقد على المكتب ولا في الانتريه؟
-عادي!

تدخلت بتول في حوارهم بخبث وغيرة عن هوية تلك الفتاة التي نهض مفزوعًا لاستقبالها بالكم الهائل من النظرات المجهولة بينهم، تبسمت بمكر:
-مش هتعرفنا يا بيشمهندس.
بد على مراد التوتر خاصة بعد ما لحظ نظرة عالية الغاضبة وقال محاولًا تلطيف الجو: -المهندسة عالية دويدار سنة رابعة السنة دي وبنت خالتي.
ثم اشار على بتول وقدمها: -المهندسه بتول فؤاد معانا في الشركة.
ابتسمت بتول ابتسامة زائفة وقالت: -هاااي.

استقبلتها عالية بعدم اهتمام وقالت بعجلٍ: -تمام، نقعد على الانتريه.
أشار إليها بقلبه المتراقص وهو بتفحص بدلتها الزرقاء الفضفاضة والشال المزخرف الذي تطويه على رقبتها، وشعرها الكستنائي وحمرتها الخفيفة التي تُنير وجهها.
فضلت أن تجلس بعيدًا عن مسامع بتول التي لم تتركهم عيونها، سألها مراد بصخب يحمل الشوق والشوك إليها ومنها وقال: -تحبي تشربي أيه؟
-ولا حاجة.
-لا ازاي! دي أول مرة تنوري مكتبي.

أصرت على قرارها وقالت: -معلش مرة تانية، هما كلمتين وهمشي.
جلس بقُربها وعلامات الاستفهام تتراقص على وجهه منتظرًا سبب الريح التي أتت بها إلى هنا، لاحظ ارتباكها وصوت طرقعات أصابعها يوحي بالقلق حتى أخذت نفسًا طويلًا وقالت:
-كريم قال لي إنك ناوي تصفي شغلك وتسافر.
تنهد بحرارة وقال بتيه: -فعلًا، قُدامي ست شهور عشان أعرف أخلع من هنا خفيف خفيف.
حدجته عيونها المكدسة بالحنين: -كل ده بسببي؟

توتر في جلسته مبررًا بكذب: -لا أنتِ مالكيش دخل، ده القرار الصحيح، أنا كان لازم ابدأ بعيد عن هنا، تعبت من حربي المستمرة مع عاصي وتميم، قررت انسحب بهدوء وابعد واستثمر فلوسي في مكان تاني بره مصر.
لمعت عيونها بدموع الحزن: -طيب أيه اللي جد؟ أنتو كده من 10 سنين؟ اشمعنا دلوقت قررت تنسحب!
تنهد بمرارة: -عشان مش المفروض نحارب بعض أكتر من كدة يا عالية.

-بس أنتوا لو اتحدتوا هتواجهوا أقوى سوق سوا، محدش هيقدر يهزمكم.
رد بيأس: -العداوة اللي سببوها أهلينا مش هنقضي عليها بسهولة.
فركت كفيها بحيرة: -أنا خفت بس أني أكون السبب في أنك تسافر، عشان كده جيت لك.
ثم أطرقت بخفوت محافظة على كبريائها: -أحنا في الأول والأخر أهل وبينا صلة دم.
‏أن تُحدقين في عينيّ لمرة واحدة ‏لمرة أخيرة.
‏أن نحاول إيجاد معنى آخر لكلِّ ما حدث
‏أن نلتقط كلَّ ما لم يحدث بيننا.

‏أو أن نلتقط أيَّ شيء معًا
بات حالي ‏كجداري غرفة ‏يتناوبان تعب الوقوف،
‏يلتقطان كلَّ الصور الحزينة التي أعيشها بدونك.
كانت نظراته تشع بوميض من الاسى يعجز عن البوح به، اخذ يفتش في عيونها عن لحظات حنينها ولكنها كانت بارعة في إخفاء مشاعرها كجبروت أنثى أحبت من طرف قلبها فقط.

لم تُطيق بتول تحمل الأمر كثيرًا فاقتربت إليهم بتنورتها القصيرة وكعب صندلها حذائها المرتفع وقالت: -اسفة، بس كنت حابة أخد رأيك في دي يا بيمهندس قبل التنفيذ.
تجاهلها مُراد قائلًا: -خليها على جمب يا بيشمهندسة وانا هابقى أشوفها.
أحست بتول بالضيق فعادت متأففة، قالت عالية معتذرة: -أنا كنت ماشية أصلًا عشان عندي جامعة، سوري عطلتكم.
وقفت عالية متأهبة للذهاب فوقف مراد أمامها ليعيق رحليها مخترعًا ألف حوار:.

-شكلك بقا أحسن عن أخر مرة، ومبسوط أنك رجعني الجامعة، ركزي لو احتجتي حاجة مكتبي مفتوح لك.
رغم انهيار دواخلها إلا انها نجحت في إظهار جانبها القوي الذي لا يتمايل مع الريح، أرادت تخبره أنها امرأة تستطيع مهما أهلكتها التخبطات خاصة بعد ما أشعل وجود بتول بجوفها ثورة حارقة من المشاعر المتخبطة.
مد مراد يده ليُصافحها فنظرت له بعيون معتذرة وقالت بأسفٍ: -أنتَ عارف مابسلمش.

‏ في التقاء المتحابين، نظرات العيون التي تسبق مصافحة الأيادي آسِرة
سحب يده على الفور ربما تناسى أعرافها وتمسكها بمبادئ الدين الإسلامي وإعلانها صراحة بكونه أجنبيًا عنها، أطرقت بخفوت ثم بررت:
-معلش الواحد مش كامل بس بيحاول يلتزم بأبسط الأمور. بعد أذنك.
وقف أمامها رافضًا مغادرتها وسألها: -هشوفك تاني!
تهيج القلب برفقة الذاكرة وأخبرته بحزن يأكل حشاشة قلبها: -لو رجعت عن قرار سفرك أكيد هيجي يوم ونتقابل.

وقف مراد صلبًا متجمدًا يتأملها كأنه يراها أول مرة بتلك الحيوية والصبا يتساءل في نفسه: -هل يا ترى فات الأوان!
رفعت جفونها وتوسلت إليه عيناها: -ممكن أعدي!
أدرك معاني تصرفاته الطائشة التي لا جدوى منها كمن يجمع الحطب من غابة لا خشب بها، اليوم أعلنته غريبًا عنها فلا فائدة من إطالة الحديث وفتح أبواب القلب المقفولة جبرًا، أفسح الطريق من أمامها ببطء ولا زالت عيناه ثابتة تود إلتقاط صورة تذكارية أخيرة لها.

مرت عالية من أمامه بخفة الفراشة التي تتطاير هربًا من نيران حرق بستانها، فلا يوجد فرصة للبكاء حتى ولا ظرفًا للوداع، فارقت المكتب سريعًا حتى قفلت الباب ورائها ووقفت تلتقط أنفاسها المشتعلة، وضعت يدها على صدرها المستمر في العلو والهبوط على جمر الغياب والغيرة والمسافات التي بُنيت بينهم.

ظلت وراء قلبها حتى هدأ نبضه، انسحبت فورًا من المكان الذي يخصه كي تقاوم الحروب بها، ظلت تتذكر كيف قدمها على أنها ابنة خالته فقط كأنها لا تعني له شيئا أخر، عن تلك الفتاة التي لم تزحزح عينيها من عليها وما هي مشاعرها نحوه ياترى؟ وبأي حق تراه كل يوم وهي تخلق الحجج لتلقي عليه نظرة؟ كيف باعد بينهم الزمن بعد ما جمعهما في ورقة واحدة وفراش واحد!

اتجهت نحو سيارتها ويقر قلبها معترفًا: -لم أتجاوز أي شيء، فقط كنت استيقظ وأنام
واستيقظ وأنام حتى تساقط مني الوقت والرغبة وتجاوزتني جميع الأشياء، ولم أتجاوزها.
لازال يُراقبها من أعلى بجوار النافذة المُطلة على الطريق الرئيسي الذي صفت به سيارتها، أخذ يتأملها بأنظاره المفعمة بالشوق، ظلت طويلًا بداخل سيارتها حتى استجمعت نفسها وأمرها على القيادة وتحركت، اقتربت بتول ذات الملامح الغاضبة منه وقالت بخبث:.

-واضح أنها مش بنت خالتك وبس؟
تحمحم مراد يضع حدًا للحوار معها: -بتول كنسلي أي شغل النهاردة.
أومأت متفهمة: -اااه، واضح.
ثم قالت بضيق: -عموما يا بيشمهندس لما تبقى فاضي وليك مزاج للشغل ابعت لي.
لم يلتفت أساسًا لأسلوب ومكر بتول التي توبخه بأدب، لملمت شغلها سريعًا وغادرت المكتب تتساءل نفسها: -عالية دي وراها حوار وانا لازم أعرفه…

وقف مراد يتساءل على شُرفة التيه وهو يتأمل المكان الفارغ من وجودها، أين يذهب المرء عندما يشعر أنه بحاجة لمكان يحتويه؟
أين يذهب عندما تعتصره الخيبات ويقتله الغياب وهو في أمس الحاجة لمن يشعر به!

عودة إلى الغردقة
صف عاصي أمام أحد المواني البحرية، فسألته باستغراب: -حاسة أني أعرف المكان ده؟
مد يده للوراء ليناول حقيبته الجلدية، أخرج منها هوية باسم رسيل وقدمها إليها: -اتفضلي.
قرأت معلومات الهوية وقالت بذهول: -دي بتاعتي.
ثم تمتمت مؤهلها الدراسي: -بكالوريوس لغات وترجمة!
ثم تابعها بشهادة ميلادها وشهاداتها الجامعية وقال: -الورق ده أنا جبته من أوضة نومك، وباقي الأوراق هنستخرجها سوا.

تفقدت الأوراق بحزن ثم قالت: -ليه ده كله؟
-لازم ترجعي رسيل، مش هتقضي باقي عمرك باسم مُزيف.
أغرورقت عينيها بالدموع وأخبرته: -مش عايزة.
رفض بهدوء وقال: -رسيل الميناء اللي وراكي ده بمراكبه تابع لقنديل المصري، أبوكي، ومستولي عليه ابن عمك. متقلقيش هنشوف أيه حكايته الجدع ده بعدين، أنا بس بساعدك تفتكري، عايزك تتعافي وتواجهي مش تهربي.

أومأت باقتناع: -يلا انزلي وأنا جمبك، النهاردة الجمعة أغلب الصيادين في السوق والحركة في المكان خفيفة وكمان قريبك ده غير الاستف اللي شغال كله عشان كدة أفضل وقت النهاردة محدش هيتعرف عليكي. يالا.

تقبلت أوامره بطاعة وهبطت من السيارة، ألقى نظرة على رجاله بأن يتنظروا بمكانها إلى أن يستعين بهم، اتجه نحوها ومسك كفها بقوة وتجول الثنائي بالمكان. أخذت تطالعه بعيون شارده تائهة. أفلتت يد عاصي وانطلقت أمامه تجوب أرجاء المكان، حتى توقفت أمام المركبة المنقوش فوقها اسمها رسيل.

تسمرت أمام الشط وهي تتأمل الاسم بعمق وتيه حتى سمعت صوت نداء أبيها يدوي بأذنها بطريقته المميزة، فجميع جمله كانت تضم اسم رسيل تلك التي كانت عكازه بالمهنة.
بدت الأصوات المختلفة ترن بأذنها من كل صوب وحدب، وضعت كفها على أذنيها رافضة سماع المزيد، اقترب منها ومسكها من خصرها متسائلًا: -أنتِ كويسة!
طالعته بعيونها المحمرة وأشارت بالنفي، ضمها إليه أكثر وقال بحنو: -أهدي، وواحدة واحدة على نفسك.

بللت حلقها: -هو ينفع أنزل المركب؟
-دلوقتي؟
-معلش.
-بلاش يا رسيل، مش وقته! أنتِ مش جاهزة للمواجهة، ومش عايزين ندخل في جو المحاكم وأنتِ في حكم فاقد الأهلية دلوقتِ، اتعافي الأول وأنا هرجع لك كل ده، مش عايزين ندخل في حرب خسرانة!
اقتنعت بكلامه: -معاك حق…

دارت للخلف فوجدت اللوحة التي تحمل صورة أبيها موضوعة على الأرض والعمال يقومون باستبدالها بلوحة أخرى، تسارعت ضربات قلبها وتفاقم الصداع برأسها وهي تنفي ما تراه صارخة: -لا، لا، لا.
رفعت جفونها إليه: -بابا أهو.
ثم فاقت في بحر الدموع وصرخت: -هما حاطيين صورته على الأرض ليه؟ المتخلفين دول بيعملوا أيه؟

جُن رأسها مما تراه فابتعدت عن عاصي راكضة نحو العمالة كالهائم على وجهه، أشار عاصي بيده لرجاله أن يحلقون بهم، أما عنه تابع الركض خلفها مُناديًا: -استني يا رسيل. رسيل مش هينفع.
أصابها الغضب بالصمم فصرخت بالعمالة: -أنتوا ازاي منزلين صورة المعلم قنديل كده في الارض! أنتوا اتجننتوا؟
رد أحدهم: -أنتِ مين يا ست؟
صرخت بوجههم: -رجعوا صورة بابا مكانها وإلا هبلغ عنكم كلكم.

حضنها من الخلف كي تهدأ ويتحكم في انفعالاتها قائلًا: -أهدي بقولك…
صرخت باكية متوسلة إليه: -عاصي عشان خاطري مشيهم من هنا، قول لرجالتك يتصرفوا معاهم، هما مايعرفوش قنديل المصري تعب ازاي عشان يوصل لكل ده.
أخذت تلتقط أنفاسها بين يديه بعناء وهي تتوسل إليه صارخة: -عشان خاطري أعمل حاجة، صورة بابا لا.
تدخل أحد رجال فريد معترضًا: -هو في أيه يا بيه،!

قاطعه أحد الحراس واقفًا أمام الرجل كي يمنعه من الاقتراب من سيده، محذرًا: -خليك في شغلك.
ضم عاصي رسيل إليه بقوة وجهر غاضبًا: -فين الزفت اللي مشغلك.
-البيه في مصر بيخلص شغل. أنتو مين؟
-وصل رسالة للحرامي اللي معينك أن عاصي دويدار مش هيسيب حق مراته لو كنت في جُحر جهنم، مفهوم!
ثم قال إليها: -تعالي يالا نمشي.

اعترضت بإصرار: -أنا مكاني هنا، مش هتحرك من هنا، أنا وعدت بابا مش هضحى في شبر واحد، انا انا افتكرت، أنا بنت المعلم قنديل المصري. سيبني هنا عشان خاطري.
قالت جملتها في حالة وهن شديدة حتى أوشكت على التغيب عن وعيها بين يديه، حملها برفق وطلب من رجاله: -جيب العربية بسرعة.
أخذت تهذي بين يديه وهي فاقدة إدراكها وتترجاه: -أنا مش هينفع أبعد عن هنا، بابا هيتعصب عليا، أنت متعرفش قنديل المصري في الشغل ما بيرحمش.

وصل الرجل بالسيارة، فوضعها عاصي بالخلف ودار الجهة الأخرى ليجلس بجوارها، حاول أن يُعيدها إلى حضنه ولكنه فقد السيطرة عليها تمامًا حتى لجأ إلى غلق أبواب السيارة إلكترونيًا، أسرع متحدثًا إلى طبيبتها التي اقترحت عليه أن يذهب بها إلى طبيب آخر زميلاً لها وسترسل إليه تقارير حالتها.

تحركت السيارة نحو العنوان الذي أرسلته الطبيبة، أما عنها فهدئت تدريجيًا بعد ما سيطر عليها بين ذراعيه وأخذ يُلاطف شعرها كي تئن وتهدا، ويعيدها قائلًا: -حقك هرجعه والله هرجعه بس إهدي، اهدي يا رسيل.
استراحت على صدره وأغمضت عيونها بحزن وهي تنوح: -بابا مات يا عاصي، المعلم قنديل المصري مات؟
-رسيل ده أمر ربنا، بلاش تعملي في نفسك كده أنتِ مش مستحملة.

دخلت في مرحلة الصدمة مفارقة مرحلة الثرثرة، وضعت كفها فوق بطنه الرياضية مستسلمة تمامًا، فقدت قُدرتها على النطق والبكاء والسماع. مكتفية بكلمة واحدة من صميم قلبها الخائف: -متسبنيش…

-أنت بتقول أيه؟
انتفض فريد من نومته عندما أخبره أحد موظفيه القدامة عما حدث قائلًا:
-أنت متأكد؟
-أيوه يا باشا وأنا هخفى عنها وبالامارة كان معاها بيه أوباه وباين عليه غني ومتريش.
-اسمه أيه الجدع ده؟
حاول الرجل تذكر الاسم حتى جمعه قائلًا: -كان بيقول اسمه عاصي دويدار، وكان بيقول لسي جمال حسابي مع اللي مشغلك…
شرد فريد قائلًا لنفسه: -كده اللعب هيبقى على المكشوف يا ابن دويدار…

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *