التخطي إلى المحتوى

 رواية وأنصهر الجليد( الجزء الثانى)الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر  بقلم شروق مصطفى حصريه 


رواية وأنصهر الجليد( الجزء الثانى)الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر  بقلم شروق مصطفى حصريه 

السادس والسابع وانصهر الجليد

بقلم شروق مصطفى

وليد غمز لهمسة ضاحكًا على هيئتهم وهم مصدومون:

اقفلي بوقهم يا همسة، لحسن حاجة تدخل جواها من كتر الفرحة! مش مصدقين نفسهم يا عيني.

همسة، وهي تضحك بقهقهة:

“لا، دي كمان لسه بتقول كده! تسبيني يا سيلا أدبس في معتز لوحدي؟ اهيه، أدبست وبكرة كمان هتتكتب عليكم زيي!”

مي نظرت لها نظرة نارية وهمست بتهديد:

“ماشي يا سهونة… استني عليّ.”

ضحك الجميع عليهم، بينما نظر معتز لمي بتوعد وصمت، مما زاد من توترها.

مي، بتردد وتوتر وهي تخاطب أخيها:

“هيثم… انت وافقت بجد؟ يعني بكرة… بكرة؟”

هيثم أوضح لها بابتسامة خفيفة:

“آه يا ستي، وافقت وكلمت ماما وبلغتها، وقالتلي اللي أشوفه أعمله. الصراحة، عاصم كان بيتكلم عن نفسه، وفجأة معتز تدخل وقال: نكتب  سوا، أخين مع بعض، ونعمل الفرح مع بعض كمان. الفرح هيتعمل لما يرجعوا من سفرهم. فقلت فكرة لطيفة،  يتجوزوا مع بعض. وعاصم دخل وليد في الموضوع كمان، وطالما مفيش فرح لهمسة ووليد، يبقى يتعملوا مع بعض. فوافقت.”

همسة، وهي تقف بجانب وليد بسعادة:

“بصراحة، فكرة حلوة أوي يا جماعة. بس أنا اتفقت مع وليد إننا هنطلع عمرة بدل الفرح، بعد ما نلاقي سيلا. فأنا مستنياه ينفذ وعده ليّا.”

نظرت إلى وليد بابتسامة حانية:

“صح؟”

ابتسم وليد لها بحنان، وأمسك يدها، وشدد عليها بلطف:

“عاقلة من يومك يا حبيبتي. وأنا عند وعدي.”

ثم همس بجانب أذنها بابتسامة ماكرة:

“وعلى وعدي كمان، هخد حلاوتي لما نروح يا جميل.”

خجلت همسة ولم ترد عليه.

عاصم، الذي كان يتطلع لسيلا بنظرات عنيدة، شعر بعدم رضاها لكنه قرر تجاهلها هذه المرة:

“خلاص يا وليد، برة عنك الموضوع ده. أبسط يا عم! يلا بينا يا رجالة، إحنا تحت ونسيبهم لوحدهم.”

خرج الرجال، وتركوا البنات بمفردهن.

مي قفزت على همسة بمرح:

“والله لأوريكي يا بت! إزاي تسلميلي كده ليه؟”

همسة، وهي تضحك بصوت عالٍ تحت مي:

“مش من شوية كنتِ عاملة سبع رجالة في بعض وبتقولي: قوليله ولا يهمني؟”

مي، بمرح:

“والله لأموت البت دي!”

همسة، وهي تضحك:

“خلاص، خلاص! كنت بغلس عليكِ بس.”

قطع ضحكهم صوت اتصال وارد على هاتف مي. نهضت مي من فوق همسة، وعدّلت ملابسها، واستأذنت للذهاب حيث كان أخوها يستعجلها على الهاتف للنزول، فقد تأخر الوقت.

خرجت مي وأغلقت الباب، وبينما كانت تنزل إلى الأسفل، شعرت بشخص يكمم فمها بيده، ويجذبها إلى غرفة مظلمة. شهقت مي، وحاولت الإفلات لترى من هو.

قام الشخص بإدارة وجهها ونظر إليها بنظرة حادة، رافعًا حاجبه:

“بقا أنا تدبيسة، برده؟”

مي، محاوِلة تهدئة توترها:

“أأ… أبدًا! دا… دا أنا كنت بهزر والله. أه، بهزر بس! هي اللي بتغلس عليّا… ب… بس.”

معتز، وهو يتأمل وجهها بابتسامة خفيفة:

“بس إيه الحلاوة دي؟ حجابك جميل أوي عليكي. مقولتليش ليه؟”

مي، وهي تزداد توترًا:

“م… مجتش فرصة. جت فجأة.”

معتز، وهو يقترب منها بنظراته:

“أفهم من كده إنك موافقة على كتب الكتاب؟”

مي، بتردد واضح:

“مش… مش عارفة!”

معتز، رافعًا حاجبه باستغراب:

“يعني إيه مش عارفة؟! موافقة ولا لأ اظن انا حليت لك نقطة الخروج وكمان صاحبتك ورجعت اظن مفيش اي حجه بعد كده صح؟

مي، بتوتر:

 محتاجة وقت أكتر. نفهم بعض فيه شوية و…

معتز، بنبرة صارمة:

“وإيه؟ اتكلمي!

قبل أن ترد مي، رن هاتفها فجأة داخل حقيبتها، فقفزت:

“أخويا!”

هربت مسرعة إلى الأسفل دون أن تعطيه فرصة للرد.

ابتسم معتز داخليًا لخجلها، وظل يدندن بلحن هادئ، ثم دخل غرفته.

بعد فترة، استأذنت همسة بالخروج بعد اتصال من وليد

سيلا، وهي تمسك بيدها:

“رايحة فين؟ ما تمشيش وتسيبيني. خديني معاكي! أنا خايفة أقعد هنا لوحدي.”

همسة، مبتسمة:

“إنتِ مش لوحدك. متقلقيش يا ستي. مش هتأخر، هشوف بس وليد عاوز إيه وراجعالك على طول.”

سيلا، بتردد:

“طيب…”

خرجت همسة تبحث عن وليدها،  ثم

دلف عاصم إلى الغرفة بعد أن خرج الجميع، يحمل صينية بها بعض الأطعمة الصحية ومشروب طبيعي. وضع الصينية على المنضدة، وألقى نظرة على سيلا التي كانت مغمضة العينين، تدعي النوم. اقترب منها بخفة، متأملًا وجهها، ولاحظ ارتعاش جفونها. انحنى بجذعه نحوها بخبث وخطف قبلة من شفتيها، ما جعل عينيها تبرقان من الصدمة.

تراجعت بسرعة وهي تضربه بصدره ليبتعد، فابتعد عنها وهو ينظر إليها بتسلية واضحة:

“هتخمي تاني؟ طيب هعملها تاني زي المرة اللي فاتت! أنا مستعد… ها؟”

اعتدلت سيلا في جلستها على الفراش، ووضعت يدها على شفتيها تمسح مكان قبلته بغضب:

“إنت قليل الأدب قوي! وبعدين… أنا مش موافقة على كتب الكتاب برده!”

عاصم، بنبرة تحمل غضبًا مكتومًا:

“تاني عنادك ده يا سيلا؟”

سيلا، وهي تحاول تهدئة الموقف:

“اسمعني الأول… ده مش عناد. بص، أنا موافقة على جوازي منك، لكن… بشرط!”

عاصم، مستغربًا:

“شرط؟ وشرطك إيه بقى؟”

جلس بجانبها على الفراش، وربّع يده وهو ينظر إليها بجدية:

“سمعيني.”

سيلا، بتردد واضح:

 يعني لما أخلص العلاج الأول. ولو عشت… ساعتها نكتب الكتاب. وأنا… أنا هبقى موافقة.

قبل أن تنهي كلامها، انتفض عاصم بغضب، وانقض عليها يمسك ذراعيها بعنف، يهزها وهو يصرخ بصوت عالٍ:

“سيلا! إياكي… إياكي تتكلمي في الموضوع ده تاني! فاهمة؟ متجيبيش سيرة الموت دي على لسانك أبدًا، فاااهمة؟”

أغلقت عينيها، والدموع تغمر وجهها من شدة صراخه وقبضته التي تركت أثرًا على ذراعيها. انتحب صوتها وهي تستجديه:

“أ… آسفة. مش هقول كده تاني… بس سيب إيدي.”

انتبه عاصم لما فعله، وأدرك حجم غضبه الأعمى الذي أفقده السيطرة. تركها فورًا ونهض مبتعدًا، واضعًا يديه على رأسه، يشد شعره بقوة كأنه يعاقب نفسه. ظل يتحرك في الغرفة ذهابًا وإيابًا، يتنفس بصعوبة ويحاول استيعاب ما حدث.

سيلا ارتمت على الوسادة، تمسك الملاءة بيدها وتنتحب بصوت مرتفع، شهقاتها تمزق قلبه. لم يستطع احتمال رؤيتها في هذا الحال. اقترب منها مجددًا، وجذبها إلى صدره، يضمها برفق محاولًا تهدئتها:

“آسف… حقك عليا، والله ما قصدت أؤلمك.”

همس بجانب أذنها برجاء:

“بس بالله عليكي متجيبيش سيرة الموت دي تاني. إنتي هتعيشي، وهنتجوز، وهنجيب عيال كتير… كتير أوي. مش هسمحلك تسيبيني، فاهمة؟”

هزت رأسها موافقة، وعينيها تغمرها الدموع، بينما كانت مستلقية على كتفه بخجل. ابتعدت عنه قليلًا وهي تمسح دموعها بيدها.

عاصم، وهو يبتسم لها بحب:

“خلاص، كفاية دموع. دموعك دي شبه الكرز… عارفه إني مش بعرف أقاومها. فهتمسحيها إنتي ولا أنا اللي أعملها زي مرة اللي فاتت؟ 

اقترب منها ممازحًا، فغطت وجهها بيديها بخجل واضح:

“لا، لا خلاص! مسحتهم أهه.”

أصدر عاصم ضحكة رجولية عالية:

“طيب خلاص، مش جاي جنبك. بس شوفي، الأكل برد… أخلي دادا فاطمة تسخنهولك تاني؟”

سيلا رفعت يدها تشير برفض:

“لا، ملوش داعي. أنا تعبانة وعاوزة أنام. أصلاً مليش نفس للأكل خالص.”

كادت أن تستلقي لتنام، لكنه استوقفها بخبث:

“مفيش نوم. كلامي يتسمع. إلا لو… إنتي حابة؟”

اقترب منها بخبث واضح، فابتعدت للخلف حتى اصطدمت بظهر الفراش. غطت شفتيها بيديها، وقالت بسرعة:

“لا، لا! خلاص، هسمع كلامك. هاكل الأكل. فين؟ ده أنا جعانة أوي!”

ابتسم عاصم بحب لطريقتها الطفولية:

“شطورة. طيب، هقوم أبدله لك واجي تاني. بس ياريت لما أرجع ألاقيكي نايمة.”

قال جملته الأخيرة وهو يغمز لها، ثم خرج من الغرفة وهو يضحك بصوت عالٍ، مغلقًا الباب خلفه.

وضعت سيلا يدها على قلبها الذي كان يخفق بشدة من فرط قربه لها. لمست شفتيها غير مصدقة لما حدث، وهمست بابتسامة خجولة:

“مجنون بجد.”

مساءً داخل منزل مي جلست نبيلة تتحدث إلى ابنتها مي بنبرة حازمة:

“هاتي يا مي تليفونك، نكلم عمك ونقوله إننا هنعدي عليه بكره عشان نكتب كتابك، ونكلم خالاتك كمان عشان ما يزعلوش مننا. ولو مجوش النهارده، أهم يجو في الفرح. بس أهم حاجة عمك.”

أومأت مي برأسها موافقة، ثم نهضت متجهة إلى غرفتها لتجلب هاتفها. ولكن ما إن فتحت باب الغرفة حتى وجدت شيئًا ما قلب كل الموازين…

في مساء اليوم التالي، كان معتز يحاول الاتصال بمي منذ الصباح، لكن دون جدوى. تكررت محاولاته عبثًا، فالخط ظل يرن بلا إجابة، مما زاد قلقه. لم يكتفِ بذلك، بل حاول الوصول إلى أخيها هيثم، لكنه لم يفلح في البداية أيضًا.

ظل القلق ينهش قلبه حتى أجاب هيثم أخيرًا، لكن صوته حمل إرهاقًا واضحًا واعتذارًا ثقيلًا:

“معتز، آسف، مش هنقدر نحضر كتب الكتاب النهاردة. حصلت ظروف عندنا.”

شعر معتز بانقباض في صدره، فسأله بلهفة:

مالها حصل أية؟ 

جاءه صوت هيثم متعبًا ومهزوزًا:

“مي في المستشفى، لحد دلوقتي مش عارفين عندها إيه. فجأة أغمى عليها ووقعت، ولما فاقت، مش بتتكلم. قضينا الليلة هناك تحت الملاحظة.”

تسارعت أنفاس معتز، وارتعش صوته وهو يسأل:

مستشفى إيه؟ أنا جايلك حالًا!

لكن هيثم قاطعه بحزم:

“معتز، خليك مع أخوك في كتب الكتاب. إحنا لسه خارجين من المستشفى، وعشان كده التليفونات كانت بره التغطية. الدكتور وصانا إنها لازم ترتاح من غير أي ضغط نفسي.”

حاول معتز أن يتمالك نفسه، لكنه لم يستطع إخفاء توتره:

“طيب، هخلص كتب كتاب عاصم  وهكلمك تاني. بس بالله عليك، طمّني أول ما يبقى في جديد.

أغلق الهاتف، لكنه ظل ممسكًا به بقوة، وكأنّه يتشبث بأمل خفي. شعر بانقباض غامض في قلبه، إحساس مبهم لم يفارقه. أخذ نفسًا عميقًا، محاولًا استجماع شتات أفكاره، قبل أن يتحرك إلى مكان عقد القران، وهو يدعو في سره أن تكون بخير.

في منزل عاصم، استعدادًا لكتب الكتاب حضر المأذون، والجميع كان متأهبًا لهذه اللحظة السعيدة. انتهت الإجراءات الأولية، وبدأت اللحظة الحاسمة عندما طلب المأذون توقيع العروس.

دخلت سيلا وجلست بجانب المأذون، ملامح التردد واضحة على وجهها، كأنها مجبرة على ما يحدث. في داخلها، كانت تخشى أن تصدم عاصم أو تتركه وحيدًا يعاني فراقها. لم تكن تريد أن يتعلق بها أكثر مما هو عليه.

نظرت إلى جميع الوجوه المحيطة بها، وبالأخص وجه همسة التي بدت طائرة من السعادة. الجميع كان ينظر إليها بتوتر بسبب تأخرها في التوقيع.

ثم رفعت عينيها إلى عاصم، الجالس في المقابل. كانت نظراته مملوءة بالاطمئنان، يحثها على الموافقة بحركة بسيطة من رأسه.

تدخل المأذون بحزم:

“يا بنتي، لو موافقة على الزواج، وقّعي. لا إجبار في الزواج.”

نظرت سيلا إلى عاصم مرة أخرى، ووجدت في عينيه أمانًا غريبًا. بدا كأنه يرجوها بالموافقة. بيد مرتعشة، ودموع تلمع في عينيها، أمضت توقيعها أخيرًا.

أعلن المأذون بصوته الجهوري:

“بارك الله لكما وجمع بينكما في خير. ألف مبروك.”

انطلقت التهاني والمباركات من الجميع. رودينا وعامر قدما تهانيهما، وأطفالهم كانوا يمرحون في المكان، يضفون أجواءً من البهجة. الجميع كان سعيدًا بزواجهما، متمنين لهما حياة مليئة بالفرح.

احتضن معتز أخاه بحرارة وهو يقول بصوت مفعم بالفرح:

“مبروك يا حبيبي.”

ثم تابع بلهجة تخفي وراءها قلقًا كبيرًا:

“أنا لازم أمشي دلوقتي وأروح أشوف مي وأطمن عليها.”

غادر معتز المكان، وفي داخله شعور بالهموم المتراكمة، لكنه حاول أن يبدو قويًا، متوجهًا لمقابلتها ومواساتها.

…. 

عندما التفت لها، وجدها تجلس بصمت، تتجنب النظر إليه، وعلامات التوتر ظاهرة عليها. جلس بجانبها بهدوء، وأمسك يدها بحنان في محاولة لبث الطمأنينة في قلبها.

وجه حديثه للجميع بابتسامة حاول أن يجعلها طبيعية:

أحب أقول للكل إني أنا وسيلا هنسافر إن شاء الله بكرة، عندي شغل برا ومش هقدر أسيبها لوحدها هنا. أول ما نرجع، إن شاء الله هنعمل فرحنا كلنا سوا.

رد الجميع بصوت واحد:

“إن شاء الله تيجوا بالسلامة.”

بعد ذلك، استأذن وليد وهمسة وغادرا بعد الاطمئنان عليهما، استعدادًا لرحلتهما القادمة لزيارة بيت الله الحرام.

قبل المغادرة، احتضنت همسة سيلا بقوة وهي تقول بسعادة غامرة:

“مبروك يا حبيبتي، ألف مبروك! تيجي بالسلامة، وأنا هبقى أكلمك أول بأول، ولو عاوزاني أجي معاكي قوليلي.”

ردت سيلا بابتسامة باهتة:

“لا خليكي مع جوزك، وما تنسنيش تدعيلي هناك.”

ابتسمت همسة وأومأت:

“حاضر يا حبيبتي.”

ثم وجهت حديثها إلى عاصم بحزم:

“خلي بالك عليها.”

ابتسم عاصم بثقة وقال:

“إزاي مش هخلي بالي من نفسي؟! اطمني وسافري إنتي ووليد، عمرة مقبولة إن شاء الله.”

ثم نظر إلى سيلا بنظرة عميقة وأضاف:

“أنا وسيلا إن شاء الله أول ما نرجع هنا هنطلع نعمل عمرتنا كمان.”

رفعت سيلا عينيها ونظرت إليه بخجل، ثم ابتسمت ابتسامة صغيرة.

بعد أن غادر الجميع، أمسك عاصم يدها بلطف، بعدما لاحظ ارتجافها الواضح وتوترها. صعدا معًا إلى الغرفة، حيث أغلق الباب خلفهما بهدوء، محاولًا تهدئتها. قال بصوت دافئ:

“مبروك يا حبيبتي… أخيرًا بقيتي ليا.”

تلعثمت سيلا، غير قادرة على الرد، بينما كان التوتر والخوف واضحين في عينيها.

تنهد عاصم بحنان وأمسك وجنتيها بلطف، قائلًا:

“سيلا، حبيبتي، اهدي… أنا مش عاوز منك حاجة غير إنك تكوني مطمئنة معايا. أوعي أشوف نظرة الخوف دي في عنيكي. متخافيش مني، يا روحي.”

ثم أضاف بصوت مفعم بالصدق:

“أنا وانتي بقينا واحد، مفيش حاجة هتفرق بينا بعد النهارده، فاهمة؟”

ابتسمت سيلا بخجل، وقد بدأ قلبها يشعر بالدفء والأمان بين يديه.

شعر عاصم بتوتر سيلا وخوفها منه، فتنهد بعمق وقال بصوت هادئ مليء بالحنان:

“سيلا، حبيبتي، اهدي… أنا مش عاوز منك حاجة، بجد، غير إني أكون سند ليكي. أوعي أشوف نظرة الخوف دي في عينيك، متخافيش مني يا روحي.”

أمسك وجنتيها بحنان، محاولًا أن يُشعرها بالأمان:

“أنا وإنتِ بقينا واحد، فاهمة؟ مفيش فرق بينا.”

شعر برجفتها الواضحة، فمد يده وجذبها لتجلس بجانبه على الفراش، ثم جلس بجوارها وقال بصوت واثق مليء بالدفء:

“سيلا، أنا مش هجبرك على أي حاجة، صدقيني. مش هضغط عليكي في حاجة. خلينا نكون أصدقاء… إيه رأيك؟”

لاحظ صمتها المستمر، فتابع حديثه بابتسامة خفيفة:

“سيلا، مهما حاولت أشرح لك اللي جوايا، مش هعرف أوصفه بالكلام. بس هتلاقي مواقف كتير تثبت لك اللي بحسه.”

ثم أمسك يدها برفق ووضعها على صدره قائلًا:

“حسي بده… اسمعي نبضه… يمكن تتأكدي من إحساسي. بجد، مش عارف أشرح بس قلبي بيعشقك.”

شعرت بنبضات قلبه السريعة التي تكاد تخرج من مكانها، ورفعت عينيها لتنظر إليه، لا تجد سوى الصدق والدفء في عينيه.

تابع عاصم حديثه بصوت مفعم بالإخلاص:

“سيلا، أنا قبل ما أكون زوجك، فأنا حبيب بيعشقك. وهكون ليكي أب للسند والأمان، وصديق دايمًا موجود عشان يدعمك.”

ثم أضاف بابتسامة مرحة:

“وحتى أم لو تحبي، لأي نصيحة محتجاها. وأخ كمان دايمًا في ظهرك.”

ضحك بخفة وهو يكمل:

“وأخت برضه لو عايزة، عشان تحكيلي كل حاجة من غير خجل.”

ثم عاد وأمسك وجنتيها بحب حقيقي وهو يقول:

“أنا كل حاجة ليكي، حاولت أفهمك ده قبل كده، بس إنتِ ما كنتيش بتديني فرصة.”

ابتسم لها، وحاول أن يطمئنها أكثر:

“مش عايزك تفكري في أي حاجة وأنا معاكي. ارمي وجعك وهمومك عليا، احكيلي ألمك، وطلعي كل اللي جواكي. الحياة الزوجية مشاركة… شاركيني كل حاجة فيكي، وجعك قبل فرحك. وأنا مش هجبرك تحبيني، بس سيبيني أكون عيلتك وسندك اللي تعتمد عليه.”

أخيرًا، خرج صوتها المتردد وهي تنظر إلى عينيه وتجد فيهما الصدق الذي طالما بحثت عنه. همست بصوت خافت:

“ممكن… تحضن…”

لكنها لم تكمل جملتها، إذ جذبها عاصم إلى حضنه بعفوية واحتضنها بقوة، حتى شعرت وكأنها تختبئ داخل أضلعه.

لأول مرة، خفق قلبها بشدة، وشعرت برغبة حقيقية في حضنه ولمسته. رفعت رأسها قليلًا وهمست بجانب أذنه بكلمة مكونة من أربع حروف، لكن وقعها كان كالسحر:

“ب…ح…ب…ك.”

تصلب جسده فجأة، وشعر بتيار كهربائي يسري في عروقه. لم يصدق أذنيه، هل سمعها فعلًا؟ أم أنه يتخيل؟! نبضات قلبه تسارعت، وحرارة أنفاسها التي لامست أذنه أشعلت مشاعره.

أمسك بها أكثر، وكأنه يخشى أن تكون مجرد حلم قد يتبخر، ثم همس بصوت مليء بالعشق:

“سيلا… كرريها، عايز أسمعها مليون مرة ومش هشبَع.”

انتزعها من بين أحضانه فجأة، ونظر داخل عينيها الرماديتين بلهفة، وكأنه لم يصدق ما سمع. تحدث بصوت يملؤه الشوق، متلهفًا لسماعها مرة أخرى:

“قلتي إيه؟!”

خجلت، وأخفت وجهها داخل أحضانه، تستنشق رائحته التي تبعث فيها الطمأنينة والدفء. لكنه لم يصمت، فقد كان متعطشًا لسماعها مرة أخرى من بين شفتيها:

“يا الله، قلتي إيه؟! قوليها تاني، أنا مش مصدق إنك قولتيها!”

هو قد سمع اعترافها من قبل، عندما زرع جهاز التصنت، لكن الآن… تعترف له أمامه، بلا خوف أو تردد.

جذب رأسها بين كفيه، نظر داخل عينيها بعشق، وبريقهما يعكس مشاعره العميقة، اقترب منها أكثر، وأنفاسه الساخنة تلفح وجهها وهو يهمس برجاء:

“قولي اللي قولتيه تاني… عشان خاطري.”

ابتسمت سيلا برقة، وحاولت أن تخفض رأسها خجلًا، لكنه لم يسمح لها بذلك، رفع ذقنها برفق وأجبرها على النظر في عينيه. كانت لغة العيون كافية لتبوح بكل شيء، حتى نطقت أخيرًا من أعماق قلبها، بصوت مرتجف وابتسامة تتراقص على شفتيها:

“ب…ح…ب…ك.”

في لحظة، أمسك خصرها ورفعها عاليًا، دار بها في الهواء بينما تعالت ضحكاتها العذبة، أمسكته من عنقه تلقائيًا، وهي تصيح بين ضحكاتها:

“كفاية، كفاية يا مجنون! هدوخ كده، أنا مش قادرة بجد، نزلني يا عاصم بقى!”

أنزلها أخيرًا، وهو يضحك بانتصار:

“أخيرًا! دا إنتي نشفتي ريقي، يا شيخة! يا إيه؟! قلتي إيه؟!”

وضعت إصبعها على شفتيها، تتظاهر بالتفكير:

“مممم… مش فاكرة؟”

نظر إليها عاصم بإصرار، وعيناه تلمعان بدهاء:

“لااا، نطقتِ اسمي… دي أول مرة أسمع اسمي من قلبك! قوليها تاني.”

أمسك وجنتيها بين يديه، وعيناه تتغلغلان في أعماقها:

“قوليها تاني، سيلا.”

احمرّ وجهها خجلًا، وهمست بصوت يكاد لا يُسمع:

“بس بقى يا عاصم، بتكسفني! هرجع في كلامي تاني، إنت حر!”

أطلق ضحكة رجولية من أعماق قلبه، قبل أن يرد بلهجة مازحة، لكنها تحمل الكثير من الجدية:

“لأاا، مفيش رجوع تاني! انسي… انتي ملك لعاصم دلوقتي، وأصبحتِ من ممتلكاته الخاصة.”

نظر إلى ملامحها، فرأى الإرهاق بادٍ على وجهها، شعر ببعض القلق، فأردف بحنان:

“ارتاحي شوية، وبعدين نجهز شنطنا، ماشي؟”

لم يمنحها فرصة للاعتراض، بل حملها بين ذراعيه برفق، ووضعها على الفراش، ثم طبع قبلة دافئة على جبينها، قبل أن يدثرها جيدًا بالغطاء.

استلقى بجانبها، شعر بارتجافها الخفيف، فضمها إليه بحنان، ولف يده حول خصرها بحماية، حتى انتظمت أنفاسها، واستسلمت للنوم بين أحضانه.

ــــــــــــــــــــــ

داخل السيارة مالت برأسها على النافذة، حيث كانت جالسة في الخلف، شاردة الذهن، وعيناها تأبيان تصديق ما رأته… ما شاهدته كان يفوق قدرتها على الاستيعاب.

عادت بذاكرتها إلى ما حدث أمس، حين نهضت داخل غرفتها لجلب الهاتف لوالدتها لمهاتفة عمها ليحضر كتب الكتاب، لكنها انتبهت إلى وصول رسالة وسائط. قامت بفتحها، ويا ليتها لم تفعل…

انصدمت من هول ما شاهدت

عقلها الصغير لم يحتمل رؤية تلك المشاهد اللعينة—امرأة شبه عارية، وشخص يقترب منها، يعذبها بوحشية، ينزع حزام بنطاله، ينهال عليها ضtربًا بلا رحمة، وكأنه يتلذذ بتعذyيبها وإيلامها. صراخها لم يهدأ، توسلاتها لم تجدِ نفعًا، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد… بل قام بالاعتtداء عليها بكل عنف وساtدية، حتى انقطع صوتها من شدة الألم والصراخ، وتركها تنزف من كل اتجاه.

لكن الأشد قسوة مما رأته… كان هوية ذلك الجلاد.

 رأت وجهه بوضوح، لم يكن سوى معتز.

شهقت، وارتجفت يداها، وسقط الهاتف من يدها، بينما همست باسمه بنبرة مرتجفة:

“م… م… معتز؟!”

هرعت والدتها إلى غرفتها فور سماعها صوت الارتطام بالأرض، وهتفت بهلع:

“مالك يا بنتي؟! فيكي إيه؟! الحقني يا هيثم، أختك مش بتنطق!”

في المشفى خرج الطبيب، ونظر إليهم بوجه متزن، ثم قال:

“انهيار عصبي، نتيجة تعرضها لضغط نفسي شديد، أو سماعها لشيء صادم. عطيناها حقنة مهدئة، وهتفوق بكرة بإذن الله. أرجو أن تحرصوا على إراحتها، وأبعدوها عن أي شيء يسبب لها التوتر أو الضيق.”

نظر هيثم إلى والدته، ثم قال بتفكير:

“ممكن تكون لما عرفت إن كتب الكتاب قرب، ده اللي خلاها تتوتر… بس كنت فاكر إنها هتفرح، مش هتزعل كده! شكلنا اتسرعنا، كان لازم نديها فرصة تهيئ نفسها، ولا إيه؟”

تحدثت الأم بقلة حيلة:

“ممكن يا بني… وأنا هحاول أفهمها، ربنا يكتب الخير.”

وانصهر الجليد حصري بداخل الصفحة قصص الحياة 

عادت إلى الواقع عندما استمعت إلى صوت أخيها وهو يعتذر عبر الهاتف عن سبب عدم حضورهم، لكن ما جعلها تنتفض هو نطق اسمه من فم هيثم.

تألم قلبها، وكأن جرحها نزف من جديد… كيف تأمن على نفسها مع هذا الساtدي؟ كيف كادت أن تقع في شِراكه؟! أليس الله له حكمة في كل شيء؟! هذه رسالة منه لتحمده أنها لم تسلك ذلك الطريق…

لكنها لم تستطع السيطرة على جسدها عندما سمعت أن معتز سيأتي بعد قليل إلى المنزل.

تملكتها رجفة عنيفة، وقشعريرة سرت في جسدها كله، حاولت أن تلتقط أنفاسها، لكن أنفاسها باتت متلاحقة، وضاق صدرها حتى شعرت أنها تختنق، يعلو ويهبط بشكل غير طبيعي.

أدركت والدتها ذلك، فهتفت بخوف:

“مالك يا بنتي؟! فيكي إيه؟! وقف العربية بسرعة يا هيثم!”

ما إن توقفت السيارة، حتى هرعت الأم إلى الخلف، وجلست بجانبها، احتضنتها بقوة علّها تهدأ، بينما تهمس بحنان وقلق:

“نفسي أعرف إيه حصلك بس يا ربي… كان مستخبي لك فين ده؟!”

شدت عليها أكثر، تربت على ظهرها بحنان، وهمست بحب:  

أهدي أهدي يا قلب أمك دا كله هيروح يا ضنايا… 

خرج معتز بعد إتمام كتب كتاب أخيه، واتجه إلى منزلها للاطمئنان عليها.

طرق الباب، ففتحه له هيثم مرحبًا به، ودعاه للدخول. جلسا سويًا، وبعد لحظات، دلفت إليهما الأم وهي تحمل ملامح متوترة، لكنها حاولت رسم ابتسامة باهتة وهي تقول:

“أهلًا يا بني، اتفضل.”

نظر إليها معتز بلهفة، والخوف يملأ صوته:

“أهلًا يا ماما، طمنوني… مي مالها؟ حصل لها إيه؟ وليه محدش كلمني من امبارح؟!”

حاولت الأم تهدئته، فأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تقول بصوت هادئ، لكنه يحمل بعض الارتباك:

“اهدى يا بني… الواحد مكنش عارف مالها وقتها، ومكنش فينا عقل يفكر، لحد ما نقلناها المستشفى، وباتت هناك الليلة دي بسبب المهدئات اللي أخدتها… ولسه جايين من شوية بس…”

توقفت قليلًا، تقطّعت كلماتها، لم تعتد الكذب، لكنها مضطرة هذه المرة:

“بس هي نايمة دلوقتي.”

تنهدت، ثم أكملت بصوت أكثر هدوءًا:

“إحنا مش فاهمين حاجة لحد دلوقتي… فجأة لقيناها مش بتنطق، والدكتور بلغنا إنها صدمة نفسية أو توتر.”

لكنها كانت تعلم أنها لم تخبره بالحقيقة كاملة…

عادت بذاكرتها إلى ما حدث في السيارة، عندما حاولت تهدئة ابنتها، لكن مي كانت في حالة هستيرية، تبكي وتشهق بصعوبة، وتردد بكلمات مرتجفة:

“لـ… لا… لا… مش عاوزة أشوفه… لا لا… عشان خاطري… مش عاوزاه! خليه يبعد عني! مش عاوزة أشوفه! مش عاوزة…!”

أخذتها والدتها بين أحضانها، وهي تحاول تهدئتها، مؤكدة لها أنها لن ترى أحدًا الآن. في تلك اللحظة، تأكدت أن ما تمر به ابنتها مجرد توتر قبل الزواج. 

أما معتز، فشعر بانقباض غريب داخل قلبه، وكأن هناك أمرًا آخر تخفيه عنه، أمرًا أعمق من مجرد توتر ما قبل الزواج… لماذا لم ترد رؤيته؟ لماذا تحججوا بأنها نائمة؟

نظر إلى هيثم، ثم قال بإصرار:

“يعني مش هقدر حتى أشوفها؟! أنا بس عايز أطمن عليها، ولو حتى أشوفها لدقيقة واحدة!”

كان يتمنى رؤيتها، ولو للحظات… فقط ليطمئن أنها بخير.

لكن هيثم تدخل بسرعة، محاولًا إنهاء النقاش:

“معلش يا معتز، هطلب منك طلب بايخ شوية، بس ممكن نسيبها يومين تهدى كده؟ أنا وماما هنحاول نتكلم معاها ونفهمها، وأعتقد معظم البنات بيجيلهم مخاوف ورهبة قبل الزواج… على ما أعتقد.”

أثار كلامه دهشة معتز، لكنه لم يعلّق. كان يعلم أن هناك شيئًا غير منطقي في الأمر، لكنه لم يكن يملك دليلًا، فاكتفى بالصمت.

تنهد، ثم قال بصوت يحمل بعض التردد:

“طيب… بس أنا محتاج أتكلم معاها برضه، ولا إيه؟”

تدخلت الأم بلطف، محاولة إنهاء الحديث:

“أكيد طبعًا، هيكون ليك دور كبير… بس سيبني أكلمها أنا الأول.”

شعر معتز أنه غير مرحب به في الحديث الآن، لكنه لم يكن أمامه سوى الموافقة، رغم أن قلبه لم يهدأ من ذلك الشعور الغريب الذي بدأ يراوده… أن هناك سرًا ما يُخفى عنه.

ـــــــــــــــــــــــــبقلم شروق مصطفى

بعد يومين، داخل إحدى المستشفيات بالخارج

خلال يومين، قاموا بإجراء فحوصات شاملة وأشعة ومنظار لتحديد مدى انتشار الورم وأي مرحلة قد وصل إليها الآن.

سيلا بملل:

“أنا زهقت، همشي إمتى بقى من هنا؟”

عاصم مبتسمًا لعودته، ناظرًا إلى داخل عينيها:

“إحنا لحقنا، ما بقالهاش إلا يومين بس، ولا إنتِ زهقتي مني بقى؟ ها اعترفي.”

سيلا بلهفة متسرعة:

“لا، أبدًا، أبدًا! إنت اللي مهون عليَّ كل حاجة، أنا من غيرك مكنتش هوصل للي أنا فيه ده، ربنا يبارك لي فيك يا رب.”

عاصم أقترب منها وقبّل وجنتيها التي أصبحت مثل الكرز:

“وإيه كمان؟”

سيلا خفضت رأسها خجلاً، حتى طرق الباب وكان الطبيب يستأذن للدخول.

عاصم بلغة الدولة التي هم بها، تحدث:

“اتفضل.”

عاصم (موجهًا كلامه لها، بنبرة خبث:

“فلتي مني المرة دي بس، ملحوقة لما يخرج.” وغمز لها.

دلف الطبيب بعد السماح له، ومعه نتائج الفحوصات والأشعة والمنظار.

عاصم موجهًا كلامه للطبيب:

“ما الأخبار، أيها الطبيب؟”

الطبيب بأسلوب عملية اعتاد عليها:

“شكل مريضتنا عنيدة جدًا، لقد تأخرت قليلاً عن بدء العلاج الذي كان من الممكن منذ بداية اكتشافه استئصال هذا الورم فقط دون الحاجة لاستئصال أي جزء من أجزاء المعدة؛ لكنها تأخرت كثيرًا…”

الطبيب واصل حديثه:

“الأمر أصبح معقدًا لكن ليس كثيرًا. سنفعل ما يلزم بالتأكيد. الورم انتشر في أجزاء جانبية من المعدة، ويؤسفني أن أبلغكم أن الورم أصبح في المرحلة الثانية. سنضطر لإجراء جراحة لها واستئصال جزء من المعدة وبعض الأنسجة التي بجانب المعدة أيضًا.”

عاصم صامتًا يستمع للطبيب حتى استطرد:

“لكن قبل القيام بالجراحة، سنكثف علاج الكيماوي. وسوف تأخذ أيضًا علاجًا إشعاعيًّا لتقليص حجم الورم. بعد الجراحة، سنستمر في العلاج الكيميائي للقضاء على الخلايا السرطانية التي قد تبقى في الجسم.”

عاصم موجهًا سؤالًا للطبيب:

“كم يستغرق العلاج الإشعاعي والكيماوي قبل الجراحة؟”

الطبيب ردًّا على سؤاله:

“من الأفضل أن تظل بالمشفى حيث الرعاية الكاملة لها لحين الانتهاء من الجراحة وما بعدها. سوف يستغرق الأمر كليًا تقريبًا من ثلاث إلى ستة أشهر على الأقل. وسوف نبدأ اليوم بعد قليل، ستأتي الممرضة لأخذها لأخذ أولى جلسات العلاج الكيميائي.”

ثم تركهم الطبيب وخرج.

سيلا شددت بيدها على كف يداه، تستمد منه بعض القوة والأمان.

عاصم محاولًا تقليل حدة توترها مبتسمًا:

“إيه يا حبيبتي العنيدة، أنا جنبك ومعاك خطوة بخطوة. وهانت، أول ما تعملي الجراحة هتفوقي على طول. ونرجع بلدنا ونعمل فرح ونجيب دستة عيال كمان.”

سيلا بتوتر:

“يعني مش تنفر من شكلي؟ يعني لما شعري يوقع من كثرة الكيماوي.”

ونظرت بحزن للأسفل، وأبقت رأسها منخفضًا.

“وأبقى…”

عاصم لم يمهلها وقتًا لتكمل كلامها، فجذبها إلى داخل أحضانه ويداه تمسد رأسها:

“هش، ما تكمليش، إنتي في عيوني أجمل وردة شافتها عيني. وبعدين الجمال مش بالشكل ولا بالشعر. حتى لو من غير شعر، أنا بعشقك، فاهمة؟ يا سيلا العنيدة. دي فترة وكل حاجة هترجع زي الأول، ولا مش واثقة فيا؟”

اختبأت بداخله، تهرب من نظراته لها.

بعد قليل، حضرت الممرضة وأخذت سيلا لجلسة العلاج.

عاصم استغل هذا الوقت وخرج لمتابعة ما جاء بباله، وكان قد قرر أن يذهب إلى الحديقة قليلاً للهدوء والتفكير.

……… 

ذهبا وليد وهمسة لأداء مناسك العمرة بقلوب طاهرة، وكان كل منهما ينوي أداء العمرة لوالديهما أيضًا. همسة كانت قلقة، فقالت لوليد:

“أنا خايفة على سيلا أوي يا وليد، خايفة ما شوفهاش تاني.”

وليد حاول طمأنتها:

“سيلا قوية وإن شاء الله هتعدي، ادعي لها أنتي بس.”

بقلم شروق مصطفى

أمسكت الممرضة بيد سيلا وساعدتها في العودة إلى غرفتها. أصبحت تلك الغرفة ملاذها الوحيد، حيث كان الفراش في وسط الغرفة مع فراش آخر بجواره، اختار عاصم أن يكون قريبًا منها حتى لا يفترقا. كانت هناك أريكة بجانب النافذة وطاولة صغيرة أمامها، بالإضافة إلى ثلاجة ودولاب، وشاشة تلفزيون كبيرة معلقة على الحائط.

دخلت الممرضة، ممسكةً بيد سيلا التي كانت حالتها مزرية، لكنها تفاجأت به وهو….؟ 

ــــــــــــــ

أطلقت ضحكة عالية بعد أن شاهدت الفيديو الذي أرسله، ثم قال حسام بخبث:

“امممم، عادي يعني، ممكن ما تصدقش برضه، ويكون فيك.”

أجابته سوزي بابتسامة متكلفة:

“عارفة طبعًا، بس الأكيد إنها بنت وخفيفة، ما تعرفش عن حركاته الديرتي، وزرعت فيها شوية شكوك ولو صغيرين، وتخاف من قربه ده لو وافقت تكمل معاه من الأساس. دي مجرد البداية، التقيل لسه جاي.

حسام ضرب كفه على الأخرى وقال:

“لاعيبة، بس إنتِ جبتي رقمها منين؟”

ابتسمت سوزي بابتسامة ملتوية وقالت:

“دي حتة بنت صغيرة، لا راحت ولا جت، سهل أجيب رقمها، إحنا الستات نقدر نجيب اللي جوه بطن الحوت، ما تستهونش بحوا أنت بس.”

قهقه حسام بمكر وقال:

“أحبك يا حواء، أن كيدهن عظيم، طيب ما تيجي تعلميني الكيد بتاعكم كدة؟”

أطلقت ضحكة عالية، ثم جذبت يده نحوها، متجاهلة كل شيء حولهم، مستمتعين بما حرم الله، لكن الله مطلع عليهما، وسيفرض عقابهما في الوقت الذي يراه مناسبًا.

يتبع بقلم شروق مصطفى

الثامن وانصهر الجليد بقلم شروق مصطفى

نظرات عيونهما كانت كفيلة بأن تسحبهما بعيدًا إلى أرض خصبة، الحب تجسد أمامهما، رفعهما معًا، لا يدرون في أي سماء يحلقون، ولا بأي أرض يسيرون. وقتها، سقطت جميع الألسنة، وتحدثت الأعين.

عندما دلفت مع الممرضة إلى غرفتها، تسمرت مكانها ولم تتحرك خطوة. تفاجأت بالماثل أمامها، حثتها الممرضة على التقدم، لكن المفاجأة ألجمت لسانها، وشلت تفكيرها، ولم تقوَ على التحرك.

تقدم عاصم إليها ممسكًا بيدها، وأمر الممرضة بنظرة منه بالانصراف بهدوء، فتركتهما، وأمسك هو يديها، فتحركت معه آليًا إلى فراشها، ولم تحِد نظراتها عن عينيه. هطلت دمعاتها متفاجئة بما فعل!

وأخيرًا، خرج صوتها يكاد يُسمع من شدة اختناق دمعاتها، وكان سؤالها مصحوبًا بدهشة:

— “أنت عملت كل ده عشاني؟ طيب ليه كده؟”

ابتسم لها بعشق، وأجلسها على الفراش، وجلس بجانبها، ولم يحِد نظره عنها. أمسك وجنتيها بحنوّ بكفيه، متنفسًا بعمق، ثم قال بصوت دافئ:

— “أول ما عرفت إني بحبك، الإحساس اللي حسيته وقتها كان أكبر من إني أفهمه أو أستوعبه. أنا وأنتِ كيان واحد، وروح واحدة.”

جذبها داخل أحضانه، فهو يعتبرها صغيرته التي يخشى ضياعها. جذبها وهو يعلم أنها بحاجة لمثل هذا الحضن الدافئ، مثله تمامًا؛ يحتاجه ليشعر بطعم الحضن الذي حُرم منه، ليشعر بدفئه مع من اختاره قلبه.

أخذت يداه بحركة رتيبة يربت على رأسها هامسًا:

— “اللي صابك ده صابني، واللي وجعك وجعني بجد. أنا ممكن مقدرش أوصف لك اللي أنا حاسه أو أعبّر عنه، لكن اللي أقدر أقوله… أنتِ كل حاجة بالنسبالي.”

حمدت الله أنها كانت مختبئة داخله، تحتمي بدفء حضنه. ابتسامتها التي لمعت على وجهها أضاءته برغم شحوبه، كانت عاجزة عن وصف إحساسها، وعجز اللسان عن النطق بالكلمات.

تعطّلت لغة الكلام، وتبدّلت بلغة أخرى… لغة العيون.

تملصت من بين أحضانه وخرجت لمواجهته، التمعت عيناها ببريق غريب… مزيج من حب، ولهفة، وعشق، وقوة. نعم، تعترف الآن… هو قوتها بعد استسلامها وضعفها. لا تدري كيف لم تفهم ذلك من قبل، وكيف أضاعت كل الفرص بجانبه. تلوم حالها على عنادها المستمر له في السابق، وعلى كل لحظة لم تكن فيها بجانبه كما يستحق.

بقلم شروق مصطفى

لم تتوقع فعلته أبدًا… حلق شعره بالكامل فقط لدعمها، ليسبقها بخطوة، فقط ليرفع عنها أي شعور بالحرج والخجل. كل هذا رأته في نظرات عينيه.

تناست التعب وآلام الجلسة، غابت عمّن حولها، فقدت كل تركيزها في عينيه. لأول مرة، عيناه تسحرها لعالم آخر.

وأخيرًا، خرج صوتها، لم تدرِ كيف تصف له إحساسها، لم تجد الكلمات التي تعبّر عما بداخلها. هي فقط تريد أن تختبئ داخله، أن تتلاشى في وجوده. نظراتها فضحتها، تحدّثت بصوت مرتجف، وترددت:

— “أنا… أنتَ…”

لكنه منعها عن الكلام، وضع يده أمام شفتيها، لا يريد سماع شيء. يكفيه نظرتها التي كانت كفيلة بكل الكلام…

تاه داخل عيونها، وعلم ما يجيش داخلها، فجوابها قد وصل إليه من لمعان عينيها، ومن نظراتها، ومن دفء أنفاسها.

منع شفتيها قبل أن تنطق، هامسًا:

— “هششش… مش عاوزك تقولي حاجة. أنا حاسس بيكي من غير كلام، حسيت بيكي هنا.”

وأشار إلى موضع نبض قلبها، ثم أكمل بصوت دافئ:

— “حسيت بدقاته… وشوفت في عيونك كل حاجة.”

وجهت أنظارها إليه ممتنة، فقد شعرت بالكثير من الأحاسيس في داخلها، لكنها لم تحسن إخراجها بالكلمات، فصمتت.

تفهم موقفها، لكنه في تلك اللحظة لم يستطع مقاومة رغبته في تذوق شفتيها، فاقترب أكثر، وأخذها في قبلة طويلة، يبث فيها مدى عشقه لها. لم يبتعد عنها إلا عندما أحس باحتياجها لبعض الهواء، ثم أسند جبينه على جبينها مبتسمًا.

اكتسى وجهها بحمرة الخجل، فخبأت رأسها داخل صدره، تتمسح به كالقطة الصغيرة. ابتسم لفعلتها، وربّت على رأسها بحنان، ثم همس في أذنها:

— “ماشي… اتكسفي دلوقتي، بس بعد كده مفيش هروب مني تاني. خدي وقتك، بس متاخديش على كده، هسيبك ترتاحي… عايزة أجيب لك حاجة من بره؟”

انتظر ردها، لكنه اندهش عندما أحس بانتظام أنفاسها. نظر إليها وابتسم بحنان، ثم تمتم بصوت خافت:

— “نفسي أعرف، كل ما أحضنك تنامي على طول… إيه السر؟”

رفع يده من خلف ظهرها، ودثرها جيدًا بالغطاء، ثم خرج بهدوء كي لا يوقظها. وقف للحظة بجوار الباب، وأخرج هاتفه لإجراء مكالمة للاطمئنان على أخيه. لكنه فجأة، تفاجأ بالماثل أمامه و…؟

ـــــــــــــــــ

كثرت الحواجز، لكن هذا الأخير كُسر، وهُدم ما تبقى بينهما!

منذُ أول لقاء، لم يكونا على وفاق، كان بينهما جدارٌ عالٍ من الصدام، والآن… سقط تمامًا.

جميعنا لسنا ملائكة، ومن الطبيعي أن نقع في الأخطاء، فهذا طبع البشر، لكن ماذا يحدث لو سقط الإنسان من عين المرأة؟ هل يمكنه استعادة ثقتها مرة أخرى؟ أم أن الوقت قد فات؟

تنهدت مي، فمشاعرها لا تزال متخبطة. كيف لها أن تثق به بعد الآن؟ نعم، لقد صارحها منذ البداية بأنه ليس بملاك، وأنه وقع في الكثير من الأخطاء، وارتكب بعض الذنوب، لكنه ندم على ذلك. حينها، شعرت بصدق كلماته ووافقت على مساعدته للتقرب إلى الله. لكنها الآن تتساءل: كيف أتعامل معه وكأن شيئًا لم يكن؟ كيف أنظر إليه؟

عقلها لم يستوعب بعد ما رأته بعينيها. لم تخبر أحدًا بما اكتشفته، لكنها تدرك أن مجرد الحديث عنه صعب. ماذا تقول؟ إنه أغضب الله ووقع في الكبائر؟ أم تتحدث عن قسوته وعنفه؟

العقل والقلب يخوضان صراعًا مريرًا. عقلها يرفض رفضًا قاطعًا أن تكمل طريقها معه، فهو طريق مليء بالمطبات، بينما قلبها يريد أن تمنحه فرصة أخرى، ربما تكون هي اليد التي تنتشله من الظلام كما وعدته.

لكن عقلها يتمرد… مجرد ذكر اسمه يجعلها ترتجف رهبة ونفورًا.

تنهدت بيأس ووجع داخلي، شاردة في اللا شيء، بينما دموعها تنهمر على وجنتيها.

— “يا رب، أعمل إيه؟ يا رب، خليك جانبي وساعدني، أنا بجد مش قادرة أخد قرار. يا رب، لو فيه الخير يسّره لي، ولو فيه شر أبعده عني. يا رب، لو فعلًا هو ندم على اللي عمله، ولو في إيدي أساعده، مش هتردد، لكن جوايا موجوع… اتكسرت، مش قادرة أبص في عينيه. مكنتش متخيلة إن الراجل اللي كنت بتمناه، اللي كنت شايفاه أماني، يكون كده… يكون عنيف وقاسي بالشكل ده.”

كانت تحدث نفسها، تشكو حالها إلى الله، فما أجمل أن تشكو إليه وأنت على يقين بأنه يسمعك.

تذكرت ذلك اليوم، عندما رأته أمام منزلها، ينظر إليها بنظرات شيطانية. لو كانت النظرات تحرق، لاحترقت من شدتها. يومها، هربت منه إلى شقتها، ولم تشعر بالأمان نحوه منذ ذلك الحين.

قاطع أفكارها صوت طرق على باب غرفتها، ثم جاء صوت شقيقها هيثم يسأل بلطف:

— “مي، إنتِ صاحية؟ عايز أتكلم معاكي شوية.”

مسحت بسرعة آثار دموعها، لكنها لم تستطع إخفاء انتفاخ عينيها، ثم ردّت بتوتر:

— “آه… آه، صاحية. ادخل يا هيثم.”

دلف هيثم إلى الغرفة بابتسامة دافئة، وجلس بجانبها.

— “ميوش، حبيبتي، عاملة إيه؟ بقالك يومين حابسة نفسك هنا، وحشتيني ووحشني هزارك الرخم جدًا.”

أراد إخراجها من حالة الحزن التي وجدها عليها، لكنها نظرت إليه بحدة:

— “ما تقوليش الاسم ده، أنت عارف إني مش بحبه!”

قهقه ضاحكًا، وكان قاصدًا استفزازها:

— “خلاص، خلاص، هتضربيني ولا إيه؟ طيب، يا ميوي… حلو كده؟”

رسمت ابتسامة رقيقة على شفتيها، وردّت بهدوء:

— “آه، حلو كده.”

لكن سرعان ما عاد الصمت من جديد، هاربة من نظراته التي كشفت حالها.

— “مالك يا حبيبتي؟ إنتِ متغيرة، ومش عاجباني. فجأة كده.”

توقف لبرهة، ثم تابع بجدية:

— “قوليلي، إيه اللي مضايقك؟ إحنا مش أصحاب ولا إيه؟ مش كنا متفقين إننا مش بنخبي حاجة عن بعض؟”

صمت هيثم قليلًا، ثم أكمل بلهجة مرحة ليخفف الأجواء:

— “أنا عارف إني قصّرت معاكي الفترة اللي فاتت، بس ده بسبب بنت خالتك يا ستي! مش سايباني لحظة، بنحضر في شقتنا… عقبالك يا مِدوّخة الراجل معاكي!”

ثم عاد إلى الجدية، ونظر إليها بتمعن:

— “طمنيني بجد… معتز صدر منه شيء ضايقك؟ لو مش مرتاحة، قوليلي.”

ردّت بإجابة مختصرة، لا تريد أن تشوّه صورته أمامهم أو تعقّد الأمور أكثر:

— “صدقني، مفيش… شوية إرهاق وضغط مش أكتر.”

رغم إجابتها المقتضبة، إلا أنه شعر بأنها تخفي شيئًا، لكنه لم يرد الضغط عليها. تنهد، ثم قال:

— “عموماً، أنا اتكلمت مع معتز، وأجلنا كتب الكتاب ليكون مع يوم الفرح، عشان تاخدي وقتك براحتك وما نبقاش استعجلنا كمان… إيه رأيك؟”

أجابت بصوت خافت، كأنها بالكاد نطقت الكلمات:

— “اللي تشوفه…”

لم يُفاجأ هيثم ببرود ردّها، لكنه لم يعلّق. وبعد لحظات، هتف إليها:

— “طيب يا ستي، ابقي كلميه… لأنه قلقان عليكي أوي، وتليفونك مقفول بقاله يومين! بيكلمني من تليفوني عشان يطمن عليكي. وعزمته على الغداء النهارده، عاوز يشوفك ويتكلم معاكي!”

شهقت بغير وعي، واتسعت عيناها برهبة عند سماع اسمه! تمالكت نفسها أمامه، لكنها في داخلها شعرت أن كيانها كله قد اهتز. لم تكن مستعدة لمواجهته الآن… ليس بهذه السرعة!

— “ج… جاي النهارده؟! ليه؟ لا، بلاش يجي!”

انتبهت إلى نفسها، فحاولت تصحيح كلامها بسرعة، لكنها زادت الطين بلّة بتوترها الواضح:

— “أقصد… جاي إمتى؟”

نظر إليها هيثم بتمعن. تأكد من شكوكه بأن هناك خطبًا ما، لكنه لم يرد إجبارها على الاعتراف، وفضّل أن تبوح من تلقاء نفسها. فأجاب بهدوء:

— “على الغداء… يلا، هقوم أنزل أجيب حاجات لماما طلبتها مني.”

نهض متجهًا نحو الباب، لكنه قبل أن يخرج، استدار نحوها بابتسامة خفيفة، وناداها بلطف:

— “مي!”

رفعت رأسها نحوه محاولةً الحفاظ على هدوئها، فهزّت رأسها كإشارة له أن يتكلم. عندها، قال بصوت حنون لكن جاد:

— “عاوزك تصلي صلاة استخارة لمدة ثلاث أيام بعد ما تقعدي معاه النهارده. أياً كان السبب اللي مضايقك… سواء زواجك من معتز أو أي سبب تاني، وتأكدي… لو جيتي وقلتيلي إنك مش مرتاحة، أنا هُنهي كل شيء!”

لم ينتظر ردّها، بل خرج وأغلق الباب خلفه، تاركًا إياها في دوامة من الأفكار والمشاعر المتضاربة.

نظرت إلى أثره بعد خروجه، وقلبها يعلو ويهبط من شدّة التوتر منذ أن سمعت بمجيء معتز اليوم… كيف ستواجهه؟!

داخل غرفتها، كانت مي لا تزال تفكر في حيلة لتجنب رؤيته اليوم. لم تكن مستعدة لمواجهته، لم تكن مستعدة لسماع صوته، أو رؤية عينيه اللتين طالما نظرتا إليها بحب، لكنها الآن تخشى أن ترى فيهما شيئًا آخر… شيئًا قد يؤلمها أكثر.

قطع شرودها دخول والدتها، التي رمقتها بنظرة ضيق وقالت باستنكار:

— “إنتي لسه ما لبستيش يا بنتي؟! مش أخوكي قالك إن خطيبك جاي؟ قومي يلا، الراجل بره، البسي حاجة واطلعي سلّمي عليه. أخوكي قاعد معاه، وبعدين تعالي ساعديني في المطبخ!”

حاولت مي التظاهر بالتعب، علّها تفلت من هذه المواجهة:

 “ماما، أنا حاسة إني تعبانة أوي بجد… مش هقدر أطلع و—

في مكان آخر، خرج عاصم من الغرفة، لكنه تفاجأ برؤية الطبيب المسؤول عن حالة سيلا يمر لمتابعة بعض الحالات الأخرى. توقف الطبيب عند رؤيته، وحدّق في رأسه المحلوق بدهشة، قبل أن يبتسم ويقول مازحًا:

— “ما هذا؟!”

أشار الطبيب إلى رأس عاصم، ثم أكمل بإعجاب واضح:

— “أوه، يا إلهي! لم أرَ مثل هذا من قبل… أنت أفضل مثال للحب! أهنئ المدام بوجود شخص مثلك في حياتها، يدعمها بهذا الشكل!”

ارتسمت على وجه عاصم ابتسامة خفيفة، وهو يرد باقتضاب:

— “أشكرك جزيلًا.”

أومأ الطبيب بإعجاب، ثم قال بجدية:

— “هذه لفتة رائعة منك، وستساعدها كثيرًا في المرحلة القادمة. الدعم النفسي مهم جدًا في مرحلة العلاج.”

خطر في بال عاصم سؤال، فسأله بقلق:

— “ومتى تبدأ الأعراض الجانبية السلبية للعلاج الكيميائي؟ غير تساقط الشعر؟”

أجابه الطبيب بحكمة:

— “الأعراض السلبية للعلاج الكيميائي لا تقتصر على تساقط شعر الرأس فقط، بل تشمل الإرهاق الشديد، الغثيان، فقدان الشهية، انخفاض الوزن، فقر الدم، وأحيانًا التأثير على الجهاز المناعي. يبدأ ظهور هذه الأعراض عادة بعد أربعة إلى ستة أسابيع من بدء العلاج. كما أن تساقط الشعر لا يقتصر على الرأس، بل يشمل الحواجب، الرموش، وحتى شعر الجسم كله.”

شعر عاصم بانقباض في قلبه، لكنه تماسَك، ونظر للطبيب بإصرار قائلاً:

— “سأدعمها بالتأكيد.”

ابتسم الطبيب بإعجاب، ثم ودّعه ليكمل جولته. أما عاصم، فشعر برغبة ملحة في مهاتفة أخيه… هناك شعور قوي يضغط على صدره، إحساس غريب بأن شيئًا ما قد حدث… وأن قلبه لن يهدأ حتى يطمئن بنفسه.

بينما كان معتز يقف أمام نافذته، كان قلبه مشغولًا بها. لا يستطيع أن يوقف تفكيره عنها، عن ما حدث بينهما، وعن صمتها الغريب الذي لم يستطع تفسيره. عندما رن هاتفه، كان صوت عاصم على الطرف الآخر، محاولًا الاطمئنان عليه.

— “حبيبي، عامل إيه؟”

أجاب معتز بصوت متعب:

— “الحمد لله، أنتم عاملين إيه؟”

سارع عاصم بالسؤال عن حالته عندما شعر بالحزن في نبرته:

— “إحنا الحمد لله، كله تمام. بس صوتك ماله؟ طمني عليك، أنت كويس؟”

تنهد معتز بصوت حار:

— “الحمد لله، متقلقش، كله زي الفل.”

لكن عاصم لم يرتح لهذا الرد وأخذ يسأله عن مي:

— “اعذرني، قصرت معاك الأيام اللي فاتت، بس طمني عن أخبارك أنت ومي، حصل إيه؟”

صمت معتز قليلًا، ثم قال بحيرة:

— “والله مش فاهم، مش عارف إيه اللي حصل.”

عاصم بشك:

— “غريب! فجأة كده؟ طيب، حاولت تفهم منها إيه السبب؟ على ما أفتكر، هي كانت كويسة قبلها بيوم. حصل إيه فجأة؟”

معتز شعر بالحيرة أكثر ولكنه حاول نفي أي سوء فهم:

— “أبداً والله، ما عملتش حاجة.”

عاصم وهو يفكر بعمق:

— “مممم، يبقى لازم تفهم منها، وتتكلم معاها بهدوء، فاهم؟ بلاش العصبية بتاعتك.”

معتز وافق على نصيحته، ثم قال عاصم:

— “تمام، هكلمك تاني أطمن على إيه اللي حصل، ومتنسيش تتكلم بهدوء. يلا سلام.”

بعد المكالمة، خرج معتز من مكتبه وهو يفكر في كل ما قاله عاصم. فكر أنه يجب أن يعالج الأمر بهدوء، وأخذ قراره بزيارة مي.

بعد أن أنهى مكالمته مع عاصم، خرج معتز من شركته وهو يحمل باقة من الزهور في يده، متوجهًا إلى منزل مي. كانت عزيمته قوية، فهو يرغب في إصلاح الأمور بينهما، ويأمل أن تعود المياه إلى مجاريها بعد الخلافات التي نشبت.

عندما وصل إلى المنزل، استقبله هيثم بابتسامة، ورحب به بشكل جيد، مما جعل معتز يشعر بشيء من الاطمئنان، على الأقل من جانب العائلة. جلس مع هيثم لفترة قصيرة، في محاولة لتحضير نفسه لملاقاة مي. لكن، عندما دخلت الأم، كانت تعابير وجهها غير مطمئنة، وكأنها تحمل همًا عميقًا في قلبها.

فجأة، نادت الأم على هيثم ليذهب معها، وكان هناك شيء غريب في نبرتها، جعل معتز يشعر بشيء من القلق. استأذن هيثم من معتز وقام ليذهب مع والدته، تاركًا إياه وحده في الغرفة.

نظر معتز إلى الباب الذي أغلقه هيثم خلفه، وهو يشعر بشيء غير مريح في صدره. كان هناك شيء في الجو، شيء غير عادي، يزداد غموضًا مع كل لحظة. وبدأ يفكر، هل سيواجه ما كان يخشاه؟ 

يتبع بقلم شروق مصطفى

الفصل التاسع وانصهر الجليد

بنفاد صبر، قالت والدتها:

“لا بقا، أنا هجيبلك أخوكي أحسن يتصرف معاكي.” ثم تركتها وخرجت من غرفتها.

لم تمضِ سوى لحظات حتى دلف أخوها إلى الغرفة، فوجدها جالسة على سريرها بثياب المنزل كما هي. انتبهت لحضوره، فاعتدلت في جلستها، بينما اقترب منها بهدوء، وقال بنبرة حانية:

“ممكن أعرف ليه مش عاوزة تخرجي؟ أنا اتفاجأت بماما بتقولي إنك تعبانة… حاسة بإيه؟”

صمت قليلًا، يراقب تعابير وجهها التي لم توحِ بأي إجابة صريحة، بل بدت وكأنها تمثل الدور. أدرك ذلك في قرارة نفسه، فتابع حديثه بنبرة جادة:

“بصي يا مي، أنا حاسس إن في مشكلة بينكم، والمشكلة دي لازم تتحل. أي خلاف يحصل بينكم، الحل مش بالهروب، لازم تتواجهوا وتتناقشوا. أنتم هتفتحوا بيت، يعني حياة جديدة فيها مشاركة، ومينفعش كل ما يحصل حاجة تهربي. أياً كانت المشكلة، لازم تتحل.”

لم تعقّب، وظلت صامتة، فقط رسمت على وجهها ابتسامة باهتة لم تصل إلى عينيها. لاحظ ذلك، لكنه لم يتوقف، بل أكمل حديثه بإصرار:

“ومتنسيش تعملي اللي قلتلك عليه برضه! أنا حاسس إنك مضايقة من حاجة، فاطلعي معايا وكلميه، قولي له كل اللي مضايقك. الكتمان غلط، بيعمل تراكمات، والتراكمات دي بتوصل لمرحلة الجفاء. فاهماني يا مي؟ أياً كان اللي جواكي، طلّعيه وتكلمي. ولو اتكلمتي وحسيتي إنك مرتحتيش، أنا في ظهرك، متقلقيش من أي حاجة. يلا، قومي البسي حاجة عشان تطلعي تسلمي عليه، وبعد الغداء هسيبكم تتكلموا شويه. يلا يلا.”

ثم دفعها برفق لتنهض، قبل أن يغادر الغرفة.

نظرت إلى الباب بعدما أغلقه خلفه، ثم ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، مليئة بالامتنان. شعرت بالطمأنينة، فقد أدركت أن أي قرار ستتخذه ستجد من يقف إلى جانبها ويدعمها. نهضت أخيرًا، وبدأت في ارتداء شيء مناسب استعدادًا للخروج.

خرجت من غرفتها، فوجدته جالسًا في انتظارها، وما إن رآها حتى وقف فجأة، كأنما كان يترقب قدومها بكل شوق. ارتسمت على وجهه ابتسامة دافئة زينت ثغره، وهو يتأمل طلتها الرقيقة، بحجابها الذي زُيّن رأسها وثيابها التي أصبحت تتناسب معه، مما زادها وقارًا وأناقة.

تقدمت إلى غرفة الصالون حيث كان يجلس، وألقت عليه التحية بصوت خافت قبل أن تتخذ مقعدًا بعيدًا عنه، دون أن تنظر إليه. ظل هو واقفًا، يملؤه الاشتياق، لكن سرعان ما تبدلت مشاعره إلى حيرة وألم عندما لاحظ جفاءها الظاهر، وابتعادها عنه كأنها تضع بينهما مسافة كافية للهروب. شعر بانقباض في صدره، وجلس في صمت، يراقبها بأمل أن تلتقي نظراتهما، لكن خاب ظنه، إذ لم تحاول حتى أن ترفع عينيها نحوه.

أما هي، فلم تكن ترغب في رؤيته الآن، إذ كان قلبها ما زال ينزف ألمًا، والوجع يتغلغل في أعماقها.

ساد بينهما صمت ثقيل، لم يقطعه سوى صوت والدتها وهي تناديها لتساعدها في تحضير السفرة.

التف الجميع حول مائدة الطعام، وجلست مي مقابله، مما زاد من إحساسه بالضيق، إذ راح يراقبها بصمت، يلاحظ شرودها الدائم، ومحاولاتها المتكررة لتفادي النظر إليه، حتى لو صُدفةً. كانت تغرق في عالم آخر، تقلب الطعام في طبقها دون اهتمام، بينما تحاول أن تشغل نفسها بأي شيء عدا مواجهته.

شعر بأن هناك شيئًا غير طبيعي، شيء يجعل قلبه ينقبض بقلق. لم يكن يعرف سببه، لكنه كان متأكدًا من أنه متعلق بها، بنظراتها الهاربة، وبالهالة الغامضة التي تحيط بها. لم يكن وحده من لاحظ ذلك، بل حتى أخوها ظل يراقبها بريبة، بينما كانت والدتها تحاول كسر الأجواء الثقيلة بالحديث المستمر والترحاب الزائد بمعتز.

قطعت والدتها الصمت بتوجيه حديثها له بمرح:

“انت مكسوف ولا إيه؟ ولا الأكل مش عجبك؟ أنا كده هزعل، انت ما كلتش حاجة! ينفع كده؟”

أفاق من شروده، ثم همهم سريعًا وهو يحاول استجماع نفسه:

“أحم… لا، أبدًا، الأكل جميل جدًا يا ماما، تسلم إيدِك بجد.”

ضحكت والدتها، ثم تابعت بمزاحها المعتاد:

“أمال إيه؟ مش شايفاك بتاكل! تقول علينا بخلاء ولا إيه؟”

حاول أن يرسم ابتسامة مجاملة، لكن عيناه كانتا تتعلقان بمي الجالسة أمامه، والتي لم ترفع رأسها نحوه حتى لمحة، كأنها تتعمد إخفاء وجوده. زادت حيرته، وتساءل في داخله عن السبب وراء هذا التجاهل الواضح، لكن لم يكن أمامه سوى أن يساير الحديث ويمثل أنه يأكل، لعلّ الغداء ينتهي سريعًا ليتمكن من الجلوس معها وفهم ما يحدث.

وأخيرًا، انتهت المائدة، فنهضت مي وبدأت في جمع الأطباق، لكن صوت أخيها هيثم استوقفها وهو يقول وهو يدخل غرفة الصالون مجددًا:

“مي، اعمليلنا اثنين شاي من إيدِك، إحنا قاعدين هنا.”

أجابته بفتور:

“حاضر.”

كانت تستعد لجمع بقية السفرة عندما أوقفتها والدتها بلطف:

“سيبي دي، أنا هلمهم، روحي انتي اعملي الشاي.”

لم تجد مهربًا، فأجابت باستسلام:

“حاضر.”

بعد قليل، عادت تحمل صينية الشاي، تقدمت بها إليهم، وما إن وضعتها حتى نهض هيثم وأخذ كوبه، ثم قال بابتسامة خفيفة وهو ينسحب للخارج:

“طيب، أنا هسيبكم تتكلموا شوية مع بعض، هعمل مكالمة في البلكونة اللي قدامكم.”

ثم غادر، تاركًا لهما مساحة للحوار، لكنه لم يغب تمامًا، بل وقف عند باب الشرفة يراقبهما عن قرب، متظاهرًا بالانشغال بمكالمته الهاتفية.

كان الوقت قد حان لمواجهة لا مفر منها.

جلست على المقعد المجاور له، لكنها أبقت رأسها منخفضًا، تهرب من نظراته الثاقبة التي تكاد تخترق روحها. كانت تفرك يديها في توتر واضح، مشاعر الخوف تجتاحها، ليس خوفًا عادياً، بل رهبة حقيقية منه. لم تعد تشعر بالأمان، بل باتت تهابه بشدة، تخشى أن يفعل معها ما رأته منه، تلك الأفعال العنيفة السادية التي لم تكن تتخيلها يومًا. لم تستوعب حتى اللحظة ما رأته بأم عينها، وكأن معتز الذي عرفته قد اختفى، وسقط تمامًا من نظرها. لم تجد ما يقال، لم تجد حتى الكلمات، فقط شعرت بأن كل شيء داخليًا قد مات، وكل ما تريده الآن هو إنهاء هذه المسرحية العبثية بأي شكل.

طال صمتها أكثر مما يحتمل، فبادر هو بالكلام، بنبرة رخيمة وهادئة، تحمل قلقًا واضحًا:

“مالك يا مي؟ فيكِ إيه؟ وليه بتهربي مني كده؟”

انتظر منها ردًا، لكنه لم يأتِ. تنهد، ثم أكمل محاولًا الوصول إليها:

“حاسس إن فيكِ حاجة متغيرة… ممكن تبصي لي طيب؟”

لكنها لم تفعل، ظلت صامتة، متماسكة بأقصى ما لديها، غير قادرة حتى على منحه نظرة واحدة.

مرر يده في شعره بانزعاج، ثم قال بنبرة أكثر رجاءً:

“مي، سكوتك بيعذبني بجد! إحنا المفروض كان يكون كتب كتابنا من يومين، ليه مصرة ترجّعينا لنقطة الصفر؟ إيه اللي حصل فجأة وخلاكي تنهاري؟ طيب، لو أنا عملت حاجة ضايقتك أو زعلتك، أرجوكِ فهميني! أنا حاسس إنك حزينة، وقلبــ…”

توقّف فجأة حين رأى نظرة عينيها وهي ترفع رأسها إليه أخيرًا. لم تكن نظرة حب، لم تكن حتى نظرة عتاب، بل كانت نظرة خذلان عميق، غريبة، حادة، وكأنها تراه الآن لأول مرة.

جاء صوتها مختنقًا، بالكاد يُسمع، لكنه كان مشحونًا بمرارة موجعة:

“قلبك!”

قالتها بدهشة ساخرة، ثم تابعت بصوت متماسك بالكاد، تحاول ألا تنهار أمامه:

“هو اللي زيك له قلب أصلاً؟”

تجمد في مكانه، ينظر إليها بذهول، وكأن كلماتها كانت صفعة غير متوقعة. حاول استيعاب معناها، لكنه لم يفهم، فردّ بحيرة ممتزجة بالانزعاج:

“مش فاهم… برده، إيه اللي صدر مني ويخليكي تكلّمني بالطريقة دي؟ فهميني!”

لكنها لم تجبه، فقط عادت إلى صمتها، إلى نظراتها التي ترفض مواجهته. بدأ نفاد صبره يزداد، فتكلم بحدّة واضحة:

“انطقي! اتكلمي! قولي في إيه؟ مالك؟!”

كان الحديث أصعب من أن يُقال، كانت الكلمات تحترق في حلقها قبل أن تخرج. لم تكن ترغب في أن تصل الأمور إلى هذه النقطة، لكن لم يعد هناك مفر.

بيدين مرتجفتين، أخرجت هاتفها وألقته أمامه دون كلمة.

نظر إليها بدهشة، ثم التقط الهاتف ونظر إلى شاشته. للحظة، لم يظهر أي تعبير على وجهه، لكن سرعان ما تغير كل شيء. احتدت نظراته فجأة، تطاير منها غضب قاتم، وكأن حربًا على وشك أن تندلع في المكان.

… .

وقف عاصم خارج الغرفة، يراقب الطبيب ومساعديه وهم يفحصون سيلا. كان صدره يعلو ويهبط بسرعة، وكأن أنفاسه تتسابق مع دقات قلبه التي لم تهدأ منذ أن وجدها ممدة على الأرض بلا حراك.

مرّت الثواني وكأنها دهر، وعيناه معلقتان بها من خلف الزجاج، يتابع كل حركة للطبيب، وكل نظرة يتبادلها مع مساعديه. رفع الطبيب رأسه أخيرًا، واتجه نحو الباب بخطوات هادئة، لكن وقعها في أذن عاصم كان كقرع طبول الحرب.

انتصب عاصم واقفًا فور خروج الطبيب، وعيناه تبحثان في ملامحه عن أي بصيص أمل. لكنه لم ينتظر أن يتحدث الطبيب، بل عاجله بصوت مختنق:

— طمني، هي كويسة؟

توقف الطبيب لوهلة، ثم قال بنبرة مهنية هادئة:

— فقدت وعيها بسبب هبوط حاد في ضغط الدم، ويبدو أنها لم تأكل شيئًا منذ فترة. النزيف من أنفها نتيجة السقوط، لكن لا يوجد كسر، فقط ارتطام قوي.

زفر عاصم بارتياح نسبي، لكنه لم يستطع كبح غضبه من نفسه ومن إهمالها لحالتها. نظر للطبيب بقلق وسأل:

— طيب، هي هتفوق إمتى؟

— قريبًا، أعطيناها محلولًا وستستعيد وعيها خلال وقت قصير. لكن عليك أن تحرص على أن تتغذى جيدًا وتأخذ قسطًا كافيًا من الراحة.

أومأ عاصم بصمت، ثم التفت نحو الغرفة، وعيناه لم تفارقا وجهها الشاحب. كانت ملامحها هادئة، وكأنها نائمة بسلام، لكن قلبه كان يعصف بالقلق.

دلف إلى الداخل بخطوات بطيئة، وجلس بجانبها، ممسكًا بيدها برفق، وكأنه يخشى أن تختفي من بين يديه. تمتم بصوت خافت يكاد لا يُسمع:

— مش هسمحلك تهملي في نفسك تاني، فاهمة؟

ـــــــــــــــــــــــــــ

قبض على الهاتف بشدة حتى برزت عروق يده، وابيضت من شدة اختناقه، ثم أرجع رأسه للخلف ناظرًا إلى أعلى، مغمضًا عينيه، مقهقهًا بسخرية:

— هو ده سبب تغيرك عليا؟

تعجبت من تحوله المفاجئ وابتسامته التي لم تستطع تفسيرها، وزاد توترها ورهبتها أكثر، فأصبحت تفرك الخاتم الذي بيدها بارتباك، محاولًة نزعَه دون وعي. لاحظ ارتباكها، فتعالت ضحكاته أكثر، ضحكات تحمل بين طياتها وجعًا دفينًا وسخرية مريرة.

ردت بصوت متعجب، يحمل بين حروفه شيئًا من التوتر:

— انت بتضحك على إيه؟ هو للدرجادي الموقف يضحك؟

لم يحِد بنظره عنها، وكأنه يودّعها بعينيه قبل كلماته، ثم تكلم، لكن صوته كان مختنقًا، مكسورًا، ممزقًا بحمل ثقيل من الألم:

— بضحك على حلم فجأة صحيت منه، ومش هشوفه تاني، وبضحك على نهايتنا… اللي المفروض تكون بداية لينا، فاكرة؟

ثم زفر بقوة قبل أن يكمل:

— عشان كده قلبي مصدقش نظراتك ليا، وهروبك مني.

تنهد بعمق، كأنه يحاول دفع ثقل يعتصر صدره، ثم تابع:

— هحكيلك على حكاية صغيرة، هفكّرك بحد كده…

نظرت إليه بعدم فهم، وعقدت حاجبيها وهي ترد بارتباك:

— حكاية إيه؟ مش فاهمة؟

واصل معتز استرسال حديثه، وكأنه لم يسمعها:

— أعرف واحد كان عايش حياته طول بعرض، كان بيعمل كل حاجة ممكن عقلك الصغير ما يتخيلهاش…

ابتسم بوجع قبل أن يكمل:

— مش هقول ليه وصل لكده، وبسبب إيه، لأنه مش مبرر، لكن اللي أقدر أقوله إنه قابل ملاك عمره.

كانت ابتسامته هذه المرة صادقة، نابضة من الأعماق، قبل أن يواصل حديثه:

— وعلى ما أعتقد إني اعترفت لها إني مش ملاك، وإني ارتكبت في حق نفسي وفي حق ربنا معاصي كتير، من غير ما أدخل في تفاصيلها لأنها مش ينفع تتحكي أصلاً، لكن كانت نيتي صادقة معاها… إني هتغير.

صمت لبرهة، كأنه يستجمع قواه لمواصلة الحديث، ثم تابع:

— وفعلاً وقتها هي وعدتني إنها هتساعدني، لكن بعدها… عملتي حاجات كنت في الأول بضايق منها، لكن بعدين فهمت إنك مش المفروض تغيريني، أنا اللي لازم أتغير، ولازم يكون ربنا هو هدفي الأول مش أي حد تاني، وفعلاً بدأت، لكن شكلي جيت متأخر… ومش هلحق.

أخرج أنفاسًا حارة، كأنها تحمل بعضًا من الألم المتكدس داخله، ثم واصل:

— بدأت أتغير، وبدأت حاجات كتير، وكان كتب الكتاب من يومين… لكن صحيت فجأة على قلم، وعلى إني سقطت من نظر ملاكي اللي قاعدة قدامي دلوقتي.

ابتلع غصة مرة، وكأنها تخنقه، ثم أكمل بصوت مختنق:

— صدقيني، أنا النهارده يوم دفنتي، أنا اتقتلت النهارده.

ظلت صامتة، تنصت إليه بكل كيانها، تنظر إليه بألم وهي ترى هيئته المكسورة، وشعرت بصدق كلماته تتغلغل في روحها، فخرج صوتها مختنقًا، متأثرًا بدموعها التي انسابت دون مقاومة:

— ح… حاجات إيه اللي عملتها وغيرتك؟

نظر إليها مبتسمًا، لكن ابتسامته كانت تحمل وجع العالم كله، قبل أن يقول:

— معترف إني كنت بضايق لما بحاول أمسك إيديكي، وتسحبيها برفض وتقولي “لا، مش دلوقتي”، ولما كنت تتحججي لو قلتلك نخرج لوحدنا، لأن وقتها أخوكي أو مامتك مش هيقدروا ينزلوا معانا… كنت بضايق في الأول، لأني حتى ما سمعتش منك كلام معسول وقت ما بطلب أنا، لكن بعد كده فهمت… فهمت إنك مش عايزة تغضبي ربنا إرضاء ليا، وإنك كنتي صح… وقتها فهمت إن التغيير مش المفروض يكون عشان حد، لازم يكون نابع مني… وبدأت فعلاً.

تنهد، وكأنما يُخرج ثقلًا دفينًا داخله، ثم نظر إلى الخاتم الذي يزين أصابعها، وهي تعبث به بارتباك، قبل أن يقول بصوت محمل بالمرارة:

— آسف بجد… آسف إني خذلتك فيا، وآسف إني مكنتش الراجل اللي تتسندي عليه.

ثم ابتسم بسخرية ممزوجة بألم قاتل:

— أنتي تستحقي الأحسن مني… حد يكون أنضف مني، حد مشواره مش مكتوب عليه النهاية قبل ما يبتدي… مش هينفع أكمل، وأنا شايف في عيون حبيبتي إني سقطت من نظرها. 

وقف معتز للحظات، ينظر إليها نظرة أخيرة، وكأن عينيه تودعانها قبل أن يودعها لسانه. كانت شهقاتها تهز كيانه، لكنها لم تكن كافية لتثنيه عن قراره. فقد كان يعلم جيدًا أنه لا يمكنه الاستمرار بعدما رأى في عينيها تلك النظرة التي هشمته من الداخل.

استدار ببطء، خطواته ثقيلة كأنها تسير فوق كتل من الألم، وكلما ابتعد، شعر وكأنه يترك خلفه قطعة من روحه. وصل إلى الباب، توقف لبرهة، لم يلتفت، فقط همس بصوت خافت، بالكاد يُسمع لكنه اخترق قلبها كسهم نافذ:

— سلام.

كلمة واحدة، لكنها حملت في طياتها وداعًا لا رجعة فيه.

خرج دون أن ينظر خلفه، وهو يعلم أن روحه ستظل معلقة عند تلك اللحظة، عند تلك الدموع التي لم يستطع مسحها، وعند ذلك القلب الذي خذله رغم أنه كان أقرب ما يكون للخلاص.

وانصهر الجليد، بقلم شروق مصطفى

أما هي، فبقيت جالسة في مكانها، يداها تخفيان وجهها، وجسدها يرتجف تحت وطأة البكاء. كان رحيله صادمًا، موجعًا، لكنها كانت تدرك في قرارة نفسها أن هذا الفراق قد كُتب منذ البداية، حتى وإن حاول كلاهما إنكاره.

في الخارج، سار معتز في الشوارع بلا وجهة، لا يدري إلى أين تأخذه قدماه. كل ما كان يشعر به هو فراغ قاتل، وكأن قلبه تُرك هناك معها، ينتحب بصمت كما تنتحب هي خلف الأبواب المغلقة.

لقد انتهى كل شيء، لكنه كان يعلم جيدًا… أن هذا الجرح لن يندمل بسهولة.

 ـــــــــــــــــ

على الجانب الآخر داخل المشفى…

دلف إلى الداخل بخطوات بطيئة، وجلس بجانبها، ممسكًا بيدها برفق، وكأنه يخشى أن تختفي من بين يديه. تمتم بصوت خافت يكاد لا يُسمع “مش هسمحلك تهملي في نفسك تاني” 

بعد قليل رمشت قليلاً قبل أن تفتح عينيها، فابتسم لها رغم القلق الذي يسكن قلبه، اقترب منها وهمس بصوت مملوء بالعتاب:

— كده تخضّيني عليكي؟

نظرت إليه بتعجب، وكأنها تحاول تذكر ما حدث، لكن ملامحها انكمشت في ارتباك، وكأنها غير مدركة لما جرى:

— ليه؟ إيه اللي حصل؟ مش فاكرة حاجة…

حاولت النهوض، لكن فجأة شعرت بألم في يدها، تمتمت بوجع وعادت إلى وضعها السابق، عيناها تبحثان عن السبب، حتى وقعت على الغرز الصغيرة في يدها حيث كان المحلول مثبتًا، أشارت إليها بعينيها وقالت بضعف:

— إيه ده؟ أنا آخر حاجة فكراها إني كنت بغسل إيدي ووجهي… ومحستش بحاجة بعد كده.

بقلم شروق مصطفى

اقترب منها أكثر، وقبل جبينها بحنان، كأنه يطبع عليها أمانه الذي تخشى فقدانه، ثم بدأ يسرد لها ما حدث، كيف أغمي عليها فجأة، وكيف وجدها ممددة على الأرض، وكيف هرع الطبيب لإنقاذها.

كانت تستمع إليه في صمت، لكن عندما التقت عيناها بعينيه، وجدت فيهما خوفًا لم ترَه من قبل، فأحست بوخزة في قلبها، شعرت بالذنب لأنها جعلته يمر بتلك اللحظة العصيبة، فتمتمت بأسف:

— آسفة بجد… آسفة إني خليتك تعيش اللحظة دي، وخضيتك عليا.

ثم زفرت بعمق، وكأنها تحاول طرد الاختناق الذي يحيط بها، وبصوت محمل باليأس قالت:

— عاصم… أنا مخنوقة أوي من هنا، عاوزة أخرج… مش قادرة أكمل، سيبني أخرج من هنا وأكمل اللي باقي لي بعيد عن المكان ده.

نظر إليها بدهشة، وكأن كلماتها صدمته في صميم قلبه، عقد حاجبيه وقال باستنكار:

— وتسيبيني لوحدي؟!

سادت لحظة من الصمت الثقيل، كان ينظر إليها مطولًا، وكأنه يحاول أن يفهم سبب تغيرها، ثم قال بنبرة جادة:

— قد إيه إنتي أنانية أوي…

نهض فجأة، مرر يده في شعره بانفعال، وكأن حديثها أيقظ فيه شيئًا لا يريد مواجهته، ثم عاد للجلوس مرة أخرى، أمسك يدها بقوة، نظر إليها نظرة محملة بالخذلان والألم وقال بصوت متحشرج:

— أنا ليا مين غيرك؟ قوليلي ليا مين؟ مش قادرة تكملي عشاني حتى؟ أنا ماليش خاطر عندك للدرجة دي؟! عاوزة تقطعي العلاج… العلاج الوحيد اللي بسببه هتشفِي وترجعي لحياتك… ونعيش حياتنا سوا؟ ليه بقيتي كده؟ إنتي أقوى من كده، سيلا اللي عرفتها قوية، مش ضعيفة… لازم تحاربيه بكل قوتك!

صمت قليلًا، وكأنه يحاول جمع كلماته قبل أن يكمل:

— عارفة؟ ده ابتلاء من ربنا… عاوز يختبر صبرك عليه، وعاوز يشوف إيمانك! طيب، أنا ممكن أكون ماليش خاطر عندك، بس ربنا؟ هتقولي له إيه؟ “أنا تعبت، مقدرتش”؟! لا، لازم تعملي اللي تقدري عليه… ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، فاهمة؟ لازم تقاومي المرض اللعين ده، لازم تقفي قدامه وما تسمحيش له ينتصر عليك.

ثم أمسك يدها بقوة أكبر، ونظر إليها بعيون دامعة، لكن صوته كان ثابتًا، كأنه يريد أن يزرع فيها القوة من جديد:

— وبعدين… إنتي شفتي الأطفال هنا بيحاربوا المرض إزاي عشان يعيشوا طفولتهم اللي لسه حتى ما عاشوهاش؟ شفتي الشباب والكبار اللي بيتمسكوا بالحياة رغم كل حاجة؟ هما أقوى منك يا سيلا؟ لو شفتي باقي المستشفى، هتحسي إنك مش لوحدك في الحرب دي، الكل بيحارب… الفرق الوحيد إن في ناس بتكمل، وفي ناس بتستسلم. إنتي مين فيهم؟

تنهد بعمق، ثم قال بنبرة أكثر هدوءًا، لكنها مشحونة بالقوة:

— خلاصة الكلام… ده اختبار من ربنا، ولازم تنجحي فيه، وبامتياز كمان. فاهمة؟!

يتبع

الفصل العاشر وأنصهر الجليد بقلم شروق مصطفى

بينما كان يشدد يديه حول يديها، يضمها إليه كأنما يمنحها وعدًا صامتًا بأنه لن يتخلى عنها أبدًا، عادت الحياة إلى عينيها، وانهارت دموعها تحت وطأة كلماته التي كانت دائمًا مصدر دعمٍ وسندٍ وأمان. ابتسمت له، وبلغة يغمرها الصدق همست:

— “أنا بحبك أوي، بجد، غالي عندي جدًا، والله بجد، انت مهون عليا كل حاجة… مكنتش أعرف إنك حنين أوي كده.”

ابتسم لها وهو يراقب عينيها المتلألئتين:

— “طيب إيه؟ مش عايزة حضن؟”

نظرت إليه بخجل، وأدارت وجهها بعيدًا، فابتسم لحَيائها، ثم أمسك بذقنها برفق، يجبرها على مواجهته بعينيه، لكن حين لمح انتهاء المحلول، جذبها إليه وأحاطها بذراعيه في دفء، وكأنه يحاول أن يخبرها أن وجوده هو الأمان. لكن فجأة، تذكر شيئًا، فابتسم وتحدث ممازحًا:

— “عارفة لو نمتي دلوقتي يا هادمة اللحظات الحلوة انتي؟”

لم تُجبه، بل اختبأت في حضنه مجددًا، فاستسلم لعنادها وهو يربت على رأسها بحنان، وكأنها طفلته الصغيرة.

بعد قليل، تركها ونهض ليُحضر لها بعض الطعام. وبعد محاولات كثيرة، أقنعها بأن يأكلها بيده، وحين حاولت النهوض، استوقفها سريعًا:

— “رايحة فين؟”

نظرت إليه بتعجب:

— “هاغسل إيدي في حاجة؟”

ابتسم لها، ثم، دون سابق إنذار، حملها بين ذراعيه:

— “من النهاردة، أنا اللي هعملك كل حاجة.”

شهقت في دهشة وهي تحاول التخلص من قبضته:

— “لا نزلني! إنت بتعمل إيه؟ مش هينفع كده، لا بجد مش مستاهلة.”

لكنه تجاهل احتجاجاتها وأنزلها برفق أمام صنبور المياه. نظرت إليه بضيق وهي تدفعه في صدره:

— “خلاص طيب، مش للدرجة دي، أنا بقيت كويسة بجد، امشي بقى.”

لم يُعر كلامها أي اهتمام، ولم تؤثر لمساتها الخفيفة على صدره. بل اقترب أكثر، وقف خلفها، ثم احتضنها من الخلف، أمسك بيديها، وأخذ يغسلهما بنفسه، بل ومسح وجهها أيضًا بحنان.

نظرت إليه بتعجب، لكنه باغتها بابتسامته الماكرة:

— “مش هخليكي تعملي أي مجهود، ولو كان بسيط… فاهمة؟”

ظلّت تحدق به في صمت، حتى أكمل بمكر:

— “إيه؟ بتبصيلي كده ليه؟ لا، أنتِ كده بتغريني لحاجات، وأنا ماسك نفسي بالعافية، أنتي حرة بقى!”

احمرّ وجهها خجلًا، وأدارت رأسها للجهة الأخرى وهي تهمس باستنكار:

— “سافل…”

ضحك بخفة:

— “سمعتك على فكرة!”

ثم حملها مجددًا ووضعها برفق على الفراش. نظرت حولها في دهشة عندما رأت مجموعة من الكتب بجوارها، فالتفتت إليه مستفسرة:

— “إيه دول؟”

ابتسم بفخر:

— “لما خرجت وانتي نايمة، لفيت لحد ما جبتلك كتب، قلت تتسلي بيهم شوية.”

ابتسمت له بحب، ثم أردفت بامتنان:

— “شكرًا بجد، فعلًا كنت محتاجاهم.”

تأمل وجهها للحظة، ثم قال بحماس:

— “وعندي ليكي خبر هيفرحك أوي كمان!”

انتفضت سيلا بحماس:

— “خبر إيه؟ قول بسرعة! ها… همشي من هنا، صح؟”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نهض من أمامها عندما رأى انهيارها، وكأن شيئًا داخله انكسر معها. لم يرد أن يفعل شيئًا قد يندم عليه، فاكتفى بإلقاء كلمة “سلام” بصوت خافت، ثم غادر بخطوات مثقلة، رأسه محني بانكسار. غير أنه لم يبتعد كثيرًا، إذ وجد هيثم يقف أمامه، يراقب المشهد بصمت بعد أن استمع لآخر كلمات دارت بينهما.

نظر له معتز بتعجب، بينما وقعت عيناه على شقيقته المنهارة خلفه، ثم سرعان ما حاول إخفاء حزنه المتفجر في عينيه. بادره هيثم بنبرة هادئة ولكن حازمة:

— مش هخبي عليك، أنا كنت حاسس إن فيه مشكلة بينكم… طيب، تعالى معايا، عايز أتكلم معاك، هننزل تحت أحسن.

لم يجد معتز مفرًا، فغادر المنزل برفقته، تاركًا خلفه أصداء كلماته الأخيرة ودموع مي التي لم تتوقف.

في تلك اللحظة، خرجت نبيلة من المطبخ على أثر صوت إغلاق الباب، لتجد الصالة خاوية، لكنها سرعان ما انتبهت إلى صوت بكاء مكتوم قادم من الغرفة. هرعت إليها بقلق، فوجدت ابنتها جالسة، غارقة في دموعها، فاقتربت منها بخوف:

— هو مشي إمتى؟ مالك يا بنتي؟ فيكي إيه؟ عملك حاجة؟ انطقي!

لم تجد ردًا، فازدادت قلقًا وجلست بجانبها، تحاول استيعاب ما يحدث:

— يا بنتي، في إيه؟ الراجل مشي فجأة ليه، وانتي بتعيطي كده ليه؟ يا حول الله يارب!

اعتدلت مي قليلًا، وابتلع صوتها الحزين كلماتها قبل أن تنطق:

— خلاص يا ماما… سيبنا بعض. مفيش نصيب بينا.

اتسعت عينا نبيلة في صدمة، ووضعت يدها على صدرها، غير مصدقة ما تسمعه:

— بتقولي إيه؟! سبتوا بعض؟ ليه؟ إيه اللي حصل؟

أخذت مي نفسًا عميقًا، ثم قالت بهدوء متكسر:

— طيب، اهدي كده واحكيلي، يا حبيبتي، إيه اللي حصل؟ إزاي وصلتم لكده؟ الراجل ده، أنا بعيني شفت حبه ليكي ولهفته عليكي… مش شفتي كان هيجنن يوم ما دخلتي المستشفى؟

رفعت مي عينيها إلى والدتها، نظرة يملؤها الانكسار:

— خلاص يا ماما… حتى لو بيحبني، مفيش فايدة. جوايا حاجة اتكسرت، وصورته اتهزت في عيني… إزاي أبصله تاني وكأن مفيش حاجة حصلت؟ مستحيل.

ثم نهضت من مكانها، مستأذنة بصوت خافت:

— بعد إذنك، عاوزة أنام.

راقبتها نبيلة بعينين يملؤهما الحزن، قبل أن تخرج وهي تهمس في داخلها بقلق، متجهة إلى ابنها لتعرف منه الحقيقة.

أما مي، فبعدما أغلقت باب غرفتها، همست بصوت لا يكاد يُسمع، وكأنها تحاول إقناع نفسها:

— حتى لو بنحب بعض، جوايا اتكسر خلاص…

ثم حاولت الهروب إلى النوم، لعلها تجد فيه ما يعوضها عن ألم اليقظة.

ـــــــــــــــــــــــــ

“خبر إيه؟ قول بسرعة! ها… همشي من هنا، صح؟”

نظر لها عاصم بعيون مليئة بالتسلية، ثم قال بنبرة خفيفة:

تمشي من فين؟ إحنا لحقنا؟ لا،  فكري … ولا أقولك؟ اديني مقابل، وأقولك على طول.

تمتمت ببعض الكلمات غير الواضحة قبل أن تتمتم بوضوح:

استغلالي أوي!

سمعها عاصم، فابتسم بخفة وأردف:

برطمي براحتك، فكري في المقابل الأول.

فكرت قليلًا ثم قالت بمكر:

لو الخبر حلو، اللي أنت تطلبه هعمله، أما لو معجبنيش، فمفيش حاجة. ها، يلا قول الخبر.

هز عاصم رأسه نافيًا بحزم:

لا، هتنفذي على طول، سواء حلو أو وحش، هيتنفذ.

رفعت سيلا إحدى حاجبيها بتفكير وعناد واضح:

لا، على حسب الخبر!

ابتسم عاصم لها بحب وهو يقول بلطف:

ماشي يا غلباوية، بصي، كمان أسبوع بالضبط، همسة ووليد جايين هنا ومقيمين معانا. في أحلى من كده؟ ها، أستاهل مقابل ولا لا؟

ما إن سمعت الخبر حتى قفزت من فرحتها، ولم تتمالك نفسها، بل اندفعت نحوه لتحتضنه سريعًا وتطبع قبلة رقيقة على وجنته، ثم تراجعت وهي تبتسم بسعادة غامرة:

بجد، تستاهلها! أنا فرحانة أوي أوي!

ظل عاصم متجمدًا في مكانه للحظات، غير مستوعب لما حدث، وضع يده على موضع قبلتها ونظر إليها بعشق، بينما هي ابتعدت عنه تبتسم بسعادة. نظر إليها باندهاش قبل أن يقول:

إيه ده اللي عملتيه دلوقتي؟

تغيرت تعابير وجهها للحظة، لكنها سرعان ما فهمت ما يقصده، فابتسمت له وهي تقول بمكر:

إيه؟ المقابل اللي قولت عليه؟ بصراحة، الخبر حلو أوي وفرحني جدًا، تسلملي يا رب، يا حبيبي.

اقترب منها عاصم بخطوات بطيئة وهو يقول بنبرة ماكرة:

لا، كده أنتِ ضحكتي عليا خالص، ما بدهاش بقى… أنا هاخده بنفسي.

حاولت التراجع بسرعة وهي تتجه نحو الفراش، ثم غطت وجهها بالغطاء قائلة بمرح:

لا، لا، لا! أنت غشاش! امشي يلا بقى، أنا هنام، لأني تعبانة.

توقف عاصم ينظر إليها بدهشة مصطنعة، ثم تمتم وهو يتظاهر بالحزن:

أمشي؟ يعني دا جزاتي في الآخر؟ طيب، ماشي يا سيلا… حسابك تقل أوي معايا، وأنا بقى بجمعهم لك، أنا ماشي أهو.

قالها وهو يهم بالخروج، لكنه توقف عندما سمع صوتها يناديه:

استنى!

التفت إليها سريعًا، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مليئة بالأمل وهو يقترب منها مجددًا:

إيه؟ جيت، أنا كنت عارف إنك مش ههون عليكِ، صح؟

ابتسمت سيلا بخبث قبل أن تقول بمرح:

آه، معلش، قبل ما تمشي، ناولني الريموت دا، واقفل الباب وراك، مش قادرة أقوم.

تجمد في مكانه لثوانٍ، ينظر إليها بصدمة، ثم زفر بضيق وهو يقول مغتاظًا:

ر… إيه؟ ريموت؟! ماشي يا سيلا… اتفضلي، ريموت أهو!

ناولها الريموت بغضب مصطنع، ثم خرج وهو يغلق الباب خلفه، لكنه لم يستطع منع نفسه من الابتسام عندما سمع صوت ضحكاتها العالية تتردد في الغرفة. همس لنفسه وهو يمشي مبتعدًا:

صبرني يا رب… وعدّي الأيام الجاية على خير، ويشفيها ويشفي كل مريض، يا رب.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــ

عندما خرجا سويًا، قال هيثم بنبرة هادئة:

تعالى، هنروح نقعد في كافيه ونتكلم.

ركب معتز بجانبه على مضض، بينما خيم الصمت بينهما طوال الطريق. وعندما وصلا إلى الكافيه، جلسا معًا، لكن نظرات هيثم كانت تحمل الكثير من التساؤلات، قبل أن ينطق أخيرًا:

ممكن تحكيلي إيه اللي حصل؟ أظن إحنا شباب زي بعض، وبنفهم بعض كويس. كنت حاسس إن في موضوع كبير، من يوم ما وقعت وجالها انهيار، ورفضت تشوفك، وحتى ترددها النهاردة في مقابلتك.

حاول معتز التماسك أمامه وإخفاء انكسار عينيه، لكنه زفر بعمق، ثم قال بصوت مبحوح:

مش هخبي عليك… أنا بحب مي، عمري ما حبيت قبلها ولا هحب بعدها. بس للأسف… خذلتها، وصورتي اتشوهت قدامها.

توقف للحظات، وكأنه يجمع شتات كلماته، ثم تابع:

مش هقولك إني ملاك، ولا هحاول أبرر نفسي. أنا بعترف… كنت شخص سيئ، لدرجة إني عصيت ربنا. بس بجد… اتغيرت. بدأت حياة نظيفة، بعيدة عن السواد اللي كنت فيه. زمان… مكنش عندي حد علشانه أتغير، وده كان غلط، لأن التغيير المفروض يكون لنفسك قبل أي حد. بس حاجات كتير اتغيرت لوحدها أول ما قابلتها… كأني اتولدت من جديد. هي علمتني، فهمتني حاجات عمري ما كنت أفهمها… لكن كله اتهد في لحظة واحدة.

ابتسم بوجع، ثم أكمل:

حياتي القديمة شكلها مش عايزة تسيبني، مش عايزة تديني فرصة أبدأ من جديد. كان لازم أمحي الماضي الأول، بس للأسف… ملحقتش، وسقطت من نظرها. مش قادر أوضح أكتر من كده… لأني مش قادر أتكلم بجد.

ماتت الكلمات في حلقه، وظل داخله يحترق بنيران الحب والفراق في آنٍ واحد. كان هيثم يراقب تعابير وجهه، يحس بانكساره العميق، حتى أنه شعر بالحزن الذي يتغلغل في صوته. ثم قال له بنبرة صادقة:

معتز، أنت بجد اتغيرت. واللي فهمته منك، واللي سمعته قبل ما تمشي، إنك فعلًا شخص مختلف. حياتك القديمة مش من حق حد يحاسبك عليها… ده ماضي، وانتهى. وأنت بنفسك قولت إنك كنت سيئ، وإنك عصيت ربك. إحنا مش ملايكة، كلنا بنغلط، أنا، أو أمي، أو أنت… المهم إننا نتعلم. وربنا بيقبل التوبة… العبد مش هيقبلها؟! الأهم إن توبتك تكون صادقة، مش عشان حد، عشان نفسك قبل أي حاجة. طول ما أنت على الطريق الصح، كمل، والأهم… متوقعش تاني في الخطأ.

ظل يراقب وجهه للحظات، قبل أن يستطرد:

لو مكتوبين لبعض، تأكد إنكم هتكونوا لبعض، حتى لو بعد حين. هي مسألة وقت، بس النفوس تهدأ. ولو مفيش نصيب، فأنت خلاص… الحمد لله، اتغيرت، وربنا راضي عنك، وبقيت إنسان صالح. إياك ترجع زي ما كنت عشان حد أو عشان رفض حد ليك. سيب الأيام تصلح كل شيء بينكم.

ثم وقف، ومد يده له ليصافحه، وقال بابتسامة صادقة:

أنا بجد مبسوط إني اتعرفت على شخص زيك، وإنك دخلت حياتنا واتغيرت للأحسن. وأنا معاك كأخ، لو احتجت أي حاجة.

نهض معتز هو الآخر، وصافحه بحرارة، قبل أن يقول بصوت مختنق:

وأنا اتشرفت بيكم كلكم… بلغ اعتذاري لماما، إني مشيت فجأة… وبلغ اعتذاري ليكم كلكم…

توقف قليلًا، لم يستطع نطق اسمها، فقد شعر أن دموعه ستخونه، ثم تمتم بصوت مرتعش:

وإن شاء الله… الأيام تبين حسن نيتي، وربنا يتقبل توبتي… ولو لنا نصيب…

ربت هيثم على كتفه عدة مرات، قبل أن يحتضنه مودعًا. ثم خرجا معًا من الكافيه، وعندما وصلا إلى السيارة، قال هيثم:

يلا، اركب… رايح فين؟ هوصلك.

لكن معتز أشار بيده رافضًا:

لا، توكل أنت… حابب أتمشى شوية.

ابتسم هيثم له وقال بهدوء:

ماشي، على راحتك.

قاد سيارته ورحل، بينما ظل معتز يتمشى بلا هدف، حتى توقف أمام النيل، ينظر إلى الماء كأنه غارق في حلم لا يريد أن يستيقظ منه. لكن داخله كان يغلي… ولد داخله إحساس جديد… إحساس بالانتقام ممن دمر كل شيء في لحظة. وفي صمت، عقد العزم على فعل شيء ما… ثم رحل.

توجه إلى الملهى الليلي، والغضب يعصف بداخله، عازمًا على الانتقام ممن كانوا سببًا في تدمير حياته. لكن ما إن وصل حتى صُدم بالمشهد أمامه. لم يكن هناك أثر للمكان سوى أطلال متفحمة، كأن النار ابتلعت كل شيء ولم تُبقِ حتى على ذكرى لما كان هنا.

اقترب معتز ببطء، عينيه تجوبان المكان، وكأنهما تبحثان عن دليل يُعيده إلى الواقع. سأل بعض أصحاب المحلات المجاورة، ليكتشف أن الملهى قد احترق بالكامل نتيجة ماس كهربائي مفاجئ، اندلعت منه نيران هائلة التهمت كل شيء، حتى الحديد انصهر تحت لهيبها، ولم ينجُ أحد ممن كانوا في الداخل.

وقف في مكانه للحظات، لم يشعر بجسده، وكأن قدميه لم تعد تحمله. ثم، شيئًا فشيئًا، تسللت ابتسامة خفيفة إلى شفتيه. لم تكن ابتسامة شماتة، بل كانت ابتسامة رضا… رضا من عدالة الله وانتقامه ممن أفسدوا في الأرض. شعر وكأن الله قد حماه من ارتكاب ما كان ينوي فعله، ونجّاه من خطيئة ربما كانت ستعيده إلى ظلام ماضيه.

رفع رأسه إلى السماء، همس بحمدٍ صادق:

الحمد لله… شكرًا لك يا رب.

ثم استدار، ومضى ليبدأ حياته الجديدة، واضعًا خلفه كل ما مضى، مستعدًا للمضي قدمًا.

بعد ستة أشهر…

طوال الفترة الماضية، لم يترك عاصم سيلا لحظة واحدة. كان بجانبها في كل خطوة، في كل جلسة علاج، في كل وجبة طعام. كان يعتني بها كأنها روحه، لا يفارقها إلا عند النوم. ومع الوقت، أصبحا روحًا واحدة، لا يقدر أحدهما على الابتعاد عن الآخر.

أما معتز، فلم يتحمل رؤيتها من بعيد، ولم يقوَ على الاقتراب منها، حتى النظر إليها كان أشبه بطعنة في قلبه. كانت قريبة، لكن المسافة بينهما أصبحت أبعد من أي وقت مضى.

لم يكن أمامه سوى الرحيل، فالوجود في نفس المكان معها دون القدرة على الحديث أو حتى اللقاء بعينيها كان أقسى عليه من أي شيء آخر.

قرر السفر، هربًا… ربما من نفسه أكثر من أي شيء آخر. توجه لأخيه، ليقف إلى جانبه كما يجب، لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أنه يبحث عن أكثر من مجرد واجب أخوي. كان بحاجة إلى الهروب من ماضيه، من نظراتها التي لم تعد كما كانت، من ثقل الذكريات التي تلاحقه أينما ذهب.

ربما السفر سيمنحه فرصة لاستعادة ذاته، لإعادة ترتيب فوضى قلبه وعقله، للبحث عن معنى جديد لحياته بعيدًا عن الحزن والندم. لكنه كان يدرك جيدًا أن بعض الذكريات لا تمحى، وبعض القلوب لا تلتئم بسهولة.

ورحل معتز، تاركًا وراءه جزءًا من روحه، وقصة لم تكتمل.

أما همسة، فلم تفارقها إلا ليلًا، حين كانت تعود مع وليد إلى منزله القريب من المستشفى.

داخل غرفة العمليات، مرت أكثر من ثلاث ساعات… وفجأة، هرول بعض أفراد الطاقم التمريضي إلى الخارج، ثم عادوا ومعهم أطباء آخرون. عمّت حالة من الهرج والمرج، وصوت الأجهزة الطبية يعلو في الخلفية.

عاصم، الذي كان واقفًا بالقرب من الباب، شعر بقلبه ينقبض فجأة. وضع يده عليه، وكأنه يحاول تهدئته، لكنه لم يستطع. ارتعدت أوصاله، وكأن الخوف يتسلل إلى كل خلية في جسده.

أسرع إليه وليد، ربت على كتفه محاولًا تهدئته:

إن شاء الله هتطلع لنا بالسلامة، ادعِ لها بس.

لكن عاصم كان شاردًا، عيناه تائهتان وهو يرد بصوت مختنق:

مش قادر… حاسس إن روحي هي اللي بتطلع معاها. انت مشوفتش منظرها قبل ما تدخل… ولا الكلام اللي قالته… قلبي مقبوض أوي…

قبل ثلاث ساعات…قبل دخولها غرفة العمليات، نظرت سيلا إلى همسة وهمست بصوت ضعيف:

ادعيلي يا حبيبتي.

وانصهر الجليد

لم تتمالك همسة نفسها، ارتمت في حضنها هامسة:

بدعيلك والله… وهتخرجي لنا بالسلامة، إن شاء الله. انتي النور اللي بينور حياتنا كلنا.

بعدها، التفتت سيلا إلى عاصم، الذي كان واقفًا بعيدًا عند الباب، شاردًا في عالم آخر، متجمدًا في مكانه من شدة الخوف. لم يكن قادرًا حتى على الاقتراب، كأن الاقتراب منها يعني مواجهة احتمال فقدانها، وهو ما لا يستطيع تحمله.

ابتسمت له رغم تعبها، رغم أن المرض قد التهم شعرها وأضعف جسدها. مدّت يدها نحوه، تشير له بأن يقترب.

عاصم… تعالى قرب.

بقلم شرق مصطفى

اقترب منها ببطء، أمسك يدها، ضغط عليها بقوة، وكأنه يحاول أن يبعث لها الأمان، أن ينقل إليها قوته، أن يمنحها جزءًا من روحه.

نظرت في عينيه طويلًا، كأنها تريد أن تحفظ ملامحه داخلها إلى الأبد.

عاصم، عاوزاك توعدني وعد.

هز رأسه بسرعة، كأنه يرفض حتى مجرد فكرة الحديث عن أي شيء قد يحمل معنى الوداع.

هشّش… اسكتي، متتكلميش، أرجوكي.

لكنها تمسّكت به، نظرت إليه بترجٍ حارق:

عشان خاطري… اسمعني بس.

تألم من نظرتها، زفر بحدة وقال بنفاد صبر:

عشان خاطري انتي! مش عاوز كلام، انتي هتدخلي، وبعدها هتخرجي لنا، وهنبدأ حياتنا… هاخدك، ونسافر، ونلف العالم كله، و…

قاطعت كلماته، وانهمرت دموعها بصمت:

أرجوك، يا عاصم… بس.

شعر بمرارة في حلقه، ابتلع ريقه بصعوبة، وكبح دموعه وهو يقول:

أرجوكي… انتي بس اطلعي لنا بالسلامة، بعد كده قولي اللي انتي عاوزاه.

اختنق صوتها من أثر كلماته، ثم همست برجاء:

طيب… عاوزاك تحضني… ممكن؟

لم تنتظر أن تكمل كلامها، فقد جذبها إليه بقوة، احتواها داخله، كأنه يريد أن يحميها من العالم بأكمله. كان هذا العناق يحمل كل شيء… الحب، الخوف، الرجاء، التمسك، والانكسار في آنٍ واحد.

لم يشعر أحدهما بالزمن، تناسيا كل شيء، حتى أيقظهما صوت الممرضة وهي تربت على كتف عاصم برفق، تخبره أن الوقت قد حان… يجب أن تذهب.

لكنه لم يتحرك، لم يشأ أن يفلتها.

وكأنها تقرأ أفكاره، ابتعدت عنه ببطء، ونظرت إليه نظرة أخيرة، قبل أن تمسك يدها بيده، وتشد عليها للمرة الأخيرة، ثم تتركها…

ورحلت داخل غرفة العمليات.

يتبع

تكملة الرواية من هنااااااا

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *