التخطي إلى المحتوى

رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الخامس والأربعون

كلها خيارات سواء النجاة أو الهلاك، لم يفرضها عليك أحد، طريقك كان اختيارك ولم تتراجع لذا لا تلوم أحد إن أُلقي بك في قعر الجحيم.

إنه الإنهاك الذي يجبرك على الاستجابة للنوم حتى ولو لم ترض، لم يكف عن اللحاق بها في كل ناحية حتى غلبه النوم الآن على الفراش وسقط هاتفه من يده، تركت ملك مقعدها الذي أخذت به جانبا عنه، ثم توجهت له، وضعت هاتفه على الطاولة المجاورة، وألقت عليه نظرة قبل أن تغادر الغرفة كليا، قررت النزول للأسفل، وفي طريقها سمعت صوت ضحكات يزيد العالية وعلمت سببها حين وصلت إلى الردهة ووجدت طاهر يهرول خلف ابنه ثم قبض عليه أخيرا وتوالت ضحكاته بحماس وهو يردف: مسكتك، بقى حتة عيل زيك هيدوخني أنا.

ابتسمت على هيئتهما وأشار لها يزيد الذي انتبه لوجودها وقال: يا ملك قوليله يسيبني بقى.
قلد والده نبرته فضحكت ملك ثم بدأ طاهر في الدوران به حتى خرجت سهام قاطعة انسجامهما بقولها: عايزة اتكلم معاك يا طاهر.

منذ يوم معرفته الحقيقة وهو يهجر المنزل ويهجرها هي شخصيا، عاد رضوخا لرغبة والده ولكنه كان يتجنبها فتركته يهدأ، ثم سافر بعدها للقاهرة فخسرت من جديد فرصة الحديث معه، والآن لا يترك لها فرصة واحدة للحديث ولكنها حسمت أمرها وقررت أن تطلبها هي منه من جديد، توقف عن اللعب مع ابنه وحثه بلطف: يلا اخرج العب مع ملك في الجنينة عند جدو برا بقى.

وافق يزيد سريعا وجذب يد ملك وهو يحاول الهرولة فضحكت وهي تساير سرعته بينما انفرد طاهر بوالدته التي طلبت منه القدوم لغرفتها ولكن لم يتحقق مرادها حيث قال من دون أن يطالعها حتى: بابا عايزني دلوقتي، هخلص معاه وأبقى اجيلك.
غادرها وخرج إلى الحديقة وتابعته هي بعينين بهما ألم دفين، رأى زوجة شقيقه في الخارج تلعب مع ابنه ناحية الأرجوحة وتوجه هو ناحية والده وجلس على المقعد المقابل له سائلا: اندهلها؟

هز نصران رأسه موافقا ثم حذره: اسألها على عيسى لو قالتلك نايم اندهلها.
بس اتأكد إن الواد بيلعب بعيد، أو قوله يطلع أوضة رفيدة.
نفذ طاهر طلبات والده، لم يستغرق الأمر الكثير، عاد بعد قليل برفقة ملك التي سحبت كرسي لتنضم لهم على هذ الطاولة ثم سألت بقلق: خير يا عمو؟، طاهر قال إنك عايزني.
جلس طاهر مجاورا لوالده، وشعر بأن نصران لا يعلم كيف يفتتح الأمر معها فقال هو بهدوء: ملك هو أنتِ عرفتي حاجة عن القضية؟

انكمش حاجبيها باستغراب، وسريعا ما تكرر أمام عينيها ذكرى سوداء لتلك الليلة حين استيقظت لتجد شاكر أمامها، وتكرر صوته في أذنها الآن حين توعدها: أشوفك بقى لما رجلك تتجر في القضية ويعرفوا إنك كنتي ماشية مع المرحوم، ما أنا مش هلبسها لوحدي يا روحي.
فاقت من شرودها على صوت نصران الذي ناداها، انتبهت لهما، و حاولت اقتناص نفس عميق ظنت أن تلك الذكرى ستنجح في سلبه منها، ثم قالت بتوتر: لا معرفش.

كانت صادقة، لا تعرف شيء، حتى حين ذكر شاكر الأمر أمامها ظنت أنه مجرد وعيد، بأن الشرطة إن عرفت بجريمته سيُلحق لها تهمة أيضا، وعندما قصت ما حدث على عيسى لم يعلق، كان يطمأنها فقط، وتيقن نصران من صدقها عن طريق شغفها الكامن في عينيها لمعرفة حقيقة الأمر وبدأ طاهر بالفعل في التوضيح: بصي يا ملك بنت عمك علا قدمت بلاغ في شاكر إنه هو اللي عمل كده في فريد.

هزت رأسها بغير تصديق، وأكمل نصران بدلا عن ابنه: احنا مقولناش لحد ما نشوف الأمور هتوصل فين، وهي مجابتش سيرة حد، هي ألفت حكاية كده، ثم قص عليها ما قالته علا وما تم حتى الآن وأضاف طاهر: أنا لما الظابط وراني التليفون قولت شبه اللي كان مع فريد، وده يخليه مش دليل كافي، خصوصا إن التليفون مفيش عليه أي حاجة، حتى الخط اللي فيه أنا مستغرب منه، واحد زي شاكر مش هيفوت عليه على الأقل يرمي الخط حتى لو كان بالغباء اللي خلاه مرماش الموبايل كله، هو عموما النيابة مستنية رد شركة الاتصالات.

سألت بقلب وجل والخوف في عينيها: طب هما لقوا تليفوني وتليفون شهد؟
علا رجعت لشهد موبايلها، بتاعك بقى محدش جاب سيرته.
حتى هذا الرد لم يطمئنها، ولكن شعرت بالأمان قليلا حين ربت نصران على كتفها طالبا برفق: اسمعيني يا ملك، وشوفي اللي هقوله يا بنتي وقوليلي رأيك فيه.
هزت رأسها موافقة أما في الأعلى دقت رفيدة الباب عدة مرات على شقيقها الذي علمت بنزول زوجته، دخلت بعدها وجلست جواره على الفراش ثم نادت: عيسى.

كررت النداء أكثر من مرة حتى استيقظ، كان يفتح عينيه بصعوبة إثر نومه وهو يسألها بانزعاج: ايه يا ملك، عايز أنام.
أنا رفيدة.
قولها هذا جعله يطالعها بتدقيق حتى تيقن من أنه في وعيه وتجلس جواره الآن شقيقته فهتف: إيه يا رفيدة في حاجة؟
اعتذرت عن إزعاجها له ثم طلبت منه برجاء وهي تتعلق بذراعه: ممكن تقول لبابا يكلمني، بابا مخاصمني من ساعة مشكلة حسن و مريم.

مط شفتيه بغيظ وهو يسألها: الحوار ده مكانش هينفع يستنى لما أصحى يعني؟
ضحكت وهي تضربه بخفة قبل أن تعلق على قوله: هو أنت حد عارف يشوفك أصلا، وبعدين، قطعت حديثها وشهقت بصدمة وهي تتحسس وجهه سائلة: إيه ده إيه اللي في وشك ده؟
اتخانقت مع واحد غلس صحاني من النوم.
رغم محاولته لقلب الموضوع لمزاح ولكنها توعدته بأن تخبر والده وهي تتفحص وجهه بقلق حتى هتف بسأم: قولي عايزة إيه، علشان دقيقة كمان وهنام ومع نفسك بقى.

فهتفت مسرعة قبل أن ينفذ ما قاله: لا بالله عليك، في حاجة مهمة عايزاها منك
أنصت لها ولم يخف عليه التوتر البادي جليا على تقاسيمها وترددها قبل أن تقول أخيرا: بصراحة كده أنا معجبة ب عز، وقولت لطاهر
دفعها عيسى مبديا ضجره وهو يعاتبها: امشي يا بت من هنا، جاية تقوليلي بعد ما قولتي لطاهر أصلا.

ضحكت وحاولت إرجاعه عن طردها بقولها: اسمع بس، أنا قولتله قبل ما أي حاجة تحصل، كنت عايزة أقولكم أنتوا الاتنين بس أنت مكنتش هنا، وطاهر ساعتها اتكلم معايا وقالي بلاش انجرف ورا المشاعر دي لو من طرف واحد وفعلا ساعتها عز مكانش بيقول أي حاجة
أيد قول طاهر حين رد على حديثها مردفا: طاهر عنده حق، و
فقاطعته هي بالجديد لديها: ما هو بقى عز اتكلم، أنا مقولتش أي حاجة، هو اللي جه قالي إنه عايز يقابل بابا وإنه بيحبني.

رأى الفرحة في عينيها، حماس شقيقته الصغرى القادر على إبهاجه بكل سهولة ولكن سرعان ما بهت البريق في نظراتها وهي تتابع بحزن وتسرد عليه ما قاله عز لها ثم اتجهت لنقطة والدتها مضيفة: وماما كمان قفلتني أوي يا عيسى، بس أنا لما بفكر في كلامها بحس إنه ممكن يكون صح، هي اتكلمت عن المستوى المادي ومصاريفي وكده…
تنهدت بحيرة وطلبت عونه: أنا عايزة رأيك قولي.

ولم يبخل عليها به بل قرر أن يضع كل شيء أمام عينيها لتختار طريقها وتعلم أن النتائج يجب أن تتحملها بمسؤولية: عز مكذبش عليكي، هو واضح وقالك من البداية اللي هيتم، خطوبة سنتين هو مش هيلعب فيها، هو هيدوس على نفسه في شغله علشان يوفرلك عيشة قريبة من اللي هنا، وفعلا هو كلامه صح عز ظروفه مش وحشة، بس هو اختارك أنتِ وعايز يبقى معاكي أنتِ فقرر يستحمل علشانك لو قبلتي ويجي على نفسه، السؤال هنا بقى هل أنتِ هتستحملي علشانه؟

مسح على خصلاتها وأعطاها ابتسامة وهو يضيف: متكشريش كده، السؤال ده لازم تسأليه، وهنا نيجي لكلام أمك
اعترضت وصححت له بانزعاج: إيه أمك دي، قولي مامتك، أو ماما مش أمك
فرد وكأنه لم يسمعها متعمدا إثارة غيظها: المهم بقى إنه كلام أمك صح برضو مش غلط
ولم تستطع إلا أن تضحك وهي تضربه على صدره هاتفة: يا مستفز.

ضحك هو الآخر وأحاط بها وهو يكمل ما بدأه: كلامها صح لإنه هو اللي فيه الإجابة اللي قولتلك اسأليها لنفسك، عز هيستحمل علشانك، هتستحملي علشانه؟، هتقدري تعيشي معاه بظروفه اللي مكذبش عليكي فيها واللي هيحاول يخليها مناسبة ليكي؟، كل
دي إجابات عندك أنتِ متستنيش من حد يقولهالك.

وتذكر شيء ما فابتسم وقصه عليها: أنا أيام ما كنت قاعد لوحدي، كانت ظروفي أسوء من ظروف عز كتير، واستحملت على فكرة علشان أوفر الفلوس للشغل اللي عايز ابتديه، اتنازلت عن رفاهيات ويمكن أساسيات كمان بالنسبالي كتير جدا كنت متعود عليها، وما استسهلتش وطلبت زيادة من بابا، ساعات فعلا كانت بتبقى قحط خالص فكنت بطلب علشان أنا وبشير كنا بنبقى ساعتها بنكح تراب.

تعالت ضحكاتها وعلق هو ساخرا أثناء مبادلتها الضحك: بتضحكي، ده أنتِ مشوفتيش اللي أنا والواد ده شوفناه علشان نعمل المعرض، بطلنا سهر، بطلنا نادي، بطلنا خروجات، لحد ما جبنا آخرنا احنا الاتنين ومن كتر القعدة في وش بعض بقى واحد فينا هيخنق التاني
طب ليه مطلبتوش من أبهاتكم؟

أبدت استغرابها وكرر عليها ما لم تنتبه له: قولتلك بقى احنا كنا عايزين يبقى بتعبنا أكتر علشان نحافظ عليه، بشير على فكرة حط أغلب فلوسه من ورث أبوه في المعرض، وأنا في الآخر لما فضل مبلغ وكنا على آخرنا احنا الاتنين خدته من الحاج، علشان كده يا رفيدة عايزك تعرفي إن التعب ده مش سهل، السنتين اللي عز بيتكلم فيهم دول هيتمرمط فيهم، فلو مش هتستحملي زيه بلاش تيجي عليه، عرفيه من دلوقتي أحسن.

ابتسمت وهزت رأسها موافقة وقد شعرت بالراحة كثيرا بعد الحوار معه، ثم احتضنته مصرحة بصدق: أنا بحبك أوي.

ابتسم هو أيضا بينما في داخله لم يكن راض عن محاولات والدتها الخفية للتأثير على قرارها، تستخدم الحق وتريد به الباطل، يتخوف من أن تقف عائق أمام رأي ابنتها ليخرج مشوها، لا يحمل سوى ما أرادته هي، قرر أن ينزل ليرى والده الذي طالبه أن يأتي له بعد أن يستيقظ، بينما كان طاهر في طريقه لوالدته بعد انسحابه من حديث مع والده و ملك، بحث عنها حتى وجدها في المطبخ ولم يكن أحد متواجد سواها، بقى صامتا يطالع كل شيء هنا ولا تهرب عيناه إلا منها حتى سألت هي بهدوء: إيه يا طاهر؟، هتكلمني وأنت مش باصصلي حتى؟

فابتسم ساخرا وهو يعلق: لا العفو
ثم طالعها فرأى عينيها وقد بان الحزن فيهما وهي تلقي على مسامعه: هونت عليك يعني؟، كل ده متكلمنيش، هتقاطع أمك خلاص…
ياريتني كان ربنا خدني قبل ما…
بتر عبارتها التي أوجعته ضعف ما أوجعتها وتقدم ليقف أمامها وهو يقول بضيق: متقوليش كده، الكلام ده بيضايقني
نظرت له بألم وأكمل هو بألم مماثل: يضايقني علشان أنتِ أمي، أغلى إنسانة في حياتي، متخيلة لو حد لمسك أنا ممكن أعمل إيه؟

وقبل أن ترد تابع هو: اهو في واحد بقى، خسر أمه وفضل ساكت علشاننا، هتبقى صعبة أوي مقدرش اللي حس بيه
ذرفت الدموع ولجأت إلى كف ابنها تحتضنه وهي تصرح: والله كان غصب عني، أنا بنام كل يوم دموعي على خدي لما افتكر اللي حصل وإني سكتت، بس مكانش بإيدي، أنا خوفت ولما بنخاف اللي بنعمله مبيبقاش بإيدنا، هتفت برجاء وهي تمسح على وجهه: حقك عليا يا حبيبي.

لم يحتمل طاهر انكسارها هذا أكثر من هذا، كانت الأيام الماضية شديدة الصعوبة عليه بقدر غضبه وحزنه منها بقدر اشتياقه له ولحنانها، احتضنها وحررت هي دموعها الآن حرية مطلقة لا يقيدها شيء، بينما كان ابنها يربت على ظهرها قائلا بألم: أنا مقدرتش استحمل، أنا بخاف لما بيجيلك دور برد، شوفت نفسي أناني أوي وأنا عارف إنه سكت علشاننا، هو خسرها وأنتِ يا ماما حتى محاولتك في إنك تعوضيه فشلت.

تعالى نحيبها، وكانت تنتفض بينما أحكم ابنها إحاطته بها وهو يقبل رأسها طالبا برجاء: خلاص علشان خاطري اهدي.

في نفس التوقيت سمع عيسى الذي نزل للتو صوت شقيقه يأتي من المطبخ، ضحك بتسلية وظنه يصنع وجبة ابنه المفضلة والذي لا يرضى أن يأكلها إلا من صنع والده، كان عيسى في طريقه للدخول ولكن بمجرد أن لمح ما يحدث تراجع لا إراديا، اختفت الضحكة تماما من وجهه، وقف خلف الحائط يتابع طاهر الذي احتضن والدته، ورفعت هي وجهها له تمسح على وجنتيه طالبة منه ألا يهجرها من جديد، رأى تشبث طاهر بها فعادت ذاكرته إلى أيام لا ينساها، استطاع رؤية نفسه ينام جوار والدته في الفراش وهي تحثه برفق: يلا روح على أوضتك بقى، فريد سبقك.

فرد ببراءة: لا أنا عايز أنام هنا النهاردة
تاني يا عيسى؟، احنا قولنا إيه يا حبيبي، مش بابا قالك بعد كده تنام في أوضتك أنت وأخوك.
ولم يرضه قولها بل اعترض بانزعاج: يروح بابا ينام هو في أوضتي أنا وفريد، وأفضل أنا هنا.
ضحكت على قوله وهي تمسح على وجنته بحنان مردفة: هتجنني يا واد.

وما إن أتى والده حتى تشبث هو بها وقال مقلدا نبرة نصران الذي يردعه عن النوم هنا كل يوم: ارجع يا بابا، أنا قولت خلاص، أنت لازم تنام في الأوضة بتاعتي أنا و فريد، أنت كبرت خلاص، أنا اللي بعد كده هنام هنا.
علت ضحكات والدته التي طالعت نصران الواقف يتلقى أقوال ابنه بغيظ وقالت له: هو قرر خلاص، اتصرف أنت معاه بقى.

فدفن ابنها رأسه في صدرها ولم يكف عن الإحاطة بها وهو يقول وقد هرب بعينيه من والده: نتصرف بكرا يا بابا.

فاق عيسى من شروده حين شعر بالسخونة على وجنتيه، كانت ناتجة عن دموعه التي ذرفتها عيناه وهو يرى طاهر ووالدته، عبرات نبعت عن ألم مزق روحه، ألم الفقد والحرمان من عيش مشهد كالمعاش أمامه الآن، وجع على حق سُلب منه وحُرِم عليه أن ينعم به، تراجع بخذلان بعيدا عن هنا، وما إن خرج حتى وجد والده في طريقه للمكتب، حاول أن يتلاشاه وهو يمسح دموعه حتى لا يكشف أمره أحد ولكن والده استوقفه بقوله: تعالى يا عيسى المكتب عايزك.

حاضر، دقيقة وجاي.
قالها وهو يكمل طريقه إلى الخارج ناحية الحديقة، ولكن تنبه والده لتعمده ألا ينظر له، ويديه التي تمسح على وجهه فلحق به وجذب ذراعه، حينها فقط تواجها واستطاع بوضوح رؤية الألم الذي حُمِل في عينيه، أثر عبراته، فجذبه معه إلى غرفة المكتب، وما إن غلق الباب حتى سأله: في إيه؟
رفع عيسى كتفيه بهدوء وهو يقول محاولا إدعاء اللامبالاة: مفيش حاجة.
أنت كنت بتعيط؟

واجهه نصران بها فنفى ابنه حدوث شيء كهذا ولكن والده كان متيقن فقال له: عينك بتكدبك.
مما جعل عيسى يبتسم ساخرا وهو يعلق: غدارة، الله يسامحها.
فابتسم نصران وهو يخبره بحزن على حالته التي لا يعرف سببها الآن: هي غدارة فعلا يا عيسى، علشان نزلت دموعك.
استطاع قول والده أسره، استطاع وبكل براعة تحرير باقي عبراته الحبيسة والتي سجنها هو، لم يستطع أمام عبارة والده إلا أن يحتضنه وينخرط في البكاء.

تجمد نصران مكانه، للمرة الأولى يرى حالته هكذا، يراه يتجرد من كل شيء ويبكي، يبكي وكأن العالم بأسره هزمه ولم ينصفه أحد، ربت على ظهره بأسى وقال برفق لابنه الذي ارتجف وهو يسمع والده يتلو: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84).

تدريجيا بدأ في السكون وأنصت فؤاده لتلاوة والده الذي أكمل يحثه أن يصبر: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ (85)
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ (86).

رفع وجهه يطالع والده بعينين دامعتين تأثر بهما وانتقل ألم صاحبهما له لذلك أكمل يربت على فؤاده: وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88).

توقف وهو يسمع همس ابنه الذي أغمض عينيه بقهر: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
قالها وتشبث بوالده من جديد، ولم يتركه نصران بل مسح على خصلاته بحنان حتى شعر بسكونه التام والذي تبعه ابتعاده، ذهب ناحية المقعد الذي اعتاد الجلوس عليه أمام مكتب والده، وفتح البراد يخرج زجاجة من مشروبه وهو يقول وكأن لم يحدث شيء قبل قليل: عايزني في إيه؟
ضحك نصران وذهب ليجلس على مقعده ثم سأله: إيه اللي في وشك ده؟

وحين لم يرد جاوب نصران على سؤاله بنفسه: خناقة مع شاكر
فسأل عيسى مسرعا بضيق: طاهر اللي قالك؟
لا أنا توقعت، واديك وقعت بلسانك اهو واعترفت، يبقى حصل.
بدا الانزعاج على وجه عيسى خاصة ووالده يسأله: حصل إيه بقى وليه وآخرتها؟
ورد على هذا السؤال بعد أن شرب من العبوة المعدنية بيده: أخرتها كان هيبقى يومها لولا طاهر، وكنا خلصنا بقى من الليلة دي كلها.

مما جعل والده يعترض ويحاول بكل جهده ألا يدخله الاعتراض في صدام معه: عيسى هطلب منك طلب
أنصت له ابنه وسمع باقي حديثه وهو يطلب منه برجاء: ملكش دعوة بالليلة دي اليومين دول خالص، علشان خاطري ابعد نفسك عنها اليومين دول، مش أنت كنت بتقول عايز تاخد ملك وتبعد شوية، أنا هقولك على مكان حلو خد مراتك وروحوا هناك يومين ابعد عن كل حاجة وابقى ارجع
سأل بريبة متوقعا حدوث شيء ما: هي ملك اشتكت؟

أبدى والده عدم رضاه على ما يحدث وسرد اعتراضاته: من غير شكوى يا عيسى، أنتوا الاتنين محتاجين لده، أنت شكلك مزعلها، خدها وصالحها بدل ما تروح عند أمها
سمعا دقات على الباب تبعها دخول تيسير التي وضعت الحامل المعدني على الطاولة قائلة: القهوة يا حاج.
سحبها عيسى مسرعا قبل أن يأخذها والدها وضحك بتسلية وهو يقول: شكرا يا تيسير كنت محتاجها.

ضحكت وهي ترى نظرات والده الذي طالعه بغيظ ثم قال لها: مكنتيش جبتيها قدام المفتري ده.
بدا على وجهها أنها تريد قول شيء ما، ولكنها مترددة تضحك بتوتر فحثها عيسى بمزاح: قولي يلا عايزة إيه ولا عملتي إيه؟
أنا مش عارفة أقول ولا لا.

قالت هذا بحيرة ولكن طلب منها نصران أن تقول فحفزها هذا لأن تخبرهما: بصراحة كده بقالي كام يوم كل ما اروح السوق، ألاقي حبة من الستات هناك يبقوا بيتكلموا في حاجة وأول ما اروح يسكتوا، لحد أول امبارح لما واحدة فيهم ندهتني وقالتلي هو صحيح يعني إن ابن الحاج هيطلق مراته.

تلقى عيسى كلماتها باستغراب وقد انكمش حاجبيه وأكملت هي: قولتلها لا طبعا مين اللي قال الكلام ده، قالتلي إن في واحدة شافت الست ملك وهي جاية غضبانة عند أمها.

وأنت عارف الستات في السوق بقى يا حاج، قاعدين يألفوا في حكايات هناك، واحدة تقول علشان مخلفتش لحد دلوقتي، وواحدة تقول علشان كذا، بس أنا سكتهم والله ورديت عليهم وقولتلهم إن الكلام ده محصلش، ولو اللي شافتها كانت كلفت نفسها و راحت تاني كانت عرفت إنها رجعت بيتها.
تأفف عيسى وضرب على الطاولة قبل أن يعلق بانزعاج: بتوع السوق دول عايزين إبادة، علشان الكلام اللي مبيخلصش ده.

وأدركت تيسير ضيقه فاستئذنت لتنصرف وسمح لها نصران قبل أن يقول: أنا هبعتها مع تيسير السوق وهما لما يشوفوها معاها هيعرفوا إن الكلام وصل وهيسكتوا والموضوع يتقفل
رفض عيسى هذا قائلا: لا مش هتروح، خليهم بقى مع نفسهم
وأمام رفضه حثه والده على تنفيذ اقتراحه الأول: يبقى خدها بقى واعمل اللي قولتلك عليه.

كان ينوي هذا بالفعل ولكن قرر التأجيل قليلا والآن عاد يفكر في الأمر حتى قطع شروده سؤال والده: ما تروحوا لدكتور يا عيسى، علشان لو في مشكلة نلحقها.
رد على هذا بما لم يقله لأحد مسبقا: بابا بص، أنا وملك مأجلين الحوار ده، مفيش حد عنده مشكلة اتطمن، بس هي مش هتكون مستعدة لطفل دلوقتي، وأنا مش هغصبها على حاجة، خلينا مع بعض شوية لحد ما ربنا يسهل إن شاء الله.
يعني أنت مش عايز عيل؟

كان سؤال والده الذي صمت أمامه قليلا قبل أن يقول بهدوء وابتسامة: أنا مش عايز، لكن لو أنت عايز هجبلك إن شاء الله.
استقام واقفا ليغادر وقبل أن يستأذن سمع والده يعلق بسخرية: بكرا ياللي بتقول مش عايز، هتجيب عيل يطلع عينك وهتبقى مش عايز حاجة غيره
فضحك ابنه قبل أن يسأل بمزاح: وليه أطلع عينه ويطلع عيني ليه؟، خليني كده شوية وكفاية عليا ملك أنا وهي بنطلع عين بعض ومش محتاجين.

حرك والده رأسه بمعنى ألا فائدة، ومال هو يقبل كف نصران ثم رأسه فطالعه برضا قبل أن يغادر غرفة مكتبه متوجها إلى الخارج
يعني أنتِ عايزة إيه؟
سألت مريم المرافقة لشقيقتها في أحد محلات الهدايا التذكارية وقد سأمت من شهد التي لا تفعل شيء سوى الحيرة وعدم معرفة ما تريد وبالفعل كان ردها مؤيدا لهذا: مش عارفة يا مريم، تيجي نروح محل تاني؟

رفضت مريم رفضا قاطعا: مش هينفع يا شهد، احنا ماما قايلالنا متطلعوش من البلد، واحنا طلعنا لأن مفيش هناك اللي عايزينه، لكن أبعد من كده مش همشي، ويلا خلصي علشان نروح
ثم أبدت استنكارها للتواجد هنا: وبعدين أنتِ بتقولي طاهر اللي مزعلك وغلطان في حقك يعني هو اللي المفروض يصالحك مش تجيبيله هدية.

وبررت شهد فعلتها وهي تقول بغيظ أصابها حين تذكرت شجارهما لتواصلها مع زميلها عن المسابقة: ما هو شايل الغلط، فعايزة أجيب ليه هدية، علشان أزود التأكيد على إنه هو اللي غلطان.
ضحكت مريم على قول شقيقتها، ثم رأتها وهي تنادي الشاب العامل بالمحل حتى أتى فاستفسرت منه: أنا عايزة اجيب حاجة مميزة بس مش عارفة اخد إيه، اقترح عليا كده من فضلك.

فجذب شيء ما ثم حضر وعرضه عليها وعلى شقيقتها وهو يشرح: بصي الشباب بيحبوا الحاجات الجلد دي أوي.
كان سوار جلدي راق لها كثيرا فسألت: بكام دي طيب؟
دي عاملة 450.
لم تعجب مريم التي أشارت على شقيقتها بعد أن سمعت سعرها: مش حلوة يا شهد وسعرها مبالغ فيه
انصرف عنهما الشاب ليحضر أشياء آخرى فاستطاعت مريم أن تسترسل بأريحية: قوليلي أنتِ معاكي كام وأنا هقولك على حاجة حلوة.

ردت عليها تخبرها ما معها: معايا 1500 جنيه، بقالي سنة بحوش فيهم
فصححت لها مريم بغيظ: قصدك بتخنصري فلوس ماما، ما علينا
قوليلي هو ليه في الكورة؟
هزت شهد رأسها بتأكيد وأوضحت: اه عادي ليه في الكورة، بصي أنا جتلي فكرة طاهر بيحب الجواكيت الجلد أوي، بيلبسهم كتير، هجبله واحد وهجبله…
توقفت عن الحديث حين لمحت الذي دخل المحل للتو، امتعضت مريم ما إن رأته وتمتمت: استغفر الله العظيم.

وكذلك شهد التي بدا الانزعاج جليا عليها وهي ترى محسن يتقدم ناحية الشاب سائلا: جبتلي اللي قولتلك عليه يا محمد؟
بعد سؤاله هذا انتبه لتواجدهما فطالعهما بتحقير جعل شهد تسأله بحدة: في حاجة؟
هو أنا كلمتك يا بت أنتِ، ده إيه البلاوي دي؟
قال هذا بضجر وردت عليه مريم بدلا من شقيقتها: لما تاخدك يا بعيد.

وأمام قولها هذا رد بسخرية مكنت الغضب منهما: اللي يشوفكم وأنتوا رافعين مناخيركم السما كده، ميشوفش أيام الحاج مهدي الله يرحمه، كان مربيكم، عياركم مفلتش إلا من يوم ما مات.
حاول الشاب ردعه عن التطاول عليهما ولكن شهد قاطعته بضحكاتها المستهترة قبل أن تخبره: على الأقل احنا كنا مغصوبين على اللي احنا فيه، لكن العيب على الراجل اللي ماشي زي الكلب ورا شاكر لو قاله انزل سف التراب هيسفه.

رأت نظراته التي احتدت ولكن لم يهمها بل أكملت مريم: الله يرحمه عمي، ويبارك في عمر أبوك يا محسن، الاتنين معرفوش يربوا.
وكان الرد انتقاما لكرامته المهدورة فأتى قوله جارحا أيضا: عندك حق في عمك الله يرحمه، هو لو كان ربى كانت السنيورة أختك ملك عملت اللي عملته، شوية مع المرحوم وشوية مع أخوه، مبتضيعش وقت خالص، الله يستر على ولايانا بقى.

وهنا لم تهتم شهد بتواجدها في مكان يطل على الشارع بل صاحت بانفعال وهي تقترب منه: قطع لسانك ولسان اللي يتكلم عن أختي نص كلمة يا عديم الشرف، أختي دي اللي الحقير اللي زيك لف وراها سنين ومطالش ضفرها
أصله كان عايزها في الحلال وهي ملهاش فيه.
لم تتحمل مريم الطعن في سمعة شقيقتها أكثر من هذا لذلك دفعته بغضب وهي تطالبه بتوعد: لو راجل خليك على كلامك ده وأنا هتصل بجوزها يجي وقول قصاده الكلام ده لو تقدر.

حفزته بدفعها له، ليفرغ كل طاقة غضبه مما يحدث في الأيام والشهور الماضية فيها هي، وعلى حين غرة انتهز فرصة قربها منه وجذب إحدى العبوات الزجاجية القريبة منه، هشمها على رأسها وهو يقول بتحدي: ابقي قوليله أنتِ
صاحت شهد بخوف وهرولت نحو شقيقتها أما هو فنجح في استغلال خوفها هذا والخروج من المكان بكل سهولة، بينما يحاول الشاب رؤية ما أصابها وحين وقعت عيناه على نزيف رأسها أدرك أن محسن أوقعه في مأزق.

كانت تجلس على الأرجوحة بمفردها بعدما دخل يزيد، كانت شاردة، مشتتة، تكاد تفقد عقلها كلما تذكرت أنها كانت على وشك خسارته ولكنها تعود وتتذكر حديث معالجها النفسي فتهدأ قليلا، حتى الآن يتجنب عيسى الحديث فيما حدث، وتتجنب هي الحديث كليا، لم يتواجها سادت فقط المراوغة، فاقت من شرودها حين شعرت بمن يهز الأرجوحة فاستدارت له، لم تكن تعلم أنه استيقظ، ولم تقل أي شيء حين رأته بل توقف هو وأتى ليجلس جوارها سائلا: عايزة تطلقي؟

يذكرها بطلبها منه حين كانا في القاهرة، التزمت الصمت ولم ترد على سؤاله حتى قال هو وقد بدا وكأنه يتحدث في أمر إحدى الحروب العالمية: لما بفكر في الطلاق جديا، بلاقي إني هرجع لوحدي تاني، أعيشها بقى بالطول والعرض ومحدش ليه دعوة بيا ولا أنا ليا دعوة بحد
طالعته وقد أثار حفيظتها بما قال فردت عليه: طالما عاجبك أوي كده، قولتلي لا ليه؟

فرق كبير بين لا، وبين اللي قولته، أنا قولتلك لما العالم المختلفة دي تتفق هنفذلك طلبك.
هكذا رد ببراءة وأضاف: وبعدين مين قال إنه عاجبني، كل حاجة ليها مميزات وعيوب، والعيوب هتبقى أكتر بكتير من المميزات، وأهم عيب بقى
ثم أشار على وجهها واصفا بضحك: إني مش هشوف التكشيرة اللي تسد النفس دي تاني.

ولدت لو ضربته الآن على تعمده لإثارة غيظها، واختارت أن تستخدم نفس طريقته المثيرة للاستفزاز وهي تقول أثناء عبثها بهاتفها: ما هو أنت هتتحرم منها فعلا، أنا رايحة عند ماما شوية
ضحك عاليا وهو يعلق ساخرا: ابقي قابليني.
نعم؟
قالت هذا باستنكار ورد هو بابتسامة صفراء: يعني مفيش ماما، ومش كل ما هنتخانق هتغضبي زي العيال الصغيرة وتروحي عندها، ما تغضبي هنا في الجنينة هي اشتكتلك؟

وردت هي بنفس ابتسامته: هو احنا متخانقين أصلا؟، احنا حتى متكلمناش علشان نتخانق، بس لو عندك استعداد تسمع فأنا عندي كلام كتير أوي محتاجة أقوله.
ودافع عن نفسه هاتفا بجدية برع فيها: وأنا كمان عندي كلام كتير محتاج أقوله
ظنت أنه سيفتح موضوع ما حدث بينه وبين شاكر فسمحت له وهي تتحفز للشجار: اتفضل قول.

بدأ في عرض شكواه وهو يطالعها بتوعد: الأستاذة اللي كل شوية أقول اتعلمت الشغل خلاص، براجع وراها في اللي خصلته من كام يوم لقيت الغلطات متعديش
طالعته بذهول وهي تسأله بغير تصديق: بجد هو ده اللي عايز تقوله، يعني مش شايف حاجة أهم محتاجين نتكلم فيها؟
شايف إنك مقصرة في شغلك، وهتاخدي نص مرتبك بس علشان تفوقي بعد كده
وهذا جعلها تصيح بنفاذ صبر: خليهولك كله.

تركت له الأرجوحة وغادرته، لمحت يزيد من بعيد يأتي بالكرة، فقررت الانضمام له بدلا من هذه الجلسة التي ستتسبب في جنونها، وقفت تلعب هي و الصغير، تقذف له الكرة تارة، ويقذفها لها تارة ويهرولا بها، حتى حصلت هي عليها أخيرا وأخذت تهرول بضحكات عالية ثم قذفتها بعشوائية فسمعت تأوه من اصطدمت به، هرعت ناحية عيسى الذي وضع يده على وجهه إثر مكان الكرة المصطدمة والتي أصابت موضع كدمة وجهه أيضا، طالعته بقلق وأسرعت تقول بلهفة: عيسى أنت كويس؟، أنا أسفة والله مخدتش بالي.

سمع صوت يزيد أيضا الذي قال بحزن: احنا مكناش نقصد متزعلش يا عيسى، بابا بيتخبط بيها كتير ومش بيزعل
وضعت ملك يدها على فمها حتى لا تظهر ضحكاتها على ما قاله الصغير ورمقها عيسى بطرف عينه سائلا بغيظ: بقى كده؟
أعمل إيه، أنا أسفة، أنت اللي جيت في طريقي.
دافعت عن نفسها بقولها هذا، قبل أن تمسح على الكدمة في وجهه قائلة بعتاب: ومتلبسهاش في الكورة بس، اللي في وشك ده حاجة من اللي محتاجين نتكلم عنها.

كان يطالع وجهها عن قرب ولم يبعد عينيه عنها إلا صوت يزيد الذي قال: اقعدوا هنلعب لعبة من غير الكورة، المستر علمهالنا في المدرسة، أنا هبدأ قصة وكل واحد لازم يكمل بسرعة بجملة واللي وراه يقول واللي هيسكت يبقى خسر
وبدا متحمسا للغاية وهو يقول: كان في ولد وبنت عايشين في قصر كبير
صمت ليكمل عيسى وبالفعل بسرعة أكمل: الولد كان بيحب البنت بس هي مستبدة، حمقاء، بتحب تسيب القصر و تروح عند أمها.

طالعته بغيظ وضحك هو فأكملت ترد عليه: وكانت بتروح عند مامتها علشان الولد اللي بيحبها ده بيزعلها وبيضايقها
شعر عيسى بحيرة يزيد الذي لن يستطيع مجاراتهما بسرعة وسيخسر فهمس له: لكن هو مبيبقاش قصده يضايقها
وبالفعل قال الصغير مثل ما أملاه وأتى دور عيسى الذي قال وقد استدار يطالعها: هو عايزها دايما مبسوطة ولو هي بعيد عنه هتكون مبسوطة هيعملها ده.

لم تستطع ألا تبتسم بحزن، قررت الانسحاب من لعبتهم فجذب مرفقها لتتوقف، انتظر أن يسمع منها أي شيء وأرضت هي انتظاره بقولها: ياريتها كانت تعرف تبقى مبسوطة بعيد عنه يا عيسى
طالعمها يزيد بحيرة ثم انصرف بعيدا عنهما متجها إلى الداخل، التحمت عيونهما وحين أتى ليقترب منها أخبرته بكل حسم وهي تجاهد حتى لا يُفقدها صوابها ويجعلها تنسى ما رتبته: عيسى أنا هبطل الحبوب، انسى اللي اتفقنا عليه.

كان قرار صادم بالنسبة له خاصة وهي تكمل بإصرار: أنا عايزة طفل
كروت الضغط هذه أكثر ما يثير ضجره، علم أنها تستخدم الانجاب وسيلة للضغط عليه حتى يخضع لما ستقوله حين يتحدثا فيما حدث، وأمام قولها رد بهدوء جاهد ليستحضره: هو أنا قولت لا؟، أنتِ اللي قولتي مش مستعدة واتفقنا، لكن طالما رجعتي في اتفاقك وعايزة تخلفي، أنا معنديش أي مشكلة، تحبي دلوقتي؟

يستخدم الهدوء وسيلة ليفقدها المتبقي من أعصابها، وينجح بردوده في إشعال شرارة غضبها ولكن ردت عليه بابتسامة صفراء وقد قررت خوض الحرب الباردة هذه: لا ما هو في طلب تاني
عايزه توأم ولا إيه؟

ولم تغضب أيضا من استهتاره بل ربتت على كتفه وهي تخبره بهدوء مماثل للخاص به: لا، أنا عايزة طفل، وعايزة ضمان من أبوه إنه يحافظ على نفسه علشان يربيه، عايزة أبوه عايش يا عيسى، مش بيرمي نفسه للنار من غير ما يفكر لحظة واحدة، لو شايف إنك هتقدر تحققلي الطلبين دول يبقى نكمل مع بعض.

انتهت مما قالت ورحلت بثبات أمام عينيه التي أدركت حين نظرت لهما أن لحديثها تأثير، لا تعلم إيجابي أم سلبي ولكن الأهم عندها هو أنه أتى بأي نتيجة تذكر.

كان طاهر في سيارته وقد حسم أمره فيما سيفعله، استطاع الآن سماع صوت المحامي في أذنيه حين كان يقول: هو كده الموبايل مش دليل قوي، لإن يعتبر إدعاء أخته بس، وأنتوا قولتوا إنه شبه موبايل المرحوم لكن مأكدتوش، لو جبتوا اللي يثبت إنه موبايل فريد الله يرحمه فعلا زي فاتورة الشرا ويكون فيها مواصفات التليفون، أو العلبة بتاعة الموبايل ده هيخليها على الأقل دلوقتي لبساه رسمي بالدليل.

فاق طاهر من شروده وأوقف سيارته أمام وجهته المنشودة، دقائق وكان في الداخل ثم دخل بعد انتظار إلى المكتب، جلس بهدوء ثم قيل له: خير يا أستاذ طاهر عندك جديد؟
وعلى الرغم من تردده طوال الطريق ولكنه زال الآن، ورد بثبات: اه يا فندم، أنا كنت اتسألت عن الموبايل وقولت إنه شبه موبايل فريد الله يرحمه لكن مكنتش متأكد
وأنا الحقيقة بقالي يومين بدور على أي حاجة تخص موبايل فريد لحد ما لقيت دي.

ثم قدم العلبة والتي كانت بمثابة سكين على رقبة قاتل شقيقه وهو يردف: دي علبة موبايل فريد.
تناولها الجالس أمامه وابتسم طاهر بهدوء عكس الفوضى داخله، كل حواسه تردعه ولكنه يسير خلف ما نوى فعله، خلف ألا يذهب أخوه ولا يعود مجددا، خلف أن يورط شاكر ليجعل صراعه الذي كان شبه مذبذب محسوما الآن مع الشرطة.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *