التخطي إلى المحتوى

 

رواية وأنصهر الجليد( الجزء الثانى)الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم شروق مصطفى حصريه 


رواية وأنصهر الجليد( الجزء الثانى)الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم شروق مصطفى حصريه 

الفصل الأول وأنصهر الجليد

بعدما توترت الأوضاع وأحاطه القلق، قرر معتز التحرك فورًا. هاتف صديق عاصم، شارحًا له الوضع بتفاصيل دقيقة، وطلب منه المساعدة في الحصول على رقم سيارة مي وهاتفها للتتبع. استجاب الصديق سريعًا، ووعده بتوفير المعلومات في أقرب وقت.

في تلك اللحظة، حاول معتز الاتصال بعاصم مرة أخرى، لكن الهاتف ظل مغلقًا، فزفر بضيق وهو يشعر بأن الانتظار يثقل كاهله. جلس قليلًا محاولًا التركيز في عمله، إلا أن القلق استمر يلاحقه كظلٍّ لا يفارقه. لم يلبث طويلًا حتى قرر الاتصال بهيثم، طالبًا إذنه للخروج مع مي، فوافق الأخير دون تردد. بعد ذلك، أمسك هاتفه واتصل بمي للاطمئنان عليها وإخبارها بالاستعداد.

كانت مي غارقة في نوم عميق، حين رن الهاتف بجانبها. رفعت السماعة بنعاس وصوتها متثاقل:

“ألو، مين معايا؟”

ابتسم معتز وأجاب بمزاح:

“أنا حبيبك يا حياتي، مش كفاية نوم بقى؟ شكلك كسلانة من أولها كده.”

ردت مي، والنوم يغلبها:

“هتقول مين ولا أقفل في وشك السكة؟”

ضحك معتز بصوت عالٍ وقال مازحًا:

“طيب اقفلي وشوفي إيه اللي هيحصلك. يابت فوقي وكلّميني كده! آه، لو شوفتك قدامي!”

فتحت مي إحدى عينيها وحاولت تذكر مصدر الصوت، ثم فجأة نهضت من على السرير بصدمة:

“إيه ده؟ معتز!”

رد معتز، وهو يرفع حاجبيه بمكر:

“لا يا شيخة! تصوري؟ مكنتش أعرف إنك لحقتي تنسيني يا مي. ماشي، أشوفك الأول!”

كتمت مي ضحكتها وقالت:

“خلاص بقى، أنا لسه صاحية من النوم. أنا كده لما أصحى مش بفتكر حد.”

أحست بالخجل من كلماته الغزلية ولم تعرف كيف ترد، فصمتت. قطع معتز صمتها قائلاً:

“إيه؟ نمتي تاني ولا إيه؟ يا خيبتك السودة يا معتز! ردي طيب! فوقي كده، أنا هعدّي عليكِ كمان نص ساعة نفطر سوا بره.”

أخيرًا، نطقت مي بصوت منخفض:

“طيب، قول لهيثم الأول.”

رد معتز بغيظ:

“قولتله يا كسلانة قبل ما أكلمك! يلا صحصحي عشان هعدي عليكِ. ولا عايزاني أطلع فوق أصحيكِ بطريقتي؟”

نهضت مي بسرعة وقالت بارتباك:

“لا لا لا، خلاص أنا قمت! سلام بقى عشان ألحق ألبس.”

أغلقت الهاتف وخرجت من غرفتها لتصبح على والدتها، التي قالت لها بابتسامة:

“أخوكي كلّمني وقال خطيبك هيعدّي عليكِ تخرجوا. بس ساعة واحدة فاهمة. 

ابتسمت مي لوالدتها وهي تقول بلطف:

“حاضر يا حبيبتي، مش هتأخر.”

ردت نبيلة، وهي توصيها:

“روحي يا حبيبتي اتوضي وصلي الظهر الأول قبل ما تنزلي، عشان ميروحش عليكي.”

قبّلت مي وجنتي والدتها بمحبة وقالت:

“مش هنسى طبعًا يا أحلى أم في الدنيا. ادعي يا ماما يكون عرف حاجة عن سيلا، وادعيلها نلاقيها. مش عارفة المجنونة دي بتفكر إزاي! فاكرة إنها عايشة لوحدها ومحدش هيزعل عليها. أنا داخلة قبل ما يجي يستعجلني. ادعيلها يا ماما.”

دعت الأم بخير وصلاح حال للجميع، بينما أكملت مي تجهيزاتها.

عندما انتهت مي من ارتداء ملابسها، اختارت فستان جينز طويلًا بأكمام طويلة باللون الكحلي، زينته بحزام في الوسط من نفس اللون. رفعت شعرها على هيئة ذيل حصان، تاركة بعض الخصلات تنسدل بعشوائية. انتعلت حذاءً رياضيًا أبيض وحملت حقيبتها. خرجت من غرفتها مبتسمة، لتجد والدتها تستقبلها بإعجاب:

“تبارك الله! ربنا يحميكي يا بنتي. خلي بالك من نفسك.”

ابتسمت مي وهي ترد:

“حاضر يا ماما.”

رن هاتفها في تلك اللحظة، فأجابت سريعًا:

“ألو… آه، أنا جاهزة. نازلة حالًا، سلام.”

ثم نظرت إلى والدتها باستعجال قائلة:

“أنا هنزل يا ماما، مش هغيب.”

قبّلتها مرة أخرى على وجنتيها، ثم غادرت.

في الخارج، وجدت معتز متكئًا على سيارته. استقبلها بابتسامة ساحرة وفتح لها باب السيارة، مشيرًا لها بالصعود. جلست مي، ثم التحق بها معتز وقاد السيارة.

تأمل وجهها، فرأى جفونها متورمة من أثر البكاء، فتنهد بضيق وسألها بلطف:

“عاملة إيه دلوقتي؟”

حاولت أن تبتسم رغم ما تشعر به من حزن، وردت بهدوء:

“الحمد لله.”

ثم التفتت إليه وسألته بقلق:

“محدش عرف حاجة لسه؟ عاصم معرفش أي حاجة؟”

أخذ نفسًا عميقًا وأخرجه ببطء، متجنبًا النظر إليها:

“كلمت حد من معارفنا، وإن شاء الله تلاقوها قريب.”

داخل السيارة، ظلت مي غارقة في دعائها لصديقتها:

“يا رب نلاقيها بسرعة، أنا خايفة عليها أوي.”

بعد قليل، وصلا إلى الكافيه. جلسا على طاولة هادئة، وحين وصل النادل بطلباتهما، لاحظ معتز آثار الدموع على عينيها. تطلع إليها بحزم وقال:

“مي، مش عاوز أشوف دموعك دي تاني. فاهمة؟”

نظرت إليه باستغراب من تغير نبرته المفاجئ، ثم تساءلت داخليًا: “أهذا هو نفسه الذي كان ينتهز أي فرصة لمضايقتي؟” لكنها لم تطل التفكير كثيرًا، وسألته بتردد:

“اشمعنا دلوقتي خايف على دموعي؟ وإنت من الأول…”

توقفت فجأة، مترددة فيما ستقوله.

أدرك معتز ما يجول بخاطرها، فابتسم ابتسامة تحمل حزنًا عميقًا وندمًا. تنهد وقال:

“هقولك كل حاجة، وليه كنت كده سواء معاكي أو مع غيرك.”

بدأ يقص عليها ما مروا به: الماضي مأثر علينا كلنا لحد النهارده. عاصم كان الكبير، وشال المسؤولية كلها. حياته كانت جافة، خاصة بحكم شغله في المخابرات. فقد فيها كل إحساس. حياته كلها بقت تجاهل، لامبالاة، وبرود.”

ثم أكمل بمرارة:

“أما أنا… كنت عكسه. غضبي كان سلاحي الوحيد. كنت بصبه في أي حد قدامي. مش كنت بفكر.”

ابتلع ريقه بصعوبة وأردف بندم:

“بصراحة، أنا مش ملاك. أخطأت كتير، في حق نفسي وفي حق غيري. عصيت ربنا كتير. لكني بحاول أكفر عن كل ده. وأتمنى… أتمنى إنك تسامحيني على كل اللي عملته فيكي. الخوف اللي سببته ليكي، المضايقات، والرعب اللي لسه بشوفه في عينيكي… بيموتني.”

حاولت مي أن ترد، لكنه أوقفها بإشارة من يده، وأكمل:

“عارف إنك بتسألي ليه عملت كده معاكي. كنت بحاول أهرب من نفسي. كل مرة كنت أضايقك فيها، كنت بحاول أمحي صورتك من بالي. لكن… كنت بشوفك في كل حاجة حواليا. يوم ما لمست إيدك بالصدفة في العربية، حسيت إنك كهربت كياني كله.”

ثم أشار إلى قلبه وقال بصوت مختنق:

“يوم ما اتخطفتِ… حسيت إني بموت. كنت نفسي لو مت، تكوني آخر حد أشوفه.”

نظرت إليه مي بلهفة وقالت بصدق:

“بعد الشر عليك! ما تقولش كده تاني.”

تأملها معتز بصمت، وكأن كلماته تخونه في التعبير بداخله. مد يده بخفة نحو يدها المرتجفة على الطاولة، عاقدًا أمله أن ينقل لها شيئًا من السكينة التي يفتقدها. لكنها، كمن لامست نارًا، سحبت يدها فجأة، ونظرت إليه بعينين مترددتين مشحونتين بالدموع. همست بصوت مبحوح:

“آسفة… مش هينفع.”

بقلم شروق مصطفى

لم يتحرك معتز، بل اكتفى بابتسامة باهتة، نابعة من عمق الألم. قال بهدوء يمزجه الرجاء:

“خايفة عليّا؟”

تلعثمت مي، تحاول الهروب من ثقل الحديث:

“أنا… مش بحب الكلام عن الموت وكده. بس الحمد لله إنك بتحاول تغير من نفسك.”

ابتسمت له بامتنان خفيف وهي تضيف:

“أوعدك إني مش هسيبك. هساعدك تعدّي الأزمة دي، لكن لازم تكون عندك نية حقيقية للتوبة، تتقرب من ربنا، وتبدأ صفحة جديدة.”

انفرجت أساريره قليلاً، ورمقها بنظرة تحمل كل معاني الامتنان والحب، وقال بصوت يفيض صدقًا:

“أنا مش عارف أقولك إيه… بحبك أوي. مهما قلت لسنين قدام، مش هيكفي أعبّر عن اللي في قلبي. بجد ندمان على كل لحظة ضايقتك فيها أو دمعة نزلت بسبب غلطي.”

سكت لحظة، ثم أردف بخجل:

“بس… مش شايفة إن ست شهور كتير؟ أنا بفكر أكلم أخوكي ونقدّم الفرح لأخر الشهر. كل حاجة جاهزة… ليه نستنى؟”

لكنها قاطعته فجأة، وبحزم لم يتوقعه:

“لا، طبعًا لا.”

نظر إليها بدهشة من رفضها المفاجئ. كانت تبدو مستعدة لكل شيء منذ لحظات، فما الذي تغيّر؟ لم تتركه لدوامة ظنونه، وأضافت بحزن وهي تغالب دموعها:

“مش هفرح ولا هلبس الفستان الأبيض إلا لما سيلا تكون معايا… لازم أطمّن عليها الأول.”

تفهم معتز موقفها دون اعتراض، وهزّ رأسه مطمئنًا:

“حاضر، أوعدك هعمل المستحيل عشان ألاقيها.”

نظرت إليه بأمل ضعيف وقالت:

“طب عاصم… مش ممكن يعرف حاجة؟ يمكن يكون عنده وسيلة يساعدنا.

…. 

مر أسبوعان دون جديد، والحال كما هو؛ البحث مستمر عن وسيلة، لكنها ما زالت مختفية دون أثر، وعاصم مختفٍ بدوره وهاتفه مغلق. كلما مرّ الوقت، ازدادت المخاوف، وكأن الغياب يثقل القلوب أكثر فأكثر.

على الجانب الآخر، كانت حياة همسة ووليد تتشكل بوتيرة هادئة، حيث ساد التفاهم بينهما. تأقلمت همسة تدريجيًا مع منزلها الجديد، وبدأت تشعر ببعض الراحة في وجود وليد الذي لم يتركها تواجه حزنها وحدها. ورغم كل هذا، بقي بداخلها شعور غامض بالفراغ، بانقباض قلب يؤلمها دون أن تجد له تفسيرًا.

وليد كان يحاول جاهدًا إبعادها عن هذا الحزن، يخرجها من شرودها، ويشاركها تفاصيل الحياة اليومية ليقرب بينهما. لم يكن يكتفي بالكلمات، بل عمد إلى مشاركتها حتى في أبسط الأمور، مثل أعمال المنزل.

ذات يوم، وبعد انتهائهما من الغداء، حاولت منعه من حمل الصحون قائلة بابتسامة خفيفة:

“سيب يا وليد، أنا هشيل الأطباق. مش كل يوم بقى!”

لكنه ترك ما كان يحمله، أمسك يدها برفق، وقال وهو يغرق في عينيها:

“يا ست البنات، ارتاحي انتي. أنا بحب أساعد، فيها حاجة دي؟”

احمرّ وجهها من الخجل، وابتسمت بحنو:

“انت جميل أوي يا وليد بجد… وحنين أوي. ربنا يباركلي فيك.”

رد عليها بابتسامة تحمل كل الحب:

“وإنتي أجمل بنت شافتها عنيه.”

وبينما كان يحمل معها الأطباق للمطبخ، أوقفته فجأة لتقول:

“وليد، ممكن أسألك سؤال؟”

نظر إليها متسائلًا:

“طبعًا، قولي.”

تنهدت قليلاً قبل أن تتابع:

“يا ترى… هتفضل تساعدني كده على طول؟ ولا ده في الأول بس؟ أنا عارفة إن الرجالة عامةً مش بيحبوا يساعدوا زوجاتهم، بيقولوا إن الزوجة المفروض تعمل كل حاجة… بس أنا شايفاك غير كده، فمش عارفة إذا كان ده طبيعي بين الأزواج، ولا انت حالة استثنائية؟”

قهقه وليد ضاحكًا، ثم قال بعد أن هدأ:

“يعني أساعد مش عاجب، ما أساعدش مش عاجب! إنتوا مش بيعجبكم حاجة أبدًا!”

همسة بادرت بسرعة لتبرر كلامها:

“لا لا، ساعد طبعًا! أنا مش قصدي كده… بس عارفة إن معظم الأزواج بيشوفوا نفسهم سي السيد، والزوجة لازم تعمل كل حاجة!”

جذبها برفق من يدها وأجلسها أمامه، ثم قال بابتسامة هادئة:

“بصي… الزواج قائم على المودة والرحمة. يعني لو شوفتك تعبانة في يوم، لازم أشيلك وأساعدك. ولو لقيتيني بمرّ بظروف صعبة، سواء صحية أو مادية، لازم توقفي جنبي وتصبّري عليا. المودة معناها إن يبقى بيننا ألفة وحب، ونشيل بعض في الحلوة والمُرة ولا أية ؟”

هزّت رأسها بالموافقة وقالت بابتسامة خفيفة:

“آه طبعًا، معاك. يارب أكون قدّ المشاركة دي وتنجح حياتنا.”

أجابها وليد بثقة ودفء:

“طالما بينا احترام وحب، ونتقي ربنا في بعض، حياتنا هتنجح بإذن الله.”

شعرت همسة بفيض من الامتنان، وقالت بتأثر:

“مش عارفة أقولك إيه… ربنا بيحبني إنه رزقني بيك.”

تطلع إليها وليد بحب وقال:

“وأنا ربنا بيحبني إنه رزقني بيكي. وأول ما نطمّن على أختك، هنسافر نزور بيت الله زي ما وعدتك.”

هتفت بحماس:

“ياريت بجد!”

لكن نبرة صوتها تبدلت إلى حزن وهي تتابع:

“بس… بقالنا أسبوعين ومفيش أي جديد. أنا قلقانة عليها أوي. حتى لما رحنا وسألنا عن عمي، ما كانش موجود.”

ربت وليد على يدها مطمئنًا:

“أنا متفائل خير. قريب هنلاقيها إن شاء الله.”

ثم حاول تغيير الموضوع ليخفف عنها:

“طيب… مش ناوية بقى؟”

نظرت إليه بعدم استيعاب:

“ناوية على إيه؟ مش واخدة بالي.”

غمز لها بمرح وقال:

“بما إن ربنا رزقنا ببعض وبنحب بعض… تعالي، هقولك سر!”

أمسك يدها برفق وسحبها معه إلى الغرفة، ثم أغلق الباب خلفهما.

قالت بتوتر:

“إيه يا وليد؟ في إيه؟”

ترك يدها برفق، ثم أمسك وجنتيها بأنامله وهمس بحنان:

“إنتي لسه بتخافي مني؟”

هزّت رأسها نافية:

“لا، بالعكس… إنت حنين أوي.”

ابتسم، ثم قبلها على وجنتيها برفق وقال:

“طيب يا روحي. يلا بينا نصلي ركعتين نبدأ بيهم حياتنا، عشان ربنا يباركلنا فيها. تعالي نتوضأ.”

بعد الصلاة، وضع يده على مقدمة رأسها وقرأ دعاء الزواج بخشوع:

“اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه.”

ثم نظر إليها بابتسامة تطمئن قلبها، وقال:

“دلوقتي نبدأ حياتنا بطاعة الله، ونكون لبعض زوج وزوجة قولاً وفعلاً.”

… 

ضاقت بها الحياة حتى شعرت أن قلبها يختنق تحت وطأة الوحدة.

اشتاقت لملاذها الآمن، لأيام كانت تحتضن فيها السكينة بعيدًا عن الألم. تذكرت حديثه المليء بالحب والصدق، وشعرت بلهفته وحنانه الذي خفف عنها الكثير، لكنها كانت تخشى عليه من ثقل مرضها. لا تريد أن تلقي عليه مسؤولية آلامها ولا أن يتعلق بها وهي تشعر أن النهاية تقترب.

فاقت من شرودها وهي تمسح دمعة عالقة على خدها. وقفت أمام البحر، موجه يلامس قدميها ويبلل رمال الشاطئ. نثرت المياه بقدميها بعشوائية، ثم تنهدت بعمق، وابتسمت ابتسامة حزينة وهمست وكأنها تخاطب من تحب:

“وحشتوني أوي… أسبوعين وأنا مش عارفة أنام وأنا بعيدة عنكم. يا رب تصبرني على بعدكم.”

التفتت عائدة إلى الشاليه، فتحت الباب ودخلت، ولكن فجأة اجتاحها شعور غريب. شمت رائحة عطر مألوفة، رائحة تعرفها جيدًا. عطر يحمل ذكريات حبها. توقفت في مكانها، تتلفت حولها تبحث عن مصدره، لكنها لم تجد أحدًا. شعرت بقشعريرة اجتاحت جسدها، وتمتمت بدهشة:

“غريب… ريحة إيه دي؟!”

حاولت تجاهل شعورها، نفضت الأفكار والهواجس عن عقلها، وأرتمت على الفراش بإرهاق.

آلامها باتت أشد من أن تتحملها. الأدوية والمسكنات لم تعد تؤثر، ومعدتها المنهكة ترفض الطعام. شحب وجهها، وازدادت الهالات الداكنة تحت عينيها، وكأن المرض يلتهمها يومًا بعد يوم.

تناولت بعض الحبوب المهدئة كي تهرب من واقعها إلى النوم. حضنت نفسها كالجنين، تبكي بصوت مكتوم من شدة الوجع، حتى غلبها الإرهاق وأغمضت عينيها.

لكن بعد ساعات قليلة، شعرت بشيء غير متوقع.

قبلة دافئة على وجنتها أيقظتها. صوت همس بجوار أذنها وكف حانية تغطيها بالبطانية. فتحت عينيها ببطء، ما زالت متعبة، لكنها رأت وجهه أمامها! يربت على شعرها بحنان ويهمس:

“أنا معاكي، وهفضل جنبك… حياتي ملهاش طعم من غيرك.”

رفعت نفسها بصعوبة عن الفراش، وهي تحاول استيعاب ما يحدث. مسحت عينيها بأناملها لتزيل بقايا النعاس. لكنها صُدمت!

لا أحد في الغرفة… كانت وحدها.

تنهدت بمرارة وهي تهمس بخفوت:

“معقول… كان حلم؟”

وضعت يدها على وجنتها، وكأنها تتحسس أثر القبلة. رغم الألم، ابتسمت. حلمه ترك أثرًا ناعمًا على قلبها المنهك. نظرت إلى الساعة بجانب السرير، فوجدتها لم تتجاوز التاسعة مساءً.

نهضت من فراشها بتكاسل، وتوجهت إلى الدولاب. قررت تبديل ملابسها والخروج قليلًا لاستنشاق الهواء المنعش. شعرت أن الجدران تخنقها.

لكن بينما كانت تتحرك ببطء… حدث ما لم يكن في الحسبان.

يتبع 

الفصل الثاني والثالث

وأنصهر الجليد ج2 جمر الجليد

نهضت سيلا من فراشها بتكاسلٍ، تتثاقل في حركاتها كمن يحمل على عاتقه أثقالًا خفية. توجهت نحو الدولاب، ويدها تعبث بخصلات شعرها المتناثرة. قررت أن تبدل ملابسها وتخرج قليلاً علّها تجد في الهواء البارد متنفسًا لصداع الأفكار الذي يثقل رأسها. شعرت أن الجدران تضيق عليها، وكأنها قفص يكتم أنفاسها.

ارتدت كنزة ثقيلة أخرجتها من حقيبةٍ كانت قد أعدّتها على عجل قبل مغادرتها المنزل. ألقت نظرةً عابرة على نفسها في المرآة، ثم عقدت شعرها دون اهتمام. وبينما كانت تستعد للخروج، باغتها صوت دقٍّ على الباب، فتوقفت للحظة تملأها الدهشة والتساؤل.

اقتربت بحذر، وتمتمت بتوتر عن هوية الطارق حتى جاءها صوت رجلٍ بدا متحرجًا:

أسف على الإزعاج… أنا جارك في الشاليه اللي جانبك. الحقيقة النور قطع عندي وأنا كنت بغيّر لمبة، لكن حصلت قفلة. والأسوأ أن موبايلي فصل شحن. ممكن أستعير كشاف أو شمعة، ولو تسمحي أشحن الموبايل عندك؟ نص ساعة وأرجع آخده. آسف جدًا على الإزعاج.

أجابت سيلا بنبرة هادئة خالية من الاكتراث:

لا، ولا يهمك. هات الموبايل والشاحن، وهشوف إذا عندي كشاف أو شمعة. بس لحظة أقفل الباب.

أغلقت الباب خلفها بهدوء، توجهت إلى الغرفة، ووضعت هاتفه على الشاحن. بحثت سريعًا بين أغراضها حتى وجدت كشافًا صغيرًا. عادت وفتحت الباب وهي تمد يدها بالكشاف، قائلة:

أتفضل.

ارتسمت على وجهه ابتسامة امتنان وقال:

ألف شكر! نص ساعة بالكثير وأرجع آخد الموبايل.

أومأت سيلا برأسها وأجابته بلا اهتمام:

مفيش مشكلة.

تراجع خطواته مبتعدًا، بينما ظلت هي تراقبه حتى اختفى عن ناظريها. أغلقت الباب خلفها، لكنها شعرت بحاجة ملحّة للخروج. دفعت باب الشاليه بخفة، استنشقت الهواء العليل، رغم لسعة البرد التي سرت في جسدها. الشتاء كان قاسياً، لكن البرد في الخارج بدا أكثر رحمة من برودة الفراغ داخلها.

جلست سيلا على مقعد صغير أخرجته من الشاليه، ووضعته على الرمال، مواجِهة البحر بأمواجه المتلاطمة التي تصطدم بالشاطئ بقوة، وكأنها تعكس ما يدور بداخلها من صراعات. ظلت تحدّق فيه بشرود، متأملةً قسوته التي رغم شدتها تحمل شيئًا من السكينة. تنهدت بعمق وهمست لنفسها بصوت خافت:

– أد اية الدنيا ما تسواش… كله بيجري ورا مال وشهوات أو أولاد، ونسى وجود ربنا، وأن ممكن في لحظة ننكسر، وما نقدرش نقوم تاني.

جالت بخاطرها ذكريات مؤلمة، وتذكرت ذلك الطمع الذي دفع عمّها لاقتسام ميراث أخيه مرتين، وكأن الموت لم يكن كافيًا لردعه. هزّت رأسها بأسى، وقالت داخليًا

“سبحانك يا رب، قادر على كل شيء… اللهم لا شماتة، لكن الحق أبدًا ما بيضيع”. 

تسللت إلى ذاكرتها يوم نزع السوار وركبت سيارتها بلا هدف، تقودها مشاعر متخبطة إلى طريق مجهول. لم تدرك أنها تجاوزت مدخل الإسكندرية إلا بعد أن أنهكها التعب، ولم يساعدها أنها ظلت دون طعام منذ الليلة السابقة. أضف إلى ذلك أنها قادت سيارتها لساعات طويلة دون راحة. أثناء القيادة، شعرت بصداع حاد وبدأت تبحث عن دوائها في حقيبتها، تاركة عجلة القيادة دون انتباه. وفي لحظة فقدت السيطرة على السيارة، فانحرفت يمينًا، واصطدمت برصيف الطريق.

كانت الضربة عنيفة لدرجة أن رأسها اصطدم بالمقود، وصوت بوق السيارة ظل عالقًا حتى توقّف أخيرًا عند وصول شرطي المرور الذي أسرع إليها. بعد أن قدّم لها الإسعافات الأولية، طالبًا من زميله مساعدته في نقلها إلى أقرب مستشفى.

قضت سيلا تلك الليلة في غرفة المشفى، معلق لها محاليل تغذية، بينما كان الأطباء يشكّون في حالتها. هاتفها كان مغلقًا بكلمة سر، ولم يتمكن أحد من الوصول إلى أهلها. نامت سيلا، مثقلة بالإرهاق والوجع.

في صباح اليوم التالي، دخل الطبيب إلى غرفتها للاطمئنان عليها، مبتسمًا بلطف:

– حمد لله على السلامة يا آنسة. عاملة أية دلوقتي؟

تحسست سيلا جبينها الملفوف بضماد، حيث ترك الاصطدام خدشًا بسيطًا. ردّت بصوت خافت:

– الحمد لله يا دكتور، ممكن تكتب لي على الخروج؟

ابتسم الطبيب ابتسامة مائلة للقلق وقال:

– ممكن، لكن الأفضل تفضلي يومين كمان. عندي شكوك لازم أتأكد منها بتحاليل وأشعة. وممكن نتواصل مع أهلك ليطمنوا عليك.

أجابت سيلا كاذبة وهي تحاول إنهاء الحديث:

– شكوكك في محلها، أنا متابعة حالتي مع طبيبي الخاص.

ظهرت علامات الاطمئنان على وجه الطبيب، لكنه استفسر بحذر:

– تمام، كده وفّرتِ علي كتير. لكن إنتِ في أي مرحلة؟ لازم التدخل الجراحي بأسرع وقت.

ابتلعت سيلا ريقها، تحاول إخفاء ارتباكها، وقالت:

– أكيد طبعا، أنا ماشية مع طبيبي، وعلى علم بكل شيء. بس أرجوك، اكتب لي على الخروج.

هزّ الطبيب رأسه، وقال بصوت يشوبه عدم الاقتناع:

– زي ما تحبي. هكتبلك على الخروج، وبعد نص ساعة تقدري تمشي.

خرج الطبيب، فنهضت سيلا من على الفراش بإرهاق. التقطت حقيبتها ومفاتيح سيارتها، وخرجت من الغرفة متجهة نحو قسم الحسابات لإنهاء باقي الإجراءات. لكن قبل أن تصل، لفت انتباهها صوت بكاء مألوف قادم من الغرفة المجاورة. توقفت، وتسللت نظراتها نحو الباب الموارب.

رأت عمّها طريح الفراش، إلى جواره زوجته تنتحب بحرقة. اقتربت أكثر، حتى انتبهت زوجة عمها لوجودها. رفعت رأسها، وقالت بوجع ممزوج بالدموع:

– سيلا… إنتِ هنا عشان تشوفي اللي حصل لعمك؟

لم تتفوّه سيلا بكلمة، بل اكتفت بهزّ رأسها إيجابًا.

تابعت زوجة عمها حديثها، وكأنها تتحدث إلى نفسها:

– شوفتي اللي وصلنا له؟ ابني… آه يا قلبي على ابني. مات وهو لسه في عز شبابه! وعمك، زي ما شايفة، من يومها اتشل ومش بينطق. ربنا يعاقبنا على اللي عملناه.

وضعت يدها على رأسها وهي تواصل بكاءها:

– ظلمناكم، ظلمنا أبوكِ… ومات وهو مش مسامحنا. كل حاجة ضاعت. ابني مات بسبب اللي كان بيشربه… وكل اللي أخدناه راح.

ربتت سيلا على كتفها بحنان، وقالت بهدوء:

– ربنا بيغفر وبيسامح لما نرجع له بتوبة صادقة. وأنا وبابا مسامحينكم من زمان. ربنا يعينكم ويخفف عنكم. 

 تركت سيلا عمها واقتربت منه بحنو، تحاول تهدئته بينما يحاول هو جاهدًا النطق بكلمات تتعثر في حلقه. شفتيه المرتجفتان حاولتا صياغة جملة لكنها خرجت بصوت متقطع:

“أم… أممم…”

ربتت سيلا على كتفه بحنان وهمست بصوت دافئ:

“ما تتعبش نفسك… أنا مسمحاك، وبابا كمان مسامحك. ربنا يقومك بالسلامة قريب.”

ثم انحنت لتطبع قبلة على جبينه، ونهضت لتحتضن زوجة عمها برفق:

“ربنا يشفيه ويخفف عنكم… ويرحم محمود.”

غادرت المكان بخطوات ثقيلة، مشغولة بشرودها وأفكارها التي حملتها بعيدًا. فجأة، شعرت بقشعريرة باردة سرت في جسدها، وكأنها نذير خطر غير مرئي. التفتت لتغادر، لكن صوت خطوات خلفها جعلها تنتفض. استدارت لتجد ظل شخص يقترب منها.

شهقت سيلا وارتدت للخلف بدهشة، تحاول التقاط أنفاسها:

“هاه! هو… هو أنت؟ جيت إمتى؟”

ابتسم الشاب بحرج ورفع يديه كإشارة للاعتذار:

“آسف… آسف جدًا! مش قصدي أخوفك. أنا جيت وخبطت على الباب، بس محدش رد. شفتك قاعدة قدام البحر… فقلت ممكن أجي أتكلم معاكي. آسف مرة تانية.”

تنهدت سيلا بارتياح وحاولت أن تهدأ:

“ولا يهمك.”

ابتسم الشاب بلطف ومد يده معرفًا بنفسه:

“أنا مازن.”

ردت سيلا بابتسامة باهتة لم تصل إلى عينيها:

“وأنا سيلا.”

تأملها مازن بنظرات متفحصة، وكأنه يحاول أن يفك لغزًا ما:

“تشرفت بمعرفتك… بس حاسس إني شفتك قبل كده. شكلك مش غريب عليا.”

حاولت سيلا التهرب منه بنظرات مضطربة:

“ما أعتقدش. مع السلامة.”

لكن إصرار مازن ازداد وهو يلاحق أفكاره:

“لا، متأكد إنك مش غريبة عليا… يمكن كنتي مع حد أو في مكان. هحاول أفتكر.”

لم تستطع سيلا احتمال المزيد. تقدمت بخطوات سريعة، محاولة الهروب من نظراته المتسائلة. عندما ابتعدت، لاحظت ظلًا أسود يتحرك بجانب الشاليه الخاص بها. ارتعشت أوصالها من الخوف، وخفق قلبها بشدة. بدأت تركض كأنها في سباق مع الرعب، حتى وصلت إلى الشاليه ودخلته بسرعة.

أغلقت الباب بإحكام، وألقت هاتفها على الطاولة دون أن تمنحه فرصة لقول كلمة. ثم سارعت بإغلاق النوافذ كلها، وكأنها تحاول أن تبني حصنًا يحميها من العالم الخارجي تحاول تهدئة أنفاسها المتسارعة ومسحت جبينها المبلل بالعرق، رغم برودة الجو.

بعد أن هدأت قليلًا، توجهت إلى المطبخ لإعداد وجبة خفيفة. قامت بتسخين القليل من الشوربة وأضفت إليها قطعتي لحم، ثم تناولتها بصمت. بعد ذلك، أخذت دواءها وحاولت أن تنام. وكعادتها، احتضنت نفسها كما يفعل الجنين في رحم أمه، حتى غلبها النعاس ببطء.

… 

أُغلق الباب في وجه مازن قبل أن يتمكن حتى من شكرها. وقف للحظة مذهولًا من تصرفها، يحمل هاتفه الذي أعادته إليه دون كلمة. كان في نيته شكرها، لكنّ تعبيرات وجهها وتوترها جعلاه يتراجع. تأمل باب الشاليه المغلق للحظة، ثم ابتسم بخفة، وكأنّ تصرفها حمل في طياته سرًا ما. بدا عليه أنها مرتعبة أو تهرب من شيء ما، خاصة مع هيئتها الحزينة التي لم تفارقه. قرر في نفسه أن يسألها صباحًا عن ذلك.

..

في مشهد آخر، كانت سيلا وعاصم يلهوان داخل مياه البحر. ضحكاتهما العالية امتزجت بصوت الأمواج، وملأت أرجاء المكان بالمرح. بعثرت سيلا الماء بيديها على وجهه بسعادة طفولية، وهو يرد عليها بضحكات مفعمة بالحياة:

“والله ما أنا سايبك!”

استمر في رش الماء عليها، بينما هي تبتعد للوراء محاولًة تفاديه، وضحكاتها تملأ الأجواء:

“كفاية! حرمت خلاص، خلاص!”

هدآ قليلًا، والضحكات بدأت تخفت. اقترب عاصم منها وأمسك يدها، ونظر إلى عينيها بشوق وسعادة لا توصف. كل كلمة نطقها خرجت من أعماق قلبه:

“أنا بحبك أوي.”

نظرت إليه سيلا، ثم فجأة رفعت صوتها عاليًا، كأنها تصرخ للعالم أجمع:

“وأنا… مش بحبك!”

تفاجأ عاصم من ردها، حدق بها بدهشة:

“بتقولي إيه؟!”

لكنها بسطت ذراعيها للأعلى، وابتسامتها أضاءت وجهها كما لم تفعل من قبل. قفزت عاليًا على سطح المياه وهي تصرخ:

“أنا بعشقك!”

ثم خفضت صوتها بهدوء، واقتربت منه وأمسكت يده. أخذت كفه وأشارت به نحو قلبها، وابتسمت برقة:

“أنت بقيت هنا… وأنا معاك بحس بالأمان اللي كنت بدور عليه. أوعدني… ما تسبنيش يا عاصم، أوعدني!”

رد عليها بنفس الشوق واللهفة، وعينيه تشعان حبًا:

“مش هسيبك. أنت حياتي، أنت النفس اللي بتنفسه. عرفت طعم حياتي معاكي، وعمري ما هسيبك.”

صاحت سيلا بصوت مرتفع، وكأنها تطلب تأكيدًا:

“أوعدني!”

رد عليها عاصم، وهو يشدد بيده على يدها في وسط البحر الذي كانت أمواجه ترفعهم وتخفضهم:

“أوعدك. هتفضلي معايا وجانبي دايمًا.”

شعرت سيلا بطفولة غامرة تجتاحها. فجأة سحبت يدها منه، ورجعت للخلف وسط موجة من الضحك. قهقهت بصوت عالٍ، ثم بعثرت الماء بوجهه مجددًا:

“طب خد دي بقى!”

ابتعدت عنه بسرعة، وهو يقترب منها بتوعد، مهددًا بابتسامة ماكرة:

“تعالي هنا! رايحة فين؟! أنت فصيلة كده على طول!”

وسط ضحكاتها وسعادتها، لم تلاحظ سيلا ارتفاع مستوى المياه وسحبها نحو الداخل. ظلت تلهو وتزيد من حماسها:

“مش هتقدر تمسكني!”

لكن فجأة قطعت حديثها عندما شعرت بدوار البحر. شهقت، وحاولت الصراخ:

“الحقني! أنا بغرق! الحقني!”

في البداية، ظنها عاصم تمزح كالعادة. لكنها كانت تبتعد عنه بسرعة. أدرك أن الأمر حقيقي عندما سمع صراخها المتوسل:

“عاااااصم! ما تسبنيش! أنت وعدتني!”

رآها تغرق، تصعد وتختفي، تستنشق أنفاسًا متقطعة قبل أن تسقط مجددًا إلى الماء. ظل يصرخ بجنون:

“مش هسيبك يا سيلا! سيلا! لآاااه!”

غطس في الماء، يبحث عنها بجنون، يقفز إلى السطح لالتقاط أنفاسه ثم يغوص مجددًا. صوتها يستغيث به في رأسه:

“ما تسبنيش، عاصم! أنت وعدتني!”

لكنه لم يجدها.

استيقظ عاصم من نومه مذعورًا، يلهث بعنف. كان العرق يتصبب من جبينه، وجسده يرتجف كأنه يحمل أثقالًا على روحه. أمسك رأسه بكلتا يديه، يردد اسمها بصوت مختنق وكأنها ما زالت تُناديه:

“سيلا! سيلا! آه… قلبي…”

ظل يكرر اسمها، وكأن الحلم كان حقيقة مُرَّة لا يريد تصديقها.

شعر بوخزة في قلبه، زفر بضيق ونهض بسرعة ليغسل وجهه. وقف أمام المرآة، مغمض العينين، لكنه لم يستطع منع الألم الذي مزق قلبه من العودة. اعترف لنفسه بهدوء، وبداخله وجع حارق “أفتقدها بشدة… كل ليلة أحلم بها، أبحث عنها ولا أجدها. أمد يدي لأضمها ولا تلمسني، أناديها ولا تسمعني. متى تعود إليّ؟ متى تسعدني؟ أشتاق لعناقها لأحيا من جديد… لا، لن أتخلى عنها، وعدتك ولن أخلف الوعد.”

خرج من الحمام بخطوات ثقيلة وجلس على أقرب مقعد، جذب هاتفه بيد مرتجفة وأجرى مكالمة سريعة مع صديقه. أنهى المكالمة وزفر بضيق، ألقى بالهاتف بإهمال ونهض ليستعد لمهمته.

لأول مرة تهتز يده في تنفيذ مهمته؛ ظهر أمامه هدفه لكنه لم يستطع الضغط على الزناد عندما لمحها فجأة. ارتجفت يداه، وتخلى عن المهمة، موكلًا إياها لضابط آخر. نال توبيخًا شديدًا من رئيسه في العمل، لكن قلبه المشوش كان أقوى من كلمات رئيسه الغاضبة.

كلما حاول أن يخرجها من عقله، كلما زاد انقباض قلبه. أخبره صديقه بمكانها وبحادث وقع في مدخل الإسكندرية أدى إلى مبيتها ليلة في المستشفى. أضاف أنه تلقى مكالمة من أخيها يسأل عنها. لكن عاصم طلب منه عدم الرد وعدم إخبار أي شخص بمكانها في الوقت الحالي، قائلًا إن الظروف لا تسمح.

زفر بضيق شديد، متخذًا قراره. ترك مهمته لصديقه وسافر لرؤيتها. حمل حقيبته واستقل طائرته، متجهًا نحو “مجنونته العنيدة”، كما كان يلقبها دائمًا.

مرّ أسبوعان كأنهما دهر. ظل خلالها يراقبها من بعيد، يرى ألمها دون أن يستطيع مواساتها.

وفي أول يوم لمحها فيه، كان يقف بعيدًا يراقبها. ترتدي فستانًا أبيض فضفاضًا بدا كأنه يعكس حزنها. استغل خبرته في المراقبة لتقييم المكان، باحثًا عن أنسب مدخل للشاليه دون إثارة شكوكها.

في أحد الأيام، خرجت من الشاليه لفترة قصيرة. انتهز الفرصة ودخل بكل خفة ومهارة عبر نافذة الشرفة التي تركتها مواربة. كان الشاليه صغيرًا، مكونًا من غرفة واحدة تضم سريرًا متوسط الحجم بجانب الحائط، إلى جانبه منضدة خشبية صغيرة تعج بأنواع مختلفة من الأدوية، بعضها فارغ والبعض الآخر شبه ممتلئ.

تجول عاصم في المكان، فحصه بعناية. الريسبشن كبير ويفتح على مطبخ أمريكي، والشرفة المطلة على البحر تمنح المكان جاذبية خاصة. لكنه لم يكن هناك للاستمتاع بالمشهد. زرع كاميرات صغيرة لا تُرى، واحدة في الريسبشن وأخرى داخل الغرفة، ووضع جهاز تنصت أسفل المنضدة القريبة من السرير.

بينما كان ينهي مهمته، رأى من نافذة الشرفة أنها عائدة. اختبأ بسرعة في الزاوية، وعندما دخلت هي الشاليه، قفز إلى الخارج بصمت.

دلفت إلى الداخل وهي تشم رائحة غريبة، عطرًا فريدًا تعرفه جيدًا. تلفتت حولها بقلق، تبحث عن مصدر الرائحة، لكن المكان كان فارغًا. تمتمت بخفوت: “غريب… إيه الريحة دي؟”

نفضت من عقلها كل الهواجس، ورمت نفسها على السرير. احتضنت نفسها بألم، غارقة في أحزانها، حتى غفت أخيرًا.

… 

خرج عاصم من الشاليه بعد أن انتهى من زراعة الكاميرات ووضع أجهزة التنصت، وقرر استئجار شاليه قريب من شاليه سيلا. أراد أن يكون بجانبها، لكن دون أن يشعرها بوجوده. بمجرد أن دلف إلى الشاليه الجديد، فتح حاسوبه المحمول، وأوصل الكاميرات بأجهزته، وبدأ يتابعها عن كثب.

رآها تجلس داخل شاليهها، وقد تركت شرفتها غير محكمة الإغلاق. لاحظ أنها تناولت دواءها من حقيبتها، ثم تمددت على سريرها، متألمة، حتى غفت.

شعر عاصم بوجع في قلبه وهو يراقبها، حنين جارف اجتاحه لرؤيتها عن قرب، لاحتضانها، لمسح كل هذا الألم الذي أثقل ملامحها. لكنه تردد، متسائلًا: “ماذا سيكون رد فعلها إن رأتني؟”

رغم التردد، قرر الذهاب إليها. دلف إلى شرفتها المفتوحة مرة أخرى بخفة ومهارة. وقف للحظات يتأملها وهي نائمة. كانت ملامحها منكمشة بالألم، وكأنها تخوض معركة مع نفسها حتى وهي في سبات.

اقترب منها بحذر وجثا على ركبتيه بجانبها. مد يده برفق وربت على شعرها، هامسًا بكلمات دافئة بين الحلم واليقظة:

“سيلا… أنا هنا… أنا معكِ…”

لم تستوعب كلماته تمامًا، إذ كانت بين النوم واليقظة، لكنها حركت رأسها قليلًا وكأنها تشعر بحضوره. تمنّى لو اختصر المسافة بينها وبين قلبه، أراد أن يضمها بين ذراعيه، لكنه اكتفى بتقبيل وجنتها بخفة.

دثرها جيدًا بالغطاء، وهمّ بالخروج سريعًا عندما لاحظ أنها بدأت تتحرك وكأنها ستفيق. غادر الغرفة بنفس الهدوء والخفة التي دخل بها، قافزًا عبر الشرفة.

لكنه ما إن اقترب من الشاليه الخاص به، حتى لفت نظره ظل شخص يتجه نحو شاليه سيلا. توقف مكانه يراقب بحذر، بينما هي فتحت الباب لهذا الشخص وبدأا الحديث.

تابع عاصم الموقف من بعيد، محاولًا قراءة حركة شفاههما. لكن ما أقلقه حقًا هو نظرات هذا الرجل، التي بدت مريبة بالنسبة له.

ظل يتبع الرجل حتى غادر الشاليه. عندها رآها سيلا تخرج وتجلس أمام البحر، تبدو شاردة ومليئة بالألم. بقي عاصم يتجول حول المكان، يراقبها من بعيد.

لاحقًا، عاد الرجل الذي كان معها ووقف بجانبها، يتحدث معها من جديد. تقدمت سيلا نحوه ببضع خطوات، لكن عاصم، الذي كان يختبئ خلف أحد الأشجار، شعر أنها لاحظت وجوده. فجأة، ركضت بسرعة نحو شاليهها، وأغلقت الباب خلفها بعنف.

ابتسم عاصم لنفسه بهدوء، واطمأن أنها شعرت بشيء ما جعلها تعود إلى الداخل.

عاد بدوره إلى شاليهه، وجلس أمام حاسوبه، يراقبها وهي تتحرك داخل الغرفة حتى استلقت على السرير من جديد. كانت تنام بوضعية الجنين، تحتضن نفسها وكأنها تبحث عن أمان مفقود.

همس لنفسه وهو يتأملها عبر الشاشة:

“نفسي أفهم عنادك ده هيوديكي فين… لحد إمتى دماغك الناشفة دي؟ بس خلاص، هخلص كام حاجة بخصوص المستشفى والدكتور اللي متابع حالتك، وبعدها هكسر دماغك الحجر دي.”

ظل الحاسوب أمامه، يراقبها بعين متعبة وقلب مليء بالشوق، حتى غلبه النعاس ونام وهو يتمنى لو كانت بين ذراعيه.

صباح جديد مليء بالمفاجآت على جميع أبطالنا.

استيقظت سيلا من نومها بتأفف شديد على صوت طرقات الباب المتتالية. نهضت وهي تتمتم بضيق:

“وبعدين بقى في الرزل ده؟ كل شوية دَق دَق… ما وراهوش غيري؟ هف!”

اتجهت نحو الباب بخطوات ثقيلة، منادية بصوت مرتفع:

“أيوه… مين؟”

جاءها الرد سريعًا، صوت مألوف لكن مزعج:

“أنا مازن… لو سمحتي، نسيت الشاحن عندك امبارح.”

خبطت يدها على جبينها باندفاع، متذمرة بصوت خافت:

“آه… دا أنا نسيت! شديت التلفون وسِبت الشاحن.”

أسرعت وأحضرت الشاحن، فتحت الباب فتحة صغيرة، ومدت يدها به قائلة بلهجة معتذرة:

“آسفة جدًا، بجد نسيت خالص.”

ابتسم مازن وهو يأخذ الشاحن منها، قائلاً بلطف:

“بتحصل، ولا يهمك. بس ممكن طلب لو مش هيضايقك؟”

نظرت إليه باستغراب:

“طلب؟ لا عادي، اتفضل.”

قال مازن بابتسامة عريضة:

“إيه رأيك لو أعزمك على فنجان قهوة في الكافيه القريب هنا؟”

وأشار إلى كافيه صغير يقع في الممر الفاصل بين صفين طويلين من الشاليهات المطلة على البحر. ثم أكمل بنبرة حماسية:

“على فكرة، افتكرت حاجة! أنتي تعرفي هيثم؟ دكتور الأطفال؟ طول الليل بحاول أفتكر شوفتك فين، لحد ما افتكرتك أخيرًا!”

سيلا شعرت بالارتباك، فردت بسرعة وصوتها يحمل القلق:

“مي! أنت تعرف مي؟! أوعى تكون كلمتها أو قلت لها على مكاني!”

اندفاعها المفاجئ أثار دهشة مازن، الذي رفع حاجبيه مستغربًا وقال:

“آه… مي أخت هيثم، بس أنا معرفش مي كويس، أعرف هيثم لأنه صديقي. لكن لا تقلقي، مكلمتش حد لسه.”

أخذت نفسًا عميقًا لتهدئة أعصابها، ثم قالت:

“طيب هستأذنك أغير هدومي وأجيلك.”

أغلقت الباب وارتدت ملابسها سريعًا، ثم خرجت لتجده ينتظرها. أشار لها باتجاه الكافيه، حيث جلسا معًا.

تقدم النادل إليهما، وسأله مازن:

“واحد قهوة مظبوطة. والآنسة؟”

ردت سيلا بلطف:

“لو ممكن أي مشروب فريش.”

ذهب النادل لتحضير الطلبات، واغتنمت سيلا الفرصة لتسأله بوضوح:

“ممكن أعرف أنت تعرفني منين؟”

ابتسم مازن وقال:

“زي ما قلتلك، أنا طبيب نفسي وبشتغل مع هيثم في نفس المركز. بس هقولك شوفتك فين…”

سرح قليلاً، مستعيدًا ما حدث منذ أشهر. قال وهو يعيد الرواية:

“كنت مخلص حالتي ونازل أجيب حاجة من كافيه المركز الطبي، لقيتك داخلة. كنتِ منشغلة بالموبايل، ولما مشيتي، خبطتي كتفي بالغلط.”

قاطعته سيلا، وهي تتذكر:

“آه فعلا، افتكرت! كنت مع مي وسلمت عليك.”

سيلا ضحكت بخفة:

“فرصة سعيدة”

مازن رد بابتسامة واسعة:

“أنا الأسعد. بجد، مبسوط إننا تقابلنا. بس عندي سؤال: ليه قلقتي كده لما سألت عن مي أو هيثم؟ ليه محدش يعرف مكانك؟”

بدت سيلا مترددة، لكنه قاطعها:

مش قصدي أتدخل، لكن أوقات الإنسان بيحتاج يفضفض مع حد ما يعرفوش. لو حبيتي تتكلمي، أنا موجود كصديق قبل ما أكون طبيب.

سيلا ردت بابتسامة خفيفة:

“مش المفروض تكون في المركز دلوقتي؟”

ضحك مازن وفهم ما تقصده، فأجاب:

“كنت في مؤتمر واتلغى، فقررت أفصل شوية. لكن لو لقيت حالة تستاهل، بشتغل عليها. خصوصًا لو الحالة قدامي وعينيها مليانة حزن زي حالتك.”

سيلا تظاهرت بالضحك وقالت:

أوعدك، لو احتجت أتكلم، هقولك. لكن بشرط: ما حدش يعرف مكاني.

مازن أخرج بطاقة وضعها أمامها وقال:

“اتفقنا. ده كارت فيه أرقامي. هستنى مكالمتك.”

أخذت سيلا البطاقة وابتسمت له بخجل، ثم نهضت قائلة:

“استأذن أنا.”

نهض مازن بدوره ومد يده لمصافحتها، وهو يقول:

“فرصة سعيدة.”

لكن قبل أن تتمكن من مد يدها، ظهر يد أخرى فجأة ومد يده بدلاً منها، يصافح مازن بقبضة قوية وصوت أجش:

“وأنا مش أسعد.”

تجمدت سيلا في مكانها، مصدومة من وجوده. لم تستطع منع نفسها من الهمس:

“عاصم؟!”

يتبع

الرابع وانصهرالجليد بقلم شروق مصطفى

تجمّدت سيلا في مكانها، مصدومة برؤيته أمامها. همست بذهول، بالكاد تسمع نفسها:

“عاصم؟!”

لم يمنحها فرصة للتفكير، أمسك بذراعها بقوة، وصدر منه أمر حازم:

“يلا بينا من هنا.”

تدخّل مازن بحدة، محاولًا فهم الموقف:

“حضرتك مين؟”

نظر إليه عاصم بتحدٍّ، ثم صوب عينيه إليها بلهجة حادة:

“مراتي… فيه حاجة؟”

وقبل أن يتلقى ردًا، جذبها بقوة، وسحبها خلفه خارج الكافيه.

نظر مازن إليهما باندهاش، ثم نادى النادل ليطلب الحساب، وغادر دون أي تعليق إضافي.

كانت سيلا تتلوى في قبضة عاصم، تحاول الإفلات منه وهي تصرخ:

“إيدي! سيب إيدي! بتوجعني يا عاصم! في إيه؟!”

حاولت التحرر من قبضته بلا جدوى. فجأة توقّف عاصم بنفاد صبر، ثم حملها كأنها قطعة أثاث خفيفة، ورفعها على كتفه بأسلوب عفوي. 

صرخت سيلا بغضب وحرج:

“نزّلني! الناس بتتفرج عليا يا مجنووون!”

بقلم شروق مصطفى

ورغم محاولاتها الركل بقدميها، ظل يمضي بها حتى وصل إلى الشاليه الخاص به. هناك، أنزلها وأغلق الباب بقوة، ما جعلها تنتفض من الخوف.

تراجعت سيلا للخلف وهي تنظر إليه برعب واضح. أما هو، فكانت عيناه تحملان الغضب والتوعّد، يتقدّم نحوها بخطوات بطيئة لكنها واثقة، وكأنها تحذير.

صرخ بصوت غاضب، موجّهًا حديثه إليها:

سايبة البيت وجاي تتسامري هنا؟ وسايبة أختك هتموت من القهر عليكي؟! ها؟!

ارتعدت سيلا عند كلماته الأخيرة، وتراجعت حتى التصقت بالحائط. كان وجهها شاحبًا، ونظراتها متردّدة ومليئة بالخوف. حاولت التبرير بصوت متقطع ومرتعش:

“لا… لا… انت فاهم غلط! والله… أنا… أنا كنت… ده أول مرة أشوفه أصلًا! أنا ما… ما…”

اقترب منها عاصم أكثر، وضرب بكفه على الحائط بجانبها بعنف، محاصرًا إياها بين ذراعيه. أغمضت عينيها بشدة، وغطّت وجهها بكفيها، تردد بصوت مكسور:

“ما تضربنيش! والله معرفوش! بقا.

شهقت وهي تواصل الدفاع عن نفسها بخوف واضح:

هو شافني مرة في مركز أخو مي… بس! والله معرفوش!

توقّف عاصم فجأة، متفاجئًا من حالتها. لم يعتد رؤيتها بهذا الضعف والخوف. كانت تلك اللحظة صادمة له، إذ إنه لم يستطع احتمال رؤيتها تخشاه إلى هذا الحد. بدت أمامه كأنها طفلة صغيرة مرعوبة.

اقترب منها بهدوء، جذبها إلى صدره، وبدأ يربّت على شعرها بلطف. همس في أذنها:

هشش… اهدى. متخافيش… مش هاجي جنبك. اهدي.

شعرت سيلا ببعض الطمأنينة، لكنها همست له وهي ما زالت متردّدة:

“يعني مش هتضربني؟ إيدك كانت تقيلة أوي المرة اللي فاتت!”

ابتسم عاصم بألم عندما تذكّر تلك الحادثة:

“عمري ما هأمد إيدي عليكي تاني. انتي روحي. صدقيني، مكنتش أنا وقتها… كان شخص معرفوش. انتي حياتي. بس بلاش تعاندي، بلاش تكسري قلبي وتخذليني تاني. أنا محتاجك… أكتر من أي حد.

وانصهر الجليد بقلم شروق مصطفى

أبعدت سيلا نفسها عن احتضانه بخفة، ونظرت إليه بألم شديد وقالت بصوت مليء بالكسرة:

“عشان كده لازم نبعد. مش حابة حد يتعلق بيا أكتر من كده. عاوزة أعيش لوحدي آخر أيامي. أنت مش ليا… ومش هقدر أكون لحد. روح… ابدأ حياة جديدة مع الشخص المناسب، وانساني.

خطت خطوات بطيئة نحو الباب، وقبل أن تغادر، استدارت نحوه وقالت برجاء:

ياريت محدش يعرف مكاني. لو حصل، المرة الجاية مش هتعرف توصلني أبدًا.

غادرت وأغلقت الباب خلفها، متّجهة إلى الشاليه الخاص بها. هناك وجدت مازن ينتظرها، فاقتربت منه وقالت:

آسفة جدًا على اللي حصل.

رد مازن بهدوء:

مفيش داعي للاعتذار. أنا عند وعدي. لو حبيتي تتكلمي، أنا موجود. ولو عايزة تيجي المركز، أنا هنا ليومين كمان وبعدها همشي.

هزّت رأسها بتفكير، ثم قالت:

هفكر… شكرًا. عن إذنك.

دخلت الشاليه وأغلقت الباب خلفها. تقدّمت نحو السرير، ألقت نفسها عليه، وظلت تحدّق في الفراغ حتى استسلمت للنوم.

عندما أغلقت سيلا الباب خلفها، ظل عاصم واقفًا في مكانه للحظات، غير مستوعب أنها تركته مجددًا. صوت الباب وهو يُغلق كان بمثابة صفعة على وجهه، أعادته إلى الواقع القاسي. ضرب بيده بعنف على الحائط بجواره، صرخ بصوت غاضب ومخنوق:

“غبية… غبية!”

شعر بالنار تشتعل في داخله، مزيج من الغضب والقهر والحيرة. لم يكن قادرًا على تهدئة عواصف مشاعره، فتوجّه إلى الحمام وأدار الماء البارد ليحاول إطفاء تلك النيران المستعرة داخله. بينما الماء يتدفّق عليه، همس لنفسه بغيظ

“مُصرة على اللي في دماغها… بس سهلة! هكسّر دماغك دي بإيدي.”

أنهى استحمامه بعد أن هدأت أعصابه نسبيًا، وارتدى ثيابه بسرعة. ثم جلس على مكتبه وفتح الحاسوب أمامه يتابعها، وأسند رأسه إلى ظهر الكرسي، متعبًا من التفكير. وبينما كانت عينيه تتثاقل من شدة الإرهاق، تسلل النوم إليه ببطء. ولكن حتى في نومه، لم يكن هناك مفر. ظلت صورتها تلاحقه في أحلامه، كأنها باتت جزءًا من كيانه لا يستطيع الفكاك منه… 

اقتربت همسة من وليد بخجل وقالت:

“وليد، مي كلمتني وعايزاني أروح أقعد معاها شوية. ممكن؟

ابتسم وليد وقال:

ماشي، بس أنا هوصلك وأنا رايح الشركة. اقعدي معاها براحتك، ولما أرجع هكلمك عشان نرجع سوا.

اقتربت همسة منه وقبلته على وجنته بخفة وهي تهمس:

ما تحرمش منك أبدًا. هروح ألبس بسرعة.

أسرعت بالجري مبتعدة عنه، بينما وليد نظر خلفها متفاجئًا من فعلتها وقال بصوت عالٍ:

إيه ده؟ تعالي هنا يا بنت!

لكنه ضحك بصوت مرتفع عندما رآها تختفي، ثم جلس ليكمل فطوره. وبينما يلتقط مفاتيحه وهاتفه، نادى عليها:

يلا يا همسة، أنا خلصت.

ردت عليه من الداخل:

ثواني بس، ألبس الطرحة وجاية!

تمتم وليد بخفوت:

“آه منكم أنتم والثواني دي، بتبقى ساعات.”

رفع صوته متظاهرًا بالمغادرة:

“أنا همشي خلي بالك!”

خرجت همسة من غرفتها وهي تتأفف:

“استنى بس! ألبس الطرحة والشوز!”

أجابها وليد مازحًا:

“هستنى حاضر، كله بحسابه! كده كده، انتي قولتي ثواني وأنا عندي الثانية ب بوسة. قعدي براحتك بقى وأنا باصص على الساعة أهو!”

نظر إلى ساعته وقال:

“عدت أربع ثواني، خمسة، سبعة، عشرة!”

قهقهت همسة وهي تلكزه بكوعها:

“إيه ده؟ حيلك! حيلك! لسه ملبستش، اصبر.”

وليد رد بابتسامة:

“بتضحكي؟ بقوا عشر ثواني فاتوا، براحتك. مش هننزل إلا ما تدفعيهم كلهم!”

نظرت له همسة ببلاهه ولم تعلّق، ثم أسرعت لتعديل حجابها ولبس حذائها. توجهت إليه أخيرًا وقالت:

يلا أنا خلصت.

نظر إليها وليد بمكر وقال:

“عندك تأخير عشرين ثانية!”

ثم أشار إلى وجنته اليمنى وقال بابتسامة:

“عشرة هنا… والخد ده عشرة. يلا بقى، ولو اتأخرتي هيزيدوا كمان. أنا بقول آخد إجازة أحسن عشان نقعد براحتنا.”

ألقى مفاتيحه بإهمال وهو يضيف:

“يلا بقى، نقعد براحتنا!”

همسة جذبت مفاتيحه وهي تقول:

“لا لا، هات! هات!”

ثم اقتربت منه وأخذت تقبله سريعًا على وجنتيه حتى أكملت العشرة.

ابتسم وليد وقال:

“إيه الكروتة دي؟ لا مش عاجباني، عيديهم من تاني بس بذمة!”

ثم أضاف بمكر:

“ولا أقولك، بلاش ننزل! أنا آخد إجازة وبلاش تنزلي، وأنا رايح أغير هدومي.”

تمسكت همسة بقميصه تمنعه وقالت:

“لا لا لا! هتأخر كده بقى، استنى طيب.”

أعادت تقبيله مرة أخرى على وجنتيه، ببطء هذه المرة.

ابتسم وليد وقال:

نص نص… أنا بقول…

قاطعت حديثه بوضع يدها على شفتيه وقالت:

والله ما قايل حاجة، يلا بينا!

قهقه وليد وقال:

عشان خاطرك بس! يلا بينا، ونكمل لما نرجع، الموضوع ده أصله عجبني قوي.

في طريقه إلى الشركة، أوصل وليد همسة إلى منزل صديقتها مي. قبل أن تنزل، قال لها بابتسامة:

وأنا خارج من الشركة هكلمك، ماشي؟ وبلاش تنموا كتير.

قهقهت همسة وهي تفتح باب السيارة:

حاضر.

انطلق وليد إلى الشركة، وتوجه مباشرة إلى مكتب معتز. دخل وجلس بإهمال على الكرسي أمامه، ونظر إليه قائلًا:

“برده قافل تليفونه؟”

زفر معتز أنفاسه بضيق وقال:

“لسه. الظابط كل ما أكلمه يقول جاري البحث، ومش عارف إيه. مش عارف هلاقيها منين ولا منين.”

نظر إليه وليد بحدة وسأل:

“خير؟ في إيه تاني أكتر من كده؟”

تنهد معتز وقال بتهكم:

“عادي يا عم، مش عايز أدوشك. سيبك مني، قولي أنت عامل إيه؟”

ابتسم وليد بمرارة وقال:

الحمد لله، بحاول أطمّنها، لكن في عيونها لسه حزينة. 

في منزل مي عندما فتحت مي الباب لهمسة، قالت بحدّة وهي تعانقها:

“يا جزمة، يعني لازم أكلمك مية مرة عشان تيجي!

ردت همسة بابتسامة مُعتذرة:

والله وليد كان قاعد كل ده ما نزلش، وأول ما نزل قولتله وأجي عندك على طول.

قالت مي:

“طيب تعالي ندخل أوضتي.”

جذبتها من يدها، وجلستا على الفراش. تنهدت مي بحرارة وقالت:

“مفيش جديد برده.”

هزّت همسة رأسها بألم وقالت:

للأسف لا. أنا زعلانة منها أوي، وزعلانة من عاصم كمان. تخيلي تخلى عنها، وأنا كنت فاكراه هيلاقيها أول واحد!

حاولت مي التهوين عليها برغم حزنها وقالت:

“بكرة تظهر، هتفضل مختفية لحد إمتى؟ بس أنا حاسة إن غياب عاصم فجأة كده وراه سر.”

بينما تتحدثان، دخلت والدة مي، نبيلة، وقالت بحزن:

“إزيك يا بنتي؟ عاملة إيه؟”

ردت همسة:

“الحمد لله يا طنط.”

تنهدت نبيلة وقالت:

“قلبي واكلني على سيلا أوي. حلمت لها حلم وقمت قلبي مقبوض. يا ريت تلاقوها بسرعة، لحسن كده خطر على حياتها، ولازم تعمل العملية. هو في كده يا ربي! البنت هتروح مننا.”

شهقت مي وكتمت فمها بيدها ونظرت لهمسة بصدمة من ردة فعلها، بينما نبيلة لم تلاحظ ما فعلته.

تقدمت همسة نحو نبيلة بصدمة وقالت:

“حضرتك قولتي إيه يا طنط؟ عملية إيه اللي سيلا تعملها؟ مش فاهمة حاجة!”

ظلت نبيلة تنظر لها بتشتت، بينما مي بدأت بالبكاء بانهيار.

قالت همسة بتوسّل:

“حد يفهمني مالها أختي؟ عملية إيه وحياتها تروح إزاي؟”

امتلأت عيناها بالدموع، واحتضنتها مي وهي تبكي.

قالت نبيلة بحزن:

“يقطعني يا بنتي.”

نظرت مي لوالدتها بعتاب، فقالت الأخيرة بقلة حيلة:

“ما هو لازم كانت تعرف يا بنتي. لله الأمر من قبل ومن بعد.”

ابتعدت همسة عن مي، تمسح دموعها وقالت:

“احكيلي يا مي كل حاجة، أرجوكي!”

قالت نبيلة وهي تغادر المكان:

“هروح أعملكوا ليمون.”

التقطت مي أنفاسها وقالت لهمسة:

“أوعديني الأول إنك تتماسكي.”

وضعت همسة يدها على قلبها وقالت بصعوبة:

“حاضر… بس احكي.”

بدأت مي تروي قصة مرض سيلا، وكيف أجّلت العلاج لحين انتهاء خطبتها، ثم مرحلة العلاج ورفضها القاطع لتكملة العلاج، وتقديم زواجها واستسلامها للمرض بعد وفاة والديها.

شهقت همسة بصوت عالٍ وانهارت بالبكاء، وقالت:

“يعني كنا في بيت واحد ومحستش بألمها! بدأت العلاج ومكنتش معاها، وجت على نفسها عشان تفرحني؟ معقول عملت كل ده عشاني؟ وأنا اللي طلعت أنانية أوي وجيت عليها؟!”

حاولت مي تهدئتها:

“اهدي يا حبيبتي، والله هي بتحبك، وعمرها ما اتكلمت عليكِ كلمة واحدة.”

ردت همسة وسط دموعها:

“بس أنا جيت عليها أوي، ومكنتش بكلمها وقتها. كنت بلاقاها نايمة أغلب الوقت، ومقدرتش أفهم إنها تعبانة.”

صوت رنين هاتفها قطع حديثهما. أجابت همسة بصوت حاولت إخراجه طبيعيًا ولكنه أظهر بكاءها:

ألو؟

وليد بلهفة:

همسة! صوتك ماله؟ فيكي إيه؟

ردت همسة:

مفيش… جاي إمتى؟

قال وليد بقلق:

خمس دقايق، انزلي. متأكدة مفيش حاجة؟

ردت همسة بصوت متردد:

آه، مفيش… أنا هقفل يلا. مع السلامة.

بعد ذهابها، هاتفت مي معتز.

معتز باشتياق: وحشتيني أوي.

مي ببعض الخجل، مغيرة الحديث: ماشي، وانت عامل إيه؟

معتز بتفاجؤ: إيه الفصلان ده؟ بقولك وحشتيني، ده ردك؟

مي بحزن مما فيها من اكتشاف لهمسة حقيقة مرض أختها وانهيارها تحدثت: والله يا معتز مش رايقة خالص، بجد اعذرني.

معتز بنفاد صبر، معها كلما يعبر عن حبه واشتياقه لها ببعض الكلمات منتظر إظهار حبها أيضًا تصده دائمًا وتغير مجرى الكلام لآخر: وهو أنا كل ما أكلمك تقولي مش رايقة؟ أصل ماما، أصل مش عارف إيه! هو أنا بشحت منك الكلام؟ وسيادتك مش رايقة ليه المرة دي بقى؟

مي بغضب: انت دايمًا مندفع كده وعصبي، وليه مش مقدر الظرف اللي إحنا فيه كلنا؟

معتز بنفاد صبر: طيب والظرف اللي إحنا فيه ده يمنع خروجنا في إيه برده؟ كل أما أقولك هعدي نخرج، لا أصلي مش هينفع، ومرة أصلي كذا، ومرة كذا. أنا مش عارف أتكلم معاكي! نكد نكد كده على طول.

مي: انت بتزعق ليه دلوقتي؟ آه، مش هينفع نخرج يا معتز لأن أخويا بيكون مشغول، مش هيعرف يجي معانا. عشان كده بقولك تعالى انت البيت، نقعد نتكلم براحتنا وماما تكون قاعدة معانا.

معتز لإنهاء الكلام، ليس بفائدة: طيب اقفلي يا مي، اقفلي دلوقتي. عندي شغل، سلام.

أغلق معها وتأفف منها بضجر: مش عارف جايبة أخوها ومامتها في كل سيرة! أنا هتجوزك ولا هتجوزهم؟

مي نظرت للهاتف بيأس وتنهدت: نفسي بجد تفهمني يا معتز من صوتي، وتحس بوجعي على فراق صديقتي، وتواسيني، ولا حتى تفهمني وتفهم إننا مش ينفع نتقابل لوحدنا. 

تنهدت بيأس وقد قررت قرارًا تأخرت في تنفيذه. ثم خرجت وجلست بجانب والدتها بالخارج أمام شاشة التلفزيون.

نبيلة بتأنيب ضمير: والله يا بنتي ما أقصد أقولها، بس حلمت من كم يوم حلم وحش ليها. قلبي اتقبض.

ردت الأخرى: عادي يا أمي، كده كده لازم تعرف. دي أختها. ماما، بقولك أنا قررت أتحجب.

نبيلة ابتسمت لها بفرحة: الله على الأخبار الحلوة. وده من إمتى ده بقى؟ بركاتك يا سي معتز! ده أنا اتحايلت عليكي أنا وأخوكي.

مي: لا، مش معتز خالص. بس أنا حاسة إن في حاجة نقصاني، والصراحة همسة شجعتني بتكلمني عليه، فحبيته ونويت ألتزم به.

نبيلة تحتضنها: مبروك يا حبيبتي. هيثم هيفرح أوي، وأكيد خطيبك هيفرح كمان.

مي بهمس داخلي، قامت بترديد كلمة خطيبي بتهكم: آه آه طبعًا.

يلا، هقوم أنام. تصبحي على خير. وقبلتها من وجنتيها.

دلفت لغرفتها، ارتمت على الفراش، وسرحت قليلًا: ده حتى ما سألنيش مال صوتك! وقالها بتريقة واستهزاء. طب ده أكلمه إزاي وأخرج له اللي جوايا؟ عصبي دايمًا. هف، شكلي هتعب معاك أوي لحد ما تفهمني وأفهمك ظلت تهمس حتى غفت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لاحظ وليد انتفاخ جفنيها لكنه صبر حتى يصلا.

طوال الطريق كانت صامتة، تحاول التماسك قدر الإمكان، لكنها في داخلها كانت تتمنى لو تستطيع أن تختبئ بين ذراعيه وتشكو له همها.

عندما وصلا إلى الداخل، دلفا سويًا، وما إن أغلق وليد الباب حتى انهارت أسوارها. جذبه نحوها وانهارت في أحضانه، وهي تخرج كل ما كتمته داخلها:

أختي يا وليد بتموت… مريضة… أنا عاجزة إني أساعدها أو حتى أحضنها. أنا عاوزاها جنبي، جيبها لي. محتاجاها معايا. خليها تيجي بقى! وحشتني أوي. مش هقدر أعيش بعيد عنها!

ربت وليد على ظهرها محاولًا تهدئتها.

هشش، أنا مش ساكت. صدقيني أنا متابع، وكل يوم أكلم الضابط وأروح القسم له. بلاش دموع، أنتِ كده بتفتحي باب الشيطان عليكِ. همسة، أنا فاهم إنك مش قادرة تتحملي، بس لازم نصبر. تعالي معايا.

جذبها من يدها وقال بحنان.

نتوضأ ونصلي ركعتين لله، ندعي ربنا يفك كربنا ونستغفره كمان.

بعد انتهائهما من الصلاة، أخذها وأجلسها على الفراش برفق، ثم تمدد بجانبها وبدأ يرتل بعض الآيات القرآنية بصوت هادئ حتى هدأت ونامت. احتضنها برفق حتى غلبه النوم هو الآخر.

مر أسبوع آخر وما زالت حبيسة الشاليه، ترفض الخروج. وهو على وشك الجنون من تصرفاتها. ذهب إليها مرارًا للحديث معها، لكنها رفضت التحدث وامتنعت عن فتح الباب. كان يظل يتحدث معها خلف الباب بصبر، يحاول إقناعها، لكن بلا جدوى، فيمل ويغادر.

وفي إحدى المرات، بينما كان ينظر إلى الحاسوب ويتابع تحركاتها التي بدت عليهما علامات الإرهاق والهزال، تمتم بضيق: 

ليه مصرة تعذبينا كده؟

رن هاتفه فجأة، فأجاب بعد أن نظر للحاسوب مرة أخرى.

نعم، معك عاصم الخولي.

استمع إلى الطرف الآخر بإنصات بلكنته غير مصرية، ثم أجاب.

شكرًا لك، أيها الطبيب. سنكون متواجدين خلال هذا الأسبوع. إلى اللقاء.

بعد انتهاء المكالمة، نهض عاصم وخرج ليتجول قليلًا أمام البحر، يحاول ترتيب أفكار

 ” كان نفسي تكون بقرار منك، واختيارك أنتي، مش مجبرة” 

ثم تنهد بعمق وأكمل”لما نشوف عنادك ده هيوصلنا لفين. اهربي براحتك”

ذهب مازن بعد انتهاء مدة إجازته، كان يود مساعدتها عندما نظر لهيئتها، علم أنها هاربة من شيء ما!

عند سيلا، كثر جلوسه أمام شرفتها، لم تخرج حتى لا تضعف أمامه! تقترب عند الباب، تسمعه وهو يتكلم خلف الباب، ولم تفتح له حتى يملّ ويتركها، وترجع هي لوحدتها كما كانت.

جالسة بشرفة كعادتها يوميًا وقت العصر، أمام البحر، سارحة في اللا شيء، حتى وجدته أمامها! انتفضت، وكادت أن تدخل وتغلق شرفتها.

وقفها بيده: “استني يا سيلا، أنا هخيرك لأخر مرة: تقبلي تتجوزيني!”

وقبل أن تفتح فمها، أكمل بصدق وعزم:

“لو جوابك بـ ‘آه’، والله هكون ليكي السند اللي عمرك ما لقيتيه. هعوضك عن كل حاجة وحشة حصلتلك. بس لو جوابك بـ ‘لأ’…

صمت لوهلة، وكأن الكلمات تخنقه، ثم أكمل بصعوبة:

هفهم إنك مش عايزاني في حياتك، بس برضه مش هسيبك. عمري ما أجبرك تحبيني، بس أنا مش هقدر أتخلى عنك.

صوته كان مليئًا بالرجاء، كأنه يحاول أن يمسك بقشة قبل أن يغرق. سيلا وقفت أمامه، مرتبكة، مشاعرها تتصارع داخلها. رغبت في الارتماء داخل حضنه والبكاء حتى تنهار كل جدرانها، لكنها خافت… خافت أن تكسره أكثر مما فعلت.

سيلا بصوت مكسور ومليء بالتوتر:

أنا آسفة، بجد…

لم تنتظر ردّه، ركضت إلى داخل شقتها وأغلقت الباب خلفها بقوة.

ألقت نفسها على السرير، ودموعها تغرق الوسادة وهي تهمس لنفسها:

معلش يا قلبي… هينسى، أكيد هينسى ويعيش حياته. بس أنا… أنا خلاص تعبت.

رجع خيبة أمله تثقل صدره، وعيناه لا تفارق شاشة الحاسوب حيث يراقبها من بعيد. تمتم لنفسه:

انتي اللي جبرتيني أعمل كده يا سيلا… خلاص، بليل  هنهي ده كله. 

لم يمضِ وقت طويل حتى عاد ليراقبها من بعيد، عيناه تتابع تحركاتها بترقب. كانت خطواتها بطيئة ومترددة، وكل حركة منها كانت تخبره بما تحمله من ألم وصراع داخلي. يسمع همساتها الخافتة وأنينها الذي اخترق صمت المكان، يشق قلبه ويجعله يتألم معها. كانت كلماتها تتناثر في الأرجاء كما لو كانت نداء استغاثة، لكن رغم ذلك، ظلّت صامتة، لا تملك القوة لطلب المساعدة. عينيه لم تفارقها، وعقله لا يستطيع أن يهدأ، كان يمني نفسه بأن تنام، ليتمكن من إنقاذها بطريقته الخاصة.

غفا قليلاً، لكن في لحظة من الصمت والظلام، استفاق فجأة على آنينها.

فتح عينيه بفزع، قلبه ينبض كأنّه في سباق، ونظر سريعًا إلى الشاشة كانت في وضع الجنين، تتلوى من الألم، تحاول الوصول إلى علبة الدواء، كوب الماء سقط من يدها المرتعشة، والزجاج تناثر على الأرض.

رآها تزحف نحو العلبة لتجدها فارغة، فألقتها بعنف على الأرض تلعن غبائها لنسيانها شراء الدواء وهي تبكي بألم:

آه يا ماماااا… انتي فين؟ نفسي تضميني… وبابا يطبطب عليا أنا جايلكم خلاص الوجع صعب.

 كلماتها كانت تتساقط من شفتيها بتمتمات متقطعة. 

“عاصم… الحقني… محتاجاك جنبي، ماتسبنيش…

كان صوتها متقطعًا، وكأن كل كلمة تخرج منها هي صراع مع الألم الذي يعصف بها. كان قلبه يكاد ينفطر من شدة الفزع الذي اجتاحه لسماع تلك الهمسات، وكان يهم بالتحرك نحوها، لكن شيئًا ما منعه.

تجمد مكانه عندما سمع اسمه على لسانها أتتذكره وسط ألامها، همست بابتسامة شاحبة “عاصم”

في لحظة صمت، تنهدت سيلا ثم واصلت حديثها بصوت منخفض، محملةً بكلمات تخرج بصعوبة، لكنها تبرح قلبها بنغمة الألم والفراغ الذي يملؤه الحزن

“وحشني حضنك أوي، رغم أنه بيجي في أوقات صعبة، لكن ليه إحساس غريب قوي معايا كان نفسي أقولك كل شيء جوايا، لكن لساني بيتربط وقتها وبخذلك. 

ثم أضافت، بنبرة حزينة

 ” مكنتش عاوزاك تتعلق بيا محدش بيتعلق بحد منهزم مريض مش هيدي حاجة لحد”

صمتت، وبدت على ملامحها آثار الوجع. أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تواصل حديثها كأن هذا الحديث يخفف ألامها 

“فاكره أول حضن؟ عمري ما نسيته. يوم ما أنقذت حياتي، وقتها جيت في بالي فجأة، أول ما همست بأسمك لقيتك قدامي. روحي ردت لي تاني، يمكن كنت الطوق الوحيد ليا، 

ثم أكملت بصوت متهدج، محاولة احتواء دموعها التي بدأت تتسلل “لكن أول إحساس حسيته وقتها كان غريب، حسيت إني رجعت للحياة تاني.

استمع عاصم إليها، تذكر هذا اللحظة جيدًا، ذلك الحضن الذي أعاده للحياة بعد غيبوبته الطويلة، وعاد ليشعر بالأحاسيس بعد فقدانها لفترة طويلة. 

 تستعيد ذكرياتها بمرارة “ثاني حضن” كان صعب عليا يوم وداعهم قدام عينيا، لقيتك جنبي خدني في حضنك، اتحملت انهياري، محستش غير أن روحي اطمنت داخل حضنك، واستسلمت لك. 

استمع عاصم لها، ولم يصدق حاله بما سمعه ايعقل ان تكُن له بكل هذه المشاعر!.

أخذت نفسًا عميقًا وكأنها تود أن تستجمع قواها، ثم همست

 “ثالث حضن” كان لما فتحت لي قلبك قبل هروبي منك”

ثم أضافت، بصوت مليء بالتشتت والوجع بس أنا مش بهرب منك، أنا بهرب من نفسي. الألم كبير، والوجع وحش قوي، وهتوجع أكتر لو شوفت في عيونكم حزن.

“سامحني لو كسرت قلبك أو خذلتك.  كنت أتمنى دلوقتي أني أستخبى في حضنك وأدفى، أنا حاسة إني بردانة أوي”

أخذت أنفاسها بصعوبة، وعينها تتلألأ بالدموع، لتكمل بصوت ضائع: “حاسة إن الحياة خلصت عندي، شايفاهم حوليا، بينادوني، أجيلهم، وحشوني أوي، بس أنا سقعانة، أوي، أوي.

ثم، بعد لحظات من الصمت، حاولت أن تتحمل ألم كلماتها، لكنها لم تستطع. خرجت منها الكلمات الأخيرة بصوت مكتوم متقطع، ملؤه الوجع والألم تعترف لنفسها

” عاصم بحب… آاه…”

تجمد عاصم في مكانه، قلبه يكاد يخرج من صدره من شدة الخفقان. لم يكن قادرًا على التصديق. استمع إلى أعترافها أخيرا، مازال في صدمة، عاجزًا عن الرد.

ثم، وكأن الكلمات تحطمت في حلقها،

 ظلّت تناجيه بصوت يفيض بالوجع

“عاصم…”

تلك الكلمة حملت معها كل الألم الذي أثقل صدرها، كأنها طعنة نافذة اخترقت قلبها وروحها. ثم خيّم الصمت، صمت ثقيل يشبه صمت الموتى، ذلك الصمت الذي يعلو فوق أصوات الأنين والذكريات.

لم تستطع احتمال قوة الألم الذي اجتاحها كعاصفة، كأنه إعصار يعصف بأحشائها دون رحمة. فجأة، صرخت صرخة مدوية، كانت أشبه بتمزق روحها إلى أشلاء، صرخة ارتجّ لها المكان بأسره.

شعرت بسائل دافئ ينهمر من أنفها، ولم تدرك أنه دمها الذي يعكس عمق جرحها الداخلي. غشاها السواد، سواد كثيف ابتلع كل ما حولها، وسقطت في غياهب اللاوعي، حيث لم تعد تشعر بشيء سوى فراغٍ موحش.

يتبع 

الفصل الخامس وانصهر الجليد بقلم شروق مصطفى

شعرت بسائل دافئ ينهمر من أنفها، ولم تدرك أنه دمها الذي يعكس عمق جرحها الداخلي. غشاها السواد، سواد كثيف ابتلع كل ما حولها، وسقطت في غياهب اللاوعي، حيث لم تعد تشعر بشيء سوى فراغٍ موحش.

اتسعت عيونه فزعًا، وارتعدت أوصاله. لم يشعر بحاله إلا عندما وصل، اندفع بسرعة ودفع الباب بكل قوته باستخدام إحدى أكتافه حتى انفتح الباب على مصراعيه. اندفع نحوها ليجدها غائبة عن الوعي، كما لو كانت خرقة بالية. لم يتحمل رؤيتها هكذا، فاندفع نحوها بهستيريا، لم يعي ما يفعله. جذبها إلى أحضانه، ولم يخطر بباله أن يقدم لها الإسعاف. توقف عقله لحظة، نسي كل ما تعلمه عن الإسعافات الأولية.

“لا، لا، لا! أنتِ هتعيشي! أنا جيت، أنتِ بردانة، صح؟ آه، أنتِ في حضني! اصحي، أنتِ مش بتردي ليه؟ سيلا، ردي عليا عشان خاطري.”

صوته كان مليئًا بالذعر والرجاء. “كده هتسيبوني لوحدي تاني؟ مش بعد ما لاقيتك هتسيبيني! مش هسمحلك تسيبيني فاهمه؟”

كان يبكي لأول مرة بحرقه أمامها، يخاف من ضياعها. ظل يهزها بين يديه، وهي تتحرك معه كأنها خرقة، يصرخ “ما تسبينيش! لا! اصحي، أنتِ هتعيشي فاهمة؟ هتعيشي! افتحي عنيكِ! مش هتسيبيني بعد ما لاقيتك، سيلا!”

عقله توقف عن التفكير فجأة، فاق من غيبوبته ورفعها برفق على السرير، محاولًا تثبيت رأسها إلى الوراء ليتوقف النزيف. تحسس نبضها، فوجد أنه منخفض جدًا. نهض بسرعة واحتار، ثم جذب شعرة برأسه بعنف، وتوجه إلى المطبخ ليحضّر كوبًا من الماء والسكر. حملها بأحدى ذراعيه وناولها القليل من الماء، ثم ظل يمسك برأسها لتمتصّه، وكرر المحاولة مرات حتى تحركت جفونها وأحست بحركة.

فوجئت بوجوده بجانبها، ونطقت بتلعثم: “ع… عاصم! أ… أنت جيت هنا”

أعادت له الحياة مرة أخرى. جذبها بقوة إلى حضنه، يخبئها بين ضلوعه، وهمس في أذنها بنبرة ألم: “ما تسيبينيش! كنت هموت لو حصل لك حاجة. ارجوكِ، ما تبعديش عني. هفضل جنبك وفي حضنك، ومش هسيبك تاني أبدًا.”

أخرجها من حضنه ونظر إليها بنظرات مليئة بالشوق والحب، كأنما يحفظ معالم وجهها. “أوعي تعملي كده تاني، فاهمة؟ أوعي تسيبيني تاني.”

لم تستوعب الكلمات تمامًا، فقط كانت تراقب عينيه باستغراب.

قال عاصم بحزم: “عايزك ترجعي سيلا القوية، مش اللي شايفها دلوقتي، سامعة؟ حتى لو وصلنا لحد أنك تحاربيني من شغلك تاني، فاهمة؟”

نظرت إليه بصدمة، لم تصدق أنه بجانبها الآن، في حضنه. هل هو شعور حقيقي أم حلم ستستفيق منه لتبقى وحيدة كما كانت؟ لكن خفقات قلبها المتسارعة أكدت لها أنه هنا بالفعل. عندما وجدها صامتة، أعاد تكرار كلامه وحركها برفق: “فاهمة؟”

ابتسم لها ابتسامة شاحبة، وهزت رأسها بالإيجاب: “فاهمة… بس مش هتحبسني وتضربني تاني!”

قال عاصم بتأكيد: “عمري ما همد إيدي عليك تاني، تتقطع إيدي لو لمستك تاني…”

قالت سيلا بلهفة، خوفًا عليه: “لا، بعد الشر عليك.”

أمسك يدها وقبلها برفق: “من النهاردة مش هتكوني لوحدك تاني أبدًا. رجلي على رجلك، وعنادك ده ليه تصرف تاني معايا.”

صمتت ولم تعلق. حملها من على الفراش، شهقت سيلا ومدت يديها حول رقبته خوفًا من أن تسقط، فقال لها بابتسامة: “طول ما انتي معايا، مفيش حاجة اسمها لا.”

ابتسمت له سيلا، ودفنت وجهها داخل صدره خجلًا من كلامه، ولكن لم يمر وقت طويل حتى غفت من شدة إرهاقها.

حينما شعر بارتخاء رأسها، نظر إليها بابتسامة رقيقة عندما رآها تنتظم أنفاسها وتغفو. “عادتك، ولا هتشتريها.”

ابتسم ثم خرج برفق، وضعها في السيارة، أغلق الباب، ثم دخل الشاليه وأخذ متعلقاتها وكل حاجياتها، وكذلك الكاميرات التي زرعها هناك، ثم خرج وركب السيارة وانطلق بها بعيدًا.

السابعة مساءً، صوت الهاتف يرن بجانب وليد…

 بنعاس: “الو مين؟”

جاء صوت عاصم من الطرف الآخر: “صحصح يا ض، حد ينام الوقت ده؟ اصحى بدل ما أجي أفوقك بطريقتي.”

وليد بفرك عينيه ونظرة دهشة على وجهه وهو ينظر لشاشة هاتفه: “عاصم؟ أخيرًا يا بني، فينك؟ أقلقتنا عليك!”

عاصم بتنهيدة خفيفة: “خلاص فوقت… طيب اسمع كويس، أنا لاقيت سيلا…”

وليد يقاطعه بفرحة عارمة: “بجد؟ قول والله! لقيتها فين؟”

تململت همسة بجانبه وجلست تستمع.

عاصم تابع: “إحنا في إسكندرية وراجعين الفيلا، قدامنا ساعتين. فوقوا وتعالوا بسرعة، في موضوع مهم، وهمسة لازم تكون موجودة. وكلم معتز، بلغوه إحنا جايين، موبايلي هيطفى.”

وليد: “حاضر حاضر.”

أغلق المكالمة…

همسة بفرحة وهي تصفق: “بجد؟ لاقوها؟ الحمد لله! أنا فرحانة أوي أوي!”

ثم اندفعت تقبله على وجنته من شدة سعادتها.

وليد، وقد تفاجأ بما فعلت، أمسك وجنته: “عيدي تاني اللي عملتيه!”

همسة بمكر وضحكة: “إيه؟ أنا فرحانة أوي!”

بدأت تصفق وتضحك، مقلدة حركتها السابقة.

وليد بغضب مزاح: “ما تلعبيش يا بت! اللي بعدها بقا… اللي خبط هنا.” وأشار إلى وجنته.

همسة باندهاش مصطنع: “أنا؟! لا، لا، معقول!”

ثم قامت بسرعة تغير الموضوع: “السّاعة كام؟ يلا، يلا، اطلع بره عشان ألبس ونروح لهم!”

لكنها توقفت فجأة متذكرة شيئًا: “إحنا هنا رايحين بيتنا ولا عندهم؟ مش مهم، المهم إن عاصم جايبها!”

همت لتبديل ملابسها، لكنه أمسكها لتجلس مجددًا.

همسة بملل: “إيه يا وليد؟ عايزين نلحقهم، ما فيش وقت يدوبك!”

وليد بمكر: “يدوبك إيه؟ مستعجلة ليه كده؟ قدامهم ساعتين لسه، أنتي عايزة تهربي مني ولا إيه؟”

همسة بتمثيل حزن وهي تمط شفتيها: “إنت مش فرحان برجوعها ولا إيه؟”

وليد بابتسامة ماكرة: “أنا أكتر واحد فرحان. بس قوليلي، هتديني إيه حلاوة رجوعها؟”

همسة بتفكير: “أكيد! لازم يكون فيه حلاوة.”

وليد متحمس: “فين بقى؟ أنا مستني على نار.”

همسة بابتسامة ماكرة، تقترب منه وتشير إلى عينيها: “عيوني ليك.”

ثم قامت فجأة وركضت بعيدة عنه وهي تضحك: “هعملك سندوتش حلاوة حالًا!”

أغلقت الباب وتركته غاضبًا من فعلتها. أمسك الوسادة وضرب بها وجهه وهو يقول لنفسه: “أنا اللي جبته لنفسي.”

بعد عدة ساعات…تململت من نومها وهي تشعر بصداع شديد: “آه… دماغي.”

نظرت حولها بارتباك: “أنا فين؟ معقول اللي حصل من شوية كان حقيقي؟ طيب أنا فين؟”

بدأت تشتم رائحة عطرة ووجدت بجانبها عاصم، يراقبها بابتسامة.

عاصم بهدوء: “لا، مكنش حلم… كله كان حقيقي.”

ثم جذبها بحنان إلى حضنه وهي ترتعش، تبكي، وأخذ يربت على ظهرها: “هشش، خلاص… مش لوحدك دلوقتي. أنا معاكي، ومش هسيبك أبدًا.”

حينما هدأت، وضع كفيه على وجنتيها ومسح دموعها. بنظرات مشبعة بالحب، اقترب منها حتى ارتجفت هي خجلًا، لكنه لم يتوقف، وأخذ يبثها مشاعره بقبلاته.

وفجأة… انفتح الباب على مصراعيه، فانتفض الاثنان على الفور.

كان وليد هو من دخل، مبتسمًا: “آسف والله، بس خبطنا كتير،  همسة أسألها.”

نهض عاصم متوترًا، بينما اختبأت سيلا تحت الغطاء خجلًا.

وليد بخجل: “سامحني بس اختها عاوزة تشوفها.”

خرج عاصم مع وليد، الذي لم يستطع كتم ضحكاته. عاصم بنبرة تهديد: “والله لخبطك في الحيطة!”

لكن ابتسامة عاصم لم تفارقه وهو يتذكر لحظاته مع سيلا.

همسة، وقد بدأت عيناها تلمعان بحزن وعتاب:

“بس أنا أقرب حد ليكي، إزاي متقوليش على تعبك وتسيبيني فجأة كده؟ سيلا، إنتي مش عايشة لوحدك، إحنا كلنا جنبك وحواليكي. أولهم أنا وعاصم ومي. يا سيلا، إنتي مش بس أختي، إنتي أمي الثانية. يعني لازم تحاربي وتحاربي كمان وتبقي أقوى من كده. أنا من غيرك أكون يتّمت للمرة الثانية. أرجوكي، اتحمّلي وحاربي المرض ده. إنتي قوية وهتتغلبي عليه.”

سيلا، بابتسامة باهتة:

“حاضر، حبيبتي، هحاول والله.”

همسة، بحب وحنان وهي تربت على رأس شقيقتها:

“وأنا موجودة، لو احتجتي إنك تخرجي اللي جواكي، اشكيلي تعبك وهمّك. إحنا مالناش غير بعض دلوقتي. وعاصم بيحبك أوي، متخسروهش بجد.”

سيلا شعرت بالندم الشديد عندما أدركت مدى أنانيتها، وأنها فكرت فقط في نفسها وكانت على وشك أن تترك أختها وحيدة للمرة الثانية. جذبت همسة إلى حضنها وبكتا سوياً:

“آسفة… آسفة. حقك عليا. مش هسيبك تاني أبداً. أوعدك.”

قطعت هذه اللحظة دلوف مي، التي سعدت كثيراً برؤية سيلا ولم تصدق معتز حين هاتفها وأخبرها بوجودها في المنزل الآن. دخلت مي، ومعها أخوها الذي انتظر في المكتب مع الآخرين.

دلفت مي إلى الغرفة، قفزت على السرير بجانبهم، ونامت وسطهما، وهي تضحك وتمزح:

“وحشتيني أوي أوي يا مضروبة! مش كنتِ خديني معاكي أتفسح بدل التدبيسة اللي اتدبستها مع سي معتز الخنيق ده!”

همسة، رافعة حاجبها:

“تدبيسة؟ طيب والله لأقوله.”

مي، بنبرة متعالية وابتسامة واثقة:

“عادي قولي له، ولا يهمني!”

سيلا، بسعادة وهي تنظر إلى مي:

“مي، مبروك الحجاب! شكله جميل أوي عليكي بجد.”

مي، بابتسامة سعادة داخلية:

“بجد؟ البركة في همسة، ربنا يباركلها يا رب. ساعدتني. عقبالك يا حبيبتي.”

قبل أن ترد سيلا، سُمع صوت طرق الباب، تلاه صوت عاصم يستأذن بالدخول.

“ممكن ندخل؟”

ردت مي وهمسة وسيلا في نفس اللحظة:

“آه، اتفضلوا.”

دخل عاصم ومعه وليد وهيثم ومعتز. ثم بدأ عاصم الحديث:

“أحم، أنا جمعتكم كلّكم هنا النهارده عشان أبلغكم حاجة مهمة بلا استثناء حد.”

كانت نظراته تتحدى سيلا مباشرة، بعينيه قرار صارم لا يقبل الرفض أو المناقشة:

“كتب كتابي على سيلا بُكره، وكتب كتاب مي على معتز كمان. ووليد وهمسة نعتبرهم في حكم المخطوبين، وفرحنا كلنا لما نرجع أنا وسيلا من السفر. هسافر بُكره أنا وهي بعد كتب الكتاب على طول.”

همسة، بسعادة غامرة:

“الله! أحلى خبر بجد! مبروك ليكم كلكم!”

أما وليد، فرفع يده وهو يهزها باستهزاء:

“أنا مش عارف ضمتني ليه، أنا مالي ومالكم؟ أنا راجل اتجوز خلاص!”

ثم أضاف بنبرة ساخرة وهو ينظر إلى همسة:

“فرحانة على إيه ياختي؟”

بدأ وليد بالتمثيل وكأنه يبكي:

“آه يا عيني عليا وعلى بختي المايل! ملحقتش أدخل دنيا، هيدخلوني في خطوبة تاني. مكانش يومك يا وليد!”

وكزه عاصم بكوعه وهمس له بجانب أذنه:

“عشان تخبط قبل ما تدخل زي بقية الناس بعد كده. واسكت بقى فضحتنا. ما إحنا سايبينك ثلاث أسابيع يا حيلتها، جاي تولول دلوقتي ليه؟”

رد وليد بنفس الهمس:

“هتقر ولا إيه؟ ولا تنتقم مني؟ مانا خبط يا رزل.”

ثم رفع صوته فجأة:

“لا! أنا برة اللعبة يا عم. مليش فيه.”

ثم نظر لمعتز وغمز له:

“فرحان انت طبعاً؟ جات لك على طبطاب، ولا كنت بتحلم؟ جات معاك حلاوة!”

معتز، بحنق:

“هتقر بقى؟ أبعد يا عم عنّا.”

أما مي وسيلا، فلم تستوعبا الأمر، إذ نظرتا لبعضهما بدهشة، وفغر فاهما إلى أقصاه، وفجأة…

يتبع

تكملة الرواية من هنااااااااا

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *