رواية وأنصهر الجليد( الجزء الثانى)الفصل الحادي عشر والثاني عشر بقلم شروق مصطفى حصريه
رواية وأنصهر الجليد( الجزء الثانى)الفصل الحادي عشر والثاني عشر بقلم شروق مصطفى حصريه
الفصل الحادي عشر وانصهر الجليد
ابتعد عنها رغمًا عنه، فأخذتها الممرضة لتجلسها على الكرسي المتحرك استعدادًا للتوجه إلى غرفة العمليات بعد تجهيزها. لكن قبل أن تغادر، التفتت إليه بعينيها الممتلئتين بالدموع، ونطقت بكلماتها الأخيرة بصوت مرتعش:
– عاصم، اسمعني… لو مطلعتش، كمل حياتك وما تبكيش عليّ… أنا بحبك، بحبك أوي، وبحبكم كلكم.
خرجت الكلمات منها وكأنها تودّع الحياة، فيما دفعها الكرسي إلى الداخل وأُغلق الباب خلفها، تاركًا عاصم في مواجهة فراغٍ خانق.
عودة من باك.
وضع يده على قلبه الذي يخفق بقوة، وتمتم بألم:
– أنا قلبي مقبوض… في حاجة بتحصل جوا… مش قادر أقف بجد.
اقترب منه وليد وربّت على كتفه محاولًا تهدئته:
– اهدى يا عاصم… تعالَ اجلس، شكلك هتقع مننا خلاص.
في ركن آخر، كانت همسة واقفة تناجي ربها، تدعو بنجاة شقيقتها، أن تعود إليهم سالمة، لتعيش حياتها التي لم تبدأ بعد.
وأخيرًا، فُتح الباب… خرج الطبيب مرهقًا، يتبعه طاقم التمريض بوجوه متجهمة، وكأنهم يحملون معه خبرًا لا يودّون قوله. مسح الطبيب حبيبات العرق عن جبينه، وخلع قفازاته الثقيلة، بينما حدّق عاصم في ملامحه محاولًا تكذيب ما يراه. رفض أن يصدق لغة عينيه، رفض أن يستسلم لشعور غامض بالكارثة القادمة.
اندفع إلى الداخل كالمجنون، لم يستطع أحد منعه، كان أقوى منهم جميعًا… وحينما دلف إلى الغرفة، توقفت الدنيا من حوله. تجمدت أنفاسه، وغامت الرؤية أمامه… هناك، على السرير، كانت هي، جسدها مسجّى تحت الغطاء الأبيض!.
لم يصدق أن الحلم انتهى بهذه السرعة. لم يستوعب عقله أنها رحلت. لم يبكِ فقط كما أمرته، بل شعر برغبة في الصراخ بأعلى صوته، لكنه حتى الصراخ لم يخرج.
في الخارج… همسة، التي كانت تنتظر، انهارت مغشيًا عليها فور سماعها كلمات الطبيب:
– جسدها لم يتحمل العملية… قلبها استسلم، لم يساعدنا، توقف تمامًا رغم محاولات الإنعاش بالصدمات الكهربائية… النبض لم يعد بعد.
وقف وليد عاجزًا، ثم نظر إلى معتز بجانبه، فوجده مصدومًا هو الآخر. وكزه بكتفه ليوقظه من شروده:
– معتز! فوق! خلي بالك من عاصم، وأنا هطمن على همسة.
فاق الأخير من ذهوله، وأومأ برأسه سريعًا:
– حاضر… حاضر.
اتجه معتز إلى النافذة المطلة على الغرفة، حيث كانت ستائرها قد فُتحت بعد انتهاء العملية. وقعت عيناه على جسدها المسجّى، والغطاء الأبيض الذي يلفها. بجانبها، كان عاصم، ممددًا جوارها، وقد أزال الغطاء واحتضنها كما فعل قبل دخولها غرفة العمليات، وكأن بينهما عهدًا لا ينتهي بالموت.
ثم فجأة… حدث شيء لم يكن في الحسبان…
…
وقفت الكلمات في حلقه، وتضاربت الأفكار في عقله… أهذا حلم أم حقيقة؟ هل أصابه الوهم، وصار يتخيل ما لا يُصدق، أم أن الواقع أمامه واضح كالشمس، قاسٍ لا مجال لإنكاره؟!
ابتلع ريقه بصعوبة، وخطى نحوها خطوة بعد خطوة، حتى بات الألم ينحر روحه مع كل اقتراب. انخفض إلى مستواها، مدّ يده المرتجفة نحو وجهها البارد، وكأنه يأمل أن يوقظها لمرة أخيرة، لكنه لم يلبث أن اصطدم بالحقيقة المرة… هذه هي آخر مرة يراها فيها!
بصوت مرتجف، كأنه يخشى أن يزعج سكونها، ناداها:
– أنا بحلم… أكيد بحلم، صح؟! سيلا، انتي بس بتختبري غلاوتك عندي، صح؟ طيب، انتي عارفة أنا بحبك قد إيه؟! أرجوكي… كفاية كده، فوقيني من الكابوس ده، صحيني…
صمت قليلًا، خنقته غصة مريرة اجتاحت حلقه، ومعها انهمرت دموعه كشلالات لا تنضب. هزّ رأسه بيأس، كأنه يحاول تصديق الوهم، ثم تمتم بصوت مخنوق:
– سيلا… انتي نفسك في حضني، صح؟ أنا حاسس بيكي… أنا جنبك، مش هسيبك لوحدك، ولا هبعد عنك أبدًا، وهفضل أمانك وسندك، زي ما وعدتك… تعالي يا حبيبتي…
اقترب منها أكثر، احتضن وجهها بكفيه المرتجفتين، نظر في عينيها المغلقتين كأنه ينتظر منها ردًا، ثم جلس بجوارها، وسحب جسدها بين ذراعيه، دافنًا رأسها داخل ضلوعه، متشبثًا بها وكأنها ستضيع منه أكثر مما ضاعت.
أخذ يشتم رائحتها العالقة بأنفاسه، تلك الرائحة التي كانت دومًا تمنحه دفئًا وأمانًا لا مثيل لهما. أغمض عينيه، تلاحقت الذكريات داخله، ضربت عقله في موجات مؤلمة… ابتسامتها التي كانت تضيء ظلامه، بريق عينيها حين تصمت لكنها تقول كل شيء، لمساتها الحانية، همساتها باسمه، ونطقها لأحضانه وكأنه ملاذها الوحيد.
بكى وانتحب… روحه فارقت جسده كما فارقته هي، أخرج من أعماقه آهاتٍ عالية، آهاتٍ ممزقة، كأنما يحاول إخراج روحه من بين ضلوعه لتلحق بها…
ولم ينتبه إلى…
باب الغرفة الذي فُتح بهدوء، ودخول الطبيب برفقة أحد الممرضين، كانت نظراتهما تحمل شيئًا لم يلحظه في خضم ألمه… شيء لم يكن يتوقعه أبدًا!
قيل سابقًا إن القُبلة أعادت الأميرة للحياة، ولكن لا أحد تذكر دفء الأحضان عندما تلامس جسدًا فاقدًا للحياة…
كأن الكون توقف للحظات، كأن الزمن عاد للوراء ليرسم مصيرًا جديدًا… تتذكرون الرضيع الذي وُلد ميتًا من رحم أمه، وحين لامس صدرها للمرة الأخيرة، عاد للحياة من جديد؟!
هرول الأطباء وطاقم التمريض بأصواتهم العالية، يسابقون الزمن لفصل عاصم عنها، محاولين إنقاذها، إذ دوّى صوت جهاز القلب فجأة، معلنًا بقوة عن عودة نبضاتها للحياة مرة أخرى!
ثبتت أنظاره على الجهاز في ذهول، يرى أمامه معجزة لم يكن يتخيلها. لمعت عيناه بدموع امتزجت بالدهشة والفرحة، بينما شفتاه تبتسمان بجنون، وكأنه فقد عقله.
لحظات… مجرد ثوانٍ، تغيّر فيها كل شيء، تبدّل فيها القدر.
بصعوبة بالغة، استطاع الأطباء إخراجه من الغرفة، ليفسحوا المجال للفحص واستكمال العمل.
خرج إلى الممر، تائهًا، ضائعًا، لا يعرف كيف يتعامل مع مشاعره المتضاربة، يبتسم تارة، ويبكي تارة أخرى كالمختل، حتى خانته قدماه وسقط أرضًا مغشيًا عليه… لولا أن تلقّفه معتز في اللحظة الأخيرة، قبل أن يرتطم جسده بالأرض.
—
على الجانب الآخر…
نظر وليد إلى همسة، التي كانت الدموع متحجرة في عينيها، منتفخة من أثر البكاء. لا يعلم هل يشفق عليها أم على انهيار عاصم؟
جلس بجوارها، أحاطها بذراعه، محاولًا تهدئتها، ثم همس بصوت دافئ:
– اهدئي… عشان خاطري، وخاطر ابننا أو بنتنا اللي جاي قريب.
ارتجفت أناملها، ووضعت يدها تلقائيًا على بطنها، تتحسسها، كأنها تحاول استيعاب ما سمعت، مشاعر الأمومة تنبض داخلها، لكنها سرعان ما تذكرت كلمات الطبيب عن استسلام أختها للموت، فتهاوت دموعها من جديد.
رفعت نظرها إليه بعينين مترقرقتين، تسأله بصوت مبحوح:
– أنا… أنا حامل بجد؟!
رغم حزنه العميق، ظهرت ابتسامة خفيفة على شفتي وليد، وأومأ برأسه مؤكدًا:
– آه والله، هتبقي أجمل أم قريب… الدكتور قالي إنك حامل في أربع أسابيع، ولازم راحة، وبلاش زعل الفتره دي عشان الحمل يثبت و…
توقف عن الكلام عندما رآها تبكي بصمت، لم يحتمل ضعفها، فسحبها إلى أحضانه، يربت على رأسها بحنان، هامسًا:
– هششش… أنا جنبك، ومعاكي… هي في مكان أحسن دلوقتي، ادعيلها.
لكن كلماته لم تهدئها، بل زادتها ألمًا ووجعًا، أخذت شهقاتها تتزايد حتى تحوّلت إلى نحيب هستيري:
– لأ… مش مصدقة! أنا حاسة بيها، والله حاسة إنها عايشة! لا يمكن تسيبني لوحدي كده! ماليش غيرها بعد ماما وبابا… لااا!
علت أنفاسها، صدرها يرتفع ويهبط بجنون، فارتبك وليد، وضرب الجرس أعلى الفراش بسرعة، فدلفت الممرضة على الفور، قامت بحقنها بمهدئ حتى هدأت، وارتخى جسدها أخيرًا.
اعتدل في جلسته، وطبع قبلة على جبينها، دثرها جيدًا، ثم نهض ونظر إليها بحزن، لم يحتمل رؤيتها بهذه الحالة، فخرج ليستعلم عن ابن عمه.
#شروق_مصطفى
بحث عن عاصم حتى علم بالغرفة التي نُقل إليها، وحين دخل، وجده نائمًا بإرهاق شديد، كأنما خرج للتو من معركة طاحنة. كان معتز جالسًا بجواره، وعندما رأى وليد، أشار له بيده للخروج بهدوء حتى لا يزعج عاصم.
استجاب وليد، وخرجا سويًا، وما إن أغلقا الباب، حتى تحدث بقلق:
– عامل إيه؟ طمني… إيه اللي حصل؟
لكن بدلًا من الرد، بدأ معتز يبتسم تلقائيًا، مما أثار استغراب وليد، إلا أنه فضل الصمت حتى يسمع تفسيره.
أجاب معتز أخيرًا، بابتسامة امتدت إلى عينيه:
– الحمد لله… سيلا فاقت، واستجابت للأطباء، والدكتور قال يومين وترجع أوضتها.
ظهرت علامات الارتياح على وجه وليد، وحمد الله بصوت خافت:
– الحمد لله… يا رب لك الحمد.
ثم صمت قليلًا، كأن شيئًا تذكره فجأة، فسأل بترقب:
– طيب… وعاصم؟ عرف إنها عايشة، ولا لسه؟
هزّ معتز رأسه مؤكدًا، ثم بدأ يروي ما حدث داخل غرفة الإنعاش:
– آه، عرف… لكن انهار، مقدرش يتحمل… اضطروا يدوّه مهدئ، ومفروض يفوق كمان شوية.
ثم ابتسم تلقائيًا عندما تذكر لحظة رؤيته لهما من خلف النافذة، وقال بشرود:
– أول مرة أشوف عاصم بالحالة دي… تحس إنهم توأم بجد، بيكملوا بعض، كأنهم روح واحدة… ربنا يكمل طريقهم على خير.
ابتسم وليد بخفة، ثم أراد أن يوقظه من شروده، فقال:
– عاصم مشي ورا حلمه، وحققه في الآخر… آه، تعب كتير، لكنه وصل، الحمد لله. معملش زي ناس أول ما واجهوا مشكلة، هربوا وضيعوا حلمهم بإيديهم.
بدا الانكسار في عيني معتز وهو يرد بصوت خافت:
– أنا غير عاصم، يا وليد…
نظر إليه وليد بجدية، محاولًا أن يوقظه من الضياع الذي يسلكه:
– جربت؟ حتى حاولت؟ ولا اخترت الهروب فجأة؟! للأسف… أنت محبتش بجد، لو كنت حبيت، مكنتش ضيعت اللي بين إيديك بسهولة، كنت حاربت لحد ما توصل… الحب الحقيقي مش بنلاقيه بسهولة، ولو لقيناه، لازم نتمسك بيه.
نظر إلى النائم أمامه، صمت قليلًا، ثم تابع حديثه متنهّدًا:
– عاصم فعلًا مش زيّك، حارب وعافر لحد ما وصل لحلمه. آه، تعب كتير، لكن مَهِربش مع أول مشكلة قابلته. وقف جنبها في موت والديها، واتمسّك بيها في مرضها، بل بالعكس، دعمها وفضل وراها لحد ما بقوا زي ما انت شايف روح واحدة.
توقف للحظات، يأخذ نفسًا عميقًا، ثم واصل بنبرة أكثر جدية:
– آه، انت مش زيه. قولي، انت عملت إيه مع أول مشكلة؟ ضعفت، وهربت، وحبّك بيتضيّع قدام عينيك، وأنت واقف تتفرج عليه.
تنهّد وليد، ثم وضع يده على كتف معتز بحزم، وقال:
– خلاصة الكلام، يا معتز: حارب، حاول، لحد ما توصل. كلنا غلطنا… أنت، وأنا، وعاصم، وحتى هي، لكن ربّنا غفور رحيم. المهم إننا نتعلم من غلطنا. آه، هتتعب في الأول، ده أكيد، بس مع بعض هتعدّوا الأزمة دي، وهتخرجوا منها أقوى.
توقّف قليلًا، ناظرًا إليه بجدية، ثم أضاف:
– قعدتك هنا مبقاش ليها طعم ولا لازمة. روح، الحَق اللي باقي من حكايتك، ما تضيعش الباقي من عمرك في الهروب. لأن لما الوقت يعدّي، وقت الندم مش هيفيد… هيكون فات الأوان خلاص.
حاول وليد تغيير مجرى الحديث، عندما لاحظ شروده وحزنه، لكنه فوجئ بوميض أمل خافت في عينيه، فابتسم وقال بمكر:
– مش تبارك لي بقى؟ هكون أب قريب!
عندما لاحظ استمرار شروده، نغزه في كتفه، فأفاق من أفكاره أثر الضربة، ثم أعاد وليد كلماته، فابتسم معتز أخيرًا، وتبادلا الأحضان، وهو يربت على كتفه بفرح:
– ألف ألف مبروك! فرحت لك أوي.
ردّ وليد بحب:
– الله يبارك فيك، يا صاحبي. بس بجد، ما تتضايقش من كلامي، أنا عاوز مصلحتك. حالتك دي مش عاجباني، معزول مع نفسك، ولو مش واثق إني فاهمك، وعارف إنك فعلًا اتغيرت، مكنتش قلتلك الكلام ده.
ابتسم معتز بامتنان، وقال بصوت هادئ:
– انت أكتر شخص برتاح في الكلام معاه، عمري ما أضايق منك… انت أخويا.
صمت لحظات، ثم تابع بمرارة:
– عارف أكتر حاجة خنقتني؟ إن اللي حصل ده هزّني من جوا، كسرني قبل ما يكسرها. خلّاني مش قادر أقعد في نفس المكان اللي هي فيه، ولا حتى أبص في عينيها… هربت من نفسي! تتخيّل؟ الإنسانة الوحيدة اللي دقّ لها قلبي، شفت في عينيها نظرة… مهما أوصف لك، عمري ما هنساها.
ثم سأل بصوت مكسور:
– تفتكر… ممكن تنسى فعلاً؟ نبدأ من جديد؟
أجابه وليد بثقة:
– لو جواكم نبتة حب حقيقية، تقدروا تحطوا كل حاجة ورا ضهركم، وتبدأوا من جديد. وطول ما انت عرفت طريق التوبة وماشي في الطريق الصح، ربنا عمره ما هيقفل بابه في وشك… بالعكس، هييسر لك طريقكم سوا.
شعر معتز بقلبه ينبض بقوة، وكأن الأمل بدأ يضيء طريقه من جديد، فقال بحماس:
– أنا مش عارف من غيرك كنت هعمل إيه… عطتني قوة غريبة، وأمل كبير. أنا فعلًا لازم أتحرك من هنا… بس أطمن عليهم الأول.
لكن قبل أن ينهي حديثه، قطع صوت عاصم كلماته، وهو يهلوس ببعض العبارات غير المفهومة، محاولًا النهوض من سريره. أسرع وليد ومعتز نحوه، يحاولان تهدئته، لكن عاصم كان يبحث بجنون، عيناه تائهتان، وصوته مرتعش:
– هي فين؟! سيلا… كنت بحلم؟! ولا بجد؟! هي فين سيلا؟!
وانصهر الجليد بقلم شروق مصطفى
حاول وليد الإمساك به، مهدّئًا:
– اهدأ يا عاصم… هي بخير، مش حلم، بس مش هتعرف تشوفها دلوقتي… نُقلت للعناية المركزة، ارتاح شوية بس.
لكن عاصم لم يستمع له، فقط يريد أن يتأكد مما رأى… أكان حقيقة أم وهمًا؟ دفع وليد عن طريقه، وهرول خارج الغرفة، كالمجنون، يبحث عنها.
لم يهدأ حتى وجد الطبيب، فتقدّم إليه بلهفة، وعيناه مشتتة بين الخوف والرجاء:
– أين هي؟!
ابتسم الطبيب بودّ، وقال بصوت مطمئن:
– اهدأ أيها العاشق! إنها معجزة الله… الفضل لله أولًا، ثم لك. أهنّئك، لقد أفاقت، وتم نقلها للعناية الفائقة. يجب أن تمرّ عليها ٤٨ ساعة حتى نطمئن على المؤشرات الحيوية لديها، وإذا مرت بسلام، سيتم نقلها لغرفتها. لكن، الزيارة ممنوعة حاليًا، من فضلك.
شعر عاصم بقلبه يستعيد نبضه، وابتسم لا إراديًا. لم يكن حلمًا! التفت ليجد يدًا تربت على كتفه، وحين استدار، وجد وليد أمامه، ليحتضنه بقوة، هامسًا بصوت مرتجف:
– ما سبتنيش… رجعت لي تاني! سمعت الدكتور، صح؟!
بقلم شروق مصطفى
ابتسم وليد، قائلًا:
– سمعت… مبروك، ألف مبروك.
خرج من أحضانه، ليتلقفه معتز باحتضان آخر، ويربت على ظهره:
– مبروك، يا صاحبي.
نظر إليهما وليد، وقال بابتسامة واسعة:
– باركولي أنا كمان… هبقى أب قريب!
نظر إليه عاصم بدهشة، ثم ضحك بسعادة غامرة:
– بجد؟! ألف ألف مبروك، يا وليد!
ردّ وليد بامتنان:
– الله يبارك فيك، يا رب… وحمدًا لله على سلامتها.
التفت عاصم حوله، يبحث عن وجه معين، لكنه لم يجدها، فسأل بقلق:
– أمال همسة فين مش شايفها ليه؟
انتفض فجأة الأخير فزعًا، متذكّرًا أن همسة لا تزال لا تعلم بعودة أختها للحياة. انشغل تمامًا بحديث معتز، وها هو الآن يهرول خارجًا من أمامهما، تاركًا إياهما ينظران إليه في صدمة. ثم، لم يلبثا أن تبادلا النظرات قبل أن تنفجر ضحكاتهما عاليًا.
بخطواتٍ سريعة، اندفع إلى غرفتها. وعندما دلف إليها، وجدها ما زالت نائمة من تأثير المهدئ. جلس بجانبها، يتأمل تقاسيم وجهها الحزين، متمنيًا أن تستيقظ سريعًا، لترى النور الذي عاد إلى حياتها مجددًا، ويخبرها بالخبر الذي سيضيء قلبها.
مرّ يومان…ثم نُقلت سيلا إلى غرفة أخرى، كانت ما تزال نائمة حين دخل إليها عاصم. راقبها للحظات، ثم لمح حركة طفيفة من جفونها. حاولت فتح عينيها عدة مرات، لكن الإضاءة القوية أجبرتها على إغلاقهما من جديد. بعد قليل، بدأت تتأقلم مع الضوء، وحاولت الاعتدال في جلستها، لكن قبل أن تتمكن من ذلك، أسرع إليها عاصم، وأحاط كتفيها بيديه، مثبتًا إياها في مكانها، رافضًا تحرّكها.
سيلا، بصوت واهن:
– سيبني… عاوزة أقوم شوية.
عاصم، مبتسمًا بسعادة لم يستطع إخفاءها:
– حمد لله على سلامتك، يا حبيبتي… مش عاوز أتعبك، خليكي نايمة عشان الجرح.
رفعت عينيها نحوه، والتمع فيهما شيء لم يفهمه للحظة. حدّقت به طويلًا، ثم همست بصوت خافت، يحمل بين طيّاته حنينًا خفيًا:
– عارف…
أنا حلمت بيك.
يتبع
الفصل الثاني عشر وانصهر الجليد
“عارف… أنا حلمت بيك.”
صمتت قليلاً، تلتقط أنفاسها، فربّت عاصم على وجنتيها برفق، يمنعها من التحدث:
“ارتاحي طيب، ما تجهديش نفسك، بلاش تتكلمي، أهم حاجة عندي راحتك.”
تطلعت إليه بنظرات عاشقة، شدّت على كفّه تقبّله بحنان، وابتسامتها الرقيقة لم تفارقها، ثم همست:
“إنت راحتي، عارف.”
صمتت لحظات، وكأنها تسترجع تفاصيل الحلم، ثم تابعت بصوت خافت:
“حلمت إني كنت في مكان ضلمة وبارد جدًا، وكنت عريانة وبردانة أوي أوي، وفجأة لاقيتك جاي لي وبتضحك لي، وشايل بيبي صغير. بس قبل أي حاجة، غطّيتني الأول وحضنتني أوي، والبيبي الصغير كان وسطنا، وفجأة النور ظهر، وملأ المكان كله، والدفء رجعلي.”
توقفت للحظة، ثم نظرت في عينيه مباشرة، وعادت تهمس بحنين:
“وقلت لي إن دي بنتنا، أنا وإنت، وكانت جميلة أوي، بتضحك لينا… ومشيت معاكم.”
ابتسم عاصم، بينما الدموع تملأ عينيه، متذكرًا ما حدث… تلك اللحظات العصيبة التي توقف فيها قلبها للحظات، اللحظات التي عاش فيها أسوأ كوابيسه. لم يُرِد أن يخبرها بما شعر به حينها، أو كيف تحوّل عالمه كله إلى ظلام دامس حين ظنّ أنه قد فقدها. فقط اقترب منها أكثر، أحكم إمساك كفّها الصغير، يرسل لها الأمان من خلال لمسته، وربّت بالأخرى على وجنتها بحنو، وهو ينظر إلى عمق عينيها المرهقة:
“المهم إنك رجعتي ليا… لحضني اللي كان مشتاق يضمّك.”
خجلت من نظراته، حاولت الهروب من تأثيرها، فغيّرت الموضوع قائلة بتردد:
“ا… ا… هي همسة فين؟”
شعر بخجلها، فلم يُرِد التمادي، أجابها برقة:
“همسة كويسة الحمد لله، وهتبقى خالتو قريب… يا أحلى خالتو انتي.”
غمز لها بابتسامة دافئة، وأضاف ممازحًا:
“وعقبال ما تبقي ماما كمان قريب.”
اتسعت عيناها بسعادة، وتحدثت بلهفة:
“بجد؟ همسة حامل! الله، خبر جميل أوي يا حبيبتي! طيب هي فين دلوقتي؟”
ردّ عاصم:
“تعبت شوية ووليد معاها و…”
لم يُكمل جملته حتى سمعا طرق الباب، ودخلت همسة إلى الغرفة.
بمجرد أن رأتها، هرعت همسة نحوها، وارتمت بين أحضانها قائلة بقلق:
“حبيبتي، ألف سلامة عليكي! عاملة إيه دلوقتي؟”
ابتسمت سيلا رغم الإرهاق البادي عليها، وأجابت بصوت خافت:
“الحمد لله، أحسن من الأول… ومبروك يا حبيبتي، تقومي لنا بالسلامة يا رب، إنتي والبيبي.”
احتضنتها همسة بقوة، وردّت عليها بسعادة:
“الله يبارك فيكي يا قلبي، وعقبالكم انتو كمان.”
عند نطق همسة لكلماتها الأخيرة، التقت نظرات سيلا بعاصم، فوجدته يبتسم لها، ولم يحِد بنظراته عنها لحظة. شعرت بخجل شديد، فأدارت وجهها بعيدًا، بينما تابعت حديثها مع همسة محاولة الهروب من تأثيره:
“أمال فين وليد؟ عايزة أبارك له.”
ردّت همسة وهي تجلس بجوارها:
“واقف بره، بيتكلم في التليفون مع عامر، وجاي يطمن عليكي.”
أدارت سيلا رأسها، وكأنها تبحث عن شيء ما، لاحظ عاصم توترها، فاقترب منها وسألها بلطف:
“بتدوري على إيه؟ قوليلي.”
نظرت إليه، ثم أنزلت يديها تتحسس رأسها التي أصبحت ملساء، وأجابت بخجل:
“عاوزة ألبس حاجة… فين الكاب؟ ممكن تشوفوه قبل ما وليد يدخل و…”
صمتت وهي تخفض عينيها، بينما نهض عاصم من مكانه، واقترب منها أكثر، وقبّل رأسها بحنان شديد، قبل أن يهمس:
“حاضر، حبيبتي.”
بحث لها عن كاب الشعر، وعثر عليه، ثم ألبسها إياه بنفسه، فابتسمت له بإمتنان، وهي تميل برأسها قليلًا لتشكره بصمت.
أخذ خطوة للخلف، ثم قال وهو يتجه نحو الباب:
“أنا هطلع وأسيبكم، وأشوف وليد بره.”
خرج عاصم، واتجه إلى وليد، الذي كان لا يزال مشغولًا بمكالمته الهاتفية. سار مبتعدًا قليلًا عنه، مشيرًا له بملاحقته خلفه، حتى وصلا إلى مكتب الطبيب، لمعرفة ما هي المرحلة التالية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منذ افتراقهم، أصبح طعم الكون بلا ألوان.
كان بداخله اشتياق، أمل، ولهفة لرؤيتها، لكنه ابتسم بألم مزَّق قلبه عندما نظر إلى تلك الدبلة التي تُزين يده، متذكّرًا آخر لقاء بينهما. كما تذكر تلك المكالمة التي أجراها قبل سفره، ليخبر أخاها أنه لم يتركها نهائيًا، بل فقط منحها بعض الوقت والمساحة الكافية للتفكير بشأنهما، مؤكدًا أنه سيعود لمعرفة قرارها النهائي.
فاق من شروده على صوت المضيفة تطلب منه ربط حزام الأمان استعدادًا لإقلاع الطائرة. استجاب لها وأغلق الحزام، ثم…
…
“والله وأنتِ وحشتيني أوي! بجد! تيجوا بالسلامة يا رب.”
“ماشي، حاضر، هسلِّمك عليها. في أمان الله. مع السلامة.”
أغلقت الهاتف والابتسامة تملأ وجهها، لتتفاجأ بوالدتها تسألها:
– بتكلمي مين، والفرحة على وشّك كده؟
أجابت مي بسعادة:
– دي همسة! الحمد لله، سيلا عملت العملية ونجحت، والورم اتشال!
سعدت نبيلة بسماع الخبر، وحمدت الله على سلامتها:
– ألف حمد وشكر ليك يا رب! غلبانة البنت دي، عانت طول عمرها، والله دايمًا في كل صلاة بدعيلها. الحمد لله، يا رب!
وافقتها مي:
– آه والله يا ماما، كتير اتحملت! بس الحمد لله عدَّت على خير، وعاصم كمان وقف جنبها. مش عارفة من غيره كانت وصلت لإيه بجد!
ابتسمت نبيلة بحنان:
– ربك بيعوض يا بنتي، وربنا عوضها بالسند والظهر. هما جايين إمتى؟ أنا سمعتك بتقولي “تيجوا بالسلامة”.
– همسة ووليد بس اللي هينزلوا.
نظرت والدتها بدهشة، فأوضحت مي:
– همسة طلعت حامل، وعشان سيلا لسه هتكمل الكيماوي، فمش هينفع تقعد عشان ما يتأثرش البيبي وكده.
هزّت نبيلة رأسها تفهمًا:
– آه طبعًا، الكيماوي بيأثر، يا حبيبتي. والله فرحتلها أوي، تستاهل الخير، والله. همسة دي طيبة زي أختها.
صمتت قليلًا، ثم تساءلت بتعجب:
– الله! طيب مش سيلا خلاص نجحت العملية؟ ليه كيماوي تاني يا بنتي؟
أجابت مي:
– يا ماما، لازم بعد العملية ياخدوا تحاليل وعينة عشان يتأكدوا لو فيه بقايا ورم. والكيماوي ده عشان يقضي عليه نهائيًا. فسيلا هتقعد شهرين كمان. همسة بتقولي إنها على آخرها وزهقت أوي، وكمان همسة هتمشي وتسيبها، كانت مونسّاها شوية.
ربّتت نبيلة على يدها بلطف:
– معلش، صبرت كل ده، تصبر الشهرين دول كمان وترجع لنا بالسلامة وتبدأ حياتها.
ثم نظرت إلى مي بحب أمومي، قائلة:
– أول مرة أشوف ضحكتك دي من زمان. كنتِ مخبياها علينا كده؟ نفسي أطمن عليكي وأفرح بيكي زي ما اطمنت على أخوكي.
حاولت مي الابتسام:
– إن شاء الله، يا ماما، كله بوقته. ولا إنتِ عاوزة تخلصي مني بقى؟
عبست والدتها:
– أخلص إيه يا بنتي؟ ده حتى البيت بقى فاضي بعد ما أخوكي اتجوز، وإنتِ اللي عاملة حس دلوقتي. لكن هييجي اليوم اللي تنوري فيه بيت جوزك وتيجي تزوريني إنتِ وعيالك. مش عارفة، أنا حساها قريبة!
قالت الأخيرة بابتسامة خبث لم تلاحظها مي، فأجابت بتكلف:
– إن شاء الله. طيب، أنا هقوم لأنّي هموت على النوم بجد، جاية من الشغل وتعبانة جدًا. تصبحين على خير.
أحست نبيلة بحزنها وتشتتها، فحاولت أن تريحها قليلًا، قائلة:
– مي!
كادت أن تنهض لكنها التزمت مكانها:
– نعم، يا ماما؟ عاوزة حاجة مني؟
تنهدت نبيلة ثم واصلت:
– لو لسه حاسة إنك تقدري تسامحي أو تغفري، ما تتردديش. أو لو شايفة إن معتز يستاهل فرصة تبدأوا صفحة جديدة، لو فعلًا اتغير، ما تتردديش. إحنا مش ملايكة، ومفيش إنسان كامل.
حاولت مي إنهاء الحديث بحزم:
– ماما، الصفحة اتقفلت خلاص. مفيش داعي تفكريني بيه تاني. أنا عاوزة أنام، ممكن؟
تابعتها نبيلة بنظراتها وهي تنهض. كانت تعلم بالمكالمة التي أجراها معتز مع ابنها قبل السفر، وتعلم ما حدث في مقابلته مع هيثم، وما قيل عن الذنب الذي ارتكبه وجعله سببًا في انفصالهما. فقالت بحنان:
– إنتِ نفسك أخطأتِ، ورجعتي لربنا تاني، وقَبِل توبتك. ليه مش عاوزة تديله فرصة تانية؟
نظرت إليها مي بذهول:
– خطأ! إيه اللي عملته أنا؟!
تنهدت والدتها بهدوء:
– اقعدي طيب، ما تجريش على أوضتك كل ما أكلمك.
جلست مي على مضض، فأردفت والدتها:
– كلنا بنخطئ، لكن المعاصي بتختلف من شخص للتاني. في ناس عندها نفس لوامة، تلوم صاحبها عند التقصير، فيرجع لربنا يطلب المغفرة. وفي نفس أمّارة بالسوء، تأمر صاحبها بكل شر، ولو استسلم ليها، يغرق في الذنوب.
صمتت قليلًا، تلتقط أنفاسها، بينما تابعتها مي بتعجب:
– طيب، وأنا أخطأت في إيه؟
أجابت نبيلة بهدوء:
– جايالك في الكلام. بصي، إنتِ مثلًا أخطأتِ بتأخيرك في لبس الحجاب. ده فرض، مش سنة ولا واجب. كان المفروض تلبسيه من أول ما بلغتِ، لكنك كنتِ بتبصي لأصحابك وبتفكري تلبسيه عن اقتناع. في الآخر، رجعتي لربنا وطلبتِ منه يثبتك. معتز كمان، أيًا كان خطأه، رجع لربنا وطلب منه يثبته على توبته.
نظرت إليها مي بتوتر، فقد أصابت كلماتها حقًا. شعرت بأنها تائهة، ضائعة، لم تنسَ ما دار بينهما في آخر لقاء، وأحست بصدق كلماته، لكنها خافت مما رأته وقتها. فحاولت التهرب:
– بس… خلاص، يا ماما. هو مشي من وقتها، وقصتنا انتهت. أنا جاية من الشغل وتعبانة جدًا. تصبحين على خير.
نهضت متوجهة إلى غرفتها مباشرة، بينما ابتسمت نبيلة داخليًا، ثم أمسكت هاتفها وأجرت مكالمة لابنها، تخبره بـ…
…
خلاص، هعملك اللي انتي عاوزاه… مبسوطة يا ستي؟
“قالها عاصم مقربًا وجهه منها، وهي مستلقية على الفراش”
نظرت إليه سيلا بابتسامة هادئة، ثم أمسكت وجنتيه برقة وردّت بحماس:
“جدًا جدًا.”
ثم تابعت بعد لحظة، متسائلة:
“هي همسة فين؟ مشوفتهاش النهاردة خالص!”
اعتدل عاصم في جلسته وتحدث بهدوء:
“بتحضّر شنطها هي ووليد، لأن بكره هيسافروا.”
شعرت سيلا بوخزة ألم في قلبها، فقالت بحزن:
“هتوحشني قوي…”
ربّت عاصم على يدها بحنان ليخفف عنها قائلًا:
“كلها شهرين وهننزل لهم، هانت يا حبيبتي.”
لكن سيلا لم تستطع إخفاء ضيقها، فتمتمت بحزن:
“حتى معتز سافر النهاردة… كلكم هتمشوا كده وتسيبوني؟”
همس عاصم بصوت خافت لم تسمعه، وهو يقترب أكثر منها، بنظرات عاشقة:
“نزل عشان يلحق حلمه قبل ما يضيع منه…”
رفعت نظرها إليه، وهي تشعر بقربه الشديد، فسألته بخجل:
“بتقول إيه؟ مش سامعة!”
انتبه عاصم إلى نفسه، فعدل كلامه سريعًا قائلًا:
“بقول نزل عشان يتابع الشغل اللي فاتنا، وبعدين انتي شاغلة بالك بيهم ليه؟ هو أنا مش مالي عنيكي ولا إيه؟”
تحدثت سيلا بسرعة محاولة تبرير كلامها:
“أبدًا والله، انت كل حاجة في حياتي، لو أقولك انت إيه بالنسبة لي مش هتصدقني بجد، بس يعني… أخدت عليهم، ونس معايا وكده.”
غمز عاصم مازحًا وهو يقلّد حديثها بطريقة متقطعة توحي بتوترها:
“وكده برده؟ ولا بتهربي مني خلاص؟ قعدلك مفيش بقا، بس أصل همسة هنا، بس أصل ووليد، ومره معتز واقف بره، ومش عارف إيه… انسي خالص، لا مفر من الآن!”
ثم أطلق ضحكة عالية وأضاف:
“مفيش كلام ده، هستفرد بيكي لوحدك يا جميل!”
خجلت سيلا بشدة من كلماته حتى احمرّت وجنتاها، فأدارت وجهها إلى الجهة الأخرى وهمست بخفوت:
“سافل!”
لكنه أمسك ذقنها برفق وجعلها تنظر إليه وهو يبتسم بمكر:
“سمعتك على فكرة… بس مفيش هروب مني، بقيتي حياتي خلاص.”
تمتمت بعبوس مصطنع محاولة إخفاء خجلها:
“كده تستفرد بيا وأنا كده… في حالتي دي؟”
ضحك عاصم وهو يردّد كلماتها مستنكرًا:
“وهي مالها حالتك؟ انتي زي القمر، واطمني، أنا مش هستفرد بيكي دلوقتي خالص، إلا بعد فرحنا. لكن وقتها بقى… مفيش هروب ولا خجل، لأنك بقيتي في قلب عاصم من جوه… ومقفول عليه.”
نظرت إليه سيلا بذهول، وترقرقت عيناها بالدموع وهي تتمتم بتردد:
“فـ… فرحنا؟”
أجابها عاصم بحزم وتصميم:
“أحلى فرح لأحلى بنوتة في الدنيا كلها.”
نظرت إليه بعدم تصديق، وهمست متلعثمة:
“بس… بس…”
وضع إحدى أصابعه أمام شفتيها هامسًا:
“أنا نفسي أفرحك بجد، وتبقي أحلى عروسة… وانتي أجمل بنت في نظري.”
ثم انحنى ليطبع قبلة دافئة على جبينها، مبتسمًا وهو يهمس:
“أنا حمدت ربنا كتير على رجوعك ليا بالسلامة، ونفسي أفرحك بجد.”
لم يخبرها حتى لا يضيع أجر الثواب، أنه أوصى وليد بذبح شيء وتوزيعه على الفقراء بنية شفائها.
نظرت إليه سيلا بامتنان، وهي تشعر بحبه يغمرها، فقالت بصوت يملؤه الصدق:
“بجد، أنا فرحانة بوجودك معايا… وجنبي، مش محتاجة أي حاجة تانية.”
ابتسم عاصم بمكر وقال ممازحًا:
“ولا حتى نفسك في حضن؟”
نطقها وهو يفرد ذراعيه على اتساعهما، كأنه يدعوها للارتماء بينهما.
وانصهر الجليد
اعتدلت سيلا في جلستها، ونظرت إلى ذراعيه الممدودتين، فابتسمت له، ثم دفنت نفسها بين أحضانه، تشعر بالأمان الذي حُرمت منه… ووجدته فيه هو فقط.
ظل يمسد بيده على ظهرها برفق، من أعلى لأسفل، وهمس بجانب أذنها:
“كلمة حب قليلة على اللي حسيته معاكي…”
شعر بارتجاف جسدها تحت تأثير لمسته، فتوقف فورًا، وبدأ يربت على ظهرها بحنان، حتى أحس بارتخاء جسدها وانتظام أنفاسها.
ابتسم وقبّل جبينها مجددًا، ثم دثّرها جيدًا بالغطاء، وظل يراقب ملامحها البريئة التي عشقها منذ ذلك اليوم.
…
صباح اليوم التالي بمركز الأطباء المتخصص، حيث يعمل العديد من الأطباء داخل المركز، كانت هناك فتاتان في قاعة الاستقبال تعملان على تنظيم المواعيد والحسابات.
أمل نظرت إلى الجالسة جانبها وقالت:
“فاضل أد إيه و الشفت بتاعنا يخلص؟ شوفي كده؟”
مي، وهي تنظر إلى شاشة هاتفها، أجابت:
“مش عارفة، مستعجلة ليه؟ ما إحنا كده كده هنستنى أشرف وحسن، أول ما يحضروا هنمشي.”
تمتمت أمل بعبوس:
“نفسي أعرف، مش بتستني أخوكي وتمشوا مع بعض ليه؟ ما بينكم ربع ساعة غريبة قوي، أنتو في نفس المركز يا بنتي!”
لوت مي فمها بغيظ وهتفت:
“بصي قدامك يا أمل، مش عاوزة كلام كتير، ويلا نقفل الحسابات قبل ما يوقفوا على دماغنا، مش بحب أشتغل وحد واقف لي.”
ظلت مي تتحدث، لكن أمل كانت شاردة أمامها وغير منتبهة لها أبدًا. حتى ضربتها مي على كتفها بنفاد صبر:
“يا بنتي ركزي معايا! متنحة ليه كده، الله!”
بقلم شروق مصطفى
ردت أمل، ما زالت شاردة في نقطة ما أمامها، ثم نظرت لها بنظرات مريبة، وقالت:
“مفيش… معاكي حاضر، هخلص اهوه.”
لكن لم ترتاح أمل، وبدأ الشك يدخل عقلها أكثر عندما لاحظت رجلًا يقف عند مدخل المركز، يرمق المكان بنظرات حادة كأنه يبحث عن شيء أو شخص معين.
لم تستطع منع نفسها من التركيز عليه، خاصة أنه بدا وكأنه يراقب أحدًا داخل المركز، لكنه لم يتحرك من مكانه.
عقدت حاجبيها وقالت بصوت خافت، وهي تميل برأسها قليلًا نحو مي:
“بصي كده للراجل اللي واقف عند الباب… حاسه إنه غريب، بقاله وقت واقف ولا بيتكلم مع حد.”
نظرت مي سريعًا ثم لوت فمها بلا مبالاة:
“وبعدين يا أمل؟ يمكن مستني حد جوه، أو بيفكر يدخل ولا لأ… إنتي ليه مكبرة الموضوع؟”
لكن أمل لم تقتنع أكملت الفتيات عملهن، وتم تبديل الشيفتات، ثم رحلن سويًا حيث تقيم أمل بالقرب من مي. لكن أمل شعرت بشيء مريب، فحاولت الإسراع وسحبت يد مي، التي نظرت إليها بدهشة من تصرفاتها الغريبة.
مي توقفت فجأة وسحبت يدها قائلة باندهاش:
“براحة! في إيه؟ بتجرينا ليه كده؟ على مهلك، هتوقعينا!”
أمل، وهي تتلفت حولها برعب:
“في عربية ماشية ورانا!”
التفتت مي خلفها وووو
يتبع
تكملة الرواية من هناااااا
التعليقات