التخطي إلى المحتوى

 

       رواية صرخات انثى الفصل الثالث و السبعون 73 – بقلم ايه محمد رفعت

تجمد قبالتها لا يستوعب ما قالته للتو، بينما الاخيرة تواجهه بنظرةٍ ترقب، تنتظر سماع ما سيقوله بتلك اللحظة، اعتلاه غضبًا عظيمًا، يفكر كيف يجمع كلماته التي ستوفي جزء صغير من حق “عُمران” عليه، يجهل بماذا يفتتح حديثه؟ يفكر ويبحث عن حديث مختصر يكفيها لتعلم بأنه سيختار رفيقه دون أدنى شكٍ، وما كاد بالحديث حتى استوقفه دمعة خائنة من عينيها، نظرة شملت كل معنى الكسرة وسقوط بقايا الانثى، عدم الثقة بأنها خياره الوحيد، تهشم روحًا تتعلق بأخر، أحباله، شعر ببرودة جسدها من وقفته تلك، يرى وحدتها ومدى ضعفها، يراها بشكلٍ مختلفًا عن ذي قبل، كأنها تتمنى أن يفضلها هي لتختاره سببًا للعودة له، تريد أن تتمسك بشيءٍ واحد صائب يفعله لتعود إليه!

استدار، “جمال” واتجه تجاه باب الشقة، فاستمع لتعالي أنفاسها بشكلٍ مقبض، ظنته يختار الرحيل، ظنته إختار رفيقه، ولكنها وجدته يدفع باب الشقة بقدميه، ويعود لمحل وقوفه مجددًا.

يقف أمامها يطالعها بنظرةٍ عميقة، بينما تواجهه هي بنظرة لهفة، وحيرة، وترقب، يرى جانب النقص الذي تخوضه بتلك اللحظة، وبالطبع سيسد فجوته أولًا، تحرر صوته الساكن أخيرًا هاتفًا بحزنٍ يغمره:

_لو خيروني بين موتي وحياتك هختارلك الحياة، بعدي عن عمران شبه الموت بالظبط، بس لو ده هيديكِ الحياة فأنا موافق أموت ألف مرة عشانك!

وتابع يؤكد لها:

_هختارك إنتِ يا صبا.

أغلقت عينيها بقوةٍ تعتصر دموعها، وتراجعت للأريكة تبكي بانهيارٍ، لا تصدق بأنه اختارها، كلماته كانت خبيثة بشكلٍ لم يقلل من صدقته، وبالوقت ذاته رضت غرورها كأنثى، رنا إليها يجلس جوارها، وبترددٍ مد يده يربت على ظهرها ببطءٍ، يود لو أن يضمها إليه، ولكنه يخشى من ردة فعلها، يفعل كل شيءٍ بحذرٍ.

رفعت عينيها إلى يده الممدودة تخفف من وجعها، وعادت تتطلع إليه بنظرةٍ حملت كل الامتنان، ودون أي مبرر لها، انزوت إليها، منكمشة، تجمد جسده قليلًا ولكنه كان مرحبًا، بل أكثر من مرحبًا بها، ضمها بقوةٍ كانت بحاجة لها، بينما تهتز هي من فرط بكائها، انهمرت دموعه بسكونٍ وهو يشعر بحجم ألآمها، يحمد الله داخله بأنه لم يكن متهورًا كما ينعته عُمران، بل هدأ واتخذ قرارًا سيجعل الطاووس الوقح فخورًا كل الفخر به.

مال يقبل رأسها وقال بألمٍ:

_حقك عليا، سامحيني يا صبا، أرجوكِ.

حاول أن يبعدها عنه ليتمكن من محادثتها بشأن مصافحتها عنه، ولكنها أبت وتعلقت برقبته، لا تود مواجهته أبدًا، احترم ذلك وأبقاها داخل حصاره، مرت الدقائق ومازال يربت عليها بحنانٍ، يكبت رغبة رؤيته لابنه بكل شوقًا، يحاول أن يمدها بكل الدعم النفسي حتى تعود لاتزانها.

هدأت بين يديه رويدًا رويدًا، كالنيران المشتعلة فور أن تدمجها بمياه أشد برودة، بعدت رأسها للخلف، تزيح دموعها بأصابعها، وتواجهه بابتسامة واسعة وهي تردد بحماسٍ:

_هجبلك الولد.

وتركته وهرولت للداخل ركضًا، وعادت بعد قليل، تحمل صغيره بوجه مفعمًا بالنشاط، جلست “صبا” جواره، ووضعت الصغير بين يديه، حمله بفرحةٍ قتلت كل وجعٍ نبت داخله، رفعه إليه يقبل وجهه ويطبع قبلاته بحب على وجنته، هامسًا بحبٍ:

_حبيبي.

عاد يقبله بشوقٍ، يسحب أكبر قدرًا من رائحته الطيبة، بينما تتابعه “صبا” بحبٍ واهتمامٍ، عاد يضمه مجددًا إليه، وقد وجه بصره لها الإن، يتمعن بها طويلًا، كأنه يحاول أن يوجد الحديث المناسب، وقال:

_هنرجع بيتنا؟

منحته ابتسامة رقيقة وأكدت باشارة رأسها، مضيفة:

_دقايق هجهز الحاجة.

أومأ إليها في تفهمٍ، فنهضت تلملم أغراضها البسيطة، ولحقت به، فقدم لها الصغير وحمل عنها حقيبته ودفع حقيبته هو الآخر لسيارته، عائدًا بها للمنزل.

******

انتهى الشيخ “مهران” من صلاة العصر، وجلس على سجادته يتابع مسبحته بتركيزٍ، غادر الجمع لأعمالهم وتبقى عُمران وآيوب الذي اقترب من أبيه يستأذنه:

_أنا همشي أنا يا عم الشيخ محتاج مني حاجة؟

طالعه الشيخ بابتسامةٍ محبة، وقال وهو يشير على مجموعة الأطفال الذين بدأوا بالتوافد للمسجد:

_عندي مشوار مهم يا آيوب، اقعد مكاني وسمع للتلاميذ.

أجابه بصدرٍ رحب:

_عنيا يا عم الشيخ.

واستدار تجاه عُمران الذي يتابعهما باهتمامٍ وقال:

_هتقعد معايا ولا هترجع إنت يا عُمران؟

انخطف لهؤلاء الاطفال، واتجه لمحل جلوسهم، يجاور الدائرة الكبيرة التي صنعوها، ابتسم آيوب وهو يتابعه وعاد يخبر أباه:

_روح مشوارك وإطمن يا عم الشيخ، تلاميذك في إيد أمينة.

منحه الشيخ ابتسامة بشوشة، واستند على ذراعه لينهض عن الأرض مرددًا بحب:

_ربنا يجعلك دايمًا آمين يابن الشيخ مهران.

ومسح على كتفه بحنانٍ، وغادر على الفور، تاركًا البسمة تزين وجه آيوب المشرق، الذي وقف يتابعه حتى غادر من أمامه، فاتجه حيث محل الاولاد، فوجد عُمران يجالسهم بكل حب، يعدل ملابس أحد الصغار وينسقها بشكلٍ مرتب.

جلس أيوب بمنتصف الصفوف، يمنح التلاميذ ابتسامته البشوشة متسائلًا:

_تحبوا نبدأ بالحفظ ولا نبتديها بالدردشة شوية عن أي سؤال محتارين فيه.

توافد التلاميذ للنقاش المتبادل بينهم وبين آيوب الذي كان مرحبًا بكل سؤالًا طرح عليه، وعُمران يتابعهم باهتمامٍ وراحة نفسية تغمره، حتى رفع أحد التلاميذ اصبعه وقال بحرجٍ:

_أنا على طول بسرح في الصلاة ومش بعرف أبطل الخصلة دي يا شيخ آيوب.

كاد آيوب أن يجيبه، ولكنه تفاجئ بعمران يخبره بابتسامته الجذابة:

_‏ أنا كمان كنت زيك، لحد ما عملت شوية خطوات وفرقت معايا جدًا

تساءل الطفل بحماسٍ:

_خطوات أيه؟

رد عليه وابتسامته لم تفارقه:

_هقولك شويه تفاصيل تخليك تحب الصلاة وتوصل لدرجة الخشوع، وتنتظم فيها لأنها هي الأساس اللي هتخلي مزاجك كويس ونفسيتك مطمئنة، أولًا إمشي بمبدأ أن صلاتك مش حاجة روتينية، ومُجبر تعملها، لا بالعكس انت بتكون ماشي تقعد مع ربك شويه، وهتقعد معاه خمس دقائق بس فى كل فرض.

‏كتير على اللي أنعم عليك بكل حاجه ؟؟

قبل كل فرض استعد للصلاة، وكأنك ماشي تقابل واحد بتحبه جدًا، إمشي و أنت ملهوف، ولو واحد سألك رايح فين؟ قوله رايح اقعد مع ربنا شوية خليه احساس داخلي جواك .

و أول ما ترفع ايدك وتقول :

_ الله اكبر، ابتسم ابتسامة مشتاق، ‏انسى الدنيا كلها بمشاكلها وهمومها فى اللحظة دي، اقرا الفاتحة بكل راحة، واسمع جواب ربك بعد كل آية، و متقرهاش بسرعة وكأن واحد بيجرى وراك، وفي الاعتدال من الركوع لما تقول

سمع الله لمن حمده

احمده انت بطريقتك قول” الحمدلله يارب على كل النعم اللي انعمت علي بيها” .. ‏”الحمدلله حمدًا طيبًا مباركًا كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأول ما توصل للسجود خليك فاكر انه أقرب ما يكون العبد لربه وهو ساجد، لما تهمس هيسمعك، سبح ربك وإبدأ احكي ليه كل اللي في قلبك قوله يارب أنا بحبك، احكي وفضفض لإن مفيش حد هيفهمك ولا هيحس بيك زى اللي خلقك، لما تحكي معاه مش هتلاقي حواجز بينكم، احكي أي شي خطر في بالك مش لازم لغه عربية فصحى يعنى، هو أعلم بحالك منك بس بيحب يسمع صوتك .

واستطرد باستمتاعٍ لسياق حديثه:

‏_يمكن تتلخبط في كلامك بس هو فاهم أي شي انت هتقوله، وصدقنى مهما كانت مشكلتك كبيرة و صعبه، فى آخر كلامك هتحس براحه مش طبيعيه وهتبتسم لانك سلمت أمرك لرب العباد

و بعد ما تخلص صلاة، سلم عليه بس مش السلام التقليدي، لانك بتسلم على ربنا حبيبك.. تخيل انك بتقول :

‏( حشتاق ليك يا رب وللكلام معاك، يارب امتا تجي الصلاة الجاية عشان أرجع اقعد معاك تاني في كلام كتير فى قلبي عايز احكيهو لك )

صدقني أول ما هتخلص صلاه هتحس بعدها براحة وطمأنينة لانك كنت قاعد مع ربك حبيبك، و سلمت أمرك وتوكلت عليه، ولما تواجهك اي مشكلة فى يومك مش هتهز شعره منك ‏عارف ليه

لانك هتمشي فى الصلاة الجاية و تحكي لربك وتطلب منه يساعدك.

فور أن انتهى تعالت صفقات التلاميذ، وكأنه نقل لهم خطبة عريقة، حتى آيوب ابتسم وقال:

_ما شاء الله عليك يا شيخ عمران لخصت كل اللي هقوله بشكل سلس وبسيط.

وأضاف ممازحًا اياه:

_لو الشيخ مهران سمعك مش هيتنازل عنك تساعده هنا.

وسحب أحد المصاحف الشريفة، ثم قدمها له قائلًا:

_يلا أبدأ معايا نسمع ليهم الحفظ عشان نقفل المسجد ونفوت على يونس وبعدين نرجع البيت نتغدى.

تناول منه القرآن الكريم بعنايةٍ، وقال:

_مينفعش هخلص معاك وهروح للحاجة أشرقت، لغيت عزومتها امبارح مش هينفع الغيها النهاردة.

هز رأسه بتفهمٍ، وشرع كلاهما بالاستماع لحفظ التلاميذ وتلقينهم الورد الجديد.

******

عاد “علي” إلى المنزل مهمومًا، يشعر وكأن الشر اجتمع بأكمله ليحارب زوجته وشقيقتها، تلك الفتيات عانت من وحشة ما خاضته بشكل جعله يشعر بالشفقة تجاههما.

كان بطريق صعوده للأعلى، وقبل أن يتجه لجناحه الخاص وجد أمامه شمس تناديه بلهفة:

_علي.

توقف عن المضي قدمًا واستدار تجاه شقيقته، فوجدها ترنو إليه متلهفة، تشكو له:

_عمران مش راضي يدي الهدايا اللي جبتها لادهم ليه، كلمه يا علي ده عنيد اووي.

كبت بسمته وقال بجدية حاسمه:

_ازاي يعمل كده!! أنا هطلع عينه وأخلي نهاره ليل عشان يتجرأ ويزعل شمسي!

ازهر وجهها بابتسامة واسعة، وقالت:

_انت أحسن أخ في المجرة بره وجوه.

قهقه عاليا وقال ساخرًا:

_أيه بره وجوه دي! جديدة بس عجبتني.

وقرص ذقنها بلطفٍ قائلًا:

_يلا روحي نامي وسبيلي الوقح ده، انا هربيه.

هزت رأسها بخفة وهرولت لغرفتها، بينما اتجه علي لغرفته ومازال الحزن ينفرد على وجهه.

*****

طرقات مرتفعه على باب الشقة، جعلتها تهرع لنقابها، ارتدته وأسرعت لرؤية من الطارق واحتمالها الاكبر أنها سدن، فتحت خديجة الباب تردد ببسمة هادئة:

_براحة الباب هيتخلع في ايدك يا مفترية!

حررت مقبض الباب، لتضربها وابل من الصدمات فور أن رأت رجلًا يقف قبالتها بلثام أسود، انتزعه عنه لترى أحد كوابيسها الحية تتجسد من أمامها، جحظت عينيها صدمة، جعلتها تترجع للخلف بذعر وعدم تصديق، ولسانها الثقيل يتحرر بصعوبة:

_معتز!!

****

جلس بصالون شقته يحمل صغيره بين يديه، والحزن يتوغل على معالمه، يتابع هاتفه الذي يضيء لمرته الثالثة برقم سيف، الذي أرسل له بعدة رسائل يتعجل حضوره للتحرك بالطائرة، تهدل عن عينيه دمعة عجز بين ما وضع به، فإذا بها تخرج من غرفتها التي قضت بها ما يقارب الساعتين منذ لحظة دخولهم، وجدها تدفع حقبيتين سفر.

نهض يقابلها بنظرة استفهام، وخاصة وهو يراها ترتدي جلبابها الاسود، فقالت بدموع تنهمر على وجنتها:

_أنا عارفة إنك مش هتقدر تبعد عنه، بس غصب عني، إنت لاخر دقيقة كنت حاطط اللوم عليا، لما سكينك جرحه اتفزعت عليه، وأنا كنت سايحه في دمي وهونت عليك.

واستمدت نفسًا مطولًا، وقالت:

_مش عايزة افتكر اللي فات، أنا جاهزة يا جمال نبدأ حياتنا من تاني مع بعض، جاهزة أرجع معاك مصر، ومتقلقش مش هحرمك من ابنك!

****

اشتد بها الألم لدرجة جعلتها تصرخ فزعًا، وهي تناديه بوجعٍ:

_يوســــف الحقني!

انتفض عن مقعده يسرع لها، فصعق حينما وجد نزيفها يعود من جديد، أسرع يحملها لغرفة الطوارئ وهو على لسانه يردد كلمة واحدة:

_يارب!! 

  •تابع الفصل التالي “رواية صرخات انثى” اضغط على اسم الرواية 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *