رواية الاربعيني الاعزب الفصل التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر بقلم إية محمد رفعت جميع الفصول كامله
رواية الاربعيني الاعزب الفصل التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر بقلم إية محمد رفعت جميع الفصول كامله
910
تسللت على أطراف أصابعها حتى وصلت للطابق السفلي، ومن ثم راقبته حتى ولج لغرفة مكتبه، فلحقته على الفور وقبل أن يصل المقعده دخلت ثم أغلقت الباب من خلفها فأصدر صوتاً مزعجاً للغاية، استدار “عاصي” على الفور، فوجدها تحكم اغلاق الباب ثم دنت لتجلس على المقعد القريب منه مشيرة له بالجلوس
تقدر تقعد لان في حاجة مهمة عايزة أناقشها معاك…
عقد حاجبيه بذهول:
والحاجة المهمة دي مينفعش نتكلم فيها بعدين
رسمت الحزن باجتياز على معالمها، ثم قالت بجدية
معنديش وقت.. أنت شايف بنفسك ازاي الملزق ده بيطاردني في كل حتة.
تلك الكلمة باتت لا تليق سوى بهذا الأحمق ولكنها لا تفشل بإضحكه
فتحرك تجاه مقعد مكتبه الرئيسي، فجلس وهو يتساءل ساخراً وعينيه مسلطة على باب الغرفة
وموضوعك المهم ده مينفعش الا والباب مقفول
أومأت برأسها عدة مرات وهي تؤكد له قائلة:
أكيد لإنه مهم ويخصني فمش عايزة حد يسمعني غيرك.
حك جبهته باستهزاء على طريقتها المضحكة وعلى الرغم من ذلك الا أنه تماسك وهو يباشر سؤاله بثبات
أوكي، تقدري تتكلمي.
ابتلعت ريقها بتوتر، ثم أجلت أحبالها الصوتية المنقطعة قبل أن تستجمع قواها للنطق
زي ما شوفت وسمعت بودنك “قاسم” مش ناوي يسبني، حتى لو هربت لأبعد مكان على الكرة الأرضية هيجبني برضو.
ولوت فمها بتهكم وهي تستكمل:
الملزق ده مش قادر يستوعب أني بكرهه، فاكر إنه لما هيتجوزني غصب عني هعشق قسوته وهتقبل حبه المريض ده زي ما بيحصل في الروايات…
وطرقت المكتب بيدها لتجعله يلمس غضبها:
بس حلمه الحقير ده مستحيل يتحقق.
ثم استكانت بجلستها، لتهدأ من روعها قليلاً قبل أن تستطرد:
. وبعد تفكيراً عميق لقيت حل هيخرجني من المشكلة دي.
سيطر على انفعالات وجهه، ليحارب تلك الابتسامة التي تداعب شفتيه فحينما يستمع إليها يفقد القدرة على التركيز بأي شيء سوى الاستماع لحديثها المجنون، فيفشل بالتحكم بذاته، وكأنه لا يود فعل أي شيء سوى الضحك على حديثها وتصرفاتها، وها هو الآن مجبر على العودة من
شروده القصير حينما وجدها تتطلع له بنظراتها المغتاظة، فتنحنح وهو يتساءل بخشونة
سامعك كملي.. حل أيه؟
ارتسمت بسمة غرور على وجهها وهي تجيبه بثقة من حلها الأمثل الذي توصلت إليه بعد تفكير
أني أتجوز.. وساعتها بقى مش هيقدر يتجوزني غصب لإني هكون على عصمة راجل تاني.
تطلع لها لثوان قبل أن ينفجر ضاحكاً والاخرى تحدجه بنظرات قاتلة
فاحتبس ضحكاته وهو يخبرها بجدية زائفة
أنا أسف بس حقيقي الموضوع مضحك أوي.
ثم هدأ قليلاً قبل أن يشرح لها بطريقة كوميدية:
يعني إنتي مش راضية تتجوزي ابن عمك، فتقومي تتجوزي أي حد والسلام لمجرد إنك تبقي على ذمة حد تاني، طب ليه تدوري على كبش
فدى وأنتي بالنهاية هتتجوزي أي شخص!
ابتسمت وهي تجيبه بصوت ناعم رققت طبقاته: ومين قال بأني هتجوز أي حد!
أشار لها باستسلام ومازال الضحك يملأ وجهه:
شكلك حاطة عينك على حد أحب أعرف مين اللي هينال الشرف العظيم ده.
بابتسامة واسعة أجابته:
عاصي سويلم.
انكمشت تعابير وجهه في صدمة، وكأن الفرحة التهمها غراب أسود، فردد
بدهشة:
بتهزري!
قالت بجدية تامة:
وهو الموضوع ده فيه هزار، أنا بتكلم جد.
احتل الغضب معالمه، ربما كان مندهشاً ببدء الأمر، فلم يتوقع أن تكن جريئة لتلك الدرجة، نهض “عاصي” عن مقعده بعدما دفعه بعيداً عنه
بعصبية لحقت نبرته الذكورية المتمردة
أنتي إتجاوزتي كل حدودك “لوجين” ، أنا لما قررت أساعدك كان بإرادتي
ورغبة مني إني أعمل كده بس مش لدرجة إن الموضوع يوصل لجواز.
بدت متحكمة بانفعالتها وهي تمط شفتيها في حركة سمجة لمواجهة القادم:
كلامي لسه مخلصش، اقعد بس وإسمعني للأخر وبعد كده قرر براحتك.
إنصاع إليها وجلس على مضض يستمع الى ما ستقول، فقالت بابتسامة ماكرة
الموضوع بيصب في مصلحتنا مع بعض.
تطلع لها بعدم فهم، فاستطردت بتوضيح:
أنا هتخلص من “قاسم” وأنت هتتخلص من زن “إيمان” بأنك تتجوز.
ابتسم ساخراً، فاستكملت الاخيرة حديثها بخبث: متنكرش إنك معجب بيا وبذكائي الخارق.
ولوت خصلة من خصلات شعرها حول أصبع يدها بترقب لملامحه التي تنطق بالرفض لتتحفز طيف مكانها وهي الاخيرة تنتظر جوابه، فوجدته يغلق عينيه، كأنه يقاوم انفعالا ما بداخله قبل أن يعاود فتحهما :
أنا مش وحشة للدرجادي، أنت لو لفيت الدنيا دي كلها مش هتلاقي زوجة تسمحلك تحتفظ بذكرياتك اللي جمعتك بحبيبتك ومراتك الله يرحمها، أنا بقى هسمحلك بده.
ضحك حتى برزت أسنانه البيضاء، فلمعت عيناها ببريق إعجاب إحتل خلاياها بأكملها، فكان يحتل جلسته كملك متوج على عرش خاص به شعره مصفف بعناية، وعينيه تحاكي أقصوصة حملت الدفء والخلود بين طياتها، وأنفه يحكي بشموخه قصص بطلها غروره، راقبت نظراتها حركة شفتيه التي نطقت بحروف بطيئة
بحاول أستوعب اللي بسمعه في العادة الراجل هو اللي بيعرض الجواز على الست، لكن أنتي دايما ماشية عكس التيار
استندت بيدها على سطح مكتبه ثم مالت برأسها عليها لتشير له بغمزة من عينيها:
مش شايف أن دي حاجة لذيذة وممتعة، الخروج عن المعتاد هو شيء جنوني ومختلف وأنا بعشق الإختلاف.
انحنى بجسده للأمام تجاه سطح مكتبه ليسألها بصوته الرخيم المصاحب لجدية لا تحتمل نقاشاً ساخر:
وليه أنا بالتحديد يا “لوجين”؟
كيف تخبره بأن قلبها هو من يقربها منه، حتى خطواتها تنجذب نحوه أينما كان، وكأنه ملاذها الذي افتقدته بوجود أفراد عائلتها،
رفعت “لوجين” وجهها تجاهه وهي تهمس بصوت مغو:
مش عارفة، يمكن لأنك أوسم راجل قابلته في حياتي، أو يمكن لانك ساعدتني من غير ما حتى تعرفني وسمحت ليا إني أعيش في بيتك وأتعرف على عيلتك، والأهم من ده كله أنك خلصتني من “قاسم” الملزق ده
وبعد صمت تام التزمت بها لدقائق معدودة عادت لتهمس بصوت اخترقته المشاعر الصادقة وبوح نابع من الصميم
ويمكن لإني معجبة بيك وخايفة الأمور تنقلب بيا لشيء خطير أفقد السيطرة عليها …
هام بعينيها وكأنهم بحراً يغمسه بمعسول عينيها الصافي، ولأول مرة يشعر بعجزه التام عن الحديث، إن كانت فتاة أخرى من تتحدث عن ذلك الأمر المحظور ربما كان سيثور ويغضب، ولكن الغريب إنه يتقبل كل ما تقصه عليه بابتسامة وصدر رحب، أما هي فدقائق صمته تلك مرت عليها
كالسنوات الثقيلة، لذا قطعت مهلتها بالانتظار حينما قالت:
هسيبك تفكر بعرضي كويس، بس هتقولي رأيك بكره.
ونهضت عن مقعدها لتشير له بابتسامة مشرقة
تصبح على خير.
غادرت من أمامه كنسمة عابرة، اختطفت قلبه ودعته حائراً في إتخاذ أي قرار قد يوصله لبر آمن، فاستند بجسده الثقيل على المقعد وهو يردد بحيرة
أيه اللي لسه هيحصلك يا عاصي ؟
وأغلق عينيه وهو يبتسم حينما تذكر حديثها، يروق له أحياناً إختلافها وتصرفاتها المجنونة، من سيصدق بأن فتاة تطلب يد الشاب بنفسها وتخبره بأنها مستعدة لتحمل ذكريات حبه السابق بما يخوضه من مساحة خاصة بشريكة ماضيه تلك الفتاة استحوذت على إهتمامه وجعلت
عاصي سويلم حائراً لأول مرة في إتخاذ قراره
إزدادت شكوك “غيث” بأن هناك خطب ما يسيطر على زوجته، وخاصة حينما وضعت الطعام وجلست تعبث بملعقتها بطبقها الفارغ، فشق رداء الصمت حينما قال بهدوء يحتضنها حتى تفيض بما تخفيه
بتحاولي تداري عليا أيه يا عائشة، أنتي من ساعة ما رجعنا من المستشفى وإنتي مش طبيعية.
لعقت شفتيها بارتباك ملحوظ، فخمن من توترها المبالغ به زيارة والدته
الشبه منطقية بوقت هكذا، لذا سألها بشكل مباشر:
ماما جيت لإيمان المستشفى ؟
از دردت ريقها بتوتر، فارتجفت شفتيها بتمتمة أقرب للهذيان:
لا ……. أقصد أه جيت شافتها ومشت على طول.
ألف كلمة وكلمة تزحم عينيها، ولكن الخوف كان يكتسحها فيجعلها لا ترغب بالحديث، تود فقط الاستسلام لهذا الأمان المؤقت المكمن بوجوده لجوارها، زفر زفرة قصيرة وهو يشيح بوجهه ليستقيم بجسده واقفاً مع قوله:
وأكيد سمت بدنك بالكلام كعادتها.
بالرغم من هدوء نبرته الا أنها كانت تقطر غضباً جعلها ترتجف خوفاً من أن
تزداد الأمور سوءاً بينه وبين والدته مجدداً، فنهضت عن مقعدها لتقف على بعد مسافة آمنة منه، في محاولة منها لردع ما ستقوله، ولكنها لم
تستطيع واستسلمت لزلة لسانها :
“غيث ” أنا عايزة أعمل التحليل ده، يمكن وقتها الكراهية اللي جواها تنتهي.
تمتم بها مصعوقاً من بين أسنانه بانفعال مكتوم
أنتي بتقولي أيه ؟!
ناظرته بعينين خائفتين فضغطت بكفيها على يديه لتخبره نظراتها برجاء وتوسل بأنها لا تحتمل مواجهة غضبه في ذلك الوقت بالتحديد: عشان خاطري يا “غيث” ، أنا تعبت من كل المشاكل دي، وجايز ده يكون الحل الوحيد حتى لو كان مهين
أزاح كفها عنه ببعض العنف، ليحتكر نظراتها المتوسلة بعينيه النافذتين مردفاً بحزم
متتكلميش عن الموضوع ده تاني لإنك بكده هتكوني بتهدي كل اللي بينا يا عائشة.
مجرد سماعها لتهديده الصريح بانتهاء علاقتهما، حاوطها الرعب ليهدم
قلعتها التي تحاول الدفاع عنها باستماتة، فتمسكت به وهي تردد بدموع حارقة
لو حاولت تبعد عني تاني يا غيث أنا هموت نفسي، أنا مش هقدر أعيش نفس التجربة القاسية دي تاني.
قبض قلبه بعنف فعاد ليكور يديه أمام وجهها مجدداً ليهمس أمام عينيها بصرامة دافئة
أنتي ليه مصممة توجعيني بكلامك قولتلك ألف مرة متتكلميش عن الموت والبعد تاني، سامعة
منحته نظرة مشتتة، وكأنها طفلة صغيرة فقدت ضوئها الشارد وسط عتمة الليل الكحيل، فكان هو ضوءها وحياة كاملة بالنسبة إليها، أخفت
وجهها بين أحضانه، فتقبل تهربها بترحاب حينما طوفها بذراعيه المفتولة ليقربها منه، فرفع يديه ليمررها على خصلات شعرها مرة تلو الأخرى وهو يهمس لها بصوته الرجولي الرخيم
محدش هيقدر يفرقني عنك حتى لو كان الحد ده والدتي.
وبندم أتبعه كالظل استطرد:
اللي عملته قبل كده مستحيل هقرره تاني.
شعرت بقوة تمدها بالطاقة التي نفذت بلقائها، وكأنها باتت على يقين بأن
معشوقها قد عاد إليها ليعشقها مثل سابق بل وطيب جرح فؤادها الغائر
كان من المهين إليه أن يعود لمنزله ووجهه يمتلئ بالكدمات التي تترك أثرها عالقاً، وكأنها تذكار تعمد عاصي تركه ليمنحه فرصة طويلة بحسم أموره، ولكن كانت نتائجه عكسية بالنسبة إلى “قاسم خلدون” الذي إختبر الجبن والتقهقهر لأول مرة، شعر وإنه يحمل وصمة عار بعودته منكسراً هكذا وسط رجاله وأفراد عائلته، لذا ظل لساعات مطولة بغرفة مكتبه حتى وصل أحد رجاله بعد أن تلاقى رسالة منذ ما يقرب النصف ساعة بضرورة لقائه، فوقف مقابله وهو يردد بوقار لهيبته التي دعست بالأرض: تحت أمرك يا باشا.
تحركت يديه المتصلبة مع حركة جسده المرتخي على مقعده، ليفتح درج خزانته المقابلة أمامه، ثم سحب سلاح أسود اللون مقبض لمهامه الشنيع ثم ألقاه تجاهه، ليتحرك لسانه الثقيل ناطقاً بأوامره الصارمة:
بكره الصبح عايز أسمع خبر “عاصي سويلم”.
سحب الرجل السلاح ثم دثه بحزام بنطاله، ليجيبه ببرود، وكأنه تلقى عمل بأحد الفنادق :
اعتبره حصل يا باشا.
سحب من نفس الخزانة مبلغ طائل من المال، ثم دفعه بيديه تجاهه وهو ينفث تبغه الخاص:
لو صدقت هتأخد أضعافهم.
غمز له بوجهه الأجرامي:
هيحصل، وبكره هنشيع جنازة محترمة للمرحوم.
بغرفة “لوجين”.
ظلت مستيقظة طوال الليل، تفكر في رده على عرضها، تبتسم تارة حينما تتذكر هيامه بها وتتردد تارة أخرى خوفاً من أن يرفض عرضها، فقبضت أشعة الشمس ظلام الليل الدامس، ومازال عقلها مزحوم بالتفكير به، فما أن سطع النهار بشمس يومها الجديد حتى هرعت لخزانتها لتجذب الأقرب ليدها، وأسرعت بالهبوط للأسفل، فوجدت إحدى الخادمات تضع الطعام
على المائدة، فسألتها بابتسامة مشرقة:
هو فين عاصي؟
أجابتها وهي تسكب كوب من العصير إليها:
خرج من الصبح وقالي أبلغك تستنيه لما يرجع.
وتركتها وعادت للمطبخ مرة أخرى، فجلست على المقعد باهمال وهي
تهمس بضيق:
راح فين على الصبح كده، هو مش كان في إتفاق بينا ولا أيه؟
ثم عبست بطبقها وهي تتحدث مع ذاتها بصوت شبه مسموع
متزعليش نفسك اليوم هيعدي بسرعة وأكيد هيرجع وهيبلغني بقراره..
وحملت كوب العصير ثم صعدت مجدداً لغرفتها لتجلس أمام شرفتها تترقب لحظة عودته.
بالمشفى..
شعر بسعادة الكون بأكمله حينما حمل الصغير بين يديه، فطبع قبلة
صغيرة على جبينه ثم قال بحنان:
ربنا يحفظهولك يا حبيبتي..
وأخرج من جيب جاكيته ظرف أبيض وضع به مبلغ من المال، ثم وضعه
بين الغطاء الثقيل الذي يحيط بجسده الهاش، ليعيده لاحضان أمه التي
همست بحرج
ليه كل ده يا “عاصي”.. كتير أوي !
أجابها ونظراته مازالت متعلقة بالصغير:
مفيش حاجة تكتر عليه.
ثم تطلع إليها ليمرر يديه على كتفيها وهو بقول بحنان أنتي خسرتي أخوكي من اللحظة اللي خسر فيها نفسه وحياته، بس خلاص يا إيمان مش هسمحلك تعاني بسببي تاني.
كانت تائهة بحديثه الغامض، فوجدته يطبع قبلة عميقه على جبينها وهو يهمس لها بحنان:
مش هعمل غير اللي يرضيكي ويخليكي سعيدة..
ابتسمت والدمع يتلألأ بعينيها لعدم تصديق ما يحدث أمامها، فاحتضنه بقوة، وهي تهمس في صدمة:
أنت بتقول أيه، فهمني تقصد أيه بكلامك ده؟
على الرغم من تليمحاته الباطنة الا أنها تكذبها ، فحاولت معرفة ما يقصده بشكل صريح، فوجدته ينتصب بوقفته وهو يغلق زرار جاكيته ليودعها
قائلاً:
أنا لازم أمشي دلوقتي بس أوعدك إن قريب هفرحك باللي هيسعد قلبك.
قالت بصوت متقطع من أثر بكائها:
هستنی الوقت ده بفارغ الصبر…
منحها ابتسامة مشرقة قبل أن يغادر لوجهته ليترك الأمل ينير وجهها
المتعب، ليعود لدمويته من جديد.
صعد “عاصي” لسيارته التي صمم على قيادتها بنفسه تلك المرة، فلم يعلم إلى أي وجهة يسلكها، وربما شعر في ذلك الوقت بحاجته للحديث، فلم يجد أفضل من رفيق دربه، إتجه إليه متناسياً الموعد المنسق بينهما، كل ما همه بتلك اللحظة أن يتحدث إليه فيما يقلقه، وبالفعل صعد إليه وفضل
الانتظار بالخارج لحين أن ينتهي من كشوفاته، حتى أنه شدد على الممرضة بالا تخبره بأنه بالخارج، وبعد ما يقرب الساعتين من الانتظار أخيرًا أتاه وقت رآه مناسب للبوح عما يضيق صدره، فطرق عدة مرات على بابه قبل أن يدلف، فوجد “عمر” منشغل بحاسوبه، حتى أنه لم يتمكن من معرفة المريض الواقف على مسافة قريبة منه فقال دون النظر إليه ويديه تشير على الفراش الطبي الصغير
استريح على الشازلونج وأنا شوية وهكون معاك…
لم يشاكسه بحديثه الصارم تلك المرة، بل فضل التمدد على الشازلونج وكأنه يجلس على مقعد يحتمه على قول الحقيقة ولا شيء سواها، وكأنه يواجه نفسه بمرآة تشع بالصدق فقط، ترك “عمر” مكتبه ثم نهض ليجلس على المقعد القريب منه فاندهش حينما وجده، فردد بذهول إنت بتعمل أيه هنا يا “عاصي” ، تعالى نقعد في المكتب.
تجاهل حديثه عن اختياره لمكان جلوسه، ثم قال وعينيه شاردة بتأمل الضوء الهادئ الذي منحه نوعاً من السكينة:
مش عارف بالظبط أنا أيه اللي حصلي بس الأكيد إني حاسس إن في حاجة غريبة بتحصل معايا
والتقط نفساً مطولاً قبل أن يضيف:
حاسس بحيرة معرفش سببها ، أحيانًا بسأل نفسي هو أيه اللي إتغير؟ أنا لسه زي ما أنا ولسه قلبي بيعشق هند بس ازاي وأنا بفكر في “لوجين” في نفس الوقت، أنا معترف أن في رغبة جوايا بتطالبني دايما إني أقرب منها، رغبة بتدفعني إن عيني تفضل متعلقة بيها، وفي نفس الوقت خايف إني أواجه مشاعر أنا طول عمري خايف أعيشها، وحاسس إني بحارب في صراع قوي بين حنين الماضي المرتبط بهند وبين المجنونة اللي قيدتني وخلتني زي الغبي اللي مش عارف يأخد أي قرار.
تألم لأجله “عمر”، فلأول مرة يهتز الجبل الذي صمد لسنوات شامخاً، محتفظاً بوجعه وبما يضرب قلبه بمفرده، وها هو الآن يبوح أخيرًا بما يشعر به، فسأله بحذر:
أنت بتحبها يا “عاصي”؟
أجابه بعد فترة طويلة من الصمت وكأنه يبحث عن اجابة تحسم الأمر فقال بضيق :
مش عارف إذا كانت الفترة الجاية كافية إنها تخليني أحبها ولا لا، بس
وجودها جنبي بيسعدني وبيرسم البهجة في حياتي.
ابتسم “عمر” لما يستمع إليه، ثم تساءل باستغراب
طيب ومستني أيه؟ أنت بنفسك جاوبت على سؤالك، اتجوزها وعيش حياتك يا “عاصي”.
انكمشت تعابير وجهه وهو يرد عليه بحزن:
الموضوع مش بالبساطة دي يا “عمر” ، قرار الجواز أمر سهل ولكن اللي جاي هو الأصعب .
إحتار في فهم ما يعنيه فقال باستياء:
مش قادر أفهمك ” عاصي”، ولا أفهم قصدك ؟
نفت عما بداخله من هواء يزحم رئتيه ثم قال بوضوح
لأني متأكد إني مش هقدر أنسى “هند” بعد الجواز، ومش هقدر أديها الحب اللي بتتمناه أي زوجة من زوجها، وبالنهاية هكون ظالم وغير منصف بحقها ..
تطلع له “عمر” بهدوء ثم قال بابتسامة رزينة
أنا شايف عكس كده، أنا صديقك وقادر أفهمك كويس، خليك متأكد إن هيجي اليوم اللي هينبض قلبك بحبها … وإنها هتكون الخلاص لك من اللي أنت بتعيشه يا “عاصي”، اتمسك بيها وخليها تمسك أيدك وتطلعك من كل ده..
حديثه أينع في نفسه الراحة والأمان، حمسه لخوض تلك الخطوة الهامة في حياته، فتركه وتوجه للعودة للقصر وهو على يقين بأنه على صواب، وحينما توقفت سيارته أمام قصره وجدها تهرع لشرفتها لتراقبه بابتسامة مبهجة، حتى أنها رفعت يدها لتشير إليه عدة مرات، أغلق “عاصي” باب سيارته وهو يراقبها بنظرة خبيثة، ثم كاد بالتوجه للداخل، ولكن سرعان ما سيارته وهو يراقبها بنظرة خبيثة، ثم كاد بالتوجه للداخل، ولكن سرعان ما تخشبت قدميه المتصلبة حينما دوى صوت طلق ناري المكان بأكمله،
لتستقر إحدى طلقاته المصاحبة للموت في صدره، انعقد حاجبيها وهي تتابع توقف حركته بذهول، إنقلب لصدمات لا حصر لها حينما وجدت قدميه تتنحى حتى استقامت بالأرض ليسقط من بعدها “عاصي” بإهمال، تاركاً بضعة قطرات من الدماء تحتل الأرض وقيمصه الأبيض بات متسخاً بدمائه، انکمشت تعابيرها في صدمة بدأت باستيعابها تدريجيا، ليتحرر صوتها المكبوت صارخاً
عاااصييييي
السواد، في محراب البوح تسقط كل الأقنعة، تنادي لا تحرك أشواقك الراكدة ، غادر أيها الطيف ، لا توقظ الحلم وتغفو بين الغيوم ثم تبحر لأعلى نقطة سكون
هل أخبرتك عن ذاك الشق الذي يناجي همسة اللقاء، خفق قلبها ألماً وهي تنتظر خارج غرفة العمليات باكية لساعات طويلة، تأكدت فيها من المشاعر التي تكنها إليه، نعم لم تكن محبة له بل عاشقة حد الجنون، رفعت “لوجين” يدها أمام وجهها فرأت الدماء مازالت تلطخها، فوخز صدرها لمجرد تذكرها لجسده الغارق بدمائه حينها انقبض فؤادها حينما صاحت به بأن ينهض ولكنه تلك المرة كان متخشباً كمن فقد الحياة، فحاولت أن تسانده بمعاونة البواب لتتحرك به للمشفى، انسدلت دمعاتها ويدها تتشبث
بحافة الأريكة المعدنية من خلفها وهي تردد من بين نشيجها الباكي: يا رب أنا مش هستحمل لو جراله حاجة بسببي، أنا مش هقدر أتحمل. أنا بحبه أكثر من نفسي.
مازالت تمتم وهي مغمضة العينين، فكيف ستحتمل العيش بذنبه طوال عمرها ؟
لیته آنها هي وتركه ليتها لم تعرفه يوماً ولم يعرفها…
أفاقت “لوجين” من جلدات السواط القاسي الذي يجلد روحها على صوت “غيث” اللاهث وهو يتساءل بلهفة:
أيه اللي حصل وفين عاصي ؟
رفعت عينيها الباكية تجاهه، فوجدت “عمر” يلحقه فور أن علم بما حدث
ليقترب منها هو الآخر، وهو يتفحص ضوء غرفة العمليات :
هو خرج ولا لسه ؟
أتاه صوتها الشاحب يجيبه
لسه محدش خرج من جوه
ما يديه على خصلات شعره وهو يهمس يتوت :ربنا يستر.
اشتعلت حدقتي عين “غيث” غضباً، فردد بنبرة جافة بعد أن خمن من
الفاعل :
أكيد قاسم الكلب اللي ورا اللي حصل ده وكله بسببك وبسبب مساعدته ليكي.
صدم “عمر” مما تفوه به “غيث”، يعلم بأنه حينما يسيطر عليه غضبه يجعله كفيفاً، متبلد المشاعر، فسلط نظراته عليها ووجدها تشتد بالبكاء فاقترب منه وهو يشير إليه بصوت منخفض
مالوش لزمة الكلام في الموضوع ده دلوقتي يا “غيث”، لما نتطمن عليه الأول نبقى نتكلم.
طبقت شفتيها على صرخة كادت أن تغادرهما، وأنياب الحقيقة تنتزعها من جنة خيال عشقها إليه، فهي تعلم جيداً بأن قاسم هو من فعل ذلك، لم تكن بحاجة لسماع غيث يخبرها بذلك، نهضت “لوجين” وإتبعت قدميها التي ساقتها لنهاية الرواق فوجدت مكان مخصص للصلاة، في تلك اللحظة وضعت أمامها مرآة عكست لها ما ترتديه، فرفعت يدها تتحسس خصلات شعرها المتمردة من خلفها بحرج تشعر به للمرة الأولى، كانت تود اللجوء إلى الله حتى يحمي من أحبه قلبها بصدق، فهوت دمعات حملت قهراً وخذلان لما وضعت نفسها به تمنت لو تمتلك أي حجاباً بحقيبتها لتتمكن من الدخول لمكان عظيم هكذا، باتت حائرة مترددة بالعودة، تشعر بأنها على مقربة من لقاء ربها، لتطالبه بإنقاذ حياة محبوبها، فشعرت بربكتها إحدى الفتيات التي خرجن من المسجد بتلك اللحظة، فوقفت بإحدى الغرف المستقلة ثم خلعت حجاباً من الحجابين التي ترتديه، لتقدمه لها بإبتسامة صافية، منحتها “لوجين” بسمة صغيرة رسمتها بصعوبة، ولكنها كانت كتفية لتخرج ما بداخلها من صفاء ومحبة لما فعلته، فحاولت
ارتدائه ثم ولجت للداخل بخطوات مترددة، شردت بتأمل المسجد من الداخل، فعلى الرغم من صغر مساحته الا أنها شعرت بسكينة يصعب وصفها، استقرت أخيراً بأحد الصفوف حينما وجدت نفسها آمنة بين أربع جدران لتستحضر تعليم جدتها ووالدتها لها بتلك اللحظة، إنتهت من صلاتها ودعواتها التي لم تكن لأحداً سواه، وحينما انتهت جلست تحتضن ذاتها بيديها المرتعشة، وحينما أصبحت وحيدة بالمسجد تفجرت كل دموعها التي حبستها، لتغرق وجهها كالطوفان، خاضت بتلك الساعات حرب قادها عقلها وهو يستحضر خبراً قد لا تود سماعه أبداً، وقد إتخذت قراراً هام سيتوقف على إفاقته، فلن تسمح لما حدث بأن يتكرر مرة أخرى وخاصة بأنها سبب العداء بينهما، إتكأت “لوجين” بمعصمها على السجاد المفروش من أسفلها، ثم خرجت لتطمئن عليه، فوجدت الممرضة تدفع السرير المتحرك به، و”غيث” يساعدها في نقله لأحد الغرف المستقلة، خطفت نظرة تعمقت بملامح وجهه، وكأنها تختمها بداخلها، ثم أسرعت تجاه “عمر” بعدما أنهى حديثه القصير مع الطبيب، فقالت بلهفة لم تستطيع إخفائها:
طمني يا عمر، الدكتور قالك أيه؟
حيرة جعلته يلمس الحب بعينيها هي الأخرى تجاه صدیقه، فصمت
للحظات قبل أن يصلها صوته:
الحمد لله الإصابة كانت في كتفه وسطحية، شوية وهيفوق.
ثم رفع الروشتة أمامها وهو يردف:
هنزل أجيب الأدوية دي وراجع.
أومأت برأسها بإيماءة خفيفة، ثم جلست على المقعد القريب منها ويدها
تتحسس نبض قلبها المذبذب كانت تخشى أن تستمع ما لا يعجبها،
فإنقلب حزنها السعادة وهي تهمس بصوتها الخافت:
الحمد لله.
شعرت وكأنها عادت مجدداً للحياة، فوصل إليها صوت “غيث” الهادئ بعض الشيء:
أنا مقصدتش أضايقك بكلامي، بس اللي عمله الكلب ده مش هيعدي بالساهل.
التفتت إليه وأنفاسها تتلاحق رغماً عنها، فوجدته على بعد قريب منها ونظراته تقصفها بقصف غير رحيم، حتى وإن كانت نبرته لطيفة، فنهضت
لتقف مقابله، ثم قالت بلهجة أتبعتها دمعتها قصراً:
بس كلامك صح اللي حصل لعاصي كان بسببي.
ضغط بحدة أسنانه على شفتيه، وكأنه يعنف نفسه على طريقته بالحديث معها، فاقترب منها قليلاً ثم قال باتزان
لا مش بسببك اللي حصل ده كان مقدر ومكتوب.
و تابع دون أن يغير وضعه
وبعدين أي حد كان مكان عاصي كان هيعمل كده، مهو مش رجولة
تشوف بنت بتتجوز غصب عنها لحقير زي ده وتقف مكانك كده.
انخرطت فجأة ببكاء هيستري وهي ترد عليه بنبرتها الساخرة:
وأخد جزاته على اللي عمله معايا.
وأزاحت بأطراف أصابعها العالق بأهدابها قبل أن تستطرد بوجع :
كنت فاكرة إن هيجي وقت وقاسم يمل من هروبي، بس للأسف الانسان
ده مريض وهيفضل يطاردني طول العمر.
همس إليها عاتباً بهذة النبرة الخبيرة كأخ صارت حقاً تفتقده وسط تلك الحرب التي تخوضها :
مش هيقدر يعمل كده تاني يا لوجين لانك بقيتي مسؤولة مننا من اللحظة اللي عاصي قرر فيها إنه يساعدك.
نجح في أن يرسم إبتسامة ممتنة على وجهها الحزين، فمنحها بسمة
صغيرة قبل أن يعود لغرفة عاصي مجددًا، اسندت لوجين رأسها للخلف
وهي تحاول الإنتصار على إحساسها بالذنب الذي يهاجمها، فنهضت لتلحق
بغيث حتى تطمئن عليه بنفسها، فانقبضت انفاسها حينما شعرت بان هناك من يلاحقها، حتى أنها تعمدت التباطئ بمشيتها علها تبالغ بظنونها، فخاب أملها حينما وجدت من بتبعها يبطئ من خطاه عن عمد، استجمعت لوجين شجاعتها ثم استدارت بعدما كانت المواجهة هي إختيارها، فوجدت رجلاً من رجاله يتبعها، وقبل أن تصرخ للاستغاثة، ضغط بيديه على زر هاتفه فانطلق مكبر الصوت ينقل لأذنيها صوت المتصل:
كنتي فاكرة إن الموضوع خلص يا لوجين قولتلك ألف مرة ومرجع أقولهالك تاني أي حد هيفكر يقرب من حاجة تخص قاسم خلدون هتبقى دي نهايته، ومتفكريش إن عاصي نجا من الموت، زي ما قدرت أوصلك أقدر أخلي راجل من رجالتي يخلص عليه وهو في المستشفى بمنتهى السهولة ..
تعزق فؤادها، فكانت تظن أنها ستحظى أخيراً بحياة طبيعية مثل باقي الفتيات، ظنت بأنها إمتلكت الحق في أن تختار شريك حياتها، ظنت بأن قلبها تحرر من القيود وصار حرا طليقا لن يعيقه أي شيء حتى قاسم خلدون بنفسه.
ربما لم يتغير شيئاً بالنهاية المتوقعة سوى إنها باتت امراءة ناضجة، يضخ قلبها بالعشق لذاك الأربعيني، لذا ستحارب ذلك الشيطان بكل قوتها حتى لا تعرض حياته للخطر، تود أن يظل قلبه يخفق حتى وإن لم يكن لها، وإن لم يقدر القدر أن يجمعها به يكفيها ذكرياتها الضئيلة التي احتفظت بها بداخل جوارحها فلم تتردد باتخاذ قرارها الأخير، وجذبت الهاتف من يديه لتقربه منها وهي تخبره بكره وحقد زرع بداخلها تجاه شخصه البغيض:
أنت بني آدم حقير..
بترت كلماتها في محاولة مستميتة منها بأن تسيطر على إنفعالاتها الثائرة، فقالت بهدوء بدى زائف ومصطنع مش مضطر إنك تقتله أو تأذي أي حد ، لإني هرجع البيت وحالا.
وأغلقت الهاتف ثم ناولته لمن يقف أمامها، وهي تحاول حبس دمعاتها خلف ذاك الحاجز القاسي الذي صنعته لنفسها، فأجبرت قدميها على التحرك للأسفل، ولكنها خذلتها مثلما خذلها قلبها، خذلها بوجع جعل صدرها يتمزق كلما بعدت خطوة عن محبوبها، فصعدت الخطوات التي نزلتها وهي تشير إليه بحدة:
انزل أنت وأنا شوية وهحصلك.
بدى حائراً بتركها، فخشى أن يتعرض للتوبيخ من رب عمله، فأخبره برسالة نصية بما قالته، فوجده يطالبه بأن يتركها تفعل ما تشاء، وكأنه كان يريد عودتها أن تكون بإرداتها هي حتى لا تختار الهروب مجدداً.
وقفت تراقبه من خلف تلك النافذة الصغيرة، عينيها غائرتين بالدموع وقلبها ينازع، ليته لم يقرب مدائنها ولم يقتحم سياجها العالية، ليته تركها طفلة تداعب فراشتها في مروج عالمها البعيد ، فحينها لم يكن جرحاً يمسها ولما باتت تخبئ تدوبها خلف قناع الإبتسامة المزيفة، فرغماً عنها وجدت قلبها يهديه غراماً وتركها تعاني سكرات الحنين في دروبها المنسية، وها هي تجبره على نسيان ما عاشه لأجله هو تدفقت دمعاتها الساخنة على وجهها لتكويه بنيران الفراق الذي كتب عليها، فرفعت يدها لتضعها على اللوح الزجاجي الذي يفصلهما، وهي تهمس بحروف متقطعة:
غصب عني، لازم أبعد عشان بحبك.
وقبل أن تضعف وتتراجع عن قرارها ابتعدت عن النافذة لتتبع خطواتها السريعة، حتى وصلت لأسفل المشفى، ومن ثم صعدت في السيارة التي كانت بانتظارها، لتتحرك بها لجحيم فرض عليها واختارته بتلك اللحظة بكامل ارادتها بشقة “عائشة”.
قضت يومها بأكمله على الفراش، فمع اشراقة شمس الصباح وهناك ألم حاد يضرب أسفل بطنها، فاعتدلت بجلستها وهي تحاول جذب الهاتف الموضوع لجوارها على الكومود، فجحظت عينيها وهي تتفحص الوقت فرددت باستغراب
غريبة أن غيث لسه مرجعش من الشغل لحد دلوقتي!
كادت بأن تجري إتصالا هاتفيا به، ولكنها توقفت حينما استمعت لصوت جرس الباب فظنت بأنه قد عاد نهضت “عائشة” عن الفراش ثم اتجهت لتفتح الباب قائلة بابتسامة أشرقت وجهها الشاحب
نسیت مفتاحك زي عادتك.
تلاشت ابتسامتها تدريجياً وعينيها اتسعت لأخرها حينما رأت بوضوح من تقف أمامها، دفعت “سمية ” الباب الموصود بيدها ثم قالت بلهجة فظة:
مش هتقوليلي إتفضلي ولا أيه!
ابتلعت ريقها الجاف عدة مرات، ثم رددت بارتباك
البيت بيتك اتفضلي.
منحتها نظرة قائمة لا تنذر بالخير قبل أن تدلف، ثم اتجهت لأقرب
م نعد، وقالت دون أن تنتظر حتى إنضمامها إليها :
أنا جاية عشان أقولك كلمتين حطيهم حلقة في ودانك.
افترس الخوف معالمها رويدا رويدا، ومع ذلك حاولت أن تلتزم بثباتها فجلست على الأريكة المقابلة لها وهي تسيطر على انطباع وجهها جراء ما شعرت به من وجع حاد، فبدأت الأخيرة بإلقاء ما أتت لأجله:
أنتي نجحتي إنك تفرقي ابني عني طول الفترة دي، وخلتيه يدوس عليا ولأول مرة يقاطعني بسببك.
بس يا ماما والله أنا ….. …….
قاطعت دفاعها عن نفسها بما ستقوله حينما رفعت كفها لتوقفها عن مقاطعة حديثها مرة أخرى ثم استطردت بحدة:
وفري على نفسك كلامك اللي هتقوليه لإني مش هقتنع بيه ولا هصدقه إنتي عملتي كل ده عشان توقعي بينا وتوصلي للي أنتي وصلتيله دلوقتي بس متتهنيش كتير لإني مش هتخلى عن ابني بسهولة.
واستقامت بوقفتها وأنفها مرفوع بشموخ غريب:
أنا جيتلك النهاردة عشان أقولك إن كل اللي حصل ده مأثرش معايا في حاجة أنا لسه عند وعدي لو نفذتي اللي طلبته منك ساعتها هتلاقيني مامتك بجد ويمكن الأمور ترجع زي الأول بينا.
وكادت بالمغادرة، ولكن لحقتها “عائشة” فأوقفتها وهي تردد بصوتها
الباكي:
أنا عايزة أعرف إنتي ليه ظنة فيا السوء أيه اللي شوفتيه مني وخلاكي تحسي إني ممكن أرتكب الذنب ده؟
إبتسامة ساخرة ارتسمت على وجهها المجعد وهي تخبرها باستهزاء
اللي أعرفه إن البنت اللي متلاقيش حد يقولها ده غلط وده عيب تعمل أكثر من كده.
استهدفتها موجة قاتلة من الآلام اللي يكفيها ما تتعرض له من ضغط
نفسي حاد وضعت “عائشة” يدها على بطنها وهي تجابه وجعها، لتجيبها
بنبرة متقطعة:
لو مفيش أهل يعيبوا على أولادهم في اللي أكبر منهم، ربنا اللي خلقني
وخلقك، أنا مستحيل أخون غيث ولا أرتكب أي ذنب يغضب ربنا زي اللي بتتهميني بيه دلوقتي..
وكزت على أسنانها في محاولة للتحمل وهي تستطرد:
إزاي متوقعة إني سعيدة وفرحانة بوضعي ده وأنا شايفة غيث حزين وقلبه مكسور بسبب اللي حصل ؟
عقلها متسخ بما تحمله من أفكاراً سودوية، وضعتها بنفسها لتلك الفتاة المسكينة، فصاحت بوجهها بشراسة
قولتلك المسكنة بتاعتك دي مش هتاكل معايا.
احتد بها الألم حتى أصبح بدرجة غير محتملة، فتمسكت ببطنها وهي تصرخ بوجع، ارتبكت “سمية ” مما تراه ، فلو لم ترى المياة التي تتساقط من بين ساقيها لكانت ظنتها تتدعي ذلك لإستعاطفها، فألقت حقيبة يدها ثم هرعت إليها لتتمسك بيدها قائلة بخوف:
شكلك بتولدي.. هو ده معادك ؟
صرخت “عائشة” وهي تمتم بألم:
مش عارفة، حاسة إني هموت من الوجع، أرجوكي ساعديني هموت. لم تحتمل “سمية ” رؤيتها تنازع هكذا، فبالنهاية هي إمرأة مثلها وزوجة ابنها، لذا أسرعت للهاتف لتطلب مساعدة البواب في نقلها للسيارة التي أنت بصحبة سائقها، لتنتقل بها سريعاً لأقرب مشفى، فحملوها الممرضات على السرير المتنقل، ومن ثم دفعوها لغرفة العمليات والأخيرة تلحقها دون وعي منها، فلم تتوقف الا حينما وقفت أمامها إحدى الممرضات فأخبرتها بعملية:
مش هينفع تدخلي جوه، استني هنا.
أومأت برأسها عدة مرات ثم وقفت تراقب ابتعادها عنها بتخبط، كانت مشتتة الفكر، فما أن اهتدت بعد جلسة استراحة تمكنت منها بالتفكير المنطقي تجاه هذا الموقف المحسوم، فجذبت هاتفها لترسل برسالة لغيث بعنوان المشفى وختمتها بجملة واحدة
مراتك بتولد!»
كانت رسالة مبهمة تطرح خلفها ألف سؤالا، وأهمهما كيف اجتمعت والدته بزوجته؟ وكيف وصلت عائشة للمشفى؟ وما الذي حدث بالتحديد بينهما ليستدعي الأمر المشفى وخاصة بأن الطبيبة كانت قد أخبرتهما بأنها ستلد بعد أسبوعاً على الأقل، وجد غيث بأن التفكير بالأمر لا يصب في مصلحته فعليه الذهاب ليطمئن عليها أولاً، وحينها سيعلم ما الذي حدث بالتحديد، لذا وضع هاتفه بجيب سرواله، ثم اقترب من عمر الذي غلبه النوم على مقعد خشبي قريب من فراش عاصي، فهزه برفق ثم همس إليه فور أن فتح عينيه
عائشة بتولد وأنا لازم أمشي حالا.
اعتدل بجلسته وهو يتساءل باهتمام
هجي معاك.
رد عليه بصوت منخفض وهو يراقب وجه عاصي
لا أنت لازم تخليك هنا جنب عاصي، محدش ضامن الكلب ده ممكن
يعمل أيه تاني!
هز رأسه باقتناع، ثم قال:
طيب بس إبقى طمني.
ربت بيديه على كتفيه وهو يجيبه تمام.
وغادر غيث للعنوان الذي تلاقاه برسالة والدته.
**
طال ظلامه الكحيل الذي يبتلعه، ليجد طاقة نور صغيرة تأتي من خارج ذاك الكهف المخيف الذي يسكنه، فتحامل على يديه حتى نهض بصعوبة وهو يتتبعه، حتى وصل لأخره، فوجد النور يتتبع ردائها الأبيض
ليحاوطها فحاول الإقتراب منها ولكنها كانت كلما يقترب تبتعد حتى
وجهها كانت تخفيه عنه، فلم يتمكن سوى من رؤية ظهرها، وردائها الطويل يلامس الزهرات التي تطوق المكان بأكمله، استجمع عاصي قوة بدنه الضعيف، فركض وركض حتى انقطعت أنفاسه، ولكنه لم يستسلم فمازال يعافر للوصول إليها، فما أن لامست يديه كتفيها حتى همس بشوق
هند
عقد حاجبيه بدهشة حينما رآها تقف أمامه باكية، منكسرة، فردد حروف
إسمها ببطء:
لوجين
عينيها اللاتي أغرقتها الدموع، حكت لغات سيدها الحزن، فبالرغم من حوارها الصمت الا أن عينيها تحاكيه بعتاب رفعت يدها لتتمسك بيديه فانتفضت أصابعه فجأة مما جعل عمر يسرع إليه وهو يتفحص ما به.
عاد ليراها من جديد، أصابعها تمررها بخفة على أصابعه، وكأنه تتوسل إليه بأن ينهض ليحميها مما ستلاقاه، من ذاك اللعين الذي سيغتصب روحها،
وسيجعلها بائسة طوال عمرها تخبره بنظراتها العميقة كم عشقته وتمنته زوجاً لها، تناشده بكل لغة عهدها العشق وختمها بين عشاق خلد إسمائهم بتاريخ الرومانسية بأن ينهض لأجلها هي، لأجل تلك المجنونة التي اقتحمت عالمه المنظم فأحدثت به جلبة وفوضوية راقت له…
سمح لذاك الضوء بأن يتسلل إليه، ففتح عينيه على مهل، حتى أصبحت رؤياه المشوشة أكثر وضوحاً، فأول من رأه كان عمر الذي إستقباله بابتسامة واسعة:
حمد لله على السلامة.
منحه ابتسامة صغيرة، قبل أن يحرر لسانه فنطق بكلمات ثقيلة:
الله يسلمك.
ثم رفع عينيه يتفحص الغرفة، فخاب أمله برؤياها ليتساءل بفضول: فين لوجين؟
أجابه عمر بسعادة لاستعادته وعيه:
كانت تحت هنزل أناديها بس إرتاح أنت بس.
وبالفعل تركه وتوجه للطابق السفلي، فأغلق عاصي عينيه لينال قسطاً من الراحة لحين عودة عمر الذي خمن بعد أن هبط للأسفل ولم يجدها بأنها عادت للقصر لتبدل ثيابها وربما ستعود قريبا.
فتح باب الفيلا أمام السيارة، فشعرت “لوجين” بأنها تقترب من عش أفعى كريهة ستفتك بها، ذاك المكان المفترض أن يكون محبب إليها بات نقمة بعدما وجدت ذاتها تنجبر على فعل أشياء رغما عنها وأخرهما زواجها من هذا الشيطان، فأي منزل هذا الذي ستشعر به بالأمان وحريتها بإتخاذ قرارت خاصة بها مسلوبة لغيرها ، أغلقت عينيها بضيق حينما لفحتها نسمة هواء باردة، وكأنها لا تود أن يلامسها وهو يعبق منزل كريه هكذا، كان طريقها طويلاً فانتهت حينما ولجت لباب الداخلي، لتجده يجلس على مقعد يتوسط باحة المنزل، ودخان سجاره ينفثه بشراهة، وهو يترقب تلك اللحظة التي ستعود إليه مهزومة، فما أن رآها تقترب حتى نهض ليفتحذراعيه قائلاً بسخرية لاذعة:
الأميرة الهاربة أخيرًا رجعت لقصرها ولأميرها…
1112
كرهها إليه ليس نابع بعد قرار حاسم، بل تعدى ذلك وحتى صوته كان
بغيض بالنسبة إليها، استجمعت رباطة جأشها وابتلعت اهانته اللاذعة ثم قالت
قصدك تقول رجعت لسجاني وبرجلي.
تجهمت معالمه، فاحتلهما حدة وعصبية خطيرة، وقلص المسافة بينهما
حتى بات مقابلها :
سجان! تعرفي إنك غبية لدرجة مخلياكي عامية ومبتشوفيش أنا بعمل
عشانك وعشان أهلك أيه!
وتعمد كسرها حينما قال:
لولا مساعدتي ليكم أنتي وأبوكي وأختك كان زمانكم نايمين على الرصيف في الشوارع.
تقهقرت دمعاتها التي كانت على حافة الهبوط، لترد عليه بكبرياء عجيب
المساعدة اللي بتتكلم عنها دي تبقى حق يا قاسم بيه، حق أبويا في الميراث والتركة اللي أبوك مسيطر عليه بالقوة.
ضحك باستهزاء، ثم كف عن الضحك فجأة ليبدو مخيفاً وهو يدعس سيجاره بحقد
ولما هو صاحب حق مبير فعش قضية ليه ويأخد حقه بالقانون.
ضغطت على شفتيها السفلية بعنف في محاولة بائسة لكبت موجة غضبها:
القانون اللي أنت واخده تحت جناحاتك بشهاداتك المزورة وبالرشاوي
خرج عن طور هدوئه الزائف حينما اقترب منها، فتراجعت للخلف بخوف كسر قناعها المصطنع، اصطدم جسدها بالحائط من خلفها فلم يعد هناك
مفر من مواجهته، فقرب وجهه منها متعمداً أن يلفح صوته وجهها عله ينجح تلك المرة في زرع الخوف بداخلها
ومستعد أعمل أكثر من كده عشان بس أطولك.
استجمعت دوافع الكره بداخلها لتقذفه بنظرة حملت استحقار عظیم يبقى هتستنى كتير، لإني عمري ما هحب واحد ملزق ومدلوق زيك.
ودفعته بيدها بعيداً عنها، لتستكمل طريقها للأعلى وهي تتجاهله عن عمد،
وكأنها تؤكد له بإن هذا الزواج لن يؤثر على طبيعة العلاقة بينهما، لكم بيديه المقعد فسقط أرضاً، وهو يهدر بعصبية:
هنشوف أخرة عنادك ده أيه يا لوجين.
ما أن إطمئن قلبها لمكان سيمنحها الأمان لبضعة ساعات، أزالت قناع القوة الزائف مع انغلاق باب غرفتها، لتهوى أرضاً خلفه، باكية، محطمة، مذبذبة تلوم نفسها على هروبها الذي زاد من عذابها عذباً، فإن لم تلتقي “بعاصي” ربما لم يصل بها الألم لذاك الحد، ربما كانت ستتقبل “قاسم” مع مرور الوقت، ضمت “لوجين” ساقيها لجسدها الذي يرتجف من أثر بكائها الهيستري، قلبها وعقلها هائم التفكير به وبحالته الصحية، فكم كانت تود الرحيل بعد أن يسترد وعيه، ولكنها خشيت من أن تزداد الأمور سوء برحيلها، توقفت عن البكاء فجأة حينما تذكرت صلاتها بالمسجد اليوم فكم أزاحت ما بها من هموم، لذا لم تتردد في الاستعداد للصلاة مجدداً علها بها تجد مخرج من تلك المصيدة المحكمة الغلق، وفي كل سجدة كانت تزيد من دعواتها بحفظ عاصي وشفائه العاجل، لم تطلب شيء لنفسها أو لارتواء قلبها المتعطش لغرامه، بل أرادت أن يكون بصحة جيدة فحسب، أم هي فقررت مواجهة مصيرها القاسي حتى وإن كانت ستلقى حتفها بمفردها، نعم هي بمفردها تواجه هذا اللعين بعدما أرسل والدها وعائلتها الصغيرة لأسبانيا، للعمل على إحدى المشروعات، رغب بابعاده حتى يستفرض بها، وكأنه بوجوده سيمنع شيء!
وصل “غيث” للمشفى بعد نصف ساعة، فهرول تجاه قسم النسا والتوليد وبعد أن استعلم عن اسمها ، أخبروه في قسم الاستقبال بأنها خرجت من العمليات منذ ما يقرب الخمسة دقائق، وأعطوه رقم غرفتها فصعد للطابق العلوي بخوف يكاد يوقف ضربات قلبه المتسرعة، فما أن فتح الباب حتى وجدها تغفو على السرير الذي يحتل الغرفة المزين طلائها باللون السماوي وبعض البلايين التي كان معظمها من نفس اللون وخليط أخر من الأبيض، ولجوار السرير وجد والدته تجلس على مقعد قريب من زوجته، فتحرك تجاهها وهو يسألها بنبرة جافة قليلا:
أيه اللي حصل ؟
مجرد سماعها لصوته تخدر تعبها ففتحت عينيها بلهفة لقاء عينيه الحنونة، ولسانها يهمس:
غيث.
كادت “سمية” بإجابته، ولكن استوقفتها “عائشة” التي بدأت باسترداد وعيها، أسرع “غيث” إليها، لينحني بجسده تجاهها، ومن ثم وضع كف يديه الخشن ليحتضن صدغيها وهو يردد بحنان
انتي كويسة يا عمري ؟
أومأت برأسها بإبتسامة صغيرة، وهي تخبره بصوتها الواهن:
الحمد لله، أنا كنت هكلمك الصبح لإني كنت حاسة بتعب فظيع، بس الحمد لله إن ربنا بعتلي ماما في الوقت ده، لولاها مكنش حد حس بيا. نقطة إيجابية كانت لصفها، حتى وإن كان مازال هناك مشاحنات بينهما ولكن راق لها ما قالته زوجة ابنها في حقها التفت “غيث” برأسه تجاه والدته وهو يمنحها نظرة ممتنة، فقالت الاخيرة بتغطرس
أي حد مكاني كان هيعمل كده على فكرة بس ده ميمنعش إن اللي بينا عمره ما هيتغير.
هز رأسه بقلة حيلة واستسلام بأن والدته قد تتغير يوماً، فضيق عينيه باستغراب حينما تحولت معالمها لحنان عظيم فور رؤية ابنه الذي تحمله الممرضة بين يدها، فكانت بطريقها إليهما، ولكن استوقفتها “سمية” حينما حملته بين ذراعيها بتلقائية، أزدهر وجهها بابتسامة اصطحبتها دموع فاضت بحنين لحمل صغير بين يدها، ناهيك إن كان هذا الطفل حفيدها
فقشعر بدنها بشعور غريب اجتاحها، فضمته لصدرها وهي تطبع قبلة صغيرة على خديه الناعم، فاتجهت به لمقعدها ثم حملته بين يدها لدقائق مطولة، شعرت بها وكأنها معزولة عن العالم بأكمله، ونظرات “غيث”
و “عائشة” تراقبنها بدهشة وفرح، ربما كانت تقسم بمعاملة جافة لعائشة ولما تحمله بين أحشائها، ولكن ذاك الشعور الذي سيطر عليها كان فريدا من نوعه، وكأن رباط العائلة المندث بالدماء اتصل بها ليؤكد لها بأنه حفيدها، لمعت دمعة خائنة بعين “غيث” وهو يراها هائمة بولده الذي لم يراه بعد هكذا، فأبعد زوجته المستندة برأسها على صدره وتراقب ما يحدث، ثم وضع الوسادة من خلفها ليتجه إليها، فما أن شعرت والدته باقترابه منها حتى رفعت رأسها تجاهه لتخبره بفرحة مغموسة بدمعات السعادة:
شكلك بالظبط يا غيث نفس البوق والملامح
واسترسلت بحماس
أنا عندي صورة ليك وأنت صغير، هتلاقيه شبهك بالظبط.
ابتسم وهو يجيبها بذكاء كمن بلهجته الحنونة
طبعاً يا أمي مش ابني أكيد هيبقى شبهي!
كانت رسالة صريحة لها بأنها أخطئت بحقه وبحق زوجته، فلم يكن بحاجة للشبه والزمردة الدم المتطابقة إليهما، ولكن ربما هذا الأمر يجعلها تثق فيما قال، أعادت “سمية” فرد الغطاء الرقيق على جسد الصغير، ثم حملته واتجهت للسرير، فجلست جوار “عائشة” تتطلع لها لدقائق بحرج، انتهت منها حينما قالت بحزن
متزعليش مني يا بنتي أنا كنت سخيفة معاكي أوي.
وزعت نظراتها المنصدمة بينها وبين “غيث” الذي منحها ابتسامة صافية واشارة لها بأن تحتضنها، فلم تتردد عائشة في ذلك، ثم قالت باحترام مفيش بنت بتزعل من والدتها يا ماما، أنا بالعكس نسيت كل حاجة في الوقت اللي شوفت فيه فرحتك بابني.
انسدلت الدموع من عينيها على مسامحتها لها بعد ما فعلته كانت تعلم بأن الأمر سيتطلب طلب السماح والغفران أكثر من مرة لما فعلته، ولكنها لم ترد تعكير صفوهما في تلك اللحظة بحديثها عما مضى لذا منحتها ابتسامة صغيرة قبل أن تعود لتأمل الصغير من جديد لتسأله بفضول:
هتسميه أيه يا غيث ؟
قال بعد فترة من الصمت
أكيد هسميه على إسم بابا الله يرحمه.
رددت والدته إسمه بسرور:
یزید!
أعاد هاتفه للوضع الصامت للمرة الخامسة بعدما تلقى بها مكالمة من زوجته، فخرج “عمر” من الغرفة، ثم أجابها بصوت شبه مسموع
أيوه يا حبيبتي..
أتاه صوتها المتعصب:
أنت لسه فاكر ترد بعد كل المكالمات دي!
مسمعتش الموبيل لإنه صامت.
إنت فين أنا كلمتك أكثر من مرة على تليفون العيادة الممرضة قالتلي إنك مجتش النهارده
بدى مرتبكاً، فكيف سيخبرها بما حدث مع أخيها وهي بتلك الحالة الغير مستقرة، فقال بعد صمت استحضر به خطة بديلة تخرجه من مأزقه لذا قال:
أنا مع “غيث” بالمستشفى، “عائشة” بتولد.
قالت في صدمة: ازاي ده بس لسه عن معادها كتير.
ثم استحضرت سؤالا هام يبعدها عن هذا القلق المميت:
طب طمني قامت بالسلامة ولا أيه؟
أجابها على الفور، بفضل مداومة اتصاله بغيث:
الحمد لله ربنا رزقهم بيزيد.
قالت ببسمة مشرقة:
ما شاء الله ربنا يباركلهم فيه.
ثم قالت بلهفة:
طب اديني أكلمها أطمن عليها.
مرر يديه على طول شعره بتوتر، تعداه حينما قال بحيادية:
شوية وهخليها تكلمك لإنها لسه طالعه من العمليات.
وأغلق معها الهاتف على ذلك الاتفاق الذي أنقذه في ذلك الوقت، فما أن أغلق معها حتى عاد تنفسه لمجراه الطبيعي، فمازال يخشى أن تعلم بما حدث لعاصي فحينها ستتدهور حالتها ، فهو بالنسبة إليها ليس مجرد أخاً بل أبيها الذي تكفل بتربيتها ومساندتها بكل ما يمتلكه من مشاعر تعوضها عن فقدان والدتها وأبيها، لذا عليه التعامل مع الأمر بمفرده لحين أن يستعيد “عاصي” صحته، وقد بدى ذلك إليه حينما استعاد وعيه، ولكنه الآن يعفو بفعل الأدوية، فخلع “عمر” معطفه ثم تمدد على الأريكة الصغيرة، ليسمح لنفسه بنيل قسطاً من الراحة بعدما هاجره النوم لساعات طويلة، تمكن بها القلق والخوف من السيطرة عليه…
بزغت الشمس كقبلة في ثغر الصباح المشرق؛ فأندفعت حزمة من أشعتها الذهبية على أوراق الأشجار المحاطة بالمشفى الخاص وأصوات العصافير تنساب شجية من بين أغصانها وكأن هناك إحتفالا مهيب بصحبتهم؛ فخلقت أصواتهم جواً مثالي يطرب الآذان لسماعه، فبدأ “عاصي”
بمهاجمة النوم العابس الذي يغلبه كل دقيقة، وتلك المرة حفزته عزيمته على النهوض، فإتكأ بمعصم يديه الأيسر حتى نهض عن الفراش، فرى يديه الأخرى محمولة برباط طبي يتعلق برقبته، بدى منزعج مما تقيد به، ولكنه حمد الله بأنه على الأقل مازال على قيد الحياة، فاستكمل خطاه الثقيل تجاه الشرفة المقابلة للسرير، فوقف يتأمل المنظر المحاط به بنظرة غامضة، كان على وشك خسارة حياته من تلك البقعة التي كانت ستعد نهاية إليه، أغلق “عاصي” عينيه بقوة، يشعر بنسيم تلك اللفحات الباردة التي تجدد شعوره بالحياة، ومن ثم استدار ليتأمل أروع ما يبدأ به عودته للحياة، أضاءت عينيه بوميض مصاحب لفرحة وفخر لاختياره لإصدقاء لم يخون أي منهما العهد، “غيث” يغفو لجواره على المقعد، و”عمر” على الأريكة القريبة منه، كلا منهما تناسى مشاغله الخاصة لأجل صديقه
المقرب، فما الذي سيسعده أكثر من ذلك، دنا “عاصي” منهما، فهز “غيث” برفق، ليفتح نصف عين بانزعاج، فوجده يقف أمامه ويخبره بشفقة:
نام على السرير بدل من نومة الكرسي ده مش مريحة.
فتح عينيه على مصرعيه ثم قال بفرحة:
حمد لله على سلامتك يا عاصي.
واحتضنه بهلع
أنت متعرفش قلقتنا إزاي !
رفع “عاصي” يديه على ذراعيه المصاب بألم سيطر على معالمه، فابتعد
الأخر عنه وهو يقول ساخراً:
لا مواخذة نسينا إنك متجبس ولسه مش في حالتك الطبيعية.
منحه نظرة شرسة، فضحك بصوته الرجولي وهو يشير إليه:
لا مش عايزك تضايق كده، لسه في استقبال للمولود ودنيا.
رفع حاجبيه وهو يتساءل بدهشة:
مولود مین، هي مراتك ولدت؟
اجابه بفرحة:
تصفح
أيوه ولدت إمبارح ومش هتصدق مين كان معاها !
سأله بفضول بعدما رواده شك بالأجابة:
مین؟
رضى فضوله بإجابته السريعة
خالتك بنفسها، وتقريباً كده لما شافت الولد اتحولت 180 درجة، كأن اللي
حصل محصلش من الأساس، ده أنا حتى سايبهم مع بعض قبل ما أجيلك.
ارتاح باله لما استمع إليه، ليخبره بثقة :
كنت عارف إن ده هيحصل.
وركن جسده على المقعد، ليسأله بصوت واهن:
“لوجين” فين، عمر كان قايل إنه هيجيبها
نمت معالمه عن تكشيرة عظيمة، ليتبعها لهجة حادة وعنيفة
أكيد مش قادرة تواجهك بعد اللي حصلك بسبب الحيوان ده.
رد عليه بنظرة غامضة
لعبه معايا بقى على المكشوف، مدام هو اللي بدأ يستحمل التقيل.
ظن أنه على فراشه الوثير، فتقلب بنومته حتى بات بأحضان الأرض
فتمتم بنوم
لسه بدري على معاد العيادة طفي النور واطلعي.
اقترب منه “غيث” ليلكزه بقسوة
ومش عايز قهوة محوجة بالمرة
فعت نظراته حينما استمع لصوت “غيث” يأتي من غرفة نومه، ففتح
عينيه ليجد ذاته مازال بالمشفى، فعبث بأصابعه بعينيه ليعاتبه بضيق:
وهو عيب لما تعملي قهوة ياخويا .
ثم نهض عن الأرض ليجلس على الأريكة، ليعبث بعينيه بنوم
رفع غيث ساعة يديه ليجيبه بعد تفحصها :
10.. بتسأل ليه وراك معاد مهم ولا أيه؟
جحظت عينيه في صدمة حقيقية، فجذب معطفه الملقي أرضاً ثم ركض تجاه الباب وهو يعنف ذاته
إزاي فضلت هنا لحد دلوقتي، أكيد إيمان هتستناني ببوليس الأداب.
وركض من أمام أعينهم، ليترك الضحك يغرد بينهما، فجذب “عاصي” هاتفه، ثم طلب مدبرة منزله يسألها عن “لوجين”، فاستشاط غضباً حينما أخبرته بأنها لم تعود منذ أمس، ألقى هاتفه أرضاً وهو يصيح بإنفعال:
إزاي ده ، عمر قالي إنها كانت هنا!
صمت “غيث” كان مصدر شك إليه، فتطلع إليه مطولاً إلى أن كسر الآخر قاعدة الصمت الغير مستحب لعاصي في أمر جادي كذلك :
معرفش هي فين بس هي من إمبارح وكلامها بيأكد شعورها بالذنب باللي حصلك من قاسم، وأكيد أخدت خطوة من وجهة نظرها الخلاص ليك من اللي هتواجهه.
عبست ملامحه فباتت كمن أشعلها بحطب صلب، ففقد إتزانه لأول مرة وصرخ بالمجنون
غبية إزاي تعمل كده؟
وجاب الغرفة ذهاباً وإياباً، وكأنه وحشاً يزأر خلف عرينه ويستعد لمهاجمة فريسته، ولكن ربما الوحش يختلف تفكيره كلياً عن ذلك الذي يلجئ
للبلطجة، فكان عليه استغلال عقله جيداً ليجعله يعض أنامله ندماً على ما
إقترفه بحقه وحقها، لذا استدار تجاه غيث وهو يخبره بجدية صارمة
اسمعني كويس يا “غيث”، اللي هقولهولك يتنفذ بالحرف الواحد. صغى إليه جيداً، ومن ثم أخرج هاتفه لينفذ ضربته التجارية التي ستستهدف تجارته الذي يفتخر بها، سيجعله الآن يئن حينما يصبح تحت ضرس “عاصي سويلم”، الذي سيفعل المحال لتحقيق وعده بحمايتها الدائمة.
استيقظت من نومها على صوت دقات متتالية على غرفتها، ففتحت الباب وهي تجاهد لفتح عينيها بعدما ظلت الليل بأكمله مستيقظة، شلت أطرافها حينما رأت الخادمة تقف من أمامها بفستان زفاف بسيط التصميم، لا يتدلى طرفه للأرض مثلما حلمت به، فبدى إليها فستاناً عادياً ، ولكن باللون الأبيض، لم تنتظر الخادمة سماع إذنها بالدخول وكأنها تعلم هذا مسبقاً، فوضعت ما تحمله على الفراش ثم أبلغتها برسالة “قاسم”
حينما قالت:
قاسم بيه مستنيكي تحت هو والمأذون.
تجمعت هالاتها الدامعة في عينيها، فقد شعرت بأن وقتها قد انتهى، لم يعد هناك تمنيات بالنجاة من ذلك المأزق، لذا لم تهدر طاقتها في محاربة شيئاً لن يحدث بالأساس، فحملت الفستان ثم دخلت الحمام الغرفة لتبدأ بارتداء ثوب نعشها الأخير، فالقت نظرة متفحصة على نفسها حينما انتهت منه رفعت “لوجين” أصابعها المرتجفة على موضع قلبها وهي تردد بعذاب نبع من داخلها
متتخلاش عني يا عاصي، أنا مش قادرة أتخيل نفسي لحد غيرك.. أنا بأحبك وعارفة إنك مستحيل هتحبني بس على الأقل أنت جنبي! وترقرقت دمعاتها تباعاً، وأصابعها هي من تزيحها مثلما اعتادت منذ طفولتها، ازدحم قلبها بنبضاته الغير متزنة حينما عادت نفس الدقات المتتالية على باب الغرفة من جديد، ولكن تلك المرة فتح الطارق الباب ليوفر عليها فتحه، فوجدته يقف أمامها بحلى سوداء جعلتها ترى الظلام الدامس الذي على وشك عيشه كل ثانية من عمرها، وإزداد حينما ابتسم وهو يخبرها بفحيح صوته الخبيث
يالا عشان منتأخرش على المأذون يا عروسة !
الفصل الثاني عشر.
حاول “عمر” فتح باب الشقة أكثر من مرة، ولكنه لم يستجيب لمحاولته، فعلى ما يبدو بأنها أغلقته من الداخل وتركت المفتاح عالق بالمقبض مثلما تفعل كالمعتاد، فضغط على الجرس مطولاً، ولكنها لم تجيبه، فالتفت يراقب درج العمارة بحرج من وقفته التي طالت لأكثر من نصف ساعة، لم يمل بها من الطرق، ليجدها تجيبه أخيراً من خلف الباب
راجع ليه كنت خليك عندها يومين ثلاثة.
كز على أسنانه بغضب من طريقتها الطفولية، ومع ذلك رد عليها بتعجب:
هي مين دي!
أتاه صوتها المتعصب وكأنها تعارك شياطين العوالم بأكملهم:
اللي كنت مقضي ليلتك عندها یا دکتور یا محترم
صوتها العالي جعله ينتفض بوقفته، وهو يراقب الأبواب الموصدة من جواره، ويتمنى بداخله أن لا يخرج أحداً من الجيران ليجده بذلك الموقف المحرج، وحينما تأكد بأن كل شيء على ما يرام، عاد ليرمي بثقل جسده على الباب ليخبرها بصوته المنخفض
ليلة أيه بس، افتحي يا إيمان وبلاش هبل، أنا مش قايلك كنت فين إمبارح !
واسترسل بعتاب ظنه سيجعلها تلين:
يعني عايزاني أتخلى عن غيث في موقف زي ده!
طرقت بيدها على الباب بعدوانية كادت بأن تخلع وجهه المستند على طرفه وهي تصرخ بشراسة
بطل كدب بقى أنا كلمت عائشة وخالتو إمبارح وقالولي إنك مجتش من الأساس.
انتصب بوقفته فور أن لمح جاره يصعد للأعلى بصحبة زوجته وأولاده، فما أن رأه “عمر” حتى قال بابتسامة مصطنعة:
نسيت مفتاحي جوه والمدام نومها تقيل.
منحته المرأة ضحكة صفراء واستكملت طريقها للأعلى، بينما اقترب منه جاره ليقترح عليه
ما تتفضل معايا فوق لحد ما الأمور تصفى بينك وبين المدام يا دكتور
عمر.
ا تتقنت عينيه بنظرة جعلت الأخير يهرول للأعلى سريعاً، فطرق الباب
بعنف كاد بإسقاطه، وهو يصيح غاضباً:
إفتحي الباب ده، أصل أكسره فوق دماغك.
جابهته بعناد
إكسره ميهنيش.
بقى كده ماشي يا إيمان.
وتراجع للخلف ثم اندفع بكل قوته تجاهه، ففتحت الباب سريعاً ليقابل الحائط من أمامه، وإرتد أرضاً من قوة اصطدامه، فمرر يديه على كتفيه الأيسر وهو يئن ألماً، فأغلقت الباب من خلفه ثم وقفت تحدجه بنظرة تشفى وانتصار، نهض “عمر” عن الأرض ليسرع تجاهها وهو يردد بوعيد
طب ورحمة أبويا وأبوكي مانا سايبك النهاردة.
شعرت بخطورة ما ستواجه، وخاصة بعد أن فقدت حجتها حينما كانت تحتج ببطنها المنتفخة، فكانت تسنتزفه وهي على يقين بأنه لن يقترب
منها، هرعت “إيمان” لغرفتها، فحاولت غلق الباب من خلفها، ولكنه كان الأسرع إليها، فقفزت من فوق الفراش لتصل للسرير الصغير الموضوع
جوار فراشها، حملت الصغير وهي تشير إليه بتحذير:
قرب وشوف ابني هيعمل فيك أيه، هتستقوى عليا ولا هتستقوى عليا! أدمى شفتيه وهو يردد من بين اصطكاك أسنانه
بقى أنا تعملي فيا كده كل يوم والتاني قدام الجيران، أنا مبقتش عارف أودي وشي منهم فين، ومش مضطر أغير الشقة كل شهر والتاني بسبب جنانك
تصفح
استحضرت دموعها الزائفة، وهي تشهق بصوت مبالغ به
واللي بعمله ده ليه مش من عمايلك السودة، كل شوية تختفي
وتختر علي حجة شكل، ولما أدور وراك ألقيك كداب.
ألقى الوسادة تجاهها وهو يصيح بإنفعال:
ومين قالك تدوري ورايا، متجوز غفير أنا ولا أيه؟
تفادت الوسادة ببراعة، ثم أجابته بعصبية:
أه ما أنت نفسك في كده عشان تدور على حل شعرك.
مرر يديه على جبينه وهو يحارب صداع رأسه القوي، فتمتم بخفوت:
وصلتيني لحالة صعبة، بقيت حاسس إني محتاج لدكتور نفساني
يكشف عليا وعلى المرضى اللي عندي لإني معتش عندي طاقة…
لوت شفتيها بتهكم
شوفت بقى إن المهنة دي مش لايقة عليك، لان الدكتور النفسي
المفروض يطون بيتسم بالصبر والهدوء والإتزان وإنت مفيش شرط من
دول متحققين فيك.
قلص المسافة بينهما، ليجيبها ببرود خطير
مهو ده حصلي من يوم ما شوفت خلقتك السودة دي.
وضعت الصغير على الفراش، ثم وقفت قبالته، لتواجهه بما قال:
نعم هو أنت كنت تطول، ده أنت حفيت ورايا عشان تتجوزني. كنت مغفل ومعترف بده.
خلاص إحنا ننفصل وكل واحد يروح لحاله، أنا هتصل بعاصي بجي
يخدني.
وحملت هاتفها الموضوع على الكومود ثم كادت بتحرير زر الإتصال فانتشل “عمر” الهاتف منها وبدى جاداً للغاية وهو يخبرها:
بلاش نزعجه كل دقيقة بمشاكلنا التافهة. تحوله السريع جعل الشكوك تتسلل لداخلها، وخاصة بعدم إتصاله بها منذ الأمس، حتى أنها لم يأتي لزيارتها ، فاننعقد حاجبها وهي تتساءل بخوف: ليه ماله عاصي يا عمر ؟
شعر بأن ردة فعله كانت مبالغ بها، وستكشف حتماً ما يخفيه عنها، لذا
تهرب من لقاء عينيها وهو يجيبها
مفيش بس مشغول شوية في شغله.
تعرفه أكثر من نفسها، طريقته بالتهرب كانت ملحوظة لها، فاقتربت منه ثم قالت بصوت مهزوز يستحضر البكاء في أي لحظة:
أخويا ماله ؟
أمسك “عمر” بيدها المرتعشة بين أصابعه الخشنة، ثم قال:
مفيش يا حبيبتي هو بس كان تعبان شوية ونقلناه المستشفى بس الدكاترة طمنونا عليه.
جحظت عينيها في صدمة، لتعنفه بحدة:
تعبان وأنت مخبي عني ولا همك!
ثم تركته وأسرعت لخزانتها، لتجذب جلبابها الأسود سريع الإرتداء، ثم
جذبت حجابها وصوتها يتقطع لبكائها
أنا كنت شاكة إنك مخبي عليا حاجة بس مكنتش متوقعة إن الموضوع متعلق بعاصي!
دنا منها عمر ثم قال :
ممكن ممكن تهدي الاول وتفهميني إنتي رايحة على فين وانتي لسه
تعبانة وبالحالة دي!
جذبت حقيبة يدها وهي تجيبه بقهر:
أمال عايزني أقعد وأسيب أخويا أنا لازم أشوفه عشان أطمن.
ثم حملت الصغير بين يدها، واتجهت للردهة، فاتبعها “عمر” وهو يحذرها: هناخدي الولد معاكي ازاي مش هينفع يتعرض للهوا وهو مكملش حتى يومين
استدارت لتقابله بدمعاتها التي تسيل على وجهها ، وقد شعرت به يخلق حجج حتى لا تغادر
انت ليه مش عايزني أروحله، عاصي جراله أيه بالظبط ؟
حزن “عمر” لأجلها، فهو يعلم ما يعنيه عاصي بالنسبة اليها، فحمل عنها الصغير ثم قربها لصدره ويديه تربت على ظهرها بحنو
عاصي كويس والله ، يعني معقول هيبقى فيه حاجة وهرجع البيت.
وأبعدها عنه ثم قال بلهفة حينما رآها مازالت تبكي:
دراعه بس مكسور ومتجبس، ولو مش مقتنعة بكلامي هخدك تشوفيه بس ادخلي الأول اغسلي وشك وفوقي كده وهننزل حالا أومأت برأسها، وولجت للداخل لتنفذ ما قاله بهدوء، وحينما عادت إليه وجدته أبدل ثيابه، وجهز الصغير في بطانة زرقاء أحاطت بالحقيبة الموضوع بداخلها، وقد حرص على لفه جيداً حتى يحميه من التيارات التي ستبدو باردة بالنسبة لجسده الهاش، ليغادر بها عمر للقصر بعد أن علم من “غيث” برحيلهما بعد اصرار “عاصي” على ذلك.
عاون “غيث” “عاصي” على إرتداء ملابسه، فصفف الأخير شعره بثبات تام، وكأنه على مدعد مع عشاء عمل خاص، وليس استعداده لمواجهة عدوه، فما أن انتهى حتى هبط للأسفل، فلحق به “غيث” قائلاً بحيرة: الناس مستنين منك مكالمة واحدة عشان يلغوا الصفقات المشتركة بينهم وبين قاسم خلدون، ومع ذلك أنت مش مديهم قرار نهائي للي حابب تعمله، أنا نفسي مش عارف إنت في دماغك أيه!
زار شفتيه بسمة خبيثة، فرد عليه دون أن يتطلع إليه:
كل حاجة في معادها بتبقى أفضل يا غيث.
وإتجه للخارج فدنا منه السائق بالسيارة، ومن ثم فتح بابها ليستقر بالخلف، فلم يتركه غيث تلك المرة وصعد لجواره، فاستكمل “عاصي”
حديثه بمكر:
اللي بيبتديها بالدم بيتوقع إن الرد هيكون بنفس الطريقة، ومبيقاش متوقع غير كده.
تعمق بالتطلع إليه، بنظرة حاولت كشف ما يفكر به، وحينما فشل أشار إليه
بضيق:
مش مرتاحلك.
منحه ابتسامة خبيثة وهو يتطلع من نافذة السيارة للمارة برزانة وثبات مميت.
أعلم إنك يا قلبي لست علي ما يرام، فهناك شيء يخنقك من الداخل ودمع يقف علي أطراف الأهداب يؤلمك بلا هوادة، فلم يشعر بك أحداً سوى الله ولن يلمح حزنك حتى أقرب الأقرباء، أصبحت يا قلبي تكتم نصف الحديث لأنه أكبر من أن يقال أو يفهم، فكم تمنيت أن تصرخ بأعلى صمتك و تقول مستحيل العيش دونه وكلمات أخرى تهمس بشوقك إليه، فكيف أخبرك بأنني أتألم مثلك ويعتصرني بفراق من عشقت، فربما الدمعات هي من تهون ما يشعر كلانا في تلك اللحظة، لا تعلم لما تختطف النظرات تجاه
باب المنزل الضخم، وكأنها تتمنى قدومه، بالرغم من أنها لا تصدق بأنه سيفعلها بعدما طاله الأذى، ولكن تظل الأمنيات شيئا اعتادي بالنسبة لجسد مازال بداخله روح انهمرت دمعاتها تباعاً حينما وضع المحامي الأوراق من أمامها قائلاً بابتسامة مصطنعة اعتاد رسمها في مناسباته:
إمضي يا عروسة.
وزعت “لوجين” نظراتها الحائرة بين “قاسم” ومكان الامضاء بعينين غائرتين، ولأول مرة ينتباها ضعف وقلة حيلة لما ستفعله، لم يعنيها أبيها كثيراً فلطالما لم يهتم لأمرها كيف ستهتم هي لأمره، كل ما يعنيها هو ذاك كثيراً فلطالما لم يهتم لأمرها كيف ستهتم هي لأمره، كل ما يعنيها هو ذاك الرجل الشهم الذي ساعدها وفتح لها منزله دون مقابل، كانت تود حمايته من شر عظيم، سيطوله هو وعائلته، مرر قاسم يديه على طول ذراعيها فانتفضت بفزع، لتتراجع بجسدها بعيداً عن يديه القذرة، فردد ببسمة بدت مخيفة
امضي يا حبيبتي مش عايزين نعطل المتر.
تناولت القلم بين أصابعها المرتعشة، وهي تحاول غصب أصابعها على التحرك فتختم إسمها بمثياق سيجمعها به ولكن لا تعلم لما خفق قلبها بتوتر جعلها تشعر بوجود حاميها، فرفعت عينيها تجاه الباب، فوجدته يقف أمامها بشموخه المعتاد، ونظراته الصقرية تحيط من يقف مندهش لجوارها، ألقت “لوجين” قلمها، ثم هرعت تجاهه، لتهمس بعدم تصديق: عاصي
خفق قلبه فشوقه لسماع صوتها كان يقتله على البطيء، ناهيك عن سماع اسمه بلحن شفتيها المعسول، خطف “عاصي” نظرة سريعة إليها، قبل أن يعود لمعركته الدامية بينه وبين ذلك اللعين، الذي أشار لرجاله بأن يطوفوا المكان، فكاد أحداهما بأن يبعدها عنه، فلم يكفيه سوى ذراعيه السليم لتحطيم عظامه، فتراجع للخلف عنها بخوف، بينما وقف “غيث” بظهره كالنمر المتأهب بالإنقضاض على فريسته بأي وقت، هبط “قاسم” الدرج القصير الذي يفصله عنه، فوقف مقابله في حرب باردة بالنظرات، أنهتها خشونة نبرته الحازمة
أنا مش قادر أفهم أنت ليه بتعمل كل ده عشانها، يعني اللي حصلك مدکش ذرة عقل تفكر بيه من اللي ممكن يحصلك.
ابتسامة مثل المرسومة على وجه “عاصي” بالرغم من جمود تعابير وجهه كانت مخيفة بالدرجة التي وترت من يقف أمامه، وخاصة حينما أبعد “لوجين” بيديه ليجعلها تقف من خلفه فاختبئ جسدها الهزيل خلف
ضخامته التي بدت مهيبة لها، ناطحه بنظرة شرسة قبل أن يحرر كلماته السامة:
%١٦
تصرفاتك الغبية صورتلك إن عاصي سويلم” جبان ومش هيكون له ردة فعل
لعق “قاسم” شفتيه بارتباك فشل باخفائه، رغم إنه بموضع قوة فبالنهاية يقف بمنتصف منزله ورجاله يحيطنه تقلصت المسافة بينهما حتى بات لا يفصلهما شيء، فخرج صوته كفحيح وهو يخبره
أنا حذرتك قبل كده وقولتلك أنت اللي بايدك هتكتب نهاية لامبراطوريتك العظيمة.
وابتسم ساخراً وهو يستكمل:
ما أنت عارف بقى إن عاصي سويلم مبيخلفش بوعد أخده على نفسه.
ثم أشار بعينيه لهاتفه الذي يحمله بين يديه:
رد على تليفونك.
حدجه بنظرة مشتتة، تحولت لخوف حينما رن هاتفه برقم هام بالنسبة إليه، فتوتر وهو يحاول استدعاء اتزانه ليجيب على المكالمة التي بدت له
من البداية تصب لمصلحة من فرفع الهاتف لأذنيه ليستمع لما استهدفه في مقتل، فجعله يفقد القدرة على تحريك ساقيه، فارتد للخلف ليجلس على المقعد باهمال، وهو يرى شاشة هاتفه تنذره بانتهاء المكالمة التي انتهت من الطرف الأخر، بخطوات واثقة اقترب منه “عاصي” ليضع قدميه على نفس مقعده، ثم مال بجسده تجاهه وهو يردد بتغطرس نبرته
الرجولية:
الصفقة اللي رهنت عليها ودخلت بتقلك بقت تخصني، يعني من الآخر بقيت على الحديدة ده لو بقيت تملكها.
ثم استكمل بنظرة احتقار إليه:
إسمك اللي فخور بيه ده أنا مسحته من السوق، ومبقاش فيه اللي تغامر بیه یا قاسم باشا عشان بعد كده تتعلم تلعب صح مع أسيادك.
ثم انتصب بوقفته وهو يستطرد بصرامة:
الدرس ده هيعلمك تختار عدوك صح، لإن النتيجة أحياناً بتكون قاضية…
وتركه واتجه ليقف جوار رفيقه وجوارها، فرفع يديه ليشير إلى من تتطلع
إليه بذهول وصدمة، ليقول ممازحاً إياها:
مش يالا نمشي ولا عجبك قعدتك مع الملزق ده.
رسمت ابتسامة على شفتيها أشرقت شمس عينيها التي تخفيها بين أهدابها، فاتبعت “غيث” للخارج، ولكنهم توقفا حينما استمعوا لصوت “عاصي” يتحدث:
نسيت أقولك إن الصفقة اللي بينا لسه زي ما هي عشان تعرف بس إني كريم وبديك فرصة تعوض خسايرك، ومن المفترض انك تكون ذكي وتستغلها كويس وتكسب رضايا عنك وده هيحصل لما تحضر فرحي أنا
ولوجين وتباركلنا بقلب صافي.
وغمز له بخبث قبل أن يغادر من أمام عينيه، ليتركه في صدمة وعدم استيعاب لما تمكن من فعله، فقد غلبه بكل ما تحمله معنى الكلمة، وجعله عاجزاً، يواجه صدمة تلو الأخرى باستسلام وانكسار.
لم تختلف صدمة “غيث” عن صدمة “لوجين” التي استمعت لإعلانه الصريح بالزواج منها ، بدت حائرة للغاية، ولكنها لا تنكر سعادتها بأن حصنها المنيع عاد ليحميها من جديد توقف السائق أمام المشفى التي تقبع به “عائشة”، بعد أن وجهه “غيث” فهبط ليتجه للداخل، كاد “عاصي” بتتبعه فاستوقفته “لوجين” وهي تسأله بدهشة:
عملت كده ليه ؟ أنت مش مجبر تتجوزني بعد اللي حصلك.
ابتسم “عاصي” ثم ضرب كف بالأخر وهو يردد بحيرة بجد مش مصدقك لسه من شوية بنقذك من الملزق ده وبرضه مش عاجبك اللي عملته !
أطبقت على شفتيها بقوة وهي تتحكم في دموعها، ثم قالت بصوت مختنق
وهتفضل لحد أمته تنقذني منه ومن شره؟
منحها نظرة عميقة قبل أن يقترب منها، ليخبرها بصوته الرخيم
لحد أخر نفس خارج مني، وقتها بس ممكن يقدر يأذيكي.
ثم تابع بمعسول كلماته التي سكنت جوارحها فكانت أعظم دواء:
ويمكن يخاف من شبحي اللي أكيد هيلاحقه فمش هيكون عنده اختيار تاني غير إنه يسيبك.
انغمست بكلماته التي اشعلت رغبات حبها تجاهه، فرفعت حاجبها وهي تتساءل بدهشة وهي تراه يتعمق بالتطلع لها :
في أيه!
تعلقت عينيه بعينيها لحظات بدت كاندماج الشمس والقمر معاً، وإحتضان
النيران لحبات الثلج فانصهرت خصائصه، فخرج صوته الرخيم يخبرها :
بحب الحياة المختلفة اللي عيونك بتعكسها، وجوايا رغبة إني أشوف أكثر من كده.
ثم جذبها إليه ليردد بهمس ساحر
وبعد جوازنا هيكون لينا عالمنا الخاص
ابتسمت بعدم تصديق لما تستمع إليه لتمتم ساخرة
مش قادرة أصدق إن اللي واقف قدامي هو نفسه ” عاصي سويلم”
الكئيب، يمكن أكون بحلم وهفوق من الحلم ده بعد وقت قصير! هز رأسه نافياً وهو يخبرها بمكر:
متقلقيش مش هخليكي تفوقي أبداً منه.
ضمت شفتيها معا بارتباك، فعبثت بخصلات شعرها المتطايرة بفعل الهواء، ومن ثم شغلت عينيها بالتطلع جانباً، فتساءلت باستغراب: إحنا ليه جينا هنا، أنت كويس أجابها وهو يتحرك تجاه باب المشفى
هنطمن على “عائشة” وهنرجع القصر على طول.
اتبعته وهي تطرح سؤال آخر:
ليه مالها ؟
رد عليها بهدوء بعدما ضغط على الطابق الذي يود الصعود به بالمصعد ولدت.
ابتسمت بفرحة ثم قالت بمرح:
هي متفقة مع إيمان ولا أيه؟
منحها ابتسامة زادت وسامته يمكن.
أخفضت نظراتها عنه سريعاً، فما أن توقف المصعد حتى اتبعته لغرفتها، وعينيها تتلهف لرؤية الصغير، فما أن ولجت للداخل حتى وجدت الجميع
فأسرعت “إيمان” تجاه أخيها، وهي تردد بصوت مبحوح : انتقلت نظراته على “لوجين” وهو يجيبها ببسمة هادئة كنت بجيب عروستي.
عاصي، أنت كنت فين قلقتني عليك روحتلك البيت ملقتكش!
انستاها كلمته اصابة يدها، فرددت بفرحة _عروستك!
تدخل “غيث” بحديثهما حينما قال بمزح
نفس صدمتي لما عرفت إن أخيراً عاصي قرر يقطع العزوبية ويتجوز.
نهضت “سمية” عن مقعدها ثم أسرعت لتقف جواره، قائلة بفرحة اتنقلت بنبرتها
الف مليوون مبروك يا حبيبي.
منحها ابتسامة هادئة
منحها ابتسامة هادئة
الله يبارك فيكي يا خالتو.
واتجهت للوجين، فوضعت الصغير بين يدها وهي تضمها لصدرها :
مبروك يا حبيبتي.
اتنقلت نظرات “عاصي” المندهشة من تغير خالته لتلك الدرجة، فرفع “غيث” كتفيه بقلة حيلة، ومازال يقف جوار زوجته، فتحرك تجاه الشباب، بعدما ابعدته “إيمان” لتجلس جوار رفيقتها، حتى “لوجين” وقفت لجوارها لتحتضنها بحب وتبارك لها ما منحها الله به، مال عمر على كتفيه ليهمس بمشاكسة:
يعني لا كده عاجب ولا كده عاجب نقتل الولية يعني! لكزه “غيث” بقوة، فتعالت ضحكاته هامساً بمكر:
لا إحنا عندنا عريس ولازم نفوقله بدل حركات العيال دي.
انتقلت النظرات تجاه “عاصي” الذي أشار لهم بتحذير:
حواراتكم دي تبعد عني بدل ما وعهد الله ما أعمل فرح خالص!
تكملة الرواية من هناااااااااا
التعليقات