التخطي إلى المحتوى

 

رواية عن تراض الفصل التاسع عشر والعشرين بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة الشروق للروايات)


رواية عن تراض الفصل التاسع عشر والعشرين بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة الشروق للروايات)

(١٩)

#رواية_عن_تراض

اعتدل في وقفته، ودسّ يديه في جيبي بنطاله، مستطردًا:

-القمر بيكون حواليه نجوم كتير بتبرق بس هو اللي منور، يعني لو غابت نجمه من النجوم أكيد مش هاخد بالي…

رمقها بنظرة سارع لغضها وأكمل:

-أما لو غاب القمر تلقائي هحس…  فاهماني؟

اتسعت عيناها، توهج القلق في ملامحها، هزت رأسها بعنـ ـف كأنها تحاول الهروب من وقع كلماته، وتمتمت بتلعثم:

-لا، أنا أصلًا مابفهمش…

زفر «عمرو» ضاحكًا، وكأن كلماتها أيقظته من شروده العميق. وسرعان ما تلاشت ضحكته حين تسللت حرارة غريبة إلى جسده، كأنها تحاول فضحه أمام نفسه. انتفض داخليًا، وأخذ يحك عنقه وهو يجول بنظره حوله بتوتر، كمن يخشى أن يلتقط أحدهم ارتباكه. ثم صدح صوت أفكاره ساخرًا: أجننت يا عمرو؟ إنها سراب المستفزة… ولن تتغير.

تراجع خطوة إلى الخلف، وبلع ريقه قبل أن يحاول إصلاح ما تفوّه به، متلعثمًا:

-إنتِ غالية عندي يعني… زي أختي وبقلق عليكِ طبعًا.

صفعها بتلك الجملة دون أن يدرك، فتجمدت للحظة، وكأن صقيعًا اجتاح ملامحها. حاولت أن تخفي وقع كلماته عليها، لكن عينيها المتسعتين خانتاها.

أما هو، فشعر بجفاف حلقه، حاول كسر الصمت وهو يتحاشى النظر إليها:

-يلا عشان وقفتنا طولت و… ومينفعش…

لم ترد، واكتفت بأن أشاحت وجهها، ومسحت أنفها بمنديلها الورقي، مُصدرة صوتًا جعله يقطب حاجبيه باشمئزاز:

-يا مقرفة، أنا واقف!

نظرت إليه بطرف عينها، ثم رفعت ذقنها بتحدٍّ مصطنع:

-وإيه المشكلة! يعني، إنت مبتعملش كده؟

ضحك بسخرية، ناظرًا إليها كأنها مخلوق لا يفهمه:

-بس مش قدام حد! إنتِ مش بس مستفزة، لا، ومقرفة كمان.

رفعت سبابتها بوجهه محذرة:

-احترم نفسك يا عمرو.

لوّح بيده بلا اهتمام زائف، متراجعًا خطوة:

-لا، مش وقت خناق خالص… أنا ماشي.

استدار بسرعة واتجه نحو «بدر»، الذي استقبله بابتسامة خبيثة وربت على كتفه:

-منوّر.

ضحك «عمرو» بخفوت، لكنه شيء ما ظل يشده إلى الخلف، وكأن جزءًا منه علق هناك. وبعفوية، انجذبت عيناه نحو «سراب»، التي كانت تتسلل إلى داخل البناية، ممسكةً بطرف فستانها كأنها تحتمي به… أو ربما تحاول إخفاء ارتباكها وهي تمر أمام الرجال الجالسين قبالة البيت.

في تلك اللحظة، لمس بداخله شيئًا… شيئًا لم يجرؤ على الاعتراف به حتى الآن. عبث بساعة يده، ثم نفخ متضجرًا من تلك المشاعر التي تتوهج داخله رغمًا عنه، وأغمض عينيه كأنه يهرب من فكرة ما.

حتى جاءه صوت «بدر» الساخر، قاطعًا شروده:

-إنت هتنام ولا إيه؟!

فتح «عمرو» عينيه ببطء وحدق فيه قائلًا بضيق:

-عايز ايه يا بدر؟ سيبني في حالي.

لم يأبه «بدر» بحدته، فقط ربت على فخذه وقال بجدية:

-مالك؟

تنفس «عمرو» الصعداء، ثم قال:

-مفيش حاجه، كان يوم صعب! وبفكر في خطـ ـف عامر اللي مقالش حاجه تريحنا دا كمان.

زم «بدر» شفتيه قليلًا، ثم مال نحوه قائلًا بخفوت:

-قالي إن اللي خطفه كان حد من الناس اللي قابلناهم في الحجز، فاكر؟

نظر «عمرو» لبدر وهو يفرك ذقنه بتفكير، فأضاف «بدر» بابتسامة هادئة:

-وأهو ده بقا لُطف الله وحكمته إللي إحنا مبندركهاش إلا متأخر، أو ممكن ماندركهاش خالص كمان، يعني لو مكناش دخلنا الحجز واتعرفنا على الناس دي ممكن عامر مكنش رجع أصلًا!

الاحتمال وحده جعل قلب «عمرو» يختلج، فهو لا يتخيل حياته بلا رفيق عمره وأخيه «عامر»، تمتم بصوت خافت محاولًا اخفاء قلقه:

-طيب وبعدين؟ هنعمل ايه يا بدر؟ أكيد حسين مش هيسكت!

هز «بدر» كتفيه بثقة وقال:

-وأكيد برده ربنا مش هيسيبنا يا عمرو وزي ما لطف بينا في كل اللي فات هيلطف بينا في كل اللي جاي، خلي عندك يقين بكده.

راقب «عمرو» نظرات «بدر» الواثقة للحظة، ثم ابتسم وربت على فخذه، قبل أن يمد بصره قليلًا إلى «نادر»، الجالس بجوار بدر، يعبث بهاتفه متظاهرًا بتجاهلهما. لكنه كان يسمعهما جيدًا.

شعر «عمرو» بوخزة ندم على ما فعله معه في الصباح، لكنه لم يكن مستعدًا لتحطيم الحاجز الذي لا يزال قائمًا بينهما، فلازال هناك شيء في صدره…

انتبه «عمرو» حين اقتربت «سعيدة» من البيت، فغمغم بضجر، لاحظ بدر غمغمته فزفر ضاحكًا…

كانت تتهادى بخطوات واثقة وابتسامة تعلو وجهها، وعيناها تتنقلان بين التفاصيل كأنها تصور المشهد من حولها. وحين التقت نظراتها بعمرو وبدر، أومأت برأسها قائلة بنبرة ماكرة:

-عقبالكم يا متواضعين.

ابتسم «بدر» وقال بخفة:

-عقبال عندك يا خاله سعيده.

لوّحت بيدها بإيماءة تنضح بالاعتزاز، ثم تابعت سيرها، وهي تمشط الأرض بعينيها كمن يفتش عن شيء سقط منه! وفجأة، توقفت… شيء ما لفت انتباهها…

انحنت والتقطت صورة مقلوبة على وجهها. حدقت فيها للحظة، كأنها تحاول معرفة صاحبتها، ثم قبضت عليها بإحكام وأسرعت إلى داخل البناية.

استغفروا  

                ★★★★★★★

                      داخل الشقة

علت الزغاريد، واختلط التصفيق الحار بصوت الأهازيج الدينية، حيث احتشدت الجارات وسيدات العائلة، ووجوههن مشعة بالفرح.

جلست «سراب» بينهن، لكنها لم تكن هناك حقًا. استمعت للكلمات، لكنها عبرتها كريحٍ خفيفة لم تعلق بها.

كانت «تقى» تجلس قبالتها، تضحك وعيناها تتوهجان بسعادة خالصة، وكأنها أخيرًا تمسك بحلمٍ انتظرته طويلًا، وبين لحظة وأخرى، كانت تعدّل طرف فستانها بيديها المرتجفتين من شدة توترها فقد كانت النظرات تحيط بها من كل اتجاه، لتباركها، وتغمرها بالإعجاب.

وإلى جانبها، جلس «عامر»، يرمقها خلسة، ونظراته تحكي أكثر مما قد تنطق به الكلمات. مزيج من الحب والفخر والسعادة.

لكن وسط هذا الصخب، لم يلحظ أحد الفراغ الذي بدأ يتشكل داخل قلب «سراب»؛ شعور غامض، وكأن جزءًا من عالمها انزلق من بين أصابعها دون أن تدرك…

«تُقى» أصبحت لعامر، صارت عالمه، وهو عالمها… أما هي، فباتت مجرد شاهدٍ على هذه الفرحة، تصفق كما يجب، تبتسم كما يُفترض، لكنها هناك ثقل غير مرئي يتربص داخلها.

لم تنتبه «سراب» لنظرات «رغدة» التي جلست على مقربة منها، تراقبها بين الحين والآخر بعينين يملؤهما القلق. كانت الأفكار تتلاطم داخل رأسها: هل يمكن أن يقع بدر في حبها؟ لا شك أن قربه منها يشكل تهديدًا، فهي جميلة بجاذبية عفوية، قادرة على لفت انتباه أي رجل. والأهم… معها أموال، وعمرها يناسبه، ولها صلة قرابة به! إن قارن بينهما، فلا شك أن كفتها سترجح.

شعرت بغصةٍ مفاجئة، ونهضت بحركة حادة وكأنها تفرّ من أفكارها قبل المكان. لم تلتفت إلى نداءات رحمة التي لحقتها، بل مضت مسرعة نحو الخارج.

وحين خرجت عندما رآها بدر، أطرق للحظة، وكأنه يعالج شيئًا داخله، ثم رفع رأسه مجددًا وثبّت عينيه على خطواتها حتى اختفت داخل منزلها.

                   على نحوٍ أخر 

حين دخلت سعيدة إلى الشقة، توقفت لحظة تتأمل العروس بابتسامة واسعة، قبل أن تتقدم نحو شيرين، التي استقبلتها بترحاب. ضمّتها سعيدة بحبور وهي تقول:

-عروسة ابنك قمر يا شيرين.

ابتسمت «شيرين» بمجاملة وقالت:

-قولي اللهم بارك يا حجه سعيده.

ضحكت «سعيدة» وهي تضع مظروفًا في يد شيرين به بعض النقود كهدية للعروسين، مرددة:

-اللهم بارك، يا أختي هو أنا هحسدها؟

ثم مدّت لها صورة وقالت بنبرة لا تخلو من الفضول:

-أنا لقيت الصوره دي قدام بيتكم!

نظرت «شيرين» بالصورة مضيقة جفنيها بتركيز، ثم قالت بدهشة:

-غريبه! دي صورة أمي! بس أنا مافتكرش إني كان عندي صوره زي دي!

كانت سعيده ترهف السمع وتتابع ملامح شيرين التي مطّت فمها باستغراب، لكنها لم تغرق في التفكير طويلًا، فربما كانت الصورة موجودة منذ زمن ولم تلحظها… تجاهلت الأمر بسرعة، بينما لم تعلق سعيدة، وتوجهت مباشرةً إلى حيث تجلس سراب، تلك التي حاولت جهدها إخفاء امتعاضها من هذه المجاورة الثقيلة.

مالت «سعيدة» نحوها وهمست بمكر:

-ها، عمرو هيتقدملك إمته إنتِ كمان؟

نفخت «سراب» بضجر وردت بنبرة قاطعة:

-يا حجه سعيده أنا وعمرو إخوات، متفكريش كتير!

ضحكت «سعيدة» بخبث وهي تردّ، وعيناها تلمعان بدهاء:

-ولما إنتِ وعمرو إخوات! رفضتِ بدر ليه؟ إنتِ وهو إخوات برضه!

لم ترد «سراب»، فقط رمقتها بنظرة حادة ممزوجة بابتسامة صفراء، قبل أن تشيح بوجهها، وهي تنفخ بضجر، تريد انهاء الحديث محاولة التملص من فخاخ تلك المرأة التي لا يفوتها شيء، التفتت «سراب» حين مدّت «سعيدة» يدها، وأمسكت بطرف فستانها، تتفحصه بإعجاب، قبل أن تهمس بفضول:

-الفستان الحلو ده… «تُقى» اللي عملته، طبعًا!

أومأت «سراب» بفتور، محاولة الاحتفاظ بقناعها المتماسك، لكن ابتسامتها المصطنعة تلاشت سريعًا كأنها لم تكن…

تابعت «سعيدة» حديثها، وهي تتحسس القماش بأناملها ببطء:

-القماشة بتاعته جميلة وحلوة أوي، مخليكِ شبه الأميرات… ليهم حق الرجالة يجروا وراكي! وأهو، على رأي المثل”لبّس البوصة تبقى عروسة…”

مصمصت سعيده شفتيها، بينما كانت عينا «سراب» تتسعان دهشة من كلمات تلك المرأة! تتساءل هل هي مدح أم… شيء آخر تمامًا؟

أردفت «سعيدة» بابتسامة واسعة كشفت عن نواياها المبطنة:

-عايزاكِ تبقي تخلي «تُقى» تعمل لمرات ابني واحد زيه!

ردّت «سراب» بجمود:

-إن شاء الله.

تجاهلت «سعيدة» فتور ردها كأنها لم تسمع، وأخذت تتحسس الفستان مجددًا، تكرر بإعجاب مبالغ فيه:

-روعة الفستان ده… مخليكِ حلوة أوي…

لم تكن كلماتها هي ما أزعج «سراب»، بل نظراتها… تلك النظرات التي تلسع الجلد كإبرة حادة، بل تزحف أسفل عظامها كريح باردة في ليلة شتوية، شعرت سراب بقشعريرة تجتاح جسدها، فنهضت على الفور، وكأن شيئًا مجهولًا يضغط على صدرها.

هرولت إلى المطبخ، ملأت قنينة ماء بيدين مرتجفتين، ثم وقفت في الركن، تهمس بآيات الله، تقرأ آية الكرسي والمعوذتين والإخلاص، تردد الأذكار بصوت خافت، وكأنها تحاول تطهير نفسها من أثر تلك العيون التي تخترقها.

شربت ثلاث جرعات، ثم خرجت بسرعة، تمرّ بالقنينة على أفراد العائلة واحدًا تلو الآخر، تحاول تحصينهم من سهام نظرات «سعيدة»، تلك النظرات التي لم تكن تخطئ هدفها أبدًا!

وحين عادت «سراب» إلى المطبخ لإعادة القنينة، وقع بصرها على «عمرو»، كان منشغلًا بجمع المشروبات الغازية والعصائر ليحملها إلى الرجال…

لم يلحظ وجودها، بينما وقفت هي في مكانها، تحدّق إليه بصمت… تراقب حركاته، ملامحه، وتلك اللامبالاة المزعجة التي تحيط به كدرع لا يُخترق لطلما تسائلت هل يشعر بها وبمشاعرها؟ ثم ماذا بعدُ؟ إلى أين يتحملها تلك المشاعر؟

قبضت على القنينة في يدها، وكأنها تشدّ على مشاعرها كي لا تنفلت…

ترددت للحظة، بين أن تستدير وتغادر، أو تقترب…

في النهاية، تقدّمت نحوه، مدّت يدها بالقنينة، وقالت بصوت هادئ، لكن حدّته كانت كامنة تحت السطح، كجمرة تحت رماد:

-خد، اشرب.

رفع عينيه إليها، تردّد للحظة، كأنّه يحاول سبر نواياها خلف هذا العرض البسيط، ثم وكأنّه قرر ألّا يمنح الأمر أهمية، هزّ رأسه ببرود وقال دون اكتراث:

-لا، أنا مش عطشان.

لكنها لم تسحب يدها، ولم تتراجع خطوة، بل شدّت قبضتها قليلًا حول القنينة وأعادت قولها بإصرار ناعم، لكنه لا يقبل الرفض:

-اشرب، دي ماية مقروء عليها قرآن، تحصنك من عين خالتك حسوده.

توقّف للحظة، نظر إلى القنينة بين يديها، ثم إليها، ثم عاد ببصره إلى القنينة مجددًا، وكأنه يزن كلماتها في ميزان خفي. وفي النهاية، ابتسم قبل أن يلتقطها منها ويشرب، متجنبًا النظر في عينيها، بينما هي بدورها أشاحت بوجهها، كأنّ بينهما حاجزًا غير مرئي، حاجزًا لم يُكسر بعد.

استدارت لتغادر، لكن صوته أوقفها عند العتبة، كان هادئًا، لكنه ينطوي على ما يشبه السخرية المستترة:

-هستأذنك بس يا أنسه سراب، تقابليني بـ أزايز المايه  دي، على ما أنزل بدول.

كان يحمل كرتونة من المعلبات ويشير بعينيه نحو زجاجات المياة البلاستكية، فتوقفت دون تردد، ولم تحاول تفسير نبرته، فقط أجابت بهدوء، وكأنها لم تفكر في الأمر:

-حاضر.

راقبته وهو يخرج أمامها، تاركًا وراءه شيئًا لم يُقال، لكنه بقي معلقًا في الهواء بينهما.

وبعد لحظات تبعته «سراب» حاملة الزجاجات المطلوبة، لكن ما كانت تحمله داخلها أثقل بكثير مما في يدها…

كان قلبها ينوء بثقل المشاعر المتناقضة التي تعصف بها ولا زالت تحاربها، لا تعرف إن كانت تطلق لها العنان أم تكبتها حتى لا تهدم ما تبقى من قلبها…

وقفت عند البوابة تنتظره أن يأتي إليها، وكلمات تقى تداهمها بلا رحمة:

“عمرو مش شكل عامر… عمرو عصبي… إنتِ وعمرو متنفعوش لبعض!”

ثم تكرر في ذهنها صوت تقى بعدما رفضت بدر:

“هتندمي… هتندمي… هتندمي…”

فخاطبت نفسها بنبرة مختنقة:

-كفايه بقا خلاص.

أخذت نفسًا عميقًا ثم زفرته ببطء علها تقذف تلك الأفكار بعيدًا عنها…

وبينما كان «عمرو» منشغلًا بتوزيع العصائر، اشارت «سراب» لـ «بدر» ليأخذ منها الزجاجات، فلم تثق بصوتها أن يخرج ثابتًا، فيما كانت وخزات الدموع تلمع في عينيها.

هرول «بدر» نحوها بصمت، التقط الزجاجات من يدها دون أن ينبس بكلمة، ودون أن يلتقي نظره بنظرها، وكأنهما يعيشان لحظة صامتة لكنها مشحونة بكل ما لم يُقال.

استدارت «سراب» لتغادر، لكنها توقفت فجأة، كأن قدمَيها جذبتاها للبقاء. رفعت عينيها، سارحة بين «عمرو» و«بدر».

عقلها يرتضي «بدر»، لكنه لا يحرّك شيئًا في قلبها، بينما «عمرو»… قلبها يختاره، لكن عقلها يرفضه بعناد.

وبينما كانت غارقة في أفكارها، انتبه «عمرو» أن «بدر» أخذ الزجاجات منها، لم يحتج لقول أي كلمات، نظراته الحادة نحو بدر كانت كافية، كزجرٍ صامتٍ فهمه «بدر» فورًا…

ثم استدار عمرو إلى «سراب»، ورماها بنظرة مطولة لم تكن مجرد عتاب، بل شيء أعمق… شيء كأنّه يُنذرها أو يحاسبها…

تجمّدت «سراب» مكانها للحظة، قبل أن تلتقط أنفاسها وتتحرك سريعًا نحو الأعلى، كأنها تهرب… لكن من ماذا؟ من نظرته أم من صراعها الداخلي؟ لا تدري.

استغفروا  

                          ★★★★

انتهى الحفل، وبدأت النساء من الجيران في المغادرة، تاركين العائلة خلفهم.

كان أفراد العائلة منشغلين في حديث جانبي مع رامي وريم، يتبادلون الضحكات والمناقشات حول عقد القران، ظهر صوت رامي بحـ ـماس يؤكد عليهم:

-متفكروش تعملوا الفرح واحنا مش موجودين!

تدخلت ريم سريعًا، متظاهرة بالتهديد وهي تلوّح بيدها:

-أيوه، وإلا والله أعيط بقا…

ضحك رامي وربّت على كتف زوجته بمودة، ثم قال مازحًا:

-اسمعوا بقى يا جماعة، كلوا إلا دموع المسكر! لازم تستنونا.

حتى الأولاد لم يفوّتوا الفرصة للتأكيد، وكانت اللهفة واضحة في نبراتهم. فقد خططوا للاستقرار في مصر قريبًا، وتمنوا لو لم تفوتهم تلك المناسبة السعيدة.

               ومن ناحية أخرى

جلس «عامر» جوار «تقى»، وأصابعه تحكم قبضتها على يدها وكأنه يخشى أن تفلت منه. حاولت أن تسحب يدها برفق، لكن قبضته ازدادت إحكامًا، مما جعلها تتنفس بعمق محاولة كبح توترها.

قالت بصوت خافت لكنه نافذ:

-عامر، سيب إيدي… عايزة أمشي.

نظر إليها بعينين يملؤهما العناد، وكأنه يرفض مجرد فكرة ابتعادها، ثم قال بنبرة مشحونة بالحلم الذي تحقق أخيرًا:

-تمشي؟! هو لسه فيه بُعد تاني؟!

طافت بنظراتها على العائلة الجالسة على بُعد مسافة  منهما، وكأنها تبحث عن مخرج أو دعم صامت. استنشقت نفسًا طويلًا، ثم نظرت إليه مجددًا، وسألته بجدية لم تستطع إخفاءها:

-مالك يا عامر؟ اتغيرت ليه؟ إنت متأكد إنك نفس الشخص اللي أعرفه؟

عقد حاجبيه قليلًا، ومط شفتيه في استغراب وكأنه لا يرى نفسه مختلفًا:

-مالي؟

تأملته للحظات، وكأنها تحاول أن تتعرف عليه من جديد، ثم قالت بصوت منخفض لكنه محمل بالوضوح:

-بقيت جريء بزيادة… أنا متعودة على عامر المحترم اللي مكنش حتى بيبصلي بالشكل ده! نظراتك دي… وطريقة كلامك… عاملة لي توتر.

لم يتراجع، بل ابتسم ابتسامة واسعة، وكأن كلماته ستبرر كل شيء:

-أعمل إيه يا تؤتؤ؟ من لحظة ما بقيتي على اسمي وأنا مش على بعضي، فرحان وعايز أرقص وأصرخ بأعلى صوت، وأقول لكل الناس إني بحبك… وإنك بقيتي زوجتي وحبيبتي في الحلال.

احمرّت وجنتاها، لكنها لم تستطع تجاهل شعورها بالخجل من هذا التغيير المفاجئ في أسلوبه، عدلت طرف حجابها وأشاحت وجهها عنه، ثم أعادته إليه مجددًا، قائلة بجدية:

-عامر، بجد… مينفعش كده، حتى لو حلال، الكلام ده يفضل بيننا و… مكنش فيه داعي للحضن قدام العيلة…

أخفضت عينيها محاولة إنهاء الحديث، لكنها شعرت بيده تلامس ذقنها برفق، يجبرها على رفع وجهها إليه مجددًا. التقت نظراتهما، فسألها بنبرة دافئة يغلفها الحنان:

-زعلتي؟

لم تجبه فورًا، فقط رمقته بنظرة تحمل خليطًا من التوتر والارتباك. لاحظ ذلك في عينيها، فابتسم بخفة وقال:

-طيب خلاص، أنا مقدرش أزعلك… من النهارده، الكلام ده هيبقى بيننا بس…. بس والله، كل اللي عملته ده كان من فرحتي بيكِ، مكنش قصدي أحرجك يا قلبي.

ابتسمت بخجل، لكن سرعان ما انطفأت ابتسامتها عندما وقعت عيناها على «سراب»، التي وقفت وحيدة في الشرفة، تعقد ذراعيها وتحدق في الأفق بشرود.

تسللت إلى قلب «تقى» تساؤلات قلقة؛ ماذا بها؟ هل حدث شيء آخر؟ هل ظهر حسين مجددًا؟

قطعت أفكارها نبرة عامر الرخيمة وهو يناديها:

-تقى.

التفتت إليه، فالتقت نظراتهما وتشابكت للحظة، قبل أن تخفض بصرها بحياء، وهناك ابتسامة دافئة ترتسم على شفتيها.

مال «عامر» نحوها وهمس:

-بحبك.

اتسعت ابتسامتها، ثم انخرطا في حديث مرح، يغازلها فتضحك…

وفي تلك اللحظة…

استدارت «سراب»، وكأن ضحكاتهما أيقظتها من شرودها. نظرت إليهما للحظة، ثم رسمت على شفتيها ابتسامة هادئة، قبل أن تعود للتحديق في الأفق، غارقة في أفكارها التي لا يعلمها أحد.

-سراب!

انتفضت والتفتت بسرعة، كأن صوته اخترق شرودها كطلقة مباغتة. كان «عمرو» يقف خلفها، عيناه تراقبانها بتمعن، كأنه يحاول قراءة أفكارها.

لم تعلّق، فقط عادت تنظر للأمام، متظاهرة بتجاهل وجوده، رغم أن داخلها كان يموج بشيء آخر… وداخله كذلك.

شعر بجدارها البارد، فتنحنح متلعثمًا قبل أن يقول:

-جدك بيقولكم إنه هيطلع ينام، وبكرة لازم تطلعوا تفطروا معاه ضروري.

لم تلتفت إليه، اكتفت بقول:

-ماشي.

وقف بجوارها، يستند على سور الشرفة، بينما كان الصمت يثقل الهواء بينهما. كان بإمكانه سماع أنفاسها وهي تتنهد أكثر من مرة بهدوء، ذلك الهدوء المزعوم الذي يخفي تحته توترًا دفينًا.

عبث بيديه، كأنهما وحدهما من يستطيعان التعبير عن أفكاره المضطربة… رمقها بنظرة خاطفة، ثم خرج صوته فجأة، كأنه لم يعد يحتمل كتمان ما يدور بداخله أكثر:

-لما نزلتي ورايا بأزايز المايه، مكنتيش عارفه تصبري شوية على ما أجي؟! لازم يعني تشاوري لبدر؟!

رمقته بطرف عينها، زفرت ببطء، ثم قالت بحدة خافتة، كمن يزن كلماته قبل أن يرميها في وجهه:

-وإيه المشكلة لما أشاور لبدر؟!

فتح فمه ليرد، لكن الكلمات علقت في حلقه… ما المشكلة حقًا؟ لا يوجد منطق لاعتراضه، ومع ذلك، شعر بشيء لم يستطع تسميته. شيء مزعج، ثقيل، يرفض الاعتراف به حتى لنفسه. فابتلع جملته، وصمت.

طال بينهما الصمت، قبل أن يقطعه بنبرة هادئة:

-أنا عملتلك بيدچ، وضبطتهالك، هتبدأي تعلني عن شغلك عليها، وأنا معاكِ. وتقدري تقفلي البيوتي سنتر اللي ملوش لازمة ده، وترجعي تشتغلي معايا في الجيم.

التفتت إليه هذه المرة، وعيناها تضيقان ببطء، قبل أن ترتفع إحدى حاجبيها بسخرية واضحة:

-كان فيه حد بيقول إننا هنفصل الشراكة؟

أجاب بثقة، وهو ينظر أمامه، كأنه يقرر مصير شيء لا يريد أن ينظر إليه مباشرة:

-دا لو هتتجوزي.

ضحكت، ضحكة قصيرة، بلا مرح، ثم علّقت بلامبالاة متعمدة:

-يبقا هنفضل شركا لأن أنا مش ناوية أتجوز أصلًا.

لمعت في عينيه نظرة غامضة، وارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه، لكنها لم تصل إلى عينيه وهو يتمتم، بصوت بالكاد يُسمع:

-ولا أنا…

ساد الصمت مجددًا، لكن هذه المرة كان مختلفًا… أكثر كثافة، وأكثر شحنة. كأن هناك شيئًا غير مرئي يتمدد بينهما، يزداد وضوحًا، رغم أنه لم يُنطق به بعد.

                      بعد فترة 

وبعدما انصرف الجميع، بقيت شيرين وحدها، يحيط بها صمت ثقيل يكاد يخنقها. حدّقت في الفراغ بعينين تائهتين، وكأنها تبحث عن مخرج من دوامة أفكارها، تسارعت خفقات قلبها كانت أشبه بوخزات مؤلمة في صدرها، بينما صدى صوت ضميرها يتردد في كل خلية من جسدها، يجلدها بحدة.

الندم يعصف بها بلا رحمة، تتمنى لو يعود الزمن للوراء، تتمنى لو تملك الشجاعة لتقف أمام تُقى وتبوح بكل شيء، همست باعتراف موجع: 

-وياريتني قولتلها، لو كانت بنتي مكنتش هرضلها بكده! سامحني يارب أنا غلط غلطة كبيرة.

رددوا

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم  

                       ★★★★★

أشرق صباح جديد ليطوي صفحة من العمر ويفتح أخرى، لكنها لم تكن ناصعة البياض؛ فقد علقت بها آثار الأمس كندوب لا تُمحى.

فتحت «سراب» جفونها بتثاقل، وما إن همّت بالنهوض حتى التقطت أذناها صوت «تُقى» تتحدث مع «عامر».

زحفت من الفراش بصمت، وسارت إلى الخارج بخطواتٍ حذرة…

لم تلحظ تُقى قدومها؛ كانت منشغلة بالشريط الأحمر بين يديها، تتلمسه وكأنه قطعة من الماضي لا تريد التفريط بها. ابتسمت بخفة وهمست بصوت ناعم:

-أرميه إزاي! لا طبعًا، الشريط الأحمر ده ليه معانا ذكريات كتير.

ألقته جانبًا برفق، واتسعت ابتسامتها قبل أن ترفع يدها إلى شفتيها وتُقبل دبلة خطوبتها بحب. ثم استلقت على الأريكة، غارقة في لحظة دفء تخصها وحدها.

راقبتها «سراب» بصمت، ثم استدارت عائدة إلى غرفتها، لا تريد أن تقتحم عليها هذه اللحظات. لكنها، بعد برهة، حمحمت بصوت مسموع وأحدثت جلبة خفيفة قبل أن تخرج من جديد، وكأنها تمنح تُقى فرصة للانتباه.

انتفضت «تُقى» قليلًا واعتدلت في جلستها، قبل أن تقترب سراب وتلقي عليها تحية الصباح، ثم ترمق الهاتف على أذنها وتحمحم بخفوت قائلة:

-نسيت أقولك امبارح إن خالك عايزنا نفطر معاه ضروري.

-أيوه، كلمني من شوية، وكنت مستنياكي تصحي.

قالتها تقى، فردت سراب:

-طيب، هدخل أتوضى وأصلي وأجهز بسرعة.

-تمام.

قالتها «تقى» بإماءة خفيفة ودخلت «سراب» إلى المرحاض، بينما نهضت تُقى ودخلت غرفة وأغلقت بابها لتتحدث إلى عامر.

انتبهت «سراب» لفعلتها فوقفت بالمرحاض أمام المرآة تتأمل انعكاسها، تتساءل وتجيب حالها هل تغيرت تُقى؟ بلى، لم تعد تلك الفتاة التي تعرفها، صارت نسخة أخرى، امرأة تحمل ملامح الحلم في عينيها.

هل تغار منها؟ لا، هزت سراب رأسها نافِية هذه الفكرة، هي لا تغار، بل تتمنى لها السعادة، ولكن قلبها كان مثقلًا بشيء آخر… فراغ موحش تسلل إليها دون أن تنتبه، وكأنها وجدت نفسها فجأة وحيدة في عالمٍ لم يعد كما كان.

ربما تحمل أمواج السعادة شخصًا بعيدًا نحو أحلامه، لكن في طريقها تترك أثرًا صغيرًا، كحجرٍ يسقط في قلبٍ أحدهم، فأحدهم لا يحسد، ولا يحقد، لكنه… يخشى لوعة الاشتياق.

                       وبعد فترة وجيزة

في شقة بدر وعلى طاولة مستديرة، جلست «سراب» قبالة «بدر» مباشرة ولم يكن هذا الترتيب عشوائيًا؛ البدري هو من اختار أماكن جلوسهما، وكأنه يدفعهما للتقارب بطريقة غير مباشرة، وحتى حديثه، الذي بدا عفويًا، كان ينسج به خيوطًا خفية، يستدرج سراب للحديث عن طموحاتها ومشاعرها، بينما يتحدث عن «بدر»، ويلمّع صورته دون مواربة…

لكن «سراب» لم تكن من النوع الذي يُستدرج بسهولة…

رشقت البدري بنظرة مطولة ثم رفعت حاجبيها وسألت بصراحة أو ربما وقاحة:

-حضرتك عايز توصل لإيه؟ يعني يا إما بتحاول تخليني أندم إني رفضت بدر، يا إما بتحاول تفتح الكلام من جديد… والاتنين مرفوضين عندي.

صمت «البدري» لحظة، كأنه يزن كلماته بعناية، ثم تنهد بعمق وقال بهدوء:

-ليه يا سراب؟ ماله بدر؟ لو كنت شايف فيه غلطة واحدة، مكنتش هرضاه ليكِ.

كان «بدر» يراقب جده بصمت، تتأرجح ملامحه بين الحذر والجمود، كأن الصراع داخله يحاول أن يجد مخرجًا. التفت إلى «سراب»، التي بدت كأنها تتوسله بنظراتها أن ينطق، أن يُنهي هذا الحديث بأي كلمة، لكن حين التقت أعينهما… كان التلاقِي غامضًا، مشحونًا بنفور غير معلن.

توردت وجنتاها بحياء، وأخفضت بصرها سريعًا كمن احترقت أنامله بجمر، ثم تمتمت بصوت خافت، لكنه جاء حازمًا رغم ضعفه:

-يا جدو، أنا مش عايزة أتجوز أصلًا… بالله عليك متضغطش عليَّ، أنا والله فيَّ اللي مكفيني.

نظر إليها الجد بحنان، ثم قال بصوت تخللته مسحة رجاء:

-وأنا بحاول أخفف عنك حملك يا بنتي، عايزك ترمي همومك بين إيدين راجل يقدر يشيلها ويشيلك.

حينئذٍ قاطع «بدر» الحديث بحمحمة خافتة تلتها صوت هادئ لكنه ثابت:

-يا جدو، هو إحنا مش أنهينا الموضوع ده؟

هدر البدري بغضب وهو يطرق بعصاه الأرض:

-لا، الموضوع ما انتهاش، ومش هينتهي إلا لما أطمن عليكوا.

ظل «بدر» محتفظًا بهدوئه، وقال بصوت مطمئن:

-يا حبيبي، أنا فاهمك… إنت عايز حد يحمي سراب وتقى، صح؟ وأنا موجود، وهفضل موجود جنبهم من غير جواز ولا أي حاجة، ومتنساش عامر وعمو دياب والعيلة كلها في ظهرهم… أنا مش عايزك تقلق…

حدّق الجد في حفيده للحظات، كأنه يبحث في عينيه عن شيء مفقود، ثم قال بصوت خافت لكنه ذو معنى:

-عشان خاطري، فكروا تاني…

عندها، نهضت سراب فجأة، تدفع الكرسي للخلف بحركة حادة، وقالت بحسم:

-أنا آسفة، لازم أستأذن، عندي شغل… وآسفة كمان لأني مش هفكر… الموضوع انتهى هنا.

ثم خرجت من الشقة، تاركة خلفها أعينًا تحملق في أثرها…

نهضت «تقى»، التي لم تنبس ببنت شفة طوال الجلسة، وقالت للبدري بصوت خافت لكن واثق:

-متزعلش منها يا خالي، أنا هتكلم معاها، متقلقش.

هزّ «البدري» رأسه بإيماءة خفيفة وقال:

-حاولي تقنعيها، حاولي يا تقى.

أومأت «تقى» وخرجت خلف «سراب»، بينما نظر «بدر» إلى جده باندهاش قبل أن يقول:

-حضرتك مستني موافقتها وأنا أصلًا مش موافق؟!

ابتسم «البدري» ابتسامة ذات مغزى وقال:

-إنت أمرك سهل… وأنا عارف إزاي أقنعك.

أطرق «بدر» برهة، مخاطبًا نفسه أن أمره ليس سهلًا أبدًا كما يتوقع جده، ثم زفر براحة، مطمئنًا أن «سراب» لن توافق مهما حدث… وهذا وحده، كافٍ ليبدد قلقه.

أخذ «البدري» يفرك لحيته ببطء، لم يكن هذا ما أراد، فقد قرر مسبقًا جذبهما لبعضهما رويدًا رويدًا، لكنه دفعهما نحو بعضهما بعنـ ـف فحُق لهما التنافر…

فقد جمعهم وكان ينتظر قدوم عمرو وعامر لمناقشة اختفاء «عامر» المباغت ليلة أمس، لكن سراب، تلك الحاذقة، جذبت الكلمات من جوفه، فلفظها دون أن يشعر…

وبينما كان يحدق في الفراغ، عاد إليه شبح الليلة الماضية، عندما جاب بعينيه وجوه من حوله، يتشبث بأمل العثور على ابنه ولكن فجأة…  أدرك أن الصورة… الصورة سقطت منه! اتسعت عيناه، وراح يقلب بصره في الأرجاء بلهفة، ثم أطلق يديه يبحث بجنون في جيوب عباءته.

رفع «بدر» رأسه إليه مستغربًا:

-بتدور على حاجة يا جدي؟

رد «البدري» بصوت مضطرب، كأنما يخشى أن يكون فقدها للأبد:

-الصورة! صورة صفية… باين وقعت مني!

لم ينتظر «بدر» مزيدًا من الإيضاح، فانحنى يبحث معه، يجول بين زوايا الشقة، يقلب الأثاث بعجلة، يحدق في كل ركن، لكن لا أثر للصورة…

وبعد فترة وقف بدر متخصرًا وهو يقول بنبرة حاول أن يجعلها مطمئنة:

-هتروح فين يعني يا جدي؟ أنا هدورلك عليها في الشارع ولا على السلم متقلقش…

                   على الصعيد الأخر 

نزلت «سراب» الدرج بخطواتٍ متلاحقة، وكأنها تهرب من ثقل رهيب جثم على صدرها. أنفاسها تتسارع، وأسنانها تطبق على بعضها بغيظ، فكل شيء حولها بات خانقًا، مرهقًا، يضغط على روحها بلا هوادة!

سمعت صوت «تُقى» تناديها، لكن قدميها لم تتوقفا، خرجت من البناية تمامًا في اللحظة التي خرج فيها «عمرو» و«عامر» من بيتهم، بينما ظلت «تُقى» تلهث خلفها، وتصيح باسمها حتى توقفت سراب واستدارت لها بوجه محتقن، وما إن التقت عيناهما حتى قالت تُقى بنبرة حادة:

-إنتِ واخده في وشك وزعلانة ليه؟ خالي خايف عليكِ، إنما إنتِ بجد وقحة!

تأرجحت نظرات سراب بين «عمرو» و«عامر» اللذين اقتربا منهما، ثم عادت لتقى وحدجتها بنظرة ملتهبة، قبل أن تنطق بعصبية، وكلماتها تقطر حدة:

-أنا مَسمحش لأي حد يتدخل في حياتي! ورفضت يعني رفضت! ولو سمحتِ، متتكلميش معايا في الموضوع ده تاني، وإلا هنزعل من بعض!

جذبتها تُقى من ذراعها بقـ ـوة، وعيناها تومضان بتصميم حاد وهي تقول:

-تعالي نطلع نتكلم فوق…

سحبت «سراب» يدها بعـ ـنف، وكأنها ترفض أن تُساق إلى معـ ـركة تعلم نتيجتها مسبقًا، قالت بنبرة جافة:

-قُلت مش هنتكلم في الموضوع ده تاني…

ارتسمت قسوة خاطفة على ملامح تُقى، ثم رشقتها بنظرة نافذة قبل أن تعاود الإمساك بها، تجذبها بقـ ـوة نحو البناية وهي تقول بصرامة:

-لا، هنتكلم! عشان إنتِ مش عارفة مصلحتك يا سراب!

هذه المرة، نزعت «سراب» ذراعها بقـ ـوة أشد، تخللت أنفاسها حرارة الانفعال وهي تنطق:

-ملكيش دعوة بيا!

خيم التوتر بينهما، كأن الهواء صار أثقل، وكأن الشرر المشتعل في العيون قد يتجسد إلى نيران تلتهم المسافة بينهما، قبل أن يتصاعد الصدام، اخترق صوت «عامر» التوتر، هادئًا لكنه محمل بالحذر:

-في إيه يا جماعة؟

رمقته «سراب» بنظرة مقتضبة، وكأنها لم تعد تملك طاقة للجدال، ثم تمتمت بجمود:

-مفيش…

استدارت مبتعدة، بخطواتٍ حثيثة كأنها تهرب من ساحة معركة، لكن صوت تُقى لاحقها هذه المرة ممتلئًا بغيظٍ لم يعُد بإمكانها كبته:

-هتفضلي طول عمرك متهورة ومش عارفة إنتِ عايزة إيه!

توقفت «سراب» فجأة، استدارت ببطء، وعلى وجهها ابتسامة باهتة، لكن عينيها حملتا ظلالًا أثقل من أي كلمات، ثم همست:

-كفاية إنك إنتِ عارفة إنتِ عايزة إيه… وحققتيه.

قالتها، ثم رمقت «عامر» بنظرة غامضة، كأنها تُحمله شيئًا لم تفصح عنه، وهمّت بالمغادرة، لكن صوت «عمرو» الذي كان يتابع ما يجري في ذهول، قطع خطواتها:

-رايحة فين يا سراب؟

ثم التفت إلى تُقى، يحرك يديه وهو يسألها بنبرة حملت مزيجًا من القلق والاستفهام:

-هو إيه اللي حصل يا تُقى؟

لم تجبه تقى، بل صاحت فجأة، وكأن الكلمات انفجرت منها دون تفكير:

-إنتِ غيرانة مني يا سراب؟!

شعرت «سراب» وكأن طعنة اخترقت ظهرها، فتوقفت في مكانها، استدارت إليها بصدمة، ونظرتها تحمل مرارة لا تخطئها العين، ثم تمتمت بسخرية مكسورة:

-شكرًا لحُسن ظنك فيا يا… يا خالتي.

ثم استدارت، تتابع طريقها بخطوات ثقيلة، أخذ الجميع يراقبها، ظهرها منحني، وكتفاها المتهدلتان كأنها تحمل على عاتقها عبئًا أثقل من قدرتها على الاحتمال.

ثم، فجأة…

ترنحت، وكأن الأرض مادت تحت قدميها. لم تمهلها الدوامة كثيرًا قبل أن تنحني فجأة، تتقيأ بحدة، تشعر بمعدتها تنقبض في ألم.

حاولت التمسك بجذع شجرة قريبة، لكن الدوار كان أسرع منها.

ركض الجميع نحوها، وتقدمت «تُقى» أولهم، تسندها بذعر، وخرج صوتها مهتز بالقلق والندم:

-إيه يا سراب! أنا آسفة… أنا آسفة… متزعليش مني!

لم ترد «سراب»، وعيناها نصف مغمضتين، وجسدها مترنح بين الوعي واللاوعي، حتى خانها إدراكها وغابت عن الوعي بالكامل…

                     وبعد فترة

فتحت «سراب» جفونها ببطء، ضـ ـرب الضوء الخافت عينيها فأجبرها على إغماضهما للحظة قبل أن تحاول التأقلم. كانت ممددة على الأريكة في مدخل بيت دياب، جسدها مستسلم للإنهاك، وروحها أكثر وهنًا.

لم تكن بكامل وعيها، لكن شعرت بجهاز قياس الضغط وهو يلتف حول ذراعها…

اخترق وعيها صوت مألوف، خافت لكنه يحمل قلقًا مستترًا:

-فتحت عينيها أهيه…

كان صوت عمرو، تلاه تعليق شيرين التي تجلس إلى جوارها، تحمل في نبرتها عتابًا ممتزجًا بعجز:

-ما بتاكلش، لازم يحصلها أكتر من كده!

جاء صوت «تُقى» متعبًا، يحمل داخله انكسارًا لم تستطع إخفاءه:

-عنيدة… وأنا تعبت منها والله يا طنط.

قطع «عمرو» الحوار بحسم، ناظرًا إلى شاشة جهاز الضغط:

-ضغطها واطي، أنا رأيي نعلقلها محلول… هرن على الدكتور في الصيدلية يبعت حد يركبه لها.

تحركت عينا «سراب» ببطء، كأنها تزحف بحثًا عن مصدر الصوت، فقد كان «عمرو» يرتكز على ركبتيه جوارها لقياس الضغط، همست بجفاف:

– لأ… مش عايزة حاجة.

اعتدل «عمرو» واقفًا، أخرج هاتفه وهو يرد ببرود:

-أنا أصلًا مش باخد رأيك.

وبينما انشغل بالمكالمة، حاولت «سراب» أن تعتدل جالسة، لكن الوهن كان أقوى منها. شعرت بيد شيرين تلتف حول يدها، ربتت عليها بلطف كأنها تطمئنها رغم قلقها الواضح وقالت:

-خليكِ زي ما إنتِ يا بنتي… ارتاحي.

في تلك اللحظة، نزل «عامر» مسرعًا من الطابق العلوي وهو يحمل علب عصير، فتح واحدة وقربتها شيرين من شفتي سراب قائلة برجاء:

-اشربي…

أغمضت «سراب» عينيها بإصرار وهمست بصوت ضعيف:

-مش عايزة…

نفد صبر شيرين، فهتفت بنبرة أم حازمة:

-مفيش حاجة اسمها مش عايزة، اشربي يا سراب.

لم تجادل «سراب»، فتحت فمها قليلًا وتجرعت رشفة، لكن عيناها امتلأتا بالدموع، وكأنها تستسلم رغمًا عنها… لم يلبث الأمر طويلًا حتى اجتاحتها نوبة تقيؤ مفاجئة، تقيأت ما شربته بالكامل، لتغرق ملابسها وملابس شيرين معها…

ارتفع نشيجها المرتجف، وتضاعفت شهقاتها، لكنها لم تجد في عيني شيرين أي اشمئزاز، بل ضمتها بقـ ـوة وهمست بحنو:

-معلش يا حبيبة قلبي… أنا اللي ضغطت عليكِ تشربيه.

اقترب عمرو، ناظرًا إلى شيرين بجدية، وقال بحزم:

-يا ماما، دي مش نافع معاها غير المحلول.

أجابته «شيرين» بقلق واضح، وهي تراقب سراب التي بدت على وشك الانهيار:

-طيب شيلها يا عمرو، طلعها فوق عشان نغسلها وتغير قبل ما الدكتورة تيجي بالمحلول.

أومأ «عمرو» دون جدال، ثم انحنى ليستعد لحمل «سراب»، لكن الأخيرة انتفضت رغم وهنها، وكأن الخوف والرفض أعادا إليها بعض الحياة، هتفت بصوت متقطع، متشبثة بما تبقى لها من سيطرة:

-لأ… متشيلنيش!

لكن اعتراضها ضاع في الهواء، بلا صدى.

تجاهل عمرو ارتجافها ومحاولتها الواهنة للتملص، ورفعها بين ذراعيه بسهولة، وكأنها لا تزن شيئًا، رغم أنها شعرت وكأن الأرض تنسحب من تحت قدميها. همست برجاء مكسور، صوتها بالكاد يُسمع:

-سيبني…

زفر عمرو وهو يشدد قبضته حولها، محاولًا إخفاء قلقه خلف قناع من السخرية:

-اهدي بقى يا بنتي… هو أنا خـ ـاطفك؟ وبعدين، إنتِ تقيلة أوي!

لكن خلف كلماته الساخرة كان قلبه يخفق بجنون، مشاعر متشابكة تضغط على صدره، ولم يكن يشغل تفكيره في تلك اللحظة شيء سوى قلقه عليها.

حتى شيرين حين طلبت منه يحملها، لم يكن بداخلها سوى اضطراب ممزوج بالذعر على حالة سراب، وهي تراها بهذا الضعف للمرة الأولى.

تلاشى صوت «سراب» تدريجيًا، وبدأت جفونها تنسدل باستسلام، وكأنها تهوي في فراغ لا نهاية له.

لم تكن نائمة، لكنها شعرت بثقل رأسها وكأنها تغرق في ضباب كثيف، والأصوات من حولها بدت بعيدة، متداخلة، كأنها عالقة بين الواقع والحلم… ترى، وتسمع، لكنها ليست هنا.

صعد «عمرو» درجتين، وخلفه شيرين التي التفت لتُقى التي تتبعهم، وقالت بنبرة هادئة:

-معلش، هاتيلها هدوم عشان تغير يا تُقى…

-حاضر، حالًا…

قالتها «تُقى» بصوت مختنق، وكأن القلق يضغط على صدرها، قبل أن تسرع للخارج، يتبعها «عامر» بصمت، لم يتكلم، فقط أمسك بيدها برفق، كأنه يطمئنها أنه هنا… إلى جوارها، فلا تقلق.

وبينما كانا يصعدان الدرج، تصادفا مع «بدر» الذي كان يهبط ببطء، عينيه مثبتتان على درجات السلم يبحث عن الصورة التي سقطت من جده، وما أن رفع رأسه وأبصرهما، ألقى السلام.

رد «عامر»، فانعقد حاجبا بدر، وطالع عامر سائلًا بنبرة فضولية:

-رايحين فين كده؟ وسراب راحت فين؟

قال «عامر» بنبرة هادئة، لكنها حملت بين طياتها قلقًا خفيًا:

-في بيتنا… أصلها تعبانة شوية.

تغيرت ملامح «بدر» على الفور، واتسعت عيناه بلهفة:

-مالها؟ حصل إيه؟

وقفت «تُقى» تتابع الحديث بصمت، قبل أن يشير إليها عامر قائلاً:

-روحي إنتِ يا تُقى هاتيلها هدوم…

أومأت بهدوء، وفتحت باب شقتها لتختفي خلفه، بينما استدار «عامر» إلى «بدر» وأخذ يحكي له بإيجاز عن الإغماءة المباغتة التي أصابت سراب. زَمَّ بدر شفتيه، وظل صامتًا للحظات كأنه يستوعب الأمر، ثم زفر قائلًا:

-جدي فتح موضوع جوازنا تاني، وهي زعلت ومشيت… البنت دي عصبية، بس بتكتم كل حاجة جواها.

أطرق «عامر» مفكرًا، ثم رفع رأسه فجأة ليباغته بسؤال لم يكن متوقعًا:

-هو إنت معجب بيها؟

نظر «بدر» إليه بصدمة، وأشار إلى نفسه كأنه لم يصدق السؤال:

-أنا؟! لا والله، أنا بس… مشفق عليها، مش أكتر.

ثم اقترب من عامر، ووضع يده على كتفه، مال نحوه هامسًا بصوت منخفض لكن نبرته تحمل مكرًا واضحًا:

-بقولك إيه، هو عمرو أخوك… مش ناوي ياخد خطوة؟

ضاقت عينا عامر، وهو يحدق فيه بريبة:

-خطوة؟ تقصد إيه؟

ابتسم «بدر» ابتسامة جانبية، هامسًا بجديّة خبيثة:

-خطوة ناحية سراب! لو هو مش ناوي، أنا ممكن أفكر في الموضوع وأوافق عليها… هي مش وحشة، وتعجب أي حد، وأنا لو فتحتلها قلبي، أكيد هتدخل، ولو خبطت على باب قلبها هتفتحلي، ولا إنت إيه رأيك؟

حدق به عامر مطولًا، كأنه يحاول تفكيك نواياه، ثم قال بتحذير خافت:

-الكلام ده خطير… إياك تقوله قدام عمرو!

ضحك بدر بخفة، وربت على كتف عامر قبل أن يغمزه بمرح:

-تمام، يبقى إنت كده معايا على الخط… الكلام ده بقا وصّلهوله.

اتسعت عينا عامر، ورمقه بنظرة جانبية متوجسة:

-أنا؟! لا لا مليش دعوه، قوله بنفسك.

هز بدر رأسه بإصرار وهو يقول:

-أكيد هقوله، لو مش هياخد خطوه أنا مش هسيب سراب.

شيء في نبرته جعله يبدو أكثر جدية مما يجب، مما دفع عامر لسؤاله بريبة:

-فعلًا؟!

أومأ له «بدر» مؤكدًا، ثم تبادلا نظرات ذات مغزى، همّ بدر بإكمال نزوله على الدرج، لكنه توقف فجأة، متلفتًا حوله قبل أن يسأل:

-ملمحتش صورة واقعة هنا ولا هنا؟

رفع عامر حاجبيه باستغراب قبل أن يهز رأسه قائلاً:

-لا والله.

أومأ «بدر» ببطء وكأنه يزن الرد، ثم تابع طريقه بخطوات خفيفة وهو يصفر بنغمة مرحة.

ظل «عامر» يراقبه للحظات، ثم زفر بعمق وتمتم:

-وبعدين معاك يا عمرو؟!

في تلك اللحظة، خرجت تُقى من الشقة، تحمل بيدها الملابس، وملامحها مثقلة بالهم. كأن قلبها ينوء بما لا تستطيع البوح به، فتوقف عامر عن التفكير في عمرو، وألقى عليها نظرة خاطفة قبل أن يحتضن كتفيها برفق، قال بصوت هادئ مطمئن:

-روقي، والله هتبقى كويسة.

ابتلعت «تُقى» غصّة حارقة، وكأن الكلمات وحدها لم تعد تكفي لتخفيف وطأة الذنب على قلبها. تمتمت برجاء، وعيناها تلمعان بقلق حقيقي:

-يارب يا عامر… والله ضميري مأنّبني أوي على اللي أنا قولته لها… سراب عمرها ما تغير مني، أصلًا قلبها ما يعرفش معنى الغيرة ولا الحقد…

تحشرج صوتها عند آخر جملة، واهتزت شفتاها قبل أن تجهش ببكاء مكظوم.

توقف عامر قبالتها، ممسكًا بيديها بلطف، وقال بحزم:

-انسي يا تُقى، بلاش تنكدي على نفسك بالكلام ده… إنتِ كنتِ متعصبة، وسراب أكيد هتفهم ده.

وبأنامله الدافئة، مسح دموعها وتأمل وجهها للحظات، كأنه يبحث عن بقايا ابتسامتها الضائعة. ثم، بحركة عفوية، عدّل حجابها برقة، فرفعت عينيها نحوه بابتسامة واهنة، مشوبة بالحزن، فقد كانت سعادتها بوجوده إلى جوارها تتعكر كلما تذكرت سراب.

اقترب عامر أكثر، مال نحو أذنها وهمس بمكر:

-طيب، أنا كنت قلتلك امبارح إني بحبك، ولسه مستني الرد.

طالعته بامتعاض، وقالت بنزق:

-هو ده وقته بالله عليك؟!

ضحك بخفة، وهز كتفيه قائلًا بمزاح:

-طيب خلاص هستنى شويه كمان…

ثم أمسك بيدها وسارا معًا، خطوة تتبع الأخرى، بينما بقيت أفكارها مثقلة بما قالته لسراب وما حدث لها…

استغفروا  

                        ★★★★★

أوشكت الشمس على الرحيل، مسدلة ستائرها الوردية على الأفق، وكأنها تودّع الأرض بحزن خافت…

مكثت «سراب» طوال النهار في منزل دياب، تائهة بين يقظة وغياب، كأنها عالقة في نقطة رمادية بين الواقع والحلم، مستلقية على الفراش، وعيناها شاخصتان في السقف بلا تركيز، بينما الوسادة أسفلها تبتل بصمت، شاهدةً على العاصفة التي تعصف بروحها.

متى سقطت في بئر الضعف هذا؟ متى أصبحت هشة هكذا؟ كانت تؤمن أنها لا تُقهر، لا تنكسر، لكن ها هي الآن، قواها تذبل، وكيانها يتآكل ببطء كما ينهار جدار قديم بفعل الزمن.

قبضت على معدتها بأصابع مرتجفة، ذلك الألم الذي تعرفه جيدًا، لم يكن ألم جوع أو مرض، بل وجع الروح حين يُثقلها الحزن أو يجتاحها الغضب العارم.

شعرت بخطوات خفيفة تتسلل إلى الغرفة، لم تكن بحاجة إلى أن تلتفت لتعرف من القادم. 

دخلت «شيرين» بهدوء، تراقبها بحذر، وحين اقتربت، همست «سراب» بصوت مخنوق، بالكاد خرج من بين شفتيها المرتعشتين:

-إنتِ جيتِ يا ماما؟

وكأنها، في لحظة ضعفها القصوى، تبحث عن طيف أمها في غير موضعه…

أجابتها «شيرين» بصوت دافئ، وعيناها تلمعان بالشفقة والحنان:

-إيه يا قلبي؟ عايزة حاجة؟

لم ترفع سراب رأسها، لم تحاول حتى كبح شهقاتها المتكسرة، فقط همست بصوت مختنق، كأن الكلمات تخرج من بين شظاياها المبعثرة:

-احضنيني… أنا تعبانة أوي يا ماما…

ثم انفجرت بالبكاء، بحرقة جعلت جسدها يهتز، وكأنها تُفرغ كل الأوجاع المتراكمة دفعة واحدة. كان صوتها يتناغم مع أنين قلبها المحطم، يرتجف كطفلة تبحث عن الأمان وسط عاصفة.

لم تتردد شيرين لحظة، اقتربت منها وضمتها إلى صدرها بحنان، كأمٍّ تحتضن صغيرتها التائهة، تمسح على شعرها بحب صادق، بينما تشبثت سراب بها أكثر، تغرق في حضنها كأنه طوق نجاة، وهمست بين شهقاتها المرتجفة:

-متسبنيش يا ماما…

شدّت «شيرين» ذراعيها حولها أكثر، وكأنها تحاول أن تُعيد إليها شيئًا من الأمان المفقود، قبّلت رأسها بلطف، وهمست بصوتها الذي حمل كل الدفء والطمأنينة:

-مش هسيبك أبدًا والله… أنا جنبك دايمًا… جنبك أهوه يا بنتي.

كانت تعلم أن الكلمات وحدها لا تكفي، لكنها حاولت بكل ما أوتيت من حنان، أن تزرع الطمأنينة في قلب سراب.

بينما كانت تحتضنها، تسللت إلى عقلها صور بنتيها، وئام وهيام… تخيلتهما وحدهما في هذا العالم الغامض، يواجهان المصير نفسه، دون سند، دون يد تُربت على أوجاعهما. ارتجف قلبها للحظة، فزاد احتضانها لسراب، كأنها تحاول تعويضها عن كل الأحضان التي افتقدتها، أو ربما كانت تعوّض نفسها عن خوفها من فكرة الفقد.

قبّلت رأسها مرة، ثم مرة أخرى، ثم أخرى، وكأنها تحاول أن تثبت لها_ولنفسها_أنها هنا، وأنها لن ترحل، وكررت بصوت ممتلئ بالحب الخالص، والود النقي:

-مش هسيبك يا بنتي… مش هسيبك.

كانت تكررها بإصرار، لا فقط لتهدئتها، بل وكأنها تُقسم على ذلك لنفسها قبلها.

أحاطتها بعناق طويل، دافئ، ظلّ يحصّنها حتى بدأت أنفاس سراب تهدأ، وشهقاتها تخفت، كأنها وجدت أخيرًا بقعة أمان وسط عاصفة الوحدة والوجع، وكأن هذا الحضن أنعش قلبها وأعاده للحياة…

صلوا على خير الأنام

                    *********

في غرفة المعيشة…

ساد جوٌّ ثقيل من التوتر، وكأن الهواء نفسه مشحونٌ بالقلق. جلست تُقى بجوار «عامر»، تحدّق في الفراغ بعينين شاردتين، كأنها غارقة في بحرٍ من الأفكار التي لا تنتهي. كانت «سراب» تحتل جزءًا كبيرًا من عقلها، ترى صورتها وهي تنهار أمامها، كانت تُلقى باللوم على نفسها وكأنها أحد أسباب هذا السقوط، ولم يكن ذلك وحده ما يثقل صدرها، فقد كان اختطاف عامر بالأمس لا يزال يسيطر على ذهنها، يثير مخاوف، تُرى ماذا ينتظرهم في الأيام القادمة؟

ماذا لو اختفى عامر فجأة؟

أو اختفت سراب؟

الاحتمالات المرعبة كانت تتلاعب بها، تسحبها إلى دوّامةٍ من القلق، حتى انتشلها منها شيء لم تتوقعه لمسة عامر المفاجئة ليدها.

لم تكن مجرد لمسة، بل كانت أشبه برسالة غير منطوقة، طمأنة صامتة تخبرها بأنه هنا، بأنه لم يرحل.

رفعت عينيها نحوه، فوجدته يراقبها، نظراته تتابعها بين حين وآخر، يتأمل ملامحها الخالية من أي تعبير، وكأنها في عالم آخر، عالمٍ لا يستطيع الوصول إليه.

وفي المقابل…

كانت نداء تجلس بجوار رائد، بينما جلس دياب مقابلهما، وإلى جانبه عمرو الذي بدا غارقًا في تأملاته هو الآخر.

خيّم الصمت على الجميع، لكنه لم يكن صمتًا عاديًا، بل صمتًا مشحونًا بالكلمات غير المنطوقة، بالحيرة، وبالتساؤلات التي لم تجد طريقها للخروج. قطعه دياب أخيرًا، بصوت هادئ، لكنه مشحون بفضولٍ لم يحاول إخفاءه:

-ومين اللي طلع سراب هنا؟

مرّت لحظة، استعاد فيها عامر ما رآه في الصباح… لهفة عمرو التي لم يستطع كبحها حين سقطت سراب، صرخته التي خرجت قبل أن يدركها، وملامحه التي فاضت بالفزع، ثم حمله لها دون انتظار إذن أو أمر، وقضاءه اليوم كامل بالبيت يجول به بتوتر بليغ…

تذكر أيضًا تلك الغمزة السريعة التي ألقاها عمرو لوالدته قبل قليل، ليحثها على الدخول والاطمئنان عليها. كان يحاول أن يبدو متماسكًا، باردًا لكن… فضحته أفعاله رغمًا عنه.

حين طال الصمت، كرر دياب السؤال، بنبرة أكثر حدة هذه المرة، فأجاب «عامر» سريعًا، وكأن الكلمات قفزت من فمه قبل أن يفكر فيها:

-عمرو شالها يا بابا.

التفت «دياب» إلى «عمرو» فورًا، نظراته اخترقته بحدّة، كأنها تبحث في أعماقه، تتفحص ذلك الجدار الذي يحاول الاحتماء خلفه. شعر عمرو بوخزة تلك النظرة، فانخفض رأسه في توتر، ولم يجرؤ على رفع عينيه لملاقاة والده. لمَ؟ لا يدري… ربما كان حياءً، وربما كان خوفًا من أن تنكشف مشاعره التي يهرب منها…

عاد الصمت ليخيّم من جديد، حتى قطعه رائد متسائلًا بحذر:

-لو هي تعبانة أوي، ناخدها نكشف عليها؟

أسرعت تقى بالرد:

-فيه دكتورة جت وكشفت عليها، وركبنالها محاليل.

أطلق «دياب» تنهيدة حارّة، طويلة، كأنها تحمل ثقل همومٍ لم تُقال، ثم تمتم بصوت منخفض، وكأنه يحدّث نفسه أكثر مما يحدّثهم:

-لا حول ولا قوة إلا بالله… حد قال لبدر وجده؟

حاول «عامر» السيطرة على ارتباكه وكلماته وهو يقول:

-آآ… أيوة، بدر عارف، لكنه مرضاش يقول لجده حاجة.

رمق «عمرو» بنظرة خاطفة، لكنها كانت مشحونة بالكثير من المعاني، ثم أضاف بتلعثم، وكأنه يخشى رد الفعل:

-أصل سبب زعل سراب هو أن الحاج البدري مصمم على جواز بدر وسراب، وهي مش موافقة خالص…

عقد رائد حاجبيه في استغراب، وبنبرة تحمل تساؤلًا مستنكرًا نطق:

-والله الراجل عايز يطمن عليها، إيه اللي يزعل في كده؟ وبدر شخص محترم، أنا شايف إنه مناسب جدًا ليها، ومش هتلاقي زيه.

زحفت نظرات «عامر» نحو «عمرو»، الذي قبض يديه بقـ ـوة، وشد فكيه بحنقٍ مكتوم، وكأنه يمنع نفسه من الانفـ ـجار.

ابتلع «عامر» ريقه، والتفت إلى رائد متحدثًا بصوت خافت، متوجسًا من ردة فعل أخيه:

-بدر معندوش مشكلة يتجوزها، لكن المشكلة في سراب… هي اللي مش موافقة… بس تقوم بالسلامة كده، وإن شاء الله نتكلم معاها… يمكن توافق.

لم يكد يكمل جملته، إذ وثب «عمرو» فجأة من مكانه، وكأنه أراد الإختلاء بنفسه، أراد التفكير وحسم هذا الأمر الذي يضغط على صدره. عيناه كانتا مشتعـ ـلتين بالغضب، وأنفاسه متوترة، مما دفع دياب لسؤاله مباشرة:

-رايح فين يا عمرو؟

جاء رد «عمرو» حادًا، كأنه يضغط على أسنانه مع كل حرف ينطقه:

-رايح أصلي المغرب في الجامع، وهطلع على الچيم.

-طيب.

قالها «دياب» زافرًا ببطء، بينما راقب «عامر» خطوات أخيه السريعة، همساته الغاضبة، والطريقة التي أغلق بها الباب وكأنه يريد أن يعزل نفسه عن كل ما قيل. تابع حركته حتى اختفى عن الأنظار، ثم تنهد بقلق دفين، هامسًا بالدعاء.

لكن سرعان ما انتبه على صوت دياب:

-الراجل اللي خطفك ده يا عامر… كان عايز إيه؟

حاول عامر أن يحافظ على ثبات صوته وهو يرد:

-مش عارف والله يا بابا… المهم إني واثق إن حسين هو اللي عمل كده… مفيش غيره.

-احكيلي تاني يا عامر من الأول… يمكن أمسك طرف خيط.

قالها «رائد» وهو يحدّق في «عامر» بتركيز، فألقى الأخير عليه نظرة مترددة، ثم أخذ نفسًا عميقًا، كأنه يستعد للغوص مجددًا في تفاصيل لم يكن يرغب في استرجاعها. مرّر يده على وجهه بإرهاق، ثم بدأ يحكي، وصوته متذبذب بين التوتر والذهول.

أعاد سرد كل شيء… اللحظة التي وقف فيها مع تختخ عند المقهى، نبرة التهديد التي تسللت إلى صوت تختخ حين أمره بركوب السيارة نصف النقل، توسلاته اليائسة:

-سيبني، لو سمحت… أنا عريس النهارده… أجلها لبكره طيب!

لكن تختخ لم يكن متوترًا أو عنيفًا، بل بدا هادئًا على نحو غريب، حتى أنه ابتسم مطمئنًا وهو يقول:

-أنا عايز أحلل اللقمة يا سي العريس، لكن إنت هترجع لبيتك صاغ سليم، محدش هيمس شعره منك.

رغم ذلك، لم يشعر عامر بأي طمأنينة، فسأله، متشبثًا بآخر أمل لفهم ما يجري:

-طيب مين اللي طلب منك تخطفني؟

لكن الابتسامة سرعان ما اختفت عن وجه تختخ، وعيناه ضاقتا بدهاء وهو يرد ببرود:

-لأ… كله إلا شرف المهنة يا حضرة العالم.

وبعد ذلك، أخذه تختخ إلى بناية قديمة، صعد به إلى غرفة صغيرة فوق سطح بيت مهترئ. بقي عامر هناك لساعات، مستلقيًا على الفراش الوحيد في الغرفة، يعد الدقائق بقلق، يراقب الباب كأنه يتوقع أن ينفتح على مجهول أسوأ.

وحين حلّ المغرب، لم يكن يتخيل أن خروجه سيكون في موكب زفاف، مجموعة من الشباب أخذوه وسطهم، حتى وصل إلى منزله، دون أن يفهم لماذا خُطف أو لماذا أُعيد بهذه الطريقة.

حين انتهى من حديثه، ران الصمت للحظات. فرك رائد ذقنه، عيناه تلمعان بتفكير عميق، ثم قال ببطء:

-يبقى إحنا لازم ناخد بالنا كويس من أي حاجة بتحصل حوالينا…

في تلك اللحظة، كان دياب يتابع بصمت، ملامحه جامدة لكن نظراته تحمل ما لا يُقال. 

وعلى الجانب الآخر، جلست نداء بجوار تُقى، تربّت على ظهرها برفق، لكن كلماتها التي كانت تهمس بها لطمأنتها لم تستطع إخفاء التوتر الذي يسري في الأجواء كخيط غير مرئي، يخنق الجميع دون أن ينطقوا به.

استغفروا  

                    ★★★★★

ألقى الليل وشاحه المعتم، مُغطّيًا الأفق بخيوطه الداكنة، بينما كان صوت الإمام يخترق السكون، يتردد صداه في الأجواء وهو يُصلي العشاء. كان كل شيء هادئًا، لكنه لم يكن هدوء الراحة، بل هدوءًا مثقلًا بأفكار لا تهدأ.

أغلقت «رحمة» الهاتف بعد حديثها مع والدتها، التي لا تتحدث معهما إلا كل فترة طويلة.

لم يعد هناك الكثير ليُقال… فوالدتهما أصبح لها أسرة أخرى، زوج وطفلان وحياة مختلفة، حتى والدهما لم يكن استثناءً، فقد كوّن عائلة جديدة وأصبح له أبناء غيرهما.

خرجت إلى جدتها، تسير بخطوات مترددة، وفي ذهنها سؤال لم تستطع طرده، سؤال بقي يطاردها منذ أن سمعت نادر يعيرها بأن والدها تزوج والدتها بعدما حملت بهما… كلمات لم تستطع نسيانها.

أوقفت خطواتها للحظة، ونظرت إلى رغدة، التي كانت جالسة على الأريكة، غارقة في قراءة كتاب، وكأنها في عالم آخر. لكنها لم تسألها، بل تابعت سيرها نحو جدتها، لعلها تجد إجابة تشفي حيرتها.

جلست بجوارها، تراقب التلفاز معها بصمت، تلتفت نحوها بين الحين والآخر، وكأنها تستعد للحديث، ثم تتراجع، وتشيح بوجهها إلى الجهة الأخرى، تتردد… تُبالغ في حيرتها حتى انتبهت لها جدتها وسألتها بنبرة مباشرة:

-عايزة إيه يا رحمة؟

تلعثمت، وكأنها لم تتوقع أن تُكشف بسهولة:

-آآ… هو… هو جدو فين؟

-بيصلي العشا، عايزاه ليه؟

هزّت كتفيها بسرعة، محاوِلة إخفاء توترها:

-عـ… عادي بسأل عنه.

ثم نهضت فجأة، وكأنها تهرب من حديث لم ترد أن يمتد أكثر، وقالت بسرعة:

-آآ… أنا هروح عند عمو دياب شوية.

طالعتها جدتها بنظرة طويلة، متفحصة، وكأنها تحاول قراءة ما يدور في رأسها. تساءلت، هل تعترض أم تتركها؟ ربما يكون الأمر خيرًا… ربما يرتضيها عمرو زوجه، أو ربما… رغدة. لم تحسم الأمر، فقط أطالت الصمت، حتى اضطرت رحمة إلى تكرار طلبها:

-أروح ولا لأ يا تيته؟

أجابت الجدة أخيرًا، بلهجة حازمة لا تقبل الجدل:

-لو هتروحي، خدي رغدة معاكي، وإلا متروحيش.

أومأت «رحمة» بسرعة، وهرولت نحو «رغدة»، تتوسل إليها أن تذهب معها، بينما رفعت رغدة عينيها عن الكتاب، زافرة بضيق، لكنها رضخت، زنهضت في النهاية، متضجرة.

                     على نحوِ أخر

خرج «عمرو» من المسجد بعد صلاة العشاء، عابس الوجه، يسير بخطوات سريعة كأنه يحاول الهرب من شيء ما. تجاهل «بدر» مامًا رغم أن الأخير كان يناديه بإلحاح.

لم يحتمل «بدر» هذا التجاهل، فهرول خلفه حتى أدركه وسأله:

-مالك يا عمرو؟

جاءه الرد مقتضبًا، باردًا:

-مفيش.

ضيّق «بدر» عينيه وقال متشككًا:

-أومال أنا ليه حاسس إنك عايز تقولي حاجة؟

-لا.

قالها «عمرو» بنفس البرود، دون أن ينظر إليه حتى، فزفر «بدر» بضيق قبل أن يقول:

-طيب، استنى، أنا جاي معاك أشوف سراب.

تشنج فك عمرو وهو يضغط أسنانه قائلًا بحدة:

-نايمة.

ثم أسرع خطواته كأنما يهرب من الحوار بأكمله، فلحق به «بدر» وناداه بنفاد صبر:

-استنى يا عمرو…

وقف عمرو أخيرًا، لكنه عقد ذراعيه أمام صدره، ناظرًا إلى بدر بجمود، كأنما يطلب منه أن يُنهي ما يريد بسرعه…

تنفس بدر بعمق، ثم قال بصوت ثابت:

-عايزك تعرف إني مبحبش الطريقه دي… زعلان مني واجهني لكن متاخدش جنب فجأه كده!

-تمام، خلصت كلامك؟

قالها عمرو ببرود، فغرس بدر عينيه بعينه وقال بتحدٍ:

-لو مش هتتقدم لسراب وتاخد خطوه، أنا هاخد الخطوة دي وهقنعها تتجوزني.

لم يطرف لعيني «عمرو» جفن، بل فك ذراعيه ببطء ورد ببرود قاتـ ـل:

-تمام، حاجة تانية؟

ارتبك «بدر» للحظة قبل أن يرد بحدة:

-ها… هتعمل إيه؟

-همشي… همشي يا بدر.

قالها وهو يدير ظهره ويرحل بخطوات ثابتة، تاركًا «بدر» يحدق في أثره بذهول متسائلًا ما خطب هذا الرجل؟ وهل أخطأ في حكمه، حين رأى أنه يحب سراب؟

لم يفق «بدر» من أفكاره إلا عندما شعر بيد توضع على كتفه برفق، فاستدار ليجد «عامر» ينظر إليه بتساؤل…

زفر «بدر» بضيق وقال:

-أخوك ده لا يُطاق.

وأضاف وهو يتأبط ذراع عامر:

-خدني معاك، عايز أشوف سراب… والله لأوريك يا عمرو.

ابتسم عامر بخفوت وسأله:

-هتعمل ايه؟

-هتعرف متستعجلش.

قالها بدر بابتسامة واسعة، سرعان ما تلاشت حين لمح «رغدة» تسير نحوهم بنظرات مترددة متأبطة ذراع رحمة، كأنها تحتمي بها…

اضطرب قلب بدر للحظة، وكأنها ظهرت الآن لتوقظه مما أقدم على فعله! لكنه أشاح بوجهه وتنهد بعمق، قبل أن يسير جوار عامر في صمت.

أما عامر، فقد كان غارقًا في أفكاره. لطالما ظن أن عمرو أعقل منه، أكثر اتزانًا وحكمة… لكنه بدا على النقيض تمامًا.

                   على نحوٍ أخر

جلست «سراب» بجوار «تُقى»، تمسك بيدها وتبتسم ابتسامة واهنة، محاولة طمأنة الجميع بأنها بخير، لكن داخلها كان يعج بالمشاعر، اجتاحتها رغبة ملحّة في الفرار، فالعيون المسلطة عليها كانت ثقيلة، وكلماتهن المتكررة بأن تأكل وتهتم بصحتها وسيل من النصائح، زادت من شعورها بالاختناق…

كانت تُجيب بإيماءة صامتة، مترقبة اللحظة المناسبة لتنهض وتغادر.

جاءها الخلاص على هيئة حمحمة خفيفة، تلاها دخول «عمرو» وصوته الهادئ:

-سراب، عايزك في كلمة.

رفعت عينيها في اضطراب، طافت بنظراتها على الموجودات قبل أن تنهض وتتبع خطواته إلى الخارج.

أشار لها نحو شرفة قريبة، فوقفا والعيون مسلطة عليهما، صمت «عمرو» لوهلة كأنه يجمع كلماته، ثم استدار إليها وسأل بصوت خافت:

-عاملة إيه دلوقتي؟

 -أنا كويسة…

قالتها بنبرة خافتة دون أن تنظر إليه، ولم تكن كذلك، خاصة الآن…

لاحظت كيف فرك عمرو يديه بقلق، بدا وكأنه يحاول قول شيء، لكن الكلمات استعصت عليه. 

التقطت عيناها رابطة شعرها حول معصمه، فسرت ابتسامة صغيرة على شفتيها.

 أدرك هو نظراتها، فنزع الرابطة ومدها نحوها بابتسامة، فتناولتها بصمت.

تأمل كلاهما السماء، وساد بينهما هدوء ثقيل. ترددت في ذهنها كلماته الليلة الماضية عن تشبيهها بالقمر… قبل أن يخترق السكون صوته العميق:

-الأفضل يا سراب متكتميش غضبك، عشان متنهاريش فجأة بالشكل ده.

استدارت نحوه ببطء، بدا لها وكأن النصائح تلاحقها أينما ذهبت! تنهدت، ثم نظرت له بجمود وقالت:

-غصب عني.

أجابها دون تردد:

-عارف.

ران عليهما الصمت مرة أخرى، حتى قطعه عمرو بصوت متردد هش، كأنه لا يصدق ما يقوله:

-تقبلي تتجوزيني يا سراب؟

يتبع

(٢٠)

#رواية_عن_تراض

ران عليهما الصمت مرة أخرى، حتى قطعه «عمرو» بصوت متردد هش، كأنه لا يصدق ما يقوله:

-تقبلي تتجوزيني يا سراب؟

اتسعت عيناها في ذهول، وكأن الزمن تجمد للحظة. خمدت الأصوات من حولها، ولم يبقَ سوى خفقان قلبها العـ ـنيف، وكأنه يكاد يثب من خلف أضلعها. شعرت بحرارة تتسلل إلى وجنتيها، فاحمرّتا على الفور.

استدارت إليه ببطء، كأنها تخشى أن يكون ما سمعته مجرد وهم…

تلاقت عيناها المرتبكتان بعينيه، فوجدت فيهما مزيجًا من الترقب والقلق، مما زاد ارتباكها.

كانت شفتاها نصف مفتوحتين، لكن خذلها صوتها، وكأن الكلمات علقت في حنجرتها، تأبى الخروج.

ظل السؤال معلقًا بينهما، يثقل الهواء من حولهما بتوتر يكاد يُسمع، حتى جاء صوت «شيرين»، حادًا، ممزقًا الصمت إلى شظايا متناثرة:

-يا سراب… بدر بره، عايز يشوفك.

وكأن الزمن عاد للدوران التفتت «سراب» ببطء نحو «شيرين»، بينما كان عقلها لا يزال عالقًا في تلك اللحظة التي كُسرت قبل أن تكتمل…

بدّلت «شيرين» نظراتها بينهما، قرأت ارتباكهما لكنها ركزت على «سراب»، متفحصة ملامحها المضطربة قبل أن تقول باندهاش:

-مالك يا بنتي مَطروبة كده ليه؟ الواد ده ضايقك تاني؟

قالتها وهي تشير نحو «عمرو»، الذي أطرق رأسه كمن ينتظر حُكمًا قاسيًا.

أما «سراب»، فارتجفت شفتاها، وتلعثمت:

-آآ… أنا… أنا… لازم أمشي ضروري.

قطّبت «شيرين» حاجبيها وقالت وهي تراقب اضطرابها المتزايد:

-بدر بره، عايز يطمن عليكِ.

تسربت الكلمات إلى مسامع «سراب» كأنها تصدر من مكان بعيد، مشوش، وكأن ضجيج أفكارها يبتلع كل صوت آخر…

ارتعشت عيناها المضطربتان بين «شيرين» و«عمرو»، ازدردت ريقها بصعوبة، ثم هزت رأسها نافية، لكن نفيها لم يكن ردًا على شيرين، بل كان إجابة عن السؤال الصامت في عيني عمرو.

قالت سراب:

-مينفعش…

-هو إيه ده اللي مينفعش؟

قالتها «شيرين» باستغراب، لكن «سراب» لم تمهلها إجابة، فقد استدارت بسرعة، كأن الهروب هو طوق نجاتها الوحيد… غير أن قدميها خانتاها.

تعثّرت عند دخولها من باب الشرفة، فاصطدم كتفها بالحائط، اندفع ألمٌ خافت عبر جسدها، لكنها واصلت السير.

لم تكد تخطو خطوات قليلة حتى علق طرف قدمها بالسجادة، فاختل توازنها للحظة، إلا أن يدها المرتجفة امتدت سريعًا إلى الطاولة، فأحدثت فاهتزت المزهرية فوقها…

شهقت سراب بخفوت وهي تراقبها تتمايل، وكأنها ستسقط…

في اللحظة الأخيرة، قبضت عليها بأصابع متشبثة، كأنها تستميت في الإمساك بشيء ملموس وسط دوامة مشاعر تبتلعها بلا رحمة.

وحين رفعت رأسها أخيرًا، التقت عيناها بعينيه، مجرد لحظة… لكنها كانت كافية ليضطرب نبضها أكثر.

التوتر في نظرات «عمرو» كان واضحًا، خشى أن يكون قد تسرع بعرضه! لكنه لم يتحرك… فقط راقبها بصمت.

استدارت «سراب» مجددًا، لكن خطواتها هذه المرة كانت أسرع، وأكثر اضطرابًا، كأنها تهرب من شيء يطاردها. وعند عتبة الباب، توقفت للحظة، ترددت، ثم استدارت ببطء… كأنها تقتنص نظرة أخيرة نحوه، نظرة محمّلة بالارتباك، بالخوف، وربما بشيء آخر ظل معلقًا بين ضلوعها، غير قادر على الإفلات.

ومن فرط شرودها، لم تلحظ أنها ضغطت زر إغلاق الضوء قبل أن تغلق الباب خلفها، وتختفي.

أظلمت الغرفة، فارتسمت على شفتي عمرو ابتسامة صغيرة، ثم انطلقت منه ضحكة خافتة، لم يكن يعلم إن كانت سخرية أم دهشة.

ومن زاوية أخرى، كانت «شيرين» تراقب وحاجباها معقودان، كأنها تحاول فك طلاسم ما لم يُقال بينهما.

لم تتحمل الغموض أكثر، فاندفعت نحو المصباح، أشعلته مجددًا، ثم اقتربت من «عمرو» وهمست بقلق:

-كنت بتقولها إيه؟ إوعى تكون زعلتها، البنت على آخرها أصلًا.

رفع «عمرو» عينيه نحوها، يرمقها بنظرة فارغة، كأن شيئًا ما أثقل روحه للحظة، قبل أن يزفر ببطء، ثم قال بنبرة مطمئنة:

-متقلقيش يا ماما، مزعلتهاش… بس تقريبًا كده هي زعلت!

اتسعت عيناها قلقًا وفضولًا:

-عملت إيه؟

تأملها للحظات وهو يفرك ذقنه، قرر التملص، فانحنى ليقبّل رأسها قائلاً:

-متقلقيش… مفيش حاجة.

ثم خرج، تاركًا شيرين تحدق خلفه بدهشة، تحاول تحليل ما حدث، وكأنها تبحث عن ثغرة في كلماته. هزت رأسها مستنكرة، وتمتمت لنفسها:

-هو إيه أصله ده؟!

ثم أطلقت خطاها متوجهة إلى الغرفة الأخرى، حيث تتناثر الهمسات بين نداء، ورغدة، ورحمة، وتُقى، بينما وفي إحدى الزوايا…

 كانت سراب واقفة، لا تشارك، لا تتفاعل، فقط متسمّرة في مكانها، عيناها شاردتان، وأسنانها تعض شفتها السفلى بارتباك جليّ… كأنها لا تزال عالقة هناك، هل عرض عليها عمرو الزواج للتو؟ أم أنها تتخيل فقط؟

-إنتِ كويسة يا بنتي؟

انتفضت سراب قليلًا، بعدما ربتت شيرين على ذراعها بلطف قائلة تلك الجملة…

رمشت بعينيها مرتين، تستعيد إدراكها للمكان، ثم أومأت ببطء، وقالت بصوت خافت:

-الحمد لله، بخير… حضرتك عاملة إيه؟

ضيّقت «شيرين» عينيها، كأنها تحاول التفرس في ملامحها، ثم ردت بنبرة تشوبها سخرية لطيفة:

-حضرتي كويسه الحمد لله…

ثم جذبتها برفق لتجلس جوارها، وظلت تحدّق بها، تحاول أن تقرأ ما يجول في رأسها.

أما سراب، فجلست بصمت، لكن عقلها كان يعج بضجيج لا يهدأ…

تتساءل هل تخبرهن؟ أم تنتظر؟

ربما كانت مجرد دعابة من «عمرو»، ذلك المستفز! هل يعبث بمشاعرها؟ أم أن طلبه كان جادًا تمامًا؟

لا، لن تتسرع. ستنتظر.

ستتصرف وكأن شيئًا لم يكن، حتى يعيد طرح الأمر مجددًا، عندها فقط ستتبين نواياه… قبل أن تسمح لقلبها بأن يركض خلف آمال قد لا تجد لها أرضًا تحتضنها.

مالت «شيرين» نحوها وسألتها بنبرة دافئة، وعيناها تدرسان كل حركة في ملامحها:

-عمرو ضايقك تاني؟

انتفضت سراب قليلًا، كأنها لم تكن حاضرة هنا بعقلها، ثم حمحمت بارتباك وهمست:

-لأ…

رفعت «شيرين» حاجبها بشك واضح:

-طيب كان عايز منك إيه؟

تحاشت «سراب» نظراتها، وقلبها يخفق بشدة، عبثت بأطراف وشاحها، وكأنها تبحث عن شيء تشتت به انتباهها، ثم تمتمت بصوت شبه مسموع:

-كان بيطمن عليّا…

ابتسمت «شيرين» ابتسامة ذات مغزى، وقالت بمكر:

-بيعزك أوي عمرو… على فكرة أنا عارفه إن الجدال اللي بينكم ده مش كراهية، بالعكس دي محبّة!

تجمدت يد «سراب»، ارتعشت أنفاسها للحظة والكلمة تتردد داخلها، محبة؟! هل يحبها عمرو؟ أم أنها مجرد علاقة أخوية لا أكثر؟اخترق صوت عمرو ذاكرتها فجأة، وكأنه يُصرّ على البقاء في رأسها:

“تقبلي تتجوزيني يا سراب؟”

ثم جاء صوت تُقى جافًا:

“عمرو عصبي… مش زي عامر… إنتِ وعمرو متنفعوش لبعض.”

ثم مجددًا، نظرات «عمرو» الحنونة، صوته العميق وكأنه يكرر الطلب بإلحاح:

“تقبلي تتجوزيني يا سراب؟”

أطبقت «سراب» جفونها بقـ ـوة، كأنها تحاول طرد كل تلك الأفكار التي تتلاعب بها. دفنت رأسها بين يديها، تبحث عن لحظة من الهدوء وسط فوضى عقلها، لكن التوتر ظل يزحف تحت جلدها.

شق صوت «شيرين» سحابة أفكارها، بدا بعيدًا رغم قربه:

-معلش، روحي يا نداء، اعملي عصير للجماعة… أصل أنا حاسة بإرهاق كده مش قادرة… هتلاقي المانجا هناك في المطبخ.

تحركت «نداء» للقيام، لكن رغدة سبقتها بردّ سريع، بنبرة حملت ما يشبه الإصرار:

-خليكِ، هروح أنا يا طنط.

رفعت «سراب» رأسها ببطء، والتقت عيناها بنظرة غريبة رمقتها بها رغدة، نظرة أثارت في صدرها تساؤلًا، لمَ تنظر إليّ هكذا؟

خرجت «رغدة» من الغرفة بخطوات ثابتة، لكن صدرها كان يغلي.

همهمت بضيق، بدر جاء لرؤية سراب إذًا…

توقفت مكانها للحظه، وهناك شعور غريب ينهش صدرها… ربما هي نار الغيرة!!

نظرت إلى ساعتها، ثم حولها، كأنها تبحث عن مهرب، عن شيء يبعدها عن هذه الدوامة لكن… لا مهرب.

حدثت نفسها بأن لا، لن تسمح لنفسها بالضعف.

شدّت قبضتها، كأنها تمسك بخيوط تماسكها الأخير، ثم زفرت بحدة، تجمع شتات نفسها، وأكملت طريقها نحو المطبخ مقررة أن تتجاهله… كما يفعل هو معها.

استغفروا  

                 ★★★★★

وفي صمتٍ جلس «عمرو» مع «عامر» و«رائد»، بينما تبادل نظرات التحدي مع «بدر» الجالس قبالته حتى حمحم «بدر» متخابثًا وقال:

-أومال فين سراب يا جماعه؟ عايز أطمن عليها قبل ما أمشي.

رمقه «عمرو» رافعًا حاجبه بابتسامة بطيئة ذات مغزى، ثم قال بنبرة مستفزة:

-ما أنا قولتلك إنها كويسه، إنت اللي مصمم تضيع وقتك… يلا خليك منوّرنا.

ارتسمت على ملامح «بدر» ابتسامة هادئة قبل أن ينهض، فظنه «عمرو» أخيرًا قرر المغادرة، لكن فاجأه «بدر» بقوله:

-شوفلي الطريق كده يا عمرو، عايز أروح الحمام.

رمقه «عمرو» بنظرة متفحصة، وقال بضجر:

-هتروح الحمام عندنا ليه! ما تمشي وتروح في بيتك.

حدجه «رائد» بنظرة حادة، فنهض «عمرو» واقفًا دون كلمة قبل أن يشير لبدر ليتبعه…

وبينما يسير معه نحو المرحاض، انحنى «بدر» قليلًا وهمس بصوت خافت:

-جاوب بأمانه يا عمرو… بتحب سراب؟

طالعه «عمرو» بنظرة جانبية ثم أومأ بابتسامة صغيرة، وقال:

-بس مش عارف هي شيفاني ازاي!

-كلمها واعرض عليها الجواز وإن شاء الله توافق.

قالها بدر فوقف «عمرو» قبالته وقال بندم:

-أنا برده لسه مش متأكد من مشاعري ناحيتها، يمكن بحبها زي أختي… بس أنا اتسرعت أوي يا بدر، عرضت عليها الجواز من غير أي مقدمات! معرفش عملت كده ازاي! 

التفت له «بدر» بعينين واسعتين وقال بذهول:

-بتهزر؟

سرعان ما تلاشى ذهوله وابتسم بسعادة قائلًا:

-يعني هيبقى عندنا خطوبة قريب؟

قال «عمرو» بمرح:

-بس هي توافق ومش هنعزمك أصلًا…

-مش مهم، توافق بس وأنا هقف في بلكونتنا وأصقف.

قالها «بدر»بنبرة مرحة، بينما فتح «عمرو» باب المرحاض وأشار له قائلاً ببرود:

-ادخل ياخويا، وإن شاء الله نشوفلك عروسة عشان نرتاح منك، بدل ما إنت عامل زي الشوكة في الحلق كده.

ضحك «بدر» بخفوت قبل أن يقول بنبرة أكثر جدية، لكنها لا تخلو من المرح:

-عارف يا عمرو المشكلة فين؟ المشكلة إني بحبك، ولو بهدلتني كده ودوّختني، مش هحب غيرك.

نظر إليه «عمرو» بطرف عينيه وردّ بلا اهتمام ظاهري:

-تمام، حبّني لوحدي بقى، ومتقربش من الحاجات اللي تخصّني.

ارتسمت على شفتي «بدر» ابتسامة ذات مغزى، ثم قال فجأة بنبرة غير متوقعة:

-اطمن… وعايز أعترف لك باعتراف، أنا كمان ليا حاجات تخصني يعني قلبي مليان… وفيه حد تاني غير سراب، اطمن يا أخويا.

قالها «بدر» وهو يلكز عمرو بخفة، بينما اتسعت عينا «عمرو» قليلًا، وسرعان ما سأله بفضول لم يحاول إخفاءه:

-مين؟

تجاهل «بدر» سؤاله تمامًا وهمّ بدخول المرحاض، فجذبه «عمرو» من ذراعه، وهو يحدّق في وجهه بإصرار:

-الحاجه اللي تخصك دي من هنا ولا من القاهرة؟

عقد «بدر» ذراعيه أمام صدره وظلّ صامتًا، ازداد فضول «عمرو»، فردد:

-انطق يا هندسة.

ابتسم «بدر» بمكر وقال بنبرة متحدية:

-مش هقولك طبعًا… أوعى بقى، سيبني أدخل الحمام.

قالها ودخل ثم صفع الباب بوجه «عمرو» الذي وقف يتمتم بإصرار وهو يراقب الباب:

-أكيد هعرف يا بدر!

عاد «عمرو» للجلوس مع «رائد» و«عامر»، حيث كان التوتر لا يزال يخيّم على الأجواء، فالنقاش حول واقعة اختطاف عامر لم ينتهِ بعد. رائد لا يكف عن مطالبة عامر بإعادة سرد التفاصيل، ينصت له بتركيزٍ شديد، وكأنّه يحاول انتزاع أي خيط قد يقودهم إلى فهم ما يحدث.

تنهد «عامر» بعمق، ثم قال بصوتٍ مثقل بالقلق:

-أنا متأكد إن حسين هو اللي ورا كل ده… بس ليه؟

عقد «رائد» حاجبيه، يفكر للحظة قبل أن يجيب:

-يمكن عشان يضغط على تُقى وسراب… ويمكن بيخوفهم عشان يسلموه الحاجة اللي هما مش عارفين هي إيه أصلاً!

حرك «عامر» أصابعه بعصبية فوق الطاولة، ثم ضـ ـرب كفه عليها وقال بضيق:

-والله الموضوع ده شاغلني لدرجة إني مش قادر أركز… حتى الاختراع مش عارف أحط إيدي فيه!

ساد الصمت للحظات، بدا فيها الجميع غارقين في أفكارهم، حتى قرر «رائد» أن يخفف من حدة التوتر بطريقة غير متوقعة. التفت إليهما فجأة، وقال بنبرة ساخرة:

-حد فيكوا يروح يشوف الراجل اللي في الحمام ده، لا يكون محرج يخرج… بقاله جوه كتير!

ارتسمت على وجه «عمرو» ابتسامة جانبية، قبل أن ينهض متكاسلًا وهو يتمطّى قائلاً بخفة:

-حاضر، هروح له… أصل يكون اختفى هو كمان لا احنا بقينا جوه فيلم كوميدي.

قال عامر:

-كوميدي ايه دا أكشن خالص يابني.

وضحك الثلاث بخفوت…

بقلم آيه شاكر 

                       ***********

أعدّت «رغدة» العصير، ولم تكن تسمع أي أصوات بالخارج بسبب ضجيج الخلاط المرتفع…

تنفست بعمق، محاولةً كبح التوتر الذي كان يتغلغل في أوصالها. لم تكن ترغب في رؤية «بدر»، لكنها ستفعل… فقط لتُريه كيف يكون التجاهل الحقيقي. رفعت ذقنها بإصرار، والتقطت الأكواب بحركة ثابتة قبل أن تخرج بها نحو غرفة المعيشة…

وأثناء مرورها في الرواق، التقطت أذناها صوتَي جدّيها، دياب وضياء، يتحدثان بهدوء خلف أحد الأبواب المغلقة. لم تكن تنوي التوقف، لكن اسم والديها تسرّب وسط حديثهما، فجمدت قدماها في مكانهما، وبدأ قلبها بالخفقان أسرع.

ناشدها الفضول، كأنه قـ ـوة خفية تدفعها، فاقتربت أكثر ووضعت أذنها على الباب، تحاول التقاط الكلمات بوضوح.

-أنا عارف إنك رافض تجوز عمرو وعامر لرغدة ورحمة عشان غلطة أمهم وأبوهم زمان، بس افتكر إن صالح وريناد كانوا متجوزين عرفي! يعني متجوزين! والبنتين مالهمش ذنب يا دياب… مالهمش ذنب في غلطة أهلهم.

خُيّل إليها أن الأرض اهتزت تحت قدميها، واتسعت عيناها بصدمة، وكأن الكلمات اخترقت صدرها مثل طلقات مباغتة. ازدردت لعابها بصعوبة،تذكرت على الفور ما قالته لها رحمة عن نادر حين عيّرها بوالديها، لكن لم يخطر لها يومًا أن يكون الأمر حقيقي…

ضغطت بأذنها على الباب أكثر علّها تلتقط المزيد، لكن فجأة، اخترق صوت «عمرو» الحاد سمعها:

-بتعملي إيه يا رغدة؟

شهقت مرتعبة، كأن صوت السؤال اخترق عمق وعيها بغتة، وارتعشت يداها بعنـ ـف، فسقطت الصنية من يدها وتهشّمت الأكواب على الأرض، محطمـة الصمت بصريرها القاسي، تراجعت «رغدة» خطوة، وصرخة مذعورة انفلتت منها دون وعي!

في اللحظة ذاتها، انفتح باب الغرفة، وخرج منه «دياب» و«ضياء»، يتبادلان نظرات قلقة، بينما فُتح باب المرحاض أيضًا، ليخرج منه «بدر»، حاجباه معقودان بدهشة، ونظره يتنقل بين الوجوه المتوترة.

وعلى درجات السلم، ظهرت «شيرين»، تتبعها البقية، وكأن الجميع قد انجذب إلى مركز هذا الانفـ ـجار العاطفي.

أطبقت «رغدة» يدها على فمها، وعيناها تهيمان على وجوههم المصدومة، وكأنها تبحث عن نفي مستحيل.

تسارعت أنفاسها فجأة، قبل أن تنفلت الكلمات من شفتيها، متكسرة، لاهثة:

-أنا سمعت… يعني جابونا في الحرام، صح؟ وكـ… وكلّوا عارف؟ حتى نادر… نادر عاير بيها رحمه…

اهتز صوتها وهي تلفظ الجملة الأخيرة، كأنها تذوق مرارتها في حلقها، وكأن شيئًا داخليًا قد انكـ ـسر بلا رجعة.

تلمّعت عيناها بدموع تجمعت بسرعة، ثم انفـ ـجرت بغتة بصوت مرتجف، لكنه غاضب، كمن ينتزع كرامته وسط العاصفة:

-بس إحنا أصلًا مكناش هنوافق نتجوز عمرو وعامر!

رمقت الوجوه حولها بأنفاسٍ متقطعة، ونظراتٍ ضائعة، كأنها لا تزال تتوقع تكذيبًا لم يأتِ.

ثم استدارت فجأة نحو «بدر»، وعيناها الغارقتان بالدموع تومضان بانهيار كامل، صرخت تلومه بصوت موجوع:

-إنت هنا ليه؟! إنت مينفعش تكون هنا… بس ما هو كله عارف إعرف إنت كمان بقا!

اهتز جسدها بعـ ـنف، وغشيتها الدموع تمامًا، فاندفع «دياب» نحوها، يجذبها إليه محاولًا تهدئتها، لكنها كانت ترتجف بين يديه كعصفورٍ جريح.

ساد صمت ثقيل، ثقيل جدًا… كأن الهواء نفسه قد صار عبئًا يسحق الأنفاس.

في ركن آخر، ضمّت شيرين رحمة إلى صدرها، حين شهقت الأخيرة باكية، فقد وجدت الإجابة دون حتى أن تطرح السؤال…

خرجت «رغدة» من بين ذراعي «دياب»، وعيناها مسمّرتان على «ضياء»، نظرة عتاب مريرة كأنها تحمّله الذنب بأكمله.

قال ضياء، محاولًا الحفاظ على هدوئه رغم التوتر الذي ملأ الغرفة:

-إنتوا ملكوش دعوة بأمكوا وأبوكوا، أنا اللي مربيكوا وأنا…

قاطعته رغدة بضحكة ساخرة، امتزجت بأنين مكتوم، ومسحت دموعها سريعًا قبل أن تهوي بنظراتها عليه كنصل خنجر يغرس بلا رحمة:

-ما هو حضرتك اللي مربي بابا برضه… وتيتة داليا أختك اللي ربتنا هي اللي مربية ماما…

كلماتها كانت كالصفعة التي لم تُحدث صوتًا، لكنها زلزلت المكان…

صمت «ضياء» للحظة، فقط للحظة، قبل أن يشدّ قامته محاولًا استعادة سيطرته على الموقف.

أما «رغدة»، فابتسمت ابتسامة باهتة، كأنها تحارب رغبتها في الانهـ ـيار، ثم استدارت نحو «بدر» قائلة بتهكم موجع:

-أكيد بقا حضرتك يا مستر بدر اتأكدت إني فعلًا متربتش.

لم يرفع «بدر» بصره عن الأرض وكأنها لم تُحدثه، في حين تحرك «ضياء» نحوها بخطوات سريعة وقال بحدة:

-فوقي، واوعي للكلام اللي بتنطقيه.

مدّت «نداء» يدها تمسك بذراع «رغدة» بلطف، لكن الأخيرة أفلتت يدها بقـ ـوة وصاحت، من خلف عبراتها:

-كلكوا كنتوا عارفين ومخبين عليا! ليه؟ يمكن حتى الشارع كله عارف… وأنا وأختي اللي مغفّلين!

زمّ ضياء شفتيه، وفي عينيه تلاقت ألسنة الغضب بالكسر، قبل أن يقول بصرامة:

-محدش يعرف… بس إنتِ بصوتك العالي ده، إن شاء الله، هتعرفي الشارع كله.

مرة أخرى، حاولت نداء الإمساك بها، بينما سراب ربتت على ظهرها في محاولة لتهدئتها. هذه المرة، لم تقاوم رغدة، فقط انهارت بين ذراعي نداء، أنينها مكتوم في صدرها، لكن نظراتها زحفت نحو بدر، وقالت بصوت منكسر:

-بتتفرج على إيه؟! امشي… امشي يا مستر…

كان «بدر» واقفًا كتمثال، كأنه فقد القدرة على التنفس، على التفكير، على الاستيعاب… ثم، بلا كلمة واحدة، استدار وانسحب من المكان بخطوات متعثرة، وكأنه فقد القدرة على رؤية الطريق أمامه، تبعه عمرو وعامر، بينما بقي الجميع في صمت ثقيل.

مرت ثوانٍ ثقيلة، قبل أن يتحرك «ضياء»، ليجذب «رغدة» من ذراعها، ثم «رحمة» بالأخرى، واحتضنهما بقـ ـوة، كمن يحاول احتواء شرخ لا يُرمم.

لم يحاول إخفاء دموعه، بل تركها تنساب بحرارة على وجنتيه، وهو يتمتم بصوت متحشرج:

-أنا آسف… آسف إني معرفتش أربي أبوكوا… آسف ليكم يا بنات…

رفعت «رحمة» وجهها إليه، عيناها اللامعتان تعكسان كل الحب والأمان الذي غرسه في قلبها طوال حياتها. وبصوت مرتعش، همست:

-أنا بحبك أوي يا جدو… إنت أبونا، إحنا مطمنين وإنت جنبنا، ومش مهم أي حاجة تانية… عشان خاطري متزعلش من رغدة.

أما «رغدة»، فأفاقت من صدمتها على صوت نشيجه.

لم تفكر، لم تتردد، فقط انحنت تقبّل يده، وارتجفت شفتيها بين دموعها المتساقطة، وهي تهمس بصوت متهدّج:

-أنا آسفة… أنا آسفة يا جدو… والله آسفة…

لم يقل شيئًا. لم يكن بحاجة إلى ذلك. فقط شدّ على يدها بحنان.

مرّت دقائق، دقائق ثقيلة امتلأت بالأنفاس المتقطعة، قبل أن يخرج «ضياء» مع حفيدتيه، يحيطهما بذراعيه كدرع يحميهما من أوجاع العالم، كأنهما كل ما تبقى له ليحميه.

في الداخل…

جلست «شيرين» قرب زوجها، تربّت على صدره برفق، تحاول أن تمتص شيئًا من الثقل الذي جثم عليه بعد هذا المشهد العاصف. أنفاسه كانت بطيئة، كأنها تحمل على ظهرها أوزانًا من هموم الماضي والحاضر.

وفي الزاوية الأخرى، انحنت «تقى» و«نداء» تجمعان بقايا الأكواب المهشمة، شظايا متناثرة تعكس قلوبًا ممزقة… قلوبًا لن تُجمع بسهولة.

أما «سراب»، فظلت واقفة وحدها، عيناها تائهتان، تسترجع كلمات رغدة… وتتساءل كيف مرّ ذكر نادر، ولم يعلّق أحد؟!

                    على الصعيد الأخر

كان «رائد» بالشرفة يتابع «بدر»…

حيث كان يقف، مشدوهًا تحت أضواء الشارع الخافتة، في مهبّ المشاعر التي لم يفهمها بعد.

اقترب منه عامر وعمرو، يلهثان بعد أن نادياه مرارًا.

وقفا يتأملاه بصمت حتى قال «عمرو»:

-إنت أكيد مش زعلان إن رغدة كلمتك كده! دي عيلة يا عم.

هزّ بدر رأسه ببطء، كأنما يستوعب الفكرة ثم قال، بنبرة لم تخلُ من المرارة:

-مفيش حاجه.

تبادل عامر وعمرو النظرات قبل أن يربّت عمرو على كتف بدر قائلًا بابتسامة مطمئنة:

-أنا هجيبهالك بنفسي تعتذرلك يا بدر.

ابتلع «بدر» لعابه، خشي أن تفضحه نظراته، أن يُفضح ذاك الشعور الذي يجتاحه دون إذن.

فقال بسرعة، كمن يهرب من الموقف:

-أنا مش زعلان… أنا هطلع بقا، سايب جدي لوحده من بدري.

استدار بدر، تاركًا خلفه صخب الحديث، لكنه لم يستطع ترك الغصّة التي استقرت في حلقه.

لمَ أراد أن يبكي؟ لماذا شعر وكأن ضلعًا منه قد انكسر بغتة؟

وداخل شقته بعدما أغلق الباب…

رأى جده مستلقيًا على الأريكة، تغشاه سكينة النوم، لكن ملامحه كانت مثقلة بتعب السنين.

اقترب «بدر»، وانحنى ليوقظه بلطف، فانتفض الجد قليلًا قبل أن يستند عليه ليجلس، ثم سأله بصوت مبحوح:

-عملت إيه؟ اتكلمت مع سراب؟

ابتسم بدر، رغم كل شيء، وقال بهدوء:

-أيوه يا حبيبي… بس سيبك من الموضوع ده، قوم نام جوه وإن شاء الله بكرة نتكلم في كل حاجة.

سأل الجد:

-وملقتش الصورة؟

-لا والله يا جدو…

-ماشي يا بدر.

قالها الجد ونهض متأوهًا بوهن، فساعده بدر حتى غرفته، ثم عاد إلى الأريكة، حيث لا شيء سوى صدى الأحداث الأخيرة يتردد في رأسه.

أغمض عينيه قليلًا، لكن الصور تدفقت عليه كالسيل، رغدة وانهيارها، صراخها، نظراتها التي حملت أكثر مما نطقت به شفتيها… ثم، كأن الباب فُتح على ذاكرة أليمة، تذكر إخوته، والديه، والمواقف التي جعلته يشعر وكأن العالم يضيق عليه يومًا بعد يوم.

تذكّر الألم حين ضـ ـربه أخواه، وكيف انقض عليه اثنان وأبرحاه ضـ ـربًا دون رحمة… تردد الصدى في ذاكرته وفي جسده وفي صدره الضيق، تشنج فمه، فأطبق شفتيه بقـ ـوة محاولًا كتم شهقة متمردة أرادت الخروج.

نهض فجأة، وكأن المقعده صار جمرة تلسعه، تحرك بخطواتٍ مضطربة كأنما يهرب من شيء يطارده، لكن ما يطارده كان داخل رأسه وهي تلك الأفكار التي تضج داخله.

انزوى في ركن معتم بغرفته، حيث لا أحد سيرى هشاشته. التفت حوله، كأنه يتأكد من وحدته، وحين أدرك أنه وحيد تمامًا… باغتته دمعة ثقيلة.

لكن سرعان ما تماسك! شدّ فكه، وأجبر عينيه على الصمود. هو رجل! والرجل لا يبكي… أليس البكاء للنساء لأنهن ضعيفات، أما الرجال فأقوياء، قلوبهم صلبة كالفولاذ؟

لكن… 

البكاء يكون للنساء حين يولي الضغط ظهره للرجال، فيتراكم فوق أغصانهن وحدهن، بينما تُعلّق على أغصان الرجال سُحبٌ من غزل البنات الهش، تتلاشى عند أول نفخة ريح.

ضم «بدر» ساقيه إلى صدره، ونكس رأسه بينهما، وأطبق جفونه في محاولة يائسة للهدوء. لكن الضيق ظل يطوّقه، كدوامة لا مخرج منها.

 زفر ببطء، ومسح وجهه بكفه، ثم التقط هاتفه بتردد. راح يمرّ بين الأسماء، يتساءل مع من يتحدث؟ من يمكنه أن يحتمل ثقل ما بداخله؟

توقفت عيناه عند اسم يحيى… تردد للحظة، ثم ضغط على الرقم مرة واحدة، وانتظر، حتى جاءه الصوت على الطرف الآخر، دافئًا كعادته. جاهد ليبدو ثابتًا وهو يرد السلام، لكن صوته خانه، فخرج مبحوحًا:

-أنا محتاج أتكلم معاك يا شيخ يحيى.

-اتكلم يا غالي… صوتك مالُه؟

قالها يحيى بلهفة، فابتلع بدر غصته ثم تمتم بصوت متكسّر:

-مخنوق أوي يا شيخي.

لم يستطع أن يكمل… تصدّع جدار تماسكه فجأة، واندفع بكاؤه بلا استئذان…

شهقات قصيرة متتابعة، يحاول كبحها، ولكن حلقه كان يضيق أكثر، وكأن الهواء نفسه يرفض العبور.

ساد الصمت للحظات، لم يُسمع خلالها سوى أنفاس بدر المتحشرجة، حتى جاء صوت يحيى، هادئًا لكن يحمل مسحة قلق:

-وحد الله يا بدر… فيه إيه؟ متقلقنيش عليك؟

حاول «بدر» استجماع نفسه، أخذ نفسًا مرتعشًا، ثم راح يروي ليحيى ما فعلته رغدة.

كان يتحدث بسرعة أحيانًا، ويتوقف فجأة أحيانًا أخرى، وكأنه يترنح بين الانفعال والتردد.

وحين انتهى، جاءه صوت يحيى، لا يزال هادئًا، لكن فيه نبرة حسم هذه المرة:

-يعني اللي مزعلك إيه؟ إن رغدة كلمتك بطريقة مش لطيفة، ولا عشان كانت بتعيط ومنهارة؟ أنا لسه مش فاهم إنت عايز تقول إيه يا بدر!

سرت في جسد «بدر» قشعريرة باردة، كأن الكلمات اخترقته إلى موضع الألم مباشرة، مسح وجهه بارتباك، أدرك أنه انكشف… أن يحيى لم يسمع كلماته فقط، بل قرأ ما خلفها.

ازدرد لعابه بصعوبة، والحرج يتسلل إلى صوته وهو يتلعثم:

-دا… دا أنا افتكرت إخواتي يا شيخ، هو دا اللي وجعني وهزّني من جوايا… ادعيلي بالله عليك.

أطلق «يحيى» تنهيدة طويلة، وكأنه يرى ما لا يقال، ويفهم أكثر مما يُحكى، وقال:

-بدعيلك والله يا بدر… خلاص، هنتظرك بكرة ونتكلم أكتر، ونشوف علاج للموضوع ده.

حاول «بدر» أن يستعيد توازنه، حمحم بصوت منخفض، وقال بارتباك:

-خلاص، أنا… مفيش حاجة نتكلم فيها تاني… أنا كنت بفضفض معاك مش أكتر…

سرعان ما أغلق «بدر» المكالمة، كأنه يهرب من مواجهة أخرى.

أسند رأسه إلى كفه، وضغط شفتيه بين أسنانه باضطراب، بينما كانت الحقيقة جاثمة أمامه الآن… لقد كُشف أمره.

داهمته الأفكار لذا نهض مسرعًا ليصلي ويشتكي لله، ولم تتغير دعواه الثابتة:

“اللهم لا تفتني…”

وبعدما انتهى من الصلاة نظر لأعلى وقال:

-يارب… يارب أنت الأعلم بما يختلج به صدري…

بقلم آيه شاكر 

                      ★★★★

حين دخل «عمرو» و«عامر» إلى البيت، اقتربت «سراب» منهما بخطوات متوترة، متجنبة النظر إلى «عمرو»، ووجهت حديثها مباشرة إلى عامر، وعيناها تلمعان بالقلق:

-عامر! هو إزاي محدش علق على اللي رغدة قالته عن نادر؟

قال«عامر»بخفوت، وكأنه يحاول تصديق كلماته بنفسه:

-يمكن محدش خد باله!

أطرقت «سراب» للحظة، ثم رفعت رأسها وقالت بقلق متزايد:

-أنا حاسة إن رغدة هتحكي لجدها كل حاجة.

تدخل «عمرو» فجأة، بصوت بارد خالٍ من الاهتمام:

-متحكيله إيه المشكلة؟ نادر أصلًا غلط في حق رحمة.

التفتت إليه «سراب» بسرعة، وعيناها تضيقان بحدة، وقالت بنبرة لم تخلُ من الاتهام:

-بس رجع وتاب.

هز عمرو كتفيه بلا مبالاة، ورد بنبرة متجمدة:

-الله أعلم.

ضيّقت سراب عينيها أكثر، ورفعت حاجبها، وقالت بإصرار مغلّف بالحدة:

-لا تاب يا عمرو… إنت اللي بتشك في صوابع رجلك أصلًا… يعني عصبي وشكاك!

رفع «عمرو» حاجبيه بسخرية، وهو يرد بلهجة لا تقل تهكمًا:

-شوف مين اللي بيتكلم! ده على أساس إنك مش عصبية؟ ده أنا كل يومين بجري وراكِ أهديكِ.

عقدت «سراب» ذراعيها أمام صدرها، وحدّقت فيه بإصرار وهي ترد بسخرية مماثلة:

-أنا اللي لسه مهدياك امبارح على فكرة، ولولا أنا مكنتش هتحضر كتب كتاب أخوك.

ارتسمت ابتسامة ساخرة على زاوية فم «عمرو»، وقال بصوت متهكم:

-مش عارف أودي جمايلك فين الصراحة.

شعرت «سراب» بالغليان، فهتفت غاضبة:

-إنت مستفز أوي بجد!

رفع حاجبيه بخبث، وقلد نبرتها بسخرية مستفزة:

-والله من بعض ما عندك بجد!

ارتفع صوتها أكثر، لكن قبل أن يتطور الجدال، جاء صوت والده الحاد:

-بس يا عمرو…

التفت إليه، بينما جذبه «عامر» بعيدًا، وكأنّه ينقذه من بركان يوشك على الانفـ ـجار.

زفرت «سراب» بضجر، متجاهلة النبض المتسارع في صدرها، وغمغمت بصوت مشحون بالانفعال، كأنها تحاول كتم غضبها:

-إيه ده! إنسان مستفز بجد.

لم تحتمل البقاء لحظة أخرى، فاستأذنت على عجل، ثم استدارت تغادر البيت، تتبعها تُقى، التي خرج عامر معها أيضًا، وكأنّه شعر بحاجتها لمن يسير بجانبها، دون أن تنطق بذلك.

في الداخل، كان دياب يراقب المشهد بعينين ضيقتين قبل أن ينادي بصوتٍ جاد:

-عمرو!

اقترب عمرو وجلس قبالته، يترقب توبيخًا لم يتأخر. زمجر والده بحدة، نبرته مشبعة بنفاد الصبر:

-هو إنت مش هتعقل بقى؟! البنت كانت في حاله ما يعلم بيها إلا ربنا الصبح، وإنت بتجر شكلها؟

فتح عمرو فمه ليرد، محاولًا التبرير:

-يا بابا، أنا…

لكن «دياب» لم يمنحه فرصة، شوح بيده بقـ ـوة وهو يقاطعه بخشونة:

-اسكت! بلا بابا بلا بتاع… قوم من قدامي!

ارتبك «عمرو» للحظة، وكأن الكلمات صفعت روحه قبل أن تهبط على أذنيه، لكنه نهض على الفور ودخل غرفته، يغلق الباب خلفه بصمتٍ أثقل من أي ضجيج.

جلس على مقعده، وراح صدى كلمات والده يتردد في رأسه، وكأنها أيقظت شيئًا غافلًا داخله… تساءل في مرارة، وهو يمرر يده على وجهه المرهق…

لماذا يفقد أعصابه أمام سراب بهذه السرعة؟ كيف تشتعل نيرانه لمجرد كلمة منها؟!

أغمض عينيه، فاندفعت الذكريات إلى ذهنه كطوفان… تذكر كيف نطق بطلب الزواج منها دون تفكير، كيف فاجأها قبل أن يفاجئ نفسه.

ضغط على صدغه بقـ ـوة وهو يهمس لنفسه في ضيق:

كيف له أن يعيش معها؟ مع فتاة تُشعل أعصابه قبل مشاعره؟!

                   ومن ناحية أخرى

كانت «سراب» تخطو مسرعة، تحاول الهرب من دوامة الأفكار التي لا تكفّ عن الدوران في رأسها، وحين التفتت قليلًا، وجدت «عامر» و«تقى» يسيران جوار بعضهما، خطواتهما متقاربة، وحديثهما الخافت بالكاد يصل إليها.

كان الضيق يتصاعد داخلها كدخان كثيف يخنق أنفاسها.

كيف ستتزوج هذا المستفز؟

تذكرت حين عرض عليها الزواج بصوت رخيم ونظرات دافئة… 

أي تناقض هذا؟ يعرض الزواج، ثم بعد قليل يشعل فتيل الشجار بنفسه!

ضغطت شفتيها بقـ ـوة، وصعدت السلم…

 يبدو أن هذا الرجل لن يكفّ عن إرباكها.

بعدما دخلت شقتها، تركت «عامر» و«تقى» يجلسان في الردهة، بينما اتجهت هي مباشرة إلى غرفتها.

أغلقت الباب خلفها، وأسندت ظهرها إليه للحظة، ثم زفرت بعمق وأخرجت هاتفها، فتحت المحادثة مع «عمرو»، وبدأت في كتابة رسالة… رسالة تضع حدًا لكل شيء. ترفضه وتُنهي الأمر بلا رجعة.

لكن…

توقفت أصابعها فوق الشاشة، نظرت إلى الكلمات المكتوبة، ثم تنهدت بحيرة، ومسحتها دفعة واحدة.

ألقت الهاتف جانبًا، واستلقت على فراشها، وعيناها مثبتتان على السقف، وأنفاسها متثاقلة.

 نفخت بضجر، ثم وضعت يدها على صدرها، كأنها تحاول مخاطبة قلبها الهائج:

-وبرغم كل ده… برده بتختاره؟! هتعيش معاه إزاي؟

لم تجد إجابة، فقط شعرت بحرارة الدموع تتسلل إلى وجنتيها في صمت…

أغلقت جفونها بإحكام، وأخذت تتنفس بعمق، تحاول تهدئة اضطرابها.

وفي همس بالكاد سمعته هي نفسها، غمغمت:

-أنا ليه بحبه؟

مرت لحظات ثقيلة قبل أن يُفتح الباب بهدوء، وتدخل «تقى».

تظاهرت «سراب» بالنوم كي لا تفتح معها «تقى» أي حديث، فأغلقت جفونها آملة أن يمنحها الظلام بعض الهدوء الذي تعجز عن العثور عليه.

صلوا على خير الأنام  

                ★★★★★

مرّت عدة أيام، لم يرَ «بدر» فيها «رغدة» منذ لقائهما الأخير، لكن طيفها لم يفارقه لحظة.

كانت حاضرة في ذهنه، تسكن أفكاره بين الانشغال بها والقلق عليها.

وفي ذلك المساء، وبعد صلاة المغرب، حيث تحوّل الشفق الأحمر إلى زرقة باهتة، ثم إلى ظلام عميق، كأن الليل يمدّ رداءه على الأرض بحنوّ، بينما أضواء المصابيح الخافتة بدأت تتوهج، تقاوم العتمة لكنها لا تبددها تمامًا.

جلس «بدر» في المسجد يتلو القرآن على «يحيى»، لكنه كان يتتعتع على غير عادته، وكأن عقله عالق في مكان آخر. تردد في الآيات، وتلعثمت حروفه، حتى أغلق يحيى المصحف ونظر إليه متفحصًا قبل أن يقول:

-حسبُك… كفاية… إيه يا بدر، مالك؟

مسح بدر وجهه بكلتا يديه، زفر ببطء وقال بصوتٍ مضطرب:

-والله حافظ يا شيخ… بس مش عارف مالي…

-إنت مشغول بإيه؟

ازدرد «بدر» لعابه وأطرق للحظات، وكأنه يبحث عن كلمات مناسبة، قبل أن يتمتم بتردد:

-هو أصل… يعني… جدي زعلان شوية… ضاعت منه صورة مهمّة، وأنا بفكر فيه.

رفع «يحيى» حاجبًا وهو يتأمله بنظرة مريبة، وقد لاحظ شروده والتوتر الذي تسلل إلى صوته، ثم افتر ثغره عن ابتسامة ماكرة وقال:

-يا راجل! بقا دا اللي شاغلك؟

أومأ «بدر» بسرعة، لكنه لم يرفع عينيه.

 زفر «يحيى» متفهمًا، أسند ظهره إلى الجدار وقال بنبرة هادئة:

-بص يا بدر، أنا زمان كنت بحب وئام جدًا، لكن مكنش عندي أي إمكانيات أتقدملها. حاولت كتير أطلعها من قلبي، كنت بغض بصري عنها وأتجنب وجودي معاها… كنت بتعفف عنها، خاصة إنها أخت صاحبي. لكن ربنا كتب لنا النصيب واتجوزنا… الخلاصة يا بدر؟ يا تتجوز يا تتعفف.

ارتجف جفن «بدر»، أيقن أنه كُشف تمامًا، فلا فائدة من المراوغة.

مال قليلًا ناحية «يحيى» وهمس بصراحة:

-أنا مش عارف أعمل إيه! دي صغيرة أوي يا شيخ، يعني على الأقل لازم أستناها تلت سنين.

هزّ «يحيى» رأسه قائلاً بثقة:

-لا تلت سنين ولا حاجة… عمّك ضياء كان عايز يجوزهم لعمرو وعامر، يعني لو اتقدمت هيوافق… ولو عايزني أشوفلك الدنيا، أنا جاهز.

انعقد حاجبا «بدر» وهو يتأمل وجه «يحيى»، يبحث عن أي تلميحٍ للمزاح، لكنه لم يجد سوى الصدق. عضّ على شفته وهو يفكر، ثم قال باندفاع:

-بتتكلم بجد يا شيخ؟

ضحك «يحيى» قائلاً:

-وأنا ههزر معاك ليه؟ هو إحنا من سن بعض؟

لم يتمالك «بدر» نفسه، فجذب يد «يحيى» بحماسة وقال بإصرار:

-إيدك أبوسها!

قهقه «يحيى» وهو يسحب يده سريعًا:

-إوعى يله… قوم! قوم امشي!

نهض «يحيى»، فهبّ «بدر» واقفًا وقال بجدية:

-طيب، هرد عليك الليلة أو بكرة، بس متتكلمش إلا لما أقولك.

ابتسم «يحيى» وربّت على كتفه قائلاً:

-ماشي يا غالي.

ثم استدار ليغادر، تاركًا بدر غارقًا في أفكاره، وعيناه تلمعان بحيرة وأمل.

سار «بدر» في الطريق، متهلل الأسارير، وكأن الدنيا بأكملها أصبحت أخف على كتفيه.

لمحته «سعيدة» من بعيد، فابتسمت بمكر وأشارت إليه قائلة:

-إيه يا متواضع، كنت بتعمل إيه في المسجد لحد دلوقتي؟

نظر إليها مبتسمًا وقال:

-كنت مع الشيخ يحيى.

وقبل أن تكمل فضولها المعتاد، تذكر «بدر» فجأة صورة جده المفقودة. ربما تكون «سعيدة» قد رأتها؛ فهي لا يخفى عليها شيء مما يدور في الشارع. اعتدل في وقفته وقال:

-سيبك مني يا خالة سعيدة، مشفتيش صورة كان فيها ست لابسة طرحة سودة؟

ضيّقت عينيها بفضول وقالت:

-ليه؟

أدرك «بدر» أنها لن تهدأ قبل معرفتها أصل الحكاية، فزفر بخفة وقال:

-دي صورة طليقة جدي اللي بيدور عليها.

شهقت سعيدة، واتسعت عيناها وهي تتذكر همس شيرين قبل أيام:

“دي صورة أمي! بس معتقدش إني عندي صورة زي دي…”

لكنها تماسكت، ولم تُظهر شيئًا مما دار في عقلها، بل ابتلعت كلماتها بصمت، وقررت ألا تتسرع حتى تتأكد بنفسها وتعرف أصل القصة كاملة.

راقبها «بدر» بريبة، لاحظ لحظة التوتر في ملامحها، فتح فمه ليسألها، لكن قبل أن ينطق، لاحت «رغدة» وهي تدخل مع «رحمة» للبيت، فاغتنمت سعيدة الفرصة لتغيير الموضوع هامسة:

-البت رغدة دي خسارة والله… عامر خسر كتير أوي… دي طلعت الأولى على المحافظة السنة دي! يعني لو كان خطبها، مش كانت أحسن من تُقى؟

استدار «بدر» نحوها ببطء، وحدجها بنظرة حادة جعلت الكلمات تتجمد في حلقها. لم يقل شيئًا، فقط أدار ظهره وانصرف، بينما علّقت سعيدة بصوتٍ خافت:

-آه يا متكبر…

استغفروا  

                      ★★★★

وقفت «سراب» بشرفتها بينما امتلأ الشارع بصيحات الأطفال وهم يركلون الكرة بحماس، تراقبهم أعين الجيران من الشرفات بين ابتسامة وضحكة خافتة.

وقفت تحدق بالشرفة قبالتها شارده فعمرو لم يُحدثها مرة أخرى كان بينهما جدارٌ غير مرئيٍّ من الجفاء. 

لم تدرك أن برودها وجمودها، جعله يوقن أنها لا تريده زوجًا، بينما هي تنتظر منه خطوةً أخرى… خطوة تجعلها تفكر في الأمر بجدية.

انتبهت حين تسللت سيارة «نادر» إلى الشارع وتوقفت قبالة بيت دياب، وحين ترجل منها، تدحرجت الكرة حتى استقرت عند قدميه، كأنها تناديه.

انحنى قليلًا والتقطها، ثم رفع رأسه إلى الشرفة حيث ظهر «عمرو» قبل لحظات حين سمع صوت السيارة تتوقف قبالة البيت، وقف مستندًا إلى الدرابزين، فقال «نادر» بصوت يحمل دعوة غير مباشرة:

-تنزل؟

افتر ثغر «عمرو» عن ابتسامة صغيرة، وقال دون تردد:

-أنزل طبعًا.

وفي لحظة، كان يقف قبالته، ثم لم يلبث أن انضم إليهما «بدر» و«عامر»، فتوزعوا في فريقين وأخذوا يلعبون مع الأطفال، يركضون، يضحكون، يتقاذفون الكرة كأنهم عادوا صغارًا إلى زمنٍ لم تكن فيه الحياة تضـ ـربهم بسياطها.

وقفت «سراب» تراقبهم، يحملها دفء لم تدرك كم افتقدته حتى هذه اللحظة. وكأنها عادت طفلة صغيرة، تراقب عمرو وعامر ونادر وهم يتقاذفون الكرة بحماس، بينما تُقى تهتف بحماس تشجع عامر، وهي تجلس وحدها في ركن بعيد، تمشط شعر دميتها وتزينها بمساحيق التجميل، حتى يأتي عمرو ويعبث بها مستفزًا، فتطارده بغضب طفولي…

انتبهت إلى صوت ضحكة «عمرو»العالية وهو يلتفت إلى «بدر» ساخرًا:

-إنت مبتعرفش تلعب أصلًا، أهو دخلوا فينا جون!

رمقه «بدر» بضيق وردّ بنزق:

-إنت اللي مبتعرفش تلعب!

ضحك «عامر» بمرح وهو يرفع حاجبيه بمكر:

-إنتوا الاتنين مبتعرفوش تلعبوا أصلًا…

ثم باغتهم بدفعة مفاجئة للكرة، لتدخل المرمى. قفز عامر فرحًا وصاح بانتصار:

-وجوووون!

على مقربة من سراب في الشرفة، كان «تُقى» و«البدري» يراقبان المشهد ببسمة دافئة، تعكس فخرًا خالصًا.

هتف «البدري» بحماسة، وصوته يفيض بالاعتزاز:

-الله عليك يا عامر! مشرفنا ورافع راسنا.

رفع «عامر» يديه بانتصار، بينما أخذت «سراب» نفسًا عميقًا، كأنها تسمح للطمأنينة بأن تتغلغل في صدرها لأول مرة منذ زمن.

شعرت أن الخوف بدأ يتلاشى، أن الأيام قد تصالحها أخيرًا. همست لنفسها، والرجاء يلون أفكارها:

“ربما بدأت الحياة تهدأ أخيرًا… حسين لم يظهر منذ فترة. ربما… ربما تزهر حياتنا من جديد، وننسى طيف الماضي إلى الأبد…”

لكنها لم تكن تعلم أن هذا لم يكن سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة.

★★★★★

دلفت «رحمة» و«رغدة» إلى المنزل، عائدتين من درس القرآن.

ما إن وضعتا أقدامهما داخله حتى ألقت «رغدة» السلام على جدها، ثم كادت تتجه إلى غرفتها لولا أن استوقفها صوته الجاد:

-استني يا رغدة… اقعدي، عايزك.

تبادلت نظراتٍ صامتة مع «رحمة» قبل أن تخطو نحو جدها ببطء، وجلست قبالته، فيما أشار «ضياء» «لرحمة»أن تنصرف.

بقيت الأخيرة مترددة للحظة، لكنها أطاعت، تاركة خلفها توترًا لم تستطع إخفاءه.

انحنى «ضياء» قليلًا نحو «رغدة»، وعيناه تنقبان عن الحقيقة في ملامحها، قبل أن يهمس بصوت منخفض لكنه نافذ:

-أنا عرفت كل حاجة… بس عايز أسمع منك إنتِ. احكي، نادر عمل إيه مع رحمة؟

شعرت «رغدة» بوخزة قلق، لكنها سرعان ما تنفست براحة، فقد ظنت في البداية أنه يتحدث عن أمرها هي مع بدر.

ابتلعت ريقها بتوتر، واندفعت تقول:

-والله يا جدو، رحمة كانت بتحبه، وهو اللي ضحك عليها، ولما راحت معاه الشقه كانت واثقة فيه…

انتفض ضياء كأن سهمًا أصابه، حدقت عيناه بها بصدمة وهو يردد بذهول:

-راحت معاه شقته؟!

أدركت «رغدة» حجم زلتها فورًا، عضت لسانها، لكن الأوان كان قد فات.

 اتسعت عينا جدها، وصوته اكتسى بصرامة لا تحتمل وهو يقول:

-احكي.

انحبست الكلمات في حلقها، لكنها أيقنت أنها وقعت في فخه، لا مهرب الآن…

بدأت تحكي بنبرة مرتعشة، تحاول انتقاء كلماتها، لكن الحقيقة كانت أكبر من أن تُدارى.

ومع كل كلمة تنطقها، كانت ملامح ضياء تزداد حدة حتى لم يعد قادرًا على الجلوس.

هبّ واقفًا بغضب مكتوم، واتجه بخطوات ثابتة نحو غرفة «رحمة»، حيث كانت تجلس. فتح الباب دفعة واحدة وقال بحدةٍ هزت جدران الغرفة:

-بتروحي لنادر شقته ليه يا رحمة؟!

شهقت «رحمة»، ورفعت عينيها إلى «رغدة» التي وقفت عند الباب، ترمقها بنظرة نارية، وكأنها تلقى عليها اللوم.

ضغطت أسنانها قبل أن تهتف بانفعال:

-هي اللي قالتلك؟!

لم يكن ضياء في حالة تسمح بالجدال، صوته ارتفع بغضب جارف:

-ردي عليا يا رحمة!!!

جفلت كلتاهما من حدة نبرته، وارتعشت أنفاس رحمة قبل أن تهز رأسها بعنف، تهرب من نظراته وهي تقول بصوت مرتجف، لكن مليء بالتحدي:

-مش لوحدي… ما هي رغدة كمان راحت لمستر بدر وقالت له إنها بتحبه…

ساد صمت ثقيل، قبل أن يضيق «ضياء» عينيه، ينقل بصره بينهما، ونظراته تشي أن هذه الليلة لن تمر بسلام.

استدار «ضياء» يطالع «رغدة» بصدمة، وكأن كلمات «رحمة» صفعته أكثر من مرة.

أطرقت «رغدة» رأسها بخزي، ثم رفعت عينيها إليه سريعًا تحاول تبرير موقفها بصوت متوتر:

-بس أنا روحت واعتذرت له تاني، والله يا جدو!

لم يعلّق ضياء، فقط زفر بغضب ونادى على زوجته التي حضرت على الفور، القلق واضح في ملامحها وهي تسأل بلهفة:

-في إيه؟

لم يحتج ضياء إلا للحظات قبل أن يطلق كلماته بمرارة:

-أثبتولي إني فعلًا مبعرفش أربي… واحدة راحت لنادر شقته، والتانية راحت لبدر وقالتله بحبك!

صك كفيه معًا فانتفضت رغدة، ونطقت بسرعة وهي تنظر إلى جدتها بانفعال:

-أنا مقولتش كده!

لم يكن «ضياء» في حالة تسمح له بسماع التبريرات. حرك يديه بعصبية، وقال بنرة قاطعة لا تحتمل النقاش:

-تلمّوا هدومكوا، عشان تروحوا عند جدتكم داليا… ملكوش قعدة في بيتي!

-لا يا جدو!

صرختا بها معًا، واندفعتا نحوه تتوسلان، لكن وجهه كان جامدًا، وعيناه لا تحملان سوى الحزم. ردّ بصوت صارم، لا مجال فيه للتراجع:

-هروح أصلي العشا، وأرجع ألاقيكم لمّيتوا حاجتكم…

ثم استدار وغادر البيت بعصبية، صافعًا الباب خلفه بقـ ـوة، متجاهلًا نداءات زوجته، وتوسلات رغدة ورحمة، بل حتى بكاءهما الذي تصاعد كأنما يحاول كسر القرار الذي بدا أقسى من أن يُحتمل.

               ومن ناحية أخرى

جلس الشباب على الأرض، أنفاسهم تتلاحق، وقطرات العرق تنزلق على جباههم. كان الضحك لا يزال يتردد بينهم، خفيفًا، هادئًا، كأنهم تذوقوا للحظة طعم البراءة التي سرقتها منهم الأيام.

كان «عمرو» يتحدث مع «نادر» بأريحية، وكأن شيئًا لم يكن، وكأن المشاجرات التي مزقت علاقتهما لم تترك في القلب ندوبًا.

رفع «عمرو» رأسه حيث سراب ورمقها بنظرة خاطفة فدخلت «سراب» من الشرفة وتبعها البدري وتقى…

بينما التفت عمرو حوله ليلاحظ نظرات «بدر» المتفهمة ثم همسه جوار أذنه:

-هو إنت غبـ ـي يا عمرو؟

-عايز ايه يا بدر؟

-إنت يا حبيبي عامل زي اللي رمى الصناره في البحر وغمزت لكنه مسحبهاش ومستني السمكه تطلع…

حدق «عمرو» أمامه للحظات، وقبل أن يتحدث مرة أخرى لاحظ اقتراب «ضياء» منهم بخطوات واسعة لكنها مضطربة، وكأن الأرض تضيق تحت قدميه. عيناه كانتا مسمرتين على «نادر»، تموجان بالغضب والقهر.

-نادر!

علا صوته الحاد، فانتفض «نادر» واقفًا على الفور. مد يده ليصافحه، لكن «ضياء» لم يتحرك، فقط ثبت عينيه في عينيه وقال بجفاء حاد:

-تصدق وتأمن بالله… إنت إنسان مشافش تربية، وأنا ليا كلام تاني مع أبوك.

تشنج فك «نادر»، لكن قبل أن ينطق، رفع «ضياء» سبابته في وجهه محذرًا:

-إن قربت من رحمة تاني، أنا مش هسمي عليك.

تحرك «عامر»، وكأن صدمة اللحظة دفعته لمحاولة التبرير، فقال بسرعة:

-يا عمي، نادر معملش حاجة، هو اللي أنقذ رحمة من حد عملها فيديو و…

رفع «ضياء» يده قاطعًا إياه بحدة جعلته يبتلع بقية كلامه، وقال:

-اسكت يا عامر! إنتوا كمان كنتوا عارفين باللي حصل ومخبيين عليا؟! 

التفت «ضياء» إلى «نادر»، وعيناه تزدادان اشتعالًا، وصوته ينخفض لكن نبرته صارت أشد وقعًا:

-بقولك أهو يا نادر، أحفادي خط أحمر!

-أنا…

قالها «نادر» ولكن لم يمنحه «ضياء» فرصة، هدر بصوت حمل كل الغضب والاحتقار المتراكم داخله:

-مش عايز تبرير! إوعى تكون فاكر إني مصدق حكاية التوبة دي! إنت بس ملقتش مكان في التمثيل، فقولت تجرب تسلك مسلك الدين، لكن حتى ده مش هينفعك… لأنك و**سخ.

وقعت الكلمة حادة على مسمع «نادر» حتى شعر وكأنها مزقت شيئًا داخله، لكنه لم يقل شيئًا. فقط أطبق على قبضتيه، وطاف بنظراته على وجوههم جميعًا قبل أن يستدير فجأة، وينصرف بخطوات سريعة، والنداءات تلاحقه.

استدار «ضياء» وحدّق في «بدر» بنظرة حادة اخترقت أعماقه، لكن «بدر» تظاهر بعدم الإنتباه، وأدار وجهه سريعًا قبل أن يركض خلف «نادر»، متحاشيًا أي جدال قد يورطه…

صعد إلى جواره بصمت ثقيل، واستقر في مقعده دون أن ينبس بكلمة، قبل أن تنطلق السيارة مغادرة الشارع، تاركة خلفها توترًا غير مرئي.

نظر ضياء لعمرو وعامر وقال بحدة:

-أنا ليا كلام تاني مع أبوكوا!

ثم غادر «ضياء» مترنحًا في خطواته، وكأن قدميه لم تعودا قادرتين على حمله.

لم يكن عمرو وعامر قد استوعبا ما حدث بعد، لكن قبل أن ينبسا بكلمة، توقفت أمامهما سيارة أخرى، انفتح بابها ليترجل منها حسين.

وقف للحظة، رفع رأسه ببطء نحو شرفة سراب وتقى، وعيناه تضيقان بصمت، ثم دون أن ينطق، بدأ في صعود الدرج بخطوات واثقة.

تبادل «عمرو» و«عامر» النظرات، إدراك صامت مرّ بينهما، قبل أن ينطلقا خلفه مهرولين.

                  وعلى نحوٍ أخر

وقفت «رحمة» بالشرفة، عيناها تتابعان ما يجري في الشارع بالأسفل، بينما وقفت «رغدة» إلى جوارها، تتبادل معها نظراتٍ متوترة تخللها عتاب صامت.

ازدادت ضربات قلبها اضطرابًا حين رأت جدها يقترب من «نادر» بخطواتٍ غاضبة، وكأن العاصفة على وشك أن تشتعل.

لم تفكر طويلًا، لم تنتظر إذنًا أو تسأل أحدًا. استدارت فجأة واندفعت خارج المنزل، تتبعها «رغدة» التي لم تجد وقتًا للتفكير، فقط لحقت بها، تسألها بنبرةٍ مرتعشة وهي تلهث خلفها:

-رايحة فين؟

-اصبري.

قالتها «رحمة» بحدةٍ مقتضبة دون أن تبطئ من خطواتها. توقفتا عند رأس الشارع، وراحت رحمة تشرئب برأسها، عيناها تمسحان الطريق وكأنها تنتظر شيئًا أو أحدًا، بينما ظلت رغدة تراقبها بقلق، تتأرجح بين الحيرة والريبة.

فجأة، خرجت سيارة «نادر» من الشارع، فرفعت رحمة يدها بإشارةٍ حازمة ليوقف السيارة.

انتفضت «رغدة» وقد تسارعت أنفاسها، وهمست بذهول:

-إنتِ بتعملي إيه؟

لكن «رحمة» لم تلتفت، ولم تجب. ظلت ثابتةً حتى توقفت السيارة وارتجل «نادر» منها، وقبل أن تفتح فمها بالكلام، انفتح الباب الآخر للسيارة، وخرج بدر.

شعرت «رغدة» بتيارٍ بارد يسري في أوصالها، وارتعشت أناملها وهي تتابع المشهد، قبل أن تغمغم بذهولٍ وامتعاض:

-منك لله يا رحمة…

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم  

                    ★★★★★★

جلس «البدري» قبالة «سراب»، يرمقها بين حين وآخر، وكأن الكلمات تتزاحم على طرف لسانه، تنتظر لحظة الإفلات. لاحظت نظراته، لكنّها تظاهرت بالانشغال بهاتفها، وكأنها لم ترَ شيئًا. هي تعرف تمامًا ما يريد قوله… حتمًا سيتحدث عن بدر، عن إصرارها الذي لا يفهمه أحد على رفض الزواج منه.

تنحنح قليلًا قبل أن ينطق باسمها بصوت هادئ، لكنه كان يحمل بين طياته شيئًا آخر، مكرًا خفيًا أو إلحاحًا متوارياً خلف الهدوء:

-سراب!

ارتفع حاجباها قليلًا وهي ترفع عينيها نحوه، ملامحها متحفّزة، مستعدّة لمواجهة هذا الحديث الذي باتت تمقته. أما هو، فابتلع ريقه قبل أن يردف بنبرة حملت نوعًا من المناورة:

-بدر بيحبك وشاريكِ، أنا اتكلمت معاه وعرفت اللي جواه… هو بس مش عايز يضغط عليكِ.

تجمّدت أنفاسها للحظة، باغتتها كلماته، فلم تجد ردًّا سريعًا. لم تتخيّل أن يكون لبدر مشاعر نحوها، لم يسبق أن فكّرت في الأمر أصلاً! شعرت بثقل غريب في صدرها، لكنها هزّت رأسها سريعًا، وكأنها تطرد الفكرة قبل أن تتسلل إليها، ثم قالت بصوت صارم:

-الموضوع ده انتهى يا جدو، أنا بعتبره أخويا، وحتى لو بيحبني، مش هغيّر رأيي… وياريت كفاية بقى، متتكلمش معايا في الموضوع ده تاني.

تغيّر وجه «البدري» في لحظة، تصلّبت ملامحه، وتحوّلت نبرته من الهدوء إلى حدّة لم تألفها منه من قبل:

-إنتِ دماغك ناشفة، ومتعبة! أنا جبت آخري منك!

نهض فجأة، بحركة مباغتة كصفعة هواء باردة، ثم أضاف بغضب مكبوت بالكاد يسيطر عليه:

-أنا طالع فوق! ومش هتكلم معاكِ تاني، لا في الموضوع ده ولا في غيره!

استدار بعنـ ـف، وخطاه المتسارعة تهزّ الأرض تحته، فتحت «سراب» فمها لتتحدث، لتطلب منه أن يهدأ، لكن الغضب استحوذ عليه تمامًا. كادت تلحق به، لكنه سبقها نحو الباب…

فوقفت «تقى» أمام الباب لتمنعه من الخروج…

وفي تلك اللحظة… قُرع الجرس.

استغفروا

بقلم آيه شاكر 

                       ★★★★★

منذ أن سأل «بدر» «سعيدة»  عن الصورة، وهي شاردة تحاول ربط الخيوط في رأسها…

قادها فضولها فقررت زيارة «شيرين» طرقت الباب وانتظرت، وحين فتحت الأخيرة، استقبلتها بابتسامة مجاملة، لكن عينيها لم تستطع إخفاء نظرة الاستغراب. لم تكن معتادة على زياراتها غير المتوقعة.

جلستا سويًا، وبلا مقدمات، أمطرتها سعيدة بوابل من الأسئلة، بصوت يحمل مزيجًا من الفضول والتلميح المبطّن:

-هو إنتِ اسمك شيرين إيه؟

-شيرين عبد الوهاب…

لم تستطع سعيدة كتم ابتسامة ساخرة قبل أن تنفجر بضحكة قصيرة قائلة:

-طيب ما تسمعينا حاجة يا فنانة…

زفرت «شيرين» بضجر، وشفتيها ترتجفان بابتسامة صفراء، بينما كانت «سعيدة» مستمتعة بمداعبتها.

 لكن فجأة، تغيرت نبرتها إلى الجدية:

-طيب، هو فين أبوكِ؟

تصلبت ملامح شيرين قليلًا، ثم أجابت بصوت هادئ لكنه مشحون بذكرى موجعة:

-أبويا الله يرحمه، توفّى من سنين طويلة… بتسألي ليه؟

تجاهلت سعيدة السؤال مباشرة وقالت وهي تميل للأمام قليلًا:

-وإنتِ عندك كام أخ؟

رمشت «شيرين»، وكأنها بدأت تشعر بأن هناك ما هو أبعد من مجرد فضول عابر:

-اتنين، الصغير في كندا، والكبير هنا، أبو يونس… ما إنتِ شفتيه قبل كده.

أومأت سعيدة ببطء، نظراتها تائهة للحظات، وكأن عقلها يربط الخيوط أخيرًا. ثم تمتمت بشرود، صوتها بالكاد يُسمع:

-بس هو ملوش غير بنت وولد؟!

رفعت رأسها مجددًا وحدّقت في شيرين، وهذه المرة عيناها تضيقان بتركيز أشد وهي تسأل بصوت منخفض لكنه محمل بالريبة:

-أمك كانت متطلقة من أبوكِ؟

قطبت «شيرين» حاجبيها، نظرة شك ارتسمت على ملامحها وهي تسأل بحدّة، وكأنها بدأت تستشعر نوايا غير مريحة خلف هذا التحقيق المفاجئ:

-ليه كل الأسئلة دي يا حجة سعيدة؟

لوّحت «سعيدة» بيدها سريعًا، محاولةً نفي أي نية خفية:

-لا مفيش… فضول مش أكتر…

لكن شيرين لم تنخدع بسهولة. زفرت بضيق، وصارت نظراتها أكثر برودًا وهي ترد بنبرة واضحة النفور:

-لا يا ستي، أمي مكنتش متطلقة ولا حاجة، وأبويا كان راجل محترم، الله يرحمه ويغفر له.

ساد صمت ثقيل للحظات. كانت سعيدة تفكر، بينما شيرين تحدق بها ببرود، وكأنها تنتظر أن ترى إلى أين ستأخذها هذه الأسئلة الغريبة…

مالت «سعيدة» للأمام، وصوتها ينساب كهمس خافت:

-احلفي؟

اتسعت عينا شيرين، نظرة متعجبة جمدت ملامحها وهي تقول بنبرة حذرة:

-أحلف على إيه بالظبط؟

نهضت «سعيدة» بغتة، وكأنها اكتفت بما سمعته، وقالت وهي تهمّ بالمغادرة:

-طيب، استأذن بقى…

تابعتها «شيرين» تقطر شكًا، وعقلها يعيد استرجاع أسئلة سعيدة، وأخذت تقلب كفيها بذهول، وكأن شيئًا غريبًا يلوح في الأفق، وقبل أن تغرق في أفكارها أكثر، انتشلها من شرودها صوت شجار حاد، دفعها للتوجه نحو الشرفة…

شهقت حين سمعت صوت أحد أبنائها وخرجت تنادي رائد مسرعة…

بقلم آيه شاكر 

             ★★★★★★

انتفضت «سراب» حين ظهر «حسين» خلف الباب، ليتها لم تفكر فيه! كأن استدعاءه في عقلها استدعاه إلى الواقع.

دفع «حسين» الباب بيده، ودخل بخطوات واثقة، وعيناه تجولان في المكان بثقة مستفزة.

رشق «البدري» بنظرة ساخرة قبل أن يتخطاه كأنه غير موجود، ثم جلس على أحد المقاعد، يضع ساقًا فوق ساق، وقال بصوت ينضح بالاستهزاء:

-مواجهة كان لا بد منها.

وعند الباب…

وقفت «تُقى» متيبسة، لم تغلقه بعد، وكأنها غير قادرة على الحركة. تبادل الثلاثة «سراب والبدري وتقى» النظرات ككلمات صامتة تحمل توترًا مخيفًا، حتى ظهر «عمرو» و«عامر»، واقتحما المشهد كعاصفة…

تقدم «عامر» أولًا، مدّ يده ليحيط كتفي تُقى، نظر إليها مطمئنًا فأومأت له بتوتر، قبل أن تتشبث بملابسه كأنها تستمد منه ثباتها.

أما «عمرو»، فدخل بخطوات ثابتة، وعيناه مسمّرتان على «حسين»، قبل أن يتقدم ليجلس قبالته، حدجه بنظرة صلبة، ثم قال بنبرة لم تخلُ من السخرية والاحتقار:

-خلينا نتكلم بوضوح، لأن سيادتك واضح إنك بتحب اللف والدوران حوالينا… تبعتلنا بودرة، تخطـ ـف عامر… تصرفات بصراحة لا تليق براجل محترم زيك! ولا إيه يا محترم؟

لم يطرف لحسين جفن، وكأنه لم يسمع شيئًا انفرجت شفتاه عن ابتسامة باردة، ثم قال بتهكم وهو ينظر إلى عمرو كأنه يقيّمه:

-أهلًا وسهلًا، نورت… عامل إيه؟

ثم، دون أن ينتظر ردّه، التفت إلى «سراب» وسأل بنبرة مستفزة:

-مين الأستاذ؟

لم تجبه «سراب»، لكن قلبها كان يقرع بقـ ـوة وكأنه يعلن أن هذا اللقاء لن ينتهي بسلام. كانت أنفاسها تتسارع، وجسدها متحفزًا لمواجهة وشيكة.

نظر له «عمرو» وقال مباشرة، بنبرة حادة:

-عايز إيه؟ قول بوضوح، بتدور على إيه؟

أمال «حسين» رأسه قليلًا، وكأنه يستمتع بإطالة لحظة التوتر، ثم قال ببرود مصطنع:

-أنا جاي أطّمن على بنتي… بس ممكن أعرف إنت إيه سبب وجودك هنا؟

أطلق «عمرو» ضحكة متهكمة، قبل أن ينهض واقفًا، ليقترب من «حسين» بخطوات ثقيلة، وعيناه تشتعلان بتحدٍّ صريح.

انحنى قليلًا نحوه، محدقًا في عينيه، قبل أن يهدر بجدية وهو يضغط على كل كلمة:

-عايز مننا إيه؟!

تنهد «حسين» بقـ ـوة، وكأن الأمر كله لا يستحق هذا التصعيد، ثم قال أخيرًا، بنبرة عادية كأنه يطلب شيئًا تافهًا:

-تمام… خلينا نتكلم بوضوح، عايز الحاجة اللي كارم سرقها وهرب… وعايز عامر يطلق تُقى… عشان عجباني.

كلماته الأخيرة كانت كالشرارة التي أشعلت بركانًا. في جزء من الثانية، زمجر عامر كوحش أفلت من قيوده، وانقضّ على حسين بكل غضبه، هادرًا:

-مين دي اللي عجباك يا راجل إنت؟ 

لكن حسين كان أسرع مما توقع دفعه بقـ ـوة فارتطم «عامر» بالأرض، شهقت «تقى» وانحنت تتفقده، بينما وثب «عمرو» نحو حسين دون تردد وقبضته تنطلق نحوه بعنـ ـف، اندلع الشـ ـجار وتصاعدت الأصوات، كانت «سراب» تصرخ دون وعي وتسحب «عمرو» من ملابسه وقلبها يختلج خوفًا عليه، ثم اندفعت تقف بينهما وجسدها الصغير حاجز هش بينهما، دفعت حسين ونبرتها ترتجف من الغضب والرعب:

-سيبه… إنت جاي ليــــه… سيبه، إوعى كده…

لطمها «حسين» على وجهها فاشتغل غضب «عمرو» ووثب يقف أمامها لكنها عادت تقف أمامه فاتحة كلتا ذراعيها ومن عيناها تنطلق نظرات ترشق حسين بتحدٍ…

تشنج وجه «حسين»، وغلى الغضب في عروقه، قبل أن يمد يده فجأة ويجذب «سراب» من حجابها بعـ ـنف، فانسحب القماش عن رأسها، فصرخت وارتجفت…

شهقت «تقى» واتسعت عيناها برعب، لكن قبل أن تتدارك الموقف، انقض «عمرو» كعاصفةٍ هادرة، ودفع «حسين» بكل ما أوتي من قـ ـوة، فسقط الأخير على الأرض مترنحًا.

اندفع «عامر» ليقف بجوار «عمرو»، يشكلان سدًا منيعًا أمام «سراب» التي التصقت بـ «تقى»، وراحت الأخيرة تلملم الحجاب حول رأسها وتشدها إلى صدرها، تحاول تهدئتها بينما شهقاتها تتصاعد بحرقة، كتلك العاصفة التي تدور في المكان.

ساد صمت ثقيل، مشحون بالكثير مما لم يُقال، قبل أن يشقه صوت «البدري» الذي علا بغتةً كأنه طعنةٌ مفاجئة:

-كفاية… كفاية يا حسين! بكفاياك بقى!

نهض «حسين»، وتقدم نحو «البدري»، والغضب يشتعل في نظراته، وعيناه تضيقان كمن يحاول ترويض إعصار يوشك أن ينفجر. وقف قبالته، يرمقه بحدة، ثم رفع سبابته في وجهه، وصوته يخرج هادرًا، ممزوجًا بالغليان والقهر:

-إنت عارف كل حاجة! إنت أُس المصايب كلها… فين الحاجة اللي كارم أخدها؟

اهتزت أنفاس البدري للحظة، وكأن شيئًا اخترق حصونه، لكنه سرعان ما تمالك نفسه، وعيناه ظلّتا ثابتتين بلا وهن. ثم انطلقت كلماته بصوت زلزل المكان بأسره:

-كـــــــــارم مــــيـــن؟! عمك كارم يابني مات من أكتر من عشرين سنة! حلّ بقا اللغز ده الأول يا حسين بيه، وساعتها نشوف إيه الحاجة اللي بتدور عليها! وكارم أخدها منك من عشرين سنه.

تصلّب فك حسين، وصمت هنيهة مفكرًا، بينما أكمل البدري بصوتٍ أشد رسوخًا، ليخترق الصمت كالخنجر:

-فيه أسئلة كتير محتاجة إجابة يا حسين… إمتى اتجوزت بنت عمك كارم؟ وإزاي كارم ليه شهادة وفاة وهو عايش؟ وفين باسل ونيرمين؟ وإيه الحاجة اللي بتدور عليها وكارم هرب بيها؟ أسئلة كتير أوي، وإحنا منعرفش إجاباتها…

ظهرت بسمة ساخرة على شفتي «حسين»، لكنها لم تصل لعينيه، بل ازدادتا حدةً وضيقًا وهو يتمتم بنبرةٍ مشبعة بالريبة والاستهزاء:

-متعملش نفسك بريء وتعيش الدور! الأسئلة دي كلها إجاباتها عندك إنت، ولا تكون فاكر إنك هتضحك عليا زي ما ضحكت على البنتين دول!

تجمدت ملامح البدري، وتسللت موجة من الشك إلى الأعين التي التفتت إليه.

 تبادلت «سراب» و«تقى» النظرات المتسائلة، قلوبهما تنبض بذات السؤال الخفي الذي لم يجرؤ أحد على نطقه…

أيعقل أن مفتاح اللغز كان هنا طوال الوقت… في بيتهما وبينهما، ولم ينتبها؟

لو وصلتوا هنا بالسلامة متنسوش التفاعل حطوا لايك وكام كومنت وانتظروا الحلقه الجايه ان شاء الله  

يتبع

#كتابات_آيه_شاكر

#روايات_آيه_شاكر

تكملة الرواية بعد قليل 

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *