التخطي إلى المحتوى

 رواية الاربعيني الاعزب الفصل الأول والثاني والثالث والرابع بقلم إية محمد رفعت جميع الفصول كامله 


رواية الاربعيني الاعزب الفصل الأول والثاني والثالث والرابع بقلم إية محمد رفعت جميع الفصول كامله 

الاول والثانى

مع إشراقة هذا الصباح بداية، للخريف المشرق التي تنتظره تلك الأشجار العملاقة بفارغ الصبر، لتتخلص من ورقاتها البائسة كالمرء التعيس الذي يتخلص من أحزان قلبه الغائمة، مثل حال صاحب ذلك القصر العريق، الأربعيني المرغوب من أغلب النساء لما يملكه من ثروةٍ كد بها حتى وصل لعمره هذا، لا يعلمون بأنه يعيش حياة عسكرية، بقوانينٍ وضعها لقصره، فيتحكم بقواعده بحزمٍ وصرامة، يحاول من خلفهما أن يخبئ قلبه من حرقةٍ لا يقو عاشقاً على تحملها. 

تسللت خيوط الشمس من خلف الستار الداكن لتنير غرفته ذات الطلاء الأسود ، ليكسر صمتها المخيف صوت رنين المنبه المعتاد سماعه بالنسبةٍ إليه، فرفع يديه ليوقف رنينه المزعج، ثم أزاح غطاء الفراش لينهض عن سريره الوثير، ومن ثم إتجه لحمامه الخاص، فوقف مقابل مرآته ليزيل شعر لحيته الزائد، ومن ثم صفف شعره الأسود الذي يكسوه بعض الخصلات البيضاء التي زادت من وسامة وجهه القمحي، وعينيه البنية التي كانت تتوهج بتحدٍ سافر لضوء الشمس المذهب، فكانت تحاوط حدقتيه البنية خط خفيف من العسل المسكوب،  انتهى”عاصي”مما يفعله ثم خرج ليختار إحدى بذلاته الداكنة المعتادة بالنسبةٍ إليه، ثم هبط ليترأس سفرته الكبيرة بمفرده، لم يشعر يوماً بمللٍ يهاجمه، وهو يعيش بمثل ذلك القصر بمفرده لأعوامٍ، في عزلةٍ إختارها هو لذاته، إنتهى من تناول طعامه في تمام الثامنة والنصف كالمعتاد اليه ثم إحتسى فنجان قهوته بالتاسعةٍ الا ربع مثلما إعتاد، ليغادر قصره في التاسعةٍ متجهاً إلى شركته،وما أن وصل السائق لمحل عمله، حتى هبط “عاصي” من سيارته ذات الطراز القديم ليتجه لمكتبه، فهرع إليه السكرتير الخاص به وهو يفتح مفكرته الصغيرة ويخبره بمواعيده الهامة: 

_صباح الخير يا فندم، عند حضرتك إجتماع مهم النهاردة بعد ساعتين مع السيد “قاسم خلدون” . 

أومأ بخفة برأسه وهو يشير له بحزمٍ: 

_خلينا منضيعش وقت، هاتلي الملفات المهمة على مكتبي. 

أجابه على الفور: 

_حالاً هجبهم لحضرتك.

وكاد بالمغادرة ، ولكنه توقف فور سماعه سؤال سيده:

_”غيث” وصل ولا لسه؟

إستدار تجاهه ثم أجابه:

_ وصل مكتبه من شوية ، تحب أبلغه بحاجة؟ 

هز رأسه وهو يكمل طريقه لمكتبه: 

_لا، روح أنت إعمل اللي قولتلك عليه. 

إنصاع إليه ثم أسرع لمكتبه ليختار له الملفات الهامة قبل أن يغادر الشركة.

                         ******

العينين أحياناً تعكس ما بالقلبٍ، ربما تنم عن وجعٍ متعلق بماضٍ ترك أثره مع تلك الأيام التي نختبرها، وربما مازال يلاحق مستقبلك المرهون بتلك اللحظة التي إندث بها الألم ليترك أثراً لن يمحى بتلك البساطة، شرفة عينيه المنطفأة فصحت عما يحبسه خلف رومادية عينيه الداكنة، يحمل أعباء عالم بأكمله على كتفيه، فإنطفئت معالم وجهه الجذاب،ليصبح بلا روح ولا حياة!   من الصعب تصديق أن من يقف أمامك شاباً لا يتعدى عمره السادسة والعشرون عاماً، وكأن أحزانه أضافتله عمراً فوق عمره، إستقام بحركةٍ جسده المائل على مقعده المريح،فور سماعه دقات متتالية على باب غرفة مكتبه، فردد بعمليةٍ باحتة:

_إدخل.

إنفتح باب الغرفة ليظهر “عاصي” من أمامه بقوامه الممشق، فقطع المسافة التي تفصله بينه وبين المقعد المقابل إليه، ليجلس بصمتٍ تام دام لأكثر من خمس دقائق، فإرتبك من يجلس أمامه بصورةٍ ملحوظة، حتى أنه فتح حاسوبه وألهى نفسه بتفحصه، ثم قال بصوتٍ حاول إخمد أوجاعه خلفه نبرته الثابتة: 

_كنت لسه هعدي عليك، عشان أقولك أن العملا بتوع ألمانيا كلموني النهاردة وآآ.. 

قطع “عاصي” حديثه، وكأنه يقطع عليه حجج تهربه من الحديث المفترض عليهما الحديث به، فقال: 

_ هتهرب لحد أمته من الإجابة على أسئلتي يا غيث! 

ترك ما يحمله عن يديه، ثم زفر وهو يجيبه بضيقٍ: 

_لحد ما تقدر تستوعب إن اللي بيني وبينها خلاص إنتهى، ومستحيل نرجع زي الأول.

تعمق بنظراته تجاهه، وكأنه يحاول إستكشاف حقيقة الأمر، فتهرب الأخير من هذا اللقاء ربما لأنه ليس مستعداً لتلك المواجهة التي ستفضح حبها الذي يحاول التخلص منه بشتى الطرق، فسحب نفساً مطولاً قبل أن يخرج ما به من ألمٍ يتعمق بنفسه: 

_”عائشة” نهت كل شيء كان جميل بينا يا “عاصي”، فالطلاق هو حلنا الوحيد.

انعقد حاجبيه بضيقٍ من إصراره على الطلاق، وكأنه أمراً سلسل بالنسبةٍ إليه، فقال بإنفعالٍ: 

_أنا مش فاهم أنت إزاي عندك القدرة إنك تتكلم عن الطلاق بالبساطة دي ومراتك حامل، وكل ده ليه يعني عشان حصل مشادة في الكلام بينها وبين والدتك! 

نهض” غيث” عن مقعده، ليرد عليه بعصبيةٍ كبتت بداخله كثيراً وحان وقتها: 

_أنت مشوفتهاش كانت بتتكلم معاها إزاي، كان فاضل إنها تمد إيدها عليها لولا أنا اللي دخلت في الوقت المناسب.

ثم إستطرد بعتابٍ قاسي يحمله تجاهه: 

_وبعدين أنا شايفك بتدافع عنها وكأن الست اللي إتهانت دي متبقاش خالتك! 

أجابه بهدوءٍ: 

_أنا مش بدافع عنها ولا واقف في صفها يا “غيث”، أنا عايزك على الأقل تحاول تسمعها، وتبطل تبقى مندفع وعدواني بالطريقة دي. 

إرتسمت على وجهه إبتسامة شبه ساخرة: 

_أنا مش طايق أشوف وشها عشان أسمعها من الأساس! 

ثم عاد ليجذب حاسوبه ليتابع عمله من جديدٍ، فلم يستسلم”عاصي” وقال: 

_أنا حزين عليك، صدقيني هيجي الوقت اللي هتندم فيه على اللي بتعمله ده. 

رفع عينيه عن حاسوبه ليرد عليه بألمٍ: 

_أنا لو حسيت بالندم فده لإني مسمعتش كلام والدتي من البداية وسمحت لواحدة عاشت عمرها كله في ملجأ إنها تدخل حياتي. 

هز رأسه وهو يردد بإستسلامٍ: 

_النقاش معاك طريقه ملوش رجوع. 

وتركه وكاد بالمغادرةٍ فإستدار ليخبره على مضضٍ: 

_متنساش المعاد اللي بينا وبين “قاسم خلدون”. 

وتركه وغادر دون أن يستدير خلفه مجدداً، يعلم بأنه يحترق بعشقها، ومع ذلك يرفض أن يمنحها فرصة واحدة، فرصة يستمع بها إليها، ليته يمتلك تلك الفرصة لتعود معشوقته من الموت لأحضانه التي باتت مهجورة من دونها! 

                        ******

 إتجه “عاصي سويلم” بكامل هيبته لمكتبه الخاص،  فوضع حقيبته المصنوعة من الجلد الأسود على المكتب ومن ثم ألقى بثقل جسده الرياضي على مقعده وعينيه تبحران بهيامٍ بتلك الصورة الصغيرة المعلقة على طرف مكتبه الخاص، لم تكن مجرد صورة عادية بل سجنه الذي يتسع به عاماً بعد الأخر حتى بات يعتاد ظلامه القاسي، قرب “عاصي” الصورة إليه وعينيه البنية تتعلق بتفاصيل وجهها الذي يحفظه عن قلبٍ هام بها لأعوامٍ، أدمعت عينيه وهو يدفنها بصدره بشوقٍ يقتله رويداً رويداً، يتمنى إن مازالت لجواره تشاركه عشقه القاتل بين أضلاعه، ولكنها أمنية من المستحيل تحقيقها، نعم غادرت  تاركة عذاب يبتلعه يوماً عن يوم حتى نقم رغبة الإقتراب من أي إمرأة سواها، لذا أصبح رجل الاعمال الاعزب المرغوب من الفتيات، والاغلب يظنون بأنه يطمح بالمزيد من الثروة والمال لذا استكفى بوحدته ليحقق طموحاته الصاعدة،  لا يعلم أحداً بانه فقد قلبه مع من رحلت من ذلك العالم، فتح عينيه على مهلٍ وهو يهمس لصورتها بابتسامةٍ يجاهد لرسمها: 

_صباح الخير يا عمري،النهاردة شايف إبتسامتك جميلة وكأنك حاسة إن النهاردة عيد ميلادي الأربعين!

وتمعن بالتطلع لملامحها الرقيقة ثم عاد ليستطرد بحزنٍ: 

_النهاردة كملت أربعين سنة، وبالتحديد تمت عشر سنين من غيرك.

لم يشعر بتلك الدمعة الخائنة التي انسدلت على وجهه، فأخرج ما يضيق بصدره: 

_عشر سنين وإسبوعين وتلاث ساعات تقريباً، العمر بيعدي ببطء وأنا بعد الأيام عشان ربنا يجمعني بيكِ يا نور عيوني.

واستكمل بصوتٍ مختنق بالدموعٍ : 

_أحياناً بسأل نفسي لو مكنش قتل النفس محرم كنت هعمل أيه؟  ، يمكن ذكرياتك هي اللي بتديني القوة عشان أبدأ من جديد. 

ومرر اصابعه على شفتيها قائلاً: 

_وحشتيني،كل ثانية بتعدي وأنتي بعيدة فيها عني قلبي بيتجلد من الوحدة، بس اللي مصبرني إني حاسس إن لقائي بيكِ قرب يا روح قلبي.

وترك الصورة عن يديه ثم ارتدى نظارته الطبية ليبدأ عمله الذي إنتهى بعدما أنهى إجتماعه الهام بموظفين شركته، ومن ثم إتجه لسيارته ليعود للقصر حتى يبدل ثيابه لاجل موعده المسائي، فما أن صعد “عاصي” لسيارته حتى أخرج هاتفه الذي دق للمرة الثالثة، فابتسم حينما رأى اسم رفيق دربه وزوج اخته الوحيدة، فما أن فتح الهاتف حتى إستمع لصوته المتعصب: 

_أنا عايز أعرف أنت بتشيل تليفونات ليه وأنت في الأساس بتتجاهل أي مكالمات تجيلك؟

ابتسامة ماكرة زينت وجهه الجذاب، ومن ثم اتبعها قوله الخبيث: 

_ أنت بتبالغ صح! أنا عارف إنك كلمت  “مصطفى” السكرتير وقالك أد أيه مشغول يبقى لزمتها أيه اللف والدوران ده! 

أتاه رده اللازع: 

_أيوه طبعاً كلمته عشان أساله عنك، ده أنا بقيت بكلمه أكتر ما بكلم مراتي، مهو صاحبي مغرور ومش مهتم بيا ولا بمكالماتي المهمة.

إحتضن مقدمة أنفه بيديه وهو يجاهد الصداع الذي سيتسبب له، لذا قال بصرامةٍ:

_قولي اللي عندك يا “عمر” عشان نخلص من محاضراتك.. 

تنحنح وهو يردد بمرحٍ: 

_ممكن أكون بالغت شوية بس ميهمنيش، المهم أختك عايزة تفاجئك في عيد ميلادك وأنت ولا كأني قولتلك حاجة. 

ابتسم ساخراً: 

_أنا شوفتك فين قبل كده!

ثم استطرد بمللٍ: 

_هرتب نفسي الأول وبعدين نشوف. 

وأغلق الهاتف وهو يردد ساخراً: 

_غبي!

ثم جذب حاسوبه ليلتهي به قليلاً،  فإبتسم حينما وجد صورتها تستحوذ على حاسوبه الخاص كما تستحوذ عليه هو شخصياً، فغامت عينيه بذكراها التي لم يمل منها يوماً. 

##

_قولي أنت أمته هتفضالي!، أنت دايماً مشغول يا “عاصي”. 

ابتسم وهو يخبرها بحنانٍ: 

_إزاي أنشغل عنك وأنتِ على طول بتقتحمي أوضة الإجتماع والغضب مسيطر على عنيكِ لدرجة أن الموظفين أخدوا على كده فمبقاش حد فيهم بيقفل الباب!  

لوت شفتيها وهي تخبره بسخطٍ: 

_أحسن خليهم يتعودوا، مهما هيقسموني فيك بعد الجواز..  

تعالت ضحكاته الرجولية وهو يشير لها بمكرٍ: 

_ثواني بس، أنا شامم ريحة حريق جاية من عندك، خلينا نروح للدكتور ونطمن إنك بخير.

جزت على أسنانها غضباً ومن ثم جذبت أوراق الملفات التي تملأ مكتبه لتلقيها بوجهه وهي تردد بعصبيةٍ: 

_النار دي هتحرقك إنت يا”عاصي”. 

حاول حماية وجهه من الأوراق المتطايرة، فجذبها لأحضانه وهو يردد بخبثٍ: 

_هتحرقنا مع بعض يا عمري. 

عاد من شروده حينما تساءل السائق بإستغرابٍ لبقائه المطول بالسيارةٍ:

_وصلنا يا باشا، ولا حضرتك تحب نروح مكان تاني!

أفاق من دوامة ماضيه والبسمة الفاترة مازالت مرسومة على وجهه،  فهبط ليتجه لغرفته، ومن ثم إختار بذلة سوداء أنيقة، وإغتسل ليستعد للقاء “قاسم خلدون” رجل الاعمال الشهير، فتلك الصفقة تعد من أهم ما ستحققه شركات “عاصي سويلم” وخاصة بالشراكة معه، وقف أمام مرآته المطولة ليعدل من جرفاته الرمادية، ثم نثر البرفنيوم الخاص به على بذلته، ولحيته النابتة، ليلقي نظرة أخيرة على ذاته قبل أن يتجه للاسفل، فجلس ينتظر ابن خالته، زفر “عاصي” وهو يتفحص ساعة يديه بضيقٍ، فإتصل به وحينما لم يجد رداً،همس بسخطٍ:

_متأخر ومبيردش كمان عظيم!

وجذب كوب قهوته الذي وُضع من أمامه ليرتشفه على مرتين، عله يكبت غيظه، فمرت أكثر من نصف ساعة ثم إستمع لصوت سيارته،فخرج ليجده يقف من أمامه، هبط الدرج بثباتٍ حتى بات يقف مقابله، فقال بغضبٍ:

_لو مكنتش حابب تيجي كان ممكن تبلغني بده، مش تسبني بستناك لحد دلوقتي وأنت عارف إني مبحبش أتاخر عن مواعيدي.

تحكم “غيث” بإنفعالاته بصعوبةٍ، ثم قال بسكونٍ عجيب:

_أنا معرفش نسيت المعاد إزاي. 

لانت معالمه حينما شعر بحالةٍ التخبط التي يختبرها، فصعد بالمقعد الأمامي المجاور له ثم قال: 

_طيب يالا عشان منتأخرش أكتر من كده. 

إنصاع إليه ثم صعد ليحرك به على الفور  للفندق المنشود، فما أن وصلوا حتى وجدوا “قاسم”  باستقبالهم هو وأبيه وعمه، والجميع يرحب به بهيبةٍ وقار، ليشير له “قاسم” على تلك الطاولة الضخمة التي أعدت خصيصاً إليه،  ليجذب الجرسون أحد المقاعد التي إحتلها بهيبته الوقورة، ولجواره جلس “غيث”، فلس الاب والعم و”قاسم” مقابله ليبدأ بالحديث: 

_مبروك علينا شراكة زي شراكتك يا عاصي باشا. 

إكتفى برسم إبتسامه صغيرة له،  فإستكمل” قاسم” قائلاً: 

_عشان كده هستغل المناسبة المهمة دي، ويبقى الإحتفال إحتفالين بخطوبتي أنا و”لوجين”..ولا أيه رأيك يا عمي؟ 

بدأت الصدمة جلية على وجه عم “قاسم”، فإبتلع ريقه بصعوبةٍ ملحوظة،  ومع ذلك حاول السيطرة على إنفعالاته وهو يجيبه:

_زي ما تحب يا إبني… هروح أبلغ “لوجين” عشان تستعد. 

شعر “عاصي” بأن هناك خطباً ما بين العم وابن أخيه، ولكن لم يعنيه الأمر كثيراً، فالمهم بالنسبة إليه أنه تمم الصفقة الهامة، فأراد أن يغادر لذا إنحنى برأسه تجاه “غيث” ثم همس إليه:

_العقود كلها تمام، ملهاش لزمة قعدتنا هنا. 

أجابه “غيث” وهو يتفحص من جواره حتى لا يستمع إليهما أحداً: 

_شكلها مش هيبقى ظريف لو مشينا دلوقتي، خصوصاً إنه قالك بنفسه! 

ثم استطرد بعد لحظات إستكشف فيها ردة فعله: 

_خلينا شوية ولما يعلن خطوبته نبقى نمشي على طول.

هز رأسه بإقتناعٍ، ثم جلس باستقامةٍ تليق به، فنهض “غيث” عن مقعده ليشير إليه وهو يهم بالإبتعاد: 

_ثواني وراجع.

مرت دقائق بسيطة إنتاب الحفل حالة من الهرجٍ والمرج، الجميع يركض هنا وهناك، وعبارة واحدة تتردد على الألسنة”اختفت العروس! “.

كان الأمر غريباً بعض الشيء وبالأخص برود “قاسم” الذي بدى للجميع إعتياده على هروبها الدائم من خطبته التي ألغيت أكثر من مرة، فرفع “عاصي” كوب العصير ليرتشف منه، لعل ريقه الجاف يزداد رطوبة قليلاً، فتوقف بحلقه في صدمةٍ مما شعر به، فإتجهت عينيه لاسفل الطاولة حينما شعر بيد تشدد على بنطاله، فوزع نظراته حوله بتفحصٍ، وما أن تأكد بإنشغال الجميع بالبحث عن العروس، حتى رفع بمقدمة حذائه غطاء الطاولة الأبيض الطويل، ليتفاجئ بمن تختبئ أسفلها!، وجد فتاة تجلس أسفل طاولته، عينيها تشبه الليل الساكن في ليلة سمائها صافية، خصلات شعرها البنية القصير يلتف حول رأسها على شكل دائري فيمنحها مظهر بريء ، وبالرغم من جمال تلك الحورية ذات الجمال الرقيق الا انه لم يرمش له جفن، وكأنه مسحور تجاه إمرأة أخرى، فرفع عينيه ليتابع المارة بنظرةٍ متفحصة قبل أن يعود لسؤالها: 

_أنتِ مين؟  وبتعملي أيه هنا؟   

أجابته بصوتٍ هامس، وكأنها تخشى أن يستمع إليها أحداً: 

_زي ما أنت شايف مستخبية تحت التربيزة عشان “قاسم” الغبي ميشوفنيش، أما إجابة سؤالك الأول مقتصرة على الأجابة الأولى أنا العروسة اللي قالبين عليها الدنيا. 

إبتسم رغماً عنه على جملتها الأولى وسبها لابن عمها دون خوفاً، فعاد ليسألها من جديدٍ: 

_وإشمعنا تربيزتي أنا بالتحديد؟ 

أجابته بإبتسامةٍ واسعة رسمتها بلباقةٍ، إستطاع أن يلمسها “عاصي” بحديثها: 

_مش عارفة ، يمكن لإن شكلك راجل شهم، وهستساعدني بالهروب من هنا، يعني مش من المنصف بالنسبالك إن بنت تتجوز راجل مبتحبوش غضب عنها وقلبها ملك لشخص تاني. 

سألها ساخراً: 

_والشخص ده فين! 

رفعت كتفيها وهي تجيبه بطفوليةٍ: 

_ مش عارفة  المفروض إنه يكون هنا عشان نهرب، ولحد ما ده يحصل المفروض متتخلاش عني.. أرجوك ساعدني بالخروج من هنا.

تقوس جبينه بحيرةٍ مما يستمع إليه،  فلم يكن ينقصه سوى تلك الكارثة، فقال بتأففٍ: 

_وهعملها إزاي دي!  

أجابته على الفور، وكأنها تعرف السؤال من قبل أن يطرحه: 

_كل اللي عايزاه منك جاكت بدلتك الجميلة دي، وبعدها هطلع معاك على برة وكأني كنت جاية معاك من البداية.  

جز على شفتيه السفلية بأسنانه وهو يهمس بسخطٍ: 

_بتهزري صح!   أنتي عارفة أنا مين؟

ضمت شفتيها معاً بحيرةٍ، فأعاد غطاء الطاولة سريعاً حينما عاد “غيث” لمقعده،فضيق عينيه بإستغرابٍ حينما وجده يتطلع إليه بملامحٍ جامدة، فتساءل بدهشةٍ:

_في أيه؟   هي الخطوبة لسه مبدأتش!

هز رأسه نافياً وهو يخبره بسخريةٍ:

_هتبدأ إزاي والعروسة هربت.

صعق “غيث” مما إستمع إليه، فردد بذهولٍ:

_هربت على فين!

أشار بعينيه تجاه قدميه بإستهزاءٍ، فانعقدت معالمه بدهشةٍ، فرفع غطاء الطاولة ليكسو وجهه صدمةٍ وخاصة حينما ترجته “لوجين” بألا يصدر أي ردة فعل قد تدلهم على مكانها، فأعاد الغطاء مرة أخرى،ثم رسم إبتسامة مصطنعة حتى لا يلفت إنتباه أحداً إليه، كبت “عاصي” ضحكاته بصعوبةٍ ثم قال:

_ابتسامتك الجميلة دي اللي هتفضحنا.

تجاهل سخريته اللازعة،ثم سأله بجديةٍ:

_ناوي تعمل أيه!

رفع كتفيه باستسلامٍ للمصير الذي ألقاها في طريقه، فقال الأخير بإنزعاجٍ:

_لا أوعى تعملها يا “عاصي”، أنت متعرفش”قاسم خلدون” ممكن يعمل أيه!

أدلت برأسها من خلف الغطاء وهي تنهره بشدةٍ:

_ممكن متتدخلش في موضوعنا يا حضرت، الإستاذ هو اللي هيساعدني مش أنت.

صعق “غيث” من حدة لسانها السليط،  أما “عاصي” فإبتسم وهو يردد ساخراً: 

_وأنتي قررتي بالنيابة عني! 

هزت رأسها عدة مرات، فدفع “غيث” رأسها للأسفل حينما دنا منه “قاسم”، الذي أشار لهما بحرجٍ: 

_”عاصي” باشا، أنا بعتذر من حضرتك على اللي حصل ده، أنا عارف إن في عقود متوقعتش لسه بس حضرتك بنفسك شوفت اللي حصل.

ربت على كتفيه بهدوءٍ ثم قال: 

_بعدين هنتكلم المهم دلوقتي تدور على بنت عمك الأول.   

أجابه باستياءٍ حينما تذكرها: 

_ البنت دي هتجنني أكيد، كل ما بأعلن عن خطوبتنا بتختفي زي الشبح! 

كبت “عاصي” ضحكاته وهو يرأها تدلي برأسها من أسفل الطاولة وترمقه بنظراتٍ قاتلة، فسأله “غيث” بإهتمامٍ : 

_هي هربت قبل كده؟ 

رد عليه بضيقٍ: 

_من كتر ما الهروب بقى عادة عندها مبقتش عارف عدد المرات. 

ابتسم “عاصي” وهو يخبره : 

_طيب ليه مش بتدور على ست غيرها تقدرك وتكون عارفة قيمتك! 

أجابه بابتسامةٍ نبع بها العشق المجنون: 

_ياريت كنت أقدر، أنا محبتش ولا هحب غيرها. 

ضحك “عاصي” بصوته كله وهو يراها تحمل سكيناً التقطته من أعلى الطاولة وتشير به على عنقها وهي تردد بصوتٍ استمع له جيداً: 

_الموت رحمة ليا منك يا غبي.

تعجب من ضحكه الغير مبرر بالمرةٍ، فاستوعب الأخير الأمر، وسرعان ما إستعاد ثباته سريعاً وبملامحٍ جادة قال: 

_بتمنى أنك تلاقيها في أقرب وقت ويمكن بعد كده تكتسب خبرة في التعامل مع هروبها ده. 

ودعه وهو يهم بالخروج للبحث عنها، وما أن غادر “قاسم”،  حتى عاد” عاصي” ليجلس محله من جديدٍ، وهو يهمس بصوتٍ منخفض لغيث: 

_راح يدور على المشاغبة اللي مطلعة عينه وهي مستخبية زي القطة تحت التربيزة! 

أخرجت رأسها إليه وهي تشير له باستعطافٍ: 

_الفرصة دلوقتي مناسبة، هات بقا جاكيتك. 

إحتدت نظراته تجاهها، فقالت بحزنٍ مصطنع: 

_ساعدني ومش هوريك وشي تاني والله،  خرجني بس من هنا وأنا هتصرف. 

منحه “غيث” نظرة تحمل معاني الاستغاثة والتوسل بالا يرتكب هذا الفعل المتهور، فخذله بنظراته، فلم يعتاد يوماً التخلي عن أحداً يطالبه بالمساعدة، لذا رضخ لها وخلع جاكيته ليكوره بغيظٍ وهو يقدمه لها، فلم يعتاد ابداً على خلع جاكيت بذلته بمكانٍ هام كذلك، لا يعلم بأن تلك المشاغبة جعلته يجتاز فقط أول قوانينه أما القادم فسيجعله في حالةٍ عدم استيعاب، إرتدت “لوجين” الجاكيت،  فإبتعد عنهما “غيث” ليراقب الطريق، بينما تنحى “عاصي” بمقعده للخلف، ليشير لها: 

_ إخرجي يالا. 

خرجت من أسفل الطاولة لتقف جواره ومن ثم تعلقت بيديه وخطاهما السريع يدنو من سيارة “غيث” المصفوفة بالخارج، فصعدت جواره بالخلف، فقاد “غيث” سيارته مسرعاً بالإبتعاد عن الحفل، ومازال لا يستوعب كيف حدث ذلك؟  وماذا سيحدث لو كشف “قاسم” ما حدث هنا! 

فلم يجده الوقت المناسب للتفكير، لذا انطلق على الفور، فما أن إبتعدت سيارته عن الفندق بمسافةٍ معقولة، حتى إنطلق صوته الصارم يؤمره:

_وقف العربية يا “غيث”..

إنصاع إليه وتوقف بالسيارة، فإستدار تجاهها ليشير لها ببرودٍ : 

_بقيتي في أمان،  يالا إنزلي.  

لعقت شفتيها بارتباكٍ وهي تسأله بصدمةٍ: 

_أنت هتسبني هنا لوحدي! 

استدار تجاهها ثم قال بسخريةٍ: 

_وأيه اللي المفروض أعمله تاني؟ 

رفعت كتفيها ببراءة مصطنعة: 

_مش عارفة. 

ثم قالت: 

_بس على الأقل اعطيني تليفونك إتصل عليه عشان يجي.  

جز على اسنانه بعصبيةٍ بالغة،  على تلك الكارثة التي بلى نفسه بها،  فجذب هاتفه من جيب بنطاله ليضعه أمامها بضيقٍ: 

_إتفضلي.. 

تناولته منه وهي تردد بابتسامةٍ عابثة: 

_شكراً يا آ… 

ثم تساءلت باستغرابٍ: 

_أنت إسمك أيه؟ 

قال بسئمٍ: 

_مش مهم. 

رددت بغضبٍ: 

_أنت قليل الذوق بس أنا أفضل منك.. 

ثم مدت له يدها وهي تقول بابتسامةٍ سحرته: 

_أنا “لوجين”. 

ابتسم وهو يردد ساخراً: 

_متقلقيش الحفلة كلها عرفت إسم العروسة الهربانة.. 

كبتت غضبها غيظاً، فكادت بأن تتحدث مجدداً فقطعها حينما ألقى هاتفه بوجهها وهي يشير لها:

_إتصلي بيه وخلصيني، أنا عندي معاد مهم.  

جذبت الهاتف منه ثم  بإرتباكٍ، فحاولت الاتصال برقمٍ كتبته بعشوائيةٍ وهي تراقب انفعالات وجهه ثم قالت بايتسامة واسعة حينما استمعت لصوت المتصل: 

_أهلاً،  أنت “وسيم”؟ 

انعقدت تعابيرها بغضبٍ وهي تستطرد: 

_إنت وقح أوي على فكرة، أنا مش بعاكسك أنا بسألك عن إسمك بس.

وانتظرت لسماع الطرف الاخر ثم قالت بتعصبٍ شديد: 

_خلاص إقفل التليفون والا هقطع رقبتك يا بجح. 

وأغلقت الهاتف ثم دفعته تجاه” عاصي” الذي يتطلع لها هو و”غيث” بصدمةٍ، فقالت وهي تتطلع له بخجلٍ: 

_في الحقيقة يعني أنا معنديش حبيب أهرب معاه،  أنا قولتلك كده عشان تهربني من المكان ده.. 

احتدت معالمه بغضبٍ، بينما جحظت عين “غيث” في صدمةٍ حقيقية، وهو يرى تلك الفتاة القصيرة تتلاعب “بعاصي سويلم”، الذي لم يجرأ أحداً على فعلها من قبل، فراقب ما يحدث بالخلف عبر المرآة بإهتمامٍ، ليجده يشير على الباب وهو يردد بصوتٍ حاد: 

_إنزلي من العربية حالاً. 

تطلعت ليديه المشيرة على الخارج ثم قالت بحزنٍ مصطنع: 

_بتتخلى عني بالسهولة دي، كنت فاكراك رجل شهم وهتساعد بنت بريئة لجأت ليك بس أنت في النهاية طلعت زي”قاسم” الغبي، متفرقش عنه كتير. 

ثم تركته وهبطت من السيارة لتقف جانباً وهي تتصنع البكاء، مما جعله يلكم نافذة السيارة وهو يردد بضيقٍ شديد: 

_هو يوم باين من أوله. 

وفتح باب السيارة مجدداً، ثم هبط ليقترب منها قائلاً باستسلامٍ: 

_طيب خلاص هساعدك، بس مش هقدر أسيبك في بيتي غير تلات أيام بس تكوني دبرتي فيهم أمورك..

ورفع أصبعيه ليشير لها بتحذيرٍ حينما رأى الفرحة تتسلل إليها:

_ومتحلميش بأكتر من كده.

صفقت بيدها كالطفلة الصغيرة وهي تخبره بفرحةٍ: 

_حلوين هكون دبرت أموري.. 

أومأ برأسه ثم قال بهدوءٍ وهو يتحاشى نظرات “غيث” المندهشة: 

_إركبي.. 

صعدت “لوجين” للسيارة بإبتسامةٍ نصر، فوزع نظراته بينهما مجدداً ليجد “عاصي” يشير إليه: 

_إطلع يا “غيث”، قبل ما حد يأخد باله من البلوة اللي معانا.

كتم غيظه تجاه ما يحدث ثم سأله بحدةٍ: 

_على فين! 

حك مقدمة رأسه بضيقٍ، حينما تناسى أمر”عمر” وشقيقته، لذا قال على مضضٍ:

_إطلع على بيت “إيمان”.

لم يناقشه فيما قال،وتحرك به تجاه وجهته،لتتوقف السيارة أسفل أحد البنايات الراقية،  المطعم لونها بالأبيض والرمادي، فقالت “لوجين” وهي تتطلع لاعلى البناية باعجابٍ: 

_إنت ساكن هنا! 

لم يجيبها، بل قال بصرامةٍ: 

_لسه محتاجة الجاكت في حاجة! 

فهمت مغزى حديثه، فخلعت جاكيته ثم منحته إياه، فإرتداه على الفور، لينحني تجاه نافذة السيارة ثم قال بصوتٍ منخفض:

_متفكرش كتير كان لازم نساعدها.

حدجه “غيث” بنظرةٍ ساخرة ثم قال:

_ساعدها وإخسر صفقات بالملايين.

إبتسم وهو يجيبه بثقةٍ: 

_إحنا اللي مكسب ليهم مش هما.

 ثم أشار له بيديه:

_أشوفك بكره،  تصبح على خير. 

وإنتصب بوقفته ليغادر “غيث” على الفور، وتحرك هو ليصعد الدرج متجهاً للطابق العلوي، فصعدت “لوجين”، دق الجرس مرتين متتاليتين، ثم وقف ينتظر إجابة أحداهما فقالت بإستغرابٍ: 

_أنت مش معاك مفتاح ولا أيه؟ 

لم يجيبها وظل صامداً كشموخ الجبل،حتى فتح رفيقه باب المنزل ثم قال بصوتٍ مرتفع حتى تسمعه زوجته: 

_”عاصي” أنت إتاخرت كدا ليـــــه!

أنا مش مكلمك وقايلك تعالى ندردش شوية مع بعض، جايلي نص الليل! 

لم يجيبه بل دفعه بالقوةٍ للداخل، حتى يسمح لمن تقف خلفه بالدلوف للداخل، فوقفت “عمر”  وشقيقته يتطلعون لمن تقف خلفه بصدمةٍ، وبأنٍ واحد قالوا: 

_مين دي! 

……….. يتبع…….. 

الفصل الثاني.

إزدحام إشارة المرور جعله في حالةٍ من الفتورٍ، فأسند رأسه على مقعد السيارة في مللٍ، فمر من جواره دراجة نارية تحمل رجلاً وعلى ما يبدو بأن من تجلس خلفه زوجته، إنتبه “غيث” لبطنها المنتفخة، وتمسك يدها بحافةٍ الدرجة خشية من أن تسقط من فوقها فيتأذى جنينها، حتى زوجها كان يراقبها بين الحين والأخر بقلقٍ، حتى خف الإزدحام من أمامهما فقاد على مهلٍ، مراعاة لحملها، سيطرت عليه في تلك اللحظة غيمة من الحزنٍ على حاله، يلوم نفسه أحياناً بأنه سمح لقلبه أن يحبها، وكعادته كلما يأتي ذكرياتها يحاول أن يهرب منها حتى لا يضعف، فأمسك بمقودٍ سيارته ثم تحرك بها، حتى وصل للبناية التي يقطن بأحد زقاقها، فصف سيارته ثم صعد للأعلى وهو يدعو الله أن لا تكون والدته مازالت مستيقظة، فخطى الدرج مسرعاً للطابق الرابع، ولكنها كعادتها فتحت باب شقتها وأوقفته حينما نادته قائلة: 

_إتاخرت كده ليه يا حبيبي! 

جز على أسنانه بغيظٍ، فكم لعن نفسه بأنه إستأجر شقة في نفس العمارة التي تسكن بها والدته، فإستدار تجاهها وهو يرسم إبتسامة هادئة: 

_كنت مع “عاصي” يا أمي.. وراجع تعبان وحقيقي مش قادر أقف. 

عقدت “سمية” حجابها حول رأسها بإهمالٍ، ثم أسرعت تجاهه لتسأله بلهفةٍ عما انتظرته لأجله: 

_طب قولي عملت أيه في الموضوع اللي كلمتك عنه؟ 

جز على شفتيه السفلية بقوةٍ، ثم مرر يديه على خصلات شعره الطويلة نسبياً قبل أن يجيبها بضيقٍ: 

_أنا قولت لحضرتك قبل كده أنا مبفكرش في الجواز تاني. 

إنكمشت تعابيرها الباسمة بحزنٍ، لتردد بعصبيةٍ: 

_أوعى تكون لسه بتفكر في تربية الملاجئ دي، والله يا “غيث” لو رجعتها تاني لا تبقى ابني ولا أعرفك. 

زفر بحنقٍ، وهو يوضح لها سريعاً: 

_يا ماما أنا لا هرجعها ولا هتجوز تاني، أرجوكي سبيني أطلع إرتاح بقا. 

سكن السرور والفرحة خلاياها، فربتت على كتفيه برضا: 

_إطلع يا حبيبي، ونبقى نكمل كلامنا بعدين. 

تماسك بصعوبةٍ وهو يستمع لإصرارها بالحديث عن أمر زواجه للمرة التي تعدت الثلاثون، ولكنه الآن لا يملك طاقة لخوض مجادلة عصيبة معها، فإستكمل طريقه للأعلى بصمتٍ تام، حتى وصل لشقته أخيراً، فدث مفاتحه بالباب ثم كاد بفتحه، ولكن سماعه لصوتٍ مألوف إليه جعل يديه تتجمد أطرافه المتمسكة بالمفتاح، وخاصة حينما عادت لتناديه مجدداً: 

_”غيث”. 

القرار الذي سيتأخذه تلك المرة صعب للغاية، إن إلتفت تجاه مصدر الصوت القادم من الدرج الجانبي ربما سيرى صاحب الصوت،  أيعقل أن يكون يتوهم ذلك! 

مهلاً أذنيه تلتقط صوت شهقات خافتة لبكاءٍ، علها حقيقة ستستهدف غضبه المحتبس بداخله طوال تلك الأشهر، لعق شفتيه بلسانه ليمنحهما رطوبة تزيل قسوتهما، قبل أن يستدير ليصبح مقابلها،  نعم وجدها تجلس على الدرج وعلى ما يبدو بأنها هنا منذ فترة طويلة، إستندت بيدها على دَرْبَزِين الدرج، حتى استقامت بوقفتها، كان يعتقد بأنه سيندفع بالسباب العنيف فور رؤياها، كان يستعد لذلك قبل لحظاتٍ، ولكنه فور أن رأها سُلبت الكلمات منه، ربما عينيه تشتاق لرؤياها، وقلبه لسماعٍ دقات قلبها، وجسده يتلهف لقربها منه، فإزدحمت رغباته لتهاجمه بضمها بتلك اللحظة، أصبحت هزيلة كثيراً عما كانت، ويبدو عليها إرهاق الحمل الذي ترك أثره أسفل عينيها السوداء، إنخفضت عينيه تدريجياً تجاه بطنها المنتفخة،  الآن هي بشهرها الثامن، نعم يعلم ذلك ويعد لها باليوم، مازال يتذكر اليوم الذي علم به بحملها، ولكن خانته تلك الفرحة فتسببت له بوجعٍ بعدها بإسبوعٍ واحد حينما عاد مبكراً من العمل ليراها ترفع صوتها على أمه حتى أنها كادت برفع يدها عليها، إستحضاره لذلك المشهد الذي لم ينساه أبداً جعل عينيه يستحوذهما شرارة مخيفة، بترت كل ما يحمله تجاهها من شوقٍ دفن مع الذكريات الجميلة التي جمعتهما سوياً،  فتحرر لسانه ناطقاً بقسوةٍ: 

_جاية ليه؟ 

فركت يدها وهي تقترب منه بإرتباكٍ، وبصعوبةٍ قالت: 

_آآنا… كنت… آآ.. 

قاطعها بجفاءٍ، وكأنه لم تجمعهما علاقة يوماً: 

_الإيجار اتدفع ومصاريف الشهر اتبعتتلك وبزيادة، مش شايف مبرر لزيارتك دي! 

إنهمر الدمع من حدقتيها التعيسة، فخرج صوتها مختنق بالدموعٍ: 

_أنا مش عايزة الشقة ولا فلوس. 

رفع حاجبيه وهو يتساءل ساخراً: 

_أحب أسمع اللي عايزاه. 

أزاحت العبارات اللامعة بأهدابها قبل أن تجيبه بقوةٍ تحاول التمسك بها: 

_عايزاك تعرف الحقيقة مش أكتر. 

رد عليها بنفس حالة الجمود التي تستحوذ عليه: 

_اللي هي! 

رغم جفائه بالحديث معها، الا أنها لم تتوقع الا ذلك، فالتقط نفساً مطولاً قبل أن تخوض معه تلك الحرب التي ستستنزفها نفسياً: 

_من أول ما دخلت البيت ده ووالدتك مش متقابلة وجودي،  كل ما بتشوفني تحت بتقولي كلام صعب على أي حد يستحمله وفي اليوم ده قالتلي آآ… 

قطع حديثها حينما إقترب ليصبح قريباً منها، فارتدت للخلف بخوفٍ، فحدجها بنظرةٍ قاتلة قبل أن يلحقها صراخه: 

_وده يديكي الحق إنك تحاولي تمدي إيدك عليها، أنا اللي غلطت من البداية لما دخلتك البيت اللي عمرك ما كنتي تحلمي بيه، أنا السبب في الغلط ده وأنا اللي هصلحه.. 

ثم أشار لها بيديه وهو يستطرد بإنفعالٍ: 

_أوعي تفكري إني عشان لسه مطلقتكيش لحد دلوقتي أبقى لسه باقي عليكي، أنا مستني اللحظة اللي تولدي فيها وأخد ابني بعد كده متلزمنيش. 

طعنها بخنجرٍ سن نصله واستهدف صدرها ليصل لقلبها، شعرت في تلك اللحظة بدوارٍ مفاجئ يهاجمها، فخشيت أن تفقد وعيها أمامه فيظن بأنها تستعطفه، لذا تركته وهبطت أول درجات الدرج، فإحتد بها الدوار حتى أنها خشيت السقوط عن الدرج فتفقد الرابط الوحيد الذي يجمعها به، لذا إختارت حل وسط لتكون منقذ لها، فجلست محلها على الدرج لتسبح في غياهب الظلام التي إبتلعتها، ذابت طبقة البرودة التي يتخفى خلفها، حينما رآها مغيبة عن الوعي، فأسرع تجاهها ثم حملها بين ذراعيه، ليتجه لشقته مجدداً، فحرر المفتاح العالق ببابه ثم ولج بها للداخل، ليضعها على الفراش، وجذب هاتفه ليطلب الطبيب على الفور. 

                          *******

بمنزل “عمر”. 

إستحوذت الصدمة عليهما، فلأول مرة منذ سنوات يصطحب “عاصي سويلم” فتاة معه، كانت “هند” الإمرأة الاولى والوحيدة بحياته، وكلما حاولت شقيقته “إيمان” أن تجد له عروس مناسبة إليه، ولكنه رفض في كل مرة أتت له بفتاة مختلفة، وأخبرها بأنه لا يفكر بالارتباط بعد موت خطيبته وحبيبته “هند”، وهي الآن تراه يقف أمامها وبصحبته فتاة جميلة للغاية، تجاهل”عاصي” السؤال المطروح،  فعادت شقيقته لتسأله من جديدٍ: 

_مين دي يا”عاصي”؟ 

ابتسمت وهي تقترب منها، لتجيبها بابتسامةٍ عذباء: 

_أنا”لوجين”  ، وأنتي إسمك أيه؟ 

انتقلت نظراتها المتعجبة تجاهه، ومن ثم أشارت له هامسة: 

_قولي يا “عاصي”  مين دي؟ 

جذبهما برفقٍ للغرفة القريبة منه،  وأغلق بابها ليلتفت إليهما ومن ثم قص على مسماعهما ما حدث،  فقال “عمر” بصدمةٍ: 

_سيبني أركز بس في اللي قولته،  يعني البنت اللي برة دي تبقى خطيبة “قاسم خلدون” اللي المفروض في صفقة هتم بينكم في نفس اليوم اللي كان فيه  خطبتهم، فخطفتها أنت لأنها مش عايزة تتجوزه، أيه الورطة السودة دي!

ابتسمت “إيمان” لتقطع حديث زوجها بحماسٍ بعد تفكير جعلها تنجرف بعيداً: 

_ كل قصص العشق والغرام بتبدأ بأحداث زي دي بالظبط، أنا دلوقتي متفائلة بالبنت دي وحاسة إنها هتعمل اللي فشلنا إحنا فيه.

استدار تجاهها”عاصم” ثم صاح بها بانفعالٍ: 

_إهدي يا “إيمان”،مفيش حاجة من اللي بتقوليها دي هتحصل، قولتلك ألف مرة إن قلبي مات في اللحظة اللي “هند” ماتت فيها.. 

ثم تركها وخرج من الغرفة ليجلس على الاريكة مقابل”لوجين” التي تنتظرهما بالخارج، فما أن جلس جوارها حتى قالت بخجلٍ: 

_أتمنى أني مكنش سببتلك إحؤاج مع عيلتك . 

لمس بحديثها خجل يتخفى خلف نبرتها الهادئة، وها قد إستكشف بها جانب جديد جوار مشاكستها وجرائتها التي أثارت اعجابه،  لم ينكر بأن تلك الفتاة بها شيئاً يثير إعجابه، ولكنه علل لذاته بأنه لم يتخلى عن أحداً قط حتى يتخلى عنها وهي بحاجة لمساعدته، فقال بصوته الرخيم: 

_لا أبداً… إختي كانت عايزة تطمن عليا بس.

قاطع “عمر” الهمس المتلهف بينهما، حينما قال بترددٍ: 

_إتفضلوا جوه.. 

لم يفهم “عاصي” لماذا يريد منه الدخول، فغمز بعينيه وهو يخفض من صوته خشية من أن تستمع له زوجته: 

_المفاجأة اللي قولتلك عليها، أنت لحقت تنسى ولا أيه؟ 

إبتسامة شبه ساخرة رسمت على محياه على طريقته بالحفاظ على سر زوجته، فنهضت “لوجين” عن مقعدها وهي تشير إليه بحماسٍ: 

_مفاجأة أيه دي،قولي بسرعة. 

أشار لها بأن تتبعه، فأتبعته للداخل ومن خلفهما “عاصي”، فوجد شقيقته قد زُينت  الغرفة بأكملها بالبلالين الحمراء، والشموع، ووضعت طاولة كبيرة بمنتصف الغرفة، تحوى قالب عملاق من الكعك المغرق بالشوكولا الشهية، وكتبت على سطحها بالكريمةٍ 

“عيد ميلاد سعيد عاصي”… 

تطلع تجاهها وهو يمنحها ابتسامة حنونة، فلم يعد يملك بهذا العالم سواها هي وأصدقائه”غيث” و”عمر”، لا يعلم ماذا كان سيفعل بدونهما! 

ساد الصمت بينهم حتى طوت صفحته صفقات تلك الفتاة واتبعها صياحها: 

_أنا هنا في الوقت الصح، يالا نقطع الكيك لأنه شكله يجوع بصراحة. 

ابتسمت لها “إيمان” بلطفٍ، ثم قالت: 

_تعالي نجيب السكينة وأطباق..  

أومأت برأسها بخفةٍ ومن ثم اتبعتها للمطبخ ومازالت نظرات “عاصي” تتبعها بدهشةٍ،فسرعان ما تأقلمت مع إناس تراهم لأول مرة، تتابعتها نظراته حتى خرجن من الغرفة، فأسرع “عمر” تجاهه ثم جذبه على الأريكةٍ ليردف بشكٍ: 

_إنت هتقولي الحقيقة ولا أجيبك يوم عندي في عيادتي ووقتها مش هتخبي حاجة، فتعالى دغري كده وقولي مين البت دي؟

أبعده “عاصي” عنه ثم قال بسخريةٍ: 

_فاكر إن كلامك الساذج ده هيجيب معايا نتيجة زي ما بيجيب مع المختلين اللي بتعالجهم لا فوق.

رد عليه بضيقٍ: 

_وظيفتي اللي مش عجباك دي بتجبرني أنبش في ماضي الناس وحاضرهم يا أسناذ، لإني دكتور في النهاية. 

دفعه بشراسةٍ قبل أن يجيبه: 

_يبقى تمارس مهنتك الغبية دي بعيد عني والا هقطع رقبتك،فاهم يا دكتور!  

إبتعد عنه ببعض الخوف: 

_إهدى، ده مجرد نقاش عادي، إنت انزعجت ليه كده! 

إستقام “عاصي” بجلسته ثم عدل من قميصه، لينتبه كلاً منهما لصوت الضحكات المرتفع الذي يقترب، حتى بات بالغرفة نفسها، فما كانت سوى ضحكات “إيمان” و”لوجين”المرحة بعدها تعرفت كلا منهن على الاخرى، فكونت صداقة سريعة بوقتٍ لم يستغرق الثلاث دقائق! 

                      *******

إنتهى الطبيب من فحصها، ثم جذب دفتره الخاص ليدون بالرُوشِتّة بعض الأدوية، ثم قدمها إليه وهو يخبره بعمليةٍ: 

_الدوخة اللي عندها دي سببها الإجهاد وسوء التغذية، عشان كده كتبتلها شوية فيتامنيات، والأفضل إنها ترتاح خالص وتنام على السرير لحد ما تدخل في التاسع على الأقل. 

شكره  “غيث” وقدم له مبلغ من المال، وإتبعه للخارج، ثم طلب الدواء من الصَّيْدَلَةِ القريبة منه هاتفياً، وما أن أغلق هاتفه حتى ألقى بثقل جسده على أحد المقاعد، يحاول التفكير في مخرج لهذا الأمر، فهي وحيدة بهذا العالم، لا تمتلك أماً ولا شقيقة، حتى ابنة خالته وصديقتها الوحيدة تخوض نفس المعاناو مع حملها المرهق، هل سيزيد مسؤولياتها بمسؤولية زوجته، ربما يحتمل المخاطرة بها  حينما تعود لشقتها التي إستأجرها لها ولكن كيف سيخاطر بإبنه الذي تحمله بأحشائها!  

الأمر ليس سهلاً، لذا لم يملك أي خيارات قد تخرجه من مأزقه، لذا نهض ليتجه للمطبخ ثم أعد لها بعض الطعام الطازج، ليحمله ويتجه لغرفة نومه مجدداً، فوضعه على الكومود المجاور لها ثم جلس على المقعد القريب منها، ينتظر لحظة إفاقتها، فكانت تلك المدة ثقيلة على قلبه النازف،يرى معشوقته أمامه ويحارب عينيه أن لا تعانقها، من أصعب المعارك التي قد توجهها يوماً،معركة كان الخصم فيها القلب والعقل، فالعقل يستحضر كل لحظة سوء وضغينة حملها تجاه هذا الشخص فيمقت رؤياه وقربه،أما القلب فلا يستحضر سوى ذكراه الطيبة وكلما خفق لجواره يذكره بأقصوصة العشق الذي شهد عليها،ودونها بداخله، إستقام “غيث” بجلسته حينما وجد “عائشة” تسترد وعيها تدريجياً، فجاهدت لرفع جفن عينيها الثقيل، فبدت الرؤيا مشوشة عليها قليلاً، حتى استطاعت استعادته بشكلٍ كامل، فصُدمت حينما وجدت نفسها بداخل شقتها وبغرفتها التي إشتاقت إليها، خاضت عينيها بتفاصيلها التي إشتاقت لها، فتصلبت نظراتها حينما وقعت على من يجلس بالقرب منها، تنشطت ذاكرتها، فانتباها الأمل مصاحب لفرحةٍ غمرتها، مساعدته لها يعني بأنه مازال يحمل حباً تجاهها حتى وإن كان مبهماً، إتكأت “عائشة” على معصمها، ثم أخفضت ساقيها لتهم بالوقوف، فإستوقفها صوته الخشن: 

_رايحة فين؟ 

رفعت رأسها الذي يدور بتعبٍ، وهي تجيبه: 

_همشي عشان مسببلكش مشاكل مع والدتك. 

حدجها بنظرةٍ حادة،وكأنها أخطئت بحقها، وبصرامةٍ لا تحتمل نقاش قال: 

_إنتي مش هتخرجي من هنا لحد ما تولدي، بعد كده إبقي روحي في المكان اللي يعجبك بس لوحدك من غير ابني. 

زداد من وجعها وجعاً، فشددت من ضغطها على فستانها الزهري وكأنها تحاول إستجماع شجاعتها فيما ستقول: 

_يعني أيه هتحبسني هنا! 

ترك مقعده ثم دنا ليصبح مقابلها: 

_سميها زي ما تحبي. 

ضمت شفتيها معاً بإرتباكٍ، فقربه يزيد من رجفة شوقها إليه، تود إن تمرمغ رأسها بأحضانه، فكم قست ليالي دونه بجفاءٍ، فبات نهارها شبيه بعتمةٍ الليل الكحيل، وكأنه سحب نورها وتركها تنازع حتى الرمق الاخير، لقاء الأعين القصير دفعها لخوض تجربة حالمة، تتمنى بها إن لم يحدث ما حدث بينهما، ليتها لم تفترق عنه، ولكنه لم يمنحها فرصة حتى لتدافع عن نفسها فبنهاية الأمر لعبت حماتها لعبة ذكية من الصعب الشك بها، أزالت رداء الصمت الذي إستحوذ عليها حينما همست برجفةٍ تصاحب كلماتها المذبذبة: 

_أنا مش هتخلى عن ابني يا “غيث”. 

أفترت شفتيه عن إبتسامة شبه ساخرة، فتعمد قطع المسافة التي تفصلهما وهو يهمس بشرٍ يلاحق وعده: 

_مش بمزاجك.. إنتي غلطتي ولازم تتحملي العواقب.

وإستدار للخلف وهو يشير بيديه على الصينية الموضوعة على الكومود، ثم قال بصرامةٍ: 

_كلي وخدي أدويتك. 

ثم خطى خطوتين تجاه باب الغرفة، إستعادهما ليقف مقابلها من جديدٍ: 

_ده مش عشانك عشان ابني اللي في بطنك. 

ثم تركها وغادر من أمام عينيها، فسمحت لنفسها بالإنهيار أرضاً، بكت لتفرغ ما بداخلها من همومٍ وأوجاع كان من إنتشالها منهما السبب بها الآن، ظلت “عائشة” في حالتها تلك ما يقرب النصف ساعة، حتى إستعادت جزء من عزيمتها، فنهضت لتتدلف حمام الغرفة، ثم خلعت حجابها وتوضأت لتلجئ لمن يشهد على ما بصدرها. 

                     ********

بمنزل “عمر” 

ناولت “إيمان” زوجها السكين، وهي تشير إلى قالب الكعك من أمامه : 

_يالا يا “عمر” قطع التورتة.. 

كاد بأن يلتقطها منها، فقاطعتهما “لوجين”، حينما جذبت منها السكين سريعاً ثم قالت بدهشةٍ: 

_إستنوا،هو إنتوا هتقطعوا التورتة بالسرعة دي!  

تساءل “عاصي” باستهزاءٍ: 

_وأيه اللي المفروض نعمله؟ 

منحته نظرة ماكرة، قبل أن تدور حول الطاولة وهي تدندن بدلالٍ: 

_happy birthday عاصي…. 

دارت عدة مرات وهي تغني بصوتها العذب، لتتوقف بعد فترة قصيرة لتشير لمن يرمقها بنظراتٍ حادة، تحثها على التوقف عما تفعله، ولكنها لم تبالي، بل أشارت له بمرحٍ: 

_مش هتطفي الشمع!  

إنتقلت نظراته تجاه أخته وزوجها فوجدهما يتطلعون لبعضها البعض،وأفواهما يكاد يصل للأرضٍ من شدة الصدمة، فكان “عمر” أول من تماسك ليعود لثباته في لحظاتٍ، فدفع بكتفيه “عاصي” برفقٍ وهو يخبره مازحاً: 

_مستني أيه، ما تسمع الكلام وتطفي الشمع يا أبو نسب!

تحولت نظراته القاتمة تجاهه وإنذار خفي يعلو صوته داخل أذن “عمر”، فأسرع بإبعاد يديه عنه وهو يردد بخوفٍ: 

_أعمل اللي تحبه، إعتبرني مش موجود البيت بيتك.

راقبت “لوجين” ما يحدث بينهما ثم تساءلت باستغرابٍ: 

_في أيه؟  انتوا كويسين؟ 

جذب “عاصي” السكين منها ثم قطع الكعك، ليضعه بالاطباق، ومن ثم ناول “عمر” إحداهما وكلماته تخبره بتهديدٍ صريح: 

_خد الجاتو بتاعك وإقعد في جنب. 

منحه إنذار بأن يكف عن الحديث، فجذب زوجته ثم جلس جانباً، أما “لوجين” فجلست على المقعد تتناول ما قدمه لها بشراهةٍ، وخاصة الشوكولا، فتأملها بتعجبٍ لحقه بقوله الساخر:

_مش عارف انتي جايلك نفس تأكلي إزاي،و انتي هربانه من عيلتك وقاعدة عند ناس المفروض إنك متعرفيش عنهم حاجة.

رفعت “لوجين” رأسها تجاهه، ثم قالت وهي تلوك قطعة الشوكولا بفمها:

_لا متخفش أنا دايماً عاملة حسابي وجاهزة لأي حاجة.

ضيق عينيه بذهولٍ، فتساءل بإهتمامٍ:

_ إزاي؟ 

بإبتسامةٍ واسعة قالت: 

_هقولك. 

ثم لعقت أصابعها التي تحمل بقايا الشوكولا، والأخر يراقبها بتقززٍ، فحاولت فتح حقيبتها الصغيرة، لتخرج منها زجاجة صغيرة للغاية، وجهاز متوسط الحجم، فأمسك به وتفحصه وهو يردد بإستغرابٍ: 

_ده أيه؟ 

جذبته منه ثم قالت بفخرٍ: 

_ده كهربا زيادة بعد عنك وعن السامعين فولتها زايد حبتين، حاسب لتعورك. 

قرص أرنبة أنفه وهو يراقب أخته وزوجها، ويدعو بداخله إن لم يرى ما تحمله أحداً وخاصة حينما جذب الزجاجة الصغيرة، لتشير له بابتسامةٍ شيطانية إتبعها قولها المشاكس:

_أكيد عارف ده أيه صح! 

رفع كتفيه ساخراً: 

_في الحقيقة مش واخد بالي، بس ده ميمنعش إني أستفاد من خبرتك.

راق لها كلماته فقالت بغرورٍ: 

_هتستفاد متقلقش.

ثم أشارت على محتوياتها قائلة: 

_دي شطة حمرا من اللي قلبك يحبها،  عشان لو حسيت بأي حركة غدر أستهدف العين على طول، خدت بالك؟ 

ضحك بصوته الرجولي، وهو يردد من بين ضحكاته: 

_أنا واخد بالي من حاجات كتيرة أوي. 

                       ******

على مسافةٍ ليست ببعيدةٍ عنهما.. 

قال لزوجته وهو يوزع نظراته بينهما: 

_أنتي شايفة اللي أنا شايفه! 

أجابته “إيمان” بإبتسامةٍ مشرقة: 

_صدقتني أما قولتلك إن الأمل في البت اللي لسه لاقيها صدقة دي. 

انتقلت نظراته تجاهها، ثم قال بإستهزاءٍ: 

_أنا مقلق من أخوكي،  ليكون البت دي مدياله حاجة كده ولا كده. 

اتنقلت نظراتها المحتقنة تجاهه،  ثم قالت بغضبٍ: 

_أنا موافقة تديله حاجات بس يقرر يتجوز بقا ونخلص. 

إرخي جسده على المقعد بإريحيةٍ: 

_عندك حق، عايزين نخلص من العانس ده في أقرب وقت. 

                     *******

بفيلا “قاسم خلدون” 

ساعات متواصلة من البحث المتواصل، ولم يستطيع أحداً الوصول لشيء قد يفيدهم بمعرفةٍ مكانها، وكأنها إبرة رفيعة غرقت بكومة من القشٍ، تمرد غضب “قاسم” ليصيح برجاله بشراسةٍ: 

_إقلبوا الدنيا لحد ما تلاقوها، حتى لو إضطريتوا تفتشوا بيت بيت، أنا عايزاهت واقفة قدامي هنا في أقرب وقت. 

أومأ الرجل رأسه بخوفٍ: 

_تحت أمرك يا باشا. 

وأسرع للخارج ليتبعه رجاله للبحث عن العروس التي إنشقت الأرض وإبتلعتها، أما “قاسم” فجلس على البارٍ الصغير الموضوع بإحدى الزوايا، فإقترب منه عمه وهو يخبره بتوترٍ ملموس بنبرته: 

_هترجع يا “قاسم”، هتروح فين يعني! 

توقف عن إرتشاف المشروب، ثم إستدار بطرف عينيه تجاهه، ليشير له بغضبٍ: 

_إدعي ربنا إنها ترجع ده لمصلحتك والا يا عمي متلومنيش في اللي هعمله فيك وفيها. 

وتركه وجذب علبة السجائر الموضوعة على رخامٍ البار، ليتجه للأعلى تاركاً الأخير يلتقط نفسه بصعوبةٍ. 

                       *******

مرت ساعة كاملة قضاها “عاصي” بالحديث مع “عمر”، وحينما شعر بالفتورٍ خرج للشرفة ليضع قهوته جانباً والحزن يسيطر على معالمه، مازال يتذكر وجودها لجواره بمثل هذا اليوم الذي بات أتعس يوماً بالنسبة إليه، كل مناسبة تخصه باتت نقمة عليه بدونها، لا يعلم كم ظل على هذا الحال، ساعة أم ساعتين قضاهما وهو يتطلع للنيل بشرودٍ، فأفاق من غفلته حينما وجد أخته تقترب منه بحزنٍ إتبع لهجتها: 

_مالك يا “عاصي”؟   إنت لسه منستهاش؟ 

نظراته الضائعة إليها كانت بمثابةٍ إجابة صريحة لها، فربتت على يديه الممدودة على السور بحنانٍ: 

_حاول تنساها، عشر سنين وأنت لسه زي ما أنت كأنها ماتت إمبارح، العمر بيجري يا”عاصي” إمتى هيبقالك ذكريات جديدة متعلقة بيك! 

زفر ليخرج العالق برئتيه ومن ثم قال بصوتٍ موجوع:

_مش عايز أتكلم في اللي فات يا “إيمان”.

تحطم قلبها لأجله، لا أحداً يشعر به أكثر منها، فحاولت أن تغير حديثها، فسألته بلهفةٍ: 

_عملت أيه في موضوع”عائشة” ، البنت منهارة يا “عاصي”، ” غيث” ظالمها. 

رد عليها بضيقٍ برز بإنفعال نبرته: 

_حاولت أتكلم معاه أكتر من مرة بس عنيد واللي في دماغه في دماغه. 

سكن الحزن قسماتها، فأجلت أحبالها الصوتية: 

_مش قادرة أصدق إن خالتي تعمل كل ده عشان تخليه يطلقها. 

استدار بجسده تجاهها، ثم قال: 

_لإنها من البداية مكنتش موافقة على جوازه منها يا “إيمان”. 

رددت بصدمةٍ: 

_تقوم تعمل كده! 

أجابها بتهكمٍ:

_تصرفها غلط بس هي عمرها ما هتشوفه كده، خليها تتفرج على ابنها الوحيد وهو بيضيع قدام عنيها بسبب اللي عملته. 

وتطلع لساعة يديه بإنزعاجٍ: 

_الوقت إتاخر، وأنا ورايا شغل كتير بكره،  يلا تصبحوا على خير. 

وتركها وولج للداخل فوقف مشدوهاً حينما رأها غفلت محلها كالطفلة الصغيرة التي إتبعت أبيها لمشوارٍ هام ثم غلبها النوم، فمرر يديه على طول شعره وهو يردد باستياءٍ: 

_أهو ده اللي كان ناقص! 

****_________*****

34

الفصل الثالث.

كظم غيظه بصعوبةٍ، فوزع نظراته بينها وبين ما تحمله بيدها، فإنحنى ليجذب أدواتها العظيمة التي ظنت بأنها ستحميها في وقتٍ لجأت به للنومٍ من الأساس، وضع “عاصي” ما بيدها جانباً، ثم أخفض يديه أسفل قدميها ليحملها، وقف محله مشدوهاً للحظاتٍ، فأخر من حملها بين ذراعيه كانت معشوقة قلبه، حينما وجدها ساكنة كالجثة الهامدة بغرفتها، قاوم “عاصي” ما يهاجمه من ذكرياتٍ مؤلمة، ثم إتجه لباب الشقة، فتطلع لمن يقف أمامه بضيقٍ، فشل “عمر” بفهم ما يريد، فإتجهت نظراته تجاه الباب، ففتحه على الفورٍ وهو يردد بسخريةٍ: 

_نفتحه حاضر. 

هبط بها “عاصي” للأسفل، ليجد سائقه الخاص في إنتظاره، ففتح باب السيارة الخلفي فور أن رأه، فوضعها بالمقعد الخلفي بحرصٍ شديد، ثم عاد ليجلس جواره بالأمام، خطف السائق نظرات  خاطفة لمن تقبع بالخلف بدهشةٍ، فلأول مرة يصطحب سيده أحد النساء، فإحتدت نبرة “عاصي” وهو يشير إليه بغضبٍ: 

_هنفضل واقفين كده كتير. 

إعتدل في جلسته الغير متزنة، ثم أسرع بالسيارة على الفور.. 

                       *******

أغلق “عمر” باب الشقة بعدما تأكد من رحيله، فوجد زوجته تتمدد على الأريكةٍ بتعبٍ بدى له مصطنع للغاية، وتأكد حدثه حينما قالت وهي تمسد بيدها على بطنها المنتفخة بصوتٍ تصنع الوهن: 

_”عمر” نضف المكان لإني تعبانة أوي ومش قادرة أقف. 

رمقها بنظرةٍ منزعجة، ثم إنحنى ليجمع الكؤؤس وبعض الأطباق، ليحملهما للمطبخ، وعاد مجدداً حاملاً لأحد الأكياس، فجمع به المهملات ثم أعاد ترتيب الصالون والردهة، وحينما إنتهى عاد ليجلس جوارها، ثم جذب ريموت التلفاز ليلهي نفسه قليلاً، وخاصة حينما وجدها مشغولة بقراءةٍ إحدى الكتب،  تفاجئ “عمر” بها تضع قدميها على قدمه، ثم تخبره بدلالٍ: 

_تدليك بقا لحسن الحمل تعبني أوي. 

ألقى الريموت لجواره بتعصبٍ أخرجه من سكينته: 

_وبعدين معاكي بقا يا “إيمان”.. هو مفيش حد في العالم حامل غيرك! 

أغلقت الكتاب ثم تركته جانباً، لتستقيم يجلستها قبل أن تهاجمه بكلماتها: 

_كل ده عشان بتساعدني شوية ما أنت طول الليل بره البيت وسيبني هنا زي أي جهاز موجود في الشقة، وبالرغم من كده عمري ما اتكلمت. 

إبتلع ريقه الجاف بصعوبةٍ، فعلى ما يبدو بأنه فتح لنفسه باب من جحيمٍ، لذا كان عليه أن يسرع في إغلاقه، فجذب”عمر” ساقيها، ثم أخذ يدلكها برفقٍ، وهو يردد بإبتسامةٍ واسعة: 

_وعلى أيه يا روحي الطيب أحسن. 

عادت لتسترخي بجلستها، ثم جذبت الكتاب لتعود لرحلةٍ قراءتها، هامسةٍ بغرورٍ: 

_ناس مبتجيش غير بالعين الحمرا. 

                    *********

عاد بها “عاصي” لمنزله، فصعد للطابق الأعلى ثم إختار أحد الغرف ليضعها على فراشها، كان قريباً منها بدرجةٍ أربكته، فإبتعد عنها سريعاً حينما إنتصب بوقفته،  فأبت عينيه التخلي عن تأملها، إبتسم حينما وجدها تحتضن الوسادة بطفوليةٍ غريبة، ثم فردت ساقيها على طول السرير الضخم، وكأنها في معركةٍ حاسمة تخوضها بنومها، فخرجت نبرته المنخفضة ساخرة: 

_مش طبيعية أكيد مجنونة! 

ثم غادر لغرفته بعدما أغلق الضوء وتركها تنير ذاك الجانب البائس من قصره الذي إعتاد على صحبته هو فقط.

رفع الليل جلبابه الأسود القاتم، فكان لشروق شمس هذا اليوم إختلافاً عن المعتاد كثيراً، وكأن بوجود تلك الفتاة ذات الثلاثة والثلاثون عاماً جعل القصر الكئيب مفعم ببريقٍ من الأملٍ، فتسللت أشعة الشمس لداخل الغرفة بحريةٍ وكأنها تعلن عن بداية يوماً هام، وخاصة مع بداية استيقاظ تلك الفتاة التي يصغرها شكلها رغماً عن سنها المعترف به، عبثت “لوجين” بعينيها وهي تحارب نومها العميق الذي يسحبها بأحضانه، فأتكأت بمعصمها على الفراش الناعم حتى استقامت بجلستها، فركت عينيها بعبثٍ وهي تتلفت بالمكانٍ باستغرابٍ، فحاولت بقدر الإمكان تذكر ما حدث بالأمس، مر على مخيلاتها هروبها من الحفل بصحبة ذلك الرجل الوسيم،  وبقائهما بمنزل شقيقته من أجل احتفاله بعيد ميلاده الأربعون، تذكرت كيف غفلت على الأريكة ومن ثم وجدت ذاتها هنا، فربما وضعها بأحدى الغرف، نهضت عن الفراش ثم اتجهت لباب الغرفة ففتحته وخرجت لتتصنم محلها في ذهولٍ تام، حينما وجدت نفسها بقصرٍ ضخم ، يملأه الأثاث الوثير والانتيكات الباهظة، أغلب ما يشمل لونه الكحلي الداكن، مشطت بيدها خصلات شعرها وهي تردد بحيرةٍ: 

_أنا فين؟  وهما راحوا فين! 

_صباح الخير يا أنسة. 

انتبهت “لوجين” لصوت الخادمة القادم من خلفها، فانتفضت بفزعٍ، ومن ثم هدأت من روعها لتجيبها بلهفةٍ: 

_قوليلي أنا فين؟ 

لمست من تعابير وجهها القلق، فقالت: 

_إهدي بس، إنتي هنا بقصر الباشا “عاصي سويلم”. 

ارتسمت ابتسامة حالمة على وجهها: 

_بجد! 

هزت الاخيرة رأسها بتأكيدٍ، ثم قالت باهتمامٍ: 

_هحضرلك الفطار.. 

قالت بلهفةٍ: 

_ياريت بسرعة لحسن أنا واقعة من إمبارح ومحدش سأل فيا. 

ضحكت وهي تهم بهبوط الدرج الضخم، فلحقت بها “لوجين” للأسفل وهي تتطلع لكل ركناً بزواية القصر بإهتمامٍ، فجذب انتباهها الصور الموضوعة بكل مكانٍ بباحته له ولفتاةٍ غريبة بملامح هادئة،  جدائل شعرها الاسود منسدل على ظهرها بخفةٍ، عينيها كحبات الزيتون اللامع، وعلى ما بدى لها بأنها زوجته، خاصة بوقفتها لجواره بحريةٍ كبيرة، أفاقت “لوجين” من شرودها على صوت الخادمة وهي تخبرها: 

_إتفضلي الأكل جاهز . 

سألتها ويديها تشير على الصورة: 

_هي مين دي؟ 

راقبت الخادمة الطريق من حولها قبل أن تجيب على السؤال المطروح بحزنٍ ظاهر: 

_دي “هند” هانم زوجة “عاصي” باشا سابقاً. 

ضيقت “لوجين” عينيها بذهولٍ، فلم تشبع إجابتها المختصرة فضولها، لذا عادت لتتساءل من جديدٍ: 

_يعني أيه سابقاً هما إنفصلوا؟

هزت رأسها بالنفي، ثم قالت بتوضيحٍ: 

_توفت قبل الفرح بأسابيع، لأنها كانت  بتعاني من مرض خبيث عفانا الله.

حزنت لما استمعت إليه، فرفعت رأسها تجاه الصورة مرة أخرى، لتردف بلهجةٍ مختنقة: 

_وجع الفراق محدش يعرفه غير اللي عاش معاه، اللي مخليني مستغربة في اللحظة دي هو إزاي قدر يتجاوز كل ده بالبساطة دي!

ردت عليها الخادمة بشفقةٍ تجاه سيدها: 

_للأسف مقدرش يتجاوزه، من اليوم اللي توفت فيه والقصر ده إتحول لسجن إتحبس جواه طول السنين دي، حتى إنه مفكرش في الجواز من بعدها. 

استندت بذراعيها على مقدمة المقعد المقابل لها، لتهيم بحديث الخادمة الذي زرع الإعجاب بقلبها تجاهه، أعجبت بتفانيه بحبها حتى بعد وفاة من أحبت، وبشهامته واصراره على مساعدتها رغم استغلالها له وكذبتها المتعلقة بأمر حبيبها، وُلد بداخلها رغبة بسماع كل شيء يخص هذا الأربعيني الوسيم،  فلامست بيدها خصلات شعرها المتدلية على وجهها،وعينيها تراقب ملامحه المتغيرة، فعلى ما يبدو بأن تلك الصورة منذ أعواماً والذي أثار دهشتها جاذبيته التي ازدادت كلما كبر عاماً، فهمست بصوتٍ غير مسموع: 

_هو العمر بيتقدم معاه ولا بيرجع لورا سنة، غريبة!

قطع حساباتها المعقدة وحالة صدمتها المؤثرة صوت البيانو القادم من إحدى الغرف بالطابق الأسفل، تتبعت  “لوجين” الصوت كالدمية المسحورة التي تحركها الساحرة الشريرة،  حتى وصلت لأحدى الغرف المغلقة،  حررت بابها بربكةٍ غامضة تطرق أبواب قلبها لأول مرة، وخاصة حينما وجدته يجلس على البيانو، يحرك أصابعه على أزراره بحرافيةٍ ومهارة، حتى وعينيه مغلقة، وقفت مقابله تراقبه وتستمع لعزفه الساحر بصمتٍ، مظهره المرتب ببذلته الرمادية الآنيقة،  حتى تصفيفة شعره المرتب وعطره الذي يتسلل إليها بالرغم من المسافةٍ بينهما،وكأنه يضع الزجاجة بأكملها، ظنت ببدء الأمر بأنه لم يراها لذا استرقت النظر إليه باستمتاعٍ لعزفه المميز،  فكسر صوته الرخيم قواعد الصمت المخيمة بالغرفة: 

_لو خلصتي مراقبة تقدري تدخلي وتقعدي على الكراسي بدل ما رجلك توجعك من الواقفة.  

انفرجت شفتيها بصدمةٍ، فبللتهما لتمنحها ترطيب بعد أن جفت مثل حلقها، ثم قالت بارتباكٍ: 

_آآ.. أنا كنت بدور على مكان المطبخ لإني جعانة فبالصدفة سمعت صوت البيانو وبصراحة العزف الرائع اللي جذبني لهنا.

أغلق باب البيانو الصغير، ثم نهض ليقترب منها، قائلاً بهدوءٍ: 

_تعالي ورايا. 

إنصاعت إليه، فاصطحبها لمطبخ القصر الرئيسي، ثم أشار بعينيه لأحدى الخادمات، فأتت مسرعة حاملة صينية دائرية الشكل، تحوي أنواعاً متعددة من الطعامٍ الشهي،  فوضعتها على الطاولة المستطيلة الموضوعة بالمطبخ،  فجلست تتناول طعامها وعينيها تراقبه، فجذب “عاصي” أحد المقاعد المقابلة لها، ثم جلس يتطلع لها بنظراتٍ ثابتة، قضمت أحدى الشطائر ثم بدأت بالحديث الذي لم تكف عنه منذ أن راته: 

_أنت عايش هنا لوحدك؟ 

رفع حاجبيه ساخراً: 

_لازم يعيش معايا حد! 

ردت عليه بمرحٍ: 

_أكيد طبعاً. 

 وتطلعت للخادمة المنشغلة بإعداد للقهوة ثم أشارت بيدها له بأن يقترب ليستمع لما تود قوله،  ابتسم “عاصي” على طريقتها الطفولية، ثم قرب وجهه منها، فهمست بخوفٍ اتبع صوتها: 

_سمعت إن الأشباح بيسكنوا الأماكن اللي زي دي وبالذات لو قصر كبير وقديم، فأنت لازم تأخد بالك وتجيب حد يحصنلك المكان.

رفع حاجبيه متصنعاً الدهشة: 

_معقول! 

أومأت برأسها عدة مرات، ثم استكملت حديثها: 

_إسمع أنت لازم متنامش لوحدك في القصر الكئيب ده ، أنصحك إنك تتجوز عشان مفيش واحدة من الجنيات تعشقك وساعتها مفيش حد هيعرف يخصلك. 

أخفى ضحكاته، وبدى جادياً: 

_ومين اللي هتقبل تتجوز صاحب القصر المسكون؟  

وضعت طرف الملعقة في فمها وهي تفكر قليلاً، فارتسمت على وجهها ابتسامة واسعة وهي تجيبه: 

_إحنا ننظم حملة دعايا نطلب فيها عروسة تناسبك. 

ضحك بصوتٍ مسموع ولأول مرة، فتابعه الخدم بصدمةٍ، أظلمت ابتساماته مع ظلام ذاك القصر المظلم وها قد أضاءتها تلك الفتاة مجدداً، نقل نظراته لساعة يديه، ثم جذب الجاكيت الموضوغ خلف مقعده، ليشير لها ساخراً: 

_هسيبلك حرية التصرف لإني عندي إجتماع مهم كمان ساعة، عن إذنك..

واستكمل طريقه للخارج، وقبل أن ينهي خطاه تجاه الرواق إستدار تجاهها يذكرها بما قد غفلت عنه: 

_ومتنسيش معتش ليكي غير يومين بس، استغليهم كويس ودوري على سكن يكون مناسب ليكي 

وضعت الملعقة عن يدها، ثم قالت بتأففٍ: 

_نفسي إتصدت. 

غادر “عاصي” والابتسامة التي صنعتها على وجهه مازال يتحلى بها،  حتى إنه لم يستغل وقت القيادة للعمل بالحاسوب مثلما يفعل كل يوم، بل صفن بها طوال الوقت. 

                    *********

بشقة “غيث” 

على الرغم من حزنها الشديد وإنكسار قلبها، الا أنها ولأول مرة تحظى بفترة مريحة من النوم الذي حرمت منه، وكأن بوجودها بغرفته، وبفراشه جعلها تشعر بأنه لجواره يحتضنها ويمنحها الأمان الذي حرمت منه، فرائحته مرتبطة بكل شيء تلامسه بالغرفةٍ، حتى الوسادة التي تضع رأسها فوقها، فتحت “عائشة” عينيها بتكاسلٍ حينما شعرت بحركةٍ خافتة جوارها، فتعلقت نظراتها بمن يقف أمام الخزانة يرتدي قميصه الأبيض، وجرفاته الأسود ثم جذب الجاكيت أخيراً ليرتديه على عجلة منه، ثم وقف أمام المرآة ليستكمل إستعداده للرحيل، فرآها تختلس النظرات إليه عبر صفحة المرآة التي تريه إنعكاس ما يحدث خلفه بصدقٍ، حاول التعايش مع هذا الإحساس الرائع القصير، ولكنه جلد نفسه فأفاقها قبل أن تذوب بعشقها الذي بات إليه مخادعاً، فأجلى أحباله الصوتية: 

_الأكل في التلاجة والدوا عندك خديه بإنتظام. 

إرتبكت حينما علم بأنها مستيقظة، فرمشت بعينيها بتوترٍ، وخاصة حينما إستدار ليكون مقابلها، ليقطع عليها مفرها بالهروب، جلست باستقامة على الفراش، فإنسدلت خصلات شعرها الأسود من أسفل حجابها الغير مرتب، تعلقت عينيه بها لدقيقةٍ، إسترجع بها نفس المشهد المعتاد كل صباح كانت تستيقظ به وخصلات شعرها تنهمر خلفها كالشلال، جز على أسنانه بغضبٍ لمجرد السماح لنفسه بتذكر شيئاً متعلق بها، فاستدار مجدداً ليلهي نفسه بتصفيف خصلات شعره، ثم قال بحدةٍ لازعة اتبعته: 

_ياريت محدش يحس بوجودك هنا وبالأخص ماما. 

نهضت “عائشة” عن الفراش، ثم دنت منه وهي تتساءل بإستغرابٍ: 

_إزاي ده! 

أجابها بصرامةٍ: 

_زي ما سمعتي، لو حد رن متفتحيش الباب، ومتفتحيش شباك أو تخرجي في بلوكونة.. أظن إن كلامي مفهوم ومش محتاج توضيح. 

لمع الدمع بعينيها، فأومأت برأسها بإنكسارٍ وهي تراه يغادر لعمله، يعاملها وكأنه تزوجها بالسر، وليس زواج رسمي حضره المئات من الأهل والأصدقاء، تعلم بأنه يفعل كل ذلك لأجل إرضاء والدته التي كانت سبباً فيما تعانيه الآن، ولكنها ليست مستعدة لخوض مجادلة منتقصة، يكفيها قربها منه بالبدايةٍ وحينما سيحين الوقت الذي ستجده مناسباً ستتحدث معه وتخبره الحقيقة التي مازال لا يصدقها. 

                          *****

بالشركة..

كان “عاصي” شارداً أغلب الوقت، لا يعلم كيف أنهى إجتماعه الذي إستغرق ثلاث ساعات كاملة ، وبالكد حصل على فترة استراحة بمكتبه، ليجد هاتفه يضيء بعدد مكالمات تصل لعشرون مكالمة جميعها من “عمر”، فحرر زر الاتصال به، ولكنه وجده يكنسل مكالماته جميعاً، فعلم بأنه بطريقه إليه.. 

                        *******

بالخارج.. 

وصل”عمر” للشركة، فتوجه لمكتب “غيث” أولاً، وما أن أعلمته السكرتيرة بوجود رفيقه حتى سمح له بالدخول على الفور، فما أن ولج “عمر” للداخل حتى صاح بمشاكسةٍ: 

_مساء الخير على العالم اللي مبتسألش ولا كأن في عيش وملح جمعهم في يوم من الأيام. 

إبتسم “غيث” كعادته حينما يرى صديقه المرح الذي يزرع الإبتسامة والبهجة دوماً على وجهه،  فمد يديه ليبادله السلام وهو يجيبه: 

_أنت عارف المشاغل والظروف اللي بمر بيها، فالمفروض دلوقتي مين فينا اللي يسأل يا دكتور! 

جلس على المقعد المقابل له،  ثم قال بمكرٍ: 

_أمال أيه سبب وجودي هنا وفي الوقت ده. 

رفع حاجبيه بشكٍ، فاستطرد “عمر” بمرحٍ: 

_أنت سبب من أسباب زيارتي النهاردة. 

تساءل “غيث” بفضولٍ: 

_وأيه السبب التاني؟ 

أشار بعينيه تجاه الحائط: 

_أخينا اللي جنبك. 

قال بعدم فهم: 

_ماله “عاصي”؟ 

طرق المكتب بيديه وهو يصيح بإنفعالٍ: 

_جايلي البيت إمبارح مع بنت بيقولك خطفها من حفلة خطوبتها.

ظهرت إبتسامة ساحرة على وجه”غيث” وهو يقول: 

_تقصد “لوجين”. 

ضيق عينيه بذهولٍ: 

_أيه ده؟  إنت تعرفها. 

هز رأسه وهو يضيف: 

_مهو أنا كنت معاه في نفس الحفلة وشريك معاه في عملية التهريب دي. 

جحظت عينيه بدهشةٍ: 

_هربتها معاه!   ده بدل ما تعقله. 

ضحك وهو يراقب انفعالاته التي سرعان ما هدأت وإتبعها نصيحة وإنذار زرع بحديثه: 

_هو حد بيعرف يعقل” عاصي” لما يطلع في دماغه حاجة يعملها. 

إرتخت ملامح وجهه تدريجياً، فردد بإحباطٍ: 

_على رأيك. 

ثم استطرد بجديةٍ تامة: 

_الكلام أخدنا ونسيت أكلمك في الموضوع اللي جايلك عشانه. 

لمح “غيث” فتيل ذاك الموضوع الهام الذي أتى به إلى هنا، فقال بنفورٍ: 

_لو هتفتح نفس الموضوع اللي مفيش غيره يبقى وفر مجهودك. 

ثار عليه منفعلاً: 

_وأخرة عنادك ده أيه يا “غيث”،” عائشة”بتحبك وأنت عارف كده كويس. 

ببسمةٍ تهكم أجابه: 

_واللي يحب حد يهين والدته بالشكل ده! 

رد عليه “عمر” بعد فترة من الصمتٍ: 

_أحياناً اللي بنشوفه بيكون خادع بالدرجة اللي تخلينا منقدرش نشوف الحقيقة يا “غيث”. 

عقد حاجبيه وهو يتساءل بتشتتٍ: 

_قصدك أيه؟ 

كان صريحاً في رده: 

_قصدي إن في حاجات بيحاول “عاصي” و”إيمان” يوصلوهالك بس مش بيقدروا لأن والدتك بالنهاية تبقى خالتهم.

كاد أن يتساءل عما يقصده مجدداً، فقاطعه “عمر” بعدما أوضح مقصده: 

_والدتك مكنتش موافقة على جوازك من “عائشة” في البداية، لانها متربية في ملجئ وأنت حاولت معاها لحد ما في النهاية رضخت ليك ووفقت، ده ميدلكش أي شك إنها مثلاً مكنتش متقبلاها من البداية وبتحاول بكافة الطرق تبعدكم عن بعض! 

هاجت العواصف بحدقتيه الرومادية التي سيطرت عليها حمرة لا تنذر بالخير، فنهض عن مقعده وهو يصيح به: 

_”عمر” أنا مسمحلكش إنك تتكلم عن والدتي بالطريقة دي، وبدون أي دليل.

وقف مقابله ثم قال: 

_دليلك هو كلام مراتك اللي هتلاقي فيه الحقيقة اللي مبتحاولش تتقبلها. 

أعمته قسوة قلبه فجعلته كالبركان المشتعل، فقال بعد صمت قاده لتفكيرٍ أعمق: 

_أنا ممكن أخمن من كلامك ده إنها إتكلمت مع “إيمان” مراتك وحكيتلها اللي بيحصل في بيتي  ودي جريمة أبشع من قبلها! 

لم يصدق ما بات عليه رفيقه،  فخرج عن هدوئه حينما قال بغضبٍ: 

_إنت بقيت مش طبيعي، عنادك وغرورك دول هيقضوا عليك وعلى الحب اللي بنيته في سنين، وبكره هتندم على كل ده لما تلاقي ابنك وحيد، وأكيد في يوم من الأيام هيحملك نتيجة قرارك ببعده عنك أو عنها. 

وتركه وتوجه للمغادرة، فأسرع “غيث” خلفه حينما شعر بجفاء أسلوبه، فجذبه وهو يشير إليه بإبتسامةٍ صغيرة: 

_طب ممكن تسيبنا بقا من الكلام في الموضوع ده وتقعد نتكلم شوية. 

منحه نظرة متعصبة قبل أن يجيبه: 

_لا معلش،ورايا شغل كتير النهاردة هعدي على “عاصي” قبل ما أرجع العيادة. 

وقبل أن يخرج من مكتبه وضع يديه على كتفه ثم قال بحزنٍ: 

_راجع نفسك يا “غيث”، قبل فوات الأوان… كلنا بنواجه حروب شبيهة من دي بس الذكي اللي يقدر يكسب أمه ومراته في نفس الوقت. 

وغادر من أمامه ليتركه في دوامة تعصف به، ما بين حديثه وحديث”عاصي” الذي مازال يلاحقه. 

                          ********

بمنزل “عاصي”. 

قضت أغلب يومها في إستكشاف القصر، فراق لها كثيراً غرفة مكتبه الخاص، لونها كان مثيراً، وضخامة المكتب الخشبي الموضوع بمنتصف الغرفة منحها هيبة خاصة، تحركت”لوجين” تجاه المقعد الخاص به، فجذبته لتجلس عليه بإريحيةٍ تامة، ثم حررت ساقيها التي تلامس الأرض لتدور به وصوت ضحكاتها يسود بالأرجاء، توقفت عن الدوران حينما تعلقت نظراتها بدفتر غريب موضوع على حافةٍ المكتب، فجذبته بإعجابٍ شديد، فكان جلده سميك للغاية ومصنوع من الجلد البني، وبالأسفل يحمل نقوش لأحد الخيول الأصيلة، ودت لو تمكنت من إلقاء نظرة للداخل، فلم تستطيع كبت فضولها وفتحت أول صفحاته، فوجدته يكتب بأول صفحاته. 

«عاماً أخر مضى بدونك “هند”  ، ولست أعلم كيف سأتخطى ألم الفراق الذي يمزق قلبي؟  أتعلمين حبيبتي مازالت أتذكر هديتك المميزة لي في عيد ميلادي، كنت تختارين دفتر مميزاً وتقدمينه لي حتى أبدأ من بعدها بتدوين ما حدث لي بالعام الجديد الذي أختبره، لا تعلمين ما أتحمله من وجعٍ حينما أذهب لشرائه بنفسي، ولكن لا بأس مازال هناك قوة تدفعني للمضي قدماً، وربما سر تلك القوة ذكرياتك التي حفرت بقلبي البائس، فبات يدون اليأس بين السطور، وربما فتيل الأمل سيشعل قريباً حينما ألتقي بكِ.. أعلم بأنكِ تحترقين شوقاً لتلك اللحظة التي سيجمعني الله بكِ، فأنا لم أطلب شيئاً بدعائي سواكِ حبيبتي…» 

طبعت دمعاتها على الصفحات البيضاء، فحملت تذكار لشخصٍ ثالث يشهد على قصة عشقهما، أزاحت “لوجين” دمعاتها وهي تردد بتأثراً: 

_معقول في حد بيحب حد بالطريقة دي! 

_في يا “لوجين”. 

انتفضت من مكانها بفزعٍ فور سماعها للصوت القادم تجاه الباب الخارجي، فإلتقطت أنفاسها على مهلٍ حينما وجدتها” إيمان”، فأغلقت الدفتر ثم أعادته محله قائلة بحرجٍ: 

_أنا بعتذر لوقاحتي، بس شكل الدفتر عحبني أوي وغصب عني لقيت نفسي بفتحه. 

إقتربت منها “إيمان”، بخطواتٍ متهدجة حتى باتت تقف مقابلها،  فرفعت يدها على معصمها ثم قالت بإبتسامةٍ صغيرة: 

_مفيش داعي تعتذري، أنا عارفة إنك مكنش قصدك حاجة. 

ثم أشارت لها على الأريكة القريبة منها، فجلسوا سوياً لتبدأ بالحديث بصوتٍ مختنق بالدموع:

_”عاصي” كان بيحب “هند” جداً، وكان بيحلم باليوم اللي هتتزفله بالأبيض، بس يا قلبي مكنش متوقع إنها هتتزف لقبرها. 

إنسدلت دمعات “لوجين”، وهي تستمع بتركيزٍ لما تخبرها به” إيمان” وخاصة حينما قالت: 

_إكتشفت بعد كتب كتابها إنها عندها كانسر في المخ، وبالرغم من كده “عاصي” رفض إنه يتخلى عنها، وكان بيحارب معاها وجواه أمل إنها هتخف وهتبقى كويسة بس للاسف الأمل ده اتدمر لما الأجهزة وقفت والروح فارقت جسمها. 

وسحبت نفساً مطولاً قبل أن تستكمل ببكاءٍ: 

_من وقتها وحياة “عاصي” واقفة، كأنها أخدت كل حاجة معاها،  فرحته وقلبه وحياته، عشر سنين ولسه مملش من حبها ولا من الوحدة اللي هو عايش فيها. 

وتطلعت تجاهها وهي تشير إليها باسمة: 

_عملت كل حاجة ممكن تتخيليها عشان أقنعه بالجواز بس هو رافض الموضوع من الأساس. 

كسرت حزن وجهها وبكاء عينيها بإبتسامةٍ رقيقة تتبعها قولها المتعجب: 

_يا بختها بحبه ليها،  شخص بالإخلاص ده نادر الوجود فعلاً. 

إبتسمت “إيمان” ثم أزاحت العالق بأهدابها وهي ترد عليها:

_نادر فعلاً ومش بعيد متلقيش نسخة متطابقة أساساً. 

أجابتها بمشاغبةٍ: 

_ده الواحد من دول ما بيصدق مراته تتكل عشان يجدد ويعيش حياته، بصراحة أخوكي ده راجل جنتل عشان كده أنا هساعدك وهشوفله العروسة المناسبة. 

زارتها فرحة عارمة،  فقالت بعدم تصديق: 

_بجد يا “لوجين”.. طب إزاي! 

ردت عليها بإبتسامةٍ خبيثة: 

_لا دي تسبيها عليا ومتحمليش هم. 

ضحكت على طريقتها بالحديث، ثم جذبت حقيبتها ونهضت قائلة: 

_خلاص سبتها عليكي. 

نهضت”لوجين” خلفها وهي تتساءل بضيقٍ: 

_أيه رايحة على فين؟ 

قالت وهي تغلق حقيبتها الصغيرة: 

_أنا كنت عند الدكتورة بشوف هتحددلي معاد الولادة ولا لا، وأنا راجعة قولت أعدي عليكي أشوفك لسه هنا ولا رجعتي لخطيبك. 

انكمشت تعابيرها بغضبٍ: 

_متجبليش سيرة المدلوق ده، أنا أموت نفسي ولا إني أرجعله. 

تعالت ضحكات “إيمان” لتعصبها الشديد، فقالت وهي تلوح لها: 

_خلاص أنا همشي عشان إتاخرت وهبقى أجيلك يوم بحاله تقعدي وتحكيلي عن المدلوق ده. 

ودعتها بمحبةٍ، على وعد جمع الإثنتان باللقاء قريباً. 

                     *********

الفصل الرابع.. 

البوح صداه في أضلاعها يضيق ومن غير روحها ترتجي وصلا، وكيف ببقائها تقنعه بعدم الرحيل، تعلم بأن بلوغ غايتها درب طويلاً، والأماني بينهم تبعثرت، فباتت لا تعلم كيف عن هجرها تمنعه، ولم تعد جفونها لغيره تبصر في المدى، فدمعاتها هي من تأنَّس وحدتها، تناست “عائشة” ما يؤلمها، وما أن فرغت من صنع الطعام أسرعت لرص الأطباق على الطاولةٍ قبل عودته من العمل، وفور إنتهائها راقبت الساعة، فإبتسمت حينما وجدت أنها إنتهت في الوقت المناسب، فجذبت إحدى المقاعد ثم جلست تنتظر عودته مثلما كانت تفعل من قبل، خفق قلبها بربكةٍ خافتة حينما وجدت باب الشقة يفتح من أمامها، فأسرعت أليه لتخبره بإبتسامةٍ عذباء: 

_حمدلله على السلامة. 

حانت منه نظرة جانبية تجاهها، قبل أن يستكمل طريقه تجاه غرفته متعمداً تجاهلها، راقبته بحزنٍ شديد وتبعته للداخل، فوجدته يبدل ثيابه في ثباتٍ تام، فقالت والخوف يسكن أضلاعها: 

_أنا حضرتلك الغدا. 

لم يكلف نفسه العناء بالرد عليها، بل توجه لفراشه فتمدد عليه بإنهاكٍ، إنهمرت دمعاتها تباعاً وهي ترى الحالة التي وصلوا إليها بسبب والدته، فإقتربت منه “عائشة” ثم إختارت الجلوس أرضاً جوار فراشه، وتمسكت بيديه ففتح “غيث” عينيه ليجدها تجلس هكذا، وقبل أن يصدر أي رد فعل سبقته بالحديث: 

_والله العظيم أنا محبيت في حياتي كلها قدك، وبحترمك وبحترم أي حد من عيلتك، بس أنا مش عارفة أعمل أيه عشان أخليك تصدقني وتصدق اللي حصل، أنا أه إتربيت في ملجأ بس أنت عاشرتني وعرفت طبعي. 

ورفعت أصابعها لتزيح دمعاتها البائسة وهي تستطرد بإنكسارٍ: 

_ومستعدة أنزل معاك حالا وأعتذرلها وأبوس رأسها كمان لو ده هيرضيك. 

وقالت كلماتها الأخيرة وإنفطرت بالبكاءٍ، فإستقام “غيث” بجلسته ثم جذبها لتجلس لجواره، فحارب مشاعره القاسية، في محاولةٍ منه لإيقاظ قلبه الغافل، رفع كفه ليقربه من وجهها، فإحتضن خديها بحنانٍ، خفق قلبها بعنفٍ فرفعت يدها تحتضن يديه التي تلامس وجهها، ثم قبلتها بفرحةٍ، جذبها “غيث” لأحضانه فتشبثت به وشهقات بكائها المكبوت تعلو رويداً رويداً، كأنها تشكو إليه قسوة قلبه، وجفاء هجرانه الذي طال لشهورٍ، فأبعدها عنه ثم قال بحزنٍ: 

_أنا مكنتش عايز أشوفك كل المدة دي عشان كنت خايف أضعف زي ما حصل دلوقتي. 

وتنهد بوجعٍ بدى بخشونة صوته: 

_أنا إتحرمت من أبويا وأنا عندي سبع سنين يا “عائشة”، والدتي كانت كل حاجة في حياتي، رفضت تتجوز بعده عشاني، بحاول على قد ما أقدر أعوضها عن كل اللي شافته في حياتها وإستحملته عشاني. 

وإستدار بوجهه للجهة الأخرى يزيح تلك الدمعة العزيزة التي تلألأت بحدقتيه، ثم عاد ليستطرد بتأثرٍ: 

_وقفت قدامها وعارضت قرارها لأول مرة عشان أتجوزك، كنت فاكر إن الأمور هتبقى أفضل بعد الجواز، بس للأسف إتعقدت أكتر وكل يوم خناقات بينكم وأنا مش عارف أقف في صف مين،كذه مرة بحاول فيها أتغاضى عن اللي بيحصل،بس لما أدخل وأشوفك بتهنيها بالشكل ده فأكيد مش هقف وأتفرج عليكي يا”عائشة”.

قالت بصوتٍ متقطع من أثر البكاء:

_لأن اللي قالتهولي صعب.

وضغطت على شفتيها السفلية بقوةٍ،تحاول التحلي بها للحديث عن ذلك الأمر،والخوف يضربها في مقتل، تخشى أن تفصح عما يزعجها فيبتعد عنها مجدداً، ولكن عليها ذلك، فقالت بقهرٍ: 

_والدتك مش بتفوت فرصة إنها تعايرني بالمكان اللي إتربيت فيه، وأخر مرة دخلت فيها علينا كانت طالبة مني إني أعمل آآ… 

ضيق عينيه بذهولٍ من إرتباكها الغريب، فعبثت بأصابعها بتوترٍ منعها عن الحديث، فتساءل”غيث”: 

_تعملي أيه! 

تعمقت بالتطلع لعينيه قبل أن تنطق بما يؤلمها: 

_DNA.. لانها شاكة في نسب اللي في بطني. 

جحظت عينيه في صدمةٍ حقيقية، فشدد على معصمها بيديه وهو يسألها بحدةٍ: 

_أيه الهبل اللي بتقوليه ده، أمي عمرها ما تقول كده. 

استندت بيدها الأخرى على صدره ثم قالت بتوسلٍ: 

_والله ده اللي حصل، وبعد ما أنت مشتني من هنا جتلها كذة مرة وإترجتها إنها تصلح ما بينا قالتلي إني لو عايزاها ترجعني ليك لازم أعمل الإختبار. 

كاد أن يجن في تلك اللحظة، فجذب الإسدال الموضوع على المقعد القريب منه، ثم ألقاه في وجهها وهو يشير إليها بصرامةٍ: 

_إلبسي. 

قالت بقلقٍ وهي تتفحص ما بيدها: 

_هنروح فين؟ 

لم يجيبها ونهض ليبدل ثيابه، وما أن ارتدت ملابسها حتى جذبها “غيث” للخارج، فدفعها برفقٍ تجاه باب شقة والدته، وقبل أن يدق جرس بابها وقف مقابلها ثم همس لها: 

_كنتي عايزة فرصة إني أسمعك وأنا سمعتك دلوقتي دورك تخليني أصدق اللي قولتيه. 

لم تستوعب ما قاله الا حينما طرق جرس الباب ثم صعد الدرج سريعاً، ليختبئ خلف الدرابزين يراقب ماذا سيحدث،  فما أن فتح الباب حتى صاحت والدته بضيقٍ: 

_إنتي تاني، أنا مش قولتلك متعتبيش هنا تاني! 

نقلت “عائشة” نظراتها المتعلقة بمكان “غيث” لتتطلع لمن تقف أمامها بتوترٍ، ليس أمامها فرصة سوى التي منحها إياها، والا سيحرمها من ابنها الذي تحمله بأحشائها، والأهم من ذلك خسارتها لحب حياتها، لعقت شفتيها الجافة وهي تحاول إختيار ما ستقول: 

_أنا مش عارفة ليه حضرتك بتعامليني بالطريقة دي، إعتبريني زي بنتك ترضي حد يعاملها كده! 

قالت بقسوةٍ أوضحت عدم رحمتها: 

_معنديش بنات بيتربوا في ملاجئ يا حبيبتي، ثم إني قولتلك قبل كده خليكي ماشية ورايا عشان متخربيش على عشك وإديكي شوفتي بعينك لما مسمعتيش الكلام حصل أيه؟

إنسدلت دمعاتها بضعفٍ،فقالت بإنكسارٍ:

_أسمع كلامك إزاي وإنتي بتشككي في أخلاقي، وبتطلبي مني اللي مفيش ست تقبله على كرامتها.

رفعت يدها لتستند على حافة الباب المطول، ثم رددت بسخريةٍ:

_ لا شريفة أوي يا بت، خوفك ده بيثبتلي إن اللي في بطنك ده مش من ابني. 

صرخت “عائشة” بكل ما إمتلكته من قوةٍ: 

_حرام عليكي أنتي شوفتي عليا أيه عشان تقولي كده؟ 

خرجت لتقف أمامها، ثم جذبتها من حجابها الذي كاد بخنق “عائشة”: 

_هشوف عليكي أيه أكتر من إن أبوكي وأمك إتبروا منك ورموكي في ملجئ،  والله أعلم بقى مين اللي رباكي ولا ربوكي إزاي، بس أكيد تربية بنت أبلسة عشان تعرفي توقعي ابني وتخليه يتجوزك بالسرعة دي، بس وربي ما ههنيكي بيه وهجوزه ست الستات اللي تستهله.

تردد بالأرجاء صوت حذاء يهبط الدرج بخطواتٍ بطيئة، جعلت نظراتهن تتركز تجاه من يهبط للأسفل، تركتها على الفور وهي تراقبه بصدمةٍ، إختلطت بكلماتها الغير مرتبة بالمرةٍ: 

_”غيث” حبيبي إنت رجعت أمته؟  تعالى شوف الزبالة اللي جاية تهددني في بيتي. 

وقف مقابلها وعينيه تلمعان بالدمع، فطوى صفحة صمته التي طالت: 

_أنا لأخر لحظة كنت بكدبها لإني حاسس إنها بتتكلم عن واحدة معرفهاش!

سقط القناع عما كانت تخفيه، فباتت متخبطة لا تعلم ماذا تقول أو تفعل؟  ، فاستدارت تجاهها ثم كادت بمهاجمتها وهي تصيح بإنفعالٍ: 

_إنتي عملتي كل ده عشان توقعي بيني أنا وابني يا لمامة. 

حال “غيث” بينهما، ليكن عائق بطريقها لأول مرة، تشبثت به زوجته بضعفٍ، وكأنها تستنجد به فنقلت له رجفة أصابعها ما تعرضت له، ألا يكفيه صدمته بوالدته، فلأول مرة يستحقر نفسه لتلك الدرجة، وجدها تمسك يديه وتجذبه تجاه شقتها وهي تردد ببكاءٍ: 

_سيبك منها يا ابني دي حية وعايزة توقع بيني وبينك. 

جذب يديه منها ثم سألها بذهولٍ: 

_إنتي لسه مصدقة نفسك؟  ومتوقعة إني هسمعك تاني..

وأخرج ما كبت بصدره بصراخٍ مؤلم: 

_أنا بسببك خسرت حياتي وكنت هخسر ابني وكل ده ليه،  ليه بتعاقبيها وبتعاقبيني على حاجة ملناش ذنب فيها، كان ممكن إنتي أو أنا نكون مكانها في يوم من الأيام.

وحاول السيطرة على إنفعالاته قبل أن يتساءل: 

_قوليلي كنتي بتحسي بأيه وإنتي شايفاني بعاني من غيرها، إزاي بنيتي سعادتك على تعاستي وإنتي عارفة هي بالنسبالي أيه؟ 

أجابته بجحودٍ بدى بما قالت:

_حياتك مع واحدة زي دي مش حياة، أنت تستحق بنت ناس وتكون بنفس مستواك الاجتماعي على الأقل، أنت متعرفش أنا بيحصلي أيه لما حد يسألني ابنك إتجوز بنت مين! 

فقد القدرة على النقاش أمامها، كيف سيجادلها وهي ليست مقتنعة بأنها مخطئة، مازالت تدافع عما فعلته وكأنها على حق وهو على باطل، لم يكن “غيث” بأفضل حال ليواجه تلك المعركة التي إستنزفته صدماتها، لذا جذب “عائشة” برفقٍ، ثم قال بشفقةٍ: 

_أنا حزين على طريقة تفكيرك..إنتي بذلتي جهدك عشان “عائشة” تخرج من هنا وده هيحصل فعلاً بس وأنا معاها.

وخطى بها تجاه الدرج ليغادر المبني بأكمله تحت نظرات صدمتها، ففقدت القدرة على النطق والحركة، راقبته وهو يبتعد بزوجته تجاه سيارته وهي عاجزة عن فعل شيء. 

                          ******

عاد “عاصي” للقصر في تمام الساعة الثامنة مساءٍ مثلما إعتاد، فتعجب حينما وجد الأنوار تملئ المكان بأكمله على غير عادته، والأغرب من ذلك سماعه لصوت البيانو الخاص به بلحانٍ قريب لما يعزفه، إتجه “عاصي” تجاه غرفة مكتبه فوجد “لوجين” تجلس محله وتحاول بكافةٍ الطرق تقليد لحانه الذي إستمعت إليه بالصباح، لاحت على وجهه الوسيم إبتسامة جذابة وهو يراقبها تبذل ما بوسعها لتتذكره، فإقترب منها ثم ضغط على لوحته، ففتحت عينيها على مصرعيها لتتفاجئ به يجلس جوارها ويحرك أصابعه ليشاركها في تذكر اللحن، منحته “لوجين” إبتسامة تسللت لأعماق ظلمته ثم تابعت بتعلم اللحن حتى باتت تتقنه بحرفيةٍ، وإنتهوا منه سوياً، فأنثى عليها “عاصي” قائلاً: 

_براڤو، حفظتيه بسرعة. 

إبتسمت وهي تشير له بغرورٍ: 

_لا أنا أعجبك أوي، ميغركش سذاجتي دي. 

ضحك على ثقتها الزائدة بذاتها، فقال بشكٍ: 

_غرور ولا ثقة؟ 

أنفضت طرف فستانها الأزرق وهي تجيبه بعَنْجَهيّةٍ: 

_الإتنين بإذن واحد أحد. 

هز رأسه بسخطٍ ثم نهض ليتجه للخارج، فلحقت به وهي تسأله بإستغرابٍ: 

_على فين إنت لسه راجع! 

إستدار تجاهها بعدما كاد بتسلق الدرج، ثم أجابها ساخراً: 

_إنتي هنا ضيفة ولا هتعيشي دور المفتش! 

حكت رأسها وهي تفكر فيما قال: 

_تمشي معاك فضولية شوية! 

حرر جرفاته التي كادت بخنقه مثلها، ثم قال: 

_أوكي نمشيها. 

ثم أشار على الطابق العلوي وهو يوضح لها بإبتسامةٍ مصطنعة: 

_هطلع أغير هدومي عشان معاد العشا بتاعي ده لو معندكيش مانع. 

نفت ذلك بحركةٍ جسدها ثم قالت: 

_وأنا هحاول أسلي وقتي لحد ما تنزل، أصلي بصراحة بحاول ألقى بشر في المكان ده أو أي شخص فاضي مش لقية. 

عقد حاجبيه ساخراً: 

_وحالياً أنا الشخص ده! 

أومأت برأسها بتأكيدٍ، فضم شفتيه معاً بإستهزاءٍ: 

_عظيم!

وتركها وصعد لغرفته، فجهز ما سيرتديه ثم توجه لحمام غرفته، ولكنه توقف فور سماعه لرنين هاتفه، تعجب “عاصي” حينما وجده “غيث”، فرفع الهاتف لأذنه وهو يخلع حذائه، وإستمع لصوت ابن خالته الغريب نسبياً لنبرته المعتادة وخاصة حينما قال: 

_كان عندك حق في كل كلمة قولتلها يا” عاصي”، كنت بتحاول تفهمني إن الغلط من عندها هي مش من مراتي وأنا كنت غبي ومتسرع. 

إنتصب بوقفته ثم أمسك بهاتفه جيداً وهو يسأله بإهتمامٍ: 

_أيه اللي حصل؟ 

أتاه صوته التعيس يجيبه عن سؤاله: 

_سمعت بودني الحقيقة. 

خيم عليه الحزن وهو يتخيل ما الذي أصابه حينما علم بما فعلته خالته، فقال: 

_طب إنت فين دلوقتي؟

=في الشقة اللي كنت واخدها إيجار لعائشة. 

_إبعتلي الموقع في رسالة وأنا شوية وهكون عندك أنا و”عمر”. 

أجابه بترددٍ: 

_بلاش يا “عاصي”، أنا مش حاسس إني أقدر أتكلم مع حد في الوقت ده، ويمكن كمان مجيش الشركة بكره،  بس ممكن أجيب”عائشة” وأجيلك بكره بليل. 

إحترم “عاصي” رغبته بالإنفراد بنفسه، فقال: 

_خلاص زي ما تحب وأنا هبقى أخلي “عمر” و”إيمان” يجوا ونتجمع كلنا. 

وأغلق الهاتف ثم جذب ملابسه، وولج لحمامه الخاص. 

                   ******

ليت الهواء البارد يتسلل لداخله ليطفئ لهيب النيران المشتعلة، إحساسه بالخذلان يستهدفه بلا رجعة، لا يحتمل ذاك الشعور القاتل بكونه جلاد ظالم لأكثر إنسانة أحبها بصدقٍ وإختارها زوجة له، لم يصدق حرفاً واحداً مما قالته عن والدته رغم أنه يعلم جيداً بأنها ليست كاذبة، قضى “غيث” وقته بالشرفةٍ بمفرده، وبالرغم من تشديده عليها بتركه الا أنها إقتربت لتقف على مسافةٍ منه تراقبه بحزنٍ وبكاء جعله يشعر بوجودها، فإستدار ليجدها تراقبه بخوفٍ، حزن في تلك اللحظة على طريقة معاملته معها، فقال بصوته الرخيم: 

_تعالي يا “عائشة”. 

سماعها لإذنه بالإقترابٍ كان أسعد لحظاتها، فهرولت إليه بخطواتٍ سريعة، وما أن وقفت أمامه حتى قالت ببكاءٍ: 

_أنا مكنتش عايزة أسببلك مشاكل مع والدتك أنا كنت عايزاك تعرف بس اللي حصل في الوقت ده وآآ.. 

وضع أصبعه أمام شفتيها ليقطع حديثها عن الأمر، ثم قال بندمٍ: 

_متعتذريش يا”عائشة” ، أنا اللي لازم أعتذرلك ألف مرة، أنا موفتش بوعودي ليكي وتصرفاتي كلها كانت أبشع من بعض، محاولتش أسمعك أو أعرف اللي حصل. 

أزاحت دموعها، ثم قربت رأسها منه لتستند على صدره الذي عاد ليخفق بحبها من جديدٍ: 

_أنا مش عايزة أي حاجة من الدنيا غيرك أنت. 

طوفها بذراعيه، ليغمس رأسه بين خصلات شعرها يشم عبيرها الذي حرم منه، فأبعدها عنه وعينيه تذوب في نظراتٍ عانقت حدقتيها، فإنحنى ليحملها بين ذراعيه برغبةٍ يتدفق بها الشوق بين طياتها، وإتجه بها لعشٍ هجره لثمانٍ شهور متتالية،  لتلتقي الروح والجسد وثالثهما العشق. 

                         ******

هبط “عاصي” للأسفل، فوجد الخادمة أعدت الطاولة بعشائه المفضل، وبنهايةٍ الطاولة وضعت عشاء مختلف عن طعامه خصيصاً لها، فجلس محله ثم أخذ يتناول سلطاته المفضلة من الأفوكادو، وبعض ثمرات الفاكهة الطازجة، كان يعم الأجواء هدوء إعتاد على مصاحبته في قصره، وفجأة وجد صوت صاخب يسوده، فما كان سوى صوت تلك المزعجة التي إستضافها: 

_العشا جهز ولا لسه يا “جومانة”؟ 

أجابتها الخادمة بأنها وضعت بالفعل العشاء على الطاولة، فما أن ولجت حتى وجدته يجلس على مقدمة الطاولة، وطعامها موضوع على نهايتها، فجذبت طبقها وكوب العصير الخاص بها، ثم أسرعت لتجلس جواره قائلة بضيقٍ: 

_حتى وأنا بأكل هقعد لوحدي، أيه الملل ده! 

إبتسم”عاصي”، ثم قال وهو يلوك ما وضع بشوكته:

_الضيف مبيغيرش قواعد البيت يا”لوجين”، بيطبع عليها الفترة اللي هيقعدها وبعد كده بيرجع لنظام حياته. 

لأول مرة تشعر بتميز إسمها، ربما لأنه يناديها به لأول مرة، تغاضت عما قاله ثم تفحصت ما يتناوله لتسأله بدهشةٍ: 

_هو فين أكلك؟ 

وزع نظراته بين طبقه وطبقها الممتلئ بقطع اللحم والسجدق، مجرد التطلع لما ستتناوله إزعج نظراته فقال بتقززٍ: 

_لا أنا كده تمام، خليكِ إنتي في طبقك.

لوت شفتيها بسخطٍ: 

_إنت فاكر يعني إني مقدرش أكل الأكل ده. 

ضحك على تحديها له، فمسح فمه بمنديلٍ ورقي ثم قدم لها طبقه، فأبعدت طبقها من أمامها ثم تناولت من نفس طبقه وهي تحدجه بنظرةٍ ساخرة، فتابعها بإبتسامةٍ صغيرة، إنتهت من تناول الطبق ثم وضعت الشوكة بمنتصف الطبق الفارغ، ليعم عليها صمت دام لدقائقٍ لتقطعه وهي تهمس بحزنٍ: 

_بس أنا لسه جعانه، إنت جايبني هنا عشان تموتني من الجوع ولا أيه؟ 

ضحك حتى كشف عن أسنانه فبدى وسيماً للغاية، فجذب الطبق مجدداً ثم وضعه أمامها ليشير إليها: 

_لا طبعاً، تقدري تكملي أكلك بس أرجوكي بعد كده متتدخليش في شيء يخصني وبالذات الأكل. 

رفعت يدها بإستسلامٍ: 

_تمام يا “عاصي” باشا، بس أنا مش قاعدة كتير فمن الناحية دي إطمن.

مجرد التفكير في أمر رحيلها جعل الحزن يتغلب على إبتسامته، فكيف إعتاد عليها وساعات قليلة تجمعهما، إنتهت “لوجين” من تناول طعامها، فوجدته يتأملها، تنحنح بحرجٍ ثم قال:

_طب مش هتقوليلي ناوية تعملي أيه بعد كده عشان “قاسم” ميوصلكيش.

تهجم وجهها بغضبٍ:

_لازم تفكرني بالملزق ده لما بفتكره نفسي بتصد عن الدنيا والإنتحار. 

عادت الضحكة لتنير وجهه الرجولي، فقال بصعوبةٍ بالحديث: 

_معلش بس لازم نتكلم. 

ذمت شفتيها وهي تفكر فيما ستفعل، وبعد وقت ليس بطويل قالت: 

_والله ما عارفة، أنا حاولت أهرب قبل كده لأي دولة بس كان بيجيبني ابن الملزق. 

تعالت ضحكاته بعدم تصديق، فاستطردت بإنزعاجٍ: 

_أنا فعلاً معتش لقية حل، حتى لما فكرت أنتحر أنقذني يعني ورايا ورايا حتى لو داخلة القبر. 

ونهضت عن مقعدها ثم قالت بنومٍ غلبها: 

_أنا أكيد يعني هفكر في حل وهبلغك بيه، بس أنا دلوقتي عايزة أنام بدري عشان ورايا بكره شغل مهم..

عقد حاجبيه بدهشةٍ: 

_شغل أيه ده؟ 

ابتلعت ريقها بتوترٍ ملحوظ، فرسمت ابتسامةٍ غريبة: 

_لا متشغلش بالك، هتتفاجئ بالنتيجة بس. 

همس بقلقٍ بعدما إختفت من أمام عينيه: 

_ربنا يستر. 

                      *******

تكملة الرواية من هنااااااااا

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *