رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الرابع والأربعون
لا تتوقع ألا يخدعك الحب، خاب وخسر من ظن أنه فوق الخداع، وكل التجارب السابقة تبرهن أن من حسب فخ الهوى بعيدا عنه كان أول من سقطوا به.
الخداع، ماهر في إتقانه وبشدة، تذكرت ندى كيف خدعها حين هاتفها وطلب منها استدراج شاكر، سمعت كلماتها الآن وهي تسأله بقلق: لا يا عيسى.
براحتك عادي، أنا بس كنت عايز اقابله واتكلم معاه علشان محتاج نخلص اللي بيننا، وروحتله الشركة بس رفض يقابلني خصوصا بعد حوار القضية اللي لسه شغال ده، وأنا بصراحة عايز أقابله لوحده بعيد عن الأنظار ومفيش طريقة غير إنه يلاقيني قدامه فيضطر يتكلم، صدقيني الموضوع بسيط أنا فعلا عايز أنهي كل حاجة.
هاجمها التوتر ثم الحيرة، حاولت الوصول إلى أكثر حل قد يكون مناسبا حتى قالت: طب ما تخليها الصبح.
وأتى الرد بهدوء شديد: أنا مش في القاهرة بكرا، ودلوقتي أنسب وقت، وعموما خلاص يا ندى شكرا مش عايز حاجة أنا هتصرف
وقبل أن يغلق طالبت بتراجع: طب استنى
ابتسم بظفر ووضع زجاجة مشروبه جواره في السيارة وهو يسمعها تقول: أنا هجيبه يا عيسى، بس اطلع قدامنا فجأة، يعني بلاش يبان إني جايباه قاصدة، فاهمني؟
طمأنها حين أردف: لا من الناحية دي اطمني خالص، وأنا هقولك تعملي إيه بالظبط علشان تجيبيه.
فاقت من شرودها وهي تندم أشد الندم على تجاهلها لمخاوفها، فالنية واضحة الآن ليست خير أبدا، خاصة بعد تلك السيارة التي قطعت طريقهما، ونزل منها من أخذوا شاكر، ومن أخذها معه في السيارة حتى وصل إلى طريق توقف فيه وبقت هي محتجزة معه بالسيارة الآن، تحاول الحديث ولكن لا يرد، الصراخ ولكن من سيسمع في طريق كهذا حتى هاتفها أخذه منها، وفي نفس التوقيت كانت ملك تبحث عن أنفاسها الهاربة بعدما قرأت رسالة زوجها، سمعت صوت شقيقتيها في الأجواء وقد كانت على علم بحضورهما فنادت بذعر بعدما وجدت هاتف عيسى مغلق: شهد.
أتتها بالفعل مهرولة وهي تسأل بقلق: ملك أنتِ كويسة؟
عيسى خرج امتى؟
سألت بخوف وردت شقيقتها باستغراب: من بتاع تلات ساعات، خرج وقال حسن قاعد في المعرض علشان لو احتاجنا حاجة، ولما يرجعوا هنروح اسكندرية.
تيقنت شهد من وجود خطب ما خاصة وأن حالة عدم القدرة على التنفس هذه عند شقيقتها مشهورة في مواقف ذعرها، تركت ملك الفراش ونطقت بصعوبة: رني على طاهر شوفيه معاه ولا لا.
وهاتفت هي حسن وما إن رد حتى قالت: أنت تعرف طريق عيسى، بالله عليك ما تكذب.
حد فيهم هيخلص على التاني وأنا مش عايزة أخسره، عيسى رايح يا قاتل يا مقتول.
نزل حسن لها سريعا في حين تنحت شهد تحاول مهاتفة طاهر وقد أربكها القلق هي الآخرى، بينما كان طاهر يغادر سيارته وقد زادت شكوكه في الوضع بأكمله، تذكر حين ترك السيارة ونزل يبحث عن إشارة لإجراء مكالمة وما إن عاد وجد عيسى يغلق هاتفه فهتف بضجر: ما ترسيني يا عم في إيه؟
هخلص حاجة بس وعايزك معايا، اقفل بس تليفونك علشان مش عايز زن.
لم يستجب طاهر بل اعترض بانزعاج: أنت بتعمل إيه أنا عايزة أعرف، ما هو أنا مش هلبس في حاجة وأنا مش عارف إيه هي.
جذب عيسى الهاتف منه وأغلقه هو مرددا بملل: بطل صداع بقى.
أعطاه له من جديد وهو يقول بابتسامة: متفتحهوش وخليك جدع، ساعه ولا حاجة وابقى افتحه.
قال هذا ونزل من السيارة وأتى طاهر لينزل خلفه ولكن طلب منه: لا خليك، انا هنجر حاجة قريب من هنا، وانت استنى بشير جاي، لو وصل قبل ما ارجع هيكلمني، مش هتأخر.
طب هاجي معاك.
طلب طاهر بإلحاح ولكن اعترض أخوه قائلا: يا عم لا، وأنا قايل لبشير هنستناه هنا، خليك علشان انا مش عايز بشير يعرف حاجة عن الحوار اللي أنا رايح اعمله ده، لما ارجع هحكيلك.
سر على بشير!، تساءل طاهر في نفسه مستنكرا، ثم عاد لسيارته بقى بها ولم يكمل أكثر من ربع ساعة حتى قضت عليه الشكوك، فتح هاتفه يجري اتصال ببشير ولكن وجد رد آلي بأن الهاتف مغلق، انكمش حاجبيه بريبة وسريعا ما وصله اتصال من حسن فرد ليسمع أخاه يقول: طاهر الحق أخوك…
كان على يقين من الكارثة، ونهر نفسه ألف مرة على عدم الاستجابة ليقينه، سمع من حسن ما قصته عليه ملك فعلم أن شقيقه الآن مع شاكر، أسرع إلى سيارته وقرر البحث في المكان، فلن يبتعد عن هنا، بالتأكيد اختار هذا الخلاء خصيصا لتنفيذ رغبته، ضرب طاهر على عجلة القيادة بغضب، شقيقه بارع في جعل الجميع يكسر القواعد من أجله وعلى الرغم من عدم قدرته على تحمل السرعات العالية، اضطر اللجوء للقيادة بسرعة عالية، يبحث هنا وهناك حتى وصل أخيرا شارع ضيق ساورته الشكوك حوله، ترك سيارته وقرر دخوله سيرا على الأقدام، والآن فقط استطاع بوضوح أن يشهد هذه الحرب الطاحنة، من يراهما يقسم أن الاثنين مصيرهما الهلاك، سقط السلاح الأبيض أرضا، فالتقطه شاكر مسرعا، أراد أن يرد له ضربته الضعف ولكن قبل أن يطوله، قبض طاهر عليه من الخلف، علم أن ثروة عيسى هذه لن تهدأ، أخيه الذي تمكن من سحب سلاحه الأبيض بعد تحكم طاهر بشاكر، ثم ركل شاكر فسقط وقرر استغلال فرصة السقوط هذه والقضاء عليه تماما ولكن قبل أن يفعلها صاح طاهر وهو يجذبه بعيد عنه: لا يا عيسى.
لم يستمع وأفشل فرصة قيام شاكر حين تحرر من طاهر وانحنى عليه، كانت طاقة شاكر قد نفذت كليا، نفذت في العراك الذي بذل فيه كل جهده ليخرج منتصرا، وكذلك كان الطرف الآخر فبدا على كل منهما آثار ما فعله الآخر به، ولكن لكل مباراة مكسب وخسارة، وقد حالف الحظ عيسى هذه المرة ولكن ردعه قول طاهر: بقولك سيبه، هتودي نفسك في داهية، مراتك محتاجاك.
توقف عما كان يفعل، توقف وتابع أخوه مؤنبا: ملك في المستشفى.
سحبه ليرحلا من هنا، وبدا عيسى وكأنه فقد الإحساس فبذل طاهر جهد أكبر في إبعاده عن المحيط، وهو يسمع الملقى على الأرضية يجاهد حتى يقوم وبالفعل أوشك على النجاح: كان في إيدك تخلص كل حاجة دلوقتي وتبقى أنت الكسبان، بس أنا لسه ليا عمر وهي ليها نصيب تبقى اخرتك قصاد عينيها.
نجح في زيادة الحريق داخله، وحاول عيسى العودة محاربا بكل قوته التملص من طاهر الذي صاح: سيبه يا عيسى، متردش عليه.
واستدار يطالع الآخر متوعدا، بصق عليه واستدار ليتابع سيره متحكما بذراع عيسى الذي سمع شاكر يقول من الخلف: المرة الجاية هتبقى مني يا عيسى.
حالته سيئة، محطم، ولا يريد الآن سوى رؤيتها ولكنه لم يستطع تجاهل ما قيل بل رد بنبرة وصلته: عندها.
ركب السيارة جوار طاهر الذي سأله بغضب: هو أنت إيه اللي بتعمله ده، و بتعمله امتى أصلا، القضية اللي زفت اتفتحت دي، وشغالة، يعني أي خدش في شاكر هتبقى أنت واحنا اللي شايلينها
ملك مالها؟
لم يشغل باله أي شيء سواها، حتى ما كان سيقدم عليه قبل قليل لم يفكر به، استدار يطالع طاهر بحدة سائلا بعد عدم حصوله على رد لسؤاله: يعني اشتغالة؟
هز طاهر رأسه بعدم تصديق وصاح بانفعال: روح شوف حالتها وابقى اتكلم بعد كده، وحتى لو اشتغالة المفروض لما اشوفك رايح تخلص على واحد قدام القانون دلوقتي متهم وفي كلام عن خلافات بينكم، اقف واسقفلك وأنت بتخلص عليه واستناك بقى وأنت بتتعدم ولا وأنت هربان.
أنا مش عايز اسمع حاجة منك.
قال عيسى جملته هذه وقد وصل الانزعاج ذروته، نزل من السيارة متوجها ناحية إحدى السيارات المتوقفة على بعد ليس بكبير منهم، وصل لها وما إن لمحته ندى حتى نطقت بذعر: شاكر فين، هو ده الاتفاق وإنك عايز تنهي كل حاجة ومش هتأذي…
قاطعها هاتفا بسأم: متصدعينيش، أشار ناحية أحد الشوراع الضيقة التي جاهدت لتراها: ادخلي الشارع ده وامشي شوية هتلاقيه، ومتقعديش ترغي كتير و تتكلمي عن أي حاجة، ولو اتهمك بحاجة، موبايلك معمول منه مكالمة للرقم اللي قولتلك عليه، اتصلي بالرقم تاني عادي زي المرة الأولى وهترد بنت تصدق على كلامك وتقول إنها صاحبتك وكانت مستنياكي على الطريق.
اطمأنت قليلا وقبل أن تتحدث من جديد قاطعها يحثها على المغادرة: يلا اخلصي وروحيله قبل ما تلاقيه جايلك من هنا، وقوليله إن واحد حجزك في العربية وبعد ما كان مش راضي يسيبك جابك ونزلك على أول الطريق ده.
استجابت وأعطاها الشاب بعد أن نزل من السيارة هاتفها وهاتف شاكر أيضا، جلست على مقعد القيادة وأسرعت مبتعدة وبعد ابتعادها وسيرها ناحية ما أرشدها، نزل طاهر من السيارة وقبل أن يقترب منهما حث عيسى الشاب: امشي أنت.
توجه إلى حيث دراجته البخارية لمغادرة المكان، وحين أتى طاهر كان عيسى يجري اتصاله بها، ولحظات حتى سمع الرد من حسن: عملت إيه يا طاهر؟
بعد تفكير ظن أن قول أخيه عن أن زوجته بالمشفى خدعة، ولكن رد حسن بدلا منها على هاتفها جعل القلق والخوف يعصفا به فرد على السؤال بسؤال مثله: هي ملك فين؟
وكان الرد مطمئنا حين علم أنها بالمنزل ولكن ليست بخير، حتى أنه حين طلب من شقيقه أن يعطيها الهاتف، سمعت صوته ولم تقو على الرد مما جعله يذهب إلى السيارة ليعود إلى المنزل ويرى ما اقترفته يداه.
جلست أمام التلفاز تتابع أحد البرامج بملل، ملل مرافق لكل يوم تقضيه هنا، ظنت رزان أن رغد العيش سيحل عليها بمجرد زواجها من جابر ولكن لم يكن في حسبانها والده الذي يعاملها أسوء معاملة، وما سمعته من كارثة، تململت بسأم في جلستها قبل أن تنادي إحدى العاملات في المنزل طالبة: اعمليلي…
قطع قولها صوت منصور الذي دخل للتو: روحي يا بنتي شوفي شغلك، اللي عايز يعمل حاجة يقوم يعملها لروحه.
تأففت رزان بانزعاج وجاهدت لتتحدث وقد ارتسمت ابتسامة صفراء على وجهها: في إيه يا حاج؟، هو مش شغلتهم في البيت دي؟
وهو أنتِ صاحبة بيت علشان تطلبي وتتأمري؟
قول بمثابة صفعة وتوالت صفعات أقوله وهو يتابع: وعلى الأقل هنا هتقومي تعملي لنفسك حاجة حلال، أحسن من المنكر اللي كنتي بتحطيه للزباين في الحتة اللي كنتي بتشتغلي فيها يا جوازة الغم.
استقامت رزان واقفة وقد عصف الغضب بها بعد أقواله التي ضربتها في مقتل، ابتسمت بهدوء قبل أن تخبره: معلش يا حاج أصل أنا اتولدت لقيت أمي وأبويا معدمين، مفيش حيلتهم قرش يصرفوه عليا، لو كنت لقيت اللي يتبناني مكانتش اشتغلت في الشغلانة دي
حمل حديثها تلميح خفي لم ينتبه له هو بل علق ساخرا وهو يجلس على الأريكة التي توسطت الردهة: الشحاتة أشرف من اللي بتعملوه في روحكوا.
انكمش حاجبيها بسخرية من ازدراءه لها وسألت بتصنع التعجب: وهو يا حاج جابر ابنك اللي أنت مربيه اتعرف عليا فين؟، ما هو كان موجود هناك، ده زبون دايم كل ليلة، ولا مرواحه هناك ميعيبهوش؟
يعيبه، بس عارفه إيه يعيبه أكتر؟، جوازه من واحده زيك.
رد على أسئلتها بأجوبة مهينة لها فلم تبال وقالت بابتسامة: الفلوس بتخلي ابن الطريق يبقى باشا، ولو مش الفلوس اللي هتخليني كده، ابني اللي جاي هيخليني كده إن شاء الله.
وقف وتحرك ناحيتها بانفعال ليصبح مواجها لها وهو يخبرها: تبقي بتحلمي لو فكرتي إن ابني هيخلف من واحدة زيك، وهو سمعها مني كلمة يوم ما اتجوزك، لو جبتي منه عيل مش هياخد مليم من مالي لا هو ولا اللي هتخلفيه، مش على اخر الزمن هنجيب عيالنا من الغوازي.
المساومة، هو من جعلها تلجأ لها، لم تفكر أبدا وهي تخبره بابتسامة: لما يجي من الغازية ويبقى ابنكم، أحسن من لما تجيبوه من برا ويبقى ابن بالاسم بس.
في ثوان كان عنقها بين يديه، ما تقوله يساوي عنده الموت، ولم يتهاون أبدا وهو يسألها: قصدك إيه يا بت أنتِ؟
أدرك أنها ربما لم تقصد فتراجع حيث أبعد يديه عن عنقها مع الاحتفاظ بنظراته المشتعلة، سعلت وهو تجاهد لالتقاط أنفاسها قبل أن تقول بتراجع: في إيه يا حاج لكل ده، أنا قصدي إن في ناس بتتمنى ضفر عيل بس ربنا مبيريدش فبيتبنوه.
شحب وجهها وأدركت حماقتها الآن وخاصة وأنها شعرت بأن خدعتها لم يصدقها الواقف أمامها، أما عنه فكان في حيرة ولكن اليقين الوحيد الآن أن الشكوك أصبحت تساوره حيال هذه الفتاة، والتي حمل حديثها معنى أنها تعرف ما لم يعرفه غيرها، وما ينبغي ألا يعرفه أحد أبدا، حاوطها بنظراته الجامدة قبل أن يقول: احذريني يا رزينة، احذريني علشان تطلعي من البيت ده على رجليكي، لأنك كده كده هتطلعي، فاخرجي سليمة أحسن ما تخرجي على قبرك.
أنهى جمله واستدار يغادرها، فعادت لها الأنفاس بصورة طبيعية أخيرا من جديد، ولم تتردد في تصحيح اسمها الذي لم ينطقه بصورة صحيحة وهي تقول من خلفه: رزان يا حاج.
مما جعله يتمتم بانزعاج: اسم لا له طعم ولا لون، الله يسامحه اللي جابك.
غادر الردهة متوجها لغرفته، بينما هي جلست أخيرا ومسدت بيدها على عنقها وهي تؤنب نفسها على ما ارتكبته من حماقة الآن ستجعلها بالتأكيد تحت نظرات والد زوجها ولا يفلتها أبدا.
لا يسيطر عليه إلا الفوضى، هندامه وخصلاته كل منهما مبعثر، وجهه مصاب، وساقه ليس في أفضل حالة، كان عراك مشتعل خرج منه هو وغريمه بأسوء النتائج البدنية، أتى به طاهر إلى المنزل، أخذ حسن مريم وشهد معه ليبقى شقيقه مع زوجته بمفردهما، خرجا معه إلى حيث سيارة طاهر في الخارج، بينما في الداخل كانت ملك جالسة على الفراش، رافقها البكاء حتى سأم، فلم تعد عيناها قادرة على ذرف المزيد من الدموع، بمجرد دخوله كان مسلوبا بهيئتها، جلس أمامها على الفراش ونادى برفق وهو يرفع وجهها لتطلع إليه: ملك.
تعلقت عيناها به، رأت ما أحل بوجهه، شاهدت مظهره الذي كان كافيا لوصف حدة الشجار الذي ربما أدى لموته، فقط صامتة تنظر له، حتى الإجابة امتنعت عنها، فكرر النداء وأضاف: ملك، ردي عليا طيب.
حثها وهو يمسح على كفها: قولي اللي أنتِ عايزاه.
طلقني.
قالتها بهدوء مميت، بروح مزقها الوجع إربا، ألم يقل صارحيني بما تريد روحك، هذا هو ما تريده حتى لا تذوق عذاب الفراق مجددا.
بقى دقيقة ينظر لها في صمت تام، كانت في ذهنها تخمن أجوبة كثيرة، ربما يرفض، ربما يثور، وارد جدا يفعلها وينفذ ما تريد، توقعت منه كل شيء إلا قوله بهدوء مماثل للكامن في نبرتها: الفلاسفة اليونان ظهر في عصرهم سؤال عمل صداع للكل، وحتى هما نفسهم فشلوا في الإجابة عليه
رأى الدهشة في عينيها وتابع بنفس ثباته يسرد البقية، موضحا السؤال: الفرخة الأول ولا البيضة؟
انكمش حاجبيها باستنكار وأضاف هو: اهو السؤال ده لحد النهاردة في جدل عليه، وكل واحد برأي، لما إن شاء الله يتحدوا كلهم على رأي واحد وميبقاش في أي خلاف
ابتسم ومسح على خصلاتها خاتما قوله بجملة: هبقى اعملك اللي أنتِ عايزاه.
هل هذا هو الجواب؟، سؤال وجهته لنفسها بذهول وهي تراه يغلق كل أبواب الحديث في وجهها، كانت جسده يؤلمه وبشدة أراد فقط الاسترخاء فتمدد على الفراش ولم يغفل عن نظراتها له الذي هرب منها هو هذه المرة بالنوم.
تمدد بشير على الأريكة في منزله بتعب لم يخففه عنه إلا الكلب الخاص به الذي هرول ناحيته فابتسم ومسح عليه وهو يحدثه بحزن: صاحبك مزعلني أوي.
بدا الكلب وكأنه مهتما يسمعه وتابع بشير سرد شكواه: مش عايز يسمعني، ولا يفهمني، مش قادر يفهم إني مش هينفع أتخلى عنها وهي لجأتلي، مش هينفع أخذلها وأنا حاسس إن إعجابي بيها بيتحول لحب، مش عايز يفهم إن مهما حصل مش هقدر أخسره
قال جملته الأخيرة بمرارة شديدة ثم ضحك وهو يسأل الواقف جواره: فاهم حاجة أنت كمان ولا زيه.
قفز كلبه عليه فتعالت ضحكات بشير التي لم يقطعها سوى الدقات على الباب، توقع أن يكون عيسى فهو الوحيد الذي يأتي في وقت متأخر مثل هذا، ولكن خاب توقعه وهو يرى بعد أن فتح الباب باسم، طالعه بضجر وهو يسأل: هو أنت إيه؟، في حد بيجي لحد دلوقتي، يعني أنا لا صاحبك، ولا بيننا الود اللي يخليك تجيلي في وقت زي ده، محستش إنك لازم يكون عندك دم وتستنى لوقت مناسب لو عاوزني؟
تخطاه باسم ودخل، ذهب ناحية الأريكة وجلس عليها بهدوء، وحين اقترب الكلب منه تعامل معه بهدوء ضاحكا وهو يسأل الواقف بغيظ أمامه: عيسى فين؟، أروح المعرض ملاقيش حد، أكلمه موبايله مقفول، أكلمك نفس الحاجة، أروح النهاردة تاني ألاقي أخوه وهو لا حس ولا خبر
وأنت مالك؟
سأله بشير بابتسامة صفراء رد عليها باسم بمثلها قبل أن يقول: بدور عليه، عايزه في شغل، وأنت كمان موبايلك مقفول ليه؟، تخميني كده بيقول إنكم متخانقين.
رد بشير بانزعاج: لا مش متخانقين، أنا تليفوني ضايع.
لم يقل حقيقة أن هاتفه أغلقه منذ لقاءه بعيسى أمس وشجارهما سويا، كان آخر شيء يريده هو معرفة باسم بوجود خلاف بينهما، ولكن الماكر استنبط هذا من أوضاعهما الأخيرة فرد بشير كيده في نحره بقوله: وحتى لو متخانقين، اخوات وشدوا مع بعض.
بس في الآخر بيتصافوا وينسوا.
ربنا يهنيكم يا حبيبي.
كان هذا قول باسم بسخرية ثم قام وتابع حديثه: لما تقابله قوله إني عايزه، علشان…
بتر عبارته دق مزعج على باب المنزل من جديد، أثارت طريقة الدق استغراب باسم وذهب بشير ليفتح فوجد أمامه محسن، يعرفه تمام المعرفة، ولكن لم يظن أبدا أن يتجرأ للقدوم إلى هنا بل وهتف بغضب: علا فين؟
رفع بشير حاجبيه سائلا بتصنع عدم الفهم: افندم؟
وتشجع محسن، ولكمه فأسرع باسم ناحيته يفصل بينهما وسأل الذي حل عليهما: أنت جاي تضربه في بيته؟
نطق محسن بغير رضا على تدخل هذا الغريب المتطفل بالنسبة له في أمره: ملكش دعوة أنت، أنا كلامي معاه هو…
علا فين يلا؟
تخطى بشير باسم وبالفعل رد لمحسن ضربته وهو يسدد له الإهانة بكلماته: لو كان الباشا اللي أنت ماشي وراه عرف إنك جاي هنا، كان قالك لا علشان ده بيورطه في القضية أكتر.
وأنا متأكد إنه ميعرفش إنك هنا، بس طلعلك حس أهو يا محسن، كده أنا فهمت اللعبة خلاص، أنت شاكر كشفك وعرف إن عيسى كان بياخد كل تفصيلة منك، ومعرفش قدمت إيه في مقابل إنك تنول سماحه تاني وتقلب علينا بس هعرف، بالنسبة لعلا بقى فعيب أوي يبقى أخوها الراجل نايم في بيته ميعرفش هي فين، وجاي أنت تسأل راجل غريب عليها، وحشة في حقه، وفي حقك ياللي المفروض كنت هتبقى جوزها…
ثم ختم ساخرا: بس للأسف طلعت مش مالي عينها.
حاول محسن التعدي عليه ولكن تصدى له بشير وأخرج باسم هاتفه وقال وهو يربت على كتف محسن: يلا امشي، ولو مش عايز أنا ممكن أكلم رجال الشرطة الأفاضل ويجوا وندور كلنا علا فين.
أبعد محسن كف باسم عنه وألقى نظرة متوعدة على بشير قبل أن يخرج فصفع الأخير الباب وراءه وهو يتمتم: في ستين داهية.
وسمع صوت باسم وهو يقول بتسلية: أنا داريت عليك أهو، علشان البت دي لو عندك في الشقة، الواد اللي جه ده لو دخل دور ولقاها كان هيصفي دمك النهاردة.
ضرب بشير على الطاولة بنفاذ صبر وهو يرد: لا، أنا مبيدخلش بيتي ستات متربطنيش بيهم صلة، وأنت عارف.
رفع باسم كفيه باستمتاع وهو يقول ضاحكا: يبقى افتش بنفسي.
لم يكن عند بشير ما يقلقه، فقط سأم من الوضع بأكمله، وقرر تحمل استفزاز ضيفه له فقط بعد مساندته له قبل قليل، فرغ باسم من التفتيش ولم يجد شيء فلم يبد فشله بل هتف يبرز نجاحا آخر حصل عليه: كده أنا فهمت، أنت في حاجة بينك وبين أخت شاكر، فعيسى لقط، واتخانقتوا صح؟..
وقبل أن يرد بشير نطق باسم بتصنع الأسى: هو الحب ده دايما كده جلاب مصايب.
صبرني يارب.
صاح بها بشير بنزق، و حدث نفسه بأنها كانت جلسة هادئة مع كلبه، تحولت إلى فوضى عارمة حين فقط تدخل البشر، نجحوا وبكل براعة في تعكير صفو جلسته وتمت مهمتهم بنجاح في إفسادها عليه.
قرار العودة للاسكندرية كان من طاهر، ووافق عليه عيسى بمجرد أن أخبره به لغرض في نفسه، ركب حسن سيارة عيسى ليقود هو بدلا من أخيه الذي لم يبد في حالة تسمح له بالقيادة أبدا، جلس جواره وفي الخلف جلستا ملك و مريم، أغمض عيسى عينيه فعرف شقيقه على الفور أنه سينام، ولم تفهم ملك سبب رجوعهم في هذا التوقيت، ألن يحل الصباح!
التزمت الصمت، وسريعا ما شردت بعيدا عن كل شيء أثناء ما كانت شقيقتها تربت على كفها بحنان، وفي السيارة الآخرى كانت شهد تجلس جوار طاهر وتحدثت بحزن: شكلك تعبان أوي.
هز رأسه مؤكدا قولها مما جعلها تعرض عليه: طب ما تحكيلي في إيه، بقالك شوية حساك مش كويس، سألتك قبل كده قولتلي حاجة مش هينفع تحكيها، حتى أنا هتخبي عليا؟
كان ذلك حين سألته عن سبب حزنه الذي لم يكن سوى اكتشافه لحقيقة موت والدة عيسى، فلم يقدر على البوح ولكنها لم تعترض بل تحملته وكانت بجانبه كثيرا بمكالماتها التي لم تنته إلا حين شعرت أنه بخير.
تنهد بهدوء قبل أن يصارحها: المرة دي مش هينفع أخبي عليكي، لأني عايز حد أخد رأيه فعلا.
طب ما تاخده، متردد ليه بس؟، أنا دايما بياخدوا رأيي، صحيح ساعات بيعمل كوارث بس برضو بياخدوا بيه.
ضحك على قولها فابتسمت وهي تسأله: إيه الضحكة القمر دي؟..
ثم همست: الحمد لله مورثتش تكشيرة أمك.
فحذرها بقوله: اتلمي يا شهد.
مما جعلها ترد بغيظ: حاضر أنا مقولتش حاجة، خد رأيي يلا بقى.
هز رأسه نافيا وهو يوضح لها: مش هينفع كلام في الطريق، النهاردة بالليل إن شاء الله اخدك ونخرج ونتكلم بقى.
وافقت على ذلك وطلبت منه: بقولك إيه ملك تعبانة أوي، ما تقول لعيسى يخليها معانا يومين تهدى، هي يا حبيبتي كانت هتموت عليه، وأنا مبقتش فاهمة حاجة.
ما تقوله الصواب، خاصة بعد فعلة أخيه الأخيرة ولكنه لم يعطها جوابا حاسما، كان دبلوماسيا بعض الشيء، أخرجت هي هاتفها بعد أن سمعت صوته، وصلتها رسالة صوتية ففتحتها لتسمع: لا يا شهد والله نتيجة المسابقة لسه، وبعدين متقلقيش كده كده كسبانة، شغلك حلو أوي، أنتِ هايلة بجد يا بنتي.
مين ده؟
كان هذا سؤال طاهر والذي بدا هادئا ولكنه في حقيقته لم يكن كذلك، وردت هي: ده واحد تبع المسابقة بتاعة الكلية اللي أنت قدمتلي فيها، لما سألت عن النتيجة، قالولي اسأله هو اللي يعرف أخبارها، وطلع شاف شغلي وقالي إنه حلو أوي، بس لسه النتيجة مبانتش.
أبدى ضيقه علانية وهو يسألها: اومال العشم واخده كده ليه وهو بيتكلم كإنك بنت خالته.
سألته هي الآخرى بانزعاج من طريقته: في إيه يا طاهر؟، حصل إيه لكل ده؟
أبدى سبب اعتراضه محاولا بكل جهده ألا ينفعل: طريقته معجبتنيش يا شهد، وإيه أنتِ هايلة دي؟
طاهر ده تلكيك على فكرة.
أخبرته بضيق وأضافت: أنا مكلماه علشان حاجة معينة، وهو متخطاش أدبه…
ولآخر مرة هقولك بطل انك تعاملني على أساس إني عيلة، هتتخدع في الناس ومينفعش تتصرف لوحدها ولا تاخد خطوة
ابتسم بسخرية وعلق على حديثها بقوله: اه تلكيك فعلا، خلاص يا شهد أنتِ عندك حق.
طالعته بضجر ولم ترد الانخراط في الحديث أكثر، قررت التزام الصمت باقي الطريق وكل منهما لا يرى سوى أن الآخر لا يفهمه.
كان وجهته الأولى بعد ما حدث هو نور، سبب عودته للاسكندرية هو أن يصطحبها إلى هناك في أسرع وقت، لم ينتظر كثيرا، وصلا إلى الاسكندرية وطلبت البقاء عند والدتها عدة ساعات وستعود ولكنها وجدته في منتصف اليوم يأتي لها طالبا منها أن ترافقه إلى وجهته التي علمتها حين توقفت سيارته ورأت الاسم المدون على اللوحة المعلقة، لم يستغرق الأمر الكثير ليقابلا نور، رحب بهما بابتسامة واسعة: أهلا أهلا، أول مرة أنتم الاتنين سوا.
لم يرد أي منهما فتابع: بس شكلها مش أحسن مرة.
فتحت ملك حقيبتها تخرج زجاجة المياه، فتحتها وقبل أن تشرب سقطت منها على الأرضية، تأففت بانزعاج، مجرد سقوط الزجاجة هذا جعلها تريد البكاء وبشدة وأدرك نور سوء حالتها النفسية من تعبيرات وجهها فتحدث مسرعا: محصلش حاجة.
نادى للمساعد ليعينه في إصلاح ما حدث، وبعد أن أتما الأمر طلب منه: هات ماية من فضلك.
و بمجرد مغادرته سأل نور الجالس أمامه: إيه يا عيسى ما تتكلم.
اسمع من ملك الأول.
وأتى رد نور على هذا قوله: خلاص يبقى تستنانا بقى برا، علشان أنا بحب اسمع من كل واحد لوحده.
لم يبد عيسى اعتراض، قام ليغادر الغرفة في نفس اللحظة التي أحضر المساعد فيها زجاجة مياه جديدة، تناولها منه وفتحها ثم وضعها بين يديها قائلا بلين: اشربي.
رفعتها وشربت وأخذها هو يضعها على الطاولة قبل أن يربت على كتفها ويخرج من الغرفة تماما لتبقى بمفردها وتشرح ما بداخلها بلا قيود.
بدأ نور الجلسة بقول: هتعرفي النهاردة إن الجلسة هنا، أفضل كتير من الجلسة الأونلاين.
قصد جلساتها معه عن طريق الانترنت بدلا من القدوم لمقره، أرادت أن تخبره أنها تشعر بأسوء ما يمكن أن يشعر به إنسان في هذه الجلسة خصيصا، ولم تمنع رغبتها حيث قالت: أنا تعبانة أوي، تعبانة لدرجة إني عايزة أقف في مكان فاضي واصرخ، الدنيا كلها واجعاني…
ابتلعت غصة مريرة في حلقها قبل أن تتابع سرد شعورها: أنا كانت كل أمنياتي إني أعيش في سلام، مفتكرش مره طلبت حاجة كبيرة أو صعبة، وكل ما أقول خلاص لقيت السلام بحس الدنيا بتهددني إنها هتسحبه مني تاني وإنه مش من حقي.
تنهد نور بهدوء بعد توقفها عن الحديث الذي أنصت له بعناية، أدرك أن هناك ما حدث وتسبب لها في هذه الحالة فحاول استدراجها بحرص من خلال سؤاله: عيسى السبب في الحالة دي ولا أكتر من حاجة حصلت؟
صارحته بمخاوفها ولم تخف لعل الوجع في روحها يسكن ولو قليلا: أنا حكيتلك قبل كده عن شاكر وعن خوفي منه، عيسى ساعدني كتير أتغلب على الخوف ده، وتدريجيا كنت بدأت أحس إني بكون أحسن، بس فجأة لقيت شاكر قدامي، حاولت أواجهه، لكن خوفي كان أضعاف، خوفي غلبني للأسف ومقدرتش.
وبرر هو ذلك داعما لها: يمكن علشان زي ما قولتي إنك شوفتيه فجأة، عامل المفاجأة على فكرة يا ملك عامل مهم جدا، وغالبا اللي بيستخدمه بيبقى الطرف الناجح، احنا متفقين إن عندك نسبة خوف تجاه شيء بنحاول نعالج فيها تدريجيا، لو حطينا عامل المفاجأة على نسبة الخوف دي هيبقى صعب إنك تواجهي بس مش مستحيل.
أصغت إليه باهتمام خاصة وهو يسألها: أنتِ قابلتي شاكر قبل كده وحسيتي إن خوفك أقل لما قولتيلي على المرة اللي عيسى خدك فيها البيت هناك صح؟
هزت رأسها بإيجاب وأكمل هو: لو عملنا فصل بين المرات اللي قابلتيه فيهم وأنتِ عارفة إنك راحة تقابليه وبين المرات اللي فاجئك فيها هتلاقي إن ردة فعلك بتختلف تماما، بالعكس أنتِ ممكن كمان في المرات اللي يفاجأك فيها تتغلبي عليه، افتكر إنك قولتيلي لما ظهر قدامك في الكافيه فجأة اتغلبتي على جزء من خوفك وواجهتيه وضربتيه كمان.
كل حرف يقوله صحيح لذا أرادت أم تستمع للمزيد، حديثه أراح فؤادها المعذب قليلا وساهم هو في زيادة طمأنينتها حين قال: الانسان مش مطالب إنه ياخد نفس ردة الفعل في كل مرة، خصوصا وهو لسه بيتعافى، أكيد مره هينجح ومرة هيفشل، جايز المرة الأخيرة اللي قابلتي شاكر فيها مكنتيش في أفضل حالاتك إنك تواجهي خوفك، وده طبيعي، قبل كده واجهتي ونجحتي، المرة دي بذلتي نص طاقة بس فمكنتش النتيجة نفسها، النقطة الأهم في الموضوع إنك فعلا بتعملي النقطة الأهم وبتسعي تكوني أحسن فيها وهي المواجهة.
يعني مستناش في كل مرة نتيجة؟
كان هذا سؤالها الذي رد عليه بقوله: مقولتش كده، بس متعجزيش نفسك وتطلبي نتايج خرافية، وتجلديها لو تعبت أو مساعدتكيش في مرة، احنا بنحاول تدريجيا نكون أحسن، لو لغينا التدريج ده مش هنوصل للي عايزينه في النهاية، هنعمل نتايج مؤقتة بس لكن بالتدريج ده هيجي وقت اللي تحسي فيه إنك بتقدري تواجهي خوفك بنسبة 60 في المية على الأقل.
كان هذا مرضيا نوعا ما، وساهم بشكل جزئي في التقليل من اللوم الذي لا تكف عن إلقاء نفسها به، توجهت بعد ذلك للنقطة التالية تبث شكواها: عيسى كمان، اتصرف بمنتهى الأنانية، إنسان كان لسه من كام ساعة بيطمني ويحارب معايا خوفي، و إيده هي الوحيدة اللي بتطبطب عليا، وأصحى الصبح ألاقيه سايبلي رسالة إنه احتمال ميرجعش تاني، سلم نفسه لغضبه ولإنه يحقق اللي عايزه، طب وأنا، مفكرش فيا، مفكرش بعده هعمل إيه؟، هروح فين؟
قصت عليه ما حدث بالتفصيل بداية من مساندته لها بعد قدوم شاكر، حدثته عن حنانه، وطمأنته لها ثم صدمته بفعلته ورسالته المبهمة فعلق نور بانزعاج: كده غلط، كده احنا بنرجع مش بنتقدم، و علشان السبب ده أنا قولت لعيسى يبعد عن كل حاجة على الأقل فترة قصيرة، بس يفصل فيها، مش هينفع نبقى احنا بنبني من ناحية، والظروف اللي حواليه بتهد من الناحية التانية، لازم يكون هادي علشان التصرفات تتغير، لكن هو طول الوقت مترقب.
أيدت ملك حديثه وتابع هو يشرح لها المزيد: موقفه ده على فكرة مسمعش فيه لأي صوت غير غضبه، عيسى التعبير عن الغضب عنده غيري وغيرك، أنا متأكد إن لحظة ما قرر يعمل ده مفكرش في أي حاجة غير إنه يسكت طاقة غضبه ومش مهم النتيجة وتوابعها هيكونوا إيه، بس محتاج أعرف اتكلمتوا بعد اللي حصل ده؟
نفت ملك ذلك بقولها: لا، هو بيهرب من الكلام علشان عارف إني هعاتبه، وأنا مفيش عندي طاقة أنا طاقتي خلصت في اللحظة اللي حسيته هيروح مني فيها، أنا مش هقدر أعيش الإحساس ده تاني، لو عيشته هموت.
قالت ذلك بوجع شديد وأكملت: وده خلاني أول ما شوفته قولتله يطلقني، مش هقدر أعيش وهو بيديني الأمان بس أبقى حاطة في دماغي فكرة إنه هيسحبه مني فجأة ويضيع ويضيعني معاه.
مش صح يا ملك.
صرح نور بهذا تعليقا على حديثها وأضاف موضحا: مش صح أبدا، هوضحلك حاجة بسيطة، عيسى مش هو الشخص اللي هيقولك ساعدني لما يحتاج مساعدة، هو حاسس بمساعدتك مثلا وممتن ليها بس لو بطلتيها مش هيجبرك تبذليها، عيسى كان ممكن بسهولة لو حس إنك فعلا رغبتك الطلاق هيطلقك حتى لو ده هيأذيه، أنتِ قولتيلي إنك عايزة تساعديه، مساعدتك الوحيدة لعيسى هو إنك تساعديه يكون أحسن، وخصوصا إنك قولتيلي إن عيسى بيقدملك حاجات كتير جدا وبيحاول يجنبك كل اللي يضايقك بمعنى آخر بيساعدك وبيدعمك وكنتي عايزة ترديله ده علشان تقدروا تعيشوا حياة سوية مع بعض…
تجمعت الدموع في مقلتيها وهي تقول بقهر: قولتله طلقني من خوفي، مش هستحمل أخسره، لكن آخر حاجة ممكن أبقى عايزاها تحصل هي إننا نسيب بعض، عيسى هو مصدر قوتي، أنا بحبه أوي، بس لو عرفت إني هخسره يبقى مش هقدر، ده فوق احتمالي.
طب هو كان رده إيه على طلبك الطلاق؟
سؤال أمامه تحولت دموعها إلى ضحكات مما أصاب نور بالذهول، لم تستطع التوقف كلما تذكرت قوله ضحكت أكثر، فسأل نور بمزاح: قالك نكتة ولا إيه؟
ردت بعد أن هدأت ضحكاتها وهي لا تصدق حتى الآن رد عيسى على طلبها: قالي الفرخة الأول ولا البيضة
عادت للضحك من جديد حين رأت التعبير المرتسم على وجه نور، ذهول لا يقل عن ذهولها، ثم تابعت تكمل البقية: قالي لما يتفقوا على جواب واحد للسؤال ده هيبقى ينفذ طلبي إن شاء الله.
ضحك نور أيضا، لم يستطع أمام ما يسمعه إلا الضحك وهو يقول: هو أنتِ توقعي أي حاجة من عيسى، حتى الردود الغريبة دي توقعيها.
شعرت بأنها أفضل بعد الجلسة هذه، وكأنها اكتسبت جزء من طاقتها المستنفذة تستطيع به أن تبدأ مواجهة من جديد، انتهت جلستهما وعادت للمنزل، صعدت إلى حيث غرفة ميرت وما إن وجدتها مستيقظة حتى هتفت بحماس: كويس إنك صاحية، عايزة اتكلم.
ولم تكد تنهي جملتها حتى وجدته يدخل إلى هنا هو الآخر قائلا: بكره المتطفلين.
هتف بهذا وتمدد على الفراش جوار خالته الجالسة، والتي مسحت على خصلاته بابتسامة حانية وهي تسأل بقلق نتج عن الأثار بوجهه: أنت كنت بتتخانق؟
كانت ملك تطالعه بغيظ ثم أخبرته بانزعاج: كنت عايزة اتكلم معاها لوحدنا.
وأنا تعبان وعايز أنام هنا
رد بابتسامة صفراء ورفع عينيه لخالته سائلا بتصنع البراءة: أخرج يا ميرت؟
هزت رأسها نافية وهي تمنع حدوث هذا: لا يا حبيبي.
فرفع لملك حاجبيه يثير غيظها فقذفت الوسادة عليه وتركت الغرفة بأكملها ولم تكن تدري أنه سيلاحقها ولن يكف، في نفس التوقيت كانت بيريهان لا تكف عن الاسئلة، ماذا حدث وكيف من الأساس، غياب والدها عفا شاكر من الاستجواب ولم يبق سواها، أحضرت له الطبيب ليلة أمس على الرغم من اعتراضه، والآن تنتظره وما إن خرج من المرحاض حتى هتفت: عايزة اتكلم معاك.
بعدين يا بيري.
قالها بانزعاج، كان لا يشغل عقله سوى شيء واحد يريد أن يتيقن منه، هل هي متعبة وبالمشفى حقا، وصار شغله الشاغل الآن أن يتأكد ولكن تابعت بيريهان ثرثرتها قاطعة أفكاره: مفيش حاجة اسمها بعدين، ندى حكتلي اللي حصل
فهتف بضجر: وأظن أنا معفي من أي حاجة، علشان اللي حصل بسبب الهانم بنت عمك وصاحبتها.
مما جعل بيريهان ترد بنفس نبرته: اللي هو إيه اللي حصل أصلا، أنا معرفهوش، مين عمل فيك كده، عيسى؟
تخطاها متوجها للخزانة، خلع قميصه وجذب آخر وهو يقول: بلاش دلوقتي طيب يا بيري علشان فعلا تعبان.
صرخت بهياج وقد طفح كيلها: أنا كمان تعبانة، تعبانة وعايزة أفهم، قولي إيه اللي حصل.
استغرب حالتها هذه واستدار لها سائلا: في حاجة تانية موصلاكي للحالة دي؟
دفعته بكفيها وهو تهتف بوجع مزقها: في إني عايزة أفهم.
قبض على خصرها، أحاطها بذراعه محاولا التحكم في حركاتها التي لا تهدأ وهي تكمل: في إنك من ساعة ما الدكتور جه شافك ونمت وأنت بتنده اسمها
نزلت دموعها وطالعت عينيه ولم تكن خاطئة حين شعرت أنهما رقا لها وهي تقول بألم: كنت بتقول ملك.
وهل هناك رد، وحتى لو هناك، بذور الشك عرفت مكانها، فؤادها كان التربة الأنسب، أما عنه فكان رده احتضانها، أمام نظراتها خارت حصونه، كم هي بريئة لا تستحق وكم هو وغد، أعطته الحب ولا يعطيها سوى الغدر، تجلس جواره طوال الليل خوفا عليه ويرد هو الجميل بأن يكون اسم غيرها هو المنطوق، فنطق بما شعرت وكأنها تسمعه للمرة الأولى: أقسم بالله ما حد يستاهل في حياتي أحبه غيرك أنتِ.
كل تصريحات الحب السابقة شيء، وما قاله الآن شيء، المميز الآن أن ما تفوه به يشعر به كليهما وليس واحد فقط، وبقى هو يتساءل بصدمة: هل أحبها هي الآخرى حقا، لم تكن في حساباته، كانت مجرد محطة عابرة ولكن ماذا يفعل الآن وهو يشعر بقلبه ينتفض لأجلها، أي كارثة حلت عليه لتجعله يحب اثنتين هو على يقين أن واحدة منهما ستكون مصدره هلاكه إن لم ينج.
التعليقات