رواية جمر الجليد( الجزء الاول)الفصل الواحد وعشرون والثاني وعشرون والثالث وعشرون والرابع وعشرون والخامس وعشرون والسادس وعشرون بقلم شروق مصطفى حصريه
رواية جمر الجليد( الجزء الاول)الفصل الواحد وعشرون والثاني وعشرون والثالث وعشرون والرابع وعشرون والخامس وعشرون والسادس وعشرون بقلم شروق مصطفى حصريه
الفصل 21_22 جمر الجليد
“أنا عايزة أقولك على حاجة، بس أوعديني الأول ما تقوليش لأي حد.
مي نظرت إليها بترقب وقلق، وقالت بنبرة مترددة: “أوعدك، مش هقول لحد حاجة.”
سيلا أخذت نفسًا عميقًا، ثم أمسكت بيد مي وشدت عليها برفق، بينما تغوص عيناها في عيني صديقتها. قالت بصوت متماسك لكنه يحمل عبق الألم:
“مي، أنا رايحة بكرة لدكتور مختص بالأورام… وهبدأ جلسات الكيماوي.”
مي سحبت يدها فجأة وكتمت شهقتها العالية بيدها، وعيناها امتلأتا بالذهول: “هاااه…”
سيلا لم تتراجع، بل أعادت الإمساك بيد مي، محاولة تهدئتها، قائلة بصوت ملؤه الرجاء:
“اهدي… اسمعيني. انتي أول حد أحكيله، مش انتي قلتي إن فيَّ حاجة مش طبيعية؟ أنا حكيتلك عشان تقويني، عشان تبقي جنبي. ما أقدرش أتحمل أكتر من كده. حتى أجلت علاجي ثلاث شهور عشان خطوبة أختي.”
مي كانت تهز رأسها بالرفض، غير قادرة على استيعاب الكلمات التي تسمعها. بصوت متردد ومخنوق، سألت:
“ا… اتأكدتي امتى؟”
ردت سيلا بعينين تغالب دموعها:
“قبل قراية الفاتحة بيوم. عملت أشعة، وظهر إن الورم بيكبر. أنا تأخرت على العلاج، واستغليت فرصة سفرهم عشان ما أشوفش الحزن في عيونهم. حتى همسة ما تعرفش حاجة. خايفة عليهم، مي… هتيجي معايا وتكوني جنبي، ولا أروح لوحدي؟”
لم تستطع مي منع دموعها، وارتمت في حضن صديقتها، قائلة بحنان لا يخلو من العزم:
“حبيبتي… أنا معاكي. مش هسيبك أبداً.”
ظلتا متعانقتين، ومي تمسح على ظهرها برفق حتى هدأت تمامًا.
بعد لحظات من الصمت، همست سيلا:
“بكرة الدكتور هيقولنا الخطوات الجاية، والفحوصات والتحاليل المطلوبة قبل العلاج.”
نظرت مي إلى داخل عينيها بعمق، وقالت بثبات:
“انتي قوية يا سيلا… فاهمة؟”
هزت سيلا رأسها بالموافقة دون أن تنطق بكلمة، وتشبثت أيديهما معًا، وكأنهما تتعاهدان على مواجهة كل شيء سوياً.
عند معتز، اجتمع الجميع حوله ليطمئنوا على حالته الصحية. أخبرهم الطبيب أن وضعه مستقر، لكنه بحاجة للبقاء تحت الملاحظة خمسة أيام على الأقل. انتهت الزيارة، وبدأ الجميع في المغادرة، لكن عاصم توقف فجأة عندما سمع صوت أخيه يناديه:
“استنى… عاوزك!”
التفت عاصم نحوه باندهاش، محاولًا إخفاء قلقه:
“خير يا حبيبي؟ محتاج حاجة قبل ما أمشي؟”
نظر إليه معتز بعينين مليئتين بالرجاء، وقال بصوت منخفض:
“عاوز أشوفها… لازم أكلمها. هتخليها تيجي، صح؟”
حاول عاصم أن يبتسم ليطمئنه، لكنه لم يستطع سوى أن يرد بتردد:
“حاضر… ارتاح إنت، وأنا هتصرف.”
خرج عاصم مسرعًا، وكأن قدميه تحملانه بعيدًا عن كل شيء. كان عقله مشوشًا وداخله يضج بالأسئلة. كيف يمكنه أن يطلب منها أن تعود بعد ما حدث؟ كيف يطلب منها أن تواجه نظرات أخيه بعد تلك اللحظة التي أهانها فيها أمام الجميع؟ لكن رغم كل شيء، لم يستطع تجاهل ما رآه في عيني معتز. ذلك البريق، تلك النظرة التي تحدثت عن حب حقيقي، وعن ألم أعمق مما يمكن وصفه.
قاد سيارته بلا وجهة محددة، ضائعًا في أفكاره. وجد نفسه في النهاية أمام المدفن العائلي. نزل بخطوات مثقلة واتجه إلى قبر أبيه. جلس على الأرض، قرأ الفاتحة، ثم تحدث بصوت متقطع كأنه يخاطب روحًا لا ترد:
“ليه؟ ليه وصلنا للِّي إحنا فيه؟ ليه حياتنا كانت مجردة من أي إحساس؟ أنا عشت عمري كله ما أعرفش يعني إيه حضن أم… ما أعرفش يعني إيه حب. أول مرة حسيت بحاجة، كان معاها. كأنها النور اللي رجعني للحياة. لمستها… مجرد لمسة، كانت كفاية تخليني أحس بدفء أول مرة أعيشه.
يا ترى في أمل أرجع إنسان طبيعي؟ أخويا… شفت في عينيه نظرة مليانة حياة، كأنه كان بيبدأ من جديد. يا ترى لنا حق نفرح زي باقي البشر؟ ولا فات الأوان على كل حاجة؟”
صمت للحظات طويلة، وكأنه ينتظر إجابة لا تأتي. ثم قال بصوت أقرب للهمس:
“هحاول. هحاول أصلح كل حاجة. ربنا يسامحك على اختياراتك اللي دمرت حياتنا.”
نهض أخيرًا، وغادر المكان بعزم جديد. كانت هناك نار تشتعل بداخله، لكنها لم تكن نار غضب أو انتقام هذه المرة، بل كانت رغبة في التغيير.
عاد إلى منزله، عازمًا على أن يبدأ من جديد، رغم إدراكه التام بأن الطريق لن يكون سهلًا. كان الماضي ثقيلًا، حمل معه كل الألم والخيبة. طفولة ممزقة، بيت غاب عنه الأمان، خيانة شاهدوها بأعينهم، وموت كانت ذكراه كالجحيم.
كل ذلك جعله وأخيه غرباء عن الإحساس. أحدهما صار حاميًا لعائلته الصغيرة، لكن قلبه صار كالصخر، لا يعرف الرحمة. والآخر عاش في عزلة، يملأه العنف والغضب، يمارس قسوته وكأنها السبيل الوحيد للتنفيس.
لكن الآن، لأول مرة، رأى بصيص أمل. ربما يستطيع أن يبدأ من جديد. ربما القدر منحه فرصة أخيرة ليحيا كإنسان.
السؤال الوحيد الذي ظل يتردد داخله: هل سأتمكن من اغتنامها، أم ستضيع كما ضاع كل شيء من قبل؟
ــــــــــــــــــــــ
بعد تأجيل كتب الكتاب، أصبح وليد رفيق همسة الدائم، يخفف عنها بحديثه اللطيف ووعوده التي تملأ قلبها أملًا. لم يتركها للحظة واحدة، وكان دائم السؤال:
“عاملة إيه النهارده؟”
تنهدت همسة وهي تجيب بهدوء:
“الحمد لله، يا وليد.”
لكنه باغتها بسؤال مباشر فهتفت بغصة وهي تجيب بصوت خافت:
” أه سافروا؟ أول مرة يبعدوا عنا ويسبونب لوحدي؟”
نظر إليها بملامح متضايقة، وقال بجدية:
“وأنا؟ أنا هنا معاكي، مش كفاية؟ على فكرة، هزعل منك لو فكرتي إنك لوحدك. أنا جنبك طول الوقت، واختك كمان معاكي. كلها أسبوعين، وتنوري بيتك. أنا عارف إني مقصر معاكي، بس الظروف صعبة. بين شغل والمستشفى، وتجهيز الفيلا، وكل حاجة جات فوق بعضها. الفيلا متشطبة، آه، بس كنت بجدد حاجات بسيطة. وكنت بكلمك عشان بكرة نخرج نتفرج على الألوان ونختار حاجات العفش مع بعض.”
ابتسمت همسة بخجل:
“عارفة يا وليد، وربنا يخليك ليا يا رب.”
أمسك يدها برفق وقال بابتسامة دافئة:
“وليا أنا كمان. بس تصدقي؟ أنا فرحان إن التأجيل حصل.”
نظرت إليه باستغراب:
“فرحان؟!”
ضحك بخفة، وقال:
“أيوه. كلها أسبوعين ونبقى مع بعض على طول بدل ما نستنى ثلاث شهور. الموضوع جاي لمصلحتنا، ولا مش عاجبك كده؟”
ابتسمت بخجل، وقالت بصوت ناعم:
“أي وقت معاك بيكون جميل.
ظلا يتحدثوا قليلا.
ـــــــــــــــــــــ
مرَّ الأسبوع الأول بثقل لا يمكن احتماله. بدأت سيلا أولى جلسات العلاج الكيماوي، وكان الأثر واضحًا على جسدها وروحها. هزلت كثيرًا، وبدا عليها الإعياء الشديد منذ الجلسة الأولى. لم تفارقها مي لحظة واحدة، كانت رفيقة ليلها ونهارها، تمنحها دفئًا وسندًا لم تكن لتستمر بدونه.
لكن سيلا، رغم كل ذلك، كانت تنهار داخليًا. اختارت الانعزال داخل غرفتها، تقضي معظم وقتها في النوم أو في التظاهر به كلما حاولت همسة الاقتراب منها. لم تكن ترغب في أن ترى أختها حالتها، ولم تتحمل فكرة مشاركة ضعفها مع أحد!!.
همسة، من جانبها، لم تكن غافلة عن حالتها. شعرت بثقل غريب يجثم على قلبها، لكن وجود وليد بجانبها كان كفيلاً بتخفيف هذا العبء. كان وليد حاضرًا دائمًا، يشد على يدها ويمنحها القوة لتظل ثابتة، رغم كل ما يحدث من حولها.
في أعماقها، كانت همسة ترفع دعاءً صامتًا بأن تمر هذه الأيام العصيبة بسلام، أن تعود الحياة إلى طبيعتها، وأن يجد كل من حولها بداية جديدة تستحق.
—
على الجانب الآخر، كان عاصم يعيش صراعًا داخليًا مريرًا. وعند سؤال شقيقه عن من خطفت قلبه يتحجج بأنه لم يرها منذ ذلك اليوم، لكنه في الحقيقة كان يراقبهم من بعيد.
فهو لم يستطع أن يبتعد عن تفاصيل حياتها، فكان يتابع حالتها بعد خروجها من المستشفى، يزور طبيبها المعالج سرًا ليطمئن عليها. أخبره الطبيب أنها تعاني من أنيميا حادة، وتحتاج إلى نظام غذائي خاص ورعاية دقيقة.
في مرة، حاول أن يوقفهم ليحدثهم عن حالتها، لكنهم تجاهلوه ومضوا بعيدًا عنه، تاركينه وحيدًا مع إحساسه بالذنب والحيرة. ومع ذلك، لم يكن ممن يستسلمون بسهولة. قرر أن يمهد الطريق، أن يصل إليها ولو بعد حين.
أما معتز، فقد عاد إلى منزله، لكن روحه بقيت عندها. لم تغب عن باله لحظة واحدة، فقرر أن يخطو خطوة جريئة، أن يذهب إليها ويحدثها، يروي لها الحكاية بأكملها، عسى أن تمنحه فرصة له.
—
في ذلك الوقت، كانت أسرة همسة قد وصلت أخيرًا إلى وجهتهم بعد رحلة طويلة عبر البحر. أول اتصال جاء منهم كان مليئًا بالفرح، طمأنوا همسة وسيلا عن حالهم، وأخبروهم عن سعادتهم بأداء مناسك العمرة. ووعدوا بالاتصال مجددًا قبل العودة، وأغلقوا الهاتف على أصواتهم المليئة بالبهجة.
لكن حين التفتت همسة نحو أختها، تفاجأت بشكلها المرهق. شحوب وجهها وهزالها كانا واضحين. بعد إنهاء المكالمة، جرت سيلا سريعًا إلى غرفتها، كأنها تهرب من أي سؤال قد يفضح ضعفها.
لحقتها همسة بخطوات سريعة قبل أن تدخل الغرفة.
“سيلا… استني!”
التفتت إليها سيلا وقد ارتسم التعب على ملامحها:
“نعم يا همسة؟”
قالت همسة بقلق وهي تقترب منها:
“مالك يا سيلا؟ انتي تعبانه ولا إيه؟ لو تعبانه، قوليلي يا حبيبتي، أنا هنا معاكي.”
ابتسمت سيلا ابتسامة شاحبة وقالت بصوت منخفض:
“مفيش… شوية إرهاق مش أكتر. أنا كويسة، بس عاوزة أنام.”
تركتها سيلا واقفة في مكانها واتجهت إلى غرفتها، مغلقة الباب خلفها، بينما بقيت همسة في مكانها، قلبها يزداد قلقًا، وعيونها تراقب الباب المغلق، وكأنها تعرف أن وراءه سرًا أكبر مما تراه.
…
ظل معتز يوميًا يذهب أسفل منزلها، يجلس داخل سيارته لساعات طويلة، عله يلمحها أو يراها ولو من بعيد. كان أمله يتجدد مع كل يوم، لكنه يعود خائبًا في كل مرة. ورغم ذلك، لم ييأس. كان يشعر أن لقائهم قادم لا محالة، وأن صبره سيؤتي ثماره.
وذات يوم، وبينما هو ينتظرها كعادته، لمحها أخيرًا. خرجت من المنزل تحمل حقيبة كبيرة بيدها، تسير بسرعة وكأنها تحاول الهروب من ثقل أفكارها.
لم يتردد لحظة. أدار محرك سيارته وتوقف أمامها فجأة، قاطعًا طريقها. رفعت عينيها بدهشة، لتجده يقف أمامها.
“معتز؟!” نطقت اسمه بتعجب، وكأنها لا تصدق وجوده أمامها.
شعر معتز أن الحياة عادت إليه بمجرد سماع صوته على لسانها. ابتسم لها ابتسامة عميقة، مليئة بالشوق، وقال بصوت يحمل رجاءً:
“أخيرًا شفتك. كنت بدور عليك كل يوم. استحالة أوافق إنك تمشي تاني.”
شعرت مي بالخجل من كلماته، ودهشت من صراحته المفاجئة. حاولت أن تبدو ثابتة، لكنها لم تستطع إخفاء ارتباكها:
“بعد إذنك، مش هينفع كده.”
نظرت حولها بسرعة، محاولة التخلص من الموقف، ثم قالت بصوت مضطرب قبل أن تهرب من أمامه:
“حمد لله على سلامتك… عن إذنك.”
أسرعت بالتحرك بعيدًا عنه، واتجهت إلى موقف المواصلات، عازمة على العودة إلى صديقتها التي كانت تقيم لديها مؤقتًا، بعدما أحضرت بعض الملابس من منزلها.
أما معتز، فوقف مكانه، ينظر إليها وهي تبتعد. لقاء اليوم لم يكن كافيًا، ولن يتركها تختفي مرة أخرى. كانت هذه المرة بداية جديدة، مهما كلفه الأمر.
ــــــــــــــــــــ
مرّت الأيام ثقيلة، وجسد سيلا ينهار أكثر بعد كل جلسة علاج. كانت الآلام تفوق طاقتها، وكأن كل لحظة تمضي تزيد من احتراق روحها وجسدها معًا.
جلست مي بجانبها، تمسك بيدها المرتجفة، تحاول أن تكون مصدر قوة وسند لها، لكن سيلا، بصوتها المتعب، قالت بوجع عميق:
“أنا بموت بالبطيء، يا مي… مش قادرة أتحمل أكتر من كده. جلستين بس، وكل ده يحصل. يا رب امتى أرتاح من العذاب ده؟”
حاولت مي، رغم ألمها، أن تبدو ثابتة وهي ترد عليها بحنان:
“انتي أقوى من المرض يا سيلا. متخليش حاجة تكسر قوتك. خليكي دايمًا فوقه.”
نظرت سيلا إلى السقف، كأنها تشتكي لله قسوة ما تمر به، وقالت بحرقة:
“النار بتكوي جوايا يا مي. إحساس مش ممكن يوصف. ربنا ما يكتبه على حد أبداً. نفسي ارتاح، بس مش عارفة امتى.”
مسحت مي على شعرها بحنان وهي ترد:
“هانت يا قلبي. شويه كمان، وكل ده هيعدي، وهتقوميلنا بالسلامة. أنا متأكدة إن ربنا هيخفف عنك.”
تمتمت سيلا بصوت خافت:
“يا رب.”
تذكرت مي شيئا فجأة وقالت:
“عارفة مين شفته وانا جاية؟ معتز.”
نظرت إليها سيلا بدهشة وسألت:
“معتز؟ عمل حاجة؟”
ثم تنهدت بنبرة يملؤها الإرهاق وقلة الحيلة:
“تعبت منهم يا مي… مرة يقولوا نبعد، نبعد. وبعدين يرجعوا يقربوا تاني! طيب ليه؟ ما فيش غير وجع القلب منهم. حتى رودينا بقت زيهم.”
أيدتها مي وهي تتأمل ملامحها المنهكة:
“أنا كمان شايفة كده. المهم دلوقتي مش هم، المهم انتي. لازم تاكلي كويس يا سيلا. شايفة شكلك عامل إزاي؟”
هزّت سيلا رأسها بضعف وقالت:
“مش قادرة، بجد يا مي. كل مرة أحاول أكل حاجة، مش بستحمل.”
عبست مي وهي ترد بحزم:
“انتي كده بتضري نفسك أكتر. أنا مش هعرف أتعامل معاك كده، وهقول لأختك همسة تتصرف معاكي.”
رفعت سيلا يدها بسرعة بإشارة رفض:
“لا، بلاش همسة. هي مش هتستحمل تعرف. وأنا مش قادرة أتكلم. خلاص، هاكل… هاتي يا ستي.”
ضحكت مي بصوت عالٍ وهي تهتف مازحة:
“أهو كده! ناس تخاف من العين الحمرا!”
ابتسمت سيلا رغم ضعفها، وللحظة، شعرت بأن حب من حولها هو الدافع الذي تحتاجه لتكمل هذه الرحلة القاسية.
قاد معتز السيارة خلف مي، متابعًا خطاها حتى وصلت إلى منزل صديقتها. انتظرها قليلًا حتى اطمأن عليها، ثم استدار بسيارته، عائدًا إلى مكتبه ليكمل العمل المتراكم عليه. جلس لساعات طويلة، غارقًا في أوراقه واجتماعاته، حتى كاد ينهي كل المهام المؤجلة. لكنه، مع تقدم الوقت، شعر بالإرهاق يتسلل إلى جسده، فقرر العودة إلى المنزل للراحة.
بينما كان يغادر المكتب، التقى بعاصم عند المدخل.
معتز: “أه، أنا تعبت شوية. رايح البيت. تيجي معايا؟”
عاصم: “يلا بينا. أنا كمان خلصت، وكنت عاوز أتكلم معاك في موضوع مهم.”
ركبا السيارة، وتولى عاصم القيادة. كانت لحظات من الصمت تخيم على الأجواء، حتى قطعها معتز بسؤال:
“كنت عايز تكلمني في إيه؟”
تردد عاصم قليلاً، ثم أخذ نفسًا عميقًا وأعاد ضبط المرايا الأمامية:
“ناوي على إيه؟”
نظر معتز إليه باندهاش:
“في إيه؟”
التفت عاصم نحوه للحظة، ثم أعاد تركيزه على الطريق:
“في حياتك.”
تأمل معتز السؤال قليلاً، ثم أجاب بصوت يحمل بعض الحيرة:
“هتصدقني لو قلت لك إني معرفش؟”
ثم تابع بعد لحظة صمت:
“بجد نفسي أرتاح. تعبت من كل حاجة حواليا. أظن كفاية لحد كده. إحنا مش بنظلم غير نفسنا. شفت الموت بعيني، شريط حياتي كله كان قدامي. كنت خايف أموت، أوصل للنهاية وأنا كلي معاصي. الضربة دي…” وأشار إلى صدره، “فوقتني.”
أخذ عاصم يحدق في الطريق بينما يتحدث معتز:
“اكتشفت إن الدنيا مش مستاهلة. الانتقام من اللي مالوش ذنب؟ اللي غلط وأذنب؟ خلاص، مات وشبع موت. اللي باقي له الرحمة بس. قررت إني أعيش صح المرة دي.”
مد عاصم يده، وأمسك بيد معتز بقوة:
“وأنا مش هسيبك. في ظهرك، وهساعدك بما إنك ناوي تتغير.”
نظر الاثنان لبعضهما بابتسامة أمل، وعاصم أكمل:
“وأنا كمان هرمي كل حاجة ورا ضهري وأبدأ من جديد.”
معتز: “بس الطريق طويل، وهنقابل عقبات كتير.”
عاصم: “قدها؟”
معتز: “طبعًا قدها.”
ضحكا سويًا حتى وصلا أمام الفيلا، وكانت ابتسامتهما مشبعة بطاقة جديدة لم يشعروا بها منذ سنوات.
عند المدخل، كان وليد يتحدث في الهاتف. بمجرد أن لمحهم، أغلق مكالمته واقترب بدهشة ممزوجة بالابتسامة:
“إيه ده! داخلين بتضحكوا كمان؟ يا رب تستر. أكيد بتخططوا لحاجة كبيرة.”
ضحك معتز، ورد عليه بحسم:
“قررنا نعيش.”
نظر عاصم إلى وليد بثقة وقال:
“عندك مانع؟”
أسرع وليد نحوهما، واحتضنهما معًا بقوة:
“مانع؟ أحلى خبر سمعته في حياتي!”
ارتسمت الابتسامة على وجوههم جميعًا، وكأنهم وجدوا خريطة طريق جديدة لحياتهم، مليئة بالأمل والإصرار على التغيير. كانت لحظة فارقة، لحظة توافقهم مع أنفسهم، ووعدهم بأن يواجهوا المستقبل معًا، بعيدًا عن الماضي وهمومه.
ـــــــــــــــــــــــــ
كانت مي مستلقية بجانبها، ترفض أن تتركها وحدها حتى يعود والداها من السفر. همست سيلا بصوتٍ مطمئن:
“لو عاوزة تروحي يا بنتي، روحي. أنا كويسة، ولو احتجت حاجة هقول لهمسة.”
ابتسمت مي برفق وأجابت:
“هعمل إيه يعني؟ خليني معاكي، ما وراياش شغل ولا أي حاجة. وبعدين ماما قاعدة عند خالتي… بيتفقوا على هيثم. عقبال عندك!”
رفعت سيلا حاجبيها بدهشة:
“بيتفقوا عليه ليه؟”
كتمت مي ضحكتها بصعوبة وقالت:
“أصل هيثم فاجئ ماما تاني يوم ما رجعنا من المستشفى وقرر يخطب بنت خالتي! ومن وقتها ماما مقيمة عندها، مصدقة إنه أخيراً جه منه!”
تنهدت سيلا براحة:
“أخيراً فكر صح وأخذ أول خطوة. ربنا يتممله على خير.”
ردت مي بابتسامة:
“يا رب، وعقبالنا إحنا كمان.”
ابتسمت سيلا ابتسامةً مكسورة وقالت:
“عقبالك إنتِ وهمسة يا رب.”
ضحكت مي وقالت مازحة:
“وإنتِ قبلنا، يا رب. أو أنا وإنتِ في يوم واحد… ياااه، تخيلي!”
ظلّت مي تدعو بصدق أن يكون يوم فرحهم جميعًا في يومٍ واحد، ولم يكن أحد يدري أن أبواب السماء قد تكون مفتوحة، وربما تُستجاب الدعوات.
بعد لحظة صمت، التفتت سيلا إلى مي وقالت:
“مش ناوية تدوري على شغل جديد؟ ليه وقفتي؟”
تنهدت مي بإحباط وأجابت:
“مين قال إني ما دورتش؟ أنا لفيت على أكتر من جريدة، لكن أول ما يسمعوا اسمي يعتذروا. ربنا يسامح اللي كان السبب.”
قالت سيلا بحزم:
“هكلم بابا يكلّم أستاذ أحمد علشان يرجعك تاني. إوعي تزعلي نفسك.”
هزّت مي رأسها بإحباط وقالت:
“مبقتش فارقة.”
في هذه اللحظة، أطلت همسة برأسها من باب الغرفة وقالت مازحة:
“ممكن أنام معاكم؟ مش عارفة أنام لوحدي.”
ابتسمت سيلا بحب وردت:
“طبعًا يا حبيبتي، تعالي.”
تسللت همسة إلى السرير ونامت في المنتصف، وبدأ الثلاثة يتبادلن الأحاديث في مواضيع مختلفة حتى قطعت مي الصمت وسألت:
“لسه زعلانة مننا يا همسة من يوم خطوبتك؟”
ترددت همسة قليلًا قبل أن تقول:
“بصراحة؟ آه، كنت زعلانة جدًا، وحمّلتكوا السبب. بس لما فكرت، لقيت إنكم مالكوش ذنب. لكن زعلت إن محدش حاول ياخد بخاطري.”
ردت مي بأسف:
“يا حبيبتي، متزعليش. والله كلنا زعلنا يومها. كانت صدمة، ومكنش حد فاهم حاجة. كنا مرعوبين وتايهين بجد.”
همسة:
“خلاص، مش زعلانة والله. بس بابا وماما وحشوني أوي. مش متعودة يغيبوا عنّا كده.”
غلب الإرهاق سيلا فنامت دون أن يشعرن بها.
بعد لحظات، التفتت مي نحو همسة وقالت:
“هانت. الأسبوع هيجري بسرعة. البت دي ليه ساكتة فجأة؟”
نظرت همسة إلى سيلا وأجابت مبتسمة:
“نامت!”
ضحكت مي وقالت:
“وعاملين نرغي وهي ولا هنا!، مش جديدة عليها. دي تنام في أي وقت.”
ردت همسة ضاحكة:
” أه فاكرة لما كانت متعصبة من عاصم وقت وقعت في البسين ونامت وهي قاعدة؟”
ابتسمت مي وهي تتذكر:
“آه، يوم ما يتنسيش!
هتفت همسة: بس حاسة إنها تعبانة؟حاسة إنها مش طبيعية. مش بتخرج من الأوضة خالص.”
أجابت مي بتردد وهي تلجلج:
“ها… لا، هي بس زعلانة علشان السفر وكده.”
همسة دون اقتناع: “مش عارفة، بس حاسة إنها متغيرة فعلاً.”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في صباح اليوم التالي، استيقظت سيلا باكرًا على غير عادتها، وقد أعدت وجبة خفيفة لتناولها قبل موعد الجلسة. جلس الثلاثة يتناولون إفطارهم في جوٍّ مرح، وكأن شيئًا لم يُثقل صدورهم بالأمس. عادت همسة إلى طبيعتها، وقد نفضت عنها ما وسوس به الشيطان من أفكارٍ لا مكان لها.
قالت همسة بحماس وهي تتناول رشفة من كوب الشاي:
“أنا النهارده هنزل مع وليد نتفرج على الأجهزة… عاوزاكم معايا، لأني محتارة أوي! إيه رأيكم؟”
ردّت سيلا وهي تنظر لمي مبتسمة:
“ممكن مي تروح معاكي، وأنا هخلص مشوار وأحصلكم بعد كده.”
أضاء وجه همسة بالسعادة وقالت:
“تمام أوي! ربنا يخليكوا ليا يا رب!” ثم أضافت وهي تقوم من مكانها:
“ألحق أكلم وليد أشوفه جاي إمتى.”
اختفت همسة في غرفتها لتجهز، تاركةً مي وسيلا وحدهما.
نظرت مي نحو سيلا بحدة وقالت معاتبة:
“إنتِ دبستيني ليه؟ وهسيبك إزاي؟”
ردّت سيلا بنبرة جادة لكنها مليئة بالحنان:
“عشان مش هينفع أرفض لها طلب، وخصوصًا وأنا شايفة الفرحة في عينيها. ماقدرش أكسر فرحتها، وأقولها إني تعبانة. خليتك تروحي معاها وأنا أخلص الجلسة وأحصلكم بعدين.”
قالت مي بإصرار:
“وإزاي أسيبك لوحدك؟ إنتِ مجنونة! مش هقدر أسيبك، انتي بتتعبي جامد بعدها.”
ابتسمت سيلا مطمئنة وقالت:
“متخافيش عليا، هخلص وأركب تاكسي وأجي على طول.”
تنهدت مي وقالت بحذر:
“طيب… خلي بالك من نفسك، عشان خاطري.”
بعد دقائق، خرجت مي مع همسة، حيث التقوا بوليد، وركبوا جميعًا سيارته.
قال وليد مرحبًا:
“أهلاً، مي! عاملة إيه دلوقتي؟”
أجابت مي بلطف:
“الحمد لله، بخير.”
سأل وليد:
“وهي سيلا مش هتيجي معانا؟”
ردّت مي:
“آه، هتيجي. بس عندها حاجة تخلصها وهتكلمني علشان تيجي على طول.”
قاد وليد سيارته إلى أحد أكبر المراكز التجارية، الذي يضم كل ما يحتاجونه من أجهزة وأثاث، بالإضافة إلى كافيهات، متاجر للملابس، ألعاب للأطفال، وغير ذلك. وصلوا أخيرًا، وأوقف السيارة في المكان المخصص لها.
ما إن نزلوا حتى تلقى وليد مكالمة هاتفية. كان صوته متحمسًا ومشحونًا بشيء من المزاح:
“حبيبي، فينك؟ وصلنا ولسه قاعدين. انجز بقى، الدنيا زحمة!”
ردّ الطرف الآخر ممازحًا:
“ما أنت لسه سايبني! إيه، وحشتك؟”
ضحك وليد وقال:
“رخم أوي! تصدق تساعدني؟ مش قايلك على كل حاجة إمبارح. المهم… جت معاكم؟”
ردّ وليد بضحكة مكتومة:
“آه، ياسيدي، جت. إحنا في قسم الأجهزة، هتلاقينا هنا. يلا سلام بقى، يا عم روميو، وربنا معاك. ده أنت هتشوف أيام عسل!”
سمعت همسة جزءًا من الحديث وسألت بفضول:
“مين يا وليد اللي جاي؟”
خفض وليد صوته وقال لها:
“معتز. بس متجيبيش سيرة لمي. شكله جاي يعملها مفاجأة.”
ابتسمت همسة بحماسة وقالت:
“الله! بحب المفاجآت أوي.”
أشار لها وليد أن تهدأ وقال:
“هسس… يلا ندخل المحل.”
وبينما كانوا يتجولون بين الأقسام، لاحظت همسة أن مي لم تكن معهم. التفتت حولها وقالت:
“مي؟ مش لاقياها!”
قال وليد بهدوء:
“كلميها، وقوليلها إحنا في قسم الأجهزة.”
ابتعدت مي قليلاً لتترك مساحة بينهم، بينما كانت تتجول بمفردها بين الأقسام. أعجبتها المعروضات وسرحت للحظات، حتى شعرت بشخص يصطدم بها عند مدخل أحد المحلات.
التفتت بعصبية وقالت:
“ما تفتح! إنت أعمى ولا إيه؟!”
لكنها توقفت فجأة، واتسعت عيناها دهشة وهي تراه أمامها.
معتز، بابتسامة مشرقة أضاءت وجهه: “أنا فعلاً أعمى لكن فتحت عيني بمجرد ماشوفتك!.”
مي، دون أن تنطق بحرف، تركته ورحلت بخطوات متسارعة. شعرت أنها ستفقد أعصابها لو ظلت واقفة أمامه، لكنه لم يتركها تبتعد. تبعها بخطوات واثقة، والابتسامة لم تفارق شفتيه، يده في جيب بنطاله وكأنه يمسك بها مفتاح حوار جديد.
انضمت مي إلى همس وليد، ارتفع صوت وليد بدهشة مصطنعة:
“معتز! ياااه، إيه الصدف الحلوة دي، يا راجل!”
رد معتز بنبرة مليئة بالغرور:
“جيت أتفرج على حاجة كده، عندك مانع؟”
وليد، راغباً في إضفاء جو من المزاح على الموقف، قال بمرح:
“اتفرج براحتك، يا سيدي. يلا يا همسة، يلا يا مي، نمشي من هنا.”
لكن معتز أسرع بالمقاطعة:
“إزايك يا همسة؟ عاملة إيه مع الغتت ده؟”
فهمت همسة مغزى كلامه، فأجابت بابتسامة باردة:
“الحمد لله، بس انت جاي تتفرج على إيه هنا يا معتز؟”
ثم وجهت نظرها نحو وليد قائلة بخبث:
“استنى يا وليد، يمكن محتاج رأينا.”
رد وليد وهو يرفع حاجبه بسخرية:
“عشان خاطرك بس يا حبيبتي، هقوله رأيي.”
ثم أضاف بقهقهة، يلعب بحاجبيه بطريقة فكاهية، فضحك الجميع واندمجوا في الحديث. تنقلوا بين الأماكن، ومعتز يحاول اختلاق أي حديث يجذب اهتمام مي، لكنها كانت تتجاهله تماماً، كأن وجوده غير مرئي بالنسبة لها.
همس معتز لنفسه بتصميم:
“شكل عاصم عنده حق… واضح أننا هنواجه عقبات كتير، بس مش هَيأس.”
في وقت لاحق، استقلت سيلا وسائل المواصلات حتى وصلت إلى المستشفى. تم تجهيزها لإجراء جلستها الطبية. قضت عدة ساعات داخل غرفة العلاج، وحين انتهت، نقلتها الممرضة إلى غرفة أخرى لتستعيد اتزانها قبل المغادرة.
فتحت باب الغرفة بتثاقل، لكنها تفاجأت بوجود أخر شخص يقف داخلها…!
يتبع
23 _24 جمر الجليد
فتحت باب الغرفة بتثاقل، لكنها تفاجأت بوجود أخر شخص يقف داخلها…! حين وقع بصرها عليه، اندهشت تمامًا من حضوره غير المتوقع، لتُطلق بغير وعي: “أنت!”.
رفعت كتفيها في حركة متثاقلة كمن أرهقها الجدل المستمر، وهتفت بتعب ممزوج بالاستسلام:
“ارحمني بقى! عايز مني إيه تاني؟”
جلست على طرف الفراش، تغلف ملامحها سحابة من الإرهاق، وقالت بنبرة مُتعبة:
“أظن إن الأفضل أبعد عنكم كلكم… وأبعد أنت كمان، وسيبني فحالي. إيه تاني حصل؟ جاي دلوقتي تقولي إني السبب، فيه؟”
تقدم نحوها بخطوات ثقيلة، وجلس بجانبها، يظهر على ملامحه أسف عميق يُخفيه بضعف كلماته:
“سيلا… أنا آسف على كل حاجة عملتها من يوم ما عرفتك.”
رفعت رأسها ببطء، تتطلع إليه بعينين تحملان مزيجًا من السخرية والمرارة، لتبتسم ابتسامة تهكمية مشوبة بالألم:
“آسف؟ معقول؟! عاصم باشا نفسه جاي يتأسف لي؟ لا… أنا أكيد بحلم!”
سكتت لحظات تتجرع خلالها صدمة وجوده، ثم تابعت بنبرة واثقة لكنها مشوبة بالتعب:
“أو يمكن جاي علشان أقول لك إني مسامحاك قبل ما أموت، مع إني متأكدة إنك مفيش شعور ولا أحساس. عادي يعني… لو مسامحتكش، ما هتفرقش معاك!”
حاول التماسك، لكن لهفته خانته، فهتف:
“بعد الشر عليكِ يا سيلا! انتي هتخفّي وتعدّي بالسلامة… أنا مش عاوز أي حاجة غير نبدأ صفحة جديدة. ننسى كل اللي فات… كل الخلافات والمشاكل. إيه رأيك؟”
رغم الألم الذي كان ينهش جسدها، حاولت ألا تُظهر ضعفها أمامه، لكنها لم تستطع كبح اندهاشها من كلماته. تناست آلامها لوهلة، لتضحك ضحكة قصيرة، خرجت منها رغماً عنها، وقالت بنبرة ممزوجة بالسخرية والقهر:
“صفحة جديدة؟ مع مين؟ معاك إنت؟ هاه هاه… بجد، ضحكتني وأنا مش في مزاج للضحك أصلاً!”
ساد الصمت للحظات، بينما بدأت ملامح وجهها تتلوّى من الألم. حاولت جاهدة أن تقاوم، لكن الألم كان أقوى منها. شعرت برغبة عارمة في الصراخ، فيما هو ينظر إليها بقلب مثقل بالندم. أراد لو يقترب منها، لو يحتضنها، لو يُعيد الزمن للوراء ليعوّضها عمّا فات، لكنه بقي متجمداً في مكانه، لا يجد ما يقوله.
قطعت صمتهما بصوتٍ بالكاد يخرج من حنجرتها:
“طلبك مرفوض، يا عاصم. ابعد عني. مش عايزة أشوفك تاني في حياتي كلها. وأسفك… مرفوض. أنا مش مسامحاك!”
قبضت يدها على ملاءة الفراش، والوجع يكاد يفتك بجسدها. فجأة، لم تعد تقوى على الاحتمال أكثر، لتصرخ بكل ما أوتيت من قوة:
“آآآآآآآه! مش قادرة… اطلع براااااا! مش عايزة أشوفك تاني! براااااا!”
صرختها الأخيرة اخترقت أذنه كطعنة، لكنها لم تكن مجرد صوت؛ كانت وجعًا ناطقًا، كأنها تلفظه خارج حياتها للأبد.
ارتعب من حالتها: اهدي اهدي خلاص همشي همشي طيب.
هرول عاصم بخطواتٍ سريعة نحو الطبيب يناديه بفزعٍ لم يستطع إخفاءه، وما إن وصل الطبيب حتى انطلق يسأله بلهفة:
“مالها؟ مالها؟ فيها إيه؟”
أجابه الطبيب بنبرة هادئة وعملية:
“اهدأ، مفيش حاجة خطيرة. عطيتها مسكنًا، وبعد شوية تقدر تمشي عادي.”
تنفس عاصم قليلًا وكأن الهواء قد عاد إلى رئتيه، لكنه لم يستطع منع نفسه من السؤال مجددًا:
“طيب… إمتى ميعاد الجلسة الثانية؟”
رد الطبيب:
“بعد خمس أيام. لكن لازم تركزوا على علاج الأنيميا، لأن وضعها كده هيأثر على العلاج بصورة سلبية. بعد إذنك.”
تركه الطبيب ورحل، بينما وقف عاصم يحاول تهدئة نفسه. لكن قلبه كان مثقلًا بالحزن عليها. شعر بعجز كبير؛ هو الذي طالما اعتاد السيطرة على كل شيء، يقف الآن ضعيفًا أمام ألمها. قرر ألا يتركها وحدها، وظل منتظرًا خارج الغرفة حتى خرجت.
ما إن فتحت الباب وظهرت أمامه حتى تقدم نحوها سريعًا، وقال بحزمٍ لا يقبل الجدال:
“هوصلك. مش هينفع تمشي وإنتِ في الحالة دي. ومن غير نقاش… قدامي.”
وقفت تنظر إليه بدهشة من هذا التحول المفاجئ في شخصيته، ثم أردفت بتهكم:
“لسه ما مشيتش؟”
تخطته متجهة نحو الخارج، بينما تبعها دون أن يقول شيئًا. وما إن وقفت على الرصيف لتبحث عن سيارة أجرة، استدارت إليه فجأة، ونظرت إليه بغضبٍ مكتوم:
“أنا همشي لوحدي زي ما جيت. ما تتعبش حالك.”
لم تمنحه فرصة للرد. أشارت لأول سيارة أجرة مرت أمامها، صعدت بداخلها، وأغلقت الباب خلفها دون حتى أن تنظر إليه.
وقف عاصم يراقبها وهي تبتعد، ثم شدّ شعره بضيق وهو يتمتم:
“عنيدة! …، ماشي يا سيلا. نشوف آخرتها معاك.”
لم يتردد طويلًا. صعد إلى سيارته، وأدار المحرك، وبدأ يتتبع سيارة الأجرة من بعيد. ظل يراقب الطريق بصمت، يزداد فضوله كلما اقتربت المسافة.
أوقفت سيارة الأجرة أمام مركز صغير. نزلت سيلا واتجهت نحو الداخل، بينما أوقف عاصم سيارته على الجانب وتبعها بهدوء. دخل خلفها، وكانت المفاجأة بانتظاره.
رآها تقترب من مجموعة تجمّعوا في إحدى الزوايا. كانت أختها ومي هناك، ومعها وليد، ومعتز أيضًا. وما إن رأوه قادمًا خلفها حتى ظهرت الدهشة على وجوههم جميعًا.
قطع وليد الصمت، متحدثًا بنبرة ساخرة، محاولًا كتمان ضحكته:
“آه يا سلام! الحبايب كلهم جايين عشاني. ياااه… معرفش إنّي غالي عليكم كده. عاصم باشا بنفسه جاي برضه؟! مش ناقص غير عامر… كده أكلمه ينزل من الغردقة هو ومراته وعياله!”
ضحك الحاضرون، لكن سيلا كانت تقف بعيدًا، متجاهلة عاصم تمامًا، وعينيها تُخفيان خليطًا من الألم والغضب. بينما عاصم، الذي لم يعر سخرية وليد أي انتباه، كان مشغولًا بشيء واحد فقط: الاقتراب من سيلا بأي وسيلة.
رفع عاصم حاجبه بنظرة تجمع بين الجدية والسخرية، وقال موجهاً حديثه إلى وليد:
“خفّة حد قالك قبل كده إنك خفيف؟”
أجابه وليد بمرح وهو يبتسم ابتسامته المعتادة التي لا تخلو من مشاكسة:
“كتير ولا أية يا زيزي… مش عارفين نعدهم أصلاً.”
تدخّل معتز، يرمق وليد بنظرة نارية ورافعاً حاجبه باستفزاز:
“يا مين؟ تعالى هنا! مين؟ تعالى، تعالى بتهرب ليه؟ أنا هقولك!”
لم ينتظر وليد مزيداً من التوبيخ، أطلق ضحكة صغيرة وهو يلوّح بيده قائلاً قبل أن يهرب مبتعداً:
“أنا هاخد اللي ليّا وأطير!”
ثم أمسك بيد همسة وابتعد عن الأجواء المشحونة، تاركاً معتز وعاصم خلفه، والابتسامة لا تفارق وجهه.
من بعيد، كانت سيلا تراقب الموقف، تشعر بثقل لا علاقة له بما يجري حولها. التفتت إلى صديقتها مي، وبنظرة معبّرة، همست لها:
“تعالي ننسحب، نقعد في أي كافيه بعيد عنهم. أنا خلاص، على آخري من وجع دماغهم ده.”
قهقهت مي على فكرة صديقتها، وردّت مازحة:
“يلا بينا، أنا معاكِ في الهروب الكبير!”
وبالفعل، تسللت الفتاتان بهدوء حتى ابتعدتا عن الشباب، واتجهتا إلى أحد المقاهي. جلستا هناك، حيث الأجواء كانت أهدأ بكثير من الفوضى السابقة.
نظرت مي إلى سيلا، تلاحظ علامات الإرهاق على وجهها، وقالت بتعاطف:
“شكلك تعبتي… ياريتني كنت جيت معاكي الجلسة. النهارده جيت على الفاضي!”
تنهدت سيلا بصوت خافت وردّت:
“الحمد لله، بقيت أحسن شوية. بس بجد، أنا مخنوقة أوي النهارده.”
أومأت مي بتفهم وقالت:
“خلاص يا سيلا، كم جلسة وهتكوني بخير وترجعي لنا زي الأول.”
لكن سيلا لم تجد في كلمات صديقتها عزاءً كافياً. رفعت عينيها نحوها وقالت بمرارة:
“مش بتكلم عن الجلسات، خلاص تأقلمت عليها وعلى وجعها. اللي خنقني بجد اللي حصل النهارده… أنا تعبت أوي، مقدرتش أتحمل. انهرت قدامه. شافني في أضعف حالاتي. شفت نظرة الشفقة في عينيه. أنا مش قادرة أستحمل ده، مش عاوزاه يقرب مني تاني.”
اتسعت عينا مي في دهشة، وسألتها بحذر:
“مين اللي شافك؟ تقصدي عاصم، صح؟”
هزت سيلا رأسها بالإيجاب، مؤكدة ما خافت مي أن تسمعه.
تابعت مي، بنبرة امتعاض:
“وإيه اللي عرفه ميعاد الجلسة أصلاً؟”
أجابت سيلا وهي تهز كتفيها باستسلام:
“معرفش، بس أكيد حاجة زي دي مش هتستخبى عليه. جاي يقول إنه عايز يفتح صفحة جديدة، وإننا ننسى اللي فات. فاكرني هرمي نفسي في حضنه وأوافق؟ ده أكيد مجنون!”
ضحكت مي بخفة، تحاول تخفيف الجو المشحون:
“سيبيك منه، حتى أخوه معتز شكله بيحلو عليّا!”
قهقهت سيلا، لأول مرة منذ بداية اليوم، وعلّقت ساخرة:
“هههههه… كمان؟”
ردت مي مازحة:
“آه والله، دول بحالات! كل ما نبعد يقربوا، وكل ما نقرب يبعدوا. إحنا مش فاهمين لهم حاجة.”
ابتسمت سيلا بتعب وقالت:
“سيبيك منهم يا مي. أنا مش قادرة أكمل. يلا بينا، كلمي همسة وقولي لها إحنا مش عارفين نوصل. هنمشي وخلاص.”
نهضت الفتاتان، تاركتين خلفهما الأحاديث المشوشة والمشاعر المتناقضة، عازمتين على البحث عن راحتهما في مكان آخر بعيد عن كل ما يثقل كاهلهما.
داخل غرفة البنات بمنزل همسة، أجواء مليئة بالمرح والدفء.
همسة، بنبرة عتاب خفيفة وزعل:
“مشيتوا ليه؟ كان في عربيات كتير، كنتم هتركبوا. دول فضلوا يدوروا عليكم يا حرام، كانوا هيجننوا!”
مي، تكتم ضحكتها وهي تحاول الحفاظ على جديتها:
“شكلهم كان مسخرة، باين عليهم من الكلام.”
سيلا غمزت لها بخفة حتى لا تقع بالكلام وتُغضب همسة:
“أحم… يا بنتي إحنا دورنا عليكوا، بس كانت الزحمة فظيعة، وأول ما لقينا تاكسي ركبناه على طول.”
ابتسمت همسة بنصف رضا، ثم غيّرت الموضوع قائلة بحماس:
“بالمناسبة، الحاجات اللي اخترناها طلعت تحفة! كان نفسي تشوفوها قبل ما تتنقل للبيت.”
ردت مي وسيلا في نفس اللحظة بابتسامة حنونة:
“تتهني بيها يا حبيبتي!”
أضافت سيلا:
“إن شاء الله نشوفها في بيتك الجديد.”
همسة بابتسامة مليئة بالامتنان:
“تسلمولي يا رب.”
رن هاتف المنزل فجأة، فقطع حديثهن، فتسارعن جميعاً للرد.
همسة، ترد بحماس وفرحة وهي تسمع صوت والدها:
“بابا! حبيبي، وحشتني أوي أوي! كلنا كويسين الحمد لله… ماما فين؟ هاتها أسمع صوتها.”
وبعد لحظات، صرخت بسعادة:
“ماما! وحشتيني أوي، وحشني حضنك أنا وسيلا كويسين ومي بتبات معانا ومش بتسيبنا أبدًا. هتيجوا إمتى بقى؟”
استمعت إلى الرد، ثم هتفت:
“بجد؟ طيب حلو أوي… تيجوا بالسلامة.”
ناولتها الهاتف لسيلا، قائلة:
“خدي، ماما عايزة تكلمك.”
سيلا، تأخذ الهاتف بشوق:
“ماما! عاملة إيه؟ وحشتيني أوي أوي. عمرة مقبولة يا حبيبتي.”
استمعت لوالدتها بفرحة، ثم أضافت:
“إحنا كويسين الحمد لله، بس البيت من غيركم وحش أوي. ما تقلقيش علينا.”
ثم ناولت الهاتف لهمسة مرة أخرى، وهي تهمس بابتسامة:
“بابا على الخط كمان.”
أ
ردت همسة سريعًا:
“ألو، يا بابا!”
بعد حديث قصير، أغلقت الخط وهي تهمس بالدعاء لهم.
مي، كعادتها، لا تفوّت فرصة للمرح:
“جايين إمتى؟ عشان أخلص اعتكافي عندكم. أكيد قالوا عليّ: إيه البنت اللزقة دي؟”
سيلا، بابتسامة ماكرة:
“بس انتي مش لازقة بس وغرا كمان.”
مي، ترد ممازحة:
“آه والله؟ طيب! والله ما أنا سيباك!”
سيلا، تضحك بخفة:
“لا لا لا، انتي زي العسل، وقمر كمان. خدي بوسة أهي!”
همسة، بين ضحكاتها:
“ناس تخاف من العين الحمرا فعلاً!”
سيلا، توجه كلامها لهمسة بجدية:
“صحيح، نسيت أسألك. جايين إمتى؟ قالوا لك إيه؟”
ردت همسة:
“خلصوا العمرة خلاص، قدامهم حوالي أربع أيام ويوصلوا.”
مي بابتسامة:
“يوصلوا بالسلامة إن شاء الله.”
سيلا:
“إن شاء الله.”
مرّت الأيام بسرعة، وما زالت محاولات عاصم ومعتز للتقرب من الفتيات تبوء بالفشل المعتاد.
في هذه الأثناء، كان وليد وهمسة يضعان اللمسات الأخيرة على تجهيزات زفافهما. انتهيا من إعداد الفيلا، وترتيب الأثاث، ونقل الأجهزة، واختارت سيلا ومي وهمسة فستان الزفاف الذي زادها إشراقًا.
كان الموعد محددًا بعد عودة الأهل مباشرة، ولم يتبقَ سوى أسبوع على الحفل.
ولكن في الساعة الرابعة فجرًا، رن الهاتف بشكل مفاجئ وغير متوقع.
صوت الرنين اخترق سكون الليل، لتنهض الفتيات في حالة من الحيرة والتساؤل:
“مين هيتصل في الوقت دا؟!”
ساد الصمت للحظة، ثم عاد الهاتف يرن مجددًا، كأن الإلحاح يحمل معه نذير سوء. استيقظ الجميع فزعين، يتساءلون من يمكن أن يتصل في مثل هذا الوقت المتأخر.
همسة، التي لم يهدأ قلبها منذ بدء الرنين، أسرعت لتجيب، لكن يدها ارتعشت وهي ترفع الهاتف. ردت على الاتصال، غير أنها لم تنطق بكلمة، واكتفت بالإنصات للطرف الآخر. عيناها امتلأتا بالدموع في لحظة واحدة، وصوت مي المذعور يناديها:
“مين؟! مين بيتصل؟!”
لم تجب همسة. حتى على سيلا، التي تجمدت في مكانها وهي تحتضن قلبها، أخذت تهز رأسها في محاولة يائسة لإنكار ما يخبرها به حدسها. فجأة، ألقت همسة الهاتف بإهمال وكأنها ترفض تصديق ما سمعت، وبدأت تهز رأسها بعنف وهي تردد بلا وعي:
“لا… مش ممكن… مستحيل!”
تقدمت سيلا، غير قادرة على كبح فضولها أو مخاوفها، التقطت الهاتف المرتجف من الأرض.
“ألو؟ ألو؟ مين معايا؟”
وجاءها نفس الصوت الحزين من الطرف الآخر. الكلمات القليلة التي سمعتها أكدت ما كانت تخشاه. ضرورة حضورهم للتعرف عليهم؟.
أغلقت سيلا الهاتف ببطء، لكن دموعها انهمرت كشلالات لا تعرف التوقف. صرخت وهي تهلوس بكلمات غير مترابطة:
“ماتوا؟ غرقوا؟ يعني خلاص؟ مش هشوفهم تاني؟ سابونا؟! لا! لا! أنا جاية… أنا جاية لكم!”
همسة التي كانت في حالة صدمة عميقة، بدأت تفقد وعيها تدريجيًا، إلى أن سقطت على أقرب كرسي بلا حراك. مي، التي كانت ترتجف بينهن، هرعت نحوها محاولة إفاقتها، وهي تهتف:
“سيلا! سيلا! إلحقيني… همسة أغمي عليها!”
لكن سيلا لم تكن أفضل حالًا، فقد تجمدت في مكانها كأن الكلمات سرقت روحها. مي، المرتبكة والخائفة، لم تعرف من تلحق ومن تساعد. ركضت نحو المطبخ، بحثت عن أي شيء يمكن أن يفيقهن، لكنها كانت تدور كالعمياء بين الأشياء.
في لحظة يأس، التقطت هاتف همسة واتصلت بوليد، الذي أجاب بصوت ناعس:
“ألو؟”
مي صاحت وهي تبكي:
“وليد! تعال بسرعة على بيت همسة! جالنا خبر أن مامتها وباباها حصل لهم حاجة وحشة في ميناء إسكندرية! أنا لوحدي… وهما مش بينطقوا! أنا خايفة عليهم قوي!”
ثم انفجرت في بكاء هستيري:
“الحقنا، أرجوك! مش عارفة أعمل إيه!”
ما أن سمع وليد الخبر حتى قفز من سريره كمن لسعته نار، هرول مسرعًا إلى الخارج وهو ممسك بهاتفه، يخاطب مي التي لم تتوقف عن البكاء:
“حاضر… حاضر، أنا جاي حالًا. حاولي انتي تفوقيهم بأي طريقة، متسبهمش لوحدهم!”
مرت دقائق بدت كأنها ساعات. مي، التي لم تفقد الأمل، استعانت بعطر قوي خاص بسيلا. بعد محاولات مضنية، بدأت سيلا تستفيق شيئًا فشيئًا، وما هي إلا لحظات حتى استيقظت همسة بدورها، لكن صدمتها كانت أكبر من أن تحتمل.
بصوت متقطع خرج من أعماقها:
“قولولي إن ده كان حلم… صح؟!”
توجهت بنظراتها المرتعشة نحو مي ثم نحو سيلا، باحثة عن تأكيد يطمئن قلبها:
“صح يا سيلا؟ حلم… كابوس! أكيد كابوس، صح؟”
لكن سيلا لم تنبس ببنت شفة. نهضت فجأة واتجهت نحو غرفتها بخطوات متعثرة، ارتدت أي ملابس وجدتها أمامها على عجل، وخرجت مسرعة نحو الباب.
مي، التي شعرت بالخطر، وقفت في طريقها محاولة إيقافها:
“رايحة فين يا سيلا؟! استني! مش هينفع تروحي لوحدك!”
لكن سيلا كانت غارقة في دوامة من الغضب والحزن. قطعت حديث مي بصوت حاد ونظرات زائغة:
“سيبيني، يا مي! مش هقدر أتكلم غير لما أشوفهم بنفسي. مش هرتاح إلا لما أتأكد! ابعدي عني دلوقتي!”
حاولت مي التماسك، وتحدثت بسرعة:
“استني، أنا جايه معاكي! أغير هدومي وأجيلك حالًا.”
لم تكن سيلا وحدها من استعدت للذهاب؛ حتى همسة غيرت ملابسها على عجل. وبينما هي تهم بالخروج، فوجئت بوجود وليد عند الباب. نظرت إليه بذهول، وكأنها لم تفهم سبب وجوده. عندها بادرت مي بالتوضيح، متحدثة بارتباك:
“أنا… أنا اللي كلمته من تليفونك يا همسة! لما شفتكوا واقعين وخفت عليكم. مكنش قدامي غيره. أخويا مسافر وماما في البلد.”
لم يرد أحد. سيلا، مي، همسة، كلهم كانوا غارقين في عوالمهم، يحملون حزنًا أكبر من الكلمات. أما وليد، فحسم الموقف بقوله:
“طيب… يلا! أنا جاي معاكم. مش هسيبكم لوحدكم.”
بعد ساعات من الطريق المحموم، وصلوا إلى الميناء. المشهد كان مرعبًا. أصوات الصراخ والعويل ملأت الأرجاء، والأعداد الغفيرة من الأهالي الباحثين عن أحبائهم زادت الموقف قسوة.
جلسوا داخل السيارة للحظات، كأنهم غير قادرين على مواجهة ما ينتظرهم بالخارج. الصمت كان سيد الموقف، لكن قلوبهم كانت في حالة انهيار تام.
في الخارج، جاءت الأخبار كالصاعقة: “لقد غرقت إحدى العبارات القادمة من السعودية بالقرب من السواحل المصرية.”
وليد، الذي كان يحاول التماسك من أجلهم، قال بصوت هادئ:
“اهدوا… إن شاء الله يكونوا من الناجين. متفقدوش الأمل!”
لكن همسة، التي سمعت كلماته، لم تستطع أن تتحمل أكثر. خرجت من صمتها بأنفاس متقطعة ومتسارعة، وكأن الهواء لم يعد يكفيها.
صرخت مي بذعر:
“وليد! وقف العربية! هي مش قادرة تاخد نفسها!”
أوقف وليد السيارة على الفور، ونزل منها مسرعًا نحو همسة. حاول إسعافها بارتباك، أمسك بزجاجة مياه ونثر على وجهها بضع قطرات، يردد آيات من القرآن بصوت ثابت لتهدئتها:
استغفري ربنا، واهدي… هتعدي، إن شاء الله هتعدي.”
بدأت أنفاسها تهدأ قليلًا، لكن عيناها لم تستطع أن تفتح، وكأنها فقدت آخر ذرة من قوتها. أغمضت عينيها وسقطت بلا وعي بين ذراعيه.
“خلي بالك عليها.”
قالتها سيلا بصوت مختنق بالدموع، وكأنها توصية أخيرة، ثم اندفعت خارج السيارة بخطوات مسرعة، لم تنتظر أحدًا، ولم تعر نداءات وليد أي انتباه. لحقت بها مي، التي لم تستطع أن تتركها تواجه هذا المشهد وحدها، متشبثة بها كما لو أن قربها سيخفف من وطأة الألم الذي يزداد ثقله مع كل خطوة.
“استنوا! ماينفعش كده! خليكوا هنا لحد ما تفيق همسة!”
ناداهما وليد بصوت مرتفع، لكنهما لم تتوقفا. سيلا كانت رافضة حالة التشتت التي تنهش روحها، تريد فقط أن تعرف، أن تتأكد أن والديها بخير.
تقدمتا بخطوات متعثرة بين الحشود، أيديهما متشابكة بقوة، وكأن هذا التشابك هو الحبل الأخير الذي يبقيهما متماسكين وسط هذا الطوفان من البشر. ومع كل خطوة نحو الداخل، اشتدت الصدمة.
شهقتا في وقت واحد من هول المنظر الذي امتد أمام أعينهما. صفوف طويلة من الجثث، بعضها مغطى بأكفان بيضاء، وبعضها مكشوف، وصراخ الأهالي يمزق الآذان. المشهد كان أقرب إلى كابوس حي.
تراجعت سيلا خطوة إلى الخلف وهي تغلق عينيها بقوة، وكأنها ترفض أن ترى المزيد. مي، التي حاولت أن تتحلى ببعض القوة، فتحت عينيها ببطء، ونظرت حولها وهي تهمس:
“سيلا… افتحي عينيك. لازم نتأكد… يمكن هما مش هنا.”
لكن سيلا لم تستطع. تشبثت بيد مي أكثر، وكأنها تبحث عن ملاذ وسط هذا الجحيم. كلما وقع بصرها على جثة جديدة، ازداد الرعب الذي يأكل قلبها. شعرت وكأنها على وشك الانهيار.
تقدمتا خطوة بخطوة، تتعثران بين الحشود، حتى توقفتا أمام جثتين موضوعتين بجانب بعضهما، مغطاتين بغطاء أبيض. توقفت سيلا فجأة، جسدها تجمد في مكانه.
بصوت مرتجف، قالت مي:
“سيلا… مالك؟”
لكن سيلا لم ترد. كانت عيناها معلقتين بتلك الجثتين. حين رفع أحد المسؤولين الغطاء عن وجهيهما، تجمدت الدماء في عروقها.
بدأت تهذي بكلمات غير مفهومة، دموعها تنهمر بغزارة:
“كنت مشتاقة لحضنكم أوي دلوقتي مش هشوفكم غير في أحلامي”
تقدمت نحو الجثتين ببطء، وكأنها غير قادرة على تصديق ما تراه. مدّت يدها المرتعشة، وكأنها تريد أن تلمس ملامحهما، أن تتحقق أن هذا مجرد وهم.
ثم فجأة، انهارت على ركبتيها بجانبهما، واندفعت في بكاء حار، تصرخ بصوت مكلوم كنت بستناكم…. كنت مستنية أشوفكم تاني!”
أما مي، فوقفت خلفها، عاجزة عن الكلام أو الحركة، تكتفي بمسح دموعها وهي تنظر إلى السماء كأنها تطلب الصبر لما يحدث.
….
أنهى مراسم دفن والديها في المدافن الخاصة بعائلتها بمدينة الإسكندرية بعد صلاة الظهر. الأجواء كانت ثقيلة، ممتلئة بالأسى والصمت القاتل. بعد انتهاء كل شيء، ركب عاصم السيارة برفقة شقيقه معتز، استعدادًا للعودة إلى القاهرة.
قاد معتز السيارة، محاولًا كسر حاجز الصمت المطبق بينهما. حاول مرارًا جذب الحديث مع عاصم:
“عاصم… عاوز تتكلم؟ يمكن ترتاح شوية؟”
لكن عاصم لم يكن حاضرًا. كان غارقًا في عالم آخر، عيناه تحدقان في الأفق، وصدره يعلو ويهبط كمن يحمل همًّا أثقل من أن يتحمله. حين أدرك معتز أن الحديث لن يجدي، ركز انتباهه على الطريق الطويل الممتد أمامه، تاركًا شقيقه في شروده.
أسند عاصم رأسه إلى مسند المقعد، وأخذ نفسًا عميقًا، محاولًا تهدئة ضربات قلبه المتسارعة. حاول إغماض عينيه، لكن كلما فعل ذلك، عادت صورها إلى ذهنه، حالتها المنهارة، الكلمات التي تفوهت بها، والخوف الذي زرعته في قلبه.
كان عقله مشوشًا، يدور حول الأحداث التي وقعت منذ ساعات قليلة. تذكر المكالمة المفاجئة التي تلقاها من ابن عمه:
“عاصم، لازم تيجي حالًا على ميناء الإسكندرية! الوضع صعب جدًا، وفيه أخبار سيئة عن أسرة همسة.”
لم يكن هناك مجال للتفكير. ارتدى ملابسه على عجل، وركض نحو غرفة شقيقه معتز يطرق الباب بقوة:
“معتز، اصحى بسرعة! لازم تيجي معايا، في مصيبة حصلت.”
ركبا السيارة، وقاد عاصم بسرعة جنونية، وكأن الطريق نفسه قد اختفى. لم يحسب الوقت، لم يهتم بالمسافة، كان كل ما يريده هو الوصول.
حين وصل إلى الميناء، خرج من السيارة مسرعًا، عيناه تبحث عنها بين الحشود. لكن ما رآه أوقفه في مكانه، وكأن الزمن تجمد حوله.
كان المشهد أشبه بالكابوس: الأهالي جالسون على الأرصفة، بعضهم يبكي بصوت عالٍ، والبعض الآخر جالس بصمت مميت، سيارات نقل الموتى مصطفة، والأجواء أشبه بمقبرة مفتوحة. الجو كان باردًا، ليس بفعل الطقس، بل بسبب الحزن الذي خيم على المكان.
تقدم بخطوات بطيئة، يجر قدميه كمن يسير في حلم ثقيل، حتى وصل إلى المكان الذي تخرج منه الأكفان. ما رآه هناك كان أقسى من كل ما تخيله.
رآها وهي منهارة على الأرض، جسدها يرتعش من شدة البكاء، ورفيقتها تحاول السيطرة عليها لكنها عاجزة. عيناه اتسعتا، لم يستطع التحرك. كان واقفًا كالصنم، عاجزًا عن التفكير أو التصرف.
بقلم شروق مصطفى
نظر حوله، رأى وجوهًا غارقة في الحزن، العيون مشبعة بالقهر، الهموم مرسومة على ملامح كل شخص. كل شخص هناك فقد عزيزًا، كل شخص يحمل جزءًا من هذا الألم الثقيل الذي ملأ المكان.
لكن عينه لم تفارقها. كانت هي مركز كل ما يشعر به. كلماتها الأخيرة قبل أن يغادر المكان ترن في أذنه كإنذار:
“مش عايزة أعيش من غيرهم… مش هقدر.”
ظل ينظر إليها، خائفًا عليها أكثر مما كان خائفًا على نفسه.
وقفت سيلا بين الجثتين، كأن العالم من حولها قد توقف. كل ما فكرت به في تلك اللحظة كان احتضانهما ولو لمرة أخيرة قبل أن يفصلهما عنها التراب للأبد.
جثت على ركبتيها، حتى بات وجهها بمستوى وجهيهما، وعيناها تلتمعان بالدموع المتحجرة التي تأبى أن تنزل، وكأنها تخشى أن تتحرر وتغرقها أكثر في هذا الألم. لم تكن ترى أو تسمع شيئًا من حولها. انقطعت حواسها تمامًا عما يدور في المكان، وصمتت أذناها عن أصوات العويل والنحيب الذي يملأ الأجواء.
بدأت تهمس، بصوت أقرب للبكاء المكتوم، وكأنها تحاول إقناع نفسها أن ما تراه ليس حقيقيًا:
“أنا بحلم… صح؟ حد يصحّيني. الحلم طول أوي. أكيد ده حلم… أنتم ليه نايمين كده؟ افتحوا عينيكم! اصحوا! قولوا إنه مش حقيقي!”
مدت يدها المرتعشة لتلامس مقدمة رأس أبيها، ثم انزلقت يدها على وجنتيه، وكأنها تحاول إيقاظه. صمتت للحظات، ثم تابعت بصوت مكسور:
“مش بترد عليَّ ليه؟ ها؟ يا حبيبي… أنا سيلا، بنتك. رد عليَّ.”
انتظرت لحظة، وكأنها تأمل أن تسمع صوته يجيبها، لكن الصمت كان سيد المكان. تمالكت نفسها قليلًا، ثم تحدثت بصوت يفيض وجعًا:
“انت لسه زعلان مني، صح؟ عشان شغلي… خلاص، والله مش هشتغل تاني! والله، بس انت اصحى… اصحى بقى! انت مش بترد ليه؟ ارجوك، رد…”
ابتلعت غصة ثقيلة عالقة في حلقها، ثم أكملت بصوت مرتعش:
“طيب… مين هيسندني دلوقتي لما أقع؟ مش كنت دايمًا تقول لي: أنا قوتك يا سيلا، وظهرك؟ صح؟ طيب، أنا محتجاك دلوقتي تقويني… أنا فعلا بقع. كنت مستنياكم، مستنياكم عشان أنتم اللي تقووني منه.”
توقفت قليلًا، وكأنها تجمع بقايا قوتها، ثم تابعت ببحة اختلطت بالألم الذي بدا واضحًا على ملامحها:
“آه… منه…”
رفعت عينيها نحوه، كأنها تتحدث إليه مباشرة، ثم تابعت بصوت متقطع:
“أنا… مريضة كانسر. آه، شوفت؟ شوفت وقعت إزاي؟ مين يقويني دلوقتي؟ مين يدعمني؟ انت علمتني القوة زمان، فاكر؟ لكن… لكن…”
توقفت، ثم أكملت بصوت يختنق بين الدموع:
“دلوقتي أنا ضعيفة… ضعيفة جدًا، ولوحدي. سبتوني ليه؟ قوم عشان ما تكسّرش قلبي من بعدك. قوم… عشان خاطري. طيب، كلمني… احضني بس… بس مرة واحدة! أنا… أنا بردانة…”
وهنا، انفجرت دموعها أخيرًا، كأنها شلال جارف. لم تتوقف عن البكاء، وكأن الدموع كانت تجرف كل شيء معها، كل قوة أو تماسك قد حاولت التشبث به.
أخذت تتحدث بصوت مليء بالألم والوجع:
“طيب، بلاش أنا… طيب همسة؟ مين هيسلمها لعريسها؟ مين هيقول له: خلِّي بالك منها، ما تزعلهاش؟ مين يا بابا؟”
“حتى كلمة بابا… اتحرمت منها! سبتونا لمين؟ أااااااه!”
بقلم شروق مصطفى
صوتها كان كافياً ليهز أركان المكان، ليجعل الحاضرين يتوقفون عما يفعلونه وينظرون إليها. تلك الصرخة كانت أكثر من مجرد كلمات، كانت انكسارًا، كانت وجعًا لا تسعه الكلمات.
بدا وكأن صدى صوتها ينعكس على الجميع، كل من حولها شعر وكأن قلبه ينزف معها. دموعها انهمرت كالسيل، وكأنها تحاول غسل ألمها، لكن الألم كان أعمق من أن يُمحى.
تركت سيلا والدها، وجثت بجانب والدتها المفترشة بجواره، نظرت إلى وجهها الجامد وكأنها تترقب أن ينبض بالحياة مجددًا، لكن عبثًا. صمتت لحظات، ثم انطلقت كلماتها وكأنها زفرات من نار تحرق قلبها، وعيناها تفيض بالدموع:
“وانتي كمان؟ رحتي معاه وسبتينا لوحدينا؟ لا عم، ولا خال، ولا قريب! مين هيسأل علينا بعدكم؟ مين هيطيب بخاطرنا ويمسح دموعنا؟ ها؟ مين؟!”
أخذت نفسًا مرتعشًا وكأنها تحاول التقاط أنفاسها بين كلماتها التي أثقلت الهواء من حولها، ثم تابعت بوجع لا يُحتمل:
“عمي؟ عمي اللي أكل حق بابا! عمره ما سأل علينا وانتو عايشين، وسبنا له كل حاجة يشبع بيها وجينا هنا!”
رفعت عينيها وكأنها تبحث عن إجابة من وجه والدتها الجامد، ثم أردفت بصوت مشحون بالغضب والألم:
“ولا خالتي؟ خالتي اللي سابت البلد كلها وهاجرت من سنين وما بتسأل على حد؟ لا فيكم ولا فينا! طيب… مين؟ مين ينصحنا؟ مين يحبنا من قلبه زيكم؟”
توقفت للحظة، وكأن الكلمات تعجز عن الخروج من فمها، ثم تابعت بصوت خافت لكنه يقطر تعبًا وحسرة:
“مين ينصح همسة لحياتها الجديدة؟ مين يلبسها طرحة فستانها الأبيض؟ مين ياخدني أنا في حضنه…؟ أنام وأنا مطمنة زي زمان… مين يا ماما؟”
صوتها تهدج أكثر، وانخفض حتى صار أقرب إلى الهمس وهي تقترب من وجه والدتها، تمسح على وجنتيها الباردتين وكأنها تحاول أن تبعث فيهما الحياة:
“ردي… ردي عليّ، عشان خاطري… قولي لي إنها كذبة، قولي لي إنك لسه هنا… قولي لي إنك مش هتسيبيني…’
وحين وصلت إلى هذه الكلمات، بدا أن عقلها قد بدأ يفقد اتزانه تمامًا. صوتها تحول إلى صراخ مكبوت، وأصبحت تهذي بكلمات غير مفهومة. جسدها بدأ يهتز، وكأنها على وشك الانهيار الكامل.
أمسكت بها مي ، محاولًا تهدئتها، لكنها كانت تتلوى بين ذراعيه، تصرخ وتبكي، وكأنها تحاول اللحاق بهما بأي طريقة…. يتبع
25_26 جمر الجليد
“قولتيلي إنك مش هتسيبيني”
أمسكت مي بها بقوة وهي تحاول السيطرة على جسدها المرتعش بين ذراعيها، محاولًة تهدئتها بكل ما أوتيت من صبر وحنان. لكن سيلا كانت تتلوى كأنها تحاول الهروب من قبضتها، تصرخ بصوت مبحوح وتبكي بحرقة، وكأنها تسعى للحاق بأحبائها الذين فارقوها.
في هذه اللحظة، قطع صوت رفيقتها المشهد، كانت كلماتها مليئة بالرجاء والحزم وهي تحاول أن ترفع سيلا من على الأرض:
“كفاية يا سيلا! أرجوكي فوقي، يلا بينا! حرام عليكي اللي بتعمليه ده، انتي بتعذبيهم كده!”
لكن سيلا لم تكن تسمع، كان عقلها غارقًا في صدمته، وقلبها يرفض تصديق ما حدث. تمسكت بالمكان وكأنها تخشى أن يغادر من تبقى من أثرهم.
جذبتها مي بقوة محاولة أن ترفعها من الأرض، وهي تهتف بصوت ممتزج بالخوف والرجاء:
“يلا بينا يا سيلا، كفاية! حرام عليكي اللي بتعمليه ده بتعذبيهم كدة.”
لكن كلمات مي كانت كالشرارة التي أشعلت نارًا مستعرة بداخل سيلا. دفعتها للخلف بعنف، وكأنها تدافع عن بقعة الألم التي تحيط بها، وصرخت بهستيريا، صوتها يمزق السكون المحيط:
“ابعدي عني! مش هسيبهم! ولا همشي! والعذاب اللي أنا فيه ده إيه؟! ليه يا رب؟ ليه سبونا كلهم مرة واحدة؟!”
مي، التي كادت تنهار من ضعفها أمام هذا المشهد، صاحت بانهيار، تفقد كل ذرة تحمل بداخلها:
“حرام عليكي! دي إرادة ربنا! فوقي بقى! أختك محتجاكي جنبها!”
لكن سيلا لم تكن تسمع. عقلها كان غارقًا في صدمة لا نهاية لها، وقلبها محطم لا يقوى على النبض سوى بالألم. بدأت تهلوس بكلمات غير مترابطة، تردد دون وعي:
“وأنا مين هيقف جنبي؟! مين؟!”
ثم توقفت للحظة، رفعت رأسها بعينين تغرقان في بحر الدموع، وقالت بصوت حاسم مليء بالرفض:
“لا! لا مش همشي غير وأنا معاهم! ياخذوني معاهم! أنا رايحة مكان ما يروحوا! مش هسيبهم أبدًا!”
جلست على الأرضية بينهم، وكأنها تريد أن تصبح جزءًا منهم، تمسكت بيدي كل منهم بقوة وكأنها تخشى أن يرحلوا مرة أخرى. أغمضت عينيها وهي تشهق بصوت عالٍ، تناجي ربها بصوت متهدج:
“يااااارب! خدني! سايبني لمين؟ مليش حد بعدهم! خدني وريحني من العذاب! أنا كده كده ميتة… لو ما متش دلوقتي، أكيد هموت منه! خدني دلوقتي وريحني يا رب!”
ظل جسدها ينتفض بعنف، شهقاتها تتردد في أرجاء المكان، ودموعها تنهمر بلا توقف. لم يكن في الأفق سوى ألمها المتصاعد وصدى دعواتها التي تحمل استسلامًا كاملًا أمام حجم الفقدان الذي دمر كيانها.
ظل واقفًا كتمثال جامد، عيناه مثبتتان على سيلا التي أفترشت الأرض بجانب أحبائها الراحلين، تناجي الموت وتطلب الخلاص بصوت ينزف ألمًا. مشهدها المكسور والضعيف، وهي تنام بين جثامينهم كأنها تبحث عن دفء رحل معهم، كان أشبه بسكين يخترق صدره. شعر بنغزة في قلبه، ألم لا يوصف، بينما تردد كلماتها ودعواتها للموت في أذنيه كطعنة متجددة.
نظرات الأهالي من حولهم كانت مثقلة بالآهات، كل منهم يحمل جرحًا خاصًا به، غارقًا في حزنه وصمته. أحدهم قلب كفيه في الهواء وقال بخفوت:
“ربنا يصبرك يا بنتي.”
وآخر تمتم بحزن:
“لا حول ولا قوة إلا بالله… إنا لله وإنا إليه راجعون.”
بينما امرأة جلست قرب جثمان زوجها وأخيها، تغرق في دموعها، تهز رأسها وتقول:
“الصبر من عندك يا رب… صبرنا على ابتلاءنا.”
أما الأب الذي جلس قرب جثمان ابنته وزوجها، تاركين طفل لم يتعدّ الخمس سنوات، فقد بدا كتمثال صامت، يشهد موت روحه مع فقد ابنته الوحيدة.
وسط هذا الحزن الثقيل، اقترب بخطوات مترددة عندما رأى سيلا تدفع مي بعيدًا عنها وهي تصرخ بجنون:
“سيبيني! مش هقوم! مش همشي! سامعة؟! ابعدي عني! أنا رايحة معاهم! سيبيني بقى!”
حاولت مي مرة أخرى أن ترفعها عن الأرض، لكنها دفعتها بشدة وكادت تنام مجددًا بجانب أحبائها، وكأنها ترفض مغادرتهم. عندها تقدم بسرعة وأمسك ذراعيها، وقف أمامها بحزم، وصوته يمزج بين الصراخ والرجاء:
“هشش! خلاص! اهدي! مفيش داعي اللي بتعمليه ده! انتي بتعذبيهم بصراخك ودموعك! ادعيلهم، هما شهداء، فاهمة؟! دول في الجنة! جايين من بيت الله، فوقي بقى!”
ظل يهزها محاولًا أن يوقظها من غيبوبتها العاطفية، لكنها نظرت له بعينين غارقتين بالدموع وقالت بصوت متحشرج مليء بالانهيار:
“ملكش دعوة بيا! ابعد عني! أنا لازم أروح معاهم! هما محتاجيني، وأنا محتاجاهم! سيبني أروح لهم!”
بدأت تضربه بصدره بعنف، لكن يديها المرتعشتين لم تكن تحمل سوى اليأس، وهو لا يزال ممسكًا بذراعيها بإصرار. حاولت الإفلات منه وهي تصرخ:
“ابعد عني! لازم أروح معاهم!”
احتضنها فجأة بقوة، وكأنه يحاول أن يطوّق كل ألمها بين ذراعيه، وقال بصوت مملوء بالحنان:
“هش… ششش… خلاص! هوديكي عندهم… حاضر! بس اهدي، ممكن؟ عشان خاطري، اهدي وهعملك اللي انتي عاوزاه.”
ظل يربت على رأسها برفق، يهمس لها كلمات طمأنينة في أذنها:
“اهدي… كلنا معاكي، محدش هيسيبك. أنا سندك، أمانك، وقوتك بعد النهارده. مش هسيبك أبدًا.”
اقترب أكثر وهمس لها بصوت مرتعش:
“أنا مصدقت إني رجعت للحياة تاني، عاوزة تسيبيني انتي كمان؟ لا يمكن أسيبك تضيعي مني… فاهمة؟”
شعر بجسدها ينهار بين يديه، وكأنها استكانت أخيرًا. نظرت له بعينين نصف مغمضتين قبل أن تغرق في النوم، أنفاسها تهدأ تدريجيًا. حملها بين ذراعيه بحذر وكأنها قطعة زجاج هشة، ثم غادر المكان الذي غمره الحزن والآهات، حاملًا معها وعدًا بأن يبقى بجانبها دائمًا، مهما اشتد الألم.
وصل حينها الى سيارة وليد، حيث كان في انتظاره. أوقف السيارة ببطء، ثم أدار رأسه للخلف ليتأكد من حالة شقيقتها تبدو وكأنها فاقدة الوعي تمامًا، شاردة لا تبدي أي استجابة لما يحدث من حولها.
وجه نظره لوليد وسأله بقلق:
“هي ساكتة ليه؟”
تنهد وليد وقال بصوت خافت:
“لسه راجعين من المستشفى… هحكيلك كل حاجة، بس بعدين.”
أشار عاصم لمي، التي كانت خلفه، وقال بحزم:
“مي، كلمي حد من أهلهم وبلغيهم اللي حصل. أنا ومعتز هنخلص باقي الإجراءات وهحصلكم.”
ثم وجه كلامه لوليد:
“روح معاهم يا وليد، ما تسبهومش لحد ما نخلص احنا.”
غادر عاصم ومعتز لإنهاء الإجراءات الضرورية، بينما بقي وليد مع الفتاتين.
مي نظرت إلى سيلا التي بدت وكأنها قد استسلمت للنوم هربًا من الواقع المؤلم. دموعها جفت على وجنتيها، وصوتها اختفى تمامًا. ثم التفتت إلى همسة، التي كانت تجلس في صمت مطبق، ملامحها جامدة وعينيها تحملان صدمة عميقة. قالت مي بخيبة أمل:
“أهلهم؟!”
لكنها لم تضف أي كلمة أخرى، وفضلت الصمت.
—
عندما عاد عاصم من شروده على صوت إغلاق باب السيارة بعنف، أدرك أنهم قد وصلوا أخيرًا إلى المنزل الذي تقطن فيه العائلة المنكوبة. نزل من السيارة بتثاقل، يتبعه معتز الذي رمقه بنظرة ساخرة قائلاً:
“صحي النوم، لسه بدري!”
رد عاصم بنبرة تنم عن إرهاق شديد:
“مش فايقلك… يلا بينا نطلع نشوفهم.”
تنهد معتز بحزن واضح، وهز رأسه قائلاً:
“يلا بينا.”
صعدا معًا إلى الطابق الذي يقطن فيه أهل الفاجعة. كانت الأجواء ثقيلة والكآبة تخيم على المكان. الباب مفتوح، وصوت القرآن الكريم يصدح بهدوء عميق، يبعث شعورًا مزيجًا بين الرهبة والتعزية. طرق عاصم الباب عدة مرات بخفة، حتى أطلت مي من الداخل وفتحت لهم الباب. بدت شاحبة، لكنها قالت بهدوء يشوبه التعب:
“اتفضلوا، ادخلوا.”
دخلا إلى الصالة الخارجية وجلسا بصمت لبعض الوقت، قبل أن يسأل عاصم بسرعة، وقد بدا القلق على وجهه:
“وليد فين؟”
أشارت مي بيدها نحو الداخل وقالت:
“دخل يغسل وشه في التواليت.”
نظر معتز إليها، وسألها بنبرة قلقة:
“إنتوا عاملين إيه دلوقتي؟”
تنهدت مي تنهيدة طويلة تحمل في طياتها كل الألم وقالت:
“زي ما إحنا… سيلا نايمة، أو بتحاول تهرب من اللي حصل بالنوم.”
ثم صمتت لوهلة، قبل أن تتابع بصوت مرتجف بالكاد يُسمع:
“وهمسة… مش بتتكلم، ولا حتى بتعيط. خايفة عليها أوي.”
تبادل عاصم ومعتز نظرات مليئة بالأسى والقلق، صمت ثقيل حل بينهما وكأن الكلمات باتت عاجزة عن وصف ما يجول في خاطريهما.
قطع عاصم الصمت فجأة ووجّه سؤاله لمي بنبرة حادة:
“أنا مش شايف حد من أهلهم جا. محدش بلغهم باللي حصل ولا إيه؟”
أجابت مي بأسف وحزن بالغين:
“للأسف… مالهمش حد غير ربنا دلوقتي.”
نظر كلاهما إليها بذهول. أراد عاصم أن يقول شيئًا، لكن صوته انقطع فجأة مع دخول بعض الجيران الذين جاؤوا لتأدية واجب العزاء بعد أن علموا بالخبر الفاجع.
ابتسمت مي بمرارة وهي ترحب بهم قائلة:
“اتفضلوا هنا.”
ثم أشارت لهم إلى غرفة مجاورة قائلة:
“استريحوا هنا، هجيبلكم حاجة تشربوها.”
دخل الجيران الغرفة، وجلسوا بصمت، بينما انشغلت مي بتقديم الضيافة. الجو العام كان ثقيلًا ومفعمًا بالحزن، وكأن الجميع قد شعر بثقل الكارثة التي حلّت بهذه العائلة الصغيرة.
جلس وليد بجانب عاصم ومعتز، مستفسرًا بصوت مثقل بالقلق:
“عملتوا إيه؟”
أجابه معتز وهو يشيح بنظره بعيدًا وكأنه يحاول كتم حزنه:
“خلصنا… أخذنا تصريح الدفن ودفناهم على صلاة الظهر.”
كان في صوت معتز نبرة تعب وألم. عاصم بدوره لم يستطع كتمان قلقه، فوجه نظره إلى ابن عمه وسأله بصوت خافت يعكس الإرهاق الذي يثقل كاهله:
“حصل معاك إيه هناك؟ رحتوا المستشفى ليه؟”
تنهد وليد بعمق، وكأنه يحاول ترتيب أفكاره قبل أن يتحدث. أخذ نفسًا طويلاً ثم أخرجه ببطء، وبدأ في سرد ما حدث. قال بصوت يحمل مزيجًا من الحزن والاضطراب:
“الدكتور قال إنها فاقدة للنطق بسبب صدمة نفسية شديدة. جايز تكون فاهمة اللي بيحصل حواليها، لكن مش قادرة تواجهه. فاختارت عدم الكلام كطريقة للهروب أو لإنكار الموقف كله.”
ساد الصمت للحظات، وكأن الكلمات أثقلت المكان بحزنها. حاول عاصم أن يخفف من وطأة المشهد، لكنه لم يجد كلمات كافية، فاكتفى بالنظر إلى وليد، يتأمل عمق الألم في عينيه، وكأن الحديث الذي دار للتو جعل المشاعر أعمق من أن تُقال.
عادت والدة مي، نبيلة، مساءً من السفر بعد اتصال مستعجل من ابنتها فور وصولهم إلى المنزل، تُخبرها بضرورة حضورها لتكون إلى جانبها، فقد أصبحت بحاجة ماسّة إليها.
عندما دخلت نبيلة إلى المنزل، هرعت مي إليها دون تردد. أغلقت ذراعيها حول والدتها وانهارت في حضنها، تاركة دموعها تسيل بلا توقف، كأنها وجدت أخيرًا ملاذًا يخفف من ثقل ما رأته وعاشته. شهقت مي وسط بكائها، تشكو بحزن عميق:
“ما تسبنيش لوحدي تاني… خليكي جنبي… أنا خايفة… خايفة أوي…”
ربّتت والدتها على رأسها بحنان، وعانقتها بقوة كأنها تحاول بث الطمأنينة داخلها. قالت لها بصوت يحمل كل دفء الأمومة:
“مالك يا ضنايا؟ إيه اللي تعبك؟ قوليلي يا بنتي، حقك عليا، أنا هنا، مش هسيبك تاني أبدًا.”
لكن مي لم تستطع الرد، وظلت تتمسك بوالدتها بقوة، كأنها تخشى أن تبتعد عنها ولو للحظة.
حاولت نبيلة التخفيف عنها وهي تقول:
“أنا جنبك، مش هسيبك. اهدي يا حبيبتي، خليني أفهم منك الأول.”
بعد فترة من البكاء والاحتضان، خرجت مي من أحضان والدتها، وعيناها تلمعان بدموع غزيرة. نظرت إلى والدتها وقالت بصوت مكسور:
“وحشتيني أوي يا ماما.”
ابتسمت نبيلة بحزن وهي تمسك وجنتي ابنتها وتقبلها:
“وإنتِ كمان يا عين ماما… كل ده عشان كده؟ بطلي دراما بقى وقوليلي، مين دول؟” وأشارت إلى الثلاثة رجال الجالسين في الغرفة.
مسحت مي دموعها بكفها كالطفلة وقالت بخجل:
“ده واحد منهم خطيب همسة… نسيتِ ولا إيه؟ والباقي ولاد عمه، منهم واحد ظابط اللي…”
قاطعتها والدتها سريعًا وهي تلوّح بيدها:
“آه، صح افتكرت. طيب، أنا هروح أشوف البنات، وإنتِ قومي حضّري لهم حاجة يشربوها.”
ردّت مي بصوت تعب وإرهاق:
“حاضر… تعالي أوصلك الأول.”
لم يلاحظا أن حديثهما هذا كان يُراقب بصمت من معتز، الذي كان ينظر إلى مي بنظرات تحمل ألمًا وحسرة. كان قلبه يعتصر لرؤيتها خائفة هكذا، متمنّيًا لو كان هو الملاذ الذي تجد فيه أمانها بدلاً من الخوف الذي سبّبه لها سابقًا.
أخذت نبيلة ابنتها إلى غرفة همسة، على أمل أن تكون أقرب لها فتساعدها على كسر صمتها والخروج من حالتها.
في الخارج، تحدث عاصم بصوت متعب:
“هنعمل إيه دلوقتي؟ الوقت اتأخر.”
أيده وليد وهو ينظر إلى ساعته:
“فعلاً، يلا بينا. أكيد هما محتاجين يرتاحوا بعد اليوم الطويل ده.”
وقف عاصم مؤيدًا كلامه، لكن معتز ظل جالسًا مكانه، وكأنه في عالم آخر، غير منتبه لما يحدث حوله. اضطر عاصم إلى التدخل، فهزّه قائلاً بحدة ممزوجة بالمرح:
“يا بني، قوم بقى! يلا نمشي، إيه التناحة دي؟”
نهض معتز أخيرًا على مضض، وتحرك الثلاثة نحو باب المنزل، تاركين خلفهم ذكريات يوم مليء بالألم والإنهاك.
أفاق معتز من شروده على صوت أخيه عاصم، الذي كان ينظر إليه بنفاد صبر وقال:
“ها، بتقولوا إيه؟”
نظر عاصم إلى معتز وواصل بحدة:
“يلا يا عم، إنت جاي تحب وتسرح هنا؟ وقتك ده أصله!”
تردد وليد قليلاً، وكأنه يبحث عن ذريعة للبقاء، ثم قال:
“طيب نستنى شوية، نسألهم الأول لو محتاجين حاجة!”
تنهد عاصم، ثم جلس مرة أخرى على الكرسي وقال:
“ماشي، هنستنى مي تخرج ونسألها، وبعدها نمشي. تمام؟”
انفرجت أسارير معتز قليلاً، فقد كان يريد فرصة أخيرة للاطمئنان عليها قبل الرحيل.
في هذه الأثناء، تقدمت نحوهم مي وقالت بلطف:
“تشربوا قهوة؟”
رد معتز بسرعة وكأنه تايه في ملامحها الحزينة التي زادت عينيها بريقاً:
“ياريت…”
لكنه لم يكن يريد القهوة بقدر ما كان يريد البقاء لدقائق أخرى لرؤيتها.
نهض عاصم فجأة، وسحب معتز من يده قائلاً:
“لا، تسلم إيديك. إحنا هنمشي. كفاية كده. نسيبكم ترتاحوا، وبكرة نعدي عليكم. محتاجين حاجة؟”
هزت مي رأسها بالنفي مع ابتسامة ضعيفة بالكاد وصلت إلى شفتيها وقالت:
“لا شكراً، تعبناكم معانا طول اليوم. تنورونا أي وقت.”
توقف وليد قبل المغادرة وسأل بقلق:
“همسة… لسه مفيش جديد؟”
تنهدت مي وقالت بأسى:
“للأسف، لسه مش بتتكلم. وكمان سيلا نايمة ومفقتش من الصبح. يمكن بتهرب بالنوم. أنا خايفة عليهم أوي.”
حاول وليد أن يطمئنها قائلاً:
“النهارده كان يوم صعب عليهم. خليكي جنبهم، وبكرة إن شاء الله نكون موجودين. مش هنسيبهم غير لما الأزمة دي تعدي على خير.”
هزت مي رأسها بحزن وهمست:
“خير إن شاء الله… يارب.”
غادروا وهم يلقون السلام عليها، فردت بابتسامة باهتة، ثم أغلقت الباب خلفهم بهدوء.
عادت إلى الداخل، تاركة والدتها مع همسة، ثم دخلت إلى غرفة سيلا. تسطحت بجانبها، واحتضنتها بحنان. نظرت إلى وجهها الشاحب الذي اكتسى بالحزن، ثم أغمضت عينيها وغطت في النوم بجانبها، منهكة من أحداث اليوم الطويل.
—
في الخارج، كان عاصم يوبخ معتز قائلاً:
“والله ما عندك ذرة دم واحدة! قلنا هنستنى شوية ونسألها، وانت قاعد مبلم! كمان تقول ياريت قهوة؟ مش شايفها مش قادرة توقف؟!”
رد معتز بنبرة هادئة كأنه غير مهتم بالتوبيخ:
“بصراحة، كنت عاوز فنجان قهوة تاني من إيديها. أول واحد شربته دخل مزاجي، وكنت عاوز أختم بيه يومي. فيها إيه يعني؟”
بقلم شروق مصطفى جمر الجليد
اغتاظ عاصم وزفر بغضب:
“البعيد مش بيحس! مش شايفها مش قادرة تفتح عنيها أصلاً؟ وإنت تقول عاوز تختم بيه كمان؟! إحنا في إيه ولا في إيه يا بني آدم!”
تدخل وليد ليفصل بينهما وقال بابتسامة صغيرة:
“خلاص يا عاصم، سيبك منه. عارف أخوك تافه، مش هتخلص منه. بقولكم إيه، أنا همشي أسبقكم. يلا سلام، أشوفكم هناك.”
ركب وليد سيارته وانطلق، تاركاً عاصم ومعتز يتشاجران.
نظر عاصم إلى معتز بسخرية وقال:
“يلا يا بتاع المزاج، سوق خلينا نروح نرتاح شوية.”
قاد معتز السيارة، ولحقا بوليد حتى وصلوا جميعاً إلى المنزل. توجه كل منهم إلى غرفته الخاصة، وخلدوا إلى النوم، لكن الحزن ظل جاثماً
كانت سيلا تتوسط بساتين غنّاء، محاطة بزهور تفوح بأروع العطور وأشجار مثقلة بفواكه غريبة ذات مذاق لا يُقاوَم. الأطفال كانوا يمرحون بجانب مياه عذبة تتلألأ تحت أشعة الشمس، بينما يلهو شاب يشع وجهه نورًا مع فتاة ذات جمال ملائكي ترتدي فستانًا أبيض واسعًا كأنها إحدى حوريات الجنة. كانا يضحكان ويلعبان مع الأطفال، يملأ المكان فرحًا وسعادة.
لكن فجأة توقفا عن اللعب والتفتا للخلف، كأنهما ينتظران أحدًا. ابتسم الشاب ابتسامة صافية ومد يده قائلاً بحنان:
“سيلا، تعالي… وحشتيني.”
كانت سيلا تقف على مسافة، غير مصدقة ما تراه. اقتربت ببطء، عيناها متسعتان من الدهشة، ولمست وجنتيه بخوف كأنها تخشى أن يختفي. قالت باندهاش وهي تتفحص ملامحه:
“بابا؟… إنت بجد؟”
ابتسم لها الشاب، ثم ردت الفتاة بجانبه بصوت دافئ وابتسامة هادئة:
“سيلا، حبيبة ماما، تعالي في حضني.”
احتضنها الاثنان بحب ودفء، وبدأت الأم تهمس لها بحنان وهي تلمس وجنتيها بلطف:
“خلي بالك من نفسك يا قلبي… إحنا هنفضل حواليكي في كل مكان. خلي بالك من أختك همسة، وماتزعلنيش منك تاني، يا روحي.”
لكن بعد لحظات، بدأ الاثنان يبتعدان عنها ببطء، محاولين أن يفلتوا من عناقها، بينما هي تتمسك بهما بقوة. صرخت بصوت مفعم بالرجاء:
“لا، لا… ماتسبونيش لوحدي! خليكوا معايا شوية، محتجاكم أوي… ملحقتش أشبع منكم!”
ابتسم الوالدان بحب وحنان وهما يبتعدان، والأب يكرر بصوت مطمئن:
“خلي بالك من همسة، همسة يا سيلا… خلي بالك منها.”
بكت سيلا بحرقة، تركض للأمام في محاولة للحاق بهما، لكن كلما اقتربت منهما ابتعدا أكثر، كأنهما يتلاشيان تدريجيًا. استمرت في الصراخ:
“ماما! بابا! لا… ماتمشوش! خدوني معاكم… عايزة أعيش معاكم هنا!”
لكن الوالدين لم يتوقفا، وظلا ينسحبان للخلف، يداً بيد، حتى اختفيا تمامًا بين بساتين الجنة، تاركين سيلا وحيدة.
توقفت سيلا في مكانها، تنظر حولها بيأس، تبحث عن أي أثر لهما، لكن لم تجد أحدًا. سقطت على ركبتيها ودموعها تنهمر بغزارة، تردد بصوت مخنوق:
“ماما… بابا… ماتسبونيش…”
وظلت تناديهما، صوتها يملأ الفراغ من حولها، لكن دون جدوى.
بقلم شروق مصطفى
استفاقت سيلا من حلمها المثقل بالذكريات، وقلبها يعتصر ألماً. فتحت عينيها المنتفختين من أثر البكاء الذي أثقل جفونها منذ الأمس. جلست ببطء، وضمت ركبتيها إلى صدرها، ودفنت رأسها بين قدميها وهي تعانق نفسها بحزن شديد. أخذت تحدث نفسها بصوت متهدج، كأنها لا تزال تحاول تصديق ما حدث:
“كده تسبوني لوحدي؟! أعمل إيه دلوقتي؟ أقضي حياتي وحيدة من غيركم إزاي؟”
توالت الأفكار داخل رأسها، ذكرياتهم، أصواتهم، لمساتهم، كل شيء بدا بعيداً وكأنه لم يكن سوى حلم. شعرت بمرارة الفقدان تعتصر قلبها، ولم تستطع أن تمنع نفسها من الانهيار مرة أخرى.
انفجرت بالبكاء، صوتها مكتوم داخل الغرفة التي غلفها الصمت.
فجأة، شعرت بيد دافئة تربت على كتفها. رفعت رأسها ببطء، وقد غيمت دموعها على الرؤية، محاولة تبين من يواسيها. كانت مي، رفيقة دربها وصديقتها الأقرب، التي دخلت الغرفة دون أن تشعر بها سيلا، وجلست بجانبها. احتضنتها مي بقوة، وكأنها تحاول أن تطوقها بكل الحنان الذي افتقدته، وقالت بحزن وعيناها تلمعان بالدموع:
“قلبي معاكي يا حبيبتي.”
انهارت سيلا داخل أحضانها أكثر، كأن مي كانت طوق النجاة الوحيد في بحر أحزانها. تشبثت بها بشدة، كأنها تخشى أن تفقدها أيضاً.
بعد لحظات، أبعدتها مي قليلاً عن حضنها، لكنها أمسكت يديها بقوة تبث لها الثقة والأمان. نظرت في عينيها الرماديتين التي أطفأ الحزن بريقهما، وقالت بحزم ممزوج بحنان:
“سيلا، إنتي أقوى من كده… فوقي يا حبيبتي!”
كانت سيلا تستمع، لكنها بدت وكأنها في عالم آخر، غارقة في ألمها وغير قادرة على النهوض. أخذت تهز رأسها بالنفي ببطء، غير مصدقة أن لديها القوة للاستمرار.
شدت مي يديها أكثر وقالت بجدية أكبر:
“مفيش حاجة اسمها لا! أنا مش بس صديقتك، إحنا أكتر من إخوات، فاهمة؟ لازم تكوني قوية عشانك، طيب… حتى لو مش عشانك، عشان همسة! همسة يا سيلا محتجاكي أوي. فقدت النطق، وانتي العلاج الوحيد ليها. لو انتي وقعتي، هي كمان هتقع. انتو لازم تقووا بعض.”
تنهدت مي وأخذت نفساً عميقاً قبل أن تكمل:
“حبيبتي، أنا مش بقولك متزعليش، أكيد إحنا كلنا زعلانين ومقهورين، مفيش أغلى منهم. بس الحزن لوحده مش هيغير حاجة. دي إرادة ربنا، وسنة الحياة. ناس بتموت وناس بتتولد، الحياة بتكمل، واللي بيفضل هو اللي في قلوبنا. بس همسة محتجاكي يا سيلا. لو انتي وقعت، هي كمان مش هتقدر تكمل.”
توقفت سيلا عن البكاء فجأة، وكأن كلمات مي اخترقت جدار حزنها السميك. بدأت تعيد كلمات مي في رأسها مراراً:
“همسة محتجاكي… فاقدة النطق… لو وقعتي، هي كمان هتقع… خلي بالك من همسة…”
ربطت بين كلمات مي والحلم الذي رأته. ظلت تردد داخلياً:
“خلي بالك من همسة… همسة يا سيلا… همسة محتاجاني…”
فجأة، تركت يدي مي، ورفعت رأسها بسرعة. نطقت بصوت متهدج، كأن الكلمة خرجت رغماً عنها:
“همسة!”
يتبع
تكملة الرواية من هنااااااا
التعليقات