التخطي إلى المحتوى

 

رواية جمر الجليد( الجزء الاول)الفصل السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرين  بقلم شروق مصطفى حصريه 


رواية جمر الجليد( الجزء الاول)الفصل السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرين  بقلم شروق مصطفى حصريه 

جمر الجليد السادس عشر

في منزل محسن، نرمين توقفت أمام محسن وهي تقوم بتعديل الكرافت له، وقالت:

“متأكد يا محسن من الخطوة دي؟ مش كنا استنينا حضور سيلا؟ أحسن تكون وسطينا على الأقل.”

رد محسن بابتسامة مطمئنة:

“يا حبيبتي، هما جايين تعارف مش أكتر، ومش هنعمل أي حاجة إلا بحضور سيلا طبعًا.”

نرمين أيدت كلامه قائلة:

“اللي تشوفه. هروح أشوفها خلصت ولا لسه.”

ثم وجهت نرمين كلامها لمي وهمسة:

“ها يا بنات، جهزتوا؟”

ردت مي بثقة:

“أيوه يا طنط، خلاص، فاضل حاجات بسيطة بس.”

أما همسة فقالت بخجل:

“إيه رأيك يا ماما؟”

ابتسمت الأم بفخر وقالت:

“قمر يا حبيبتي ما شاء الله.”

رن جرس الباب، فالتفتت نرمين قائلة:

“أنا طالعة أستقبلهم. خليكوا لحد ما أنادي عليكم.”

هزّ البنات رؤوسهن بالموافقة، لكن همسة سألت بقلق:

“شكلي حلو؟”

ردت مي مؤكدة:

“والله قمر!”

لكن همسة أضافت بتوتر:

“أنا هستناكي هنا، مش هحضر معاكو بره.”

رفضت مي بشدة:

“لا طبعًا، إنتي هتقعدي معانا! إنتي مش شايفاني عاملة إزاي؟ لا لا.”

مي قالت بقلق:

“أنا خايفة يجيب الزفت ده معاه. ولو شفته مش عارفة ممكن أعمل إيه بجد.”

ردت همسة بحزن:

“هتسبني يعني لوحدي معاهم بره؟”

تنهدت مي قائلة:

“فين لوحدك بس!”

لكن همسة أصرت:

“لا لا لا، مش هينفع بجد، خلاص مش هطلع أنا كمان.”

استسلمت مي:

“خلاص، أمري لله.”

في الخارج

استقبلت نرمين ومحسن الضيوف؛ وليد، وأخوه عامر، وزوجته، وأولاده التوأم كرما وكنزي، وابن عمه معتز.

كانت رودينا متفاجئة عند دخولها المنزل، إذ ظنت أنه منزل صديقتها سيلا، وامتلأت بالحماس لرؤيتها.

قال محسن مرحبًا:

“أهلًا بيكم، اتفضلوا.”

دخل الجميع وسلموا على نرمين، واتجهوا للصالون.

بدأ وليد بالتعريف عن عائلته:

“ده عامر، أخويا الكبير، ودي بنت عمي رودينا ومراته، ودول التوأم كرما وكنزي، وده معتز ابن عمي.”

ثم أضاف:

“وعاصم في مأمورية، لكنه على علم بكل شيء، وأول ما ينزل هنتقابل تاني بإذن الله.”

رحب محسن وزوجته بهم بحرارة:

“أهلًا بيكم، منورين والله. وكتاكيت صغيرين حلوين ما شاء الله.”

ابتسمت رودينا وسألت:

“طنط، مش فاكراني؟”

نظرت لها نرمين وقالت بتردد:

“والله بشبه عليكي فعلًا.”

قالت رودينا بحماس:

“أنا وسيلا كنا زمايل في الجامعة، ومي كمان.”

تذكرتها نرمين وقالت:

“آه، فعلًا! اختفيتي فجأة مرة واحدة. سيلا لو شافتك هتفرح بيكي جدًا، ومي كمان. دي مي حتى جوة، هتفرح أوي لما تشوفك.”

حين سمع معتز اسم مي، لمعت عيناه ببريق غريب؛ فقد كان ينتظر رؤيتها بفارغ الصبر بعد أن قطع عليها عملها ومنع الصحف من توظيفها.

قالت رودينا بحماس:

“بجد هنا؟ طيب ممكن أدخل لهم؟”

ردت نرمين بترحاب:

“آه طبعًا، تعالي معايا.”

في غرفة البنات

طرقت نرمين الباب، ففتحت مي ووجدت رودينا أمامها. ما إن رأتها حتى قفزت من الفرحة:

“آآآآه دودو!”

ركضت مي نحوها واحتضنتها قائلة:

“وحشتيني يا جزمة! كل دي غيبة؟”

ردت رودينا:

“وانتي كمان وحشتيني، وسيلا كمان، غصب عني. إخواتي طبعهم صعب جدًا.”

بحثت رودينا بعينيها وسألت:

“أمال هي فين؟”

حاولت مي تغيير الموضوع قائلة:

“أحم، ودي عروستنا. إيه رأيك؟”

ابتسمت رودينا وقالت:

“همسة حبيبتي، إزايك؟”

ردت همسة بتوتر:

“الحمد لله، انتي عاملة إيه؟”

سألت مي بمزاح:

“اتجوزتي يا بت؟”

ضحكت رودينا:

“أيوه، ومعايا كرما وكنزي كمان.”

قالت مي بسعادة:

“الله! ماجبتيهمش نلعب بيهم ليه؟”

ردت رودينا ساخرة:

“مين هيلعب بمين؟ هما اللي هيلعبوا بيكو! هما بره مع باباهم.”

ثم أضافت بحماس:

“خلينا نركز مع عروستنا. أنا فرحانة أوي إنك هتبقي سلفتي بجد.”

احتضنت رودينا همسة وأضافت بمزاح:

“وليد عرف يختار بقى!”

ضحكت مي وقالت:

“يا بنت، خفي عليها شوية. مش شايفة قلبت ألوان إزاي؟”

ردت همسة:

“والله انتو رخمين أوي!”

قاطعتهم نرمين وهي تفتح الباب:

“يلا يا بنات، تعالوا اقعدوا وسطينا بقى.”

في الصالون كان معتز جالسًا أمام الباب، منتظرًا لحظة ظهور مي بشغف.

تقدمت نرمين بجانب همسة، بينما كانت رودينا تمسك بيدها. لاحظ عامر ذلك وعلّق بابتسامة على زوجته:

“أنا شايف إنهم أخدوا على بعض أوي.”

ردت رودينا بحماس:

“طبعًا! همسة دي أختي أصلاً. بجد يا وليد عرفت تختار.” ثم جلست بجانب زوجها.

سلمت همسة على الجميع بتوتر، وقدمت المشروبات، ثم جلست بجانب والدها، وظلت تنظر إلى الأرض دون أن تتحدث كثيرًا.

تأخرت مي عن الانضمام إليهم قليلاً. وعندما جاءت، قدمتها نرمين قائلة:

“دي مي، صديقة العيلة.”

رحبت مي بابتسامة جذابة ورقيقة:

“أهلًا بيكم.” ثم جلست بجانب همسة وأمسكت بيدها، محاولة تخفيف حدة التوتر عنهما معًا، ولم تنظر أو تعره أي انتباه.

بدأ الجميع في الحديث وتبادل الأحاديث العامة، إلى أن تحدث عامر بجدية قائلًا:

“إحنا يا عمي جايين النهارده قعدة تعارف، وإن شاء الله يكون فيه قبول بينا. إحنا طالبين إيد بنتك همسة لأخويا وليد.

أنا ووليد ملناش غير بعض، وولاد عمنا قريبين من بعض جدًا. جايين نتعارف النهارده، لأن في فرد من العيلة غايب، سواء عندكم أو عندنا.”

رد محسن بابتسامة ترحيب:

“ده شيء يشرفني طبعًا، وأنا اتشرفت بمعرفتكم بجد. خصوصًا لما وليد كلمني، وقلتله مفيش حاجة تتم إلا بحضور بنتي. هو كمان أكدلي إنه مش هيتم أي شيء إلا بحضور الكل.”

قال عامر:

“على بركة الله.”

ثم استأذن وليد قائلًا:

“عمي، ممكن أتكلم معاها شوية؟”

رد محسن موافقًا:

“طبعًا، تعالوا اقعدوا في الفرندة هناك.”

وأشار لهم إلى مكان جانبي في نفس الغرفة (الصالون).

وقفت همسة بتردد، ووقف وليد بجانبها، ثم ذهبا معًا للتحدث.

بعد ذلك، استأذنت مي قائلة:

“بعد إذنكم، هقوم شوية.”

وبعدها مباشرة، استأذن معتز قائلاً:

“ممكن أدخل الحمام؟”

رد محسن بابتسامة:

“أيوة طبعًا، اتفضل.”

لكن دخول الحمام كان مجرد حجة من معتز لـ…

عند وليد ينظر إلى همسة بحاجب مرفوع:

“إيه بقى؟ ينفع كده مترديش عليا؟ أهون عليكِ؟”

ردت همسة بخجل ممزوج بالصراحة:

“الصراحة… آه.

وليد بدهشة وابتسامة ساخرة:

“والله؟”

همسة، محاوِلة توضيح موقفها:

“يعني أنا مش بكلم حد ما أعرفهوش، ومش ممكن أخون ثقة أهلي. بس كده.”

ابتسم وليد وقال بنبرة هادئة:

“وعشان كده أنا جيت النهارده، علشان أتعرف عليكِ. مش كده أحسن؟”

همسة بخجل شديد:

“أكيد.”

بدأ الاثنان يتحدثان بهدوء للتعرف أكثر على بعضهما، وظهر القبول على ملامحهما، وكأنهما بدآ يشعران بالراحة تدريجيًا.

في الداخل – ترك محسن معتز عند باب الحمام وعاد إلى باقي الضيوف. لكن معتز لمح مي واقفة في المطبخ، فتأكد أن الجميع منشغل، وذهب إليها.

توقف معتز عند باب المطبخ، وربع يديه بنبرة استفزازية:

“حلوة القعدة في البيت، مش كده؟”

انتفضت مي من أثر صوته، ثم التفتت إليه بنظرة ممتلئة بالاشمئزاز:

“تصدق إنك بجح؟ وليك عين تتكلم كمان؟ اتفضل اخرج برا.”

معتز ببرود:

“أنا أقف في المكان اللي يعجبني!”

مي، وقد بدأت تفقد أعصابها:

“إنت بني آدم متكبر ومستفز جدًا! مش كفاية اللي عملته؟ جاي تشمت كمان؟ أنا لو أقدر كنت قتلتك بجد!”

ضحك معتز بقهقهة مستفزة:

“بجد؟ ضحكتيني.”

مي وهي تحدق فيه بغضب:

“يخرب بيت برودك. إيه كمية الغل والسواد اللي جواك دي؟ روح عالج نفسك الأول، إنت مريض بجد!”

معتز بغضب مكتوم:

“بنت! احترمي نفسك واعرفي إنتِ بتكلمي مين.”

مي بسخرية:

“هه، وهكلم مين يعني؟ واحد مغرور وشايف نفسه. ولزق كده… مش عارفة على إيه.”

ثم نظرت إليه بنظرة مليئة بالاشمئزاز:

“ملزق! يا بيئة إنت. هو إنت تطول تكلم واحدة زيي أصلاً؟”

معتز، وقد فقد صبره:

“وأنا أصلاً مين قالك إنك تعنيلي حاجة؟ أنا…!”

قاطعت مي بحدة:

“ومين قالك إني عايزة أكلمك؟ ولا هموت عليك أصلاً؟! ومبسوطه إني قعدت في البيت… كنت محتاجة أريح نفسي من كل ده.”

ثم تركته دون أن تنتظر رده، وخرجت من المطبخ بعد أن أنهت عملها.

خرجت مي من المطبخ، ولم تكن ترغب في العودة للجلوس مع الباقين. وبينما كانت في طريقها للدخول إلى غرفتها، نادت عليها رودينا قائلة:

“مي!”

التفتت مي إليها بقلة حيلة، ثم جلست بجانبها. سألتها رودينا بابتسامة:

“كنتي فين؟”

ردت مي:

“كنت في المطبخ، بعمل حاجة.”

رودينا بغمزة ماكرة:

“طيب، مفيش أخبار جديدة كده ولا كده؟”

ضحكت مي محاولة التهرب:

“يعني!”

رودينا:

“يعني إيه؟ مش فاهمة!”

في هذه اللحظة، كان معتز جالسًا قريبًا منهما، وبدأ يشعر بغضب غريب دون أن يفهم سببه، خاصة بعدما سمع حوارهما.

بينما كان عامر يتحدث مع محسن ونرمين عن طبيعة شغلهم ومشاريعهم، كان هناك اتفاق على التعاون المستقبلي بين العائلتين في مجال الحراسة، إذ إن عامر يملك شركات مختصة في هذا المجال.

مي، في الجهة الأخرى، ضحكت بصوت عالٍ وهي تحاول كتمه، لكنها لم تستطع. أمسكت بفمها وقالت:

“بصي، يعني هو زميلي في الجريدة، وناوي يتقدم قريب!”

رودينا بفرحة:

“بجد يا حبيبتي؟ ربنا يتمم لكِ على خير يا رب!”

ثم سألت رودينا:

“وإيه أخبار سيلا؟”

ردت مي بنبرة حزينة:

“للأسف، سيلا حكايتها حكاية… هي رافضة فكرة الزواج من زمان. وكل مرة حد يتقدم، بترفض.”

رودينا باستغراب:

“ليه كده؟

مي بحزن: “من وقت الحادثة اللي حصلت زمان، وهي اتعقدت من الموضوع كله.”

رودينا بتعاطف:

“يااه، معقولة؟ ربنا يهديها ويطمن قلبها يا رب.”

مي:

“يا رب.”

في هذه اللحظة، جاءت ابنة رودينا الصغيرة تقول:

“ماما، عايزة أشيب!”

ضحكت مي وقالت مازحة:

“ترجمي يا دودو، هي عايزة إيه؟”

رودينا بضحك:

“عايزة تشرب.”

مي بابتسامة عريضة:

“بقت أشيب دلوقتي؟ أيامنا كان أمبو! إحنا اتطورنا خالص.”

رودينا:

“أكيد يا بنتي!”

انتهى اللقاء بعد حديث ممتع، وتم الاتفاق على لقاء جديد في حضور الأخ الأكبر الغائب. غادر الجميع المنزل، وكل شخص كان يحمل أفكارًا ومشاعر مختلفة عما حدث في هذا اليوم.

.

كان جالسًا في مكتبه، محاطًا بأوراقه وملفاته، بينما الحاسوب أمامه يعرض مجموعة من البيانات. فجأة، صدر صوت إشعار أزعجه. رفع نظره إلى الشاشة بدافع الفضول، لكن ما رآه جمد الدم في عروقه. محتوى الرسالة كشف شيئًا لم يكن يتوقعه أبدًا.

تجمد للحظة، ثم تبدلت ملامحه بالكامل إلى الغضب الشديد. أسقط القلم من يده، ونهض بسرعة، متجهًا بخطوات غاضبة نحو غرفتها.

فتح الباب بقوة، ليجدها تخرج لتوها من الحمام، تمسك المنشفة لتجفف شعرها. التقت عيناها بعينيه، وشعرت وكأنها أمام بركان على وشك الانفجار. لم تتوقع أن يكتشف الأمر بهذه السرعة، خاصة أنها لم تذكر أي أسماء.

قالت بتوتر وهي تحاول السيطرة على الموقف:

“إيه… إيه مالك؟ داخل كده ليه؟”

وبسرعة حاولت أن تخفي الحاسوب المحمول خلف ظهرها، محاولة حماية ما عليه.

لكن عاصم لم يكن مستعدًا لسماع أي أعذار. بخطوة واحدة، اقترب منها، وجذبها بقوة نحوه. أمسك الحاسوب من يدها، وسحبه بعنف وألقاه على أقرب مقعد.

أمسك يدها بقسوة وقال بصوت مليء بالغضب:

“تعالي! أنا هوريكي شغل المافيا الحقيقي! وهعلمك غسيل الأموال بيتعمل إزاي مع اللي زيك!”

حاولت التملص منه وهي تصرخ:

“سيبني! موديني فين؟! سيبني بقى!”

لكنه لم يستجب، بل زاد من قبضته عليها وسحبها بعنف إلى الخارج. نزل بها السلالم بخطوات متسارعة، متجهًا إلى الطابق السفلي حيث القبو.

فتح بابًا خشبيًا قديمًا يؤدي إلى غرفة معتمة، ودفعها للداخل بقوة. أغلقت الباب خلفها بصوت صاخب.

نظرت سيلا حولها، لتجد نفسها في غرفة باردة مظلمة، أرضيتها خرسانية، والهواء يكاد لا يدخل إلا من نافذة صغيرة جدًا في الأعلى. كل شيء فيها يوحي بالخوف.

تراجعت للخلف بخوف، وقالت بصوت مرتعش:

“إحنا فين؟ إنت عايز تعمل إيه؟ أبعد عني!”

لكن لم يتراجع. تقدم نحوها بخطوات ثقيلة وصوت غاضب هز المكان:

“أبعد؟ أيوة؟ بعد ما  تخرجي وتطلعي أسوأ ما فيا! هااااااه؟!”

 كانت تحاول الحفاظ على شجاعتها، بدأت تشعر بالخوف الحقيقي. قالت محاولة تهدئته

“عاصم… إهدى شويه أنا مش قصدي حاجة! كنت… كنت بس بحاول أفهم أكثر!”

لكنه لم يهدأ. كان واضحًا أن غضبه قد تجاوز كل الحدود، وعيناه تلتهبان كالنار مما جعل سيلا تدرك أن هذه المواجهة لن تمر بسهولة.

عاصم كان في حالة غضب أعمت بصيرته، عيناه اشتعلتا بسواد لا يرحم. أمسك سيلا من شعرها القصير بقسوة، وجذب رأسها للخلف بشدة، صرخ بصوت غاضب ومتهدج:

“عاوزة تشوفي شغل المافيا؟ هوريكي العصابات بجد!”

اندفع جنونه إلى أقصى درجاته، وفقد كل سيطرة على نفسه. بقبضة مشحونة بالغضب، وجه ضربة قوية إلى معدتها، متناسيًا أنها فتاة، متناسيًا كل معايير الإنسانية.

صرخت سيلا بصوت مملوء بالألم:

“آه أبعد!” أمسكت مكان الضربة في معدتها، وهي تتألم بشدة، تحاول جاهدة أن تلتقط أنفاسها. لكن لم يمهلها لحظة لتهدأ، فقد اقترب منها مجددًا، وأمسك بشعرها بعنف، وجذبها للأعلى حتى اضطرت للوقوف. كان غضبه عارمًا، يشعل فيه ثورة لا يعرف كيف يوقفها. بدأ يهزها بعنف، وصوته يرتفع في كل لحظة

“إيه اللي إنت عملتيه ده؟ تعرفي إيه عشان تكتبي كده؟ عاوزة تشوهي أي حد قدامك ؟ عشان سبق صحفي ؟ انطقي!”

كان يصرخ بكلمات مليئة بالغضب وكأنها لا تملك حق في الاختيار ، وهي تكافح لتلتقط أنفاسها وسط آلام موجعة، ردت بصعوبة وعينان تملؤهما الدموع وتحدِ:

“وإنت… تعرف إيه عني عشان تبعدني عن أقرب ناس لي زمان؟” قالتها بصوت متوتر، حاولت التملص من قبضته. “مين أعطاك الحق تسيطر عليّ؟ مين سمحلك تضربني كأني مش إنسانة؟! كان المفروض تحميني وأنا وسط أهلي… مش تجيبني هنا… سيبني بقى!”

لكن صوته كان أقوى منها، حيث صرخ بها بغضب مكتوم، وكان صوته مليئًا بالتهديد:

“عشان أنتي غبية… وما زالتِ… وأنانية! ما بتفكريش في غير نفسك، وطز في أي حد حواليك، وطز فيهم لو اتأذوا بسبب تهورك! ولا حتى بتتعلمي من غلطاتك!”

ثم انفجر بصوت عالٍ، كالرعد الذي يهز المكان، فيما وجهها يتلقى موجات من صراخه:

“لكن معايا أنا؟ لا! عندي أنا خط أحمر! فاااااهمه؟ خط أحمر ما ينفعش حد يتعداه!”

 ض،ربها مرة أخرى في معدتها بقوة، مما جعلها تفقد توازنها وتسقط على الأرض، متكورة من شدة الألم. وقف للحظة، عينيه خالية من أي رحمة أو تعاطف، ثم استدار بسرعة، فتح الباب بقوة، وخرج بخطوات عنيفة، دون أن يلتفت خلفه. أغلق الباب بعنف، مما جعل المكان يهتز، تاركًا إياها وحيدة في الظلام، تكافح بين ألمها ودموعها.

فاطمة، التي كانت قريبة، ركضت نحوه عندما رأته وهو يسحبها للأسفل بسرعة، وقالت بتوتر: “يا بني، دي لسه متصابة، خليها ترتاح شويه.”

عاصم نظر إليها بنظرة قاسية لا تقبل النقاش، وقال بصرامة: “كلمة واحدة، أوعي تفتحي لها الباب، ولا تدخليها أكل ولا شرب، سيبيها زي الكلبة جوه كده فاهمة؟”

 قالت بتنهيدة دون حيلة منها: “حاضر يا بني.”

وتركت المكان، عائده إلى عملها في صمت.

 لم تهدأ ثورته بعد، توجه إلى غرفتها، سحب جهاز اللاب توب، وحاول مسح ما نشرته، لكن لم يتمكن من مسح جميع المشاركات الأخرى التي نشرها الآخرون. زفر بغضب وأجرى بعض المكالمات، ثم خرج من المنزل متوجهًا إلى صالة الألعاب ليخرج غضبه.

هو بارد كالجليد، لكن عندما يغضب، لا أحد يجرؤ على مواجهته. عائلته بالنسبة له خط أحمر، ولا أحد يستطيع الاقتراب منهم.

ظلَّت سيلا تسعل بشدة وتتلوى بألم في معدتها حتى غفت في حالتها المزرية.

مرَّ يوم كامل دون أن يسمع عنها شيئًا.

… 

في اليوم التالي، دخل عاصم إلى غرفتها ليجدها ما زالت متكورة على الأرضية، وقد لاحظ تجمعًا دمويًا خارج فمها. توقف مندهشًا، نظر إلى جرحها فوجد أنه كما هو، لم يتغير. حاول إفاقتها، نادى على فاطمة ليحضر شيء مسكر بسرعة.

فاطمة جاءت بماء وسكر، لكن رغم محاولاته لم تستجب. فاستدعى الطبيب الخاص به ليأتي على وجه السرعة. عندما وصل الطبيب، قام بمحاولة إفاقتها، لكن ما قاله له الطبيب صدمه بشكل كبير، وأقفل فمه عن الكلام، تاركًا الطبيب يذهب وهو في حالة من الصدمة.

عاصم استعاد وعيه بعد فترة، نظر إليها بعينين محملتين بالهموم، فوجدها قد أغمضت عينيها مجددًا. لم ترغب في رؤيته، فتركها وخرج من الغرفة.

في المساء، استفاقت سيلا وطلب منها عاصم أن تستدعيها إلى مكتبه. فاطمة صعدت لإخبارها، لكن سيلا ردت بنفاذ صبر: “مش عاوزة أقابل حد، من فضلك قولي له إني هفضل هنا لحد ما نتكرم ونمشي من هنا خالص.”

فاطمة نزلت وأخبرت عاصم، فطلب منها أن تعطي سيلا الهاتف لكي تتصل بأهلها، ثم تعيده مرة أخرى.

عادت فاطمة وأعطت سيلا الهاتف، فقالت سيلا بسخرية: “يا لكرم أخلاقه”، ثم أمسكته وأخذت تنتظر الرد بشغف.

يتبع لو تفاعلت بعشر كومنتات ولايك هعرف انها عجبتك هكملها اسرع

يتبع

جمر الجليد السابع والثامن عشربقلم شروق مصطفى

أمسكت الهاتف وانتظرت حتى جاءها الرد، فردّت بلهفة:

“بابا…” ثم بدأت في البكاء.

محسن، بقلق:

“مالك يا قلب أبوك؟ فيكِ إيه؟”

سيلا، بصوت متقطع من البكاء:

“نفسي أشوفك أوي يا بابا. عاوزة أرجع لكم. مش عايزة أقعد هنا. تعالَ خدني بقى.”

محسن، محاولًا تهدئتها:

“اهدي يا حبيبتي، اهدي. خلاص، كلها أيام وهتكوني وسطنا. عارفة؟ همسة جالها عريس وقعد معانا واتعرفنا عليه. ومستنينك تيجي عشان نعمل الخطوبة.”

سيلا مسحت دموعها، وقالت بفرحة مختلطة بالحزن:

“بجد؟ مبروك! فرحتلها أوي. هي فين عشان أبارك لها؟”

محسن:

“معاكي هي. اتفضلي كلميها.”

تحدثت همسة بحماس:

“حبيبتي يا سيلا! وحشتيني أوي!”

سيلا:

“وانتي أكتر يا قلبي. مبروك يا حبيبتي! فرحتلك أوي أوي. هتعملوا الخطوبة إمتى؟”

همسة:

“لما ترجعي إن شاء الله. بابا قالي إنك هترجعي الأسبوع ده. تجي بسلامة يا رب.”

ثم تدخلت نرمين، وخطفت الهاتف قائلة بحنان:

“عاملة إيه يا حبيبتي؟ بتاكلي كويس؟ خلي بالك الجو بارد عندك. ادفي كويس يا عمري.”

سيلا:

“حاضر يا ماما. وحشني حضنك أوي. نفسي أترمي في حضنك أوي.”

نرمين، بقلق:

“مالك يا قلبي؟ بتعيطي ليه؟ قلبي وجعني عليكي. طمنيني، فيكِ حاجة؟ خلاص، استحملي اليومين دول بس.”

سيلا تنهدت، محاولة طمأنتها:

“أنا كويسة، متقلقيش عليا. بس أنتم وحشتوني أوي.”

لم تستطع متابعة المكالمة بسبب اختناقها بالبكاء، فقالت بصعوبة:

“معلش، مضطرة أقفل. عايزين التليفون. مع السلامة.” 

أغلقت الخط وأعطت الهاتف لفاطمة، ثم ارتمت على الفراش تبكي. لكن فجأة بدأت تسعل بشدة، وأحست بوجع في معدتها. لاحظت بقعًا من الدم، مسحتها بسرعة، ثم غفت بالنوم من شدة تعبها.

شروق مصطفى

فاطمة أخذت الهاتف وذهبت لإنهاء عملها، بينما ظل محسن في مكتبه قليلاً قبل أن يذهب إلى النوم.

…… 

صباح اليوم التالي اندلعت معركة بالصحراء بين الشرطة والعصابة التي كانت مختبئة في أوكارها. وبعد مواجهة مسلحة وإطلاق ن.ار، تمكنت الشرطة من السيطرة على الوضع وإلقاء القبض على أفراد العصابة بالكامل، رغم إصابة بعض رجالها. أثناء التفتيش، عُثر على شاحنة كبيرة مليئة بالأطفال المختط.فين، وأخرى تضم فتيات قاصرات في حالة تخدير تام.

بعد انتهاء المهمة، أجرى اللواء اتصالًا بعاصم ليبلغه بالنجاح ويطلب منه الاستعداد للعودة في أقرب وقت.

أغلق عاصم الهاتف وتنهد بارتياح قائلاً:

“وأخيرًا المهمة دي خلصت.”

ظل جالسًا للحظات، مسترجعًا ما حدث، ثم أمسك هاتفه مرة أخرى ليجري مكالمة مع طبيب مختص بحالة سيلا. استفسر عن خطة العلاج الأنسب، خصوصًا أن الإمكانيات الطبية في هذا البلد متطورة بشكل أفضل مما كان متاحًا في موطنهم.

بعد المكالمة، قرر مواجهة سيلا بما علمه، ليترك لها القرار بشأن خطواتها القادمة. طلب من فاطمة أن تحضرها إليه، لكنها عادت تقول بأسف:

“للأسف، مش راضية تخرج.”

أغمض عاصم عينيه لبرهة، ثم قال بحزم:

“قولي لها لو ما نزلتش، أنا هطلع لها بنفسي.”

نقلت فاطمة كلامه، فجاء رد سيلا غاضبًا:

“مش هقابله! مش طايقة أشوفه ولا أسمع صوته. لحد أرجع.” 

عندما علم عاصم بردها، لم ينتظر طويلًا. صعد إلى غرفتها ودخل فجأة، وقال بصوت حازم:

“مش هينفع كده يا سيلا. عايز أتكلم معاكي، تعالي على المكتب حالًا.”

وقفت سيلا، وهي تنظر إليه بغضب، ثم تقدمت خلفه متذمرة، تضرب الأرض بقدميها. دخلت المكتب وجلست على الكرسي أمامه بوجه متجهم، وقالت بحدة:

“اتفضل، خير؟”

جلس عاصم أمامها ونظر إليها بجدية، ثم قال:

“خير إن شاء الله. العصابة أتقبض عليها، ولو عاوزة نمشي من هنا هنمشي حالا بس…”

الفرحة اجتاحت قلبها للحظة، وارتسمت ابتسامة مشرقة على وجهها الشاحب. عينيها تلألأت بالسعادة وهي تقول:

“بجد؟ بجد أخيرًا؟ الحمد لله!”

ثم تابعت بحماس:

“طبعًا عايزة أمشي، ومن غير أي سؤال. ودلوقتي حالًا! أخيرًا الكابوس ده خلص.”

أنهت كلماتها بنظرة غاضبة لعاصم، وكأنها تلومه على كل ما حدث.

نظر إليها بهدوء، محاولًا كتم توتره، وقال:

” بس في حاجة محتاجين نفكر فيها قبل ما ننزل. وده قرار يرجعلك في النهاية.”

سيلا، بوجه متجهم وقد بدت عليها الدهشة:

“حاجة؟ حاجة إيه دي؟ إحنا مش خلصنا خلاص؟ العصابة واتقبض عليها وكل حاجة انتهت!”

عاصم تنهد طويلًا، محاولًا جمع شتات كلماته، وقال:

“أحم… بصي. يوم ما حبستك، تاني يوم لما الدكتور وصل وكشف عليكي، بلغني بـ…”

توقف للحظة، ثم أكمل وهو يشرح حالتها الصحية بتفاصيل دقيقة، محاولًا تهدئة وقع الصدمة عليها.

“أنا شايف إن الإمكانيات هنا متطورة أكتر، ولو مددتي الفترة دي شوية، هتتحسني بشكل أسرع. الموضوع في بدايته سهل، يعني مش هياخد وقت طويل.”

صدمتها كلماته، ولم تستوعب ما تسمعه. شعرت وكأن الأرض اهتزت تحت قدميها. نعم، كانت تشكو من آلام في معدتها، لكنها لم تتخيل أن الأمر بهذا الجدية.

ابتسمت ابتسامة باردة تخفي وراءها خليطًا من الغضب والإنكار، وقالت:

“شكرًا… شكرًا إنك نبهتني. أنا هعرف آخذ بالي من نفسي. ومن صحتي. شكرًا لحد هنا.”

ثم أضافت بحدة:

“وأنا طالعة أجهز نفسي للسفر بعد إذنك.”

لم يدعها تغادر قبل أن يرد بسرعة:

“بلاش العناد في الموضوع ده. لو عايزة، ممكن أبعت حد من أهلك هنا، أو أجيبهم كلهم لو تحبي.”

استدارت قليلاً دون أن تنظر إليه، وقالت بنبرة حازمة وباردة:

“لا. وياريت متجبش سيرة لحد. مهمتك وانتهت هنا. وابعد عن طريقي.”

غادرت المكتب بخطوات ثابتة، وأغلقت الباب وراءها دون أن تترك له مجالًا للحديث.

جلس في مكانه لبضع ثوانٍ، يحاول استيعاب ما حدث. غضبه كان واضحًا، فنهض فجأة وضرب بيده على المكتب عدة مرات وهو يتمتم:

“غبية! عنادك ملوش لازمة.”

ثم أمسك هاتفه وأجرى اتصالًا سريعًا بابن عمه قائلاً بحزم:

“جهز كل حاجة. أنا جاي الصبح.”

… .

نرمين بفرحة غامرة قالت:

“بجد يا محسن؟ قبضوا عليهم؟ الحمد لله يا رب! أخيرًا الكابوس ده خلص! فاكر إننا كنا نادرين لما ترجع بالسلامة نطلع نعمل عمرة؟ ولا نسيت؟”

ابتسم محاولًا إخفاء إرهاقه، وقال:

“ما نستش طبعًا، بس الواد مستعجل يا ستي. نستنى نكتب كتابهم الأول، وبعدها نطلع عمرة. لما نرجع، يكونوا خلصوا تجهيزاتهم على مهلهم للشهرين دول.”

بتردد قالت:

“بس مش حاسس إننا استعجلنا؟ مش كانوا محتاجين وقت أطول عشان يتعرفوا على بعض؟”

نظر إليها بثقة وقال:

“لو كنت شايف إنه ما يستهلهاش، مكنتش وافقت. أنا اختبرت الولد، وهو قد المسؤولية. وكل شيء معمول بحساب.”

بحنان اقتربت منه، وأمسكت وجهه بيديها، وقالت بابتسامة:

“وأنا واثقة فيك وفي كل قراراتك يا حبيبي. نفسي أفرح بهم أوي، وسيلا كمان.”

ربت على يدها بحب وقال:

“سيبيها، كل حاجة ليها وقتها. والأيام الحلوة جاية.”

قطع حديثهما صوت همسة وهي تدخل بابتسامة عريضة

“الله الله الله! الأحضان كده من غيري؟ خيانة واضحة، وأنا ماليش نصيب ولا إيه؟”

ضحكا بصوت عالٍ، وفتحا أذرعهما لها، وقالا:

“تعالي يا أجمل عروسة!”

دخلت همسة وسطهما، واحتضنتهما بسعادة كبيرة، ثم رفعت رأسها وقالت بابتسامة:

“مبسوطة أوي إن سيلا هترجع بكرة. مش قادرة أستنى أشوفها.”

ركضت بعدها إلى غرفتها، تتوق لإخبار حبيبها بالخبر السعيد.

عندما استقبل مكالمتها وأخبرته بكل شيء، امتلأ قلبه بالفرحة. اتصل بأخيه عامر وقال:

“عامر، كنت لسه هكلمك! عاصم بلغني إن كل حاجة تمام. حضّر نفسك، هنقرأ الفاتحة قريب، ونعمل تلبيس دبل. وبعد ثلاث شهور نكتب الكتاب.”

بصوت مليء بالسعادة رد قائلاً:

“إن شاء الله، يا وليد.”

….

دخل غرفته يحضر حقيبته، ثم توجه إلى الدادة فاطمة قائلاً:

“جهزي حاجتك وبلّغي سيلا إننا هنتحرك على الفجر.”

هزّت رأسها موافقة، وبدأت تجهيز احتياجاتها، ثم صعدت لتبلغ سيلا، بينما ظل عاصم في مكتبه، مستغرقًا في أفكاره. جلس ممسكًا سيجاره الذي أشعله ببطء. فكر في حالة سيلا الصحية، وكيف أنها رفضت أن يخبر أحدًا بما تعانيه. كان يعلم أن علاجها يجب أن يبدأ فورًا، لكن عنادها أربكه. زفر بحدة وقال بصوت منخفض:

“أنا مالي ومالها؟ تتعالج أو متتعالجش، مش مشكلتي.”

ثم نفض أفكاره بقوة ووقف أمام النافذة. شرد قليلاً، يحاول تجاهل قلقه غير المفهوم. فجأة، سمع صوتًا ما عبر سماعة الأذن. تنهد وابتسم بخفة، وكأنه يحاول طرد الأفكار المزعجة من رأسه.

كانت سيلا تجلس على السرير تدندن بسعادة، تغني لنفسها وكأنها تطمئن قلبها:

“وحشتوني وحشتوني وحشتوني! أهلًا ترارارا، أهلًا ترا رارا! أهلًا أهلًا بأعز الحبايب!”

ثم توقفت فجأة لتتكلم مع نفسها بسخرية:

“أخيرًا! هخلص منه جبل الجليد كابوس. يبااااي! دمه تقيل بشكل!”

استلقت على السرير بتعب، تذكرت أنها لم تحضر معها سوى حقيبة صغيرة. أغمضت عينيها وغفت بسرعة، بينما ترتسم على وجهها ابتسامة خفيفة.

صعدت لتوقظ سيلا وتبلغها بالتحرك بعد قليل. عندما دخلت الغرفة، وجدتها نائمة بعمق خرجت تبلغ عاصم، كان مستندًا على حافة المكتب، وملامحه متحفظة، لكنه أومأ برأسه قائلاً:

“خليها. كمان شوية نتحرك.”

مرور أسبوع على عودتهم

عاد عاصم إلى حياته المعتادة بعد عودتهم، يوازن بين إدارة أعماله في الشركات وأعماله السرية. كان يومه مزدحمًا بالاجتماعات والتخطيط، لكنه لم يغفل عن التنسيق مع عامر ووليد لترتيب زيارة عائلية بنهاية الأسبوع. الهدف كان واضحًا: قراءة الفاتحة والإعداد لمراسم الخطوبة.

أما سيلا، فكانت قصتها مختلفة تمامًا. طوال الأسبوع، ظلت حبيسة المنزل. لم تغادر غرفتها سوى للحظات قليلة، ولم تذهب حتى للجريدة التي كانت تحب عملها فيها. انعزلت عن الجميع، وخسرت الكثير من وزنها بسبب فقدان الشهية. كل ما تأكله كان يسبب لها الألم أو ينتهي به الأمر إلى التقيؤ.

كانت غارقة في التفكير والصدمة، تعيد في ذهنها ما قاله لها الطبيب، وتحاول استيعاب الأمر. قررت ألا تخبر أحدًا عن حالتها، لا تريد أن تعكر فرحة عائلتها بزواج همسة أو سفرهم للعمرة. أجلت فكرة الحديث عن مرضها أو العلاج لما بعد انتهاء هذه الأحداث السعيدة.

قبل نهاية الأسبوع بيوم قررت الخروج أخيرًا، بحجة شراء شيء مناسب لمناسبة الخطوبة. رفضت أن يصاحبها أحد، فقد كانت لديها نية أخرى. ذهبت مباشرة إلى المستشفى، لتزور الطبيب المختص بالأورام. كشف الطبيب عليها واكتشف وجود كتلة في منطقة المعدة، وأكد ضرورة إجراء أشعة متخصصة لمعرفة طبيعة الكتلة، سواء كانت حميدة أو خبيثة، وكذلك لتحديد حجمها بدقة.

شعرت بصدمة جديدة لكنها تماسكت. خرجت من المستشفى وتوجهت إلى مركز الأشعة لإجراء الفحص المطلوب. تناولت المحلول الذي طُلب منها قبل الفحص، وأخبرها الطبيب أن النتائج ستظهر في اليوم التالي.

بعد ذلك، حاولت أن تخفف عن نفسها قليلاً، فدخلت متجرًا وابتاعت شيئًا بشكل عشوائي دون تفكير. كان فستانًا بسيطًا بلون سماوي جذب انتباهها. لم تقسه حتى، فقط اشترته وغادرت.

عند وصولها، وجدت الجميع يغنون ويرقصون بفرحة. الأجواء كانت مليئة بالسعادة، فابتسمت سيلا بصعوبة ودخلت بينهم تحاول مشاركتهم. همسة كانت أول من لاحظ الفستان، فأخرجته من الكيس بحماس:

“الله! جميل جدًا يا سيلا، هيبقى تحفة عليكي!”

وضعت همسة الفستان عليها وهي تصفر بإعجاب:

“واو، واو! تحفة بجد، عقبالك يا رب.”

احتضنتها بحرارة، بينما نرمين ابتسمت وقالت بحنان:

“رقيق أوي يا حبيبتي، مبروك عليكي.”

كانت مي، التي حضرت قبلها بيوم للتجهيز مع العائلة، تقفز بمرح. فجأة قرصت همسة مما جعل الأخيرة تصرخ:

“آآآه! إيه يا بت؟”

ضحكت مي بشدة وهي تقول:

“عشان أحصلك في جمعتك، يلا يا سيلا، اقرصيها انتي كمان!”

لكن همسة ركضت مبتعدة وهي تضحك:

” اللي يقدر يمسكني!”

استمرت الأجواء المرحة، وضحك الجميع على همسة، حتى انضم محسن وقال بابتسامة كبيرة:

“عقبالكم يا بنات!”

ردت مي بفرحة:

“الله يبارك فيك يا عمو!”

سيلا في عالم آخر كانت تحاول أن تشاركهم الابتسامات والضحكات، لكنها كانت غارقة في عالم آخر. شعور الوحدة والخوف كان يسيطر عليها. لم ترد أن تعكر صفو فرحتهم، فانسحبت بهدوء ودخلت الحمام.

كانت ما تزال تمسك بالفستان السماوي، ووقفت أمام المرآة تتأمله. لم يكن اختيارها له عن قصد، لكنها شعرت بأنه يناسبها بطريقة ما. نظرت لنفسها في المرآة، وحاولت أن تبتسم، لكنها كانت ابتسامة مليئة بالوجع والقلق الوقت يمر… والصمت يثقل على قلبها.

وجاء اليوم جلس الجميع الأب مع عاصم وأخيه عامر و وليد .

وتم تحديد بعد ثلاث اشهر خطوبه و كتب الكتاب مع بعض و بعد رجوعه من العمرة سيكملون الزواج.

داخل غرفة البنات همسه وضعت اخر اللمسات و كانت هاديه ورقيقه بفستانها الكشمير و شعرها المائل للعسلي الغامق الذي رفعته لأعلي بطريقه جذابه و انزلت بعض الخصل للأمام مع القليل من مستحضرات التجميل

و ايضا وضعت سيلا بعض مستحضرات التجميل لاخفاء شحوب وجهها ولبست طقم آخر بعد الكثير من المجادلة منهم أن تلبس هذا الفستان الا انها رفضت و تركته ليوم الخطبة.

و حضرت ايضا مي التي لاحظت تغير في صديقتها لكنها لم تريد ان تتكلم فالوقت غير مناسب.

فور وصول رودينا إلى المنزل، أسرعت إلى الداخل تحمل طفليها النائمين، لتضعهما بلطف على الفراش وتتركهما يكملان نومهما. اتجهت مباشرة إلى سيلا، واحتضنتها بحرارة، وكأنها تحاول تعويض سنوات الغياب الطويلة. بعيون دامعة وقلب مليء بالفرح، قالت رودينا:

“مش مصدقة نفسي بجد… بعد كل السنين دي رجعنا تاني لبعض، وكمان بقينا نسايب!”

ردت سيلا بابتسامة هادئة، تحاول أن تخفي مشاعر مختلطة داخلها:

“أهو النصيب بقى…”

لكن رودينا، وقد شعرت بالذنب، أضافت بصوت منخفض:

“متزعليش مني، والله كان غصب عني. إخواتي كان طبعهم صعب جدًا، وحاصروني بشكل ما كنتش أقدر أتصرف فيه.”

في داخلها، همست سيلا لنفسها: “أنتي هتقوليلي؟ أنا عشت الطبع ده بكل قسوته… ضربني، حبسني في بدروم وسط الثلج.”

ولكنها لم تُظهر شيئًا من ذلك، بل أفاقت من ذكرياتها حين شعرت بضغط رودينا على كتفها، تبكي وتطلب السماح.

ربتت سيلا عليها بحنان وقالت:

“مش زعلانة منك يا حبيبتي، والله. اللي فات مات، انسي بقى. متعيطيش.”

بعد أن هدأت رودينا، قالت سيلا مازحة وهي تشير إلى طفليها:

“طب يلا صحيهم، يلعبوا معانا.”

 تراقب الطفلين بملامح محبة:

“دول شكلهم كيوت أوي.”

رودينا ضحكت وقالت:

“كيوت إيه! دول مطلعين عيني طول النهار. أقعد أقول لهم: بس اسكتي، كفاية دوشة! لكن لما بيناموا، أحس بزهق رهيب وأفضل أقول: اصحوا، كفاية نوم!”

ضحكت سيلا ومي وهمسة معًا على وصفها، بينما خفضت رودينا صوتها وهي تضحك أيضًا:

“بس هس… خليهم نايمين دلوقتي عشان نقعد شوية برا بدل ما يطلعوا روحنا.”

نادت نرمين على الجميع استعدادًا لقراءة الفاتحة وتلبيس الخواتم. خرجوا جميعًا إلى الصالة حيث تجمع الأهل في جو عائلي دافئ ومليء بالحب. كانت همسة في كامل أناقتها تجلس بجانب وليد، الذي لم يستطع أن يُخفي نظراته العاشقة لها، تلك النظرات التي عبّرت عن إعجابه بها منذ اللحظة الأولى.

سيلا، بابتسامتها الهادئة، توجهت إليه وقالت:

“ألف ألف مبروك.”

رد وليد بابتسامة مماثلة:

“الله يبارك فيكِ، وعقبالك إن شاء الله.”

ردت سيلا بامتنان بسيط:

“ميرسي.”

جلست مي في مواجهة معتز، الذي لم يكن قادرًا على فهم مشاعره المتضاربة تجاهها. كان مضطربًا، بينما هي اختارت تجاهله تمامًا وكأنه غير موجود.

قرأ الجميع الفاتحة معًا في لحظة مباركة، ثم قام وليد بإلباس همسة الخاتم وسط تصفيق وفرح العائلة. كان الأب والأم ينظران بسعادة إلى ابنتهما، بينما لم يتوقفا عن الدعاء في سرّهما أن يمنح الله السعادة لسيلا أيضًا، وأن تجد نصيبها قريبًا.

رودينا جلست بجانب زوجها، تنظر إلى المشهد بابتسامة، وهي تفكر في حظوظ القدر التي جمعتها مجددًا بسيلا بعد كل تلك السنين.

ظل عاصم يراقب سيلا بعينيه، ولاحظ الشحوب الذي بدا على وجهها رغم محاولتها إخفاء ذلك باستخدام مستحضرات التجميل. هي أيضًا انتبهت لنظراته وفهمت ما يعكسه، فبادلت نظرته بنظرات تحذيرية، دون أن تنطق بكلمة واحدة.

استأذن عاصم  ليشعل سيجارة إلى الشرفة، ورافقه الأب، حيث تبادلا بعض الكلمات في لحظات هادئة قبل أن يعودا إلى الداخل. أضاء عاصم سيجارته، وظل يدخن في صمت لفترة، حتى أدرك أن سيلا اقتربت منه. سعلت بشدة جراء كثافة الدخان الذي يملأ المكان، فتوجهت إليه بغضب:

الفصل الثامن عشر

جﻤر الجليد شروق مصطفى

“جايبني ليه؟ خليت بابا يناديني ليه؟ طفي الزفتة دي! مش قادرة!”

بعد لحظات من السعال، هدأت وقالت بحدة:

“أخبار قضية أية؟اللي عايز تتكلم فيها؟ مش هي انتهت خلاص؟”

أطفأ عاصم سيجارته، ونظر إليها بنظرة مرعبة، وقال بصوت حازم:

“صوتك ميعلاش فاهمة؟”

حاولت التوجه للداخل، لكن عاصم أمسك بذراعها بقوة قائلاً:

“استني هنا، مخلصتش كلام عشان تمشي.”

فجأة، ترك يدها، فرفعت يدها بتعب وقلة حيلة، وقالت:

“اتفضل اتكلم.”

عاصم، وهو ينظر في عينيها مباشرة، قال:

“ليه مقولتيش لحد عن حالتك؟”

ابتسمت سيلا ابتسامة ساخرة وقالت:

“إيه ده، خايف عليا؟ معقول؟ اللي أنا أعرفه إنك مش بتحس ولا بيفرق معاك. بتضرب بدم بارد زي ما ضربتني قبل كده،” وأشارت إلى كتفها.

عاصم، بنفاد صبره، قال:

“ما ترديش سؤال بسؤال. مش خوف عليكي، بسأل من ناحية الواجب. أنا اللي اكتشفت مرضك في الأول، مش أكتر. وبالنسبة للإحساس ده، مايخصكش في حاجة. ودم بارد لأنك تستاهلي.”

سيلا، وهي تنظر إليه بدهشة ثم تفكر في كلامه قليلاً، قالت:

“طيب، واجبك… وهو وصل. متشكرين. خلي ضميرك يرتاح. لو مت، مش هتكون السبب. ومتدخلش في حياتي تاني.”

غضب عاصم، وقال بعنف:

“أنتِ مجنونة! بتعاندي في دي كمان؟ اعقلي شوية! لو مقولتيش لحد، أنا اللي هبلغهم بنفسي.”

سيلا، وقد نفد صبرها، ردت بصرامة:

“أظن إن مهمتك انتهت. ملكش صفة ولا مكانة إنك تتكلم أصلاً. أنا هبلغهم في الوقت المناسب، مش هعكر عليهم فرحتهم، مش هخليهم يتلهوا فيا وهم فرحانين. بعد كتب الكتاب، إن شاء الله، هبلغهم بنفسي وأبدأ العلاج. ياريت ترتاح وتبعد.”

عاصم، وهو يحذرها، قال:

“خلي بالك، لو منفذتيش اللي قولتي ده، أنا اللي هتصرف بطريقتي. مفهومة؟ وعندي طرقي، وأنتِ جربتيها بنفسك.”

سيلا، بحزم شديد، قالت:

“لحد كده وكفاية! ملكش دعوة بيا بقى.”

عاصم، محاولًا تهديدها، قال:

“هسيبك لحد كتب الكتاب، لكن لو مابدأتيش أي خطوة، هبلغ والدك بضرورة سفرك لأمور تخص القضية، وهسفرك غصب عنك. مفهومة؟”

سيلا نظرت إليه قليلاً، لم تعرف كيف ترد، وكان واضحًا أنه لا يفهم أن تدخله في حياتها بهذا الشكل ليس له أي مكان. فأجابت:

“وأنا مش موافقة على جنانك ده.”

تركت عاصم ودخلت مجددًا إلى الداخل، حيث جلسوا جميعًا. كانت سيلا تحاول أن تتغاضى عن كل هذا الصراع الداخلي الذي تعيشه.

في جو عائلي محير ورغم التوتر الذي عاشته مع عاصم، لم تخلو الجلسة من أجواء عائلية دافئة. كانت نظرات معتز تحمل نوعًا من التوعد، لكن الأسباب التي جعلته يحدق فيها بهذه الطريقة كانت لا تزال غير واضحة بالنسبة له. وفي المقابل، كانت بين همسة ووليد نظرات مليئة بالحب والشوق، لكن نظرات أخرى بين الحضور كانت باردة كالجليد، لا تحمل أي نوع من المشاعر. إلى أن انتهت المقابلة، تاركة الجميع مع مشاعرهم التي ما زالت معلقة.

دخلت سيلا غرفتها بعد قليل، لتجد صديقتها مي قد غيّرت ملابسها وهي في انتظارها. استأذنت مي من أخيها ووالدتها بالمبيت لديها.

مي: “كان يوم جميل أوي، عقبالنا يا رب.”

ابتسمت سيلا ابتسامة مكسورة، وقالت: “عقبالك إنتِ يا حبيبتي.”

دخلت همسة بعد أن بدلت ملابسها، وانضمت إليهما.

مي (بحب): “مبروك يا عروسة، كنتي قمراية.”

همسة: “حبيبتي، عقبالك إنتِ وسيلا، يا رب تفرحوا قريب. بصوا بقى، أنا هلكانة أوي، وجعانة ونوم. هسيبكم ترغوا بس، وطوا صوتكم، ماشي؟”

مي (بضحك): “ماشي يا حب.”

ثم رجعت مي إلى سيلا التي ما زالت تائهة، سرحانة في أفكارها، وقالت لها:

مي: “مالك يا سيلا؟ حساكي مش طبيعية خالص، وبتسرحي كتير، ووشك غريب. فيكي إيه يا حبيبتي؟”

حاولت سيلا أن تهرب من أسئلتها وقالت: “لا يا بنتي، مفيش. شوية إرهاق بس من الأحداث الأسبوع وقلة النوم. يلا ننام بقى، لأني تعبانه بجد.”

لكن مي كانت تشعر بعدم ارتياح، لأن سيلا لم تحكي لها عن ما حدث لها أثناء السفر، وكلما حاولت أن تسألها، كانت تهرب من الإجابة.

هتفت مي بشك: “طيب يا سيلا، هسيبك دلوقتي، بس لما تحبي تتكلمي، أنا موجودة.”

في صباح اليوم التالي، خرجت سيلا لتستلم نتيجة الأشعة. ذهبت مباشرة إلى الطبيب، الذي نظر في الأشعة لفترة من الزمن، محاطًا بالصمت. لكن سيلا كانت تشعر بتوتر كبير يملأها، وهي تنتظر الإجابة.

ثم جاء الرد الذي كانت تخشاه: ” “الورم موجود في أعلى بطانة المعدة، وحجمه صغير وواضح في الأشعة. الحمد لله إنك اكتشفتيه بدري، لإن في حالات كتير الورم مش بيبان في البداية وبيبقى انتشر في أماكن تانية. لازم تعملي عملية عشان تستأصلي الورم ده.”

سيلا: “ممكن يا دكتور أأجل العملية شوية؟ عندي ظروف خاصة كده محتاجة وقت.”

الطبيب: “المفروض إننا نستعجل في العملية دلوقتي بما إن الورم في بدايته، بس ممكن أديكي أدوية تقلل حجمه شوية، وجربيها أسبوعين. بعدين تعالي علشان نتابع الوضع. لو الأدوية ما نفعتش، هنبقى نغير العلاج، بس لازم تعرفي إن مفيش بديل عن الجراحة في الآخر.”

أخذت سيلا الروشتة وقرأت تعليمات النظام الغذائي بعناية، ثم شكرت الطبيب وخرجت.

فور مغادرتها العيادة، ألقت بصور الأشعة في سلة المهملات حتى لا يلاحظها أحد. بعدها، توجهت لشراء الأدوية المؤقتة، وأخفتها داخل حقيبتها قبل أن تعود إلى منزلها مباشرة. كانت تشعر بتعب شديد، فلم تعد قادرة على القيام بأي مجهود. رفضت العودة للعمل ووافقت دون نقاش على طلب والدها بترك عملها أو التحول إلى تخصص آخر.

ثم توقفت لحظة، تتذكر كيف كان الوضع قبل أن تصبح كل هذه الأحداث جزءًا من حياتها…

في اليوم الثاني بعد رجوع سيلا من السفر، دخل محسن غرفتها وقال: “ممكن أقعد معاك يا سيلا؟”

سيلا ابتسمت وقالت: “طبعًا يا بابا، اتفضل.”

عدلت من وضعها شويه، وقعد جنبها، وقال: “إيه الحلو زعلان ليه بقى؟”

سيلا ردت بصوت هادي: “مفيش يا بابا، مش زعلانه.”

يعلم جيدًا عناد ابنته، فاختار أن يتحدث معها من زاوية أخرى، قائلاً:

 “طيب يا بنتي، أنا مليش غيركوا في الدنيا أنتي وأختك، وبخاف عليكو من الهوا الطاير، ومش هابقى مبسوط أبدًا وأنتي بتضيعي وأنا واقف بتفرج عليكي.”

صمت شوية، ثم أخذ نفس عميق وقال: “بصي، أنا مش همنعك من شغلك اللي بتحبيه، المرة دي الحمد لله لحِقنا نفسنا، لكن ما أعرفش المرة الجاية ممكن يحصل إيه. الشغل ده، التحقيقات والجري وراء الحقيقة، ده ليه ناس متدربة على أعلى المستويات ومختصين، فأنا هخليكي تختاري: يا تمسكي تخصص تاني خالص، أو تسيبي المجال ده كله.”

فهمت سيلا تمامًا مشاعر والدها وخوفه العميق عليها، لكنها كانت في حالة إرهاق شديدة، جسديًا وعقليًا، لا سيما بعد اكتشاف مرضها. لم تعد قادرة على بذل أي مجهود، وكانت تدرك تمامًا أن كل شيء أصبح فوق طاقتها. كما أن صديقتها مي توقفت عن العمل معها، مما جعلها تشعر بأنها في حاجة ماسة للراحة. باتت عاجزة عن مواجهة العمل في هذه الفترة، وأصبحت مقتنعة بأنها بحاجة إلى فترة من السكون والتعافي بعيدًا عن الضغوطات التي كانت تلاحقها.

فجأة، اندفعت سيلا إلى أحضان والدها، وكأنها تبحث عن مأوى في حضنه الدافئ، تحس بريحته التي تحمل في طياتها الأمان والحنان. في تلك اللحظة، غمرتها مشاعر غريبة، شعرت وكأنها على حافة الفراق منهم، كأن الزمن يهرب منها بسرعة. كانت تحاول بكل ما فيها أن تقتنص أي لحظة لتبقى بالقرب منهم، تخشى أن تفوتها، وتهيم في شعور غريب من القلق والحنين.

محسن لاحظ سكوتها، وقال: ” ها، قولتي إيه؟”

 أخيرًا تكلمت، وقالت: “هختار الاختيار التاني. أنا تعبت من الشغل، فعلاً محتاجة أريح شوية. وكمان مي مش هينفع أسيبها، مش هينفع أشتغل لوحدي.”

حاولت سيلا أن تبتسم بصعوبة، وقالت: “مش بحب أعمل حاجة من غيرها، إنت عارف.”

قهقه محسن وهو ما زال يحتضنها، وقال: “ربنا يخليكم لبعض.”

نظرت سيلا إليه بابتسامة دافئة، ثم أمسكت بيده برفق وقالت: “ويخليك لينا يا رب.”

لكن حديثهم قُطع فجأة بدخول شخص آخر…

قالت بصوت متهكم: “لا لا لا! كل يوم ألاقيك في حضن واحدة تانية، وأنا الغلبانة مفيش حد يضمّني.”

ضحك محسن وقال: “تعالي تعالي، دايمًا بتيجي في أهم لحظة.”

ودخلت وسطهم، مما أضاف جوًا من المرح تلك اللحظة.

في أحد الأيام، كان في مكتبه مشغولًا بأعماله، لكنه سرح قليلاً وهو يتذكر ما سمعه عن تلك التقنية الحديثة التي زرعها لها. كان السوار الذي وضعه في يدها يحتوي على تقنيات متطورة للغاية، يتم استخدامها في بعض العمليات السرية والحساسة فقط. تركه في يدها دون أن يزيله، رغم أنه كان بإمكانه فعل ذلك، ليظل السوار على معصمها مع ميزات قد تبدو بسيطة في الظاهر لكنها معقدة في الحقيقة.

الطريف في الأمر أنه لم يكن مجرد جهاز تتبع عادي، بل كان يحتوي أيضًا على سماعة صغيرة للغاية مدمجة، تقوم بتسجيل الأصوات من حولها. الطرف الآخر يستطيع الاستماع لكل ما يحدث عبر سماعة دقيقة للغاية زرعها في أذنه. تلك السماعة كانت غير مرئية تقريبًا، ما يجعلها مستحيلة الملاحظة من أي شخص آخر. كما أن هذه التقنية لم تكن مقتصرة على المسافات القريبة فقط، بل تم تصميمها خصيصًا لتغطية مسافات بعيدة أيضًا، مما يجعلها أداة قوية وفعالة في مراقبتها دون أن تشعر بذلك.

بينما كانت همسة في غرفتها الصغيرة التي خصصتها للعمل على رسم لوحاتها، كانت مشغولة تمامًا في رسم لوحة جديدة بعناية، تخطط للخطوط بالرصاص، شاردة في خيالها الذي ينسج تفاصيل اللوحة. في لحظة من التركيز التام، فاجأها رنين هاتفها، وكانت النغمة الخاصة به تعلن عن وجود رسالة من وليد، الذي أضاءت الشاشة باسم “حبيبي”. ردت على الاتصال بخجل.

قال وليد: “حياتي كلها، عاملة إيه؟ وحشتيني.” همسة أجابت برقة: “الحمد لله.”

ثم أضاف وليد: “عارف إنك زعلانة مني، المفروض أخرجك النهاردة، بس جالي سفرية فجأة وهرجع بالليل، بس بكرة إن شاء الله ننزل سوا وهعوضك.”

همسة طمأنته: “لا مش زعلانه والله.”

وليستمر وليد: “يعني مش نفسك تشوفيني؟”

همسة ضحكت: “لا.”

رد وليد: “ال ال ال بقا كده أنا زعلت بجد.”

فأجابته همسة: “أقصد إني شيفاك قدامي، أصلي برسمك.”

فوجئ وليد بفرحة: “الله بجد؟ طيب ينفع ترسمني كده وأنا مش قدامك؟”

همسة: “منا بتخيلك وبرسمك.”

ضحك وليد قائلاً: “ربنا يستر، ربنا يستر.”

همسة: “كده برده زعلت أنا.”

قال وليد ضاحكًا: “لا لا لا، بهزر والله. لازم أشوفها بعد ما تخلصيها.”

همسة: “أكيد.”

وليد: “طيب اسيبك تكملي الصورة وأنا خلص، وهكلمك تاني.”

همسة: “أوكي، مع السلامة.”

ثم تابعت همسة العمل على لوحتها، بينما كان صوت وليد في قلب حديثها، يعزز من إلهامها في رسمته الخاصة.

داخل السجن، كان الرجل يتكلم مع آخر، وعيناه مليئتان بالغضب والتهديد. قال بنبرة مليئة بالتحذير: “لم أترك هذه المهزلة تمر بسلام. لم تعرفوا مع من وقعتم، لكن قريبًا ستعرفون.”

ثم أخذ الهاتف المخبأ وتحدث مع شخص آخر قائلاً: “حضّر لي ما قلت لك، سننفذ الخطة قريبا. جهّز الرجال ليعرفوا تحركاتها!”

وأضاف بلهجة حادة: “لا أريد أي خطأ. سضيع رقبتك، مفهوم؟”

أجاب الطرف الآخر بصوت خافت: “مفهوم سيدي، لا تقلق. إنها رجعت، ورجالتي لم يفارقوها.”

أغلق الرجل الهاتف في وجهه، ثم انفجر ضاحكًا ضحكة شيطانية مليئة بالشر. “هاهاهاها، قريبًا سوف ألتقي بكِ، ملاكي.”

بعد مرور ثلاثة أشهر، أصبحت علاقة همسة ووليد أقوى بكثير، وكانت الأمور بينهما تسير بشكل جيد، بينما كان الوضع غير مستقر بالنسبة لمي فقد قطعت علاقتها بزميلها، حيث اختفى فجأة ولم يعد يرد على اتصالاتها. وصل إليها عن طريق أخته أنه ترك العمل بالجريدة وسافر.

أما معتز، لم يعرف سببًا لتلك الأفعال، لكن كل ما كان يريده هو أن يكسرها ويبعدها عن حبيبها. قام بتهديده في محاولات يائسة، لكنه لا يزال يتربص لها في الخفاء.

وفي مكان آخر، كان عاصم قد ذهب في مهمة سرية أخرى، حيث غاب لمدة شهرين ونصف. عاد في الوقت المناسب ليحضر كتاب كتاب ابن عمه.

أما سيلا، فكانت ما زالت مستمرة في علاجها، تتناول المسكنات وتزور الطبيب بشكل دوري. قامت بإجراء أشعة أخرى، وأخبرها الطبيب أنه من الضروري أن تخضع لعملية جراحية بأسرع وقت خوفًا من أن ينتشر الورم، الذي كبر بمقدار بعض السنتيمترات. على الرغم من ذلك، طمأنته بأنها ستبدأ العلاج قريبًا جدًا.

وفي يوم الخطبة المنتظر، جاء الحدث المفاجئ…

في صباح يوم الخطبة وكتب الكتاب، توجهت همسة، سيلا، مي، ورودينا إلى القاعة التي كانت قد حُجزت خصيصًا لهذا اليوم المميز. هناك، استلموا العروس، وبدأ الجميع بالتحضير، حيث تم تخصيص مكان خاص للتجميل لكل منهن.

بينما كانت سيلا تحاول التماسك، بدأ الإرهاق يظهر على وجهها، إلا أنها كانت حريصة على أن لا تظهر شيئًا من تعبها أمامهن حتى يمر اليوم بكل تفاصيله كما هو مخطط له.

مرت ساعات، وانتهت الفتيات من ارتداء فساتينهن الخاصة، وكل واحدة منهن أظهرت جمالها بطرق مميزة وفريدة.

كانت همسة في غاية الرقة والبساطة، فستانها النبيتي الذي كان ضيقًا من أعلى الصدر حتى الوسط بتطريزات بسيطة ورقيقة، ينزل بوسع حتى أسفل القدمين، مما أضفى على مظهرها سحرًا خاصًا. رفعت شعرها بطريقة مبهره ووضعَت تاجًا رقيقًا فوقه، ليزيد من جمال إطلالتها.

أما سيلا، فقد اختارت فستانًا سماويًا بسيطًا، فوقه طبقة من التل الذي كان نفس لون الفستان، والمجسم حتى الركبة، بينما كان ينزل بحرية واتساع من أسفل الركبة. وضعت مستحضرات تجميلية خفيفة لإخفاء شحوب وجهها والهالات السوداء تحت عينيها، بينما تركت شعرها القصير كما هو، مما أضفى على مظهرها طابعًا ناعمًا.

أما مي، فقد ارتدت فستانًا من اللون الجنزاري، في حين اختارت رودينا فستانًا ذهبيًا هادئًا، مع حجاب منير على وجهها، حيث أضاء ملامحها بشكل رائع. كانت بنات رودينا يرتدين فساتين بنفس لون فستانها، ليكنّ جميعًا مثل الأميرات، يسرن بخفة وأناقة في ذلك اليوم المميز.

أنهين الفتيات آخر اللمسات، وكل واحدة منهن كانت جاهزة للظهور. في تلك الأثناء، وصل وليد وكان في انتظار أن يُفتح له الباب ليتمكن من دخول القاعة. لكن، سارعَت مي ورودينا نحو الباب، وتوقّفن خلفه مانعاتٍ إياه من الدخول، ضاحكتين بمرح: “لا، مش فاتحين!”

قال وليد مازحًا وهو يقف أمام الباب: “بطلي رخامه يا رودينا، هقول لعامر.”

ضحكت رودينا ردًا عليه: “مش فاتحين.”

أما مي، فحاولت أن تكتم ضحكتها، وقالت: “طيب، ادفع كم، وافتحلّك أنا.”

فأجاب وليد، مستنكرًا: “حتى أنتي كمان؟”

وعندما سمعت سيلا، اقتربت منهم وقالت بلطف: “خليه يدخل بقى، كفاياكم كده، حرام عليكم.” ثم فتحت الباب ليدخل وليد.

أشارت سيلا إلى البنات وقالت: “يلا بينا، إحنا نستناهم بره. يلا، يلا منك ليها أنتي كمان.”

بينما كان وليد يدخل، ضحك وقال لها بغضب: “والله لسلّط علىكي عامر يا زفتة أنتي.”

خرجوا جميعًا، تاركين وليد مع همسة التي كانت لا تزال متوترة وخجولة، لكنه اقترب منها وأمسك يدها بحنان، محاولًا أن يطمئنها: “اهدي، أنا جنبك، مفيش داعي للتوتر ده كله.”

ثم نظر في عينيها وقال: “لا لا، مش هينفع كده، مش هينفع تخرجي كده كمان.”

همسة، ببساطة وبراءة، سألته: “ليه بس؟”

أجاب وليد بجدية: “أنا عاوز أخبّيك عن عيون الناس كلها.”

ابتسمت همسة بخجل، ولم ترد عليه، فاستمر هو في حديثه، واقترب منها أكثر، همس في أذنها بكلمات عاشقة جعلت وجهها يحمر خجلًا. حاولت أن تبتعد عنه، وقالت بسرعة: “أأ، بينادوا عليك بره.”

دفعته بلطف ليخرج، لكنه ظل يحدق فيها بتوهان، وفي عينيه كان هناك لمعة خاصة، وقال بمرح: “أحم، أنا شكلي بنطرد كده ولا إيه؟ دا أنا حتى النهاردة هتتكتبي باسمي، واسمك هيرتبط بيا لأخر العمر، ولا إيه؟”

تحدث وهو متجه نحو الباب، لكنه توقف فجأة، وأمسك بالباب بيده، ثم دخل برأسه مجددًا ليغمز لها قائلاً: “طيب، مفيش حاجة علينا.”

همسة، بخجل، قالت: “لا، وامشي بقا يلا.”

لكن وليد، ضاحكًا، أخرج رأسه مرة أخرى وقال: “طيب، تصبيره صغيرة قد كده، انتي مراتي والله.”

تحركت همسة لتغلق الباب، وقالت بصوت خافت: “هس، عيب كده.” ثم أغلقته وأخذت خطوة للأمام، لكن ما إن تقدمت، حتى فُتح الباب مرة أخرى، لتتفاجأ به أمامها، ممسكًا بيدها بقوة، وعينيه تتأملان عينيها العسليتين.

سألت، متلعثمة: “أ، ايه في ايه؟ مالك جيت تاني؟ ليه الناس بره؟”

لكن لم ينتبه وليد لما قالته، فقد كانت شفتاها تتكلمان بما لا يستطيع مقاومته، فاقتنص فرصة حديثها واختطف شفتاها في قبلة طويلة لم يتركها إلا ليأخذ أنفاسهما. ثم، وهمس بتحذير: “بلاش الروج ده تاني، مطمنش، ممكن أعمل إيه بره؟”

ابتسم، وأغلق الباب وراءه.

همسة هرولت بسرعة لتغلقه، وقلبها يدق بسرعة كطبول الحرب، بينما كانت تمسك طرف شفتها بأصابعها، هامسة في نفسها: “مجنون! أنا هتجوز مجنون.”

لكن فجأة، بدأ الخبط على الباب، وظهر والدها، الذي أخذ يدها برفق، ثم تبعته جميع الفتيات، ليصعدوا بها إلى السلالم.

وعندما وصلوا إلى الأسفل، قام والدها بتسليمها إلى عريسها الذي أمسك بها برفق، وهمس في أذنها قائلاً: “شطورة، سمعتِ الكلام.”

ضحكت همسة وقالت له، بخجل: “مجنون.”

رد وليد بتلقائية: “بيكي.”

جلس الجميع في المكان المخصص لهم، وسط أجواء من البهجة والفرح التي أضفها الأهل والأصدقاء بمباركتهم للعروسين. كانت سيلا تقف بعيدًا عن الجمع، محاولًة أن تخفي تعبها، تمسك معدتها بين الحين والآخر، رغم ابتسامتها التي كانت تظهر بين الفينة والأخرى.

لكن لم يكن عاصم بعيدًا عن ملاحظتها. وصل إلى القاعة للتو، وكان يضع هاتفه في جيبه بعد إنهاء مكالمة كانت قد قلبت جميع الموازين. زفر بضيق، فقد شعر أن المكالمة لم تكن مطمئنة أبدًا. نظر إلى سيلا بتأمل، فوجدها منزوًية في أحد الأركان، وقد تجنبته هي بعناية. كان عينيه تتابعان حركاتها بتوجس، لا يريد أن تفلت من نظره، فذهب إلى ابن عمه ليبارك له، ولكنه كان مشغولًا بالتركيز على سيلا.

أما مي، فقد كانت تبحث عنها بين الحضور حتى وجدتها، فذهبت إليها مسرعة: “مالك واقفة بعيد ليه كده؟ تعالي اقفي وسطنا شوية، ماما وهيثم بيسألوا عليك، تعالي سلمي عليهم.”

استجابت سيلا لها، وسارت معها نحو العائلة، حيث وقفت وسلمت على والدتها التي احتضنتها بحب وابتسامة، ثم توجهت لتحيي هيثم. كان هيثم قد أمسكت يده بكف يدها، ولم يتركها بسهولة. كانت عيناه شاردتين بها منذ أن وقع نظره عليها لأول مرة.

قال لها بابتسامة هادئة: “إزايك يا سيلا؟ عاملة إيه؟”

تحدثت سيلا بابتسامة خفيفة، حاولت أن تبدو طبيعية، وقالت: “الحمد لله، أنت أخبارك إيه؟”.

ثم تعالت أصوات الموسيقى، وبدأ منسق الحفل في إعلان بداية أول رقصة سلو، داعيًا جميع الأزواج للتقدم. بدأت الرقصة الأولى، وامتزجت الأضواء بالأنغام، لحين وصول المأذون.

اقترب هيثم من سيلا، وقال: “تسمحيلي بالرقصة دي؟”. كانت سيلا على وشك الرفض، لكن هيثم لم يمنحها الفرصة، فانتزع يدها من بين الحضور وسحبها إلى الاستيدج، ووضع يدها على كتفه، بينما أمسك خصرها بكلتا يديه. ثم بدأ يتحدث، في انغماس تام في اللحظة، قائلاً: “أنا مبسوط أوي يا سيلا النهارده، عارفة ليه؟”.

نظرت سيلا إليه بدهشة، مستفسرة عن سبب سعادته. فأجاب هيثم، وهو يغرق في أفكاره: “حياتي متوقفة من غيرك، عارفة كده؟”.

ابتسمت سيلا ابتسامة هادئة، وقالت بصوت هادئ: “ليه كده يا هيثم؟ قدامك فرص كتير قوي. حاول تمسكها، بص حواليك هتلاقي الحب الحقيقي قدام عيونك، وانت مش واخد بالك. صدقني، أنا بعتبرك زي أخويا  كان نفسي يبقى لي أخ”.

في الجهة الأخرى، كانت مي واقفة، تغرق في تفكيرها، تتمايل برفق مع الكابلز الذين كانوا يرقصون. من بينهم همسة ووليد، ورودينا وعامر. كانت تتمنى لهم الخير، خصوصًا بعد أن رأتهم مندمجين في رقصة سلو، حتى أوقفها شخصٌ ما، أحد أصدقاء العريس، الذي لاحظ وقوفها وحيدة.

مدَّ يده قائلاً: “ممكن يا آنسة بالرقصة دي؟”. ترددت مي للحظة، وكانت سترفض، ولكن نظرات الأخير، التي كانت تحمل شيئًا من التحذير، جعلتها توافق أخيرًا. نزلت يدها في يده، وانضمت إلى بقية الثنائيين على الحلبة.

ثم بدأت الحرب تنفجر في مكان آخر.

معتز، الذي كان يقف بعيدًا، كانت نظراته تتفجر من الغضب وهو يرى تلامس خصر مي مع ذلك الشخص. لو بقيت الأمور كما هي لدقيقة أخرى، لكان قد أحرقهم بنظراته. أطلق زفرة حارقة، ثم ترك القاعة بأكملها. خرج في عجلة، يدخن سيجارة تلو الأخرى، يلهث من الغضب، حتى لمح عاصم يجري بسرعة كبيرة. استغرب من حالته، فألقى بعقب السيجارة على الأرض، وركض وراءه ليلحقه.

“في إيه؟ حد جرى له حاجة؟” سأل معتز بلهفة، لكن لم يكن هناك رد.

يتبع

التاسع عشر _ جمر الجليد

كان عاصم واقفًا في زاوية المكان، يده تستقر في جيبه، وعيناه معلقتان بسيلا التي كانت تتمايل برفق، وكأنها تنسج مع اللحظة حكاية لا يراها غيرها. نظراته كانت تلاحق حركتها في صمت، يراقبها عن كثب دون أن ينبس بكلمة.

وفجأة، تغيرت ملامحها؛ ارتسم على وجهها شبح ألم مفاجئ، جعلها تتوقف عن الحركة، تمسك معدتها بتلقائية كمن يحاول مقاومة وجع باغتها دون سابق إنذار. لم يمضِ سوى لحظات حتى استدارت مبتعدة، تاركة الجميع وراءها، واندفعت راكضة دون أن تنبس بحرف.

مي، التي كانت تقف بجانبها، لاحظت التغيير في حالتها على الفور. ارتسمت علامات القلق على وجهها، وهرولت خلفها دون تردد، تنادي باسمها بخوف مكتوم. أما عاصم، فقد التقط المشهد بعين ثاقبة، لم يغفل عن أي تفصيل.

بخطوات ثابتة لكن مفعمة بالقلق، تبعهما عاصم، يراقب من بعيد دون أن يثير الانتباه. وحين رأى سيلا تختفي داخل الحمام، توقف على مسافة قصيرة، يتأكد من سلامتها بصمته المعتاد. ومع ذلك، لم تغب عن ملامحه تلك النظرة الحادة التي تكشف عن عقل مشغول وأسئلة لا تنتهي.

أشعل عاصم سيجارته بهدوء، بينما التقط أذناه همسات متبادلة بين سيلا ومي. نظراته لم تغفل عنهما، يراقب المشهد من بعيد دون أن يتدخل، لكنه كان يشعر بشيء غريب ينبض في الأجواء.

كانت سيلا منهمكة في تفتيش حقيبتها بارتباك واضح، وكأنها تبحث عن شيء ضاع منها. تحدثت إلى نفسها بصوت خافت، يحمل نفاد الصبر: “هي فين دي بس؟”. ملامحها كانت متوترة ومشوشة، مما دفع مي إلى سؤالها بقلق بالغ: “مالك يا سيلا؟ جريتي فجأة ليه؟ تعبانة؟”.

ترددت سيلا للحظات، وكأنها تقاوم البوح بحقيقة ما تشعر به. كانت ما تزال تبحث في حقيبتها بعصبية، قبل أن تجيب بتلعثم واضح: “مفيش حاجة، أنا… أنا… مصدعة شوية بس”.

ولكن عندما لم تجد ما تبحث عنه، توقف صوتها للحظة، قبل أن ينطلق مختنقًا: “أنا مخنوقة، هطلع آخد هوا بره. تيجي معايا؟”.

مي، التي بدا القلق جليًا على وجهها، لم تتردد في الإجابة. وافقت بسرعة قائلة: “يلا، بس تحكيلي مالك.”

تحركت الفتاتان نحو الخارج، بحثًا عن هواء يخفف وطأة التوتر. أما عاصم، فكان يراقبهما بصمت. عيناه لم تفارقا خطوات سيلا، لكن إحساسًا داخليًا بدأ يهمس له بأن هناك ما يدعو للقلق.

وفي لحظة خاطفة، وقبل أن تبتعدا كثيرًا، ظهرت سيارة مسرعة من العدم. توقفت بجانبهما فجأة، ونزل منها رجال ملثمون بحركة خاطفة ومربكة. كان كل شيء يحدث كأنه مشهد من كابوس: يد قاسية تختطف سيلا، وأخرى تمسك بمي التي حاولت المقاومة دون جدوى.

اختفت السيارت بسرعة البرق، تاركة خلفها صمتًا ثقيلًا وصدًى في عقل عاصم، الذي وقف متجمدًا للحظة قبل أن ينطلق في سباق مع الزمن.

في السيارة، جلس معتز بجوار عاصم، والقلق يتملكه كليًا، صوته مليء بالتوتر: “في إيه؟ أنطق!”

لم يلتفت عاصم إليه، عيناه كانت مثبتة على الطريق أمامه، ورد بصوت خافت لكنه حاسم: “سيلا ومي اتخطفوا.”

عبارة واحدة كانت كافية لتشعل نار الخوف في قلب معتز. عندما أدرك خطورة الموقف، أوقف عاصم السيارة فجأة، مما جعلها تصدر صريرًا حادًا على الطريق. نظر إلى أخيه بوجه متجهم، وقال بلهجة لا تقبل الجدال: “انزل هنا ماينفعش تكون معايا المهمة خطر مفيش وقت. كل ثانية بتعدي خطر عليهم أنزل.”

لكن معتز، وقد اشتعل الغضب في عينيه، صاح بعناد: “يلااااه! مفيش وقت مش هسيبك تروح لوحدك! جاي معاك! مش هسيبهم!”

عاد عاصم إلى مقعده، وأدار السيارة بعزم، زاد من سرعتها كأنما يسابق الزمن. في يده كان جهاز التتبع لا يفارق عينيه، بينما يضع سماعة الأذن ليستمع إلى أي إشارة قد تدله على وجهتهم.

وصلوا إلى منطقة نائية، حيث الصحراء تمتد بلا نهاية، وصمت قاتم يحيط بالمكان المهجور الذي دلهم عليه جهاز التتبع. توقف عاصم عند مدخل المبنى القديم، نظر إلى معتز بحزم، وقال بنبرة آمرة: “اسمعني، ما كانش المفروض تيجي معايا. خليك هنا. أنا هادخل، والقوات على وصول. سامعني؟”

لكن معتز، بروح متمردة لا تقبل الأوامر، رد بتلقائية وعزيمة: “مش هقدر أسيبها… أقصد مش هسيبك تدخل لوحدك. رجلي على رجلك.”

تفاقم توتر عاصم، قبض على أعصابه، وحذر مجددًا بصوت صارم: “مفيش وقت للهزار! دول مافيا، مش بيرحموا حد. دي أوامر! خليك هنا!”

لكن معتز لم يعر كلامه اهتمامًا. كانت مشاعره تغلي داخله، فكرة أن مي قد تكون في خطر كانت كفيلة بأن تجعله يتجاهل أي منطق. قفز من السيارة دون تردد، وتقدم نحو المبنى بخطوات ثابتة، مصممًا على البقاء إلى جانب أخيه مهما كان الثمن.

في تلك الأثناء، كانت سيلا ومي داخل المبنى، تحاولان المقاومة بكل ما تبقى لديهما من قوة. لكن يدًا قاسية باغتتهما بضربات على رأسيهما، أفقدتهما الوعي. سقطتا أرضًا بلا حراك، ثم قام الخاطفون بحملهما إلى غرفة مظلمة.

داخل الغرفة، كان الظلام كثيفًا، لا شيء سوى صوت الأنفاس المتقطعة. وثقوا أيديهما وأرجلهما بحبال خشنة،

تقدّم مجهول بخطوات راسخة، وصوت كعب حذائه يهز الأرض بقوة، فيرن في المكان كالرعد، يزرع الرعب في القلوب، وكأن الزمن قد تجمّد عند كل خطوة يخطوها، والجوّ من حوله يزداد ثقلاً وبرودًا نظر إليهم لحظة، ثم قذف دلوًا من الماء البارد عليهم، وقطع وثاق أفواههم بعنف. نهضوا فزعين، وجحظت أعينهم في خوف، قبل أن ينفجر قهقهة عالية ملأت المكان: “إنني في غاية السعادة اليوم، وأخيرًا تقابلنا وجه لوجه. من منكما تُدعى سيلا؟”

سيلا، التي تذكرت هذا الوجه من الصور التي كانت قد نشرتها لهم من قبل، ردّت بغضب: “أنت وغد، حقير وأقذر إنسان رأيته بحياتي!”

أما مي، فقد توترت عيونها بين سيلا والموقف، وسألت بحيرة وتوتر: “مين دا؟ أحنا فين؟”

كانت نظرتها مليئة بالكراهية، وتحاول فك نفسها من القيود، لكنها لم تستطع. فقال لها عندما شاهد قوتها: “أنتِ سيلا إذن.”

تحت نظراته الماكرة، ابتسم قائلاً: “هذه أسعد لحظات حياتي الآن، ليس واحدة فقط، بل اثنتين معًا، وأجمل اثنتين لا يشبههما شيء.” 

ثم أشار إلى مي وقال: “أنتِ ستسافرين معي، وجهك…!” نظر إليها بنظرة خبيثة لجسدها الممشوق والوجه المصري الأصيل: “سأستفيد منكِ كثيرا.”

ولكنه أشار إلى سيلا وقال: “أما أنتِ، فسأريحكِ تمامًا من هذه الحياة بعد قليل.”

وبعد لحظات من لذة الأنتصار، نادى على أحد رجاله قائلاً: “قم بتجهيز غرفة العمليات حالًا لتلك الصحفية.”

أجاب الرجل في طاعة: “أمرك سيدي.”

ثم نادى على آخر وقال له: “وخذ هذة إلى الغرفة الأخرى سترافقني.”

نُقلت مي إلى غرفة أخرى، وأعادوا تكميم فمها مرة أخرى، وتركوا صمت المكان يحيط بها. ثم أطبقوا الباب خلفهم بإحكام، ليغمرها الظلام ويغلق أمامها كل أمل في الهروب.

تم تجهيز غرفة العمليات، ثم أنهى طبيب التخدير مهمته سريعًا، حيث حقنها في الظهر ليبقيها مستيقظة، ثم غادر الغرفة، تاركًا إياها وحدها في عتمة المصير. 

بقلم شروق مصطفى

بينما انطلق أحد الرجال ليبلغ الرئيس بذلك، توجه نحوها في صمت ثقيل، خطواته تزداد ثقلاً وكأنها تحمل ثقل العالم. دنا منها ببطء، ومد يده ليُمسح على رأسها بأصابعه الباردة، كأنه يطفئ فيها أي أمل بالهرب. همس في أذنها بصوت منخفض، مفعم بالرعب، يقشعر له الأبدان: “لا وقت للنوم، جميلتي.” ثم تابع، كلماتُه تتناثر كالسكاكين: “أريدكِ مستيقظة لترَي هذا العرض المجاني لما نفعله بهؤلاء الفتيات اللاتي تدافعين عنهما. ولكن هذه المرة، سيكون هناك فرق. ستكونين أنتِ، وأنتِ فقط، مستيقظة. ما رأيكِ؟”

كانت عيناها مفتوحتين، لا تشعر بشيء، جسدها ثابت كالجسد الميت، وكأنها قد غادرت عالمها الواقع إلى عالم آخر. استسلمت تمامًا، فقد فقدت كل مقاومة وكل قوة كانت في جسدها. لكنها، فجأة، خطر ببالها عاصم. نظرت إلى معصمها حيث السوار الذي يذكرها بحمايته لها في تلك اللحظات. كأنها قد نسيته، أو لم تشعر به من قبل، ولم تعرف كيفية أزالته. همست باسمه لأول مرة، بصوت خافت يكاد لا يُسمع: “عاصم… أنت فين؟ تحميني منهم؟”

ثم ابتسمت ابتسامة نصفية، تلك الابتسامة التي تخلط بين الحزن والاعتراف بالواقع. وقالت في نفسها، عندما شعرت أنه لا مفر من الموت المحتوم: “بس أنا كده كده ميتة.”

وكأن القدر استمع لندائها ودفع الباب بقدميه بقوة، واندفع نحوها بسرعة كأنما يسابق الزمن، يهتف بصوت يفيض بالقلق: “سيلا! سيلا فوقي!” كان صوته ممتزجًا برجاء لا يعرف الانطفاء، محاولًا أن ينتشلها من غياهب الغياب: “أنتِ قوية، ما تستسلميش! فوقي!”

كلماته كانت كخيط رفيع يمتد بين الحياة والموت، ليعيد إليها وعيها الباهت. فتحت عينيها ببطء، نظرت إليه وكأنها رأت فيه كل ما احتاجته لتتشبث بالحياة من جديد. ألقت بنفسها في أحضانه، هامسة باسمه بصوت بالكاد يُسمع: “عاصم…”

ظلت تختبئ في حضنه، وكأن وجوده هو الأمان الوحيد في هذا العالم الموحش، متجاهلة الألم الذي يحيط بهما. لكنه، وفي خضم تلك اللحظة الحانية، شعر بشيء غريب يكتسح داخله، إحساس لم يعهده من قبل. ضمها أكثر إلى صدره يتأكد من شئ، جسده يرتجف نعم! كما لو أن لمستها أثارت داخله شعورًا عميقًا، شعورًا لم يتذوقه من قبل، وكأنه لأول مرة يعيش لحظة حقيقية.

نظر إلى سيلا، فوجدها قد ارتخت بين يديه، وكأنها انسحبت من العالم مرة أخرى. إلا أن صوت طلق ناري مفاجئ شق صمت الليل، أعاده إلى الواقع بقسوة. انتفض فزعًا، متذكرًا أنه ترك شقيقه وحيدًا في إحدى الغرف بعدما تأكد من سلامة واحدة منهم وذهب لإنقاذها.

اندفع بسرعة، مستخدمًا كاتم الصوت لتصفية من يعترض طريقه، مع باقي أفراد الشرطة الذين وصلوا للتو. وحين وصل إلى الغرفة، توقف الزمن فجأة، وعجزت قدماه عن التقدم خطوة أخرى. أمامه كان شقيقه غارقًا في دمائه، يتنفس بصعوبة، بينما كانت هي تبكي بجواره بانهيار. ظل واقفًا في مكانه، يحاول استجماع نفسه، غير قادر على استيعاب المشهد الذي قلب عالمه رأسًا على عقب.

يتبع 

الفصل العشرون_جمر الجليد

مرّت أكثر من سبع ساعات والجميع في حالة ترقب وقلق خارج غرفة العمليات، ينتظرون بفارغ الصبر أي خبر يطمئنهم عن حالته. كان وليد، عامر، ورودينا في حالة يُرثى لها، تملؤهم المخاوف والرهبة مما قد يحدث.

في الجانب الآخر، كانت سيلا قد استعادت وعيها داخل غرفة الإفاقة، محاطةً بعائلتها. والدها ووالدتها يجلسان بجانبها، ومي وهمسة ووالدتها وأخيها يحيطون بها بعدما وصلوا إلى المستشفى على عجل، بعدما علموا بما حدث خلال الحفلة التي انتهت بخبر اختفائهم. تم تأجيل كتب الكتاب، وأصبح الجميع في حالة توتر ينتظرون أي تطورات.

فتحت سيلا عينيها ببطء، تتفحص الوجوه من حولها بارتباك، وسألت بصوت ضعيف:

“أنا فين؟ إيه اللي حصل؟”

ابتسم الجميع براحة وحمدوا الله على سلامتها. احتضنتها والدتها وهي تردد بامتنان:

“حبيبتي، الحمد لله، قومتي بالسلامة. ألف حمد وشكر ليك يا رب!”

تحدث والدها بابتسامة مرحة محاولًا التخفيف من وطأة الموقف:

“واضح إنك كنتِ عاوزة تشوفي غلاوتك عندنا!”

اقترب منها وقبّل جبينها بحب وقال:

“كده تقلقينا عليكي يا حبيبتي؟”

بقلم شروق مصطفى

وأضافت همسة بحب:

“ألف سلامة عليكِ يا حبيبتي.”

نظرت سيلا إليهم بخجل وابتسمت:

“الله يسلمكم. أنا آسفة يا همسة… بوظتلك يومك. آسفة يا بابا…”

تدخلت والدتها بسرعة، واحتضنتها بحنان:

“ما تقوليش كده! أهم حاجة إنك وسطنا.”

وأضاف والدها بصوت دافئ:

“متأسفيش تاني. أنتِ مالكيش ذنب. يوم بيتعوض، لكن وجودك بيننا لا يمكن تعويضه لو لقدر الله حصل حاجة.”

هتفت سيلا بحب وهي تنظر إليهم:

“أنا بحبكم أوي!”

استمتعت بدفء أحضانهم، ثم التفتت نحو أختها، وقالت بابتسامة:

“قربي يا همسة، مش عاوزة تحضنيني؟”

ابتسمت همسة ابتسامة خافتة، تخفي وراءها حزنًا مكبوتًا، وانضمت إلى العناق.

لكن صوت نحيب كسر سكون اللحظة. التفتت سيلا بفزع لتجد مي تجلس على الأريكة، تبكي بحرقة، ووالدتها تحاول تهدئتها. قامت سيلا فجأة، متذكرة ما حدث، وحاولت نزع الكانولا من يدها رغم محاولات الجميع منعها. هرعت نحو مي، وجلست أمامها، تمسك يديها بقلق:

“مي، مالك؟ إيه اللي حصل؟ حد أذاكي؟ اتكلمي!”

ردّت مي بين شهقات بكائها، وصوتها متهدج:

“معتز يا سيلا… بعد ما أنقذني… ضربوا برصاصة غدر في قلبه… وهو مش بينطق. أنا خايفة أوي… أوي. في العمليات بقاله أكتر من ست ساعات ومحدش عارف إيه اللي بيحصل جوه.”

تذكرت وقت أقتحامه لغرفتها   مشاعر متناقضة أين ذهبت قسوته وحل محلها لهفته خوفه في عيناه هاتفا: 

“أنتِ بخير؟ حذ أذاكي ؟ حد قرب منك؟ أتكلمي!…”

لكنها هزت رأسها، نافية بصمت مخنوق بالبكاء. ضمها إلى صدره بقوة، وكأنه يريد أن يخبئها من قسوة العالم، وهمس في أذنها بصوت يفيض طمأنينة:

“هشش، خلاص… أنا هنا. مش هسيبك تاني أبدًا. اهدي… أنا جنبك.”

طبع قبلة مطمئنة على جبينها المرتجف، لكن اللحظة لم تدم طويلًا؛ إذ انفتح الباب بعنف، واقتحم المكان شخص غريب بابتسامة ساخرة وعينين تحملان مزيجًا من السخرية والشر. صفق الرجل ببطء، وقال بنبرة تنضح تهكما: “ما أجمل هذا الثنائي العاطفي لكن… ألم تعلم يا هذا أن من يدخل هنا لا يخرج سالما ؟”

وقف معتز بسرعة، واقفا أمامها كالسد المنيع، يحجبها عن الأنظار، ثم أجاب بصوت ثابت يحمل نبرة تهديد واضحة “وأنت، ألم تعلم أن من يقترب من أي شيء يخصني لا يخرج سالما ؟”

تجمدت مي خلف ظهره، مصدومة مما تفوه به. “يخصه ؟” تساءلت في نفسها، لكن الخوف حال دون أن تنطق بكلمة، لتتشبث به لا إراديا، باحثة عن الأمان خلفه.

قهقه الرجل بصوت عال، وقال بسخرية زادت الموقف توترا “أحب هذه الروح كثيرا… لكن للأسف لن تفيدك هنا. وهذه الفتاة…” وأشار إليها بنظرات مليئة بالتهديد “تخصني أنا.”

كل هذا حدث بثوان، رفع سلااحه وأطلق رصاصة سقط معتز على أرضًا، يصارع الموت، بينما شهقت مي بفزع، وسقطت بجواره ترتجف من هول المشهد، وقد أدركت أنها باتت وحيدة في مواجهة هذا المجهول.

كاد ان يصوب رصاصه اخري بأتجاهها باغته برصاصه بمنتصف رأسه وقع جثة فورا.

لم يكن سوى قناص يقف متربصا، ثم اقتحم المكان بحذر. لكن ما إن دخل حتى تجمد في مكانه، مصعوقا بما رآه أخيه، بين الحياة والموت، غارقًا في دمائه.

معتز الذي بالكاد يستطيع التنفس، حاول أن ينطق بكلمات، لكن صوته خرج متقطعًا، ينهش قلب مي بألمه. كان يضع يده على جرح ينزف من صدره وعيناه لا تفارق وجهها

“أ… آسف… س- ساميحيني يا مي… أنا…ح – حبيتك… بس… بس ك كنت

بخوفك… علشان…. أنساكي… بس… بس مقدرتش… أنا … أنا بب… بحبك….

قطعت مي كلماته بوضع يدها على شفتيه، محاولةً منعه من إكمال الحديث، والدموع تغرق وجهها ” ارتاح… ما تتعبش نفسك… أرجوك.”

لكن معتز أصر، ونظر إليها بتوسل: “لا… س – سيبيني… أتكلم… وأنت تكوني آخر…. حد أشوفه… ق – قبل ما أموت.”

لم يتمكن من إكمال جملته صوت أنفاسه انقطع، ورأسه سقط بلا حراك.

صرخت مي بنحيب متواصل، وكأنها تحاول إعادته من الموت “هديك فرصة تانية والله مسامحاك بس قوم… انهارت بجانبه غير قادرة على الحركة أو التفكير، بينما دموعها لا تتوقف. في تلك اللحظة، اخترقت أصوات إطلاق نlار متتالية سكون المكان. رفعت رأسها بفزع، لترى ظلالا تقترب من الباب.

لم تنتبه في البداية لوجود عاصم، لكنه كان هناك، واقفًا بلا حراك عند المدخل وعيناه مسمرة على أخيه المسجى أمامه، غارقًا في دمائه. للحظة، شلت كل حواسه، ووقف في صمت ثقيل، غير مصدق لما يراه. 

احتضنتها سيلا بقوة، محاولة طمأنتها:

“إن شاء الله ربنا ينجيه. اهدي… اهدي. تعالي نقوم نشوف وصلوا لإيه ونتطمن عليه.”

وقف محسن، وقال لهم:

“طيب، شوفوا وأنا أخلص الحسابات ونستناكم تحت.”

خرج الجميع من غرفة الاستعلام، حيث لا تزال الأخبار غامضة، والقلوب مثقلة بالقلق. في تلك اللحظة، لمحها عاصم تقف هناك، وعيناه اشتعلتا بالغضب المكبوت. كأن كل مشاعره انفجرت دفعة واحدة، فانقض عليها فجأة كذئب غاضب، وأمسكها من كتفيها يهزها بعنف، وصوته يهدر كالرعد:

“إنتِ السبب في كل المصايب اللي إحنا فيها! إنتِ اللي وقعتينا في ده كله! معرفتك دمار على كل اللي حواليكِ! عارفة؟ لو جراله حاجة، مش هيكفيني موتك! سامعة؟!”

كانت كلماته كالسياط، تمزق الأجواء بصوتٍ زلزل المكان بأكمله.

أكمل تهديده بنبرة أشد غضبًا:

“حذرتك قبل كده! أنا واللي يخصني خط أحمر، متقربيش مننا! أنتي وهي… كفاية لحد هنا!”

رأت رودينا المشهد من بعيد، وهرولت نحوهما بخطوات غاضبة. ما إن وصلت حتى صرخت بنظرة مملوءة بالكراهية:

“إنتو ليكو عين تيجوا هنا؟! ابعدوا عنا بقى! كفاية! كان عنده حق لما قرر يبعدني عنكم زمان… إنتو دمار! أي حد يقرب منكم بيتأذى. ابعدوا عنا، بلاش نشوف وشكم تاني!”

كانت مي تستمع للاتهامات الموجهة إليها وصديقتها، وكأنها تتلقى صفعات متتالية. عينها امتلأت بالدموع التي تأبى السقوط، وملامحها أضحت فارغة، تائهة بين نظرات عاصم ورودينا.

دفعها عاصم بقسوة للخلف، ثم استدار ليحتضن أخته بحنان، محاولًا تهدئتها. عاد الجميع إلى مقاعدهم، لكن الصمت كان ثقيلًا كأنه سيف معلق فوق رؤوسهم.

مي، التي ما زالت في حالة صدمة من الاتهامات الجارحة، حاولت لملمة شتات نفسها. أخذت نفسًا عميقًا، ثم احتضنت سيلا بحنان وهمست في أذنها بصوت مخنوق:

“يلا يا حبيبتي… ملناش مكان هنا. والدك مستنينا تحت، تعالي نمشي أحسن.”

وافقتها سيلا بصمت، وودعتها مي بعناق أخير، ثم انطلقت مع أخيها ووالدتها، تجر خلفها ثقل الحزن والخيبة.

سيلا بدورها لحقت بعائلتها، وركبت معهم السيارة في طريق العودة إلى المنزل، حيث خيم الصمت على الجميع، وكل منهم غارق في أفكاره وألمه.

… .

كانت همسة في حالة يُرثى لها؛ فرحتها التي طالما حلمت بها انقلبت إلى حزن عميق. بقيت صامتة، لا تتحدث مع أحد، وكأن الألم جمد كل مشاعرها.

بعد ساعات من الانتظار، خرج الطبيب، وعلامات الإرهاق بادية عليه. أسرع عاصم نحوه بلهفة، وسأله:

“طمنا يا دكتور، حالته إيه؟”

أجاب الطبيب بنبرة عملية اعتاد عليها:

“عملنا اللي نقدر عليه. الحالة حرجة، وتم نقله للعناية المركزة. لو مرت عليه 48 ساعة وحالته استقرت، يبقى عدى مرحلة الخطر. الرصاصة كانت قريبة جدًا من القلب، ولو تحركت ولو بمقدار بسيط، ماكناش هنلحقه. ادعوله يعدي اليومين دول على خير.”

أنهى الطبيب حديثه وغادر، تاركًا الجميع في حالة من التوتر والقلق.

عامر اقترب من عاصم وحاول طمأنته:

“إن شاء الله يقوم بالسلامة. معتز قوي وهيعدي منها. أنا رايح أصلي، تيجي معايا؟”

أومأ عاصم برأسه دون أن ينطق، وذهب معه. لكن في الحقيقة، كل قواه قد خارت، ولم يعد قادرًا على الوقوف. سنده عامر ابن عمه، وأجلسه على أقرب مقعد، محاولًا تهدئته.

عاصم لم يعتبر معتز مجرد أخيه، بل كان بالنسبة له كابن قام بتربيته، كصديق دربه، بل كجزء من روحه. فكرة فقدانه كانت تعني له النهاية، وكأن حياته ستُسلب معه.

بعد فترة، لاحظ عامر أن حالته تزداد سوءًا، فطلب الطبيب. كشف الطبيب عليه، ثم قال بلهجة مطمئنة:

“ده إجهاد زائد. أنا أديته حقنة مهدئة، وهيفوق الصبح. لازم راحة.”

ترك عامر عاصم نائمًا وخرج ليجد رودينا ووليد بالخارج. وبعد جدال قصير، أصر عليهم بالعودة إلى المنزل، مشيرًا إلى حالتها:

“مفيش فايدة لقعدتكم هنا. معتز ممنوع من الزيارة، وعاصم هيفوق الصبح. وبعدين، انتي مش ينفع تقعدي بالمنظر ده.” وأشار إلى فستانها الذي أصبح غير مرتب من كثرة الجلوس والتوتر.

وافق وليد على إعادتها، وقال لعامر:

“أنا هوصلها، وهرجع على طول.”

أصر عامر:

“لا، متسبهاش لوحدها. تعالوا الصبح.”

انصاع الجميع لكلامه، وغادروا المستشفى، وكل منهم يحمل ثقلاً كبيرًا في قلبه.

مرت الساعات ببطء، وكأن عقارب الساعة كانت تتعمد تعذيبهم. أخيرًا، استقر وضع معتز بعد تجاوز مرحلة الخطر.

في تلك الأثناء، سافر كل من نرمين ومحسن بعدما تأكدوا أن الخطر قد زال تمامًا بقتل زعيم المافيا. اتفقوا مع وليد على العودة بعد أسبوعين، لإتمام كتب الكتاب والفرح في نفس اليوم، وودعوا الجميع قبل مغادرتهم.

أما في المنزل، فعاد الجميع لمحاولة استعادة حياتهم الطبيعية. لكن همسة كانت متجنبة اختها سيلا تمامًا، ولم تتحدث معها منذ يوم خطبتها. كان الصمت بينهما أشبه بجدار، يحجب كل شيء، حتى الحب الذي كان يجمعهما.

أفاق معتز أخيرًا وتم نقله إلى غرفة أخرى، حيث اجتمع الجميع حوله للاطمئنان عليه. كانت عيونه تبحث عنها، لكنه لم يجدها. لاحظ عاصم ذلك، فاقترب منه قائلاً بابتسامة مطمئنة:

“حمدلله على السلامة يا بطل! كده قلقتنا عليك.”

ثم انضمت إليه رودينا بحنان:

“حمدلله على سلامتك يا حبيبي.”

ابتسم معتز بهدوء وأجاب:

“الله يسلمكم كلكم.”

تدخل وليد بابتسامة دافئة:

“حبيبي، حمدلله على السلامة.”

نظر له معتز بأسف وقال معتذرًا:

“آسف يا وليد، بوظت لك أحلى يوم ليك.”

ضحك وليد وهز رأسه نافيًا:

“أنت مجنون ولا إيه؟ أهم حاجة إنك تقوم بالسلامة، معندناش أغلى منك. أنت بتشكك في كده؟”

ابتسم معتز وردّ مازحًا:

“وده العشم برده يا وليد.”

ثم استدار ناحية عاصم وقال بملل:

“بس أنا هطلع من هنا إمتى؟ مش بحب جو المستشفيات… بتخنقني.”

غمز له عاصم بابتسامة ماكرة:

“اهدى يا بطل، لسه شوية. ولا مستعجل على الـ…” ولم يكمل جملته، تاركًا معتز في حيرة.

رد معتز بعدم فهم:

“ها؟ بتقول إيه؟”

اقترب عاصم منه وهمس له ببعض الكلمات جعلت معتز يرد بنفس الكلمة، لكن بعناد:

“هااااه؟”

ضحك عاصم مقلدًا صوته بطريقة مضحكة:

“آه، قعد تفكر كده كتير! هروح أشوف الدكتور يكتبلك خروج إمتى.” ثم خرج والابتسامة تزين وجهه.

رودينا، التي كانت تتابع المشهد من بعيد، سألت بمزاح:

“أموت وأعرف بتتوشوشوا على إيه؟”

نظر لها معتز بعناد وابتسم:

“ملكِيش دعوة يا باردة، خليكي في جوزك وعيالك. هما فين بالمناسبة؟”

ردت رودينا بابتسامة:

“في الحضانة. لسه ميعاد خروجهم كمان نص ساعة.”

ضحك معتز بخفة:

“حبايب قلبي.”

في المنزل عادت سيلا مع همسة إلى البيت. شعرت سيلا أن همسة تتجنبها، لكنها لم ترغب في الضغط عليها. بعد قليل، قررت أن تدخل مرسمها. طرقت الباب بهدوء، ولما سمعت الإذن بالدخول، تقدمت قائلة:

“ممكن أتكلم معاكِ شوية؟”

كانت همسة تمسك الفرشاة، تضرب بها لوحتها بلا اكتراث. أجابت دون أن تلتفت:

“اتفضلي، أنا سامعاكِ.”

اقتربت منها سيلا وقالت بنبرة قلقة:

“إنتِ زعلانة مني في حاجة؟”

ردت همسة بهدوء زائف:

“وهزعل منك ليه؟ إنتِ عملتِ حاجة تزعل أصلاً؟”

حاولت سيلا تفسير ردها، وقالت:

“مش عارفة، بس حاسة إنك متضايقة مني من يوم الخطوبة. لو فيه حاجة قولي لي.”

ابتسمت همسة ابتسامة باهتة وقالت:

“لا، بيتهيألك. مش زعلانة ولا حاجة. أهم حاجة إننا اطمنا عليكِ.”

شعرت سيلا أن هناك شيئًا ما لا يُقال. اقتربت منها بحب واحتضنتها قائلة:

“طيب يا حبيبتي. خفت تكوني زعلانة مني. إن شاء الله نعوض اليوم ده بأحلى منه. هسيبك تكملي رسمتك.” ثم ابتسمت وخرجت.

جلست همسة وحدها، تنظر إلى اللوحة أمامها، وتخربش عليها بلا اهتمام. سرحت في أفكارها، ودموعها حبست نفسها في مقلتيها. همست لنفسها بصوت مختنق:

“أنا مين اللي يحس بيا؟ راحوا العمرة عشانك. ويوم خطوبتي باظ عشانك. وكل الحب بيروح عشانك. وأنا فين؟ حتى يوم خطوبتي اللي كان المفروض يبقى أسعد يوم في حياتي، محدش وساني ولا طيب بخاطري.”

تنهدت بعمق، ثم مسحت دموعها سريعًا وهي تلوم نفسها:

“عارفة إنه مش ذنبك… بس فرحتي للأسف اتكسرت.”

صباح اليوم التالي، أجرت سيلا مكالمة للطبيب المختص الذي يتابع حالتها، حيث أرادت البدء بالعلاج قبل عودتهم من السفر لتكون في حالة جيدة. طلب منها الطبيب أن تأتي إلى العيادة في اليوم التالي لإعطائها بعض النصائح وإجراء الفحوصات اللازمة قبل بدء العلاج.

بعد ذلك، أجرت مكالمة أخرى لصديقتها مي، وطلبت منها الحضور لأمر هام. وبعد ساعات، حضرت مي ودخلت إلى غرفة سيلا.

قالت مي بفضول: “سافروا خلاص؟”

ردت سيلا بنبرة هادئة: “أه، لسه موصلنهم الصبح أنا وهمسة.”

ابتسمت مي قائلة: “يرجعوا بسلامة إن شاء الله. وهمسة أخبارها إيه؟ ما شفتهاش وأنا داخلة.”

تنهدت سيلا تنهيدة طويلة وأجابت بحزن: “همسة واخدة جنب لوحدها من يوم خطوبتها وكتب كتابها اللي تأجل بسببي. هي ما قالتش حاجة، بس أنا حاسة إنها متجنبة ومش بتكلمني. والله غصب عني فرحتها ما اكتملتش بسببي. أنا عملت اللي أقدر عليه وضغطت على نفسي عشان اليوم ده، لكن القدر كان ليه رأي تاني.”

بدأت سيلا تبكي بحرقة على كل ما حدث بسببها. ثم تابعت بتنهيدة: “حتى معتز… أنا ما عرفش هو وصل إزاي، ولا عاصم، ولا أي حاجة. أنا استسلمت للموت وقتها، والله.”

احتضنتها مي بحنان قائلة: “موت إيه اللي بتتكلمي عنه ده؟! ده شغله، ومعتز نصيبه كده. ملكيش أي ذنب في حاجة. أما أختك العبيطة دي، أنا هروح لها وأعقلها. إيه الهبل ده؟ بدل ما تقف جنبك! إحنا كنا مخطوفين، مش بنلعب يعني! ده يوم، ويتعوض بيوم أحلى منه، لكن الإنسان لا يمكن يتعوض. سيبك منها.”

حاولت سيلا التخلص من عناق مي وهزت منكبيها قائلة: “أنا عايزة أقولك على حاجة، بس أوعديني الأول ما تقوليش لأي حد.”

يتبع

تكملة الرواية من هنااااااا

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *