رواية جمر الجليد( الجزء الاول)الفصل الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر بقلم شروق مصطفى حصريه
رواية جمر الجليد( الجزء الاول)الفصل الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر بقلم شروق مصطفى حصريه
جمر الجليد الفصل الحادي عشر
قاد سيارته بلا هدف، شاردًا في كلمات ابن عمه التي لم تفارقه. ذكريات الماضي عادت تطارده، صور متقطعة وصوت والدته يختلط بشخص آخر، والدماء تغطي المشهد. حياته تحطمت منذ ذلك اليوم. أصبحت الكراهية والعنف جزءًا من روحه، وبدأ يتلذذ بتعذيب من حوله، خاصة النساء. عيناه ازدادت ظلامًا، ونيران غضبه اشتعلت من جديد، لم تهدأ يومًا.
ضغط على كفه بقوة حتى ابيضت عروقه، وتمتم بعصبية:
“إزاي عاوزني أعيش من جديد؟ وكأن اللي حصل محصلش؟ أنا من جوا ميت. النار دي مش هتطفي أبدًا. أنا اتق.تلت خلاص، والميت عمره ما بيصحى. لازم أكسرها عشان متجيش في بالي تاني. حظها الأسود إنها جات في طريقي، ولازم أنهي وجودها عشان أخلص من التفكير فيها!”
ابتسم ابتسامة شيطانية، وفي غمرة أفكاره وجد نفسه متوقفًا بسيارته أسفل منزلها. نزل بعنف وأغلق الباب بقوة، وكانت هيئته مخيفة للغاية. عيناه توحي كأنه صياد يترصد لفريسته فجأة، لمحها امامه.
كانت قد نزلت من المواصلات، وعندما رأته تجمدت مكانها. كانت نظراته مريبة ومليئة بالشر، ما أثار رعبها على الفور. لم تتحدث ولم تحاول تفسير الموقف، بل اندفعت مسرعة ركضًا نحو منزلها دون أن تنظر خلفها.
دخلت شقتها بسرعة، وأغلقت الباب بإحكام وهي تحاول تهدئة أنفاسها المتسارعة. هرعت إلى النافذة لتتحقق من وجوده. رأته واقفًا بجوار سيارته، يضرب كفه على سقفها مرارًا وكأنه يخطط لشيء ما.
رفع رأسه فجأة، ونظر مباشرة نحو نافذتها بابتسامة خبيثة، كأنه يعلم تمامًا أنها تراقبه. شعرت بارتجافة في جسدها، وتراجعت عن النافذة وهي تمسك قلبها بيدها.
ركب سيارته وانطلق مبتعدًا، لكنها لم تستطع التخلص من شعورها بالخوف. همست لنفسها بصوت مرتجف:
“إيه اللي جابه هنا؟ وعاوز مني إيه؟ أنا نقصاك إنت كمان؟ يا ترى جاي ليه؟”
ظلت واقفة في مكانها، ترتجف بين قوتها الظاهرة وهشاشتها الداخلية، تحاول استيعاب ما حدث وما ينتظرها لاحقًا.
ـــــــــــــــــــــ
رن هاتفها بإشعار على تطبيق الواتساب. تناولته بفضول، وما إن فتحته حتى ظهرت أمامها رسالة منه. كانت صورته تظهر بجانب النص:
“صباح الورد والفل على أجمل وردة شوفتها في حياتي. لكن أنا زعلان منك.”
توقفت للحظة وابتسمت بغير وعي. فكرت:
“أكيد زعلان عشان مرحتش قابِلته.”
لكنها لم ترد. أغلقت الهاتف بهدوء ووضعته جانبًا دون أن تعطيه أي اهتمام. عادت إلى لوحاتها الغارقة في الألوان والتفاصيل، منشغلة بإكمال عملها استعدادًا للمسابقة التي لم يتبقَّ عليها سوى أيام قليلة.
بين الحين والآخر، تردد صوت إشعارات أخرى، لكن هذه المرة وضعت الهاتف على الوضع الصامت لتتجنب أي تشويش على تركيزها.
سرحت للحظة وهي تحمل الفرشاة بين يديها، وعادت كلمات مي ترن في أذنها:
“هو فاكر إنه لما وصلنا بالعربية هنتقابل عادي ونتكلم؟!”
ابتسمت بخفة وأردفت بينها وبين نفسها:
“ده طيب أوي.”
تنهدت بعمق كأنها تحاول طرد تلك الأفكار من ذهنها، ثم أعادت تركيزها إلى لوحتها.
داخل غرفة مظلمة، باردة رن هاتف وظهر صوت رجل بنبرة حادة تحمل غضبًا مكبوتًا:
“لقد حذرتك من قبل! إذا ظهرت صوري مرة أخرى، سأمحي وجودك عن وجه الأرض. ألم تفهم بعد؟”
رد الآخر بخضوع واضح:
“أعتذر، سيدي. سأجد هذه الصحفية وأنهي حياتها للأبد.”
جاءه الرد بخبث وابتسامة متوعدة:
“لا… لا أريدك أن تنهي حياتها. أريدها حية. سنلعب معها قليلاً… لتتعلم ما يعنيه اللعب مع الكبار. هل تفهمني؟”
أجاب الرجل الثاني بطاعة:
“أمرك، سيدي. سأرسل رجالي للبحث عنها وأحضرها لك.”
صمت للحظة ثم أضاف الرجل الأول بنبرة باردة مشوبة بالغضب:
“وأين باقي الفتيات؟ لماذا لم أستلمهن بعد؟”
تحدث الآخر بتوتر:
“سيدي، الشرطة تراقبنا منذ نشر الصور الأخيرة. لم أستطع التحرك بحرية. أرجوك اعذرني، لكني أعدك، سننهي كل شيء قريبًا. وسأتصل بك لتأكيد التنفيذ.”
صرخ الأول بغضب:
“كل هذا بسبب تلك الصحفية الغبية! أريدها هنا فوراً! راقب منزلها جيداً، وأرسلها لي دون أي تأخير. هل هذا واضح؟”
رد الثاني سريعًا:
نعم، نعم، سأراقب منزلها، وأرسلها لك فورا.
أنهى المكالمة بغضب واضح، تاركا الغرفة بصمت ثقيل يخفي خلفه عاصفة تنتظر، الأنفجار.
ـــــــــــــــــــــــ
اقتربت من النافذة مجددًا بعد أن أعادت قطعة الأنتيك لمكانها، وأخذت تنظر إلى الخارج محاولة تهدئة نفسها قليلاً. فجأة، هرولت نحو المطبخ، تبحث بسرعة عن شيء محدد بينما كانت عيناها تراقبان الخارج باستمرار خشية أن يكتشف أمرها. عندما لاحظت خروجه فجأة من مكتبه، وقفت كأنها تتناول كوب ماء، متظاهرة بالهدوء.
خرج هو سريعًا من المنزل متجهًا إلى الخارج، واطمأنت أنه غادر. عادت إلى المطبخ لتكمل بحثها المحموم عن أداة رفيعة يمكنها استخدامها لفتح الباب المغلق.
—
في مكان آخر، كان اللواء يتحدث عبر الهاتف:
“إيه الأخبار عندك؟”
رد عاصم بثقة:
“لسه بتحاول تهرب ومش مستوعبة الموقف، لكن متقلقش، يا فندم. كله تحت السيطرة.”
هتف اللواء بنبرة جدية:
“أنا معتمد عليك. ورجالتي شغالين على القضية، إحنا قربنا خلاص، هانت.”
رد عاصم:
“تمام يا فندم. ولو احتجت مساعدتي أنا جاهز في أي وقت.”
قاطعه اللواء بحزم:
“كفاية عليك المهمة اللي عندك. لو احتجتك، هبقى أقولك تنزل. سلام دلوقتي.”
ما إن أغلق عاصم المكالمة حتى ظهرت مكالمة أخرى من رقم مجهول. أجاب بحذر:
“أيوه، مين معايا؟”
جاءه صوت ودي:
“أنا والد سيلا، يا بني. طمّني عليها، هي كويسة وبأمان؟ كنت عاوز أكلمها لو ينفع.”
رد عاصم ببرود:
“اطمّن، هي كويسة وفي أمان. بس مش هينفع تكلمها دلوقتي، لدواعي أمنية. أنا اللي هتواصل معاك بعد كده.”
تحدث محسن بأسف:
“ماشي، يا بني. كنت قلقان عليها بس. هستنى اتصالك. مع السلامة.”
أنهى عاصم المكالمة، ثم توجه إلى صالة الألعاب ليخرج شحنات غضبه المتراكمة.
—
استغلت هي غيابه وواصلت بحثها في درج المطبخ حتى وجدت ما تبحث عنه: أداة صغيرة رفيعة لمعالجة الباب المغلق. لمع بريق عينيها بابتسامة خفية تدل على بداية نجاح مخططها. خبأت الأداة داخل ملابسها، وقررت انتهاز أول فرصة للهروب.
بعد فترة، جلست بجانب المدفأة لتستجمع أفكارها. عاد عاصم متعرقًا بعد تمرينه، واتجه مباشرة إلى غرفته في الطابق العلوي. تابعت تحركاته بنظراتها حتى اختفى.
وقفت بسرعة وتوجهت نحو الباب المغلق، وأخرجت الأداة التي خبأتها. بدأت تحاول فتحه بتحريك الأداة داخل القفل، لكنها لم تنجح. جففت العرق عن جبينها وقالت بصوت خافت:
“مش هيأس… هفضل أحاول.”
عادت لتجلس على الطاولة، شاردة الفكر، محاولة ابتكار خطة أخرى. بينما كانت غارقة في أفكارها، نزل عاصم بعد أن استحم، ودخل إلى المطبخ. التفت إليها بينما كان يحضر لنفسه كوبًا من عصير البرتقال، وقال بنبرة تحذير:
“ياريت تكوني فكرتي كويس وعقلتي، عشان لو قلبتي مش هتعجبك. أنا بحذرك، ومش هيهمني أي توصيات. هما عارفين أنا مين وبعمل إيه.”
تحدث عاصم بنبرة حادة:
“ومتقوليش إني محذرتكيش! انتي هنا بسبب غبائك واستهتارك، وده مش أول مرة تعمليها!”
نظرت إليه سيلا بثبات وأجابت بتحدٍ:
“انت بتهددني؟ أنا بعمل اللي بعمله بمزاجي، ومش خايفة منك أصلاً. ولو الزمن رجع بيا تاني، هعمل اللي عملته من غير تردد، سواء زمان أو دلوقتي. أنا مقتنعة باللي عملته. مش زيكم، سلبيين، تشوفوا الحقايق وتعملوا نفسكم مش شايفين، أو تتحركوا بعد فوات الأوان!”
اشتعل غضبه وهتف:
“انتي فاكرة نفسك مين؟ لما تعرضي اللي حواليكي للأذى؟! مش في زفت نيابة هي اللي بتحقق وقاضي هو اللي بيحكم؟ مين انتي بقى؟ مجرد صحفية مالهاش أي قيمة!”
قاطعت حديثه بانفعال واضح:
“أنا، واللي زيي، السبب إنكم تتحركوا أصلاً! لأنكم لوحدكم ما بتتحركوش. لازم نموت قدامكم عشان تفكروا تتحركوا. حتى لما حد بيتخطف، ما بتتحركوش غير لما يكون الوقت فات. يكونوا اتذبحوا، أو سافروا بعيد، وساعتها تتحركوا!
أنا عملت اللي عملته عشان حقوق الناس اللي ضاعت. لكن واضح إني بضيع وقتي معاك. مفيش فايدة!”
تركته غاضبة، وصعدت إلى غرفتها في الأعلى. أغلقت الباب خلفها، واستلقت على السرير لتستريح قليلاً، تفكر في خطتها القادمة للهروب. همست لنفسها:
“لا مفر… المرة الجاية لازم أنجح.”
—
في الأسفل، تمتم عاصم بيأس:
“فعلاً، مفيش فايدة من الكلام معاكي.”
توجه لاستقبال الخادمة التي وصلت لتوها من مصر، السيدة فاطمة، التي كانت تعمل لدى عائلته منذ أكثر من خمسة عشر عامًا. كانت بالنسبة لهم مثل الأم، خاصة بعد انتقالهم للعيش في منزل عمهم.
استقبله الحارس ليبلغه بوصولها، فابتسم عاصم وسارع لاستقبالها:
“نورتي ألمانيا يا ست الكل.”
ابتسمت السيدة فاطمة وهي ترد عليه:
“نورك يا ابني.”
أشار لها عاصم بابتسامة دافئة:
“يلا ارتاحي في أوضتك شوية، وبعدها حضري لنا أكلة حلوة من إيديك. وحشني أكلك جدًا.”
ابتسمت فاطمة وقالت:
“عنيا يا بني.”
ثم أضاف عاصم:
“عندي ضيفة هنا في الأوضة اللي فوق، اعملي حسابها في الأكل.”
توقفت فاطمة للحظة، ونظرت إليه بدهشة:
“مين دي؟ انت اتجوزت؟!”
تجمد عاصم في مكانه، وأصيب بالصدمة من سؤالها، ولم يعرف بماذا يجيب.
يتبع
جمر الجليد الفصل الثاني عشر
عاصم نظر إليها بصدمة، ثم انفجر ضاحكًا:
“أتجوز مين يا ست؟! أنت هتبليني ببلوة! لا طبعا، دي أمانة عندي هنا لحد ما أرجعها.”
فاطمة، مدهوشة ومش مصدقة:
“يا لهوي! انت خاطفها يا بني؟! ليه كده؟ دي مش أخلاقك، ولا مشيت في الحرام؟!”
عاصم ضحك بصوت عالي:
“حرام إيه بس؟! ولا خطف إيه؟! روحي ريحي، شكل السفر بقى مأثر على أخلاقك! يلا يلا.”
فاطمة نظرت إليه بعينين مشبعتين بالقلق، ثم قالت بلهجة قاسية:
“والله شكلك مش مريحني، لما أطلع أشوفها.”
رد عاصم بسرعة:
“سيبيها لحد وقت الغدا، وشوفيها بعدين.”
فاطمة هزت رأسها:
“ماشي يا عاصم بيه.”
ثم ذهبت إلى غرفتها بجانب المطبخ لترتاح قليلاً.
—
بعد عدة ساعات، استيقظت سيلا على صوت خبط على باب غرفتها. قامت بسرعة وتقدمت للباب.
كانت فاطمة تقف أمام الباب:
“الغدا جاهز يا هانم، وعاصم بيه منتظرك تحت.”
تركته فاطمة وغادرت.
اتجهت سيلا للحمام لغسل وجهها، ثم نزلت لأنها لم تأكل منذ الصباح. عندما وصلت إلى الطاولة، وجدته جالسًا، فأشار لها بيده دون أن ينظر إليها، كي تجلس.
جلست بجانبه، وبدأت في تناول الطعام بسرعة، وكأنها لم تشعر بشيء حولها. لكن مع مرور الوقت، انتبهت أنه كان يراقبها، فشعرت بالحرج وقالت:
“أحم، شبعت، الحمد لله.”
ابتسم عاصم لها نصف ابتسامة، ثم قال:
“كملي طبقك كله، وقومي بعدين، أنا الحمد لله.”
تركها على راحتها، وذهب إلى مكتبه.
ردت سيلا في نفسها:
“أحسن برده عشان آخذ راحتي… حتى اللقمة بصص لي.”
بعد أن امتلأت معدتها، جاءت فاطمة لتلم الأطباق.
قالت سيلا مبتسمة:
“تسلم إيدك، الأكل جميل. إنتِ اسمك إيه?”
أجابتها فاطمة:
“اسمي فاطمة.”
سيلا ابتسمت وقالت:
“عاشت الأسامي. بس قوليلي، الباب اللي في المطبخ ده بيودي على فين؟”
أجابتها فاطمة:
“ده بيودي على الجنينه اللي بره.”
قالت سيلا بتململ:
“آه، طيب. أنا زهقانة عايزة أطلع الجنينه بره. ممكن؟”
فاطمة قالت بجدية:
“هبلغ عاصم بيه الأول، لو ينفع، هخرجك.”
سيلا ردت بملل:
“يبقى مش هطلع، أنا بقالى يومين هنا محبوسة أصلاً وزهقت بجد.”
فاطمة قالت مطمئنة:
“طالما أنا اللي قولتله، مش هيقولي حاجة. استني بس، هخلص المطبخ وروح استأذنه.”
سيلا ابتسمت بانتصار “لم تاخد بالها.”
انتظرت حتى خرجت فاطمة من المطبخ، ثم دخلت هي مرة أخرى وأخذت شيئًا كانت قد خبأته سابقًا، ثم جلست تنتظر فاطمة.
عندما دخلت فاطمة، بدت حزينة، وقالت:
“موافقش صح.”
ردت سيلا:
“معلش يا بنتي، بكره هكلمه تاني، يمكن يرضى. بس إنتي عملتي إيه مخليه مشدد الحراسة عليكي كده؟ ومش عاوزك تخرجي حتى!”
سيلا ردت بغضب:
“هو أصلاً خاطفني، بيقول إنه بيحميني، وأنا أقدر أحمي نفسي كويس ومستغنية عن خدماته دي!”
فاطمة هزت رأسها وقالت بحكمة:
“لا، يبقى موضوعك كبير طالما بيحميكي. هو أكفأ ضابط مخابرات، مش بيمسك مهمة إلا لو كانت كبيرة قوي.”
أضافت فاطمة بنبرة جادة:
“عنده حق إنه مشدد الحراسة عليكي، اسمعي كلامه يا بنتي، عشان مش عاوزين مشاكل معاه. أنا مربياه وفاهماه. ما يغركيش إنه ساكت كتير كده. لما يطلع غضبه، محدش يقدر يتحكم فيه. خلي بالك.”
ثم قالت بلطف:
“ولو كنتي زهقتي، استني بكرة، يمكن أخرجك شويه.”
سيلا بتفكير:
“هو فين طيب؟ عاوزاه!”
: _ في المكتب “استني، دخلي له القهوة دي معاكِ.”
خبطت على الباب، وسمعت صوته يقول:
“ادخلي يا فاطمة.”
دخلت سيلا الغرفة فوجدت عاصم مشغولًا بالأوراق أمامه، لم يلاحظ وجودها. اقتربت منه بصمت، وضعت القهوة على المكتب، لكن فور أن نظرت إلى شاشة الحاسوب، فوجئت بما رأته، فوقف جسدها فجأة من الصدمة.
كانت شاشة الحاسوب تعرض مراقبة لكل تحركاتها في المنزل. تفاجأت، ووقف قلبها في مكانه. انتبه لها عاصم، أغلق الحاسوب بسرعة، ونظر إليها باستغراب:
“خير، إيه اللي جابك هنا؟”
جلست سيلا أمامه، محاولة الهدوء:
“ممكن أقعد؟”
عاصم رفع حاجبه بتعجب:
“أمال إنتِ عملتي إيه دلوقتي؟”
سيلا كانت قد جاءت لتحدثه بشأن أمر ما، لكنها قررت تغيير خطتها عندما اكتشفت أنه يراقب تحركاتها. شعرت أن لا مفر من الهروب، لكن قررت إعلان هدنة مؤقتة معه.
قالت سيلا بنبرة هادئة:
“يعني، كنت جايه أقولك إني فكرت بكلامك، يعني وأنا شكلي فعلاً اتسرعت. بس أنا هقعد هنا لامتى؟ مش متعودة على حبسي ده، ومش عارفة أنا فين أصلاً.”
عاصم أومأ برأسه:
“كويس إنك فكرتِ، هتقعدي لأمتى لحد ما نمسك أفراد العصابة. إحنا بنراقبهم، وقريب هيتقبض عليهم أول ما يطلعوا من جحورهم.”
سيلا بتفاؤل:
“بجد؟ طيب كويس، بس ما قلتليش إحنا فين؟”
عاصم بضجر:
“في ألمانيا.”
سيلا صُدمت وقالت:
“هااااه؟ بجد؟ طيب إزاي وجيت هنا إزاي؟”
عاصم:
“مش عاوزة رغي كتير. عندي شغل، اتفضلي قومي.”
سيلا بحذر:
“ممكن استعير كتاب من عندك أقرأه بدل الزهق ده؟”
عاصم نظر إليها قليلاً، ثم قال:
“ماشي، خدي. المكتب مليان كتب.”
سيلا بابتسامة صفراء:
“ميرسي.”
ثم قامت تبحث في المكتب عن كتاب، رغم أنها لم تكن تحب القراءة، لكنها وجدت أنها لا تملك خيارًا آخر لتمضية الوقت.
أمسكت بكتاب لفت نظرها بعنوان “موجوع قلبي”، وهمست لنفسها:
“وده إيه اللي وجع قلبه ده كمان؟ عشان يجيب “موجوع قلبي”، هي ناقصة وجع قلب! عدينا المرحلة دي من زمان.”
عاصم، الذي كان يراقبها، رد مازحًا:
“ها، خلصتي كلام مع نفسك ولا لسه؟”
سيلا ابتسمت ابتسامة باردة وقالت:
“لا، أبدًا. لاقيت كتاب هنا، هقراه وأرجعه تاني.”
عاصم:
“ماشي، خدي الباب وانتي طالعة.”
سيلا:
“حاضر.”
خرجت بالكتاب وذهبت لتقرأه.
دخلت غرفتها، غيرت ملابسها، وجلست على السرير. ظلت تقرأ حتى غلبها النوم، والكتاب داخل حضنها.
بعد أن انتهى من عمله، توجه عاصم إلى غرفته ليستريح. لكنه سمعها تتهمس، ثم طرق الباب، ولم يأتِ الرد. ففتح الباب ودخل ليجدها نائمة، والكتاب فوقها. كانت تتحدث وتبكي أثناء نومها:
“ليه؟ ليه كده؟”
وقف عاصم مترددًا، مستغربًا من حالتها، لم يعرف إن كان يوقظها أم يتركها نائمة. قرر في النهاية تركها وشأنه.
أخذ الكتاب من يديها ووضعه جانبها، ثم غطاها بالبطانية.
رجع إلى غرفته لينام بعمق.
أغلقت همسة عينيها بعد أن قرأت الرسائل التي أرسلها وليد، وعلى وجهها ابتسامة خفيفة قبل أن تسقط في نوم عميق من شدة التعب. في الجهة الأخرى، كان وليد في حالة من الإحباط بعد أن لم يتلقَ أي رد منها، متسائلًا في نفسه عن السبب وراء تجاهلها لرسالته.
أما معتز، فقد ركب سيارته بعد أن أجرى اتصالًا سريعًا، وقال للمُجيب في الطرف الآخر، “انتو فين؟”، وبعدما تلقى الإجابة، أضاف “طيب تمام، أنا جايلكم. سلام.” وقاد سيارته مبتعدًا عن المكان.
دخل معتز الملهى الليلي، وحاول أن يبحث عن حمزة وحسام وسط الأضواء الخافتة والموسيقى الصاخبة. لم يمر وقت طويل حتى عثر عليهم، وكانوا جالسين معًا على إحدى الطاولات.
حمزة: “إيه يا عم، عاش من شافك!” حسام: “لك وحشة، أبرنس! فينك مش بتظهر ليه؟” معتز: “أكون فين يعني؟ في الشغل وقرفه، سيبك مني. أنتم عاملين إيه؟ وأخبار الليلة إيه؟”
حمزة: “إحنا زي الفل، والليلة بدأت تحلو اهيه.”
وغمز بعينيه باتجاه فتاة جالسة مواجهتهم، ملابسها تكشف أكثر مما تستر، وكأنها جزء من التسلية في المكان.
حسام: “بس إيه، رماك علينا المرة دي؟ مش بتيجي إلا وإنت وغمزله.”
معتز: “عندك، ولا أروح أشوف في مكان تاني؟”
حسام ضحك ضحكة عالية: “عيب تقول الكلام ده، وأنا صاحب المكان، كده بتشتمني! طلبك عندي، بس مش عاوزين قلق.”
معتز: “عيب عليك.”
حمزة تدخل: “معتز، أنت مش بطلت الموضوع ده بقالك فترة، رجعت له ليه تاني؟”
معتز: “خليك في حالك.”
معتز نظر إلى حسام قائلاً: “إيه الكلام؟”
حسام قام قائلاً: “خمسة دقايق وجاي.” مرّ بضع دقائق، ثم عاد حسام وغمز لمعتز، قائلاً: “طلبك مستنيك فوق.”
معتز قام وصعد إلى الغرفة، مستعدًا لما ينتظره هناك.
… ..
ظلت مي جالسة في غرفتها، عينيها لا تفارق الجدار أمامها، مشاعر القلق تسيطر عليها. كلما تذكرت نظرته الغريبة، كلما شعرت برهبة أكبر. فكرت في نفسها مرارًا: “أكيد جاي هنا صدفة، مفيش غير كده.” لكنها لم تستطع التخلص من تلك النظرة التي لا تفارق ذهنها، كانت مرعبة لدرجة أنها بدأت تشك في كل شيء حولها.
“أنا و سيلا كنا عاوزين نسيئ سمعتهم و نكتب عنهم كلام غلط في شركتهم… الحمد لله، ملحقناش.” قالت لنفسها، محاولة أن تجد مبررًا لما حدث. “يا لهوي، ده كان موتني بشكله ده.”
استمر التفكير يتوالى في رأسها حتى غلبها النعاس، وغفت على سريرها، بينما كانت الصورة المرعبة التي تركها في ذهنها لا تزال عالقة، تفكر في ما إذا كانت ستلتقي به مرة أخرى، وكيف سيكون رد فعلها حينها.
ــــــــــــــــــــــــــ
دخل الغرفة وأغلق الباب خلفه بعنف، عينيه مليئة بالغضب والانفعال. كانت جالسة تنتظره، لكنها تراجعت إلى الوراء، بعدما رأته واقف أمامها يخلع حزامه ويلفه حول يده، ملامحه مشدودة وعينيه مليئة بالغضب، ثم بدأ في صوته القاسي وهو يردد كلمات مؤلمة عن الخيانة، و ضرباته على جسدها كانت عميقة في تأثيرها، أنتهى منها أرتدى ملابسه، ثم قام بأخراج دفتر الشيكات والقي أمامها، تاركا المكان وهو غارق في أفكاره المشتتة والضبابية.
بينما هو في طريقه إلى منزله، عينيه لا تبرح صورة وجهها الذي لا يزال في ذهنه. كان يحاول الهروب من ذكرياته بطرق مختلفة، لكنه لم يستطع. عندما وصل إلى غرفته، توجه إلى حقيبة الملاكمة ليخرج ما تبقى من غضبه على الحقيبة المعلقة، محاولاً أن يتخلص من تلك المشاعر التي تحاصره.
أخذ حمامًا باردًا على أمل أن يهدأ قلبه، ثم جلس في مكانه، يردد كلمات غير واضحة، وكأنها محاولة لتبرير نفسه. لكن في أعماقه كان يعلم أن ما فعله لن يكون قادرًا على تهدئة تلك النار المشتعلة داخله.
في صباح اليوم التالي، استفاقت سيلا وجلست على السرير لبعض الوقت قبل أن تنهض وتنزل إلى الأسفل. هناك، قابلت فاطمة التي كانت تحضر الفطور.
“صباح الخير”، قالت سيلا بابتسامة.
“صباح الخير يا حبيبتي”، ردت فاطمة بحنان، “بحضر الفطار ثواني ويكون جاهز.”
“لا، أنا محتاجة قهوة مش بفطر”، قالت سيلا وهي تقترب من المطبخ، “خليكي هعملها أنا.”
تحدثت فاطمة بنبرة الأم الحانية: “لا قهوة ايه، لازم تفطري الأول.”
ابتسمت سيلا ابتسامة هادئة وقالت: “عارفة، بتفكريني بماما كل يوم الصبح نفس الكلام ده لحد ما غلبت معايا.”
“عارفة، واحشتني أوي هي وبابا وهمسة…” قالت سيلا بتأثر، ثم صمتت فجأة عندما سمعت صوته خلفها.
عاصم، الذي كان يقف خلفها، قال: ” روحي جهزي الفطار يا دادا.”
“حاضر يا بني”، قالت فاطمة بسرعة، وتركتهما وذهبت لتكمل تحضير الفطور.
ثم نظر عاصم إلى سيلا وقال بنبرة حازمة: “تعالي يا سيلا، على مكتبي، عاوزك.”
لم تلتفت له فور سماعها صوته، لكنها مسحت بيدها بقايا دمعة هربت منها، محاولة إخفاء مشاعرها.
يتبع
الفصل الثالث والرابع عشرفصلين تفاعل
جمر الجليد
وقفت سيلا مكانها، متجمدة، دون أن تلتفت لصوت عاصم. مسحت دمعة تسللت رغماً عنها، دمعة شوق لأهلها. تبعته بخطوات هادئة نحو المكتب.
لاحظ عاصم ارتعاش عينيها، جلس خلف مكتبه وقال بصوت هادئ:
“تعالي، اقعدي.”
جلست أمامه صامتة، فقال مبتسماً:
“خلصتي الكتاب ولا لسه؟”
رفعت نظرها إليه بدهشة، وأجابت:
“لا، لسه. نمت قبل ما أخلصه، فاضلي آخر أربع فصول. غريب أوي، مكنتش متوقعة ألاقي النوع ده من الكتب عندك.”
ابتسم بسخرية خفيفة وقال:
“ليه يعني؟ مش بني آدم زيكم؟ عموماً، الجزء اللي كنتِ واقفة عنده ده مش تبعي أصلاً.”
نظرت إليه بفضول:
“أمال تبع مين؟”
أجاب وهو يعقد ذراعيه:
“ده تبع رودينا، أختي. كانت بتجيب معاها كتب لما كانت بتزور المكتب قبل ما تتجوز، وسبتهم هنا.”
سرحت سيلا للحظة عندما سمعت اسم صديقتها القديمة، وشعرت بضيق غريب. لكنها لم تُعلّق، فقط نهضت وقالت بهدوء:
“طيب، أنا هطلع بعد إذنك.”
وهي على وشك الخروج، استوقفها بصوته الواضح:
“مش عايزة تكلمي أهلك؟”
توقفت، التفتت إليه وأومأت بالإيجاب.
قال:
“طيب، تعالي اقعدي. أنا هكلم والدك.”
تناول الهاتف وأجرى اتصالاً. وما إن رد الطرف الآخر، أعطى الهاتف لسيلا. أخذته بسرعة، وعيناها تلمعان بالفرحة، وقالت بشوق:
“بابا!”
رد والدها بحنان:
“سيلا، حبيبتي! عاملة إيه يا قلب أبوك؟”
أجابت بصوت مخنوق من الشوق:
“أنا كويسة، بابا، بس وحشتوني أوي. أنا عايزة أرجع، مش قادرة أستحمل البُعد عنكم.”
حاول تهدئتها، رغم الألم في صوته:
“معلش يا حبيبتي، دي فترة وهتعدي. قريب ترجعي لنا.”
لكن صوت نرمين، والدتها، جاء سريعاً وهي تخطف الهاتف:
“سيلا! يا حبيبتي، إنتِ كويسة؟ صوتك ماله؟ حد ضايقك؟”
ابتسمت سيلا رغم اختناقها وقالت:
“لا يا ماما، أنا كويسة. محدش مضايقني، بس… وحشتوني أوي. فين همسة؟ عايزة أكلمها.”
راقبها عاصم بصمت، لم يغفل عنها للحظة.
جاء صوت همسة من الطرف الآخر مليئاً بالشوق:
“سيلا! البيت وحش من غيرك. تعالي بقى!”
نظرت سيلا لعاصم بتحدٍ وهي تقول:
“وحشتيني يا همسة. خلي بالك من نفسك، وقريب جداً هكون عندك.”
ردت همسة بصوت منخفض وكأنها تخشى أن يسمعها أحد:
“حاضر. بس قوليلي، عامل معاكي إيه اللي ما يتسماش اللي عندك؟”
همست سيلا وهي تكتم ابتسامة:
“هتوديني في داهية يا بت! هاتي بابا.”
عاد والدها إلى الهاتف وقال بلهجة جدية:
“سيلا، خلي بالك من نفسك. وأنا متفق مع عاصم إنه يخليكِ تكلمينا باستمرار.”
ردت بتوسل:
“بابا، أنا عايزة أمشي من هنا. زهقت، مش طايقة المكان.”
قال والدها بحزم:
“سيلا، بطّلي العناد. إنتِ مش صغيرة، لازم تسمعي كلامه. هو عارف مصلحتك. ولما ترجعي من السفر، هيبقى ليا كلام تاني معاكي.” ثم أضاف:
“هاتي عاصم.”
ناولته الهاتف. تحدث عاصم مع والدها باختصار، ثم قال:
“ما تقلقش، وأقرب وقت هخليها تكلمك تاني. مع السلامة.”
قالت بهدوء ممتن:
“شكراً ليك.”
أجاب بابتسامة صغيرة:
“العفو.”
فاطمة دخلت تخبرهم بأن الفطور جاهز. جلس عاصم على الطاولة وألقى نظرة على سيلا، التي كانت ما زالت واقفة. قال بصوته الحازم:
“اقعدي.”
ردت سيلا ببرود:
“مش هقدر أفطر دلوقتي. سبني على راحتي.”
قال بنبرة لا تقبل النقاش:
“سيلا، اقعدي.”
زفرت بتأفف وجلست في مكانها، ليضيف بصرامة:
“اتفضلي، كُلي.”
أمسكت السكين بعصبية، وبدأت تقطع الجبن بعنف، تصدر أصواتاً واضحة أثناء التقطيع. وضعت قطعة صغيرة أمامها وظلت تنظر إليها دون أن تتحرك.
ابتسم عاصم بسخرية وقال:
“شكلها حلو، صح؟ خلصينا بقا. مش باكل بنت أختي، وبعدين أنا شلت القهوة من مكانها. افطري زي الشاطرة.”
زفرت بضيق، لكنها بدأت تأكل ببطء وهي تنظر إليه نظرات مليئة بالغضب والاحتقان. بعد دقائق قليلة أنهت إفطارها وقالت بنبرة تحدٍ:
“ممكن أشرب قهوتي بقى؟”
نظر إليها ببرود وقال:
“أفكر.”
همست بكلمات وصلت لمسامعه:
“إنسان بارد.”
رفع عينيه نحوها وقال بعصبية:
“قلة أدب! مش بحبها.”
صمتت على الفور، متجنبة إثارة غضبه أكثر. نادى على فاطمة قائلاً:
“داده، اعملي لها قهوة.”
ردت فاطمة:
“حاضر يا بيه.”
نظرت سيلا إليه بخجل وقالت بتردد:
“كنت عاوزة أطلب حاجة كده يعني…”
أجاب بحدة:
“اطلبي!”
تحدثت بصوت منخفض:
“أنا هنا ومعنديش لبس، ومحتاجة آخد شاور يعني و…”
قاطعها سريعاً:
“طيب، ماشي. هتصرف.”
نهض من مكانه غاضباً، تناول مفاتيح سيارته، وغادر دون أن يضيف كلمة.
بعد دقائق، جاءت فاطمة بالقهوة. شكرتها سيلا، ثم لمعت عيناها بفكرة. استغلت خروجه السريع، وهرعت إلى غرفتها. بدّلت ملابسها سريعاً، وأحدثت بعض الفوضى المتعمدة في الغرفة. جلبت شيئاً كانت قد أخفته سابقاً، ثم اتجهت نحو فاطمة تطلب منها ترتيب الغرفة.
فاطمة، كالعادة، وافقت بابتسامة قائلة:
“حاضر يا هانم.”
تنفّست بعمق وكأنها تنتظر ما سيأتي بعد ذلك.
ظلت تراقب بعيناها جميع الاتجاهات على موضع كاميرات حتي وجدتها.
نظرت لها و ابتسمت لها و عملت حركة بصوابع ايديها كأنها تقول له سلام.
و جلبت كرسي صعدت عليه و قامت بتغطيتها و حاولت فتح الباب عدة مرات الى ان فتح اخيرا و صفقت بسعادة: يس يس.
نظرت للخارج بحذر يمين شمال وجدت الحراس واقفين بعيدا خارج البوابه خرجت و اغلقت الباب و ركضت حتى وقفت خلف شجرة تختبئ وراءها حتى تجد مخرج للخارج نظرت حولها تستكشف المكان حولها .
المكان محاط بسور عالي و بوابه حديد و وقوف بعض الحراس و كلاب.
وجدت مخرج اتجهت خلف المنزل بسرعة و أزاحت بعض الأشجار و تسلقت السور لم يكن عالي و قفزت للخارج و ظلت تركض لم تجد الا شجيرات فقط تحدثت حالها : وبعدين بقا مفيش طريق عربيات ليه.
حاولت تبتعد بقدر الامكان من المنزل ثم وقفت تسترح قليلا لحد ما ! …
خرج للخارج وركب سيارته لكنه لم يكن مرتاحا تحرك للخارج لشراء بعض ملابس لها تناسبها وصل للطريق بعد فتره قصيره و دخل على محل ملابس و اختار لها بعض ملابس و انتهى سريعة وركب سيارته و غادر .
و امسك جهاز التابليت الموصل بكاميرات المراقبة داخل المنزل و ابتسم ابتسامه شيطانيه :
قلبي حاسس والله يلا بينا نلعب شويه و تجربي وشي التاني عامل ازاي.
انطلقت سيارته بسرعة، وعيناه تشعان بالغضب كأن بركانًا يوشك على الانفجار. وصل إلى البوابة، وتوقف فجأة، ثم خرج من السيارة مسرعًا، ممسكًا بسلاحه، وأخذ شيئًا آخر قبل أن يتوجه نحو الحراس. بدا الغضب يتساقط من كل كلمة نطق بها، وهو يوجه لهم اللوم بلا رحمة: “أنتم أغبياء! كيف ما شفتوش حاجة؟ موقف زي ده كأنكم بهائم!” ثم أشار بيده إلى الحراس، وأضاف بتحدٍ: “لما أرجع، مش عايز أشوف حد فيكم!”
نظرت عيناه ببرود إلى الكلب الجالس بجانبه، ثم تجاهل الحراس الذين حاولوا التوسل إليه. “غبية… مش هرحمك. عديتلك كتير، بس دلوقتي في مملكتي. خروجك يعني نهايتك، ومش هعديها لك المرة دي!” ثم انطلق متجهًا إلى الجزء الخلفي من المنزل. كان الباب مفتوحًا، فدخل بخطى سريعة، يشم في الهواء بحثًا عن أي أثر يدل عليه.
الكلب بدأ يشم شيئًا على الأرض، ثم أمسك بقطعة كانت قد سقطت منها أثناء نومها في الطائرة. حملها في فمه، وركض خلفه. توقف الكلب فجأة، ثم بدأ ينبح بعنف، وكأنما يوجهه إلى وجهة معينة. وقف عاصم بجانب الكلب، يراقب بتوتر، وفجأة انطلقت نداءات صوته في الأفق: “سيلااااااه!”
توقفت سيلا فجأة وسط الركض، تكاد لا تجد أنفاسها. حولها غابات كثيفة، وعرفت أنها تاهت، ولكنها لم تستسلم. بينما كانت تواصل الركض، بدأ قلبها ينبض بقوة، وسرعان ما أدركت أن شيئًا رهيبًا يقترب منها. ثم، في لحظة، سمعته ينادي اسمها بصوت قوي ومهيب، يتزامن مع صوت الرعد الذي يخترق السماء.
توقفت فجأة، غير قادرة على اتخاذ خطوة واحدة أخرى. التفتت ببطء، لتجد عاصم واقفًا أمامها بابتسامة باردة، يده داخل جيب بنطاله، والكلب بجانبه في وضع الاستعداد، ينبح وكأن اللحظة التي سينقض فيها عليها قد حانت.
ظلا يواجهان بعضهما البعض، وعينيه تشتعلان بغضب لم يطفئه حتى تساقط الأمطار. بل على العكس، كانت النيران في عينيه تزداد اشتعالًا، وكأنها تهدد بابتلاع كل شيء حوله.
لم تكن سيلا قد حسبت حساب هذه المواجهة. بدأ الرعب يتسلل إلى قلبها، فشعرت بدفء التوتر في الجو وبرودة الأمطار التي كانت تتساقط على بشرتها. ولكن برودة الجو كانت أقل تأثيرًا من حرارة نظرته التي كانت تجمد كل شيء في محيطها. خطوة بخطوة، بدأت تسحب قدميها إلى الوراء، تحاول الابتعاد عنه، ولكن كلما تحركت خطوة إلى الخلف، كان يقترب منها أكثر وأكثر.
“مفيش مفر من هروبك خلاص، ارجعي يا سيلا. أنا حذرتك قبل كده، وقولتلك إن الضربة المرة اللي فاتت كانت على هواء، لكن إنتي استهنتي واستعجلتي!” كانت كلماته ثقيلة، كالرصاص، تضغط على قلبها وتزيد خوفها.
عينيه كانت تتبع كل حركة منها، وكلما تراجعت أكثر، كان يخطو هو للأمام. شعرت أن الحافة قد اقتربت منها، وأنه لا مفر. عندما أمرها بالتوقف، كان صوته عميقًا، يأمرها بالانتظار، لكن قلبها كان قد انتفض في صدرها وركضت مبتعدة عنه بسرعة.
بينما كانت تهرب، سمعت صوته يأمر الكلب: “قف روي!” توقف الكلب فجأة عن الركض وراءها، ولكن فضولها جعلها تلتفت للحظة واحدة. كانت تلك لحظة قاتلة. لم تتعد ثوانٍ معدودة حتى شعرت بشيء غريب، ثم جاء الصوت المفاجئ.
الطلقة أصابتها مباشرة. تراجعت بضع خطوات إلى الوراء، وكأن قدميها فقدت قوتها تمامًا. شعرت بألم مفاجئ، ودمائها بدأت تسيل. تجمدت في مكانها للحظة، وعينيها اتسعتا، فمها مفتوحًا في صدمة، وعقلها غير قادر على استيعاب ما حدث.
سقطت أرضًا، وكأنها فقدت كل قوتها، بينما كانت الأرض من تحتها تتحول إلى سواد دامس.
ـــــــــــــــــ
استفاق معتز من نومه، وقد بدت علامات الإرهاق واضحة على وجهه بعد يوم طويل من العمل الشاق. كان جسده يصرخ من التعب، لكنه حاول أن يطرد هذا الشعور. نهض بتثاقل، واتجه إلى الحمام ليأخذ حمامًا منعشًا يساعده على استعادة نشاطه. بعد أن انتهى، ارتدى ملابسه بعناية، وأخذ لحظة ليجمع أفكاره قبل أن يخرج من المنزل.
قبل أن يغادر، قرر إجراء مكالمة هامة، ثم خرج ليقابل وليد عند الباب. اتجه الاثنان معًا إلى الشركة، حيث جلس معتز خلف مكتبه في هدوء، عينيه تركزان في الفراغ وكأن ذهنه مشغول بمكان آخر. كان ينتظر بشدة وصول شخص ما، وكأن الوقت يمر ببطء وهو جالس هناك.
مر وقت طويل، ولكن لم يحدث شيء. بدأ وليد يلاحظ انشغال معتز، فتوجه نحوه وسأله بقلق: “مالك يا بني؟ فيك إيه؟ بقالي ساعة بكلمك مش بترد.” كان يشير بيده أمام وجهه، وكأنه يحاول استعادة انتباهه.
استفاق معتز أخيرًا، وقال وهو يحرك رأسه: “إنت لسه قاعد هنا؟ فكرتك مشيت؟”
غمز وليد بابتسامة واسعة، وقال على أمل: “لا، ما مشتش. مالك بقى؟ رحت فين؟ شكلك فكرت في كلامي، يا بن عمي، ولا إيه؟”
تنهد معتز بعمق، وأجاب: “آه، فعلاً فكرت في كلامك… وبحاول أتنفذه. امشي أنت دلوقتي، عشان أنا مستني حد.”
ابتسم وليد وقال: “ماشي يا عم، الله يسهلها. أطير أنا بقى.”
مرت ساعة كاملة قبل أن يأتي خبر مفاجئ من السكرتارية: هناك شخص من جريدة يريد مقابلته. معتز كان جالسًا في مقعده، مولّيًا ظهره للباب، عندما سمع طرقًا خفيفًا على الباب. أذن بالدخول، ثم لف كرسيه ليواجه القادم. وعندما نظر، تفاجأ تمامًا بما رآه أمامه…
…
في مكان آخر، كان الحديث متوترًا، حيث كان الرجل الأول يصرخ بصوت غاضب: “يعني إيه اختفت؟!” كانت كلماته مليئة بالتهديد، عينيه تبرقان بالغضب.
رد الرجل الآخر بحذر، محاولًا التخفيف من حدة الموقف: “محدش عارف مكانها يا باشا. إحنا بنراقب بيتها، وما فيش غير اختها ووالدتها وأبوها. حتى الجرايد مش رايحة لها.”
لكن غضب الرجل الأول لم يهدأ، بل زاد تأججًا. أمسك بالرجل الآخر من عنقه، وقال بصوت مخنوق: “إنت عارف لو البت دي مظهرتش، الباشا الكبير هيصفينا كلنا! يعني لازم نجيبها! رقبتنا في خطر، فاهم؟”
أصبح الوضع أكثر توترًا، فصرخ الرجل الأول في وجهه: “امشي من قدامي، متجيش تاني إلا لما تعرف مكانها! يلا، فاهم؟”
الرجل الآخر، وقد خشي على نفسه من غضب الرجل الأول، رد بسرعة: “أمرك يا ريس.” ثم خرج مسرعًا، عاقدًا العزم على العثور عليها بأي طريقة كانت.
بعد إطلاق النار، اقترب عاصم منها بسرعة، وحملها بين ذراعيه، عائداً إلى المنزل. عند الباب، قابلته الست فاطمة التي صُدمت عندما رأت حالتها. كانت ملابسها مبللة بالدماء والأمطار، وجسدها ينزف بشدة. لطمت على صدرها، وتفجرت مشاعرها قائلة: “يا لهوي! يا لهوي! مالها؟ حصلها إيه؟ ليه مش بتتحرك كده؟ يا حبيبتي يا بنتي!”
لم يكن عاصم في حال يسمح له بالكلام الكثير. رد بسرعة: “مش عايز كلام كتير، عاوز مياه مثلجة بسرعة، وجيبي عدة الإسعافات من مكتبي، يلا بسرعة!” كان صوته عميقًا، وصدره يضيق من التوتر.
فاطمة لم تتردد، هرعت مسرعة: “حاضر، حاضر.” ثم جرت إلى مكتبه لتنفيذ أوامره.
نقلها عاصم إلى الكنبة، وتأكد من وجود نبض في جسدها، بينما كانت لا تزال فاقدة للوعي. ساعده ذلك في تحديد مكان الرصاصة، فقام بسرعة بإحضار مقص وقطع ملابسها حول يدها اليسرى. خرج الرصاصة بعناية، ثم بدأ في تعقيم الجرح. في تلك اللحظة، دخلت فاطمة ومعها المياه الباردة وعدة الإسعافات، فشرع عاصم في تعقيم الجرح مرة أخرى، ثم لفه بالشاش بإحكام. كان معتادًا على هذه الأمور من خلال المهمات التي يشارك فيها.
ظلت سيلا غارقة في إغمائها، تهمس بكلمات غير مفهومة، لكنه لم يكترث. حملها بحرص وأمر فاطمة: “تعالي ورايا.” توجه بها إلى غرفتها، حيث قال لها: “غيري لها ولبسيها الملابس دي، فيها هدوم كتير. ناديني بعد ما تخلصي.”
أجابت فاطمة: “حاضر.” ثم خرج عاصم بسرعة، متجهًا إلى غرفته. حاول أن يسيطر على غضبه الذي بدأ يشتعل داخله، فتمتم لنفسه: “أيامك سودة معايا، وانتي جربتي غضبي.” استبدل ملابسه بسرعة، ثم حضر شيئًا ما قبل أن يخرج مرة أخرى.
عندما دخل غرفتها، وجد فاطمة قد انتهت من تغيير ملابسها. سألها عاصم بصوت أجش: “خلصت؟” أجابت فاطمة: “أيوه، يا بني، خلصت. بس… إيه اللي حصل لها؟ مين اللي ضربها بالنار كده؟”
عاصم رد بنبرة غاضبة: “وانتي كنتي فين لما هربت؟ مش عايز أسمع كلمة تانية.” ثم أضاف بأمر: “أنا هديها حقنة مسكنة، هي احتمال تسخن. خليكي جنبها، وأول ما تفوق تبلغيني.”
أومأت فاطمة برأسها في طاعة، وقالت: “حاضر يا بني.”
ثم أعطى لها عاصم الحقنة، وأمسك يدها بعناية. في تلك اللحظة، وضع سوارًا حديديًا أسود اللون حول معصم يدها، ثم قفله باستخدام مفتاح خاص به. تركها في الغرفة، وخرج.
على الجانب الأخر، ذهبَت مي إلى الجريدة كما اعتادت، متبعَة الروتين اليومي. كانت تكتب المقالات وتنسبها لسيلا، حتى تبتعد عن أي مراقبة أو تخطيط من العصابة التي كانت تطاردها. جلست على مكتبها، لكن سرعان ما طلبها المدير، أحمد.
قال أحمد وهو يبتسم: “تعالي يا مي، أنا حبيت أشكرك بنفسي على المجهود الرائع اللي بتعمليه، وأنا مش ناسي ده، وطبعًا هكافئك.”
أجابت مي بتواضع: ” يا فندم، أنا بعمل المفروض يتعمل.”
رد أحمد: “عموماً، المرة دي هننسب الموضوع ليكي أنتي. نفس الشركة اللي حضروا الافتتاح في الغردقة، لكن فرعها هنا. المدير كلمني وطلب حد من عندي، طلبك بالاسم كمان! تعملي معاه حوار عن إنجازات الشركة، ها يا ستي، مبسوطة؟”
أخذت مي نفسًا عميقًا، فشعرت بشيء غير مريح. لم ترتح لهذه المقابلة، وأيقنت أن نية المدير ليست بريئة. لكن ابتسمت ابتسامة متوترة وقالت: “أه طبعًا مبسوطة جدًا، بس… بس إيه؟ في حاجة كدة ممكن أي زميل يعمل الحوار؟”
أجاب أحمد بإزعاج: “مي، ازاي يعني؟ ده شغل يا أستاذة! هنلعب ولا إيه؟ بعدين انتي مطلوبة بالاسم! عايزني أبدلك بحد تاني؟ اتفضلي، تقدري تروحي دلوقتي، هو في انتظارك!”
مي، التي لم تجد مفرًا، ردت بقلة حيلة: “تمام يا فندم.” ثم خرجت، وهي لا تعرف ماذا تفعل، فاستقلت المواصلات وذهبت إلى منزل همسة. فتحت لها الباب ودخلتا معًا إلى غرفتها.
قالت همسة بابتسامة مشجعة:
“مي، واحشتيني أوي! عاملة إيه؟ وأخبار المعرض إيه؟”
ابتسمت مي وردت بحماس:
“الحمد لله، خلاص قرب، فاضل كام يوم بس. أكيد هتيجي معايا، ما تسبنيش في اليوم ده، انتي كمان!”
ضحكت همسة وأكدت:
“طبعًا جايه يا حبيبتي، ربنا يوفقك يا رب.”
ثم فجأة، توقفت مي وكأن شيئًا خطر ببالها، فسألت:
“سيلا، ما اتصلتش تاني بيكم؟”
تغيرت ملامح همسة للحزن وهي ترد:
“لا، للأسف.”
لاحظت همسة شحوب وجه مي، فسألتها بقلق:
“مالك يا مي؟ شكلك مش مريحني، في حاجة حصلت؟ مامتك كويسة؟”
ردت مي بتردد:
“ماما كويسة، الحمد لله. لكن أنا حاسة إني مشوشة، مش عارفة إيه اللي بيحصل لي بالضبط.”
حاولت همسة طمأنتها:
“خير يا حبيبتي، انتي قلقتيني عليكِ. فيكي إيه؟ احكي لي، يمكن أفيدك.”
أخذت مي نفسًا عميقًا وقالت:
“أنا مش عارفة، بجد. فاكرة يوم ما مشيت من عندك آخر مرة؟ فاكرة معتز، أخو عاصم، اللي وصلنا؟ اللي شوفناه يوم الغردقة؟”
ردت همسة وهي تتذكر:
“آه، فاكرة طبعًا.”
تابعت مي بنبرة مرعوبة:
“لقيته واقف تحت البيت عندي، وشكله كان مرعب أوي. طلعت فوق جري وخفت منه جدًا. بصيت عليه من الشباك لقيته فجأة رافع راسه يبص عليا، وبعدها مشي مرة واحدة. ومن وقتها وأنا خايفة، مش عارفة سبب وجوده هناك.”
تفاجأت همسة وقالت باستغراب:
“غريب جدًا! طيب ليه ما كلمتيهوش وسألتيه؟”
هتفت مي بخوف:
“أكلمه إيه؟ ده شكله كان مش طبيعي أبدًا، وكمان اللي خوفني أكتر إنه طلبني أنا تحديدًا عشان أروحله أعمل معاه حوار. أنا المفروض أكون عنده دلوقتي كمان!”
ردت همسة بقلق:
“طيب وبعدين؟ مش هتروحي؟ ده ممكن يسببلك مشكلة مع الجريدة!”
ردت مي وهي تشعر بالارتباك:
“مش عارفة. أنا مش هروح، بس أتمنى يبعد عني. مش كفاية زمان حاولنا نقطع علاقتنا برودينا؟”
همسة أيدتها:
“فعلاً، هم ما فيهمش تفاهم. وإنتِ وذنبك إيه اللي خلاهم يعاملوا سيلا بالطريقة دي؟”
مي تنهدت بحزن:
“معرفش. كل اللي عارفاه إن وقتها كل واحد فيهم اتعصب علينا وبعد أخته تمامًا عننا. ومن يومها ما نعرفش عنها حاجة.”
حاولت همسة تهدئتها:
“متقلقيش يا مي، إحنا مع بعض.”
ردت مي وهي تبتسم وتغمز لها:
“بس ابن عمه شكله غيرهم خالص! هادي وعاقل، مش كده؟”
احمر وجه همسة قليلًا وقالت بتردد:
“مش عارفة والله.”
سألتها مي بخبث:
“مكلمكيش تاني؟”
ردت همسة بجدية:
“اتكلم، بس أنا ما أعطيتوش فرصة. إنتِ عارفة أنا مش بحب أعلق نفسي في حاجة ممكن تجرحني. ما بردش حتى على رسايله.”
وافقتها مي:
“عندك حق. اللي جاد مش هيضيع وقته في اللف والدوران.”
قطع حديثهما اتصال من ياسر، زميل مي في الجريدة.
أجابت مي بسرعة:
“ألو، إيه يا ياسر؟ عملت إيه؟”
لكن ملامحها تغيرت فجأة وهي تسمع رده:
“إيه؟ بجد؟! طيب، وانت عملت إيه؟”
أغلقت مي الهاتف بصوت متوتر:
“خلاص، هتصرف. مع السلامة.”
سألتها همسة بقلق:
“في إيه؟ مالك قلبتي كده؟”
مي بتوتر واضح قالت:
“شكي طلع في محله! هو عاوزني أنا مخصوص، مش حد تاني. أنا بعت ياسر عشان أتأكد، بس دلوقتي هيقلب عليا المدير، وهتبقى مشكلة كبيرة. مش بعيد أترفض. أنا مش فاهمة ليه حاططني في دماغه بالشكل ده! والله ما جيت جنبه أبدًا. ربنا يستر.”
همسة، محاولة تهدئتها:
“طيب، هتتصرفي إزاي؟ هتروحي تقابليه؟”
ردت مي بسرعة وحزم:
“أقابله؟ لا طبعًا! ده عصبي وما بيتفهمش مع حد. أنا بجد مش عارفة أعمل إيه. المهم، أنا همشي دلوقتي. وهكلمك بعدين عشان المسابقة بتاعتك. مع السلامة. شكلها بكره هتنفجر في الجريدة.”
همسة بتوسل:
“خليكي شوية طيب!”
لكن مي رفضت بشدة:
“لا، لا. لازم أروح وأشوف هتصرف إزاي. مع السلامة.”
…
في مكان آخر، كان معتز ينتظر بابتسامة لاستقبال الصحفي، لكنه تفاجأ بدخول شخص آخر غير المتوقع.
الشخص القادم قال بتوتر:
“أنا ياسر، من جريدة… حضرتك طلبت صحفي يقدم حوار للشركة.”
معتز، وهو يعتصر الورقة التي بيده، تحدث بحدة واضحة:
“آه، أنا كنت طلبت الأستاذة مي، لأنها حضرت افتتاح الفرع الجديد بنفسها. هي مجتش ليه؟”
ياسر رد بتوتر:
“اعتذرت، وطلبت مني أجي بدلها.”
فجأة، ارتفع صوت معتز غاضبًا:
“ده تهريج! مش شغل أبدًا! يعني إيه اعتذرت؟ أنا متفق مع المدير! ده لعب عيال ولا إيه؟! انتو مش عارفين أنا مين ولا إيه؟! ممكن أقفل الجريدة على دماغكم. بس أنا مش هعديها على خير أبداً. اتفضل! وأنا هعرف ليه كلامي ما بتسمعش لا من المدير ولا من الأستاذة!”
أشار له بالخروج، فخرج ياسر مسرعًا، متفاجئًا من غضبه وتوتره.
همس ياسر لنفسه بعد الخروج:
“يا حول الله… لازم أكلمها وأبلغها. يمكن تلحق تتصرف قبل ما يوصل الخبر للمدير!”
…
استيقظت سيلا من نومها تتأوه بألم وهي تهمس لنفسها:
“آه… أنا فين؟ آه… إيدي!”
تذكرت ما حدث، وهمست بغضب وألم:
“حيوان! آه لو شفتك قدامي، إيدي…”
لاحظت الست فاطمة نائمة بجوارها على الأريكة، وحاولت النزول من الفراش. تأوهت من الألم وهي تنادي:
“داده… يا داده! عاوزه أشرب… عطشانة داده.”
لم تجد استجابة، فجمعت شجاعتها وتحاملت على نفسها للوقوف. بالكاد استطاعت الوصول إلى الباب، وعندما همّت بفتحه، وجدته يفتح من تلقاء نفسه.
ظهر أمامها فجأة، فتصلبت ملامحها وهتفت بغضب، دون أن تخفي رعشة صوتها:
“نعم؟ جاي تكمل على إيدي التانية؟ لعلمك، أنا مش هعدّي اللي عملته ده على خير، فاهم؟!”
ارتفع صوتها، فأفاقت الست فاطمة من على الأريكة، وسارعت نحوها:
“فوقتي يا حبيبتي؟ عاملة إيه دلوقتي؟”
نظرت سيلا لفاطمة بحب، وردت بصوت هادئ:
“الحمد لله، أحسن.”
أشار هو للست فاطمة بحزم:
“روحي انتي يا فاطمة، ارتاحي. أنا هكمل مكانك.”
هزت الست فاطمة رأسها وقالت:
“حاضر يا بني.”
بقلم شروق مصطفى
خرجت، لكن سيلا انتفضت وهي تصيح بغضب:
“اطلع برا! أنت! أنت داخل ليه؟ برا!”
لم يأبه لصراخها، بل تقدم نحوها بخطوات ثابتة، وعيناه تلمعان بشرارات غضب واضحة. أشارت إليه بأحد أصابع يدها السليمة قائلة بتحدٍ:
“عارف لو قربت أكتر؟ أنت… أنت حر! فاهم؟ هتعمل إيه أكتر من اللي عملته؟ والله أنت مجنون!”
وقف أمامها بثبات، وتحدث ببرود قاتل وهو يشير إلى ذراعها الملفوفة:
“دي كانت قرصة ودن صغيرة. لكن لو حاولتي تاني… مش هتتوقعي الضربة تبقى فين، أو ممكن أعمل إيه. أبعدي عن غضبي… لأن غضبي وحش!”
لم تتراجع سيلا، بل نظرت إليه بتحدٍ صارخ وهتفت:
“غضبك؟ أنا مش خايفة منك! فاكر إنك تخوفني باللي عملته؟ أنا مش هسيب حقي، فاهم؟ لو كنت فاكر إنك أقوى مني، يبقى إنت غلطان!”
اقترب خطوة أخرى، لكنها لم تتحرك، وظلت تواجهه بشجاعة رغم الألم الذي ينهش جسدها.
نظر إليها بحدة وهو يقترب خطوة أخرى، حتى أصبحت المسافة بينهما تكاد تختفي. نبرة صوته كانت أشد برودة وهو يرد:
“حقك؟ اللي زيك ما ليهش حق عندي! أنتي تعديتي حدودك، وأنا عرفت كويس إزاي أوقفك عندها. لو كنتي عاقلة، كنتي فهمتي الرسالة من أول مرة.”
سيلا لم تتراجع، رغم أن قلبها يخفق بقوة من مزيج الخوف والغضب، وهتفت بشجاعة مصطنعة:
“إنت فاكر نفسك مين عشان تهددني كده؟ أنا مش لعبة بين إيديك! واللي عملته مش هيسكتني، بالعكس، ده السبب اللي هيخليني أواجهك وأقف ضدك لآخر نفس!”
رفع حاجبه بسخرية، وضيق عينيه وهو يقترب أكثر:
“أواجهني؟ تقفي ضدّي؟ أنتي مش عارفة بتلعبي مع مين. المرة دي هعدّيها، لكن لو حصلت تاني… مش هتلاقي حد ينقذك، ولا حتى نفسك.”
لم تتراجع سيلا، ولكن صوتها بدا أكثر هدوءًا وهي ترد:
“روح هدّد حد غيري. أنا مش زي الباقيين اللي بتخوفهم كلمتين. لو عندك الشجاعة اللي بتدعيها، وريني أفعال مش كلام!”
اشتعلت عيناه بالغضب من تحديها، لكنه فجأة ابتسم ابتسامة ساخرة وقال بنبرة تنم عن الهدوء المريب:
“زي ما تحبي، يا سيلا. بس وقت ما تغلطي تاني، ما تلوميش غير نفسك.”
تراجع خطوة للخلف، لكنه قبل أن يغادر أضاف:
“بس خلي بالك… اللعب معايا خطير، وأنتِ لسه ما شفتيش الوجه الحقيقي لي.”
خرج من الغرفة بهدوء، تاركًا إياها تواجه أفكارها المتشابكة ومشاعرها المختلطة بين الغضب والخوف، وبين إحساسها بأنها دخلت لعبة أكبر مما كانت تتصور.
جلست سيلا على طرف السرير، وضغطت على يدها المصابة بحذر، وهمست لنفسها:
“ما فيش حد فوق القانون… هوريك مين اللي غلطان.”
يتبع
جمر الجليد الخامس عشر
جلست سيلا على طرف السرير، وضغطت على يدها المصابة بحذر، وهمست لنفسها: “حيوان” فاكرني هخاف منه!
لفت نظرها السوار الملفوف حول معصمها، وظلت تحدق فيه باستغراب، تتساءل بصوت خافت:
“إيه ده؟ بتاع مين؟ مين اللي لبسهالي؟”
رغماً عنها، غلبها الإرهاق فأغمضت عينيها وغرقت في نوم متقطع. لم يمر سوى نصف ساعة حتى دخلت الدادة فاطمة لتطمئن عليها، لكنها فوجئت بحرارتها المرتفعة وبالكلمات المتقطعة التي تهلوس بها بصوت مبحوح وغير مفهوم.
على الفور، تركت الغرفة مسرعة لتبلغ عاصم بالأمر. وقف بجدية وهو يستمع، ثم قال بحزم:
“اعملي لها كمادات مبللة أولاً، وبعدين ندّيها الحقنة.”
نفذت الدادة التعليمات، بينما ظل هو جالساً بجانبها يراقبها عن كثب. كانت شفتاها تهمسان بأشياء مبهمة، اختلط فيها الغضب بالوجع:
“بكرهك… ابعد عني… بكرهك… ابعد عن طريقي… رودي… لا… ليه؟ بكرهكم…”
ظلت الدادة منهمكة في عمل الكمادات، بينما وقف عاصم متصلباً ينظر إليها بشرود. ما إن انتهت حتى أشار إليها قائلاً:
“خلصي الكمادات، وناديني أول ما تنزل الحرارة.”
ترك الغرفة وخرج إلى الفناء، حيث استقبله الهواء البارد بصفعات منعشة. أخرج سيجارة من جيبه، وأشعلها بحركة آلية. ظل يدخن، واحدة تلو الأخرى، يراقب الدخان وهو يتلاشى في الهواء. فجأة، قطعت الدادة شروده بندائها:
“يا بيه، الحرارة نزلت.”
دهس السيجارة الأخيرة أسفل حذائه، وأخذ نفساً عميقاً قبل أن يعبر عتبة المنزل مرة أخرى. دخل الغرفة بخطوات ثابتة، أعطاها الحقنة بهدوء ثم دثرها جيداً باللحاف، وأغلق الأنوار. همس للدادة وهو يخرج:
“خلي بالك منها.”
توجه بعدها إلى مكتبه. جلس خلف الطاولة، وبين يديه الملفات والأوراق. حاول أن يغرق في عمله، لكن عقله كان يتسلل بين الحين والآخر إلى الغرفة المجاورة. أجرى بعض المكالمات، يتابع مستجدات القضية التي كانت تؤرقه منذ أيام. الوقت يمضي، لكنه ظل عالقاً بين عمله وهمومه، وبين الغموض الذي يحيط بها وبحالها المتدهور.
على الجهة الأخرى، كان معتز في مكتبه، يمشي جيئة وذهاباً وقد تملّكه الغضب. قبض بيده على هاتفه بقوة، ملامح وجهه توحي بأنه على وشك الانفجار. توقف فجأة، ونظر إلى إحدى الملفات أمامه ثم أزاحها بعصبية، قبل أن يتمتم بحدة:
“إزاي ترفض تقابلني؟!”
أخذ نفساً عميقاً ليهدئ غضبه، لكنه فشل. جمع أوراقه بعشوائية، ثم أمسك بمفاتيح سيارته وخرج من المكتب بخطوات ثقيلة وحازمة. فور جلوسه خلف عجلة القيادة، أجرى مكالمة قصيرة بصوت متهدج، لكنه سرعان ما استعاد هدوءه شيئاً فشيئاً.
أنهى المكالمة بابتسامة واسعة، خبيثة، تشي بنصر داخلي. تمتم بصوت منخفض، وكأنه يخاطب شخصاً غير موجود:
“لما أشوف بقى هتنزلي الشغل تاني إزاي.”
أدار محرك السيارة، وبدأ بالتحرك بسرعة ملحوظة، متجهاً إلى منزله. عقله مشغول بخطته القادمة، وقلبه ينبض بنشوة الانتقام.
وليد جلس في غرفته، يتأمل السقف بصمت. كان أمرًا يشغل باله منذ فترة طويلة، لكنه ظل يؤجل مواجهته مرارًا وتكرارًا. شعر أن اللحظة قد حانت الآن، فمد يده إلى هاتفه وتردد قليلاً قبل أن يطلب الرقم.
رنّ الهاتف للحظات حتى جاءه صوت أخيه من الجهة الأخرى، هادئًا ومطمئنًا كعادته. بدأ وليد الحديث بتردد، لكن سرعان ما انساب الكلام منه كما لو كان سدًا انفتح فجأة. أخبر أخاه بكل ما يدور في ذهنه، بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة التي أبقته مستيقظًا ليالٍ طويلة.
كان أخوه يستمع بصبر، ولم يقاطعه إلا بين الحين والآخر ببعض الكلمات المشجعة التي جعلت وليد يشعر براحة لم يعهدها منذ وقت طويل. انتهت المكالمة أخيرًا، وابتسامة ارتسمت على شفتيه، مزيج من الارتياح والثقة.
وضع الهاتف جانبًا، ونهض من مكانه. نظر حوله في الغرفة بعينين حازمتين، ثم بدأ بترتيب أولوياته. الآن وقد أزال هذا الحمل عن كاهله، بات مستعدًا للمضي قدمًا، بخطوات واثقة نحو ما ينتظره.
في منزل رودينا بالغردقة، كانت الحياة تمضي وسط ضحكات الأطفال وضجيجهم المعتاد. جلست رودينا على الأرض بين توأميها، كنزي وكرما، بينما الصغيرة كرما تطالبها بوجبتها المفضلة بطريقة طفولية:
“ماما جوعانة… بشاميلو!”
ضحكت رودينا بمرح وهي ترد:
“بشاميلو مرة واحدة؟ حاضر يا عيون ماما، خليكي هنا وأنا هقوم أعمل الأكل.”
هزت كرما رأسها ببراءة وجلست مكانها، لكن عقل رودينا كان في مكان آخر. همست لنفسها وهي تدير رأسها بحثاً:
“فين كنزي؟ البت دي هتجنني! مش سامعة لها حس… آه ياني، شكلها بتعمل كارثة!”
نادت بصوت عالٍ:
“كوكي! يا كوكي! بتعملي إيه؟”
جاء الرد من كنزي، بصوت بريء وهي تهمهم:
“مم… مم…”
دخلت رودينا المطبخ على عجل لتتفاجأ بالكوارث المنتشرة أمامها. البيض موزع في كل مكان، وكنزي تقف أمام الثلاجة مفتوحة، تحمل شيئاً بيدها. صرخت رودينا بدهشة وهي تقترب منها:
“والله زي ما انتي! أوعي تتحركي! بتعملي إيه يا قلب ماما؟”
ردت كنزي بابتسامة عريضة:
“ماما… مم!”
شهقت رودينا وهي ترى البيض المكسور والأرضية الملطخة:
“مم! وفتحتي الثلاجة وتقوليلي مم! طب والبيض ده؟ موزعاه كده؟ آه ياني! تعالي هنا يا حبيبتي، تعالي أعملك مم… لا، تعالي أحميكي الأول!”
أخذتها إلى الحمام، وهي تحدث نفسها بصوت مسموع:
“أول إيه؟ ده ثالث ولا رابع مرة! أنا اتجننت… بكلم نفسي بجد!”
بعدما انتهت من تنظيفها، أجلستها بجانب أختها كرما. وفي اللحظة ذاتها، سُمع صوت مفاتيح الباب. قفزت الفتاتان بحماس نحو الباب، وركضتا ليحتضنا والدهما.
“بابا! تيت؟” سألت كنزي بحماس.
ضحك عامر وهو ينظر إلى طفلته الصغيرة:
“لا يا ملاكي، لسه متتش!”
ثم ضحك أكثر عندما سألته كرما ببراءة:
“بابا تيفونك؟”
رد عليها بابتسامة واسعة:
“كل يوم تثبتوني اتفضلي يا ست البنات، خدي التليفون وفرجي أختك معاكي.”
أخذت كرما الهاتف وركضت مع كنزي للجلوس معاً، تتابعان مقاطع يوتيوب. أما رودينا، فقد دخلت لتقابل عامر بنبرة عتاب:
“اتأخرت ليه كده؟”
أجابها بإرهاق ظاهر:
“شغل كتير، والله لسه مخلص وهلكان. هموت وأنام.”
ردت بابتسامة:
“طيب، غير هدومك، الأكل جاهز.”
اجتمعوا جميعاً على السفرة، وكانت الأجواء مليئة بالضحك والحديث العائلي. فجأة، سألت رودينا بحماس:
“هنآخد إجازة إمتى؟ وحشوني أوي نفسي أشوف إخواتي!”
ابتسم عامر وقال:
“هانت، قريب أوي هنزل. وليد كلمني النهارده… وعاوز يخطب!”
ابتسمت رودينا بفرحة:
“بجد؟ الله! أخيراً، مين بقى اللي شقلبته كده؟”
قهقه عامر:
“من ناحية شقلبته، فهي شقلبته فعلاً. مش عارف ياخد منها حق ولا باطل، بس هيحدد مع والدها الأول، وبعدها نروح نطلبها منه.”
فرحت رودينا:
“يا رب… عقبال ما نفرح بيهم كلهم!”
في هذه الأثناء، كانت كارما تحاول لفت انتباه والدتها:
“ماما… بعت!”
نظرت رودينا إليها وضحكت:
“لا، كلي يا كوكو. دي طيب!”
لكن كارما ردت بإصرار طفولي:
“توتو نو!”
تدخلت كنزي، وهي تقول ببراءة:
“ماما، توتو أنا!”
ضحكت رودينا وقالت:
“اللي هاكل الكوكو كله، عندي له مفاجأة!”
وبين ضحك ولعب الطفلتين، تابعت رودينا حديثها مع عامر حول الهاتف المحمول، مشيرة إلى مخاطر جلوس كارما الطويل على اليوتيوب. وافقها عامر الرأي، وأقترح عليها البحث عن حلول على الإنترنت.
أنهى عامر حديثه قائلاً:
“ما عندناش أغلى منهم. أنا معاكي في أي خطوة تاخديها.”
ابتسمت رودينا وقالت:
“طيب، ادخل نام شوية وأنا هخلص شغل البيت وأنيم البنات.”
ـــــــــــــــــــــــــــ
في صباح اليوم التالي، دخلت مي مبنى الجريدة بخطوات متوترة، شعور بالقلق يسيطر عليها منذ استدعائها إلى مكتب المدير. بالكاد ألقى عليها أحد الموظفين التحية حتى قيل لها:
“الأستاذ عاوزك فورًا.”
طرقت الباب برفق ودخلت. كانت عينا المدير حادة وهو ينظر إليها مباشرة. بادرها بالسؤال بلهجة صارمة:
“قوليلي يا مي… عملتي إيه في مشوار امبارح؟”
ارتبكت مي، وبدأ صوتها يتلعثم:
“أ… أ… أصل أنا… ت…”
قاطعت كلماتها المتقطعة نبرة المدير الغاضبة:
“بلاش شغل العيال ده يا مي! احنا مش فاتحين الجريدة عشان نلعب. لما أبعِت حد لمهمة، المفروض يرجع بنتائج. ولو مش قد الشغل، كنتِ تقولي، ونبعت حد غيرك.”
حاولت مي تبرير موقفها:
“أنا… أنا آسفة، بس أنا…”
لكن المدير لم يمهلها وقتًا:
“مفيش بس. اللي حصل إمبارح خلا اسم الجريدة يتضرر جدًا مع واحدة من أكبر الشركات العالمية. عارفة ده معناه إيه؟ معناه إني مضطر آسف أنهي شغلك معانا. استلمي ملفك النهاردة، وآخر يوم ليكي عندنا. عدي على أستاذ شوقي في قسم الحسابات وخدي باقي مرتبك.”
شحب وجه مي، وحاولت الدفاع عن نفسها بصوت مكسور:
“بس… يا فندم، دي أول غلطة أغلطها. وأنا شغالة هنا بقالى أكتر من ثلاث سنين!”
نظر المدير إليها بعينين جامدتين وأردف:
“للأسف، ده أقل عقاب بدل ما الجريدة كلها تتقفل.”
اغرورقت عينا مي بالدموع، لكنها لم تستطع قول المزيد. أومأت برأسها بخضوع وهمست:
“تمام يا فندم… بعد إذنك.”
خرجت من المكتب، وكأنها تحمل على كتفيها جبلًا من الحزن والخذلان. كانت خطواتها ثقيلة، والدموع تغطي وجهها.
في الخارج، بينما كانت تحاول استيعاب الصدمة، لم تلحظ السيارة السوداء المتوقفة على بعد أمتار منها. جلس داخلها معتز، يراقبها بابتسامة خبيثة مرسومة على شفتيه. تمتم بسخرية:
” ولسه! انتي لسه ما شفتيش حاجة. هكسّرك كمان.”
ارتدى نظارته الشمسية، وأدار محرك سيارته، ثم انطلق مبتعدًا، تاركًا وراءه مي غارقة في حزنها.
استقلت مي سيارة أجرة، متجهة إلى منزل صديقتها همسة. ما إن فتحت همسة الباب حتى ألقت مي بنفسها في أحضانها، تشهق بالبكاء:
“شفتي… شفتي اللي حصل؟”
احتضنتها همسة وهي تحاول تهدئتها:
“اهدي… اهدي يا مي، مالك؟ تعالي دخلي جوا واحكيلي.”
جلست مي على الأريكة وهي تضع يديها على وجهها وتبكي بحرقة:
“اترفدت! أنا اترفدت! وهو السبب… هو اللي عمل كده فيا. ليه؟ ليه يعمل كده؟! أنا مش مصدقة لحد دلوقتي. المدير قال إن ده أقل عقاب بدل ما الجريدة كلها تتقفل.”
ربتت همسة على كتفها:
“طيب، طيب، اهدي… ده واصل قوي على كده؟”
هزت مي رأسها وقالت بغضب:
“أكيد، ما هو أخو ضابط، وعندهم ناس تقيلة. لكن ليه؟ ليه يعملوا كده فيا؟”
صمتت همسة قليلاً، ثم حاولت تهدئتها:
“بصي، فكك يا مي. اللي خلق الجريدة دي خلق غيرها. الدنيا مش هتقف على كده. شوفي جريدة تانية تشتغلي فيها. استني، أنا هعملك عصير ليمون يروق دمك.”
مسحت مي دموعها ونهضت من مكانها بتصميم:
“صح! أنا مش هستسلم. هشوف جريدة تانية، ومش هسيبه يفرح فيا.”
حذرتها همسة وهي تنظر إليها بجدية:
“مي، ابعدي عنه. طالما هو غبي بالشكل ده وقطع رزقك، خليكي بعيدة أحسن.”
أجابت مي بحزم:
“طيب، أنا همشي دلوقتي. يلا، سلام.”
نادت عليها همسة:
“استني! اهدي الأول، وأنا هعملك ليمون.”
لكن مي هزت رأسها واعتذرت:
“لا، مش قادرة. أنا تعبانة، وعاوزة أنام.”
ربتت همسة على ظهرها وهي تودعها:
“خلي بالك من نفسك… مع السلامة.”
غادرت مي منزل همسة وعادت إلى منزلها، ترتمي على سريرها، محاولة لملمة شتات نفسها والاستعداد لبداية جديدة.
… ..
بعد مرور يومين…
بدأت سيلا تستعيد عافيتها تدريجيًا، لكنها اختارت تجنب أي مواجهة مباشرة مع عاصم. كانت تقضي وقتها في استعارته للكتب من مكتبه، تقرأها، ثم تعيدها دون أن تثير انتباهه.
في إحدى المرات، أثناء استعارته كتابًا، لاحظت شيئًا غريبًا مخفيًا خلف الكرسي. حاولت التظاهر بالهدوء والخروج كالمعتاد، لكن عقلها كان يعج بالتساؤلات. عادت إلى غرفتها وظلت تفكر كيف يمكنها الحصول على هذا الشيء دون أن يُمسك بها.
انتظرت بصبر حتى سمعت صوت سيارته يغادر المنزل. نزلت مسرعة إلى مكتبه، متظاهرة بأنها تبحث عن كتاب آخر. التقطت أحد الكتب لتغطي تحركاتها، واستغلّت معرفتها بمواقع الكاميرات داخل الغرفة.
عند مرورها قرب الكرسي، تظاهرت بالتعثّر، ووقعت على الأرضية بطريقة طبيعية. مدّت يدها بخفة والتقطت الشيء المخفي خلف الكرسي، دون أن تُظهر الكاميرات أي شيء مريب. استقامت بسرعة وخرجت إلى غرفتها، وقلبها ينبض من فرط الإثارة. أخيرًا، حصلت على ما تبحث عنه.
—
في يوم المسابقة…
أنهت همسة تجهيز لوحاتها وسلمتها للمعرض قبل يوم واحد من المسابقة. وفي صباح يوم الحدث، كانت العائلة تستعد للذهاب. والدها، محسن، ووالدتها، نرمين، انشغلا بالتجهيز، بينما همسة قالت بلهفة:
“بابا، ممكن نعدي على مي ونأخذها معانا في الطريق؟”
ابتسم محسن وهو يرتدي معطفه:
“حاضر يا ست الكل.”
نرمين من غرفة أخرى:
“أنا جاهزة يا همسة، إنتِ مستعدة؟”
همسة تنهدت بحزن:
“كان نفسي سيلا تكون معانا النهارده.”
ربت محسن على كتفها مطمئنًا:
“قربت ترجع لنا، خلاص القضية قربت تخلص، ومش هيطولوا لحد ما يمسكوهم.”
نرمين بتفاؤل:
“يارب يا حبيبي، إن شاء الله.”
أسرعوا للخروج، مروا على مي واصطحبوها معهم إلى المعرض.
في قاعة المسابقة…
قدمت همسة لوحاتها وسط توتر وحماس، وبنهاية اليوم حازت على المركز الثالث. فرحتها لم تكن مكتملة بسبب غياب سيلا، لكنها شعرت بالفخر بما حققته.
وبينما كانت تتلقى التهاني، تفاجأت بحضور وليد. شعرت بالتوتر فور أن رأته يتقدم نحوهم مبتسمًا، وقال:
“أهلاً يا عمي، عامل إيه؟ الصدفة الجميلة دي!”
نظر إليه محسن محاولًا تذكره:
“أهلاً وسهلاً، إحنا اتقابلنا قبل كده؟”
رد وليد بابتسامة:
“آه، اتقابلنا لما اتبدل تلفوني بتليفون بنت حضرتك.”
تذكر محسن الموقف وابتسم:
“آه، فعلاً. أهلاً يا بني.”
نظر وليد إلى همسة مباشرة، وقال بصوت عميق:
“مبروك.”
توترت همسة وردت بخجل:
“الله يبارك فيك.”
لاحظ محسن نظرات وليد، فسأله ليقطع الصمت:
“إنت مشترك في المسابقة ولا جاي مع حد؟”
انتبه وليد للسؤال بسرعة وأجاب:
“ها… لا، أنا جاي مع صديق مشترك في المسابقة.”
ثم أضاف:
“طيب، بعد إذنك، أروح أشوفه.”
أومأ محسن برأسه:
“تفضل.”
ابتعد وليد قليلاً عن المجموعة، لكنه ظل يراقبهم من بعيد. انتظر حتى وجد همسة تنسحب من وسطهم متوجهة إلى زاوية هادئة. انتهز الفرصة وتقدم نحوها بخطوات واثقة…
…
بعد دخول الحمام…
كانت سيلا تعلم أن الحمام هو المكان الوحيد في المنزل الذي يخلو من الكاميرات. دخلت بخطوات مترددة، وأغلقت الباب خلفها بإحكام. أخرجت حقيبتها الصغيرة من تحت معطفها، واحتضنتها لثوانٍ كما لو كانت تحمل كنزًا لا يُقدر بثمن. فتحت الحقيبة بسرعة وأخرجت منها جهاز لابتوب صغيرًا كان مخفيًا بعناية.
وضعت الجهاز على الأرضية، ثم أخرجت شاحنه ووصلته بالكهرباء. جلست بجانبه للحظات، تراقب ضوء الشحن وهو يضيء. كان قلبها ينبض بشدة؛ شعور من الخوف والحماس يملأ صدرها.
همست لنفسها بصوت خافت:
“لسّه بدري… لازم كل حاجة تكون في الوقت المناسب.”
قررت أن تترك الجهاز داخل الحمام لبعض الوقت حتى يكتمل شحنه. خرجت من الحمام وكأن شيئًا لم يكن، واتجهت إلى غرفتها. هناك، فتحت النافذة بهدوء وأخذت تراقب الخارج بعينين حذرتين. عندما رأت السيارة تدخل إلى ساحة المنزل، أسرعت عائدة إلى الحمام.
التقطت الجهاز المشحون وأخفته بعناية بين أغراضها. عادت إلى غرفتها بخطوات ثابتة، وأغلقت الباب وراءها. وضعت اللابتوب في مكان آمن وابتسمت بشعور من الانتصار.
همست مجددًا:
“كل حاجة بوقتها… وهعرف أتصرف.”
جلست على سريرها تحاول أن تبدو طبيعية، لكنها لم تستطع أن تهدئ من تسارع دقات قلبها. كانت تعلم أن ما ستفعله قد يكون مخاطرة كبيرة، لكنها لم تكن على استعداد للتراجع الآن.
ـــــــــــــــــــــــــ
بعد انتهاء المسابقة…
بعد أن انتهى الحفل وكرّمت همسة لحصولها على المركز الثالث، تقدم وليد إلى محسن بطلب مهذب:
“لو سمحت يا عمي، ممكن أتكلم مع حضرتك في موضوع مهم؟”
ابتسم محسن بترحيب:
“اتفضل، قول اللي عندك يا بني.”
وليد أشار إلى الخارج قائلاً:
“طيب ممكن نطلع برا شوية؟ الجو هنا دوشة وازدحام.”
هزّ محسن رأسه بالموافقة:
“ماشي، اتفضل.”
خرج الاثنان إلى ساحة المعرض بعيدًا عن الضوضاء، وهناك تحدث وليد بنبرة جادة:
“بصراحة يا عمي، أنا عارف إن الوقت ممكن ميكونش مناسب، بس أنا جاي أطلب إيد بنت حضرتك. شوف الوقت المناسب ليكم إمتى، وأنا هاجيب أخويا وابن عمي ونتقدم رسمي.”
تفاجأ محسن قليلاً لكنه رد بتروي:
“والله يا بني، الموضوع كبير وبيتطلب تفكير. البيت عندنا مش مهيأ للحاجة دي دلوقتي، وبنتي سيلا مش معانا…”
قاطعه وليد بسرعة وبحزم:
“أنا فاهم، وأنا مش مستعجل على حاجة. اللي بفكر فيه دلوقتي مجرد تعارف. لو حصل قبول ونصيب، مش هنتمم أي خطوة إلا لما بنتكم تكون موجودة ومعانا، وكمان في حضور عاصم، لأنه أخويا ومش بس ابن عمي. فحضرتك فكر براحتك وخد وقتك.”
أجاب محسن بتأنٍ:
“طيب، خليني أرجع البيت وأشاورهم الأول، وكمان أتكلم مع البنت. وبعد كده هرد عليك إن شاء الله.”
وليد رد بابتسامة ممتنة:
“تمام، مفيش مشكلة. ممكن أخد رقم حضرتك عشان أتابع معاك؟”
تبادل الاثنان أرقام الهواتف، واتفقا على أن يتم الرد خلال الأيام المقبلة. استأذن وليد بعد ذلك بالانصراف، بينما عاد محسن إلى الداخل حيث انتهت همسة من تسلم جائزتها.
—
في طريق العودة…
استقلوا السيارة، وأعادوا مي إلى منزلها قبل التوجه إلى بيتهم. طوال الطريق، بدا محسن شارد الذهن، مما دفع نرمين إلى سؤاله:
“مالك يا محسن؟ شكلك سرحان كده!”
ابتسم محسن بخفة وقال:
“لا مفيش حاجة، بس كنت بفكر في اللي حصل النهارده. على فكرة، وليد طلب إيد همسة.”
نظرت نرمين إليه بدهشة، بينما همسة شعرت بتوتر شديد وهي تسأل:
“طلب إيدي؟ إمتى ده؟ وإزاي؟”
حكى محسن بإيجاز عن الحديث الذي دار بينه وبين وليد، ثم أضاف:
“بس قلتله هفكر وأشاوركم الأول، ومش هيتم أي حاجة إلا لما نكون كلنا مستعدين.”
نرمين تحدثت:
“ربنا يكتب اللي فيه الخير، بس لازم نسأل البنت رأيها الأول.”
همسة، التي لم تتوقع الموقف، قالت بتوتر:
“أنا محتاجة وقت أفكر، ده موضوع كبير.”
محسن ابتسم وقال:
“خدي وقتك يا بنتي، أهم حاجة تكوني مرتاحة.”
عادوا إلى المنزل، وكل منهم يحمل في ذهنه أفكارًا مختلفة حول ما سيأتي لاحقًا.
داخل المكتب المظلم…
جلس الرجل الثائر على مكتبه، يتحدث إلى رجاله بصوت صارم:
“سننفذ بعد الغد. لا أريد أي تأخير أو أخطاء. سأتي أنا ورجالي، قم بتجهيز السيارات وكل ما يلزم.”
رد الرجل الآخر باحترام:
“تم تجهيز كل شيء يا سيدي، لا تقلق. الأمور تحت السيطرة.”
—
في منزل عاصم…
بدأ الجرح في ذراع سيلا يلتئم قليلاً، لكنها ما زالت متوترة من برودة أعصابه وتقلبات شخصيته. أحيانًا يبتسم ببرود كأن شيئًا لم يكن، وأحيانًا تتحول ملامحه إلى غضب ثائر دون سابق إنذار. بينما هي في غرفتها، همست لنفسها بغضب:
“مجنون… بارد… وغبي. يض،ربني بالنار ويقول قرصة ودن! المرة الجاية هيم.وتني، مريض متخلف!”
كلما حاولت نزع السوار حول معصمها، تفشل. قررت أن تواجهه، وذهبت إلى مكتبه وهي تغلي من الغضب. دفعت الباب دون استئذان وصرخت:
“أنت! أنا مش عايزة البتاعه دي. واجعة إيدي. فكها زي ما ركبتها!”
نظر إليها للحظة، ثم أعاد نظره إلى الأوراق أمامه دون أن ينبس بكلمة، كأنه لم يسمعها.
اشتعلت غضبًا وضربت الأرض بقدميها:
“أنت بارد كدة ليه! أنا مش طفلة عشان تلبسني دي كأني هضيع!”
توقف عن الكتابة، ورفع رأسه فجأة بغضب حاد. لكنها لم تمنحه الفرصة للرد، تركت المكتب وخرجت بقوة، وأغلقت الباب خلفها بصوت عالٍ.
عادت إلى غرفتها تتمتم:
“بارد! لوح ثلج مستفز… صبرني يا رب. والله ما أنا سايباك كده!”
—
داخل غرفتها…
جلست سيلا بغضب، ثم استجمعت أفكارها. فتحت حقيبتها وأخرجت الحاسوب المحمول الذي خبأته بعناية. دخلت الحمام لتجنب كاميرات المراقبة، وجلست لتبدأ خطتها.
فتحت صفحتها على الإنترنت، وبدأت بنشر صور ومعلومات عن الشركات التي يملكها، خاصة الشركة الجديدة في الغردقة. كتبت:
“كيف يمكن لرجل ثلاثيني أن يمتلك عشر شركات بهذا الحجم في وقت قصير؟ أموال هذه الشركات مشبوهة، وغالبًا ما تكون مرتبطة بغسيل أموال تابع للماف.يا. تابعوا هذه القضية للتأكد من مصداقية هذه الادعاءات.”
نشرت المقال على أكثر من موقع كبير، وأضافت صورًا ومستندات تعزز شكوكها. عندما انتهت، رسمت ابتسامة انتصار على شفتيها وأغلقت الحاسوب.
خرجت من الحمام وهي تهمس:
“دلوقتي تعرف إني مش سهلة.”
لكنها تفاجأت عندما فتحت الباب، لتجد عاصم يقف أمامها مباشرة، ملامحه جامدة ونظراته تخترقها. في يده كان يحمل هاتفًا يظهر إشعارًا بالمقال الذي نشرته، وصوته الهادئ والمخيف قال:
“كنتي فاكرة إنك هتلعبي عليا؟”
شعرت سيلا برعب يتسلل إلى قلبها، لكنها حاولت التماسك، متسائلة في داخلها: كيف عرف؟!
يتبع
تكملة الرواية من هنااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول 1من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني 2من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
التعليقات