رواية بشرية أسرت قلبي الجزء الثاني للكاتبة آية محمد رفعت الفصل العاشر
(وانزلق القناع! )
بمملكة الحوريات.
عادت ألماندين للمملكة، فما أن علمت رودوليت بعودتها حتى أسرعت إليها، فشقت الابتسامة وجهها وهي تسألها: تخلصتي منه، أليس كذلك؟
جلست على الأريكة القريبة منها بآلية شديدة، فقالت رودوليت: ماذا حدث؟
تحررت عقدة لسانها وهي تخبرها بثباتٍ: لم أستطيع فعلها.
رددت باستنكارٍ: أتمزحين!
لمعت عينيها بدمعاتٍ حزينة، فمسحت طرفي مقلتيها قبل أن تنتبه إليها، اقتربت منها الملكة لتجذبها بشراسةٍ حتى تقف مقابلها: أخبريني ماذا حدث؟
أفصحت عما بقلبها بصراخها المكبوت: أحببته أمي.
جحظت عينيها وهو تحاول ترجمة تلك الكلمات التي تفهم مغزاها جيداً، تراجعت خطوة خلف خطوة وهي تشير بيدها بانفعالٍ: لا أصدق.
قطعت تلك المسافة بينهما، لتستميلها بعاطفتها: لا أريد الإنتقام لما حدث مع أمي. هي من أردت قتل الملكة كان رد فعل طبيعي للدفاع عن نفسها.
انكمشت ملامح وجه رودوليت، وكأنها كبرت الف عاماً، ما فعلته طوال تلك السنوات ضاع هباء، الدمية التي انتزعت حياتها لتتمكن من التحكم بها قطعت خيوطها لتخبرها ببدايةٍ حريتها، عواصف رعدية ضربتها لتنقلب حدقتيها بغضبٍ لا مثيل له، فصاحت بعصبيةٍ بالغة: أخطأت حينما وضعت بكِ ثقة لا تستحقيها.
عاتبتها ببكاءٍ: أمي!
صرخت بجنونٍ وقد أثلج صدرها بتحمل ذاك السر: لست أمك. لا تناديني هكذا مجدداً والا إقتلعت عنقك.
ظنتها ألماندين غاضبة مما فعلته، فقالت بدموعٍ غطت وجهها بانكسارٍ: أعلم أنني كنت أملك الوحيد للإنتقام، ولكن خالتي لم أملك سلطان على قلبي اللعين الذي أحبه.
حدجتها بنظرةٍ قاتلة، وهي تردف بغضبٍ ثائر: أخطأت من البداية حينما أبقيت على حياتك.
تصلب وجهها بدهشةٍ وهي تحاول فهم ما قالته، فاستطردت الملكة بكرهٍ شديد: سئمت رسم دور الخالة التي تحب ابنة شقيقتها الراحلة حينما أتيت بكِ إلى هنا كنت أطمح بأن تكوني سلاحي بالقضاء على لوكاس وابنه، ومن ثم تصبح المملكة تابعة إلي.
جلدت روحها قبل أن يستهدف جسدها، ظنت بأنها تتوهم سماع ما استمعت إليه، ليت هذا اليوم المنتظر لما يأتي من الأساس، بللت ألماندين شفتيها القاحلة ثم قالت بتوجسٍ: ماذا تقصدين؟
تعالت ضحكاتها الشيطانية المخيفة، لتجيبها بجمودٍ وهي تطالعها بنظراتها الحادة: رودوليت لم تخسر أبداً أمام أحداً، ومثلما حرمتك من أمك خمسة وعشرون عاماً سأستغلك الآن حتى أحصل على ما أريد منها.
هاجت وماجت وخرجت عن هدوء صدمتها، فاحتقن وجهها بحمرةٍ جلية. وارتفعت نبرة صوتها صارخة باحتجاجٍ: أمي على قيد الحياة!
ثم رددت بتشتتٍ: إن لم تكن درين أمي، ابنة من أنا!
صراخها المنفعل لم يحرك ذرة من مشاعرها القاسية، فأشارت بيدها للحوريات اللاتي حاوطنها ليضعوا السلاسل الحديدة عليها ومن ثم ألقوا بالتعاويذ عليها حتى لا يتمكن أحداهم بفكها، أمرت الملكة رودوليت باسقاطها بدمام الظلام، ففقدت ألماندين قواها جراء تلك الصدمات القاتلة التي أفتكت بها، فكانت تتحرك بينهما بهدوءٍ تام وعينيها تتابع رودوليت التي صعدت لتجلس على عرشها بجفاءٍ وكأن شيئاً لم يكن، سقطت دمعاتها في صدمةٍ وإنهزام، وانخرطت بموجةٍ مؤلمة، يتخلالها ألف سؤال دون أي جواب قد يريح عصبة تفكيرها!
أشعل جوردن مواقع التواصل الإجتماعي بعدد من الصور التي تحمل عنوان«حياة كاملة على كوكب كيبلر! »، وأخذ ينشر مقاطع فيديو حية استطاع التقاطها لإيمون وهو يتحدث مع إريكا، وعدد من الكائنات المدربة لخوض الحروب بصحبة جنود المملكة، انطلقت التغريدات وإحتلت المقاطع رؤؤس العناونين، ما بين مشكك بأن الصور زائفة وما بين مؤيد بأنها حقيقية بالفعل وخاصة بوجود فتاة من البشر، استيقظت إريكا من نومها على صوت الهاتف الذي لم يكف عن الرن، فرفعته وهي تردد بنومٍ: ماذا هناك حتى تزعجيني بالصباح؟
جحظت عينيها حينما استمعت لصديقتها تخبرها بجديةٍ تامة بأن تفتح التلفاز بالحالٍ، هرعت إريكا لجهاز التلفاز ومن ثم أشغلته على قناةٍ عشوائية، سقط الهاتف من يدها بصدمةٍ عظيمة، وضغطت على شعرها بقوةٍ وهي تصرخ بجنونٍ: ماذا فعلت جوردن!
سقطت على الأرض باكية بصوتٍ مرتفع، فأسرع إليها كيفن ليقتحم غرفتها بهلعٍ: هل أنتِ بخير؟
أشارت له بالنفي وهي تشير على التلفاز، استدار الأخير برأسه ليرى مقطع فيديو مسجل لابنته وهي على كوكب كيبلر بصحبةٍ إيمون، السر الذي تعهد هو وعائلته بأن يصونه فتشته ابنته الحمقاء لأجل حبها الأهوج!
مرر يديه على جبينه بقوةٍ وهو يحاول التفكير في سبل آمنة، ولكنه فشل بذلك، فصرخ بابنته بتعصبٍ شديد: أخبريني كيف حدث ذلك؟ ومن الذي التقط تلك الصور!
أتت لينا و روكسانا للغرفة على أثر صراخه، ففزعت كلاً منهن حينما رأت ما تتداوله الأخبار، تحولت عين روكسانا بصعوبةٍ تجاه إريكا التي بدأت بسرد ما حدث بقهرٍ، ومن ثم ختمت قولها بكلماتٍ أخيرة: لا أعلم كيف فعل ذلك! ليتني تخليت عن غروري لما حدث كل ذلك.
صاح بها كيفن بانفعالٍ: أي غرور هذا الذي يجعلك تفشين سراً تعهدتي بحمايته؟
ثم ضغط بيديه على وجنتها وهو يستكمل بتعصبٍ شديد: أتعلمين بعواقب ذلك على المملكة!
تدخلت روكسانا على الفور، فدفعته بعيداً عنها، وهي تشير لرفيقتها: دعنا بمفردنا قليلاً. هيا لينا أصطحبيه للخارج.
أومأت برأسها ببكاءٍ، فتمسكت بذراعيه لتخرجه من الغرفةٍ لتتبقى روكسانا بمفردها مع إريكا، كفكفت دموعها بخزي مما ارتكبته بحقها، ثم قالت بصوتٍ متحشرج: أعتذر كثيراً عما فعلته. كنت أظن أنها الطريقة الوحيدة التي ستجعله يعلم بأنه يحبني.
واسترسلت بكلماتٍ متقطعة: لم أعلم بأنه حقير سيلتقط تلك الصور.
احتضنت بيدها وجهها الأحمر من فرط البكاء، ثم قالت بابتسامةٍ صافية: لا عليكِ حبيبتي. أعلم لماذا فعلتي ذلك.
بكت بتأثرٍ من محبة روكسانا إليها بالرغم مما فعلته، فاحتضنته وهي تبكي بانكسارٍ: سامحيني خالتي. أخجل من التطلع بعينيكِ ولا أعلم كيف سأوجه ديكسون.
ربتت على ظهرها وهي تخبرها بحنانٍ: اتركي أمره لي.
ثم أغلق عينيها لتناديه ليحضر أمامها مثلما إعتادت ولكن تلك المرة لم يستجيب لندائها مسرعاً!
استمع لصوتها المنادي، فكور يديه بغضبٍ شديد لتأخره بالظهور من أمامها، كان ما زال ينتظر عودة ألماندين التي تأخرت عليه كثيراً، ظل طوال الليل ينتظرها حتى الصباح ولم تأتي، عادت روكسانا بطلبه من جديدٍ، فتخل ديكسون عن وعده بانتظارها ليتخفى سريعاً ومن ثم ظهر أمامها بالحال، فوجدها تجلس جوار إريكا الباكية، ابتسامة ساخرة ارتسمت على وجهه فسبق روكسانا قبل أن تتحدث: ما بكِ إريكا هل ألمك ما فعله حقاً أم لان حقيقته كشفت باكراً!
اندهشت روكسانا من علمه بما يحدث هنا، فقالت باستغرابٍ: هل كنت تعلم بما ينوي فعله؟
تطلع لها بثباتٍ عجيب، فافتربت منه لتضع يدها على كتفيه لتناديه بصدمةٍ: ديكسون!
تحرك فكيه ناطقاً بسخطٍ: أجل كنت أعلم وتركته يفعل ما يحلو له حتى لا يعارضني أحداً على القرار الذي سأتخذه الآن.
رفعت حاجبيها بذهولٍ: عن أي قرار تتحدث؟
نُقلت نظراته تجاه إريكا وهو يتحدث بصرامةٍ مخيفة: من الآن وصاعد لن يكن مرحب بها بالمملكة.
صعقت إريكا، فنهضت عن الفراش ثم ركضت لتقف أمامه لتخبره ببكاءٍ حارق: أرجوك ديكسون لا تفعل ذلك. صدقني لم أعلم بما ينوي فعله أرجوك أعفو عني.
حدجها بنظرةٍ يطوفها نيران عظيم كادت بحرقها، فصاحبته لهجة قاتمة: من تعرض مملكة بأكملها للخطر لأجل الإنتقام من الشخص الذي إعترف لها ببساطةٍ بأنها صديقته لا تستحق العفو.
تحطم قلبها فشعرت بأن ساقيها لم تعد تحملها فجلست أرضاً تتطلع له بحسرةٍ، فلم يرحمها بكلماته واستكمل بعتابٍ قاسي: كنتِ صديقتي الوحيدة، ائتمنتك على كل شيء حتى سر شعبي ومملكتي وماذا فعلتي أنتِ؟
جلست روكسانا أرضاً لتحتضنها وهي تردد بضيقٍ: ديكسون كفى.
ثم قالت برجاءٍ بدى بطلبها: انهي هذا الأمر قبل أن يعلم الملك به.
منحها نظرة أخيرة قبل أن يختفي من أمامهما، فانفطر فؤاد روكسانا على ما فعلته إريكا بذاتها، فرفعت وجهها لتكون مقابلها فرددت إريكا بانكسارٍ: لا أحداً يحبني خالتي. لا أحداً يشعر بوجعي.
ردت عليها بابتسامةٍ ما زالت تتحلى بها حتى بالرغم ما حدث: إنكِ فتاة حمقاء حقاً. طوال تلك السنوات لم ترى عينيك سوى ديكسون الذي لا يبالي بأمرك بينما في الجهة الأخرى هناك من يئن قلبه وجعاً كلما سقطت دمعة من عينيكِ، يخاف من حدة ما واجهتيه حينما رفض ديكسون حبك فكان هو يهتم لأمرك أكثر من نفسه، يبهت وجهه حينما تغادرين وتعود اشراقته بعودتك مجدداً.
ضيقت عينيها في ذهولٍ وهي تستمع لوصفها الدقيق عن شخصاً لم يسبق لها رؤياه، فسألتها بلهفةٍ: من تقصدين؟
عاونتها روكسانا على النهوض ثم ربتت على يدها لتخبرها قبل أن تخرج لكيفن: عليكِ التعرف عليه بمفردك.
وتركتها بمفردها، فكاد رأسها أن يتوقف من فرط التفكير بالأمر، بالرغم من أن الأشخاص بحياتها يعدون على الأصابع؛ ولكنها استبعدت التفكير بالمملكة فكانت تبحث بلائحة أصدقائها المقربون وبالرغم من أن إيمون يحتل مركزاً هام بها الا أنها استبعدته تماماً.
أنعش نفسه بحمامٍ ساخن، ثم خرج يدندن مع ألحان تلك الأغنية التي يستمع لها من سماعات هاتفه المتصلة بأذنيه، ثم أخذ يجفف شعره بالمنشفة ليستعد لتلك المقابلة التليفزيونية الهامة، أبعد جوردن المنشفة عن وجهه بعدما تأكد من أن المياه قد جففت تماماً، فأنكمشت معالم وجهه رعباً حينما وجد ديكسون يجلس من أمامه، تلقائياً ذهبت نظراته لباب منزله ونوافذ الشرفة وهو يهمس بتعجبٍ: كيف دخلت إلى هنا!
أصبح أمامه في لمح البصر، فجف حلقه من فرط الإرتباك، التهبت عين ديكسون وهو يخبره بعداءٍ شديد: هل كنت تظن بأنك ستنفد بعملتك؟
اصطكت أسنانه ببعضها البعض حينما وجد لهيب نيران يكتسح حدقتيه ليختفي لونهما نهائياً ولم يعد يملأها سوى ذاك الشعاع المتوهج بالنيران التي شعر بحرارتها حينما اقترب الأخير منه، فرفع يديه المرتجفة ليشير له بخوفٍ: لا تقتلني أرجوك. سأفعل ما تريد.
وجد نظراته تشتعل نيراناً لم تؤثر به كلماته، فعاد ليقترح: لن أذهب أبداً للبرنامج الإعلامي.
أجابه بغموضٍ: بلى ستذهب وستفعل كما أريد.
هز رأسه أكثر من مرة وهو يرى تلك الأشعة المخيفة التي تلمع بعينيه، ففعل كما أراد حينما استضيف بالبرنامج أخبرهما بأنه بارع في استخدام تلك التكنولوجيا، وأكد لها بأن تلك الكائنات من وحي خياله وبشأن إريكا قال كما أخبره ديكسون بأنه كان معجب بها طوال فترة الدراسة الجامعية لذا حينما وضعها بفيديو هكذا كان يطمح أن يثير إعجابها، فأثنت عليه المذيعة وخاصة بعدما تدخل ديكسون ليغير مسار الفيديو بأكمله ليجعله نسخة بعيدة عن الواقع، انتهت المقابلة وعاد جوردن لمنزله مرتعباً من أن يلاحقه مجدداً فكان يجلس على الفراش وعينيه تراقب باب الغرفة والنوافذ جيداً، سُلب قلبه حينما وجد كيانه يتشكل ليظهر أمامه من جديدٍ، فسقط أسفل الفراش وهو يتراجع للخلف ليهمس برعبٍ: فعلت كما أخبرتني. ماذا تريد بعد؟
ارتفع جسد جوردن بالهواءٍ، ومن ثم جذبته قوة خفية ليصبح أمام أعينه مجدداً، فخرجت نبرته الساخطة: إبتعد عن إريكا.
ردد بخوفٍ مما سيقوله: لا أستطيع. أنا أحبها حقاً.
لفحت الحرارة نصف وجهه لتحرقه كماء النار، فصرخ ألماً فلم يجد سوى أن يحرر ذاته من ذاك العذاب حينما صرخ بتقبلٍ: حسناً سأفعل. اتركني.
تركه ديكسون ليسقط أرضاً، يتلوي ألماً وهو يحتضن نصف وجهه المشوهه، هكذا كان العقاب المناسب لمن يجرأ على مس السوء بمملكته وشعبه، ذاك المعتوه الذي ظن نفسه ذكي ليجني الشهرة والمال، وبالرغم مما فعلته إريكا الا إنه رفض أن يتركها له خشى أن يستغلها مجدداً فضمن الآن بأنه لن يجرأ على الإقتراب منها.
أثنت ركبتيها إلى صدرها وقد تركت العنان لتلك الدمعات الحارقة تغسل روحها المعذبة، لم يعنيها ذاك المكان المظلم بجوف الأرض ولا السلاسل التي تقيد قدميها بإحكامٍ، كل ما يشغل عقل ألماندين تلك الحقائق البشعة التي دمرتها كلياً، فأن لم تكن ابنة شقيقتها إذاً من تكون!
والمؤلم بأنها كانت تستغلها طوال تلك السنوات لأجل هدفها الدنيء، إنسدل شعرها الرمادي ليغطي وجهها الباكي، فأغلقت عينيها بقوةٍ لتعاد كلماته كإستعراضٍ يذكرها بما قاله
«قلبك يعرفني جيداً! »
سمحت لثقل جسدها بالترنج أرضاً، وأخر ما تردد على لسانها المعقود: ديكسون.
بمملكة الشارق.
عقد الإجتماع ليحضره كل ذو منصب هام، امتلأت المقاعد المسطحة بحاكمي المملكة، ولجوارهما كان يخطو سامول عاقداً يديه من خلفه بهدوءٍ ممت، يستمع للإقتراحات المقدمة من قبلهم، فمنهم من رأى بأن عليهما إنذار بيلين قبل مهاجمته وآخرون كانت وجهة نظرهما بأن يحاول سامول أن يعرف ما الذي يريده بالتحديد، انقطعت الهمسات الجانبية فيما بينهما حينما جلس الملك سامول على عرشه، ليصيح بحزمٍ غير قابل للنقاش: سنهاجم مملكة ميغالودون غداً.
كان قراره بمثابة لاصق قوي لأفواههم، وخاصة حينما استكمل بصرامةٍ وحسم: كونوا على استعداداً لذلك.
ثم انتصب بوقفته ليغادر القاعة ونظراته تطوف بأحداهما بخبثٍ، وكأن الخطة التي وضعها مسبقاً على وشك أن تكتمل!
فما أن تأكد أمادي من مغادرة سامول للقاعة حتى هرع لمملكة ميغالودون ليحذر بيلين.
وقف ديكسون بالشرفة ينتظر روكسانا التي قررت العودة لاشتياقها لمعشوق روحها، حاولت إريكا أن تتحدث معه؛ ولكنه لم يترك لها مجالاً لذلك، فما أن خرجت روكسانا حتى حملها وانطلق عائداً لعالمه، انفطر قلب إريكا فاحتضنتها لينا لتردد بحزنٍ: لا عليكِ حبيبتي. سيتفهم الأمر.
ابتعدت عنها، قائلة بتعاسةٍ هدمتها: لا أظن ذلك.
ثم هرولت لغرفتها لتكن بمفردها قليلاً كما إعتادت كلما عصف بها الألم!
بمملكة ميغالودون.
سمح التابع له بالدخولٍ، فولج مهرولاً ومن ثم انحنى ليقدم للملك التحية ثم بدأ بسرد ما أتى لأجله: اكتشف سامول بأن لوكاس لم يكن خلف ما حدث لشقيقته وأصدر الأوامر بالهجوم على المملكة غداً.
ضحك الملك بيلين حتى برزت أنيابه الحادة المتعطشة للدماء، فردد ساخراً: لن يأتي الصباح الا ورأسه معلقة على أسوار الشارق هو وجيشه بأكمله.
ثم أشار بيديه، قائلاً: إنصرف الآن.
أخفض رأسه وهو يهمس بخوفٍ من لهجته: حسناً.
ثم غادر أمادي من المملكة، ليتجه عائداً من حيث أتى، وقبل أن يقترب من الشارق شعر وكأن هناك من يتبعه، توقف عن استكمال طريقه وهو يحاول جاهداً أن يستكشف هوية من خلفه، استدار للخلف فتهدلت معالمه حينما لم يجد أحداً ثم التفت ليستكمل خطاه فارتعشت أطرافه في هلعٍ حينما رأى سامول يقف من أمامه بوقاره المهيب ونظراته الساكنة، لعق شفتيه بتوترٍ وهو يحاول إيجاد المناسب لقوله: ذهبت آآ…
قطعت كلماته حينما إبتسم سامول ليعفيه عن إجابته من ذاك السؤال المخيف: لا عليك أمادي أتفهم الأمر ولكن هناك ما لم تستطيع أنت فهمه.
انحبست أنفاسه في جوفه من فرط رهبته، فاستكمل سامول بإصرارٍ شرس مسدداً ضربة قوية له بحافة سيفه أسقطته أرضاً: أنا لست أحمقاً أيها الأبله.
تمالك نفسه زاحفاً للخلف، ليتمكن من النهوض على قدميه، أخرج أنيناً موجوعاً وهو يكافح الحفاظ على اتزانه المفقود ليشير بيده: لم أفعل شيئاً مولاي.
وامسك بقدميه ليستعطفه بتوسله المخادع: بيلين هددني بالموت إن لم أخبره كل شيئاً يحدث بالمملكة. صدقني كنت مرغوم على فعل ذلك.
لف يديه حول عنقه، ثم جذبه لينهض من أمامه، ليهمس بفحيحٍ سد عليه حجته التي ظنها مخرجاً مناسب: لا مكاناً بمملكتي للضعفاء أمادي.
لم يفهم مغزى حديثه الواضح الا حينما ظهرت من أمامه الأوربوروس بمظهرها المخيف، وطولها المفزع، زحفت بنشاطٍ لا يتناسب مع طول حجمها لتقف من أمام سامول بانتظار اشارته، نصل السيف الذي تحملها بفمها يصل لمنتصف جسدها الأسود، تجمد جسد أمادي محله وهو يتأمل أغرب ما رأته عينيه، عاش عمره كله بمملكة الشارق ولم يرى صديق سامول الوفي!
رفع سامول كفة يديه ثم أطبقها على بعضها البعض كإشارة واضعه لها بما يجب فعله، وبالفعل فور إنتهائه هاجمت أمادي ومن ثم لفت جسدها حوله لتعتصره بقوةٍ وشراسة جعلت عظامه يطقطق كالزجاج الهاش ومن ثم فتت لحمه المتبقي لتنثر به كالدماء السائلة!، تأمل سامول ما يحدث بنظرةٍ ناقمة ومن ثم دعس الدماء بقدميه وهو يهتف بغضبٍ شديد: وما سيكون جزاء من يخن سامول سوى ذلك!
اختبرت الجلوس أمام مياه الشلال تتأمل حدة أمواجه الشرسة بانبهارٍ، ولأول مرة ترى مكان سري تغرقه المياه من جميع الإتجاهات هكذا، رؤية قاع الشلال وما يحويه كانت أسمى أمنياتها فعلى الرغم من قدرتها بالتحول لالسيرانة الا أنها لم تتمكن من الغوص أسفل الشلال بمسافةٍ كذلك، كل شيئاً موجود بذلك المكان بعث بنفسها البهجة والسرور، استدارت زمرد تجاه أركون الجالس لجوارها ثم تمسكت بيديه وهي تخبره بحماسٍ: لم أرى مكانٍ ساحر هكذا. شكراً لك أركون.
سماعه لإسمه، تمسكها بيديه، فرحتها الواضحة، كل تلك الأحاسيس جعلته يود البوح عما يسكن بخلاياه، تعلقت عينيه بيدها المتمسكة به، فحارب رغبته بأن يتمسك بها، وبالنهاية انتصرت تلك الرغبة الجامحة، فرفع يده الأخرى ليضعها فوق يدها، التفتت تجاهه فالتقت نظراتهما معاً بلقاءٍ طويل أفتكت به فجعلتها كالساحرة التي ألقت عليه تعويذة البوح، فهمس بعشقٍ تتبعه ليشجعه بالحديثٍ: كنت أتساءل ما الذي حدث معي بعدما رأيتك لأول مرة، لا أعلم لما خفق قلبي بعنفٍ حينما انغمست عيني بالتطلع إليك، وحينها لم أفكر بشيئاً سوى ذلك اللقاء، حتى في هذا اليوم الذي رأيتك تتعرضين به للهجوم كنت أظن نفسي أتوهم بأنني أراكِ لولا وجود إيمون معي لما ظننته حقيقة!
اشتعلت وجنتاها بحمرةٍ ساخنة من سماعها لما قال، فأطرقت رأسها للأسفل خجلاً منه، صمتها دفعه للبوح بالمزيد من مكنونات قلبه، فنهض لينحني على قدميه ثم أمسك بيدها معاً وهو يستجمع كلماته المشتتة ليختمها بكلمةٍ واحدة: أحبك زمرد، وأود قضاء عمري بأكمله معكِ.
تطلعت له على استحياءٍ، ثم سحبت يدها لتنهض مبتعدة عنه، ظنها رفضته فجلس محله حزيناً، استدارت تجاهه وهي تفرك أصابعها بترددٍ كسرته حينما قالت: كنت أعلم بأنك تشعر بشيئاً تجاهي.
نهض مجدداً وهو يتطلع لها، فأخفضت نظراتها سريعاً وهي تسترسل: وذلك لم يضايقني بل كنت سعيدة أركون.
دنا حتى صار قريباً منها، ليسألها بشكلٍ صريح: هل تحبينني زمرد.
منحته ابتسامة مشرقة، كانت جواب صريح على سؤاله، فاحتضنها بفرحةٍ ورغم خجلها لم تستطيع منعه، فقد وجدت نصفها الأخر الذي شعرت به منذ لحظة بلوغها كغيرها من فتيات كيبلر.
ما أن وطأت قدميها المملكة حتى بحثت عنه بشوقٍ ولهفةٍ، أفقدها الإشتياق له زمام أمرها فكانت كالطفلة الصغيرة، ارتسمت ابتسامة معسولة على شفتيها الوردية حينما رأته يقف بصحبةٍ لوثر، تناست كل شيئاً وهرعت إليه بلهفةٍ وشوق: لوكاس.
طلت بهجته من جديدٍ، فتخفى ليكن الأسرع إليها، احتضنها مطولاً وكأنها غابت عنه لقرونٍ وأزمنة، همس جوار آذنيها برغبةٍ: اشتقت لكِ كثيراً.
ابتعدت لتطل بوجهه، تتأمله قدر ما استطعت، تروي ذاك الظمأ الذي يقتلها، ثم رددت بشغفٍ: شعرت بالوحدة بدونك. فلم أحتمل البعد عنك أكثر من ذلك.
حسناً، هل أقاطعكما!
كلمات منزعجة قالها ديكسون وهو يراقبهما بضجرٍ، ابتعدت روكسانا عنه بوجهاً متورد بعدما لاحظت وجود بيرت و لوثر، فتنحنحت بحرجاً وهي تحاول إلهاء ذاتها بالتطلع لمائدة الطعام العامرة، فزعت روكسانا حينما ارتد جسدها للخلف فجأة فوجدت إيرلا تحتضنها بتملكٍ وهي تردد بصوتٍ واهن: لا تذهبي مجدداً أمي.
وزعت نظراتها المندهشة بين لوكاس و ديكسون فلم يكن حالهما مختلفاً عنها، لمعت حدقتي روكسانا بالدموعٍ، اشتاقت لذاك العناق القوي وكلمة أمي التي تختزل مشاعرها، رفع أذرعها المتصلبة لتحاوط خصرها ثم قالت بصوتٍ باكي: لن أذهب لأي مكان مجدداً.
ثم ابعدتها عنها تزيح دمعاتها بحنانٍ، لتضيف: أنا هنا.
اومأت برأسها ثم ابتسمت لتبتسم الأخرى بفرحةٍ عامرة، على صوت الملك الوقور قائلاً: الطعام سيبرد. هيا.
اجتمع الجميع حول المائدة، فقال الملك شون ببسمةٍ هادئة: كيف كانت رحلتك روكسانا؟
فور نطقه بتلك الكلمات تطلعت روكسانا لديكسون ثم رسمت ابتسامة شبه مصطنعة وهي تجيبه: جيدة والجميع على ما يرام.
أومأ برأسه بهدوءٍ، ثم عاد ليتساءل: أين راوند؟
أجابه بيرت بذهولٍ: كانت هنا منذ قليل!
اختلى إيمون ب ديكسون ليسأله بشكٍ: أخبرني ما الذي حدث بينك وبين إريكا؟
ابتسم وهو يجيبه بسخريةٍ مدعياً الإنشغال بارتشاف كوب العصير الذي بيده: تخاف عليها وكأنها تهتم لأمرك.
قال بحدة وهو يبعد الكوب عنه: أخبرني ديكسون.
زفر بمللٍ فهو يعلم بأنه لن يتركه الا حينما يخبره بما حدث، فقص على مسمعه ما فعله ذلك المعتوه، وما فعله بها، انتهى من قص ما حدث فقال إيمون بوجومٍ شديد: بات قلبك قاسٍ. ما ذنبها بما حدث؟
رد عليه بعصبيةٍ: ما ذنبها!، هي التي أجبرتني على نقله إلى هنا إيمون. تلك الحمقاء ظنت بأنني سأغير منه وأخبرها بأنني أحبها كيف أجعلها تستعب بأنها كشقيقتي وأن بقلبي فتاة أخرى غيرها!
تحمل وجع الكون بداخله في تلك اللحظة، فتماسك وهي يخبره بيأسٍ: دعك من الأمر فلن تفهم بطبيعة الحال.
ثم طلب منه برجاءٍ سكن حدقتيه: أريد رؤيتها ديكسون، ستحتاج إلى علها وحيدة!
حزن ديكسون على حاله، فكز على أسنانه وهو يردد بغيظٍ: فتاة حمقاء لا تستحق هذا الحب الذي ينبض بداخلك يا رجل.
اخشونت نبرته: ستعود لتبوخيها من جديد.
ردد ساخطاً قبل أن ينتقل به: سحقاً لك.
ومن ثم تخفى ليظهر به بشرفتها ثم غادر ليخبره بأنه سيعود بعد قليل.
بتلك اللحظة لم يعنيه هذا العالم الذي يراه لأول مرة، فكيف سيجذبه التطلع له وهي عالمه!، وجدها تجلس بمنتصف الفراش تضم قدميها لصدرها وشهقات بكائها تهز جسدها بعنفٍ، إقترب وهو يدعس ألم قلبه حتى يرسم ابتسامة صغيرة، وضع إيمون يديه على يدها وهو يناديها: إريكا
رفعت رأسها فصدمت حينما رأت إيمون يجلس من جوارها، فابتسمت وهي تهمس بعدم تصديق: إيمون!
منحها ابتسامة صافية، فشكت له دموعها ما مرت به، تعلقت بأحضانه وهي تبكي بانهيارٍ وتخبره بصعوبةٍ بالحديث: رأيت ما حدث! ليتني لم أفعل ذلك.
مسد بيديه على ظهرها وهو يخبرها بألم تتخلل نبرته: لا بأس إريكا سيمر.
ابتعدت عنه وهي تقول ببكاءٍ: لن يمر شيئاً إيمون، حتى ديكسون لن يسامحني بعد اليوم.
وضع كف يديه على يدها ثم قال بهدوءٍ: دعي أمره لي. ولكن هناك مقابل لأفعل ذلك.
ضيقت عينيها بذهولٍ: أي مقابل هذا!
رفع أصبعيه ليمسح عينيها، قائلاً: لا أريد رؤية دمعاتك هذة. كفى حزناً إريكا أفعلي ما يجعلك سعيدة فحسب فتلك التعاسة ليست مقدرة لكِ.
أشارت له بابتسامةٍ صغيرة: سأفعل.
ثم تساءلت بدهشةٍ: ولكن أخبرني لماذا أتيت إلى هنا؟
أجابها بلهجةٍ ساخرة تعمد بها رسم البسمة على شفتيها: برأيك من كان سيرسم تلك الابتسامة الساحرة على وجهك البائس!
ضحكت بصوتٍ رد الحياة إليه، فابتسم وهو يشير لها بجديةٍ: ليت الضحك والسعادة تملأ حياتك إريكا.
صفنت بعينيه التي تتطلع لها، فانتبه لنفسه ثم نهض وهو يشير لها بتهرب من التطلع لها: حسناً سأغادر الآن قبل أن يغضب ديكسون.
ثم أشار لها بيديه وهو يبتعد خطوة تلو الأخرى وكأنه يدفعها بها لذكرياتٍ منحتها الإجابة الصحيحة لما قالته روكسانا، أجل أنه إيمون ذلك الذي يعشقها أكثر من نفسه، الحق مع روكسانا كانت حمقاء حقاً لم تشعر به، فظنت الارتياح والسعادة التي تشعر بهما معه من سمات الصداقة الناجحة، رأته يخرج من غرفتها للشرفة وقبل أن يصل لنهايتها ركضت خلفه وهي تناديه عالياً: إيمون.
استدار للخلف ليجدها تهرول إليه، احتضنته وهي تردد ببكاءٍ: كنت حمقاء حقاً حينما لم أشعر بك وبمشاعرك تجاهي.
أغلق عينيه بقوةٍ يحارب ما يستمع إليه، يقنع ذاته بأنه يتوهم ولكن تمسكها به واقع ملموس، أحاطها بذراعيه ثم قال بحزنٍ: كنت أعلم بأن تلك اللحظة ستأتي ذات يوماً. وحينها ستشعرين بما فعله حبك بقلبي البائس.
تطلعت لعينيه وهي تسأله بفرحةٍ: ألهذة الدرجة تحبني!
تعمق بالتطلع لها وهو يخبرها بابتسامةٍ ألم: أعشق تلك البشرية التي زارت المملكة حينما كان عمرها لا يتعدي الرابعة عشر.
ابتسمت بسعادةٍ ثم عادت لتحتضنه، فأتاهما صوت ديكسون من خلفهما: إن أردت البقاء فليكن. سأعود للمملكة وأدعك هنا قليلاً تختبر حالة عظيمة من التنمر على شكلك المخيف بالنسبة إليهم.
حدجه بنظرةٍ مغتاظة، فهبط ليصبح جوارهما، ليقف أمام إريكا التي تضع عينيها أرضاً حرجاً لتجاهد لخروج الكلمات: سامحني على ما فعلته.
نقل نظراته لإيمون الذي قال: هيا ديكسون الأمر خارج عن إرادتها.
ابتسم وهو يشير لها بجديةٍ: قسوت عليكِ لأنني لا أريد رؤيتك ضعيفة يتحكم بكِ هذا الأجدب بسهولة.
اتسعت ابتسامتها وهو يقول: سامحتك قبل أن أعود للمملكة ولكني أردت أن أعذبك.
احتدت نظرات إيمون، فأوضح بمرحٍ: حسناً، قليلاً.
تعالت ضحكاتها وهي توزع نظراتهما فيما بينهما، فأمسك ب إيمون وهو يخبره: لنرحل الآن.
وجده يتطلع لها بحزنٍ وهي تبادله النظرات الحزينة، فسألها بمكرٍ: هل إنتهت أجازتك؟
نفت ذلك بإشارة رأسها فحملها هي الأخرى ثم تخفى بهما ليعود للمملكة مرة أخرى.
بمملكة الحوريات.
تجمعات الحوريات بأكملهن لمشاهدة هذا اللقاء النارد، الذي يجمع بين ملكتين من عظماء ملكات الحوريات، وقفت كلاً منهن في مواجهة الأخرى، فمزق راوند صفحات الصمت بصوتٍ جمهوري: مازال الشر يقبع بدمائك رودوليت، ألا تخافين أن يصبح مصيرك مثل شقيقاتك!
احتدت نظراتها فكادت بأن تقتلع عنقها، فتماسكت وهي تجيبها بحدةٍ: لست ضعيفة مثلهن راوند، الحمقاوات كن يقدمن الولاء للملكة ريلام التي تحالفت مع الملك شون عدونا، ولم يعدن لرشدهما الا بالوقت الخاطئ.
انطلقت شرارت الغضب تباعاً، لتصيح بتعصبٍ شديد: تخطيتي حدودك رودوليت لا تنسي أمام من تقفين هنا!
تعالت ضحكاتها الماكرة، لتردد ساخرةٍ: أنتِ هنا بمملكتي راوند. أمراً صغيراً مني وحينها لن ي…
بترت كلماتها حينما رددت الأخرى بشراسةٍ: افعليها وحينها لا تلومن الا نفسك، ربما نسيتي من أكون، لست ملكة من ملكات الحوريات فحسب بل فرداً من الأسرة الحاكمة لمملكة السراج الأحمر.
تهادت باندفاعها الأهوج فهي تعلم مكانة راوند جيداً، ولكن مازالت تتحكم بمصيرٍ مجهول، تجهله راوند بذاتها، تبخترت بدلالٍ لتصعد درج العرش الكبير، جلست على مقعده ثم رددت وهي تتأملها ببرودٍ: أراكِ تتحدثين بجراءةٍ لا ينبغي عليكِ التحلي بها.
ابتسمت ساخرة: وما الذي سيجعلني غير ذلك؟
أجابتها رودوليت بمكرٍ: ربما ابنتكِ التي فقدتيها منذ خمسة وعشرون عاماً!
ضيقت عينيها باندهاشٍ، ثم قالت باستهزاءٍ: أصبحتي عجوزاً لا تتذكرين التواريخ جيداً رودوليت.
تعالت ضحكاتها الشيطانية المخيفة، ومن ثم توقفت مرة واحدة عنه لتتلبسها الجدية المخيفة: لم تكن ابنتك.
جحظت عينيها بصدمةٍ، فشعرت بأن الأرض تطوف من حولها، فاستكملت حديثها الشبيه بالقنبلة الموقوتة: استبدلت ابنتك بابنة إحدى الحوريات، ألم تجدينها هزيلة، كيف لها بأن لا تمتلك القوة وهي حفيدة ريلام وابنة راوند!
ثم نهضت مجدداً لتقترب منها بالأسفل وهي تشير لها بخبثٍ: لا تقلقي راوند لقد أشرفت على تربيتها بنفسي.
تلقت ضربات متفرقة لم تكن بمقدورها تحملها، الا يكفيها تحمل ذاك العناء طوال تلك السنوات وأخيراً تكتشف بأنها ليست ابنتها!
لم تجد ما تقوله لتلك الشيطانة المزينة بوجهها المخادع، فتساءلت بدموعٍ: لماذا؟
بنظرةٍ كره شديد أجابت: كم إجابة تودين سماعها، الا يكفيك قتل يوليا و درين، وولاء ريلام الخائنة لمملكة السراج الاحمر.
ثم تابعت بسخطٍ: أتعلمين كنت أود قتلها لإشبع انتقامي، ولكن حينما فكرت جيداً وجدت أن هناك طرق أخرى للإنتقام بعيداً عن القتل، وها قد حان الوقت المناسب لاستغلال ذاك السر العظيم.
بتوسلٍ شديد اصطحبه بكاء لا حصر له: لا تؤذيها رودوليت أتوسل إليكِ.
ضحكت وهي تشير لها بغرورٍ: راق لي ذلك.
ورفعت طرف فستانها حتى دنت منها لتبدو على مستوى قريباً، لتخبرها ببطءٍ: ابنتك مقابل الترياق.
ابتلعت ريقها بارتباكٍ: عن أي ترياق تتحدثين؟
بنظرةٍ حفرت بالشر قالت: الترياق الملكي.
أحاطتها الصدمة من طلبها الذي يعد تذكارة دمار للكوكب بأكمله، ذاك الترياق الذي ينتقل من ملكة لأخرى وبداخلهن رغبة عزيزة بعدم الاضطرار لتناوله، ففي أي وقتاً من الأوقات تواجه الحوريات شراً عظيم على الملكة التضحية بذاتها لتتناول ذلك الترياق الشبيه بجرعة الموت، القوة المخيفة التي تستحوذ عليها تجعلها صعبة المنال، تنسى تماماً كناياتها فتصبح كالوحش الأخرق، يقتل كل من أمامه، يموت القلب بداخلها فحتى من أحببته يوماً لا تتعرف عليه، حتى أبناءها وعائلتها، الأمر كارثي بجميع المقاييس، أفاقت راوند من شرودها لتخبرها بشكٍ: وما الذي يدفعني لأصدق أنها ابنتي!
ردت عليها رودوليت بثباتٍ: سأسمح لكِ بأن ترينها.
بمملكة الشارق.
وقف سامول يتابع استعدادت الجنود لتحصين المملكة باهتمامٍ وترقب، وبالرغم من أن الجميع بحالةٍ من الدهشةٍ لأوامره التي تبدلت في لمح البصر من المحاربة صباحاً إلى تحصين المملكة واستعداد تام للمهاجمة بأي وقتاً، الجميع يتلقون الأوامر فقط وينفذون بحزمٍ ونشاط، لم يكن أحداً على علم بما يدور برأسه سواه هو، وضع الخطة المحكمة التي تضمن له انتصاره ثم أبلغ الجميع بخطةٍ زائفة ليضمن وقوع بيلين بحصاره هو!
انتهى سامول من تأمين الجانب الشرقي للمملكة، فعاد للقصر ليتأكد بنفسه من التجهيزاتٍ التي أعدت للقضاء على هذا الخائن المتمرد، وحينما وصل اندهش حينما وجدها تجلس أمام جناحه بترقبٍ للحظة وصوله، فردد بذهولٍ: ماذا تفعلين هنا إيرلا؟
نهضت بفرحةٍ حينما وجدتن يقف أمامها، فأسرعت اليه لتخبره بلهفةٍ: أخبرت أبي بكل شيئاً سامول.
تعجب من شجاعتها؛ ولكن لا يملك الوقت المناسب للتفكير بذاك الأمر، فجذبها برفقٍ وهو يشير لها محذراً: يجب أن ترحلي الآن، سنتحدث لاحقاً.
وقفت مقابله باستياءٍ من معاملته الجافة، فقالت بحزنٍ: مازلت غاضباً مما فعلته!
جذبها حتى هبطوا الدرج سوياً، فاستطردت بقهرٍ: سامحني أبي. ألن تسامحني أنت!
تجاهل حديثها وهو يجذب ذراعيها، مردداً بجديةٍ: ارحلي الآن إيرلا.
تهاوت الدموع من عينيها، لتهمس بصوتٍ محتقن: صدقني سامول لست قبيحة لتلك الدرجة.
أجابها بنبرة حباً صريحة: أعلم إيرلا. أنتِ أجمل مقاتلة التقيت بها بحياتي، جرائتك بالقدوم إلى هنا على الرغم من الخطر الذي ستواجهينه لأجل صداقتك ب زمرد سمات نبيلة لا توجد الا بالمحارب الشجاع الذي لا يهاب شيئاً.
أفتر ثغرها عن ابتسامةٍ نبعت وسط سيل الدمعات، فسألته باستياءٍ: ولماذا تطلب مني الرحيل الآن؟
القى نظرة سريعة شاملة يتفحص المكان من حولها قبل أن يقول بتلهفٍ: المملكة ستتعرض للهجوم بأي لحظة. غادري الآن وغداً سنتحدث.
احتضنته بخوفٍ شديد: أي هجومٍ هذا. لا لن أتركك.
أبعدها عنه ثم مسح بأصابعه على وجنتها برفقٍ: سأكون بخير لا تقلقي.
ثم أجبرها على تتبعه: والآن ارحلي.
توقفت محلها ثم سحبت ذراعيها بقوةٍ: لا لن أغادر بدونك.
كاد بأن يشرح لها من جديدٍ خطورة الموقف ولكن سبقته ضربات العدو التي أعلنت بدء المعركة، ارتعب سامول لأجلها، فحملها سريعاً ليتخفى بها بالممر السري المتصل بجناحه وجناح زمرد، وضعها بالداخل ثم شدد عليها محذراً: أبقي هنا. لا تتحركي قبل عودتي.
أشارت له بهدوءٍ، فخرج سامول ليغلق الباب الحديدي، ركضت خلفه لتمسك به مؤكدة عليه بخوفٍ: كن حذراً.
اكتفى برسم ابتسامة صغيرة، ثم أغلق الباب جيداً ليغادر لساحة المعركة!
يقال أن الأمومة عاطفة تجتاح القلب، تتحرك حينما ترى صغيرك لجوارك، وتزداد حينما يتعرض لأذى أو لسوءٍ، وهكذا ما حدث مع راوند بمجرد رؤيتها لألماندين، حاوط قلبها حنين لا تعلم مصدره، هاجمها الألم لمجرد رؤياها من قبل أن تقترب منها!
قدمت راوند خطوة وأخرت الآخرى بتوترٍ حتى أصبحت مقابلها، كانت تحتضن جسدها بيدها، وتستند برأسها على الحجر الذي ينتهي بعقدة السلسال، استمعت ألماندين لصوت أنفاساً منتظمة بالقرب منها، ففتحت عينيها باستغرابٍ من وجود تلك الحورية الغريبة، كانت تدرس ملامحها ببطءٍ، تحاول أن ترمم بتلك النظرات جرح أعوام من المثابرة والألم، تعجبت ألماندين من نظراتها الغريبة وازدادت حيرتها حينما قربت يدها من وجهها لتردد بصوتٍ خافت: ابنتي!
وكأن بلمساتها تلك أيقظت بداخل ألماندين شيئاً أفتقدته، وجدت ذاتها تتأملها بتعابيرٍ فشلت بفهم كنايتها، تلك الدمعة اخترقت عينيها تأثراً بها، فهمست بتشتتٍ: من أنتِ؟
مررت يدها على وجنتها بحنانٍ: أنا تلك البائسة التي حرمت من ابنتها خمسة وعشرون عاماً، البائسة التي خدعتها رودوليت طوال تلك السنوات.
تأكدت ظنونها فانسدلت دمعاتها بحسرةٍ، ازاحتها راوند برفقٍ ثم احتضنتها بقوةٍ لتردد بعزمٍ: سأفعل أي شيئاً حتى لا يصيبك مكروه.
أحسنتي راوند، والآن أخبريني بمكان الترياق الملكي حتى أحررك أنتِ وابنتك ألماندين.
تشبثت راوند بألماندين وهي تشير للأخرى بشراسةٍ: لن تمسيها بالسوء رودوليت.
قالت الأخيرة بمكرٍ: سيتوقف ذلك عليكِ.
رضخت لرغباتها بانهزامٍ، وهي تعلم بأنها ستضع الجميع بموقفٍ صعب حينما يوجه مخلوق بتلك القوة، صمتها وتفكيرها المطول جعل رودوليت تشير لأحدى الحوريات والتي بدورها رفعت يدها لتحركها بالهواءٍ وهي تردد تعاويذ جعلت السلسال الحديد يطقطق بصوتٍ مرعب، فجذب ألماندين ليجرها بعنفٍ، صرخت راوند بارتياعٍ فخلعت سلسال على هيئة حجر العقيق صغير الحجم ثم هرولت تجاه رودوليت التي تتابع ما يحدث من خلف ذاك الستار المعدني، القت السلسال خلف الحاجز وهي تردد ببكاءٍ: هناك ممر سري بالقصر القديم بجناح أمي هناك ستجدين خزانة مغلقة مفتاحها أسفل قدميكِ، ابتسمت وهي تلتقط السلسال بانتصارٍ، حلمها أخيراً تحقق بأن تمتلك قوة مفعمة بالشر لا يستطيع أحداً إيقافها، تعلم جيداً ما الذي ستصبح عليه وهي راضية بذلك، وما أن اختفت من أمام أعينهم حتى أسرعت راوند إلى ألماندين لتحتضنها بخوفٍ: هل أنتِ بخير؟
هزت رأسها بهدوءٍ فاحتضنتها الأخرى بألمٍ وهي تهمس بعزيمة: علينا الخروج من هنا. فليس أمامنا سوى ثلاث أيامٍ قبل أن تتحول رودوليت.
التعليقات