التخطي إلى المحتوى

رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الثامن والأربعون

كلما ظننا أنه السلام، صفعتنا طبول الحرب
متى ننعم بالسلام إذا؟..
أم أن السلام حُرِم على أمثالنا ولم يختر صحبتنا سوى الشقاء؟
ربما نسلم ذات يوم يختارنا فيه السلام رفقاء لبضع ساعات، ربما.

لن يسأم أبدا من المغامرة، وتحدي المخاطر بلا تخطيط متقن بالنسبة لها، يعشقهما كما تعشقه هي، هذا ما فكرت فيه ملك وهي جالسة في شرفة المنزل الذي حضرا إليه، تنعم بنسمات هواء هذه الليلة الهادئة، وتطل على الخارج وسكونه متأملة، سكون لا يسبب ذعر بل يحث على الراحة النفسية، يكفي فقط سكان المنزل المجاور، لديهم ابن وابنة لا يكفا عن المشاورة لها من بعيد، لوحا لها الآن من بعيد فأشارت لهم ليأتوا وتتعرف عليهم، علمت أنهما سيأخذا الإذن من والديهما فابتسمت بحنان، تجربة أن يكون لديها طفل أصبحت تلح عليها وبشدة، لمع في عينيها نظرة حزينة فأمنيتها البسيطة هذه محاطة بالمخاطر، كلما تمنتها تذكرت الفقد والخوف من الفقد، انتقلت بذاكرتها إلى ليلة أمس، حين استيقظت ووجدته في طريقه للخروج وتحدثا ثم عرض عليها أن يأخذها معه هامسا: هنسيكي نفسك.

خرجت معه وأبدت اعتراضها أثناء ركوبها السيارة: قبل ما اعرفك توقيت قبل الفجر ده كان بالنسبالي توقيت نوم بالنسبة للناس الطبيعيين، ويوم ما يزيد أوي بيبقى سهر في البيت
ضحك وهي تكمل: لكن بعد ما عرفتك بقى اكتشفت إن الساعة عندك بالمقلوب، ما كنا فضلنا في البيت بدل التنطيط ده يابن الناس.

رد عليها وهو يطالع الطريق أمامه بعد أن شرع في القيادة: أجمل وقت للمغامرة بعد نص الليل، إيه المثير في إنك في بيتك من الساعة 10، ولا حاجة، ملل، أنا مبكرهش الروتين على فكرة بس بحب التغيير
مطت شفتيها بغيظ قبل أن تعلق على ما قاله بنزق: وأنا مبحبش الجري والفرهدة، والتغيير بتاعك ده بيخليني عايزة اجري وراك في كل مكان خاي…

قاطعها مرددا بتصنع الانزعاج: مش ممكن أبدا على الزن، وبعدين قولتلك خليكي وهرجع علطول، أنتِ اللي عاندتي، متنكديش علينا بقى
طالعها فوجد في عينيها نظرات الانزعاج والضيق منه أيضا فضحك مما أثار استفزازها وجعلها تضربه في صدره، انتبهت لوجود كيس بلاستيكي في السيارة، فتحته لتجد به زجاجات معدنية من مشروبه المفضل فبحثت بينهما وتناولت واحدة قائلة: هاخد دي ماشي؟
فسألها بغير تصديق: بتستأذني؟ خدي طبعا.

فتحتها ثم شرعت تشرب منها ولم تتوقف إلا حين أخبرها مشيرا بعينيه على يدها: حلوه أوي الساعة اللي أنتِ لابساها دي.
بان الفرح على وجهها وهي تسأل بسعادة: بجد؟

هز رأسه مؤكدًا، واسترسلت هي تقص عليه كيف ابتاعتها من أول مرتب تقاضته، والذي ظنت أنه بعد كل الأخطاء التي كان يستخرجها لها لن يتبقى منه شيء، ولكن كانت سعادتها لا توصف حين أخبرها بأنها كبداية أدت جيدا، ظلت تتحدث حتى انتهت إلى نقطة: متعرفش كنت مبسوطة ازاي وأنا بجيبها، إحساس حلو لما تبقى بتجيب الحاجة بمجهودك كده
وفتحت حقيبتها وأخرجت منها كتاب صغير قدمته له مضيفة بفرح: وجبت ده ليك.

السعادة في عينيها هذه جعلته يبتسم، وينتعش فؤاده فرحًا، أوقف السيارة في مكان مناسب وتناوله منها، توسط غلاف الكتاب من الخارج اسمه بلون أسود ثم فتحه ليجد به العديد من الأوراق التي يحب الكتابة عليها ولصقها على الجدران، والكثير من الطوابع البريدية المغرم بها، وأوراق متفرقة من جرائد قديمة فاتسعت ابتسامته، وصور لسيارات قديمة وحديثة، وأثناء تفحصه له بشغف سألته بلهفة للجواب: عجبك؟، أنا عملته عند بنت بتعمل حاجات Handmade علشان أعرف أحطلك جواه كل الحاجات اللي بتحبها.

أغلقه ومسح على اسمه ومازالت ابتسامته تزين ثغره ثم طالعها قائلا: تعرفي إن دي أحسن حاجة جاتلي في حياتي؟
بجد؟
كانت ضحكتها الواسعة تعبر عن فرحتها وهز هو رأسه مؤكدا ثم عاد يطالع الدفتر من جديد بتأثر مضيفًا: هو الأحسن منها نفسها، إنها جت منك أنتِ.

ثم ربت على كتفها مؤكدًا بفخر ضاعف ثقتها: وأنا بجد فرحان بالكام خطوة اللي خدتيهم دول، فاكر أول مره قولتلك تشتغلي وخوفك من إنك تبقي مسؤولة عن حاجة، وإنك هتفشلي، لكن نجحتي أهو، صحيح بتطلعي عيني وغلطاتك كتير بس نجحتي.
وأشار ضاحكا على الساعة والدفتر بيده: وادي فلوسك اهي.

ثم مسح على وجنتها مرددًا بحنان: وفرحتك اللي قولتيلي عنها من شوية علشان حاسة إنك اتقدمتي خطوة، وإحساس إنك جايبة ده بمجهودك وحماسك بيه، ده أكبر عندي من أي حاجة تانية.
أنهى حديثه وعاد لقيادة سيارته من جديد وهو يعلق مازحا على الأوراق المتواجدة بالدفتر وسيستطيع تثبيتها على الحائط: فلتسعدي أيتها الجدران، عيسى قادم.
ضحكت على قوله وأكمل هو طريقه إلى وجهتهما التي لا تعرفها حتى الآن.

قررت الاستجابة بعد تفكير فيما قالته والدتها، كل ما قالته صحيح، هي غير قادرة على مواجهة مشكلتها معها هي قبل الآخرين، انتظرت شهد حتى تم السماح لها بالدخول إلى المعالج، بدا عليها التوتر وهي تجلس وتقول: مساء الخير.
رد عليها وخفف حدة الأجواء بقوله المازح: لا إيه التوتر ده، أول حاجة أي حد بيدخل هنا لازم يعملها إنه يبقى هادي، مش متوتر وعايز يقوم يجري.

طالعت الباب بالفعل وكأنها تفكر جديا في التراجع فحثها برفق: اهدي أنا بهزر معاكي
طالعته بهدوء وأكمل هو: محتاج أسمع منك، كل اللي عايزة تقوليه ومكنتيش بتقدري تقوليه قبل كده قوليه، اعتبري إنك بتواجهي نفسك وفرغي كل اللي جواكي.
ابتسمت بسخرية وهي تكرر من خلفه: نفسي؟، أنا لو قادرة أواجه نفسي أصلا مكنتش جيت هنا.

صمت تماما وعلم أن بعد المقدمة هذه ستسترسل وبالفعل بدأت في محاولة التعبير عما بداخلها: أنا مش قادرة أتجاوز بابا، عمي مهدي، مش قادرة أتجاوز شهد اللي سمعت أبوها بيقرر إنه هيطلعها من المدرسة علشان يرضى أخوه اللي عايز يرضي المريضة مراته علشان غيرانة من طفلة لمجرد إن عندها بنت في نفس عمرها، ومش عايزة حد يكون أحسن من بنتها.

تنهيدة حارة تبعها قول: بابا مات وأنا صغيرة، ومهدي كمل الطريق، يمكن اللي خلاني قدرت أتعايش، إن عمي كان متخاذل معانا كلنا، ومراته كانت بتحاول بكل الطرق تكرهنا في العيشة، بس أنا كنت بقفلها، ورغم كده سببتلي حاجة مش قادرة أعدي منها لحد النهاردة.

نزلت دموعها وهي تقص عليه ذلك اليوم حين احتجزتها وهي صغيرة في تلك الغرفة المظلمة المجاورة للمنزل، حكت معاناتها مع الظلام، ومساومة عمها لوالدتها حتى ترضى بالأمر الواقع وشرط والدتها بأن تعود شهد للدراسة وعودتها بالفعل، والآن ابتعادهم تماما عن كل ما يخص منزل عمها ولكن هتفت بغير رضا: كنت مفكرة لما هنبعد، هقدر أتخطى الحواجز اللي عيشتي هناك كونتها، قابلت طاهر، وحبينا بعض، هو أكتر إنسان بحس معاه بالأمان، طاهر أنا عارفة إنه بيحبني وبيخاف عليا، بس بقيت حاسة إن علاقتنا فيها مشكلة وجيت هنا علشان لو أنا جزء من سبب المشكلة دي أحلها، أنا بكره التحكم، أي محاولة للتلميح بفرض رأي عليا بتخوفني وبتفقدني الثقة في اللي قدامي، بتفكرني بعمي وبابا، وبإن مصير العلاقة لو كملت هيبقى إني إنسانة غير راضية بيتحكم فيها حد تاني.

وضحت أكثر وكأنها تواجه نفسها بالفعل قبل أي شخص آخر: طاهر عنده ابن بيخاف عليه أوي، وبيحبه حب كبير، كنت أتمنى لو بابا يحبني ربعه بس، ساعات بغير من حب طاهر ليزيد، أول جرح اتجرحته من طاهر كان بسبب حد وقع بيننا واستغل يزيد، طاهر وقتها لغى عقله، قالي كلام عمري ما كنت اتخيل أسمعه منه، كنت حاكياله مشكلتي مع بابا قبلها، وجرحني بيها وقت المشكلة.

تكرر في أذنيها صوته يوم شجارهما حين أوقعت فريدة بها في الفخ وخُدِع هو، استطاعت أن تسمعه الآن يقول: أنا مش زي أبوكي يا شهد، أنا ابني أهم من أي حد في الدنيا دي، وبما إني النهارده جربت مرارة خسارته، وأنتِ ليكِ يد، يبقى أنتِ في داهية قصاد نظرة منه.
عبراتها في سباق على وجنتيها وهي تتذكر ذلك الأمر، قدم نور لها المياه وبعد أن هدأت قليلا سألها: ورجعتوا؟

هزت رأسها وهي تكمل أثناء إزالتها لدموعها: قعدنا فترة سايبين بعض، وهو عرف الحقيقة وإني اتضحك عليا، حاول بكل الطرق نرجع، وأنا كنت رافضة، بقيت ألاقيه في كل مكان حواليا، وأنا من جوايا كنت عايزة أرجعله علشان شايفاه اتلعب بيه زيي، لكن مكنتش قادرة أسامح إنه صدق عليا، إنه وجعني بالكلام اللي قاله أوي علشان جاي منه هو، كنت اتقدمت كام خطوة وبدأت أنسى، بس لما الكسرة جت منه وقتها رجعت كل اللي اتقدمته تاني، لحد ما حصل حاجة كبيرة.

قصت له أزمتها مع جابر والادعاءات التي طالتها، كيف كانت سيرتها كالعلكة في فم الجميع، ووقف هو مواجها الكل يدافع عنها، ولم يصدق عليها حرف واحد مما قيل، قصت له كيف أخذها من ذلك الملهى الليلي حين استدرجها جابر بالخدعة وأعادها للمنزل ولم يقص أي شيء لوالدتها على الرغم من أن هذا في صالحه تحديدا وقت انفصالهما، ابتسمت وهي تتذكر موقفه معها وأردفت: وقف ودافع عني قدام الكل، جابلي حقي في الشارع وخلى كل اللي اتكلم كلمة عني عينه في الأرض، ومصدقش ساعتها أي حاجة من اللي اتقالت، وقف جنبي، وبعد اللي حصل ده رجعنا، وبعدها بفترة كتبنا الكتاب، بس من وقتها وأنا حاسة إن في حاجة غلط، خوف طاهر عليا بقى مبالغ فيه، مبقاش يفرق تقريبا بيني وبين ابنه، احنا الاتنين في نظره عيال ومعرضين للخطر في أي وقت ومحتاجين حد يحمينا، وأنا مبقتش أقدر استوعب كلامه زي بداية علاقتنا، بقى أي حاجة يقولها تترجم تلقائي تحكم وإنه عايز يلغيني، ثقتي قلت، بقيت افتكر موقفه ساعة مشكلة ابنه بجانب بابا وعمي وإنه في وقت ما ممكن يبقى زيهم ويكسرني تاني، وده خلاني كمان مبقتش دايما أحكيله على اللي بيضايقني، على مخاوفي، واخر مرة لما حكيت على مسابقة مهمة خسرتها وحاول يهديني وإنه مش مهم، اتخانقت معاه، وقولتله إنه هو أصلا كان عايزني أخسرها.

أبدت ندمها على قولها هذا وهي تشرح: معرفش ليه قولت كده، طاهر أصلا هو اللي قدملي في المسابقة دي، بس أنا بقيت أخاف ومش واثقة في أي حد، مبقتش قادرة أصدق المواساة بجد، مع إن طاهر يستحق إني أثق فيه بس اللي عمله قبل كده هو اللي زود الفجوة دي، آخر مره اتخانقنا هو استوعب إني مش واثقة فيه، وقالي راجعي نفسك علشان الإنسان اللي فكرتك عنه دي، المفروض إنك هتكملي معاه حياتك، ومن يومها ما اتكلمناش تاني.

طالعها بهدوء يتأكد من أن ليس لديها المزيد لتقوله، وبعدما تيقن من ذلك حاورها بما عنده: بصي يا شهد، لو عايز تدمر أي علاقة في قنبلة بتعمل ده بكل بساطة وهي الثقة، مفيش ثقة، يبقى مفيش أمان، يبقى العلاقة هتفشل لأن احنا قدام شك طول الوقت هو الشخص اللي قدامنا ده صادق بجد، طيب ليه ميكونش ده شفقة، ليه ميكونش بيخدعنا وهيجي يوم ويجرحنا ودايرة نتيجتها الأكيدة فشل العلاقة.

أنصتت له تماما ربما تجد في حديثه حل لمشكلتها واسترسل هو: فتعالي نجاوب على كام سؤال مع بعض كده، أول حاجة إيه السبب في انعدام الثقة بينك وبين طاهر؟

لم تجاوب هي بل استمعت إلى جوابه وشرحه لما حدث وهو يقول: أنتِ كان عندك أصلا مشكلة في ثقتك بالناس بسبب تجارب سابقة بابا و عمك لحد ما قابلنا طاهر، وزي ما أنتِ قولتي بدأنا تدريجي نتعافى من مشاكل الثقة دي ونتقدم خطوتين قدام، وندرك إن الناس كلها مش بابا وعمي وفي ناس تستحق نثق فيهم، وهنرجع ندي الأمان للي حوالينا تاني.

هزت رأسها بتأكيد كل ما يقوله صحيح، وتابع نور: لحد ما حصلت مشكلتك مع طاهر وقت ما انفصلتوا، هنا الأزمة اللي كنا عالجنا منها جزء، رجعت تاني بس بصورة أكبر علشان ده طاهر اللي ساعدنا أصلا نتخطى قبل كده فعقلنا مستوعبش اللي حصل منه، فبدأنا نرجع للقديم ونتأخر، شوفنا إننا دايما ضحايا لناس نواياهم سيئة، فثقتنا باللي حوالينا انعدمت تماما، اه رجعنا تاني لعلاقتنا بطاهر علشان حصل موقف هزنا رجعنا بسببه، لكن حتى الموقف اللي هزنا ده مقدرش يكسر حواجز الدفاع اللي حطيناها وقت الانفصال علشان نحمي نفسنا من أي جرح تاني حتى لو الحواجز دي كانت إننا مش هندي اللي حوالينا فرصة.

ترتب حديثه داخل عقلها، وتمرره على كل ما حدث معها فتتيقن من وصفه الدقيق ويضيف هو: فاللي حصل إن طاهر مبقاش ياخد أي فرصة منك يعبر عن وجهة نظره على حسب كلامك، الحواجز بتاعتك بقت دايما تصد كلامه عن طريق إنها تترجمه غلط، وأثر موقفه القديم لما جرحك كان أقوى من أثر موقفه لما وقف جنبك فبقى طاهر أحد مصادر الأمان معندهوش نفس الفرص اللي كان بيتمتع بيها في الأول، بقى زي أي حد، مشكوك فيه طول الوقت.

ومع تراكمات طبعا المشاكل بتزيد والعلاقة بتضعف، كان ممكن نتجنب كل ده بحل تنفيذه مش بسيط بس كان هيسهل كتير
دفعها فضولها لسؤاله: إيه هو الحل ده؟

الحل كان إنكم قبل رجوعكم بعد أزمة الانفصال، توضحيله الهزة اللي حصلت جواكي من موقفه القديم، وإن حتى لو رجعتوا لسه فيه علامة هتحاولوا سوا تتخطوها، إنك ثقتك قلت وبقى في خوف مش أمان مطلق زي الأول، و بما إنه بيحبك زي ما قولتيلي، فشخصية زي اللي وصفتيهالي كانت هتساعدك تتخطي ده، لكن لما مقولتيش ورجعتوا وكأن كل حاجة عادي، هو مبقاش فاهم في إيه، مش مدرك إن القديم مأثر عليكِ، والخلافات اللي عمالة تتراكم دي سببها إيه، ليه مبقتيش تفهميه وبتترجمي كلامه غلط.

فالحل يا شهد هو المواجهة
نصحها بابتسامة هادئة: واجهي يا شهد، اتكلمي معاه بهدوء، اعتذري الأول عن سوء الفهم الأخير، وبعدين اتكلموا، تاني نقطة حاولي يكون لكل واحد فيكم مساحته، اطلبي منه مساحتك وكذلك تديه مساحته، اتناقشي متتخانقيش حاولي تبعدي عن الانفعال بكل الطرق، محاولاتك مع.

طاهر ومع نفسك قبله إنك تتخطي أزمة الثقة اللي حصلت بينكم وقت انفصالكم لو نجحت، هتنجحي برضو تتخطي القديم وترجعي ثقتك تدريجي باللي حواليكي تاني
أبدت رضاها عما قاله، وما إن انتهت جلستهما، حتى قررت الذهاب إلى وجهة بعينها، كان يتجاهل اتصالاتها فقررت الذهاب له، وصلت إلى المنزل فلم تجد سوى سهام و تيسير في استقبالها، طالعتها سهام وظهر انزعاجها جليا وهي تسألها: خير؟
طاهر فين؟

سألت شهد بهدوء، وحاولت ألا تشتبك في أي شجار الآن حتى حين استمعت لرد سهام الجاف: مش موجود.
فرسمت ابتسامة واسعة وهي تقول بحماس: طب كويس جدا، علشان معايا حاجات عايزة أحطها في أوضته، ولما يرجع يشوفها تبقى مفاجأة.
تخطتها شهد في طريقها نحو الأعلى
ولكن منع خطواتها جذب سهام لها وهي تقول باستنكار: استني هنا، إيه اللي بتعمليه ده، بتاع إيه تطلعي أوضته كده.

بتاع إنه جوزي، وعاملة لجوزي مفاجأة، فالمفروض يا حماتي تساعديني علشان دي حاجة هتسعد ابنك، مش تمسكيني كده
قالت جملتها الأخيرة وحررت يدها من سهام التي طالعتها تيسير بقلق، أتت سهام لتعترض طريقها من جديد ولكن أسرعت شهد نحو الأعلى وتبعتها تيسير التي همست بقلق: دي باينها ليلة مش معدية
ووالدته التي علا صياحها: استني يا بنت أنتِ، عيب اللي بتعمليه ده.

لم تستمع لها وصلت إلى غرفته التي حضرت إليها مسبقا لزيارته حين كان مصابا، وقبل أن تفتح بابها، فتح هو الباب سائلا باستغراب بعد أن سمع صراخ والدته: في إيه؟
صدم سهام وجود ابنها الذي لم تشهد لحظة عودته من الخارج وتفاجأت به في غرفته للتو، بينما طالع هو شهد باستغراب وقد استدارت لوالده تسأل بسخرية: مش عيب يا طنط برضو يبقى هنا، وتقولي مش هنا.
وعادت بنظرها إليه تسأل غاضبة: ولا هو أنت قايلهم يمشوني لو جيت.

طاهر أنا مشوفتكش لما جيت علشان كده يا حبيبي قولتلها مش هنا.
قالت سهام قولها ببراءة وأتت شهد لتعلق فردعها: خلاص يا شهد محصلش حاجه، هما مشافونيش معلش.
وقوله هذا سمح لوالدته أن تبرر تصرفها حيث تحدثت: أنا كل اللي قولته إنه عيب، ومينفعش تدخل أوضتك سواء موجود فيها أو مش موجود.

فأشعلت غضب الواقفة أمامها وجعلتها تعترض بانفعال: هو إيه اللي عيب ده، مراتك أنا ولا مش مراتك؟، أدخل وأنت مش موجود براحتي، قولتلها جايبة حاجة لطاهر وعايزة أحطهاله يتفاجأ لما يرجع طلعت فيا كأني داخلة أحط مخدرات في الأوضة.
وهذا دفع سهام للتعليق على أسلوبها فردت بنفور: يا بنتي عيب كده، اتكلمي بأسلوب كويس، ده يزيد بيتكلم بأدب أكتر منك
قصدك إني قليلة الأدب؟

قالتها شهد بهجوم فسحبها طاهر من ذراعه لتقف خلفه: مقصدهاش حاجة
ثم طالع والدته طالبا برجاء وقد أتلفا أعصابه: ماما من فضلك، كفاية كده، وفي أي وقت تيجي شهد حتى لو أنا مش موجود سيبيها تطلع.
ثم استدار لشهد وطالبها بضجر: وأنتِ اهدي شوية.
لم يرض سهام ما فسرته بالتخاذل من ناحية ابنها فسألته بعتاب: يعني أنت عاجبك الأسلوب ده يا طاهر؟، أنا عندي بنت زيها علشان كده نبهتها إن اللي بتعمله غلط.

تخطته شهد وذهبت ناحيتها تربت على كتفها بابتسامة صفراء وهي تقول بأسف مزيف: حقك عليا يا طنط.
وأمام فعلتها قطعت كل سبل الشجار ودعمها طاهر بقوله: خلاص قالتلك معلش أهو، كفاية خناق بقى علشان مصدع.
لم تستطع والدته قول أي شيء آخر، رحلت بغضب وتبعتها تيسير بينما علا صوت شهد تنبههما لطلبها: ياريت تعملولنا عصير وياريت جدا لو يكون…

وقبل أن تكمل جذبها من مرفقها سائلا بانزعاج: عايزة إيه يا شهد، تعالي جري في شكلي أنا وسيبيهم
وبنفس انزعاجه سألته وهي تدفعه في صدره: مبتردش على الموبايل ليه؟، هو احنا لو متخانقين مبنردش على الموبايلات؟
عاتبها يذكرها بما قالته آخر مرة بعدما حاول أن يخفف عنها خسارة المسابقة: دي مش أي خناقة يا شهد.
وعاتبته هي أيضا سائلة: تقوم متردش عليا؟، ده أنت لما كنت مزعلني وقايلي كلام سم كنت برد عليك.

ضحك ساخرا وعلق بتذمر على حديثها: اه صح بتردي عليا وتعمليلي بعدها بلوك، وأدوخ أنا علشان أوصلك بعد كده.
أنت كئيب أصلا، ومتستاهلش إني جيالك.
قالت هذا بغيظ، وقد أوشك صبرها على النفاذ فتصنعت الرحيل ليتراجع عن تذمره هذا، وبالفعل اعترض طريقها طالبا: استني طيب.

وأمام طلبه تراجعت، وتفاجأ بها تحتضنه، تشبثت به، ونعما كلاهما بلحظات من الصمت، تنهد بتعب، قبل أن يحيط بها هو الآخر وسمعها تقول بتذمر: وحشتني يا كابتن سفيه.
لم يستطع إلا أن يبتسم على أفعالها هذه، لم يعلم حتى الآن سبب مجيئها، أجل سؤاله حتى تبتعد وتتحدث هي، حماسها هذا يدل على أن لديها جديد، وأكثر ما يخشاه بها هو نفسه أكثر ما أحبه لذلك سألت نفسه عن جديدها هذه المرة ماذا سيكون، ولكن روحه.

لم ترد أي جواب سوى السكينة جوارها الآن.
كل ما لا يُصدق يلجأ ويستعين به العقل في مأزقه، جاهدت مريم للحصول على حل ينقذها من فعلة حسن الحمقاء، ضرب بوعيد والده عرض الحائط وأتى إلى هنا، وحين سمع صوت خطوات والده وشقيقته في طريقهما إلى هنا وقد أتا للاطمئنان عليها بعد إصابة رأسها، ورطها هي باختبائه أسفل الأريكة، رحبت بنصران الذي تأبط ذراع ابنته وتبعهما والدتها وكان التوتر جليا على وجهها: ازيك يا عمو.

الحمد لله يا مريم، طمنيني عليكِ أنتِ يا حبيبتي.
وقبل أن يجلس، صرخت وهي تقفز للأعلى وتشير في ناحية ما: فار، الحقي يا ماما فار
همس حسن من أسفل الأريكة: اه يا بنت ال
لم يكمل ما كان سيقول حين سمعها تتابع: دخل المطبخ يا ماما أنا شوفته
توعدتها هادية بنظراتها على ما فعلت، وطالعت نصران وابنته بارتباك وهي تقول بحرج: معلش هدخل المطبخ أشوف في إيه، أكيد دخل من برا.

وأسرعت رفيدة ناحية الأريكة تجلس عليها، وقد أبعدت قدميها عن الأرضية وهي تقول بذعر: أنا بكره القوارض، بخاف منهم جدا.
فهمس حسن بتذمر وهو يطالع سقق الأريكة ويشعر بفعلة شقيقته: منك لله يا رفيدة، هتكسري البتاعة فوق دماغي.
اخرجي أنتِ يا ست هادية أنا هطلعه.

هتف بها نصران فخرجت بالفعل من المطبخ وطلبت مريم برجاء: المسكن في الأوضة، هاتيه يا ماما معلش، دماغي هتموتني وخايفة أدخل أجيبه، أحسن ألاقي الفار هنا ولا هنا
فردت هادية بضجر موبخة: هو أنتِ جرالك إيه؟
ألقت عليها نظراتها الغاضبة وذهبت للغرفة بالفعل فأسرعت مريم تميل وتشير له بيدها ليخرج وسط دهشة رفيدة التي منعت شهقتها المصدومة وهي ترى شقيقها يخرج من أسفل الأريكة التي تجلس عليها.

طالبتها مريم برجاء بإشارة منها أن تصمت، وهرول هو ناحية الخارج حين سمع صوت والده يقول من المطبخ: مفيش حاجة يا مريم تلاقيكي اتخايلتي ولا حاجة، ولا هتلاقيه خرج.
وحين خرج ردت عليه وهي تلتقط أنفاسها أخيرا: هو فعلا كان فار حقير وخرج، أنا ورفيدة لسه شايفينه حالا وهو بيجري على برا.

أيدت رفيدة حديثها بضحكة متوترة، أما عنه فوصل إلى أنفه رائحة عطر ابنه، هو على يقين من أنه لم يخطأ، طالعهما بشك قبل أن يقول بنظرات متفحصة: فار؟
فهزت مريم رأسها مؤكدة بقلق، واستدار هو يسأل والدتها التي خرجت بالدواء: هو حسن جه هنا النهارده يا ست هادية؟، جالك المحل ولا شوفتيه؟
حاول قدر الإمكان أن يبدو السؤال طبيعيا ونفت هادية وقوع هذا بقولها: لا أبدا.

وأمام نفيها ابتسم نصران بهدوء ثم جلس على أحد المقاعد، وشكت رفيدة أن والدها كشف الأمر، جلست هي ومريم أيضا وقد سيطر التوتر على الأجواء وكل منهما يخشى في كل ثانية أن يتفوه نصران بأي شيء يستدرجهما به ويفضح أمرهما.
أوقف عيسى سيارته في أحد الأماكن الخالية، الليل والهدوء والصمت، تأمل بهاء السماء بعد أن نزل من السيارة وأشار لها: عمرك شوفتي السما كده؟

وكأنها بالفعل تراها للمرة الأولى، النجوم لامعة وبشدة صنع الخالق بهم لوحة شديدة البهاء في هذا الفضاء الفسيح، رفعها لتجلس على مقدمة سيارته وجلس جوارها، وما إن استقر في جلسته حتى أبدت إعجابها قائلة: سبحان الله، السما هنا شكلها حلو أوي، كان في رحلة مرة وكانوا نفسي أروحها علشان أشوف محمية وادي الحيتان، كنت بتفرج على صور للسما هناك بالليل شكلها بييقى جميل أوي، كأنه عالم تاني، السما هنا شكلها قريب من الصور اللي شوفتها، تعالى نروح وادي الحيتان مره.

أعطاها ابتسامة ووعد بقوله: إن شاء الله نروح.
وضعت هاتفها بيده طالبة بضحك: طب صورني.
طلباتك كترت، اقعدي ساكتة واتفرجي.
قالها بضجر فدفعته لينزل وهي تحثه: يلا بقى.
استجاب لها ونزل ليلتقط لها الصور وهتف بمزاح: أول ما عرفتك مكنتيش بتحبي تتصوري.
ردت عليه تؤكد قوله: ولحد دلوقتي على فكرة، محدش بيعرف يصورني حلو غيرك، علشان كده بديلك الأمان تصورني.

فعلق على حديثها ضاحكا: تديني الأمان إيه، هو احنا بنهرب سلاح، دي صورة يا ملك.
التقط عدة صور لها وعاد إليها، جلس من جديد جوارها وأخذت الهاتف تتأملهم هي بابتسامة راضية، حتى سألها ما تسبب في اندثار ابتسامتها: عايزة تخلفي بجد؟، ولا كان أي كلام علشان تضغطي عليا بيه؟
تركت الهاتف ونظرت له تسأله: أنت عايز إيه؟
عايز ارتاح.

جملة من كلمتين، نطقها بسهولة ولكنه لم ينل معناها في حياته، أصابها الحزن وأكمل هو: الراحة في عينيكي يا ملك بس مش كل الدنيا عينيكي.
ربتت على كتفه تحدثه برفق: كلنا عايزين نرتاح، بس تفتكر لو اشتريت راحتك بروحك وحصلك حاجة، أنا عمري هرتاح في حياتي تاني؟
تجمعت الدموع في مقلتيها وهي تتابع: هتكسرني يا عيسى؟، أهون عليك؟

رد عليها بصدق بان في عينيه قبل قوله: اللي خالق السما اللي فوقنا دي شاهد، إن ليكي في قلبي اللي مكانش لحد قبل كده.
ماشي يا عيسى، بس هعمل إيه باللي قي قلبك وأنت مش جنبي؟

سألته بقهر رد عليه بابتسامة حزينة: ساعات أكتر ناس بنتخيلهم بعاد، بييقوا أقرب ناس لينا، أنا بشوف أمي في كل لحظة، أنا كان نفسي أعيش حياة عادية على فكرة يا ملك، أكتر حاجة ممكن تخوفني في الدنيا إني أجيب طفل يحس باللي أبوه طول عمره حاسه، فاكرة أول مرة شوفتك فيها عند قبر فريد لما واحنا راجعين لقينا راجل بيشتكي إن حد كسر المحل بتاعه، وبعدين مراته وبنته قالوا إنه وقت تكسير المحل كان بيضربهم؟

لم يستغرق الأمر الكثير لتتذكر الواقعة، هزت رأسها مؤكدة، وتابع هو: ساعتها كنت راجع متأخر، محدش بيبقى فاتح في الوقت ده، بس حظه بقى إن كان سايب باب محله مفتوح، سمعته وهو بيمد إيده على مراته، صوتها وعياط البنت وصلولي، شوفت فيها ميرت وأنا عيل صغير مش قادر أعملها حاجة، مدرتش بنفسي غير وأنا جوا المحل بتاعه برمي كل حاجة على الأرض، تاني يوم لما وقف في نص البلد يشتكي، مبقتش مستوعب مين اللي المفروض يشتكي؟، هو ولا بنته اللي جابها وبلاها بأب مريض زيه؟

أنا لو بقى عندي ابن أو بنت هحمل نفسي ذنب أي حاجة تحصلهم، مش هيبقى حب هيبقى خنقة، مش عايز أتعب حد معايا تاني يا ملك.
عاتبته بابتسامة بان فيها وجعها: طب ما أنت تاعبني معاك.

فرد عليها بعينين اختلط صفاء بريقهما بحبه لها فبلغا في التعبير وهو يقول: يوم ما قولتي إنك بتحبيني، كان اختيار بإرادتك إنك تتعبي معايا، وأنا مش زاهد علشان أرفض ده من واحدة قلبي مال ليها، القلوب بإيد ربنا يقلبها زي ما هو عايز، وده كان قدره
تنهيدة حارة أصدرتها قبل أن تقول بتعب: يا ريتك كنت زاهد.

لو كنت زاهد في الدنيا كلها مفتكرش كنت هزهد فيكي يا ملك، كنتي هتبقي الغواية اللي الزاهد مقدرش يصدها، والامتحان اللي فشل فيه وسلم قلبه بكل رضا.
عباراته تقطر ألمًا امتزج بثورته على عالم لم يعطه شيء سواها، ويرسل له عتاب الآن على لسانها، هل كانت تريد منه أن يرفض حبها بعد أن دق فؤاده لها؟، يتوخى الحذر وهو المغامر الذي لا يجد متعته إلا في بيت المخاطر؟

فاقت ملك من شرودها على صوت دق من شاورت لهم على بابها، عادت إلى الواقع بعد أن سبحت في أحداث ليلتها معه أمس، غرقت في بحور ليلة ماضية سمعت فيها منه حقائق لم تسمعها من قبل ولكن لم تسمع ما فيه راحتهما أبدا.

قدم إلى هذه المنطقة الشعبية مع صديقه لعلمه بتواجد محسن هنا، نجحا مع بشير في الوصول إليه والصعود إلى مخبئه ولكن صدمه وجود كوثر أيضا، هذه التي قالت بكل وقاحة لدي عرض، وساومت ليبتعد عن ابنها بقولها: وأنا عندي اللي يخليك تسيبك من ابني يا عيسى، عندي حاجة أنت عايزها، وأنا عايزة ابني، واللي أنا عايزاه قصاد اللي أنت عايزه.

زين ثغره ابتسامة ساخرة وهو يقول: قديمة، المعلومة اللي عندك حرقتيها قبل كده وقولتيها لأبويا وخدتي قصادها الأمان، وابنك هو اللي اختار يكمل مش أنا.
غير اللي قولته للحاج.
رأت التغير الذي طرأ على وجهه بعد قولها هذا فعلقت بتحدي: أنا عندي كتير، مش سهلة برضو.
فتساءل متصنعًا الحيرة: إيه عندك ممكن يهمني يا ترى؟، درجة الفضول عندي صفر بصراحة
ومط شفتيه قائلا بأريحية: خلي اللي عندك عندك يا ست.

نجح محسن في التملص من بشير وفتح الباب المتهالك والهرولة ناحية أسفل، ولم يتركه بشير بل لحق به، واستدار عيسى حين انتبه لما يحدث وقبل أن يلحق بهما أوقفته بقولها: عندي اللي يخليك تحط رقبة جابر ومنصور تحت رجلك، هترد حق أمك، واعتبر اللي اتعمل في شاكر ده كله منكم حق أخوك، ونقفلها بقى السيرة دي.
في نفس التوقيت
شعرت رزان النائمة بحركة جوارها فاستيقظت تسأل بقلق: جابر في حاجة؟

مفيش نامي أنتِ، هنزل اطمن على أبويا، مكانش كويس لما رجع بعد صلاة العشا، شكله تغيير الجو تعبه.
سخرت داخليا من الحديث وأبدت عدم رضاها وهي تعود بالفعل للنوم من جديد، أما هو فذهب إلى غرفة والده، سمع سعاله قبل أن يدخل ففتح الباب قائلا بضيق: يابا ما قولتلك نكلم الدكتور.
رفض منصور وهو يقول بإصرار: أنا كويس، ناولني البخاخة بتاعتي بس.

ناوله إياها قبل أن يجلس على الفراش أمامه يريد الاطمئنان: اروح لمراتي يعني، متأكد إنك كويس؟
سخر والده من جملته هذه سخرية لاذعة حين وبخه بقوله: يا اخي يعني هتروح للجنة، الله يسامحك يا جابر على الجوازة الزفت دي
فعلق ابنه بانفعال: تاني يا حاج؟، ما أنت اختارتلي قبل كده، كنا عملنا إيه؟

أنت اللي خايب، شوف شاكر عمل إيه، لزق لثروت زي ضله، كل مناسبة تلاقيه موجود بيتعرف على ده ويصاحب ده، لحد ما بقى ياما هنا ياما هناك، عمل في سنة اللي معملتهوش أنت في سنين
من جديد مقارنة، وتسفيه لكل صنعه، تنهد جابر ومسح على عنقه بتعب قبل أن يطالع والده سائلا: ما تقولي كده حاجة عملتها قبل كده وكانت عاجباك.

هز منصور رأسه بغير رضا فابتسم جابر بسخرية ثم سمع قول والده يحذره: بقولهالك تاني أهو، البت اللي فوق دي لو حملت منك، مش هتاخد مليم واحد في مالي.
علق جابر بتهكم: امال هتوديه فين؟، هتتبرع بيه؟
كانت زوجته في نفس الدقيقة تقف على باب الغرفة تتلصص لتسمع ما يدور بينهما، ظهر خيالها فأشار منصور لابنه: بص بتاعة أنصاص الليالي، رامية ودنها ازاي، شوف جبتلنا إيه، أنا سايبك على كيفك، بس هتيجي لحظة وقلبتي هتطولك.

استقام جابر واقفا، وتحرك بغضب ناحية الباب، فتحه وجذب رزان من الخارج، وقف بها أمام والده قائلا بتعب: قولي إيه يرضيك وأنا اعمله
ارمي عليها اليمين والصبح هجوزك ست البنات كلهم.
قالها بإصرار حاربته رزان وهي تتعلق بذراع جابر متوسلة: لا يا جابر، اوعى.
فابتسم بألم وأشار لوالده عليها: شوفت متمسكة بيا ازاي، مع إني كاتبلها مؤخر مش قليل، ولو طلقتها هتبقى مصلحة ليها.

فزجره والده بقوله: هي راسمة على كبير، طمعانة فيك، شايفاك علشان فلوسك.
داهم والده بكلمات وجعته قبل أن ينثر وجعها عليهما: لو كنت ضامن إني لو طلقتها، هبقى بالنسبالك مش خايب كنت عملت كده، فطالما كده كده يا أبويا أنت مبترضاش، خلي على الأقل في حد شايفني أصلا.
قال هذا وسحب رزان ليخرجا من غرفة والده، ما إن خرجا، حتى وقفت أمامه تطلب منه: جابر عايزة أقولك حاجة.

أنصت له فسألته بعينين بان الحذر بهما: هتسمع كلامي للآخر؟
قولي.
أعطاها التصريح، فسحبت نفس عميق واستجمعت شجاعتها وبدأت بقول: ارفع على أبوك قضية حجر.
وكان الرد صفعة، تأوهت منها عاليا قبل أن يلقي على مسامعها: أنتِ طالق.
صدمة نجحت وبكل براعة في شلها وإلجامها، فعلها بكل سهولة الآن من تلقاء نفسه وأيضا من أجل والده الذي لم يرضخ له قبل قليل حين أمره بتطليقها، لم ينتظر حتى أن تكمل حديثها، تخلى عنها والسبب أب.

ساعات مرت وانتهت إحداهن بوقوف علا بمفردها هنا في هذه الليلة المظلمة، تتأمل مياه البحر وهي تستند على السور، شاردة، تنتظر من وعدها بالقدوم، الوساوس تمكنت من رأسها الآن، فتحت على نفسها باب لا تعرف كيف سيُغلق، هل ستسطتيع حقا رؤية شقيقها يُعدم!، هذا ما سألته لنفسها، قبل أن تتذكر بشير، ابتسمت بحنين حتى ولو كان يشفق عليها يكفي معاملته الآدمية لها في وقت عاملها الجميع فيه كحيوان، فكرت في القفز من هنا الآن وإنهاء كل شيء، ولكنها بكت حين تذكرت أمها، على الرغم مما حدث تفتقد كثيرا والدتها، قطع خلوتها هذه صوت خطوات أحدهم، استدارت بلهفة ولكن بهت وجهها حين وجدت عيسى، جلس على السور بأريحية وهو يقول بشماتة أثناء تصنعه التأمل في المياه: بشير مش جاي.

هو قالي إنه جاي.
قالت هذا باعتراض ورد هو بابتسامة صفراء: وراه شغل، راح يخلصه، مش فاضيلك
تنهدت بهدوء قبل أن تسأله وهي تجاهد كي لا تنفعل: أنت عايز إيه يا عيسى؟
فرد بما لم تتوقعه وجسد البراءة ببراعة وهو يرفع كفيه مبديا رغبته: الستر
ضحكت بغير تصديق قبل أن تعلق على قوله باستنكار: بجد؟
هز رأسه مؤكدًا قبل أن يكمل وهو يشعل إحدى لفافات تبغه: وتبعدي عن بشير
فردت بهجوم: وهو عيل صغير مش عارف يبعد؟

أصل بشير جدع أوي، هيحس بالذنب ناحيتك
وكان تعليقها على قوله سؤال: وأنا مستاهلش؟
ابتسم باستخفاف ولم يرد إلا بعد لحظات من الصمت: إجابتي مش هتعجبك للأسف.
بدت قوية، اخرى شرسة وهي تدافع عن حقها في صديقه وتواجهه: ملكش دعوة بيا وببشير، أظن هو كبير كفاية علشان يعرف هو عايز إيه، وأنت مش ولي أمره علشان تيجي تقولي ابعد عنه، أنا حرة
وأكملت بابتسامة صفراء مماثلة لخاصته: و بعمل اللي أنا عايزاه بمزاجي.

توقفت عن الحديث حين لاحظت يده التي ارتجفت بصورة مفاجأة، وجهه الذي يعطي إنذارات بأنه ليس على ما يرام، ثم قوله وهو يُغلق عينيه بالإجبار: امشي من هنا.

الصواب يقول أن ترحل، ولكن ضجرها منه يمنع أي صواب، ظلت واقفة محلها، وتوهمت أنها تستطيع المواجهة، فؤادها صدق هذا، وأخذ يدفعها دفعًا لترد عليه بتبجح، أما عقلها وما تراه فيحثاها على الهرولة وما بين هذا وذاك تشتت، تشتت غير مدركة أيهما الأفضل استجابة الآن، الشيء الوحيد الذي أدركته أن الواقف أمامها ليس هو الواقف أمامها.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *