رواية عذرا لكبريائي للكاتبة أنستازيا الفصل السابع والعشرون
أولين: حسناً.
أنا حقاً مندهشة الآن!
ليس أنا وحسب. بل الجميع في الغرفة تعتلي ملامحهم الدهشة والترقب فكنا نقلب أعيننا بين كريس المذهول وبين الزوار الواقفون أمام باب غرفته!
المشهد كالتالي! شارلوت تجلس بجانب تيا على الكرسي، بينما أنا على طرف سرير كريس، جوش وكلوديا وستيف يجلسون على الأريكة. السيد ماكس على الأريكة المجاورة لهم!
وعند الباب وقفوا هم الثلاثة ليدخل الشاب ذو الشعر الأسود الداكن مبتسماً بمرح: صباح الخير جميعاً!
همست شارلوت باستغراب شديد: س. سام!
بصراحة وجودهم فاجأني كثيراً!، لم أتوقع زيارتهم ومقابلتهم لكريس وجهاً لوجه!، دخولهم أضفى فوراً هالة من الحياة والحماس في المكان فجأة، وهذا ما شعرت به عندما قابلتهم مؤخراً في المنزل.
كريس يبدو غير مستوعب إطلاقا لوجودهم، ولهذا أشعر بالقلق بعض الشيء. ماذا لو تشاجر معهم أو القى بكلمات قاسية أمام الجميع!
أدرك جيداً أن الماضي لن يتغير وليس بوسعنا فعل شيء وأعلم أن كريس ترعرع طوال حياته يكن لهم الحقد والضغينة ولا سيما السيدة ستيفاني. ولكن!
وقفت شارلوت فوراً متجهة نحوهم بتوتر وهي تلقي نظرات متقطعة سريعة على كريس!
بل وبالرغم من جدية الموقف انتابني شعور بالرغبة في الضحك وأنا أراها تقف في المنتصف أمام سرير كريس وكأنها فتاة تود ان تفرد ذراعيها في وضعية الحماية، وبصراحة لا أدري على أي الطرفين كانت تخشى حينها.
وقف السيد ماكس كذلك ليسير إليهم مبتسماً بلطف: صباح الخير، كيف حالك سام؟
أجابه سام بدهشة: أنا بخير سيد ماكس ولكن. هذا هو كريس إذاً!
اقترب متجهاً إلى كريس وقد تخطى شارلوت التي زمت شفتيها بتردد، ظل يحدق إليه بتمعن ليقف امام السرير وتمتم مفكراً: لنرى. نعم إنه هو! لديه هالة ثراء تحيط به، كما أن وجهه يذكرني بذلك اللطيف جيمي، حسناً وجهه مشوهاً وليس كما وصفته شارلوت بوسامته التي تخيلتها! يبدو أنه لم يستوعب وجودنا هنا حتى الآن.
ثم حرك يده أمام وجه كريس باستغراب فما كان من شارلوت إلا ان تسرع نحوه لتجذب أخيها من ذراعه بإرتباك: لنخرج يا سام. هيا! ل. لنعد إلى المنزل!
أعلم جيداً لماذا تبدو قلقة ولكنني لا أدري ما الذي يجول في خاطرها. ربما هي تخشى ان تحدث مشكلة بين كريس وعائلتها الآن وأنا لا ألومها، هو يبدو متفاجئاً وكأن آخر من توقع زيارتهم هم عائلتها.
شارلوت على الأغلب تخشى على الطرفين وتفكر كثيراً وهذا واضح من تصرفاتها المضطربة.
وقفت كلوديا متداركة الو ضع لتقول بشيء من الحماس: ستيفاني ومارك! لم أتوقع رؤيتكما هنا ولكنها مفاجأة رائعة.
ابتسمت ستيفاني بلطف ونظرت إليها بعينها الخضراوان: شكرا جزيلا كلوديا.
ثم وجهت أنظارها نحو كريس الذي كان في هذه اللحظة ينظر للفراغ بصمت غريب!
بصراحة لست مطمئنة!
أتمنى ألا يوقعنا صمته في مأزق ويخلق مشكلة هنا! يكفي أنهم هنا لزيارته. زميت شفتاي بتوتر حتى قال ماكس: كريس. لقد علم والدا شارلوت بما حدث لك وأرادوا زيارتك.
استغربتْ شارلوت وسمعتها تهمس لوالدها: متى علمتما!
أجابها بسخرية: إلى متى كنتِ تنوين إخفاء الآمر؟ سيكون حسابك عسيرا لاحقا. انتظري فقط، بالمناسبة هل عنقكِ بخير؟
أومأت برأسها بعدم استيعاب بينما قال ماكس مشيرا: تفضلوا بالجلوس، سام لا يمكنني توصيتك فأنت شخص متحرر وسهل التأقلم مع محيطك اليس كذلك؟
ابتسم سام مميلاً براسه إيجابا وبثقة وحين نظر لستيف بادر ستيف يتنهد بضجر: هذا أنتَ مجدداً!
تساءل سام بتحير: هذا الطفل هنا. الا بأس برؤيتك لشخص جريح؟
امتعض ستيف ووقف مغتاظا: طفل؟ يا الهي. أمي إنه يستفزني مجدداً! أخبرتك أنني في العشرون من عمري! ثم ليس وكأن مظهر كريس مرعباً أو يخيفني! إنها مجرد بضعة كدمات على وجهه.
ألديك صورة له دون هذه الكدمات؟
هاه!
سمعت بأنه وسيم ولكن أنظر إليه!
آه! نعم لدي. م مهلا! جميع أفراد عائلتنا تمتاز بالوسامة المفرطة وحسن المظهر لذا انتبه لما تقوله جيداً!
هل تعتقد بأنك كسرت هذه القاعدة؟
ما الذي تقصده!
أبداً لا شيء.
هل تريد الشجار معي!
ولكن سام اقترب منه بسخرية واحاط كتف ستيف بذراعه وقال مبتسماً: سمعت انك شخص متهور وطائش، لماذا لا نشكل حلفاً أنا وأنت؟ سأكون العقل المدبر وأنت الطعم في الواجهة. في المرة الماضية كنت عدائيا جداً تجاهي ربما لأنك لاحظت أنك تشبهني بطريقة أو بأخرى. صحيح؟
زفر ستيف: أبي احجز له غرفة مجاورة أعتقد بأنني سأمزقه إلى قطع صغيرة ستشتاق فيها أعضاء جسده إلى بعضها البعض.
يبدو هذا مرعباً، ولكن لا بأس لنرى مهاراتك.
قل بأنك تريد من الممرضات العناية بك، لم يفتني كم أنت معسول اللسان أيها الزير.
سأكون مخلصاً لفتاة واحدة إذا وقعت في الحب صدقني.
ضحك ماكس بخفوت وكذلك كلوديا، كتمت ضحكتي رغما عني والدهشة تعتريني بعض الشيء فأخيها قلب الأجواء في أقل من لحظة! شارلوت قد ابتسمت لحوارهما ذلك وهي تختلس نظرة قلقة نحو كريس.
اقتربت ستيفاني ممسكة بباقة أزهار ونظرت إلى كريس بتأمل، بل أن يديها ارتختا كثيرا وانزلت الباقة لتهمس بقلق: كيف حالك كريستوبال؟ هل تشعر بتحسن؟
أخفض عينيه للباقة لمهية ثم وببطء شديد ابعد وجهه عنها ولم ينبس ببنت شفة.
قبل أكثر من نصف ساعة أتى جوش وماكس وخلفهما كلوديا وستيف وكان كريس طبيعيا جداً ويتبادل الأحاديث، بالطبع باستثناء خوض اي نقاش مع ماكس.
ثم أتت شارلوت مع تيا وحينها ظل كل من كريس وشارلوت يختلسان النظرات لبعضهما خلسة ولم يتحدثا بشكل عميق وما شابه وإنما مجرد كلمات سطحية جداً!
وتساءلت حينها عن القرار الذي اتخذه كل منهما أو أنني رسمت أحلاما وكان خيالي واسعاً لأعتقد أن كل شيء سيكون على ما يرام بينهما!
اعادني للواقع صوت مارك مبتسماً: لو كنا نعلم بالأمر منذ البداية لكنا هنا مسبقاً ولكن ابنتنا الحمقاء اخفت الأمر عنا لذا اعذرنا لزيارتنا المتأخرة هذه.
نظر ماكس إلى بنظرة ذات مغزى ففهمت فوراً ما يجول في خاطره ووقفت لأقول بهدوء: لنفسح المجال ونترك شارلوت ووالديها مع كريس قليلاً.
اتسعت عينا سام: وماذا عني! أنا أيضا فرداً في هذه العائلة، انظري إلى سيدة أولين انا أشبه أبي كثيراً!
ولكن ستيف جذبه ليسحبه من كتفيه ويجبره على الخروج متمتما بسخرية: يوجد نقطة تشابه بيننا يا رأس الغراب الأسود، أنا أيضا لا يعترف هاذان العجوزان بوجودي في هذا العالم.
أجبره على الخروج فهمست كلوديا بحنق: أرجو المعذرة على أن أجبره على التراجع عن كلماته الوقحة الأخيرة.
خرجت وخلفها جوش الذي ابتسم لستيفاني ومارك، وكذلك تيا التي كانت طوال الوقت تحدق إلى والدا شارلوت بشرود لسبب ما! ولكنها وقفت في النهاية وقالت بلطف شديد استغربته: سيد مارك، سيدة ستيفاني إنها فرصة سعيدة للقائكم، أنا تيا صديقة كريس.
ارتفع حاجبا مارك الذي صافحها: أنتِ الصهباء التي ذكرتها شارلوت؟!
طرفت تيا بعينيها فأسرعت شارلوت توضح مبتسمة: آه! أ. أمي إنها صديقتي التي أخبرتك عنها على الهاتف في الأمس.
أومأت ستيفاني تنظر إلى تيا بإستحسان: مرحباً تيا!
ثم صافحتها بابتسامة لطيفة: سيكون لنا حديث بعد قليل بلا شك يا عزيزتي.
أمالت تيا التي استنكرت كثيرا تحديقها إليهما بلطف وإهتمام شديدين!
وعندما خرجت تحركت بدوري لأخرج أنا أيضا تاركة والدا شارلوت وماكس في الداخل.
وما ان أغلقت الباب حتى كاد كل ما حولي يتطاير لشجار شنه ستيف على سام وقد صاح بنظرة تنذر بالقتل: انت تستخف بي كثيرا وأبدو بالنسبة لك هدفا أو وجبة دسمة! اتركني وشأني يا رأس الغراب.
ابتسم سام باستفزاز متكتفاً: هيا يا فتى لستُ الوحيد على هذه الأرض ذو الشعر الأسود الكثيف والجميل.
ثم وجه أنظاره لكلوديا واقترب منها مبتسما بلطف وانحنى بلباقة وهو يأخذ بيدها ليرفعها برفق ويقول بصوت حاني: آنسة كلوديا فاجأني الفرق الكبير بينك وبين هذا الصغير. كيف لآنسة بمثلك لباقتك ورزانتك أن تحتمل طفل مثله.
توردت وجنتا كلوديا بخجل بينما نظرت تيا وجوش إلى بعضهما ببلاهة في حين اتسعت عينا ستيف بدهشة! أما أنا نفيت برأسي بعدم تصديق، فهذه المرة الثانية التي أرى فيها هذا الشاب ولا زال يفاجئني وكأنه نسخة مكبرة من ستيف وحسب مما جعلني أستمر في التحديق إليه لأراقب تحركاته وضحكاته دون شعور!
شارلوت:.
الجو مشحون كثيراً وأشعر أن الذرات فيه متنافرة لأقصى درجة! بل أن الهواء ثقيل في الغرفة ورغبت في إخراج رأسي من النافذة لأتنفس بعمق.
أدهشني كثيرا تواجد والداي وسام مع علمهما بكل ما يحدث بل وهم يعرفون جيداً كم يكن لهم الضغينة! ما الذي على فعله؟ أنا متوترة جداً. لا أدري ما الذي يفكران به.
إنه يشيح بوجهه بعيداً وينظر نحو النافذة بعين لا تعبير فيهما.!
لا أريده ان يُسمع أمي وأبي كلمات قاسية محرجة ولهذا لا أتمنى بقاءهما هنا أكثر.
والأهم لا أريد أن يستاء بطريقة أو بأخرى وهو يضطر لتذكر طفولته التعيسة تلك. أنا حقا لم أعد أفهم ما أريده تحديداً.
بادر ماكس بالخطوة الأولى إذ جلس على الكرسي المقابل للسرير وابتسم لي مشيرا نحو الكرسي المحاذي له: اجلسي بجانبي يا شارلوت.!
تحركت نحوه أخفي حيرتي ولكن خطواتي كانت متوترة إذ دفعت الطاولة بقدمي دون قصد واسرعت ارتبها واجلس بجانبه استرق نظرة سريعة له فهمس لي بصوت منخفض: لا داعي لكل هذا القلق. في الأمس أرادت والدتك ان توصيني عليكِ وأخبرتني أنكِ نسيتِ هاتفك وحينها أخبرتها بما حدث لكِ و لكريس.
زميت شفتاي ثم عضيت عليها احاول ان اطمئن نفسي وانا ابتسم له بهدوء.
أمي وضعت الباقة على المنضدة وجلست على الكرسي المجاور لسريره وكذلك أبي.
أي نوع من الحوار سيجمعهم! ما هي النبرة المُستخدمة؟ أي شكل من أشكال النقاش سيدور؟ أم أن لا شيء من كل هذا سيحدث وسيخرجان بعد لحظات فقط؟
شعرت بيد السيد ماكس على يدي فارتفع حاجباي باستغراب!
طرفت بعيني أنظر إليه بترقب فتمتم بنبرة دافئة: ارتجاف جسدك هذا لن يساعدك على تخفيف إرتباكك يا شارلوت! لماذا كل هذا التوتر؟ كوني هادئة ولا تدعي الأفكار السلبية تلتهم رأسك! أن تقلقي بشأن أمور لم تحدث لهو مجرد إرهاق لنفسك فقط. كوني متفائلة والديك لن يخوضا شجار او جدال مع كريس، اتركي هذه الهواجس حتى لا تدفعك لاحقاً لردة فعل منزوعة القيمة يا ابنتي، ثم ألا تثقين بهما؟
همست له بإستياء: أنا فقط. لا يمكنني منع نفسي من تخيل رمي بعض الكلمات الجارحة عليهما. أمي قوية ولكنها تظل حساسة سيد ماكس!
ثقي بهما.
أردف بنبرة غريبة: و بكريس قليلاً.
ارتخت ملامحي كثيراً لنبرته الحانية ويده التي يضعها على يدي لتبسط الراحة في نفسي، وتزيح عن صدري مخاوفي وتنتزع الأوهام والتخيلات الدخيلة في عقلي.
بل وأنني ابتسمت له أومأ برأسي وقد حفزتني عيناه البندقيتان الجادتان.
نعم كنت قلقة. خوفي يتضمن أمرين كل منهما بالنسبة لي أهم من الآخر! فأنا لا أريد لوالديَّ أن يستاءا أو أن يُرغم كريس على عرض مساوئ طفولته أمام عينيه.
ولكنني حزمت أمري أحدق إليهم، أمي وأبي يتبادلان النظرات الهادئة بينما كريس لا يزال يشيح بوجهه.
كان هو من بادر بكسر حاجز الصمت هذا وقال بهدوء استنكرته دون ان ينظر إليهما: ما الذي من المفترض أنكما تفعلانه هنا بحق السماء؟
لويت شفتي لهذه البداية السيئة المُحبطة ولكنني سرعان ما أجفلت بذعر لنبرته الحادة وهو يلقي بنظرات غاضبة بين أمي وأبي: لست بحاجة لزيارتكما من الأفضل ان ترحلا فوراً لأنني س.
أدهشتني ابتسامة أمي المرحة المقاطعة: اليس هذا واضحاً؟ نحن هنا للإطمئنان عليك. قضى سام ساعة كاملة في حرق أعصاب منسقة الزهور بحجة الذوق الرفيع للفنان.
نظرت لكريس أترقب ردة فعله، ولكنه ظل على حاله يحدق إليها بغيض شديد وهو يتنفس بسرعة، ابتسم أبي وقال بشيء من التبرم: ذلك الشاب مغرور بنفسه إلى درجة لا تُصدق. أراد أن يلتقط صورة سريعة للباقة قبل أن نصل إلى المشفى.
تنهد السيد ماكس وعلق: أضمن لك أنه سيشكل فريقا فكاهيا مع ستيف.
ثم صمتوا للحظة قبل أن يزفر كريس دلالة على نفاذ الصبر ليهمس بصوت مبحوح حاد: إن كنتما مصران على البقاء هنا فسأخرج أنا.
قالها وهو ينفذ جملته تلك بالفعل إذ ظهر الألم على وجهه وهو يحاول الإعتدال في وضعيته فلم يكن مني سوى الوقوف فوراً لأتجه إليه بقلق واضع يداي على صدره مهدئة برجاء: كريس استلق بسرعة حتى لا يتأثر جرحك!
ابتعدي.
تقوست شفتاي بحزن شديد وانا لا أزال أحاول دفعه برفق، كنت أعلم أن لقاؤه بهما سيكون سيئاً، بصراحة ما تخيلته كان أسوأ من هذا ولكن تظل ردة فعله هذه تحزنني.
متخيلة كيف ستكون الأوضاع لو لم يكن ذلك الماضي التعيس دخيلا في ذكرياته! لكان الآن يجلس ويضحك ويسخر مع والداي بلا شك.
حينها لا أدري كيف.
ولكن جرأة تملكتني لأقرب وجهي وأهمس في أذنه بصوت راجي وحاني: ماذا عن فرصة واحدة وأخيرة؟ تخلص من كل الاشتباهات واقطع الشك باليقين لعلك تدرك أمراً لم تسمع بشأنه! انصت إليهما ثم قل ما تشاء لن يردعك أحد، أعدك.
ولكنه ظل يحاول ابعادي بغضب: قلت لك ابتعدي.!
كريس من فضلك اهدأ قليلاً فقط. لقد سلكوا طريقا طويلة للقائك فقط.
ولكنه نجح في ابعادي لأراه يعتدل وهنا تأوه مغمضا عينيه بقوة، سألته بقلق: هل أنت بخير!
ولكن بدلا من ذلك صرخ بإنفعال: افسحي لي المجال، لن أجلس في المكان ذاته معهما.
نظرتُ إلى أمي وأبي اللذان ظهر الإستياء على ملامحهما وكم كسرني ذلك التعبير.
ربما. لو تم حل سوء الفهم بينهما وبين كريس ستعود المياه إلى مجاريها، وقد تتوطد علاقته بهما، وقد تنجح أمي في تعويضه بالفعل ليشعر أنه في مقام سام وإيثان!
حتى لو انفصلت عن كريس فعلى الأقل على مساعدته بهذا الشأن.
علي أن أتصرف.
لا أدري إن كنت سأندم على فعلتي هذه الآن أو لا.
ولكنني جلست على طرف السرير مجدداً أعانقه بقوة وهمست بصوت منخفض: لقاؤك بهما كان سيحدث عاجلاً أم آجلاً. توقف عن الهرب، كريس واجه الأمر هذه المرة فقط ولن نجبرك إطلاقاً على أي شيء بعدها.
توقف عن محاولة الإعتدال وشعرت به يتنفس بهدوء بعض الشيء فابتعدت عنه ببطء لأنظر إليه، وجدته يخفض عينيه العسليتان وهمس لي بحقد شديد: لن أسمع سوى الهراء!
سايرته بنبرة مماثلة لا يسمعها سوانا: لنرى إن كان هذا الهراء مثيراً للإهتمام أو لا. الست فضولياً؟
ظهرت تقطيبة صغيرة بين حاجبيه للحظة قبل أن يغمض عينيه بغضب واضح، بل رص على أسنانه بقوة فخشيت أن ينفجر الآن على الجميع، ولكنني دُهشت به يمسك بيدي ويهمس بحزم ولم يفتني الإرتجاف في صوته: قد تدفعين الثمن أنتِ أيضاً لو أُجبرت على سماع تسويغات فارغة يا شارلوت.
أومأتُ بلا اعتراض ولم أعلق، على أن أكون حذرة لإخماد شرارة أي شجار قد يحدث! أنا لن أقبل على والداي الشعور بالحزن ولا على كريس بالغوص في تلك الطفولة أكثر.
ظل يمسك بيدي فأخفيت إحراجي وأنا أجلس على السرير بجانبه، ارتسم على ملامح أمي بعض الإستياء وهي تحدق إليه بتردد: كريس. أعلم جيداً أنك لا تريد رؤيتنا، وأعلم أن وجودنا هنا يكاد يكون خانقا بالنسبة لك. ب. بالمناسبة هل تفضل أن أناديك بكريس؟ لا أدري إن كان تصغيري لإسمك يزعجك. ماذا عن كريستوبال؟
وجودكم لا يكاد يكون خانقاً، بل أنني أختنق بالفعل وربما سأطلب من الممرضة إحضار جهاز التنفس بسرعة. ولا داع لمناداتي لأنني لا أرى الأمر ضرورياً.
قالها بجفاء وقد نظر نحوهما بحقد جعل القشعريرة تسري في جسدي!
هذا الحقد. مقارنة بالنظرات التي كان يلقيها على في البداية لا شيء أبداً! لو كنت مكروهة آنذاك في عينيه فوالديَّ تخطاني بمراحل معدودة. لو كان هناك كلمة تصف الشعور المضاعف للكراهية والمقت لاستخدمتها فوراً!
زميت شفتاي بصمت أخفض رأسي وحينها اختلست نظرة نحو يده التي تمسك بيدي ولوهلة كنت أغوص في مشاعري سامحة للخجل أن يتملكني! يا الهي هذا ليس الوقت المناسب لهذا الهراء الذي أفكر به. ثم أخبرته في الأمس أننا سننفصل عاجلا أم آجلا فما الذي أفعله الآن بحق الإله؟
علق أبي بهدوء: يحق لك أن تكرهنا يا بُني. ولكننا هنا ل.
قاطعه بحزم: من الأفضل ألا تتحدث عن الكراهية لأنني مكتفي وممتلئ بها بالفعل.
ولكن أبي أكمل بنبرته السابقة: التقينا أخيراً بعد سنوات طويلة يا كريس، دعنا نتحدث قليلاً واحتمل وجودنا لدقائق إضافية فقط وأعدك بأننا سنغادر ما ان ننتهي. الحال بات أعمق فأنت الآن لست ابن صديقنا المقرب وحسب.
أضاف يرمقني بنظرة سريعة: بل زوج ابنتنا أيضاً.
أصدر كريس صوتا ساخراً في حين تنهد أبي ليعقب قوله: هل تعلم بأن شارلوت مصرة على إنهاء هذا الزواج؟
أغمض عينيه متمالكاً أعصابه: لم أسمع شيئاً جديداً حتى الآن ولا أريد سماع أي شيء، أنتم الثلاثة تجمعكم صداقة قديمة لذا حافظوا على علاقتكم هذه بعيداً عني أنا. لا يهمني ما يجمعني بكم لأن لي نظرتي الخاصة. ولكن لتعلموا فقط أن هذه الصداقة التي تعتزون بها والقائمة على النفاق والتزييف والخداع لن تطلي على كما انطلت على.
ولكنه صمت قليلاً ليفتح عينيه ينظر للسقف بضجر وزفر بقوة: فليكن. لن اهدر طاقتي.
كريس أنتَ لم تكن هكذا في آخر لقاء لنا. كنت صغيرا حينها ولكنك لم تكن تنظر إلينا بهذه الطريقة! ما الذي تغير الآن؟ أتذكر رغبتنا في ذلك اليوم؟ الم نتفق سوياً على أنك ستغادر منزل العائلة وتذهب معنا للعيش في المدينة الأخرى؟
هاه! يغادر معنا؟! ما الذي يقوله أبي؟! اتسعت عيناي بدهشة وعدم فهم بينما ابتسم كريس بإستهزاء: آه! ذلك الوعد السخيف الذي قطعتموه معي؟ لا أريد تذكر هذا الهراء. إنه لا يعني لي أي شيء منذ زمن طويل. أنا حقاً لا أريد الحديث معكم عن أي شيء لذا اتركوني وشأني.
تمتم بجفاء: لا أريد اتعاب نفسي في الإنصات الى المرأة التي سرقت الرجل الذي كاد يتزوج بأمي، ولا رؤية الرجل الذي هرب بعيداً تاركا إياها تندب حظها.
غرقت في أعماق تساؤلاتي وانا افكر فيما قاله قبل قليل بشأن ذلك الوعد، ما الذي يتحدثون عنه!
عقدت حاجباي بعدم فهم وتساءلتُ عاجزة عن قمع فضولي: أبي. عن أي وعد كنت تتحدث؟
نظر إلى بصمت وتردد لثواني وكاد يتحدث لولا ان كريس تدخل ينظر إلى بمكر ساخر: يقصد زيارتكم لنا قبل زمن طويل. الم تتساءلي لماذا يبدو منزلنا مألوف بالنسبة لكِ؟
ه. هاه!، آ. نعم! شعرت بهذا منذ دخولي له أول مرة وفي بعض الأحيان كذلك.
أومأ برأسه وضاقت عينيه بحدة وقال بصوت حاد متهكم: الغرض من تلك الزيارة كان كما يدعي الثلاثة المقربون أنه على الخروج من المنزل والذهاب بصحبتكم للعيش معكم بعيداً عن أمي التي كانت تشكل تهديداً حقيقيا علي.
هآآآه!
تدخل والده ماكس بأسى واضح: ذلك لم يكن ادعاءً! كنتُ خائفا عليك يا كريس ولم أكن أحظى بفرصة للنوم بسبب التفكير الذي يؤرقني! الا تدرك عدد المرات التي كدت تموت فيها بسبب باتريشيا؟ لقد ضاق الحال بي ذرعا وأخبرت ستيفاني ومارك واتفقنا على أنك بحاجة للخروج من المنزل ولو مؤقتاً! قبل تلك الليلة فقط كانت باتريشيا تحاول إيذاءك بحبسك في الخزانة أكثر من ساعتين كدت تختنق فيها! كيف لي أن أقف مكتوف الأيدي؟! وبالفعل اتوا لزيارتنا وأخبرناك بأنك ستخرج ولم تعترض أنتَ بدورك.
تدخلت بعدم فهم ودهشة: لماذا لم يذهب معنا إذاً!
ظهر التردد على وجه أمي وأبي الذي مرر يده في شعره الأسود ببطء، أما السيد ماكس فبدى مستاءً وهو ينظر لكريس بلا حيلة.
ردود الأفعال هذه جعلتني أستغرب كثيراً وانتظر ان يتفوه أياً منهم ولو بحرف لأعطيه جُل اهتمامي وانشط حواسي كلها استعداداً وتأهباً.
نفي كريس برأسه بسخرية وبلا حيلة وهو يمد يده ليأخذ قارورة ماء على المنضدة بجانبه بوجه لم تختفي منه تعابير الإستخفاف والتهكم، رشف الماء ثم تمتم باستغراب وكأنه يكبت ضحكته ينظر إليهم: لما هذا التردد والتحفظ؟ حسنا دعيني أجيبكِ أنا عوضاً عنهم. علمت أمي بالأمر ووافقت على خروجي من المنزل بشرط أن ينفصل والديكِ. هذا هو الأمر بإختصار.
جحظت عيناي بذهول ولم أكد أستوعب ليكمل بملل وفتور: أدهشهما الأمر ولم يرغبا في تحطيم الحب الذي يجمعهما والذي كان يقودهما لخطة الزفاف اللئيمة تلك فتنازلا فوراً عن فكرة ذهابي معكم.
ثم ضحك بخفوت محدقا إلي: فكري بالأمر قليلاً الأمر لم يكن يستحق عناء التضحية إلى هذه الدرجة، كانت رغبة فقط في إظهار لطفهما المؤقت الذي أعقبه انسحابهما السريع وعودتهما دون تفكير. مؤسف صحيح؟
نفيت أمي بإنزعاج وأسى: مهلاً يا كريس! أرجوك لا تفتري علينا بظنونك المتهورة! لن أنكر بأننا رفضنا شرط باتريشيا الذي كان غير منطقي أو معقول والذي ينص على هدم أسرة كاملة. أولاً أنا ومارك يربطنا ثلاث أبناء، ثانياً هي كانت تريدنا ان ننفصل لتحظى بفرصة مع مارك متناسية أمر والدك وزوجها ماكس! الأمر غير معقول البتة.
ولكنه كان معقولاً جداً عندما استبدلتم الزوج في الزفاف.
هذا أمر مختلف تماماً!
كل الطرق تؤدي إلى روما سيدة ستيفاني. لنتحدث بصراحة ونتوقف عن المراوغة أنا ايضا سأكون واضحاً، في ذلك الوقت كنت بالفعل معرضا للخطر أكثر من أي وقت مضى بسبب أفعال أمي البعيدة عن الموضوعية، قمتم بزيارتنا وبصفتي طفل مغفل آنذاك كنت مستعدا للمغادرة معكم فوراً للتخلص مما أمر فيه، بل وكنت أبلهاً مسروراً مستعداً للخروج قبلكم لأسبقكم إلى المدينة المجاورة ولن أنسى أنني حزمت أمتعتي بكل حماس.
أردف بحدة: أمي قامت بتهديدكم لتنوه أن مغادرتي للمنزل دون الموافقة على شرطها ستنتهي بكونها منتحرة ولن تهتم بعدها بأي شيء. ولكنكِ كنتِ مُصرة لأقصى حد بأخذي معكم، قلتِ لماكس بأنكِ ستأخذينني مهما كلفكِ الأمر وتجاهلتِ تهديد أمي التي تدعين بأنكِ كنت تفعلين هذا لمصلحتها. بماذا تبررين فعلتك؟ بل وأنكِ أخبرت زوجكِ آنذاك ألا يصدقها أو يستمع إليها وتشاجرت معها. هل كنت تظنين بأنني سأشعر بالأمان معكم بعد هذا حقاً؟
هل أستطيع تبرير موقفي؟
رفع كتفه بلا اكتراث وببرود شديد وكأنه يقول بأن كل ما سيسمعه مجرد تسويغات معتاد عليها، فتنهدت أمي بعمق تنظر إليه بتأمل وتقول بحزن: أعترف بأنني أخبرت مارك بهذا، وحتى ماكس. ولكنني فعلت هذا وأنا واثقة مما أقوله! لم تكن المرة الأولى التي تهدد باتريشيا فيها أحد بالإنتحار. هل تعلم بأنها أخبرتني يوما عندما كنا لا نزال في مرحلة الجامعة بأنها ستلعنني حتى آخر لحظة تلفظ فيها أنفاسها؟ على العموم دعني أجيبك على سؤالك. كنتُ بالفعل كما ذكرتَ مصرة على أن نأخذك معنا. ولكنني أقسم لك بأن الدافع الوحيد حينها هو ضمان سلامتك. تكررت الكثير من الحوادث التي تعرضتَ لها، وعلمتُ أنك بسببها تعرضت للتنمر في مدرستك وعندما نضجت قليلا أصبح الوضع العكس تماماً وبدأت تتصرف بعدائية تجاه الجميع. أردت ان أساعدك يا كريس ولم تكن لدي أي نية أخرى!
أضافت وهي تقرب الكرسي منه قليلاً: لقد خضت أسوأ تجربة قد تتخيلها! تعرضت للتنمر أنا أيضا بسبب والدتك وكرهت اللحظة التي خطوت فيها للمدرسة لذا أفهم شعورك وأعرف ما كنت تمر به جيداً. بل وأنني اعتكفت المنزل ورفضت الذهاب للمدرسة. فتاة ثرية جذابة مثل باتريشيا في ذلك الوقت عندما تنقلب على شخص فسينقلب الجميع عليه كذلك ويجعلونه مجرد علكة عالقة بين فوهات الأحذية! كنت منبوذة بشكل كامل أعاني وحدي ولم أجد بجانبي سوى مارك وماكس فقط! أعرف كيف يكون شعور التنمر وأردتك أن تبدأ معنا حياة جديدة تماماً بعيدا عن كل هذا العذاب!
ثم صمتت قليلا تحت وطأة دهشتي وبداية استنكار كريس للأمر وهو يعترض: تنمر! أتقولين بأن أمي تسببت لكِ باضطهادك وتنمر من حولكِ عليك؟ ما هذا السخف!
أومأت أمي بسرعة فقال أبي بأسى: إنها الحقيقة. إن كنت لن تصدق ماكس لو أيد الأمر فاسمح لي بالتأييد. ستيفاني كانت ضحية للجميع، لم تكن هدفاً للفصل فقط بل لجميع طلاب المدرسة. لم يقتصر الأمر على الضرب أو الاعتداءات المختلفة والمضايقات بل حتى على اتهامها بالغش والسرقة و أمور كثيرة. عائلتها لم تكن ذات نفوذ أو تتضمن ولي أمر سيقف لها كسند تعتمد عليه. والدها كان مريضا ووالدتها امرأة تبذل كل جهدها في المداومة على القيام بأعباء المنزل لراحة ابنتها الوحيدة وزوجها.
تنهد ماكس متمتماً: والدتك قامت بالكثير. لن أنتهي لو سردت القائمة بأكملها.
رمقه كريس بنظرة غريبة وهو يبدو غير مستوعب للأمر!
فقالت أمي بنبرة متألمة: ما قمنا به في ليلة زفافها كان خطأ كبير. أقر بهذا ونعترف جميعنا بالخطأ! وهو أحد الأسباب التي دفعتني لرغبة في تكفير ذنبي والمطالبة بالإعتناء بك ووالدك لم يرفض لأنه يثق بأنك ستكون بأمان معنا! أردت ان أعوضك عن أمور افتقدتها بسببنا! أردت ان امنحك شعور العائلة اللطيفة وأراك سالماً وبأمان أمام عيناي. لم تكن بالنسبة لي تختلف عن إيثان أو سام! كنت أراك ابناً لي أيضاً، كنت أطالب برعايتك مقابل ان تغفر لنا فعلتنا! أعلم جيداً كم تأذيت وعانيت وليس من السهل مسامحتنا. أعرف شعور ان يتم التنمر عليك أو ان تحاول ان تبدو عدائيا للدفاع عن نفسك، وأعرف أنك لطالما شعرت بالوحدة الشديدة ولن تتوقف عن لومنا وأنا لن أرفض لومك وعتابك هذا بل أستقبله بصدر رحب.
تفاجأت بأمي بدأت تبكي وأسرعت تخفض رأسها فقرب أبي كرسيه منها وربت على كتفها لينظر لكريس بهدوء: يا بُني. لا يوجد انسان معصوم عن الخطأ أو قادر على التنبؤ بنتيجة أفعاله. دعنا نكون واقعيين وصريحين وأخبرك ببعض التفاصيل ثم احكم بنفسك على الأمر.
لم تكف أمي عن البكاء الخافت فوقف ماكس بوجه اتضح عليه الإنكسار ووقف خلف أمي ليربت على رأسها مخففا عنها فوجه أبي اهتمامه لكريس الذي كان ينظر لأمي بطرف عينه بشيء من الإستغراب والإنزعاج.
ثم نظر لأبي وقال بهدوء شديد: لنسمع التفاصيل فأنا أيضا لدي ما أقوله وسؤال على طرحه.
قال كلمته الأخيرة بحدة وهو يلقي على نظرة خاطفة فانتفضت في مكاني!
م. ما خطبه فجأة! لماذا ينظر إلى بهذه الطريقة؟ كما أنه شد على يدي أكثر فأسرعت أنظر ليده بحيرة واستنكار شديد.! يا له من مزيج مشاعر غريب. خجل مُزج بالقلق والخوف والفضول راغبة في الإنصات لكل حرف يتفوه به الجميع.
وقف أبي مبتعدا عن الكرسي فجلس عليه ماكس بدوره، نظرت إليه وهو يبتعد متحركا نحو النافذة على يساري وابتسم بهدوء: حسناً إذاً، دعني أخبرك بقصة أبطالها مراهقون آنذاك، شارلوت علمت بالأمر مسبقاً ولن تسمع شيئا جديداً ولكنك لا تعلم نوع العلاقة او كيف بدأت الحكاية بيننا نحن الأربعة، شارلوت أنصتي أنت أيضا لأنه يوجد إضافة لم تعلمي بها أنتِ وشقيقيك ولم اعتقد أنه سيكون لذكرها داعٍ ولكنني مضطر الآن.
مرر أبي يده على ذقنه مفكراً قليلا ثم قال ممازحا: كنتُ ذلك الفتى المشهور الرياضي والمرح المحبوب في المدرسة، ماكس كان الثري الجذاب معشوق الفتيات، كنا صديقان مقربان منذ بداية المرحلة المتوسطة تقريباً، والدتك وستيفاني كانتا صديقتان بُنيت علاقتهما على اساس الصراحة في البداية ولكن اتضح ان الأمر لم يكن كذلك أبداً وكانت صداقة قائمة على الخداع والتربص. أحببت ستيفاني منذ زمن بعيد، اتعرف ذلك الأحمق الذي يظهر في القصص كمتسلل ومراقب للفتاة التي تجهل عنه كل شيء ويختلس النظرات من بعيد؟ كان ذلك أنا. ، أيضاً تعرف بلا شك الفتى الذي يحاول الإعتراف بمشاعره ويصيبه التردد طوال الوقت، ذلك كان والدك الذي أحب باتريشيا منذ أن كانا في المهد. حسنا أنا أبالغ ولكنه مجرد تعبير لأريك أنه تعلق بها منذ صغره. فكما تعلم عائلتا والديك مقربتان منذ زمن. المهم الآن أن باتريشيا كانت ترى انجذاب ستيفاني لمارك وكانت في بداية الأمر تتظاهر بالتشجيع والتحفيز وتقف إلى جانبها كسند لتعتمد عليها ستيفاني والجميع يثني على قدرتها وموهبتها في التمثيل. وعندما تأكدت من مشاعر ستيفاني نحوي قررت أن تخبرها بطريقة ملتوية أنها واقعة في حبي وتحتاج إلى دعم ستيفاني لتوطيد هذه العلاقة.
عقد كريس حاجبيه بحزم وقد عجز عن إخفاء استغرابه ودهشته: ما هذا! أتقول بأنكما أحببتما بعضكما ثم كانت أمي من تدخلت في هذه العلاقة؟ ما أعرفه عكس ذلك تماما. ثم ماكس لم يقل يوماً أنه أحب باتريشيا، ولم ينكر انه اخذ مكانك في الزفاف ليخرجك من المأزق وكأن زواجك بأمي س.
ولكنه توقف قليلاً يتنفس بعصبية وأضاف مزمجرا بغيض وهو يرمق أمي بنظرات سريعة: لقد كانت من انتزعتك من أمي واتفقت مع ماكس على ان.
قاطعه ابي مبتسما: على رسلك. اعرف جيداً أن باتريشيا أخبرتك بالأمور بطريقة عكسية. وأدرك أن ماكس لم يرغب في إعلامك بالحقيقة لسبب ربما سيبوح لك به بنفسه فيما بعد. على كل حال اعترفت لي باتريشيا ورفضتها بكل لباقة واخبرتها بأنه يوجد فتاة أسرتني بكل معنى للكلمة. باتريشيا تدرك جيداً أنها ستيفاني وحينها سيطر عليها الحقد وانقلبت على ستيفاني ونعتتها بالخائنة المنافقة، وما ان انقلبت صداقتهما حتى انقلب الطلاب كلهم على ستيفاني وحدث ما أخبرناك به قبل قليل. دعني أقتصر الأحداث وأخبرك بالمعتبر المهم، بقيت ستيفاني وحيدة وتبعتها إلى الجامعة التي التحقت بها وبدأنا نتواعد، بينما كان والديك في جامعة خاصة وبعدها لم تيأس باتريشيا وتبعتنا حيث ندرس وبعدها عادت لمحاولة التفريق بيننا، كانت أمامي تلك الفتاة التي تغيرت وتريد ان تعود علاقتها بصديقتها، ولكنها خلف ظهري كانت تواصل تهديد ستيفاني التي ضاقت ذرعاً وبدأت جدياً تفكر بالهرب بعيداً.
نظر أبي إلى للحظة فاستغربت قليلاً، ليقول بشرود: اعلم ان الحب امر لا نتحكم به ويلقي بسهامه ويختار الطرف الآخر دون استئذان. ولكن حب باتريشيا كان مجرد حب تملك منذ البداية، أو ربما هوس غريب وفريد من نوعه، على كل حال عادت لتعترف لي مرة أخرى ورفضتها مجددا فساءت حالتها بطريقة غريبة ووجدت نفسي أقف امام عائلة والدتك ليرجوني الجميع بمجاراة باتريشيا حتى لا تسوء الحالة ويقع الجميع في مأزق. بصراحة اضطررت لذلك بالفعل وهذا الأمر حطم ستيفاني تماما، تطورت الأحداث وتصاعدت بل وارادت باتريشيا ان نتزوج. خفت كثيراً من الرفض والتسبب لها بمشكلة نفسية أكبر، ولكن يا كريس السبب الذي دفعنا نحن الثلاثة لخطة الزفاف تلك لم يكن لمجرد الحفاظ على الحب الذي جمعني بستيفاني أو لغيرة ماكس وتحطمه وهو يرى باتريشيا تنتزع منه.
سكت لبرهة فعلقت بحيرة: أبي؟ ما الأمر!
ظل صامتاً فانتابني القلق، نظرت إلى كريس فوجدته يخفض رأسه وادهشني الغضب والإنكسار الواضح في عينيه، فغرت فاهي أحدق إليه بعدم تصديق غير مستوعبة لرؤية ذلك البريق! حتى سمعت ماكس يتمتم: أخذت مكان مارك في الزفاف لأجل منح فرصة لتلك الروح البريئة على ان تخرج للعالم وتجد مكانا مناسباً.
نظرت إليه بعدم فهم وكذلك كريس الذي تساءل بجفاء: ما الذي تقصده؟!
تبادل ماكس النظرات مع أمي التي تنهدت بعمق شديد وأخفضت رأسها لتهمس: كنتُ حامل بإيثان وهذا ما دفعنا لإستبدال ماكس بمكان والدكِ يا شارلوت.
اتسعت عيناي بدهشة بينما طرف كريس بعينيه وبدى يردد الكلمات في عقله!
كدت أرفع يدي رغبة في تحريكها للحظة ولكنه ظل ممسكاً بها! عاودت أوجه اهتمامي لوالديّ والسيد ماكس لأتساءل بتفاجُؤ: كانت أمي حاملاً بإيثان قبل الزواج وهذا ما دفعكم لكل هذا؟
أومأ أبي عوضا عنها، أما هي فنظرت لكريس وقالت بحاجبين معقودين بإحباط: لقد تزوجت بمارك لئلا يولد إيثان بلا أب! لم أكن لأتخيل ان يترعرع وحيداً ويكبر ليتساءل عن هوية والده بلا جدوى.
تمتمتُ بحيرة شديدة: حسنا هذا فاجأني!
قلب كريس عينيه بتشتت واضح بل وغاصت في الفراغ تماما بحيث لا أدرك إلى أي موقع يحدق الآن! كما زم شفتيه بصمت.
بدت عيناه العسليتان تلمعان بعشرات المشاعر مما جعلني أحدق إليه بضياع وقلق متسائلة بما يفكر به الآن!
لو لم يخفي السيد ماكس كل هذا فقط! صحيح. لماذا فعل هذا أصلاً!
تساءلتُ بتلعثم: أمي. ما الذي كان سيحدث لو لم تكوني حامل بأخي؟
نظر إليها كريس فوراً وكأنه يريد سماع الإجابة كذلك، لتجيب أمي محدقة إليه بعبوس: كنتُ سأتنازل فوراً ولن أرفض التضحية. صدقني يا كريس لقد قررت الإبتعاد عن طريق باتريشيا ومارك ولكنني ما ان اكتشفت حملي حتى رفضت ان ألد طفلاً وأرغمه على تذوق غربة الحياة بلا ذنب. أنت تعرف كيف يكون هذا الشعور، أنت بنفسك قد جربت رعاية جيمي بلا أم. كريس ثق بي الأمر لم يكن بيدي في البداية!
شعرت بشحوب وجهه وهو يهمس بنبرة غريبة لا حياة فيها: لماذا لا أعرف كل هذا. لماذا كل ما أعرفه انكِ امرأة جشعة سرقت الرجل الذي أحبته أمي. لماذا ما أعرفه مختلف تماماً. هل على حقا تصديقكم! ما الذي يجبرني على الإقرار بصحة كل هذا أصلاً! ما هذا الهراء بحق السماء؟ لماذا أسمع كل هذا الآن فقط؟
أضاف بابتسامة دهشة تكاد تكون هستيرية: وأنتَ يا ماكس، اعتقد بأن الأمر كان ممتعاً لمشاهدتي مغفل انطلت عليه بضعة قصص وهمية. أنت حتى لم تنكر شيئاً مما كانت تخبرني به أمي ولم تعترض! ما الذي تنوي عليه بربك؟
ثم رفع يده نحو جبينه يقطب حاجبيه متمتما: لقد. لقد عشت في هذا الوهم طيلة هذه السنوات! كل حياتي كانت مجرد كذبة! الأمر لم يقتصر على ما قامت به من إهانات وضرب واعتداءات بل كان كل ما أسمعه منذ نعومة أظافري مجرد وهم وخداع! بحق الجحيم إلى أي مدى كنت تستمتع برؤيتي مغفل يصدق تلك الأكاذيب وترفض التعليل! ألا تعلم ما كنت أعيش خلاله دائماً! لم يكن في رأسي سوى الأفكار السوداء وبدوت كالمجرم الهارب الذي يخطط لضحيته التالية! هل رؤيتي أمقت من حولي كالمجنون أمر هين وسهل بالنسبة لك؟ ألا تعلم أنني كنت كالغارق الذي ينتظر أن يُنقذ طيلة هذه السنوات؟ لقد كنتُ أتألم!
نظر ماكس لكريس لوهلة بحزن وضيق ثم تنهد بيأس: لدي سبب ولكنني أخشى ألا يكون مقنعاً كفاية.
أنا أيضا أريد أن أعرف! كانت كل هذه المشاكل سيتم حلها لو اعترف السيد ماكس بالحقيقة فلماذا اخفاها عنه؟ ما الدافع!
رأيت كريس ينفي برأسه متجنبا النظر إلى أي أحد: سأطرح عليك سؤالا واضحا. ما هي نيتك وراء تأييد قصة أمي المزيفة؟ أجب وحسب ودعني أجد متنفساً فقط!
قالها لماكس الذي وقف مبتعدا عن الكرسي وهمس بهدوء: سأخبرك بالسبب في وقت مناسب. سؤالك واضح وإجابتي ستكون أوضح وأبسط مما تتخيل. ولكن. ردة فعلك هذه تخبرني أن السبب سيكون أسخف مما تظن.
عقدت حاجباي بإستغراب لينظر كريس نحوه بعدم استيعاب، ظلا يتبادلان النظرات حتى تمتم كريس بجمود شديد: هذا يكفي. أريد البقاء وحدي.
قال تلك الكلمات وهو يرفع يده يمررها بين حاجبيه مجددا بألم، همستُ باسمه بلا شعور فرفع عيناه نحوي وكم فاجأني ذلك التعبير.
أرى إحباطاً واضحا وشديداً، ولم يُخفى البريق المستاء الذي جعلني اتسمر في مكاني أنظر إليه غير قادرة على انتشال نفسي من الإستمرار في الحملقه به.
وقفت أمي وابتسمت بإستياء: لن نجبرك على تصديق كل أخبرناك به، ولكنني لا زلت أريد أن نلتقي مجدداً، قد تكون أنانية مني، مع ذلك أنا حقاً أرغب في رؤيتك ومعرفتك أكثر يا كريس. أريدك أن تكون بمثابة ابني وتشعر بدفء العائلة.
ثم القت على نظرة متأملة: كما سأرفض أن أتدخل في موضوعك أنت وشارلوت وسأترك القرار لكما.
أيدها أبي: حتى لو انفصلتما سنظل نرغب في لقائك ومعرفتك. ستبقى ابن صديقنا المقرب وبمثابة أحد ابنائنا أيضا.
لمعت عينا كريس بالدهشة لوهلة قبل ان يفاجئنا بضحكات خافتة مشيحا بوجهه بعيداً!
عقدت حاجباي باستغراب وكذلك الجميع فظل يضحك إلى أن هدء قليلا وهو يهز رأسه بسخرية ويقول بنبرة حادة: لا بد وأن رؤيتي كالساذج المخدوع طيلة هذه السنوات أمر مضحك اليس كذلك؟ ماذا؟ أتظهران شفقتكما علي؟ هذا مرفوض تماماً. لا أريد شفقة أحدكم. ولا أريد بضعة جمل مواسية! ولكنني مع ذلك لن أمنعكما من الضحك فأبدو بالفعل ذلك الأحمق الذي انجرف وراء الحقد ورغب في الثأر منكم لكل ما عانيته من أمي. لم يكن ما فعلته لي بعيداً عن رغباتها فأنا أعلم على الأقل أنها عانت من مشاكل نفسية منذ صغرها، فليكن. أريد البقاء وحدي لم أعد قادراً على مسايرة كل هذا.
زمت أمي شفتيها للحظة قبل ان تبتسم بهدوء وهي تميل برأسها: لكَ هذا. لن نضغط عليك أكثر ولكننا سنكون هنا غداً للإطمئنان عليك فقط ولن نتفوه بحرف واحد بشأن أي أمر متعلق بالماضي.
وضع أبي يده على كتفها وقال بنبرة مرحة: يا له من شعور غريب. ان يكون ابنك يا ماكس زوجاً لإبنتنا الجميلة شارلوت لهو أمر لم نتوقع حدوثه.
أضاف بخبث: إنني أتساءل فقط عن ما تفكر به الآن يا كريس، تزوجتَ بشارلوت للثأر منا ولكنك الآن اكتشفت أنه لا يوجد ما تثأر بشأنه فيا ترى هل ستبقيها زوجتك؟
انتفضت بدهشة: أبي ما الذي تقوله؟!
ضحك ماكس بخفوت وهو يدفع أبي ليخرجا: هذا يكفي يا مارك. لنخرج ونتركهما.
خرجا وظلت أمي تقف تحدق إلى كريس بتأمل قبل ان تقترب منه وتطبع قبلة دافئة على جبينه وتربت على رأسه في حين اتسعت عينيه بدهشة دون ان ينظر إليها.
بدى بالفعل مندهشا وارتخت يده من على يدي تماما فابتسمت لأقف مبتعدة بمسافة كافية، لم يختفي ذلك التعبير عن ملامحه ومع ذلك طرف بعينه بسرعة وقال بهدوء شديد: لدي ما أريد معرفته.
أومأت أمي فوراً بترقب: كلي أذان صاغية!
رفع عينه نحوها بحزم ولكنه القى على نظرة خاطفة واشار إلى بسبابته: لماذا لا تتذكر شيئاً بشأن زيارة منزلنا؟ كانت في العاشرة ومن المفترض أنها لم تنسى الأمر.
ارتفع حاجباي مفكرة قليلا قبل أن أتمتم مؤيدة: صحيح. بصراحة لا يمكنني تذكر زيارتي للمنزل ولكنه بدى مألوفاً بلا شك.
تنهدت أمي ورفعت يدها لتضعها على خصرها: آه، هذا الأمر لم أعتقد أنه سيكون ذو أهمية، ما حدث بإختصار ان مارك وشارلوت عندما غادرا منزلك تعرضا لحادث في الواقع كان خطيراً بعض الشيء. لم تُصب شارلوت بمكروه وأشكر الإله على هذا بينما تعرض مارك لبعض الإصابات. ذلك الحادث سبب لها صدمة اعتقدنا انها مؤقتة ولكنها تخطتها بسرعة ومع ذلك يبدو انه أثر على عقلها الأحمق.
أردفت مبتسمة بسخرية: لا يمكنها تذكر ما حدث قبل الحادث بفترة وجيزة على الأغلب.
ارتخت ملامحي بإستغراب بينما اتسعت عينا كريس وهو ينظر إلى مطولاً.!
استنكرت نظراته هذه وقبل أن أسأله ابتعدت امي خطى صغيرة وهمست بحنانها الذي أعشقه: إنني فقط أتخيل كيف ستكون عليه الأمور لو رافقتنا ذلك اليوم وخرجت من المنزل بالفعل. كنت ستكبر معنا وتصبح مقرباً إلينا ولن تأكلك تلك الذكريات لتغرقك في عتمة الحقد أو اليأس. أنا حقاً أسفة. ولكنني أعدك بأنني سأكون لك الأم المناسبة بقدر ما أستطيع يا كريس. أو كريستوبال، حتى تقرر ما على مناداتك به.
ثم ابتسمت تلقي على نظرة خاطفة قبل أن تخرج.
ظل كريس يحدق إلى الفراغ بعدم استيعاب حتى طرف بعينه وارتخت ملامحه، وما هي إلا لحظات حتى أسرع يشيح بوجهه بعيداً مبعثرا شعره بقوة وقد زمجر بصوت أجش: غادري…
نظرت إليه بتردد وهو يخفض عينيه ينظر إلى الفراش بإنكسار لم يستطع إخفاؤه وقد تبخر ذلك الحزم الذي كان يتظاهر به الآن فقط! يا الهي لا يمكنني الوقوف هكذا وهو يظهر هذا التعبير على وجهه.
ولكنني لازلت غارقة في أفكاري. ما الذي سيحدث لنا نحن الإثنان؟ كان يحتفظ بهذه العلاقة لينتقم من والداي ولكن الآن لم يعد هناك سببا يدفع كريس لرفض الإنفصال عني.
هل سننفصل؟
صحيح بأنني أردت ذلك. ولكنه كان من أجل إيثان!
وأيضا فاجأتني أمي قليلاً، أعلم أنني تعرضت لحادث في صغري ولكنني لم أهتم له يوماً، لا عجب أن المنزل كان مألوف بالنسبة لي، وأنا التي تساءلت لماذا لا أتذكر زيارتي هنا!
حسنا ليس بالأمر المهم على أي حال.
حاولت تجاوز السماح لمشاعري بالتحكم في زمام الأمور ولكنني فشلت عندما اقتربت من كريس، تلك العاطفة كان من الصعب إخمادها، وهذا ما بدى واضحا وانا اقترب نحوه لأفاجئه بوقوفي بجانب السرير وانا اجذب رأسه لأعانقه.!
أغمضت عيناي بأسى وأحنيت رأسي على رأسه.
هل سيكون قادرا على سماع خفقات قلبي الذي استقر تحت أذنه! بالطبع. فهو لا يكف عن الخفق بجنون. أشعر بالضعف الشديد ورغبة عارمة في البوح عما أشعر به وإلا سأنفجر!
يا ترى كيف يفكر الآن بشأن والداي؟ هل تم حل سوء الفهم!
ما الذي تفعلينه؟
همس بصوت هادئ فقلتُ ساخرة أستمتع بنعومة شعره أسفل وجنتي: لا أدري. ولكن لا تسيء الفهم لست أشفق عليك أو أفعل هذا لسبب آخر. أنا فقط. أشعر بالقلق لداعٍ لا أفهمه. كما أنني أريد أن أثني عليك، بصراحة أنت قوي. أقصد، أقوى مما تخيلت فظننت بأن اكتشاف تلك الأوهام التي عشتها لسبع وعشرون سنة ستفقدك عقلك لتكسر كل ما حولك وتغضب ولكنك تجيد التحكم في أعصابك
أريد البقاء وحدي لماذا لم تخرجي أنتِ أيضاً.
تجاهلته متمتمة بشرود: كريس. ما الذي سنفعله؟
ما الذي تتحدثين عنه؟!
هذا الزواج الغريب.
ألم تقولي بأنه علينا الإنفصال؟
هاه! ما الذي. يهذي به!
ابتعدت عنه بدهشة أنظر إليه فبادلني النظرات بهدوء شديد.
ننفصل؟ هل. لحظة أنا مشتتة! ألا بأس لديه طالما اكتشف ان كل شيء كان كذب وانه لم يعد هناك دافع ليبقيني زوجته؟
يريد ان ننفصل!؟
أشعر بتحطم وألم شديد في قلبي بل وتُرجم ذلك على لساني لأسأله بعدم تصديق: إذاً. أنت تريد أن ننهي. علاقتنا؟
نظر للباقة على المنضدة بجانبه وهمس: لم يعد هناك داعٍ لأحقد على والديك، ربما لو كانت أمي على قيد الحياة لوجهت نحوها هذا الشعور وتطور الوضع أكثر. ليس وكأنني كنتُ أحبها على أي حال. لطالما اصابني الشك في أقوالها ولكنني لم أجد من ينكر ذلك. ماكس لم يتفوه بحرف واحد وجعلني أعيش منصتاً إلى ادعاءاتها. انتظرت طويلا لأجد من يخبرني بأن كل ما كانت تتفوه به مجرد هراء. لن تفهمي شعور أن تعيشي طيلة هذه السنوات وتسمعين صباحا ومساءاً قصصا لا تتضمن سوى الحقد والألم.
ثم نظر إلى للحظة قبل أن تتغير نبرته ويردف بملل ساخر: ولكنني لا زلت أرغب في تلقين شقيقك درساً. لذا لا بأس بأن نستمر في هذا الزواج ولو مؤقتا صحيح؟
اتسعت عيناي بذهول أردد جملته الأخيرة في عقلي.
حتى انفجرت ضاحكة واضعة يدي على ثغري وانا انفي برأسي بعدم تصديق: أنت غير معقول.
نظر إلى لثواني قبل ان يبتسم ثم يضحك بخفوت: عندما اخرج من المشفى سأعيد له تلك اللكمات وعلى مفاجأته بأنكِ لا زلت زوجتي. يمكنكِ التظاهر على الأقل؟
كفاك سخفاً.
ثم تذكرت جملته السابقة قبل لحظات وعاودت اضحك: يا الهي لا أصدق كم تستمتع بتأدية دور البطل الذي عاد لينتقم. فليكن. سأتجاهل موضوع الزواج مؤقتاً.
أردفت بحزم: مؤقتا فقط. كما أنني وقبل أن ننفصل أريد أن أرى بعض التغيرات.
عقد حاجبيه بإستنكار: تغيرات!
أومأت وانا اعود بضعة خطوات لأجلس على طرف السرير مفكرة: على سبيل المثال. معاملتك مع جيمي وفشلك الذريع في كونك أباً لهذا المسكين اللطيف، ثانيا تخيبك في الطريقة الصحيحة المناسبة التي من المفترض ان تعامل بها والدك. يكفي مراوغة لا عذر لك الآن بعد ان أدركت ان والدتك بالغت كثيراً واقحمتك في أمر لا ذنب لك به. بل وجزء كبير من الخطأ يقع على عاتقها.
أشاح بوجهه بغيض: لقد خدعني طيلة هذه السنوات والتزم الصمت، أنا لن أتجاوز هذا. ولا تتدخلي فيما لا يعنيكِ.
رفعت يدي اعدد على اصابعي: وثالثا هذه النبرة المستفزة وانتزاعي أو إقحامي في المواضيع كيفما ترغب. تجاوزت حدودك وعليك أن تنتبه جيداً لهذا. ورابعاً.
قلتها مشيرة إلى ثغره بانزعاج فتمتم بسخرية: ماذا الآن؟ تريدين ان استأذن قبل تقبيلك؟
اجفلت بإحراج ولكنني اسرعت اصرخ بغضب: أقصد لسانك الوقح.
ابتسم بهدوء وطرف بعينه ببطء وهو ينظر للفراغ ثم قال: أنا حقاً أريد البقاء وحدي قليلاً. أخرجي يا شارلوت قبل ان اضطر لطلب إحدى الممرضات وتلقي بكِ خارجاً لأخبرها أنكِ تزعجينني.
امتعضت وضربت كتفه بخفة ولكنني سرعان ما استسلمت و أملت برأسي إيجابا متفهمة الوضع ورغبته في التفكير وإستيعاب الكثير من الأمور، فوقفتُ اتجه للباب حتى استوقفني مناديا بإسمي فنظرت له بترقب حتى أكمل مشيحا بوجهه بعيداً ويتمتم بتلعثم بكلمات خافتة فقلت باستغراب: انا لا أسمع شيئاً!
عاود يتمتم بكلمات لم استطع فهمها وهو يبدو متوتراً فلويت شفتي بنفاذ صبر وملل: حسناً. أي لغة تستخدم لأحظر القاموس المناسب؟
زفر بغيض وقال بصوت عالي: قلتُ أخبريهما بأنه لا بأس من زيارتي.
أخبريهما؟ عقدت حاجباي بعدم فهم ثم اسرعت اشهق بدهشة: أبي وأمي؟
لم يجب بل قلب عينيه بنفاذ صبر فابتسمت بتلقائية وأومأت بحماس: حسناً. سأخبرهما.
يا الهي وأخيراً! ظننت أن هذا اليوم سيكون أبعد مما أتصور. بل واعتقدت أنه سيكرههما لآخر لحظة إلى أن اضطر لاستخدام الكرسي المتحرك وابلغ الثمانون لأسأله إن كان لا يزال يكرههما! ليجيبني وهو يشير لي بعكازه لن أسامحكم وسأظل العنكم حتى الممات !
اشعر براحة شديدة وسعادة لا توصف! بصراحة فكرت للحظة وبكل سذاجة بأن كل ما سيعيقني عن البقاء إلى جانبه الآن هو خلافه مع إيثان فقط! إيثان أخي وأعلم مدى عناده واصراره على تنفيذ ما يفكر به وانجرافه خلف رغبته في جعل كريس يدفع ثمن توريطه في تلك القضية، إذ يكون أسوأ مني حين يتعلق الأمر بالإباء (الكبرياء).
استوعبت امر وقوفي كالبلهاء وأفكاري المسكينة التي كل ما دارت حوله هي رغبتي في البقاء إلى جانب كريس.
خرجت من الغرفة وما ان فعلت حتى كدت اختنق بعناق مفاجئ وصوت منتحب مزيف: شقيقتي الصغيرة كنت قلقاً عليكِ هل عنقك بخير.
حاولت الإبتعاد بانزعاج وانا اسمع ضحكات الجميع الخافتة ومن بينهم أمي وأبي وقلت بإشمئزاز: دعني يا سام وإلا لكمتك في معدتك بقوة. لما لم تقلق منذ البداية أيها المنافق أم تذكرت الآن فقط؟
تمتم ستيف براحة وسرور: الحمد لله. هي ضحيته التالية، على الأقل سيتركني وشأني ويتوقف عن استفزازي. أمي أنا لا أبالغ ولكنني لا أريد البقاء معه تحت سقف واحد. هذا مستحيل.
امتعضت كلوديا: كن أكثر تهذيباً!
تساءلت أمي باستغراب: لا تخبريني يا كلوديا ان ابني قد نال منكِ بلسانه المعسول؟
تركت حوارهم وانشغلت بمحاولة ابعاد سام الذي لا شك أنه يحاول خنقي!
ابتعد من تلقاء نفسه يرمقني بملل ويهمس بصوت لا يسمعه سوانا: ما الذي ستفعلينه بشأن الأحمق المدلل؟
همست له بإحباط: لا زلت لا أدري. هل يعلم بأنكم هنا لزيارة كريس؟
أومأ برأسه فنظرت له بدهشة وقبل ان أستفسر قال بيأس: أخبره أبي بذلك. وقال بأنه لا داعي لإخفاء المزيد من الأمور. كما قال بأنه على إيثان وكريس التفاهم بشأن أمورهما بعيداً عنكِ.
هكذا إذاً. لا بد وأنه غاضب جداً.
إنه كذلك.
أردف بسخرية: لا أستبعد تفكيره بحيلة يبعد بها كريس عن الساحة. ولكن لا تقلقي سأكون الشاب الطيب اللطيف الذي يردعه. للأسف يبدو شقيقنا إيثان هو الشخصية الشريرة في كل هذه الحوارات الدرامية.
ضحكتُ بخفوت فوضع يده في جيب معطفه ليخرج هاتفي بتبرم: خذي. لا تجرئي على نسيان هاتفك مجدداً.
تناولته منه ووضعته في جيبي لأضحك بسخرية: نسيان هاتفي تسبب لي بأكثر من مشكلة بالفعل.
بعد التحدث مع سام أدركت أن تيا لم تكن تقف معنا! وحينها أخبرني جوش بأنها ذهبت للشركة لحالة مستعجلة طارئة نوعا ما لإزدحام جدولها بسبب تغيبها عن العمل في اليومان الماضيان، انتهى الأمر برغبة كلوديا وجوش بأن يرافقهما أمي وأبي إلى المنزل ولكنهما رفضا ووعدا الجميع بأن يقبلا بهذه الدعوة قريباً.
غادر أمي وأبي وسام، وبقيت أولين مع كريس في المشفى.
وبالنسبة لي. فأنا أقف في ردهة المشفى انظر إلى السيد ماكس الذي اقترح مترقبا ردة فعلي: صحيح لما لا تعودي إلى المنزل معنا يا ابنتي؟ أولاً تيا ستكون مشغولة، ثانياً غادر والديك بالفعل! أين ستنتظرين في هذه المدينة؟
تمتمتُ مفكرة بهدوء: أنت محق سيد ماكس لا أريد ان أثقل ضيافتي على تيا. ولكنني. أنا لا أريد العودة إلى ال.
يوجد شخص تعلمين جيداً أنه في انتظارك.
ج. جيمي!
خفق قلبي بشوق ولهفة ولكنني تساءلت في نفسي إن كنت أستحق رؤيته بعد تركه طوال هذه المدة! وإن كان حقاً لا يزال يريد عودتي. لقد خيبت أماله كثيراً. هذا مؤسف سيكون بلا شك مستاءً مني كثيرا ولا يوجد ما أبرر به فعلتي!
تفاجأت بيد ستيف على رأسي وهو يربت بملل: كفي عن جعلنا ننتظر ردة فعلك وأسرعي بالإيماء موافقة.
ثم قام بتحريك رأسي وهو يمسك بذقني لأومأ رغما عني فابتسمت كلوديا بسعادة: سنعتبرها موافقة.
هاه!
قالتها واقتربت مني تجذبني من ذراعي بحماس: لنعد. لن أسمح بأي إعتراض. كما أريدك أن تتصرفي بكامل عفويتك وبكل أريحية يا عزيزتي.
أيدها جوش: أجل، الجميع يعلم الآن أن زواجك من كريس كان لعبة أطفال. من يصدق أن شخص راشد في السابعة والعشرون وفتاة في الحادية والعشرون كانا يخدعان الجميع طوال الوقت.
اعترض ستيف: ولكنني كنت أشك بهما طوال الوقت!
أضاف بثقة: لم يكن الوضع يطمأن، لم يبدو عليهما انهما زوجان قد تزوجا حديثاً أصلاً.
زفر جوش بنفاذ صبر: توقف. لا أريد سماع ثرثرتك.
رمقه ستيف بطرف عينه ثم اتجه لماكس وقال بإنزعاج وغيض: خالي ماكس هل رأيت؟ أخبرتك أنه لا يريدني ان اتحدث أو حتى اعبر عما بداخلي! أرجوك أوقفه عند حده. أخبره بأنني ابن شقيقتك الوحيدة وعليه ان يحسن التعامل معي!
اتسعت عينا جوش بغضب: كن أكثر تهذيباً يا فتى!
تنهد ماكس بأسى: كيف أساعدك وانت تفسد كل شيء بلسانك السليط يا ستيف!
ضحكت رغما عني واستسلمت مفكرة بكيفية لقائي بجيمي. وأي ردة فعل قد تبذر منه!
وفي منتصف الطريق، كان السيد جوش يقود السيارة وبجانبه ماكس، وفي الخلف يجلس ستيف بجانب النافذة على يميني في حين كنت في الوسط وكلوديا بجانبي والتي تمتمت مفكرة: شارلوت، الست بحاجة لشراء شيء ما من أجل جيمي!
كنت أود لو استطيع ذلك ولكنني لم أحضر محفظتي معي!
لا تكوني سخيفة! لا يجب أن تقلقي بشأن النقود!
ل. لا! سيدة كلوديا لا أحب أن.
نادني بكلوديا يا شارلوت!
حسنا. كلوديا أنا لا أحب أن أكلف الآخرين بإنفاق المال لأجلي!
أياً يكن، لا تنسي باننا عائلة واحدة!
خفق قلبي بسعادة وانتابني شعور الدفء وقد تورد وجهي قليلا هامسة: ولكن.
علق جوش: إنها محقة.
أومأت بإستسلام، ثم وجدت نفسي أقول بإنزعاج: لقد بت أكره التحدث عن الأموال بعد أن خدعني كريس بشأن بتورطي في ذلك المبلغ الضخم، قال لي أنني ورطته بأربعة ملايين على تعويضه بها!
انفجر جوش ضاحكا بينما قال ستيف بسخرية: هذا يعود لسذاجتك في تصديقه.
وكزته بمرفقي بقوة فتأوه بغضب: هذا مؤلم يا شارلوت!
تدخل ماكس ضاحكا بخفوت: أتساءل كيف خدعك!
تنهدت بعمق شديد: آه. إنها قصة طويلة لن تحب سماعها سيد ماكس، عليك ان تظل تحبه كابنك الوحيد صدقني قد يتبخر هذا الحب لو اكتشفت الطريقة التي قام بإستدراجي فيها.
عاود يضحك بخفوت بينما قالت كلوديا بسخرية: إنه يجيد قلب الطاولة دائما، ويجيد استغلال ابسط الأمور لصالحه.
أومأت: لاحظت هذا.
أوقف جوش السيارة في الإشارة الحمراء ثم قال ممددا جسده: يبقى كريس طفل العائلة الكبير.
ضحكتُ بعفوية: يا له من وصف مختصر!
ابتسم بهدوء: حسنا لنذهب إلى أحد المتاجر لشراء شيء لتقدميه لجيمي، لعله يتغاضى عما حدث!
أملت برأسي بإنصياع وبعدها تحركت السيارة لننعطف يميناً نحو أحد الشوارع الذي يعج بالمتاجر الراقية!
أوقف السيارة في موقف السيارات فترجلت منها متمتمة: عليك أن تقبل النقود لاحقا سيد جوش، أو سيد ماكس. أياً يكن من سيدفع الآن!
ارتفع حاجبا ماكس: ظننت بأننا عائلة واحدة؟! هل تراجعتِ؟
قالها ممازحا فقلت بحزم مصطنع: لا أحب أن أدين لأحد.
علقت كلوديا بتبرم: هيا يا شارلوت. لم أتناول فطوري جيداً لذا لا زلت جائعة.
أومأت بإستحسان وقلت متجهة نحو المتجر: حسناً على أن أسرع للقاء جيمي أيضاً.
دخلت مع كلوديا بينما تعالى رنين هاتف جوش الذي قال بنبرة محتارة: اسبقاني للداخل.
أمالت كلوديا برأسها فتبعتها. أما ماكس فظل في السيارة نظراً لعدم قدرته على المشي أو بذل مجهود أكبر ورغبته في ان يرتاح قليلاً. لذا بقي ستيف معه.
وهكذا كنا نبحث عن شيء مناسب لجيمي.
هل على أخذ لعبة وحسب؟
حينها فقط. لمعت في رأسي فكرة!
لأقول لكلوديا بحماس: عمتي كلوديا أعتقد بانني اعرف ما على شراءه!
نظرت إلى بحيرة ووضعت اللعبة مكانها متسائلة: ما هو؟
ربما من الأفضل أن أشتري عدة رسم لجيمي! إنه يحب الرسم كما تعلمين.
ابتسمت بحماس مماثل: آه! أنت محقة. حسنا إذا لنذهب للمتجر المجاور لا أظننا سنجدها هنا.
أملت برأسي وخرجنا معا لنجد جوش على وشك الدخول فقال باستغراب: إلى أين؟
أجابته كلوديا: لشراء عدة رسم لجيمي. بالمناسبة هل من خطب ما؟
تنهد نافيا برأسه: اتصل بي جوزيف وعلم ما حدث لكريس! يبدوا أن لا شيء يُخفى عليه.
أردف بهدوء: وقال بأنه سيأتي لزيارته مع أبناءه قريباً.
جوزيف؟ من يكون هذا يا ترى!
ابتسم جوش: أرى الفضول على وجهك يا شارلوت.
بادلته الإبتسامة: أنت محق. أشعر بالفضول لأعرف من هو!
تدخلت كلوديا متضايقة مما أثار حيرتي: إنه زوج خالة كريس يا شارلوت.
ه. هكذا إذاً! لم أسمع عنه ولم يتحدث أحد ما عنهم.
علاقتنا بهم سطحية إلى حد ما، إنها سيئة منذ وفاة باتريشيا، خالة كريس فيكتوريا غاضبة بشأن ما حدث حتى الآن. تعتقد أن كريس السبب في وفاتها، ومنذ العزاء لم نرها إلا بالمناسبات فقط.
هل. تعنين بأنها تكره كريس؟
أمالت برأسها بيأس فتنهدت بدوري بعمق.
تدخل جوش: حسنا سنلقاهم غدا في المشفى وربما يبقون لدينا في المنزل، لذا على أن أخبر السيدة أولين لترتب التجهيزات.
امتعضت كلوديا بشدة وقد تكتفت: لماذا علينا ضيافتهم بحق الإله! كنت أفكر في عدم التواجد في المشفى أثناء حضورهم ولكنك تقول يا جوش بأنهم سيبقون في المنزل لا يمكنني احتمال هذا ولو اضطررت للمبيت في فندق فسأفعل، هذا أفضل من لقائهم!
هدأها جوش: كلوديا لا يجب ان نعاملهم بتلك الطريقة! ثم تعلمين بأن كريس ورين علاقتهما أسوأ الآن وأنا واثق بأنه لن يكون معهم.
اعترضت كلوديا بجملة قد استنكرتها: المشكلة ليست في رين. أنت تعلم ما أقصده! يوجد شخص سيقتحم حياة كريس مجدداً ولا يمكنني احتمال هذا أكثر! ليس بعد هذه السنوات.
عقدت حاجباي بفضول وعدم فهم حتى استوعب جوش وجودي وأسرع يقول: سوف أتصل بأولين لذا ادخلا للمتجر ريثما انتهي.
تحركت قبل كلوديا والحيرة تغلفني من كل جهة! من رين هذا؟ ابن جوزيف؟ هذا يعني انه ابن خالة كريس. لماذا علاقتهما سيئة؟ هذا ما أسر أفكاري حتى نفضت كل شيء عن رأسي وذهبنا للمتجر المجاور وقمت بشراء عدة رسم لجيمي.
وها نحن نسلك الطريق المؤدي للمنزل.
حينها كنت شاردة الذهن أتذكر المنزل بشوق.
نعم، أنا مشتاقة لأجوائه!
قد لا تكون اجواءه مميزة ولكن. الأشخاص بداخله بالنسبة لي مميزون!
دخلنا عبر الحديقة الكبيرة والممر الطويل حتى اوقف السيارة عند النافورة لنرى سيارة تيا الحمراء وهذا ما جعلنا نحتار قليلاً إذ ظننا انها في الشركة، كانت تقف أمامها وتبدوا في انتظارنا لأنها ما ان رأت سيارة جوش حتى همت بالاعتدال وترقبت أن ننزل.
نزلنا واتجهنا نحوها، كنت ممسكة بالعدة في يدي واقتربت منهم ومعي جوش الذي تساءل باستغراب: تيا ما الذي تفعلينه هنا!
أجابته متنهدة: يوجد أمور على ان أرجع فيها إلى كريس بشأن العمل، ولكن حالته لن تسمح له بذلك لذا على الجلوس مع السيد ماكس قليلا ً.
أومأ جوش بتفهم ثم اكمل طريقه بينما وصل ماكس أخيراً واخبرته تيا بما تريده فدعاها ليجلسا في المكتب في الأعلى.
منذ ان علم السيد ماكس بقدوم المدعو جوزيف وأبنائه وهو يبدو غريباً. شحب وجهه كثيراً وهذا امر لم يُخفى علي، كلوديا ظلت منزعجة وهي الآن تبدو وكأنها تتمالك أعصابها وتجبر نفسها على الإبتسام.
دخلت كلوديا أيضاَ فنظرت لستيف الذي كان منهمكا في النظر إلى هاتفه ولم ينتبه للدرج جيداً فكاد يتعثر ويسقط هاتفه ولكن بحركة سريعة التقطه مجددا وقال بدهشة: كاد يسقط هاتفي العزيز!
انفجرت ضاحكة: هل فكرت في انقاذه قبل انقاذ نفسك؟
ابتسم بثقة: ما رأيكِ بي؟
مجرد متهور مجنون.
دخلنا انا وستيف أخيراً وما أن وصلنا إلى منتصف الردهة أدهشني توافد الخدم نحوي ومن بينهم الطباخ فاتسعت عيناي!
قالت آنا بعدم تصديق: آنسة شارلوت!
أضافت بحماس: لقد عدتِ وأخيراً!
خادمة أخرى: لقد كنا في إنتظارك يا آنسة!
أومأ الطباخ بحماس: إشتقنا لك كثيراً!
تورد وجهي محدقة بهم بعدم تصديق! حسنا اعترف بأنني لم أكن لأتخيل استقبالا كهذا بل ولم أكن لأحلم به يوماً!
أنا بالفعل. سعيدة!
ابتسمت بمرح: مرحبا جميعاً!
أردفت محدقة بهم بامتنان: أشكركم على حسن استقبالكم، أنا أيضا اشتقت لكم!
اقترب ستيف يقف في المنتصف بدهشة واعتراض: ما خطبكم جميعاً! لماذا لم تستقبلوني بهذه الطريقة؟ نحن لا نأتي هنا إلا في المناسبات أو الإجازات! هذا ظلم!
ابتسمت آنا: سيد ستيف لقد اعتدنا على رؤيتك. أما شارلوت فنحن لم نكن قد استوعبنا مغادرتها فجأة وشعرنا بالقلق الشديد.
تورد وجهي مرة أخرى والسعادة تعتريني! في حين نفي ستيف برأسه بحزم: لا! هناك أمر مريب! ما الذي فعلته لهم يا شارلوت! هل القيت تعويذة لسرقة المعجبين الخاصين بي؟
ظهرت البلاهة على وجوه الخدم وانصرفوا فوراً بينما بقيت آنا تنظر إليه بلا حيلة وهو يتبع الخدم ويستوقفهم ليواصل تحقيقه، ارتفع حاجباي بحيرة منه ومن تصرفاته المخبولة إلى أن سمعت آنا تقول بجدية: آنسة شارلوت، عليك أن تتجهي فورا إلى جيمي! لا تعلمين كم هو حزين لمغادرتك.
نظرت إلى عدة الرسم بضيق ثم ابتسمت: ولماذا برأيك أتيت؟ أين هو؟ على رؤيته.
أمالت برأسها قليلا متمتمة: ليس هنا، لقد ذهب إلى منزل شارلي.
نظرت للساعة على الحائط مردفة: سيعود عند الثانية عشر ظهراً.
أتذكر أن كريس لم يكن يسمح له بالذهاب هناك!
أومأت: صحيح. ولذلك اخذ الإذن من جده، السيد ماكس أخبره أن يذهب ويقضي وقتا ممتعاً.
هكذا إذا. لا بد وأنه سعيد جداً.
بعد ذلك صعدت إلى غرفة نوم كريس لأضع عدة الرسم حتى أقدمها لجيمي بنفسي عندما يعود.
وهناك وقفت للحظات أبتسم براحة شديدة، أتذكر كم كنت قلقة من الحرب التي صنعتها في مخيلتي بينه وبين والداي.
بصراحة أنا معجبة في قدرته على ضبط أعصابه! بل ولا زلت أشعر بالخجل كلما تذكرت دفء يده على يدي.
أخبرني أنه لا بأس بزيارتهما، مشكلته معهما حُلت تقريباً!
تناولت كلوديا طعامها الذي لم تتناوله جيداً وقت الإفطار وبعدها اجتمعنا في غرفة الجلوس المطلة على الحديقة الخلفية، ولكن السيد ماكس وتيا ظلا في المكتب في الأعلى يتناقشان حول امور العمل، جلستُ بجانب ستيف الذي همس بملل وتثاقل: يا الهي ارحني. أخبرتك مسبقا يا أبي بانني سأعمل في شركة خالي ماكس!
اخفض جوش الجريدة التي كان يقرأها وقال بحزم: وأنا قلت بانه عليك ان تجد طريقك بنفسك!
تدخلت كلوديا: مهلا يا جوش! انا من شجعته على هذه الفكرة.
ابتسم ستيف بانتصار وثقة: أرأيت؟
أردفت كلوديا: لأنه لا شيء مهم قد يشغل رأسه الصغير كما تعلم! لا أهداف او طموح لديه!
كتمت ضحكتي بصعوبة بينما زمجر ستيف بانزعاج: هاه؟! هل هذا هو التشجيع برأيك!
هذا صحيح! أنظر إلى نفسك. أنت في العشرون من عمرك وما زلت.
أمي أنا أعلم ما على فعله! أنا لم أختر شركة خالي بسبب ما تدعينه!
هيا أطربني بالسبب الحقيقي إذاً!
لأنني لا أعرف ما على الالتحاق به وحسب!
علقتُ ببلاهة: هل أنت جاد؟ وما الفرق بين ما قالته والدتك وما تعلل به أسبابك!
لا شأن لك! لا أريد أن أسمع هذا من فتاة اختارت تخصص مرعب كالطب!
قالها بغيض فارتفع حاجباي بسخرية قبل ان اضحك بخفوت رغما عني فقال بغضب: ما المضحك؟
أبداً! ولكن. والدتك محقة! ربما عليك ان تجد هدفا لتسعى إليه يا ستيف.
تورد وجهه بغيض وقضم من قطعة الحلوى الموضوعة على الطاولة في اللحظة التي دخل فيها السيد ماكس: حسنا أعتذر لإستراق السمع ولكن توقفوا عن إزعاجه هكذا، ولا تلوموه على حيرته في تحديد ما يريده.
نظر إليه ستيف بأمل وحب حتى قال ماكس: مازال صغيراً ولا يعرف مصلحته جيداً.
زفر ستيف بإحباط شديد: ليس انت أيضا يا خالي!
أضاف بحزم: على كل حال لست أهتم بما تقولونه الآن، على أن أنهي دراستي وحسب.
علقت كلوديا بإنزعاج: بل عليك أن ترفع معدلك من الأسوء إلى المقبول على الأقل! انت تستمر في الحاق العار بإسم والدك يا ستيف.
أمي لماذا تحبطينني دائما!
لست أحبطك وانما اريدك ان تشعر بالمسؤولية! ستعود للجامعة بعد بضعة أسابيع فقط، ربما أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر وأنت ما زلت لا تكترث بشيء! أي دراسة هذه التي تريد التركيز عليها إن كنت لا تهتم بها حتى!
أضافت بغيض: وصلني أنك قمت برشوة أحد الأساتذة مسبقا ليزيد معدلك في مساقه! ولكنني لم أتحدث بشان الموضوع، ما الذي ستفعله لاحقا؟ تختطفه وتهدده؟
ابتسم بسخرية: لم أقم برشوته بالفعل كل ما في الأمر أنني.
ستيف.
قالتها بحزم ونبرة حادة فانتفضنا جميعنا بحيرة! وقف ماكس يحدق إليها بإستنكار وكذلك جوش الذي عقد حاجبيه.
ما خطبها يا ترى؟ ظننت بانه حوار عادي لا يخلو من الإثارة والضحك وحسب! ولكن السيدة كلوديا تبدو. نوعا ما. غاضبة فجأة!
تنهد جوش: هذا يكفي يا كلوديا!
قالها مهدئا فوقفت بإنزعاج وهمست وهي تخرج بخطى سريعة: سأصعد إلى غرفتي.
خرجت تحت تأثير دهشتنا ليهمس ستيف بضيق: ما خطب أمي بحق الإله!
أضاف بإنزعاج وهو يلقي بالملعقة بغيض على الطبق: وكأنها قامت بكتم أمر ما لتفجره بوجهي أنا.
نظر جوش إلى ماكس للحظة بلا حيلة ثم قال بجدية: ستيف. والدتك منزعجة كثيراً لمجيء أبناء فيكتوريا ووالدهم.
تدخلت بعدم فهم: ظننت أن علاقتهم سيئة بكريس فقط، الست محقة؟
أجابني ماكس بهدوء: كلوديا لم تحتمل ما قاموا به مسبقا وما فعلته فيكتوريا بكريس.
م. ما الذي حدث تحديداً.؟
أضفت بتوتر: أعتذر لسؤالي المتطفل هذا ولكنني أريد أن أعرف!
ابتسم بلطف: بالطبع. ولكن، ما رأيك أن نتحدث بشأن هذا الموضوع على انفراد؟
ح. حسنا، لا مناع لدي.
وقف جوش قائلاً: سأتبعها.
خرج فتمتم ستيف مقتضباً بشدة: الأمر يزعجني جداً. ما كان عليها أن تفرغ غضبها بي أنا! لماذا لم تفرغه في وجه أبي؟
ابتسمت بسخرية بينما أتى تعليق ساخر: ربما لأن وجهك يزيد من حرارة أعصابها وغضبها.
لم تكن سوى تيا التي انتفضنا لدخولها فجأة فارتفع حاجباي بحيرة، ظننتها غادرت!
سألها ستيف بإستنكار: هاه؟ بالمناسبة لم أكن أسألك بل كنت أتساءل بشأن الأمر وحدي، لماذا لم تغادري على أي حال.
أتيت لأراك.
هكذا إذا.
وكأنني سأفعل أيها الواثق!
وهكذا استمر ستيف بالتذمر طوال فترة جلوسه حتى انهى البوح بهمومه وفضفضته وخرج فبقيت مع تيا وماكس وناقشا بعض الأمور على عجالة وبكلمات مختصرة تخص العمل ثم غادرت تيا.
وقفت مع ماكس وحدنا حتى ابتسم وقال مفكراً: أردتِ معرفة طبيعة العلاقة بيننا وبين ابناء جوزيف اليس كذلك؟
أومأت فوراً بلهفة وفضول فضحك بخفوت: اتبعيني إذاً إلى مكتبي.
تبعته إلى المكتب والذي كان لكريس كما ظننت!
دخلت خلفه وأغلقت الباب متمتمة: ظننت أنه مكتب كريس!
إنه كذلك.
اتجه ليقف أمام النافذة وفتحها ثم حدق إلى الحديثة و ابتسم مردفا: ولكنه مكتبي كذلك.
مشترك؟
انه يستخدمه منذ ان دخلت المشفى بعد شجارنا. كان قبل ذلك يمضي وقته في الشركة ليعمل حتى وقت متأخر ولكن كلانا الآن يستخدم هذا المكتب.
هكذا إذاً!
اشار لي بأن أجلس على الأريكة ففعلت.
بينما ظل واقفاً وقال بوجه بشوش: يا الهي يا شارلوت لن أنسى مرتي الأولى عندما قابلتك وظننتك ستيفاني.
ضحكت بخفوت: لاحظت نظراتك نحوي طوال الوقت واستنكرت الأمر بشدة.
لحظة دخولك لزيارتي آنذاك أعادت لي الكثير من الذكريات.
قالها بشرود وابتسم ابتسامة مضمرة صغيرة، ثم اتجه ليجلس على كرسي المكتب الدوار فسألته: أي نوع من الذكريات تحديدا؟
حسناً الكثير. الكثير من الذكريات التي غزت رأسي دفعة واحدة.
مرر يده على بعض الأوراق على المكتب ثم قال مفكرا: على سبيل المثال عندما كانت ستيفاني تتشاجر مع أي فتاة بجانب الشاب الوسيم مارك في الجامعة!
ضحكتُ ساخرة وقد استحوذني الإهتمام: أمي تغار على أبي كثيرا.
نعم، لقد كانت وما زالت.
أضاف بعد برهة وعينيه تجوبان على وجهي بشرود وكأن عقله بات بعيداً عن هذا المكان والزمان: ستيفاني قوية الشخصية منذ ان عرفتها، وهذا ما كان يلفت الإنتباه لها ولباتريشيا، فباتريشيا كانت مترددة طوال الوقت وتعاني من مشاكل نفسية. مما جعلها أحيانا تبدو ضعيفة ثم تتغير وتأخذ شخصيتها منعطفاً أخر مختلفاً في كل حين.
لماذا وقعتَ في حبها سيد ماكس؟!
لا أدري.
لمعت عينيه ببريق غريب مستاء وأكمل متنهدا: أنا حقا لا أعرف كيف ولماذا ومتى أحببتها، كل ما أعرفه أنني وجدت نفسي أغار من مارك عندما أراها متعلقة به!
أما زلت تحبها؟
أكملت موضحة بجدية: أقصد. بعد ما حدث وبعد ما حاولت فعله، لا سيما وأنها تحب أبي كثيرا وحاولت إيذاء كريس مرارا وتكراراً؟!
ابتسم بهدوء والقى نظرة خاطفة على المكتب من حوله قبل ان يوجه نظره نحو النافذة إلى السماء بعينين بندقيتان هادئتان جداً، وأجاب بنبرة مستنكرة: أنا. مشتاق إليها كثيراً. أشتاق إليها يوميا! أشتاق إلى ابتسامتها وإلى جمالها الفريد من نوعه. صحيح بأنني لم أتقبل أي من تصرفاتها ولكن. لقد صبرت عليها كثيراً.
أضاف بنبرة متضايقة: ولكنني. نادم على انني لم اسارع إلى تحسين علاقتي بابني الوحيد! وكلما تذكرت أنني كدت أفقده مرات عديدة ينتابني قلق وتوجس لا يرحم! هل ستصدقينني إن قلت بأنني مازلت أرى كريس شابا صغيرا بحاجة إلى من يعيله ويقف معه ويحميه؟
ارتفع حاجباي بتأثر وحيرة ثم أملت رأسي بتفهم: أفهم ما تحاول قوله.
في ذات يوم. شن شجار بيني وبينه، كان ما يزال في الجامعة، تشاجرت معه بسبب فعلته الحمقاء المتهورة مع كلارا، عندما علمت بأنها تحمل طفلا في أحشائها فقدت أعصابي وصرخت في وجهه كشخص مجنون. فأطلق سيل من الكلمات الجارحة لي.
صمت السيد ماكس ليكمل بعين متضايقة والإبتسامة لا تفارق شفتيه: أتعلمين ما قاله حينها؟
ماذا؟
تغيرت نبرته ليصبح صوته أجش بمرارة: قال بأنه سيحسن معاملة طفله وسيكون له كل شيء، أخبرني ألا أتوقع ان يتنازل عن هذا الطفل لأنه سيعوضه عن أمور كثيرة، ويهديه ما لم أستطع أنا منحه إياه. أخبرني أنه لن يجعل جيمي يحتاج شيئاً أو يعيش محروما يفتقر إلى ما افتقر إليه. وقال ألا أقارن نفسي به لأنني لست ذلك الأب الذي في موضع يسمح له بالتحدث أو التدخل.
زميت شفتي محدقة به بضيق شديد.
يمكنني أن أتخيل الموقف أمامي لدرجة جعلتني أنزعج وكأنني أراه! شديت قبضتي بقوة على وسادة الأريكة، هذا. مؤلم وجارح للمشاعر بالفعل.
ابتسمت محاولة تلطيف الجو: بالرغم من أنه قال ذلك! إلا أنه يفتقر لأمور كثيرة في علاقته الأبوية مع جيمي.
هل لاحظت هذا أيضاً!
بالطبع! الأمر لا يحتاج إلى ملاحظة فأنا لم أرى أسوأ من هذه العلاقة!
أضفت بإنزعاج: كريس لا يجلس مع جيمي كثيراً، لا يجيد التعامل معه، الكثير من الأمور التي يقوم بها أيضا غير مناسبة كتجاهله طوال الوقت!
صمتُ قليلا ثم أكملت متنهدة: حسنا لا يمكنني لومه بعد كل شيء. هو لم يحظى بتلك التربية المناسبة من والدته ولا يعلم كيف عليه ان يتعامل مع جيمي أصلاً.
أمال برأسه مؤيداً ثم تساءل: أخبريني يا ابنتي. هل قررت البقاء إلى جانبه؟
ارتخت ملامحي قليلا ثم أجبته مبتسمة بثقة: بصراحة. أظنني سأبقى إلى جانبه.
ابتسم بسعادة ولكنني سرعان ما أكملت مفكرة: ولكن. ربما مؤقتا فقط.
تلاشت ابتسامته بإحباط ثم ضحك نافيا برأسه: على أي حال أهنأك على صبرك وقوة تحملك يا شارلوت. أنت بالفعل مناسبة لشخص مثله.
تورد وجهي ثم ساد الصمت قليلاً.
لما لا أستغل الفرصة وأسأله عن الليلة التي امضيتها في منزلهم عندما كنت لا أزال طفلة؟
فتحت فمي فوراً لأسأل بحماس ولكنه سبقني القول: لابد وأنك فضولية بشأن معرفة سبب إنزعاج كلوديا. وتريدين بعض التفاصيل بشأن جوزيف وأبناءه.
تبخرت كل الأفكار والأهداف من رأسي لأقول بفضول: ه. هذا صحيح!
أدار الكرسي قليلاً ليسند مرفقه على الطاولة حتى قال يلوي شفته بشيء من التهكم: تعلمين بلا شك أن كريس لم يحظر عزاء والدته.
سمعت هذا. ولكنني لا زلت لم أفهم لماذا لم يحظر عزاءها.!
أنا أيضا لا أفهم فعلته هذه. منذ وفاتها مباشرة دخل كريس في حالة غريبة من الصمت المتواصل، أذكر بأن كل ما كان يفعله هو التحديق إلى الفراغ. وفي أول يوم للعزاء اختفى فجأة ولم نعلم إلى أين ذهب، خالته فيكتوريا فقدت أعصابها تماماً في عزاء شقيقتها، قالت بأنه قتلها وهرب! لك أن تتخيلي اتصالها بالشرطة لتخبرهم أنه هرب بعد افتعال جريمته! كان عزاءا لا يخلوا من المشاكل.
قالها بسخرية وأردف: ظنت بأنه السبب في وفاة شقيقتها، متناسية حالة باتريشيا النفسية وخطورة وجودها بيننا، ومتناسية ما احتمله كريس طوال الوقت معها.
وما الذي حدث حينها؟!
نشب خلاف بينها وبين كلوديا، كان شجارا عنيفا في الأقوال وكاد يتطور الوضع لولا تدخلنا، يبدوا أن كلوديا لم تحتمل ذلك الحديث عن كريس فقالت لفيكتوريا بأنها مختلة كأختها تماما ولا يوجد شخص عاقل يرمي باتهام عقيم كهذا.
ي. يا الهي!
دام الشجار دقائق قصيرة ولكنه لم يخلوا من التجريح والإهانات. استمر بحثنا عن كريس في كل مكان، لم يكن في العمل، ولا في سكن الجامعة ولا في شقق العائلة في المدن المجاورة.
عقدت حاجباي أنصت إليه بكل جوارحي ولم أدرك أن ملامحي ارتخت إلى أقصى حد وانا اتخيل الضغوطات التي مر بها الجميع اثناء حياة باتريشيا وحتى بعد وفاتها. لا بد وأن كريس أراد ان يختلي بنفسه، أراد أن يحاور طيف والدته، أراد أن يصرخ دون أن يسمعه أحد!
رغب في لومها دون أن يسمعه أحد، لم يرد أن يظهر ضعفه مهما يكن!
والأهم من هذا.
أراد أن يعطف ويشفق على حاله دون أن يثير الشفقة من حوله! نعم. هذا هو كريس بلا شك والذي يعتقد ان اظهار جانبه الضعيف يعتبر طعنة قوية وإهانة لا يمكنه تحملها.
شعرت بالغصة فاسترسل: منذ ذلك اليوم. لم نرى فيكتوريا سوى محض المصادفة في المناسبات والحفلات العائلية، ولكنها تتصرف وكأنها لا تعرفنا وتتجنب التحدث إلينا ولو بحرف واحد، وفي كل مرة تلتقي بها كلوديا ينشب بينهما خلاف كبير فقررنا ان نمنع التقاءهما ولو صدفة.
ولكن تظل هذه الفكرة مزعجة قليلا، فأنتم عائلة واحدة في النهاية.
ابتسم بلطف: لا يوجد عائلة تخلوا من خلافات كهذه يا ابنتي.
هذا يعني أنها لن تأتي. أليست قلقة على كريس؟
من يعلم.
قالها متنهدا ثم مرر يده في شعره الأسود الذي تختلجه الخصل البيضاء.
فقلت مواسية ومهدئة: لا بأس. ستمر هذه اللحظات بسرعة سيد ما. أ. أبي!
أرجوا هذا.
أضاف: سنستقبلهم في المنزل بعد ان تنتهي زيارتهم لكريس، ولا أعلم كم من الزمن سيقطنون هنا.
ماذا عن زوج فيكتوريا؟
لا مشكلة لدينا معه، إنه رجل طيب سوى أنه متناقض نوعا ما.
علاقتك به جيدة إذا. هذا يسعدني.
ابتسم بهدوء ونظر نحو المكتب أمامه ثم استقرت عيناه على الملفات الخاصة بالشركة والموضوعة في رفوف الحائط ليهمس بابتسامة دافئة ونبرة ساخرة: هذا المتهور. يبدو أنه كان يعمل بجد.
لقد كان يسهر على العمل. ويذهب مبكرا ليعود متأخراً.
أكملت براحة وابتسامة مضمرة: كريس يحمل حسا بالمسؤولية على الأقل، فهو ليس الشخص الذي سيضيع جهودك في الشركة هباءً.
نعم. إنه كذلك!
نظر إلى لبرهة ثم قال بشيء من الإنزعاج: لا أصدق أنه لا زال يرفض التحدث معي.
وقفت من مكاني متجهة إليه بحزن لأربت على كتفه وهمست بشيء من الحيرة: بصراحة سيد ماكس لا أدري ما على قوله. أنا لم أعد أفهم كريس إطلاقاً، ليس وكأنني كنت أفهمه ولكن شخصيته تزداد تعقيداً. تغير كثيراً وأصبح يتصرف بطريقة غريبة معي ولم أعد استوعب شيئاً.
شارلوت يا ابنتي لا يوجد أُناسٌ يتغيرون بل أقنعة تسقط. على الأغلب كريس لا يتغير وإنما يعود إلى نفسه الحقيقية!
أضاف والهموم تثقل عاتقيه واتضح على ملامحه الوجوم: أريد فقط ان أعيش اللحظة التي سأراه فيها يتصرف معي بعفوية ونتعامل معاً كأي أب وابنه. لا يمكنني كتم ضيقي يا ابنتي سامحيني ولكنني مستاء من ردة فعله بعدما اكتشف ان والدته قامت بحياكة القصص المزيفة، اعترف بأنني لم اوضح له الحقيقة ولكنه لم يعطني فرصة منذ صغره فكيف لي أن اتقدم خطوة وأحاول اخباره بالرغم من رفضه لي في حياته أصلاً. وفي الوقت آنه لا يمكنني لومه، لن تتخيلي معاناته ولن انتهي من سرد قائمة افعال باتريشيا له. كما أنه لي أسباب دفعتني للصمت طول هذه السنوات ولن أهرب أكثر، سأواجهه وأخبره بكل شيء وعن دافعي.
نظرت للأرض بإنزعاج مفكرة في كلماته الحزينة وعدم قدرته على تجاوز الأمر، لأجد نفسي أتمتم مفكرة: سيد ماكس لما لا يكون دافعه للتصرف بتلك الطريقة معك في المشفى نظرا لخجله من مواجهتك بعد أن أساء فهمك مثلاً، ونادم من كل ما فعله معك، ويشعر بالذنب فيميل للتصرف بخشونة، فهو عنيد ويرفض أن يعترف بخطأه علناً، هذا بالفعل مزعج جدا وهذه السمة في كريس تقودني للجنون! إنه يعتقد أنه بابتعاده عنك يكفر من أخطاءه، ولكنه بالفعل كطفل في السابعة يقوم بمعاندة والده رافضا الإعتراف بذنبه.
لا أدري يا شارلوت. ولكنني أشعر بأن أمر جيد قد يحدث.
قالها وهو يقف مفكراً فابتسمت بلطف: هذا ما ينتابني أنا أيضاً.
بعدها وقفت في مكاني أنظر إليه بهدوء، فنظر إلى بتأمل: أشعر بالراحة الشديدة بعد هذا الحديث.
تبسمت بإمتنان: وأنا كذلك! أشعر بأنني كنت بحاجة لمعرفة بعض الأمور، وبحاجة للوقوف لجانبك قليلا لتقول عما يجول بخاطرك فأنت بلا شك تكتم أمور كثيرة. إياك وكتم كل شيء لنفسك سيد ماكس!
وضع يده على رأسي ليبعثر شعري بملامح مرتخية حتى قال: بالمناسبة.
أضاف وهو يتجه للباب: علينا أن نحل مشكلة إيثان يا شارلوت. إما أن تقنعي كريس بالمسامحة، أو تجبري إيثان على الإعتذار، وأنا شخصيا أرفض كلا الخياران، في البداية عندما قابلت إيثان عرفته على الفور، لقائي الأول به كما تعلمين كان عندما لا يزال في السابعة عشر تقريباً. وبصراحة خشيت أن يشن كريس عليه حربا إذا علم بهويته وكل ما فعلته هو تغيير اسم عائلة إيثان في السجل. وعندما سألني عن السبب وضحت له الأمور وأخبرته أن نتريث قليلاً ونحاول التكهن بردة فعل كريس.
استرسل بلا حيلة: ولكن شقيقك بالغ بعض الشيء وهو ينظر إلى كريس بتلك النظرة. أعترف بأنه كان على التدخل ومحاولة توضيح الحال له. ولكن كريس نوعا ما قد أساء فهم حديثي مع إيثان في المكتب في اليوم الذي اكتشف هويته الحقيقية. ربما ظن أنني أحيك مؤامرة عليه لأخفي هوية إيثان ولكنه لا يعلم أنني كنت لاحقا أخبر شقيقك بأنه عليه ان يكون صريحا مع كريس، وأخبرته طالما ابني بدأ يعتبره شخص مقرب فلا داعي للخوف إطلاقاً. ولهذا سألته حينها ماذا لو اكتشف كريس هويتك؟ وربما كريس فهم مقصدي بطريقة ملتوية.
ب. بشأن إيثان.
وقف ونظر نحوي بحيرة فأكملت بإندفاع وقلق: إنه منزعج كثيرا، عندما علم بأمر زواجي من كريس فقد أعصابه وخرج من المنزل، وفي الليلة التي أصيب بها كريس تشاجر معه بعد أن قام باستفزازه، لقد هدده بأن يبتعد عني. ولكن. ولكنه فيما بعد هددني وقال لي سنرى إلى أي مدى سأرغب في البقاء إلى جانب كريس! سيد ماكس لأكن صريحة معك أنا في قرارة نفسي لا أؤيد ما يقوم به أخي. بالتفكير بالأمر. لقد خان ثقة كريس به في البداية! لماذا على كريس أن يبادر إذاً؟
أضفت بحيرة وإستياء: ما الذي من المفترض أن يحدث.
تنهد السيد ماكس فنظرت إليه لأراه يحدق بالسقف قليلا ثم نظر إلى وقال بجدية: عندما نتحدث بصراحة فسأقول بأن إيثان بحاجة لسماع إعتذار من شخص آخر.
هل تشير إلى تيا؟
هذا صحيح.
الشخص الذي عليه أن يصلح الوضع هي تيا، تعلمين بعلاقة إيثان بتيا في السابق.
نعم.
قلتها بإستياء فأكمل وهو يخرج: دعي هذا الأمر لها، أنا واثق بأنها ستستغل الفرصة هذه المرة.
ارتفع حاجباي مرددة بهمس: تستغل الفرصة.!
أرجو فقط أن تتحسن الاوضاع بينهما، بينه وبين كريس كذلك!
نظرت للساعة المعلقة على الحائط فوجدتها تشير للعاشرة. سيعود جيمي بعد ساعتين.
علي أن أجيد فتح الحوار بطريق ملائمة.
أتساءل كيف ستكون ردة فعله!
تنهدت وخرجت بدوري من المكتب لأغلق الباب فوجدت ستيف متجها لغرفته فركضت نحوه بغية السخرية منه دون أن ينتبه وعندما فتح الباب توقف فجأة فاصطدمت به ليتأوه منزعجا: ما هذا!
استدار ينظر إلى فابتسمت متأوهة: مما يكون ظهرك بحق الإله؟
ليس أصلب من رأسك!
قالها منزعجا فتمتمت أدخل غرفته بملل: أصمت، وتعلم أداب الحديث مع آنسة مثلي.
رفع حاجبه الأيسر ثم زفر وهو يلقي بجسده على الأريكة: أنت من عليه أن يصمت، ما كان على ان أخرج من غرفتي منذ البداية.
ما الأمر؟
قلتها وأنا أجلس بجانبه، بينما كان مستلقيا ورأسه بجانبي فلحظت تورد وجهه فجأة فتداركت الأمر بسرعة وقلت ملطفة الجو: هل انفجرت والدتك في وجهك مجددا؟
أشاح بوجهه مبعثرا شعره، ما كان على أن أقترب هكذا!
لا سيما وأن ستيف. اعترف لي في ذلك اليوم!
الامر ليس هكذا! لقد قال أبي بأنه سيأمر أحدهم للذهاب وتسجيل إسمي في الحصص الإضافية.
هاه!
هذا يعني أنني سأخذ دروس مضاعفة في الجامعة، ليخبرني أحد لماذا وُلدت في هذه العائلة!
ضحكت بخفوت: لا تقم بتكبير المسألة إلى هذا الحد.
أضفت أرفع كتفاي بلامبالاة: ستشكره لاحقا على هذا.
أكملت بحيرة واستيعاب: بمناسبة الحديث عن الجامعة. سأعود للدراسة والتدريب بعد فترة قصيرة، إجازتي على وشك الإنتهاء!
ثم زفرنا في الوقت آنه ليهمس بإنزعاج: الدراسة. مجرد عبء ثقيل لن أتخلص منه الا بعد ان اتخرج، أقسم بأنني سأُحيي يوم التخرج وسأجعل الحفلة مشابهة لحفلات المشاهير. سأعبر عن فرحتي كما يحلو لي.
ضحكت بخفوت: أنا أيضا أريد التخرج بسرعة! لست أكره الدراسة كثيرا بل أكره الضغوطات والاعمال المزعجة.
أما أنا فأكره فكرة مروري أمام الجامعة فقط. أنا أتجنب المرور أمامها بالفعل في أيام الراحة.
ابتسمت بعدم تصديق: يا الهي. ماذا تكون؟ جانح يكره الدراسة!
تجاهلني هامسا بملل: أعتقد بأنني سأخرج قليلاً. سأعود وقت الغداء.
هكذا إذا.
وقف واتجه نحو خزانته فقلت متجهة للباب لأخرج: اعتن بنفسك يا ستيف.
أولين:
مرت بضعة ساعات منذ رحيل الجميع عن المشفى، إنني أجلس على طرف سريره أحاول ان اغير الأجواء قليلاً فكريس لا يبدو بخير!
منذ أن رحلوا وهو يحدق إلى الفراغ بصمت، لا أعلم ما على قوله ولا أدري ما الذي سمعه تحديداً ليتغير هكذا!
ولكنني أدرك جيداً أنني لم أرى هذه النظرة في عينيه أبداً!
هو حتى لم يهتم بالظهور أمامي بمظهر الشاب القوي كالعادة، بل على العكس تماماً! فهو يبدو غارقا في أفكاره بوجه مشتت وفي عينيه بريق من التوجس والإنكسار.
وهذا ما يؤلم قلبي أكثر، ما الذي على فعله لأجله؟
زميت شفتاي قليلا مفكرة قبل أن أبتسم: هل اطلب لك القهوة التي تفضلها يا بني؟
ولكنه طرف بعينه ببطء دون أن ينظر إلى وهو يرفض الرد، فعاودت أسأله بحيرة: ماذا عن بعض الشطائر مثلاً؟
ولكنه بدلاً من إجابة سؤالي همس بنبرة أذهلتني وجعلت قلبي يعتصر بقوة: ما الذي كنتُ أعيش لأجله طوال هذه السنوات؟
عقدتُ حاجباي فأغمض عينيه متمتماً: يعتقدون ان بمجرد إخباري بالحقيقة سأكون سعيداً. ولكنهم لن يفهموا ان يعيش المرء ويتغذى كل يوم على أفعال وكلمات قاسية مهينة أو لا تعرف شيئاً عن الإنسانية. وفي النهاية اتضح ان كل شيء مزيف. ما الذي كنتُ أعيش لأجله تحديداً؟!
يا الهي، هذه النبرة في صوته ستبكيني ولن أتمالك نفسي! منذ متى كريس يتحدث هكذا!
ولكن. صدقاً فالوجع لا يحتاج حديث طويل وكلمات كثيرة، أحياناً نبرة الصوت تكون نصف الكلام!
وضعت يدي على يده وقلت مواسية: أنا بجانبك. تحدث إذا كان الحديث سيريحك.
سيدة أولين. أنا لم أعد أفهم شيء.
قالها وهو يتحدث كما لو كان شخص ينظر إلى مكان حالك الظلام ولا يبصر فيه شيء! ليكمل: كل شيء كان كذب منذ البداية، أمي أحسنت صنعاً بحياكة القصص المزيفة، كنت طفلا ينصت منذ نعومة أظافره إلى تلك الأقاويل ونشأت كمغفل يكن الحقد لعائلة شارلوت. كرهتهم كثيراً لما مررت به! ولكن. اتضح ان ما مررت به لم يكن مبرراً كفاية بالنسبة لأمي، بل كنت مجرد وسيلة لتنفيس الغضب فقط. وجودي منذ البداية كان أمر خاطئاً!
لا يا بني لا تقل هذا! إياك وأن تلتفت لتلك الذكريات السيئة وتتجاهل الأشخاص اللذين يحبونك من حولك!
لن تفهمي. لن تفهمي شيئاً! لن تدركي ما يعنيه أن أضطر لتغيير الكثير من مبادئي الفطرية لأساير الحياة فقط! لن تستوعبي الكم الهائل الذي التقطته اذني من كلمات المنافقين من حولي وأجبر نفسي على تخطي الأمر وأجاريهم لأحمي نفسي فقط! بل وكل فعل كان يبذر من أمي كنت أختلق له عذراً مناسباً!
همس بصوت مرتجف: لم أحبها يوماً. ولكنني أحسنت التظاهر بذلك جيداً! ظننت أنني بذلك سأجعلها تحبني كذلك!
دمعت عيناي دون شعور وأغمضت عيناي بقوة!
أصعب شيء بالنسبة لي هو رؤيته محطم هكذا! يا الهي ساعدني لأكون عونا له!
فتحت فاهي مستعدة لكلمات مواسية ولكنه أكمل بشرود: أنا الشخص السيء دائماً، أنا الشخص الذي يسبب المشاكل من حوله، الغير مرغوب فيه، ولكنني حاولت جاهداً ان أغير كل هذا أو على الأقل أتأقلم مع هذا كله. ولكنني في كل مرة أعود للوراء! في البداية تلك الصداقة الغريبة مع تيا والتي دامت أربعة عشر سنة! أمور كثيرة تغيرت بي منذ لقائها! شعرت بأنني وجدت وأخيراً الشقيقة التي لم أحصل عليها! ثم أتى إيثان وتظاهر بأنه ينظر إلى كصديق مقرب واتضح أنه كان يتقرب إلى ليحذر مني فقط! هو حتى نظر إلى بتلك الطريقة قبل أن أتصرف بشكل خاطئ! هل هذا يعني أن التصرفات السيئة متوقعة مني إلى هذه الدرجة؟! حتى عندما قررت البقاء وحيداً لأريح من حولي من تصرفاتي تم اختراق وحدتي وأُفسد كل شيء! ما الذي تريده هذه الحياة مني لم أعد أفهم شيئاً!
شعرت بحرارة الدموع على وجنتي فأسرعت امسحها بكم قميصي وقلت بصوت أبح: كريس وحدتك هذه انت من يسيء فهمها! الوحدة ليس بالضرورة ان تعزل نفسك عن البشر! ولكنها عجزك عن امتلاك ذكريات جديدة وحسب! أنت تغرق في الماضي وعليك التقدم وتخطي كل ما حدث!
أنتِ لن تستوعبي صعوبة أن أضطر للقيام بدور لا يناسبني! كنتُ ذلك الطفل الذي يريد تنفيس نشاطه وطاقته في اللعب وهذا كان كل ما يهمني! ولكنني في عمر مبكر نضجت بسبب ما مررت به وبدأت اتصرف بطريقة لا تتفق مع ذاتي الحقيقية!
نظر إلى أخيرا بعين ضائعة تلمع ببريق عسلي محبط وهمس بصوت أجش: لا اذكر عدد المرات التي رغبت فيها في الجلوس مع نفسي. ولكنني لم أجدها! كانت دائما تخذلني!
اشعر بحرقة ولوعة جعلتني أطلق زفرة ألم، ظل يحدق إلى بضياعه الذي مزقني واشعرني بأنني أنظر إلى كريس ذو العشرة سنوات وليس الشاب ذو السبعة وعشرون عاماً!
الضياع في عينيه جعل أعماقي تنتفض وتحركني لاقترب واجذب رأسه لأعانقه.
مررت يدي في شعره وهمس بصوت فشلت في إخفاء الحزن فيه: أنا بجانبك يا بُني. إنني أنصت.
اراح رأسه على كتفي وتفاجأت بالنبرة الضعيفة مجدداً: لقد كنت أعيش مهووسا بفكرة تلقين عائلة شارلوت درسا، كنت أشعر بالغيرة من تلك العائلة التي يحب أفرادها بعضهم البعض في حين كنت أختبأ بعيدا عن عينا أمي لأتفادى أذيتها لي، لن أحسن العد لو فكرت في عدد المرات التي اختبأت فيها في المنزل هارباً منها! كنت أشعر بالغيرة طوال الوقت وأمقت اليوم الذي تزوجت فيه أمي! في حين كان كل من مارك وستيفاني يبنيان عائلة سعيدة محبة كنت أنا أكبت صراخي دائماً وأبكي بصمت! لماذا بحق الإله هذه الحياة ظالمة منذ ولادتي! لماذا لم تعطني ولو فرصة واحدة اتنفس فيها! كنتُ شاكراً دائما لبقائي في كامل قواي العقلية بعد كل هذه الاحداث وكنت ممتناً لنفسي القوية التي لم تفكر بالإنتحار. ولكنني كنت أموت وأنا على قيد الحياة ولم أعد أستطيع الإستمرار أكثر! كل شيء كذب! كنت أعيش في أوهام! ما الذي من المفترض أن أفعله الآن بعد أن اتضح ان حياتي منذ البداية كانت ضمن مسرحية هزلية! ألهذه الدرجة أنا شخص ترفض الحياة منحه فرصة؟
عضيت على شفتي لئلا يسمعني أبكي بل حاولت أن أبدو قوية لأجله فقط!
كيف لا أبكي وأنا أكثر من تألمت لأجله منذ طفولته! كيف لا وأنا رأيته يكبر أمام عيناي ويتغير ويجبر نفسه على تقمص أدوار تعذبه بصمت!
كيف لا أبكي وأنا التي شعرت به يبعد نفسه وينتزعها ليدفنها في مكان لا يصل إليه أحد!
من المستحيل ألا أبكي وأنا التي لطالما سمعت بكاؤه الخافت، والأسوأ توقفه عن البكاء ليكبت كل شيء في نفسه ويغرق بصمت!
جعلت من أناملي أكثر لطفا على رأسه وهمستُ بلطف ولين: دعنا نفكر بالأمر بطريقة مختلفة قليلاً! إن اتضح ان كل ما قامت باتريشيا مجرد افتراء فعلينا ان ننظر إلى الجانب الآخر. شارلوت الآن زوجتك! أنت أكثر من يعلم أنها فتاة لطيفة طيبة القلب ولم تستحق أياً من المعاملات السيئة نحوها، ونعلم أنك كنت في كل الأحوال لا ترغب في إيذائها. لذا لا تعد للخلف يا بني! فلتمضي قدماً، افتح صفحة جديدة ومزق الصفحات القديمة، انظر إلى عائلتها بطريقة مختلفة فها أنت ذا بدأت تدرك في قرارة نفسك أنها ليست عائلة سيئة!
أضفت متنهدة: هل كنت تتساءل ما الذي تعيش لأجله؟ دعك من الحياة الماضية وانظر إلى الأمام، لديك جيمي يا كريس. عليك ان تعيش لأجله وحسب! لديك ابن سيبلغ السادسة قريباً، متعلق بك ويحبك كثيراً بالرغم من المسافة بينكما، قم بتقليصها وتقرب إليه. انظر إلى شارلوت كفتاة تزوجت بك وعليك الآن الإهتمام بها وحمايتها وحسب! تلك الفتاة لن تجد مثلها صدقني!
ثم ابتعدت عنه مبتسمة أخفي حزني أحدق إليه بتأمل، لينظر إلى بعينه العسلية الباهتة فرفعت يده اليمنى بكلتا يداي وقلت بجدية: إياك وان تظهر تلك النظرة البائسة مرة أخرى، أنت لست ضعيفاً، احتملت الكثير وستنهي بنفسك سلسلة الأحداث البائسة تلك. انظر إلى من حولك والناس القلقون بشأنك. لديك أنا! انت ابني الذي لم ألده. وأي مكروه قد يصيبك فسيقودني للجنون ويمزقني وقد أموت يا كريس لو حدث لك أي شيء! لديك ابنك وشارلوت، عمتك وعائلتك! لديك ماكس الذي لم تُمنحا فرصة التصرف بطريقة طبيعية حتى الآن كأب وابنه.
خدعني طوال هذه السنوات. جعلني أعتقد أن عائلة شارلوت السبب في كل هذا! كيف لي أن أسامحه!
ابتسمت بهدوء ورفعت يداي اضعها على وجنتيه هامسة: قلت الإجابة بنفسك. هذا يعني أن كل ما حدث مجرد خدعة ولا ذنب لماكس في أفعال باتريشيا. والدك أحب والدتك كثيرا يا كريس وصبر عليها حتى لفظت أخر أنفاسها. المذنبة الوحيدة في كل هذه الأمور هي والدتك، ولكنها لم تعد هنا، لذا لننهي هذا الأمر ونجعل الجميع بريئون كذلك. أرجوك فلتعطي ماكس فرصة!
أخفض عينيه فأنزلت يدي مبتسمة، ظل ينظر للفراغ قليلا حتى زم شفتيه وهمس: ظننت في تلك الليلة أنني سأفارق الحياة. حينها فكرت كثيرا بأمور لا تعد ولا تحصى في أقل من دقيقة.
أردف وقد شردت عيناه نحو النافذة: أقسمت حينها أنني لو نجوت فسأستغل الفرصة، سأعوض جيمي عن الكثير. ، كما فكرت قليلاً. لما لا أعطي نفسي انا وماكس فرصة لعل كل شيء يتغير، وآخر ما فكرت فيه قبل أن أغمض عيناي حينها أنني سأبقي شارلوت معي حتى لو اضطررت لإجبارها.
ابتسمت لجملته الأخيرة ثم وجدت نفسي أضحك بخفوت فطرف بعينه ينظر إلى باستغراب!
يا الهي. يعتقد حتى الآن أن البوح بمشاعره الحقيقية مجرد ضعف!
لما لا ينهي الأمر وحسب. من الواضح انه يحبها!
ما الأمر سيدة أولين؟
لا شيء. إنني أضحك فقط لمراوغتك لنفسك.
أضفت متسائلة: منذ متى تحبها؟
أجفل لذلك السؤال وقال بحزم: من قال بأنني أحبها؟
عيناك!
فغر فاهه قليلا بشيء من الدهشة ثم رفع اصبعه محذراً: من فضلك سيدة أولين لا تخبريها بذلك!
ارتفع حاجباي بحيرة واستنكار شديد: هاه! لماذا؟ ما المشكلة في ذلك!
نفي برأسه: أمور كهذه. ستفتح باب لا أريد فتحه.
ألا وهو؟
حين يعلم الطرف الآخر بمشاعر المرء فصدقيني إنها أول خطوة لإخماد هذه العاطفة، سأبدو مهزوماً أمامها وقد يتملكها الغرور وحسب.
كفاك سخفاً، شارلوت لن تفكر بهذه الطريقة!
احتدت عيناه: لم أعد أستطيع الثقة بأي شخص. ولا حتى بنفسي.
لما لا نعود للسؤال الأول؟
ماذا كان!
منذ متى أحببتها؟
ازدرد ريقه بصعوبة وببطء بل وأشاح بوجهه بعيداً! فما كان مني إلا أن ابتسم بخبث: هيا تحدث! لا تقلق سيكون الأمر بيننا نحن الإثنان أعدك.
رمقني بطرف عينه للحظة قبل ان يتمتم ببرود: من قال هراء كهذا.
كريس.
قلتها متنهدة بملل، فوجدته قد شرد بذهنه للحظة قبل ان يرفع يده و يمررها في شعره هامساً بصوت بالكاد يكون مسموعاً: منذ ان قامت هي وعائلتها بزيارتنا في المنزل.
هاه!
زيارة؟ لا يمكن أنه يتحدث عن تلك الزيارة في الماضي، مر عليها وقت طويل جداً لدرجة أنني نسيت الأمر.
ولكن بلا شك فمنذ أن رأيت شارلوت وانا أشعر بأنني التقيت بها مسبقاً.
ابتسمت بلطف: يا الهي. كريس أنت غير معقول! ولماذا وقعت في حبها آنذاك؟
وما أدراني أنا. ولكنني في البداية ولوهلة ظننتها تتظاهر بالحماقة وأنها لا تتذكر شيئاً، اتضح انها بالفعل لم تحتفظ بتلك الزيارة في ذاكرتها نظرا لحادث غبي تعرضت له، حسنا ليس وكأنها كانت زيارة مهمة عليها تذكرها. على الأقل أنا لا زلت محتفظا بها في عقلي.
رفع كتفيه بلا مبالاة فنفيت برأسي بلا حيلة. اعتقد أنها أمضت في منزلنا ليلتان أو ثلاثة مع والدها على عكس باقي عائلتها اللذين غادروا بعد ليلة واحدة فقط.
أتذكر جيداً أن مارك كان مضطرا للبقاء بسبب محاورته لباتريشيا، في حين بقيت شارلوت معه.
صحيح! لقد كانت شارلوت في ذلك الوقت لم تتجاوز العاشرة من عمرها ومنذ أن رأت كريس ظلت ملتصقة به بطريقة مضحكة! أيعقل ان شارلوت لا تتذكر أمر كهذا؟ كانت ثلاثة ليالي لا يمكن انها لم تعلق في ذاكرتها!
كما أتذكر جيداً أنها وبرحيلها ظل كريس يسأل عنها بشكل خاص، مع أنه وبمغادرة عائلتها للمنزل انقلب عليهم فجأة وشعر بالحقد تجاههم بعد ذلك الشرط السخيف الذي وضعته باتريشيا. كان لا يزال في السادسة عشر فقط!
تمتمت مفكرة: إن كنت ترفض الإعتراف بمشاعرك لها فلا تتوقع أن تتمكن من الحفاظ عليها.
رفع حاجبه الأيسر وكأنه يطالب بتفسير أوضح فابتسمت ساخرة: من الصعب الحفاظ على الفتيات بطريقتك هذه! أقصد. جميعهن يرغبن في سماع اعتراف ولو بكلمة يوضح لهن أنهن مرغوب بهن حتى يبدأن بالثقة أخيراً.
لن أفعل ولو تم دفني حياً. ثم هي ليست مخيرة، أنا واثق بأنها تحبني وسيكون من السهل إبقاءها إلى جانبي.
اتسعت عيناي بدهشة للحظة أحاول استيعاب كمية كبيرة من النرجسية الغير مبررة! ثم سرعان ما زمجرت بغضب: ما هذا بحق الإله!
فليكن. لن أخبرها، من فضلك سيدة أولين لا تخبريها بأي شيء!
من منكما تحديداً عبيداً لكبريائه! هيَ أم أنت؟!
التعليقات