التخطي إلى المحتوى

الفصل التاسع والثلاثون]]

رواية 

•~•~•~•~•~•~•~•~•~•

“نحنٌ أحباء.. صديقا مصلحة واحدة ومكان واحد.. حتى يسقط قناعي فتجدني ألد أعدائك”.

•~•~•~•~•~•~•

احتاجت إجراءات خروجها يومين كاملين للتأكد من سلامة جسدها بفحص طبي كامل تم على قدرٍ كبيرٍ من الدقة والاهتمام حينما انتاب الأطباء شكوك حول حركة جسدها فأول ما فعلته كان تحريك أناملها بوهن وأهدابها بدأت تتباعد عن بعضها عد محاولات مُضنية منها أما قدماها فلا تُحركا ساكنًا؛ فوجد الأطباء وجوب إخضاعها لكشف شامل، اختلج الخوف نفوس الجميع مخافة أن تلاقي نفس مصير شقيقها، استبد بهم القلق وأطاح بأعصابهم بقوة حتى ثبطت شكوكهم في النهاية بظهور النتائج التي أكدت سلامتها تمامًا ولم يحتج الأمر سوى يومين كي تستطيع الوقوف مرة أخرى على قدميها.

كانت عودتها إليهم مرة أخرى بمثابة هبوب رياح باردة في نهار صيفي حار، يحبها الجميع بلا استثناء؛ فهي التي تسعى إلى اجتماع عائلتها إلى صفوف بعضهم بلا ضغينة أو تنافس يقتل ارتباطهم، ترى أنها رسالتها وسوف ترنو إلى تحقيقها مهما كلفها الأمر، أينعت نبتة رسالتها حينما رقدت في المستشفى لثلاثة أيام وكان الجميع يجتمعون داخل غرفتها دون نقص، يعتنون بها ويمدون يد العون لبعضهم ويحفزوها على مغادرة السرير في أسرع وقت.

أغلق “سليمان” دفتي مُصحفه بعد انتهاء القراءة فيه، يفعل ذلك كُل يومٍ بنية شفاءها العاجل، يستقر الشيخ على كرسيه بجوار فراشها وتستمع “سكون” له في ارتياحٍ لم تشهد له مثيلًا مُذ أن وُلدت فلا تجد سكينتها النفسية إلا في حضور عمها الذي بمثابة يد حانية تقودها لبر الأمان والسلامة، ما أن أنهى قراءته حتي بدأت تفتح أهدابها رويدًا رويدًا أثناء جلوسها بشكل مُستقيم في سريرها ثم التفتت نحوه وهي تقول بصوت خافتٍ يغلب عليه الوهن ومشاعر ما تزال تحت تأثير عذوبة صوته:

-من حُسن حظي إن سُليمان السروجي يبقى عمي.. أنا أخدت حظ الدُنيا كله فيك.

ارتفع الصفير ما أن صرحت بهذه الكلمات وبدأ كل من بالغرفة يبادرون بتصفيق حارٍ في أجواء فكاهية مرحة، حركت ذراعها صوبه فتناوله برقة ثم ربط عليه وهو يقول بلهجة هادئة ممتنة وقد تخضب خديه باللون الأحمر من كلماتها المادحة له وهذه أكثر الأمور التي نُخجله:

-أخجلتني يا سَكن.. ربنا يعزك يا بنتي.

تدخل “نوح” يقول بضحكة مازحة بعد أن أطلق صفيره في الأرجاء:

-يا بختك يا شيخ.. بيتقال لك كلام حلو والعشريني الغلبان دا مطفحوش.

جلجلت ضحكات كل من بالغرفة يدركون جيدًا إلام يشير فالتفتت “مُهرة” إليه ترمقه بعينين تضيقان بوعيدٍ، أضاف “تليد” في هذه اللحظة بكلمات موحية يغلفها الاستخفاف بعجلة صديقه على الزواج:

-بكرا تطفح فعلًا يا غالي.. تحلى بالصبر.

كانت هي الوحيدة التي تفهم فحوى كلماته القصيرة ذات المعنى العميق، زجرتهُ بنظرة نارية رافعةً أحد حاجبيها له وفي نفسها أفكار شيطانية جديدة في انتظاره ولكنها هذه المرة ستتوخى الحذر فلا يوجد ما يُثير غريزته نحوها وإلا لن يندم في النهاية سواها.

على عكس الجميع، لم يستطع تخطي خوفه من فقدها على الإطلاق حتى بعد أن أكد الأطباء حول ما تتمتع به من صحة جيدة وزوال الخطر عن حياتها؛ ولكنه لا يزال يشعر برائحة الفقد الجلل الذي إن حدث سينتشل روحه منه بفراقها؛ قد لا يكون الفراق كامنًا في الموت فقط.. يخشى أن تنتزع قلبه من وتتركه يحمل فجوة عميقة داخله لن يملأها سواها، استند بجسده على الباب يطالعها بعينين شغوفتين وكأنما يلتقط لها صورًا يتصبر بها حين لا تكون أمام مرأى عينيه ولا يستطيع أن يُبصرها وكأنما يُملي عينيه منها في وداعٍ أخيرٍ، لم تغفل “سكون” مُطلقًا عن التطلع إليه بين الفينة والأخرى ولم تجد لنظراته إليها تفسيرًا سوى أنه قد قرَّت عينيه وبرد دمعها في سرورٍ يخفيه.

لحظات من الابتهاج والسرور والانخراط في إلقاء الكلمات المازحة لتلطيف الجو قطعها مرور “عثمان” عبر الباب ثم صوته وهو يقول بلهجة حاسمة:

-خلصت إجراءات الخروج ودلوقتي نقدر ناخدها على البيت.

ابتهج الجميع بهذه الأخبار السارة وبدأوا يهنئوها بالخروج من المشفى سالمةً لينسحب بعض منهم للذهاب بينما منعت “نبيلة” ذلك وهي ترمي نظرة شمولية على الكل قبل أن تقول بنبرة مُمتنة:

-أنا وعثمان عازمينكم على الغدا النهاردة بمناسبة خروج سكون سالمة ومفيش مجال للرفض لأن الطباخين دبحوا بالفعل والغدا جهز!

حاول البعض الاعتذار عن الذهاب إلى القصر بانسحاب هاديء ولكن قوبل التماسهم للاستثناء بالرفض وأصرت “نبيلة” إصرارًا مُميتًا على قدوم الجميع بلا نقص.

مشى “عثمان” نحو ابنته فناولها ذراعه كي تستند عليه معينًا إياها على النزول عن الفراش، كانت أطرافها مصابة ببعض الخشونة التي جعلت المشي في أول الأمر صعبًا، انكمشت تعابير وجهها حينما اكتنفها ألم سرى في كافة أطرافها، تطلع إليها “عثمان” بتوجسٍ مُدركًا جهادها للسير بشكل طبيعي، لقد احتاج عثمان إلى فترة صحوٍ يعي فيها أن “سكون” هي الوحيدة القادرة على نزع سلامه النفسي وإضرام الخوف بين خلجات قلبه ونفسه وأدرك ذلك بحق حينما خاف أن يفقدها، طالعها بنظرات مستقرة يصوبها داخل عينيها فبادلتُ بأُخرى مستنكرةً متساءلةً ولكنه في النهاية وَعى على بعض مشاعر الحب الذي دومًا ما يسمع عنها ولا يشعرها.. حتى مشاعره لزوجته متخبطة وليست راسخة في قلبه كحبه لابنته سكون، يتساءل مليًا لماذا هي دونًا عن أشقائها؟! ولا يجد تفسيرًا لأسئلته المطروحة باستنكارٍ من أن يكون قلبه ومخاوفه بين قبضتي مخلوق على وجه الأرض.. نعم هي ابنته؛ ولكنه يستنكر ضعفه حينما تتأذى.

-لو مش قادرة تمشي.. أشيلك!!

بسطت حاجبيها باستغراب احتل قسمات وجهها ولكنها أومأت بملامح واجمة ترفض عرضه:

-لأ.. أنا كويسة.

أبعدت نظراتها عنه وقررت أن تسير بصورة مائلة للطبيعية ولا تعبر عن آلامها أمامه، خرج الجميع من بوابة المستشفى وسارت تتعكز على ذراعه حتى استقرت داخل السيارة فجاورتها والدتها بينما جلس “عثمان” بجوار مقعد القيادة ثم أشار للسائق بالتحرك.

في لمحة عابرة أثناء تطلعها من نافذة السيارة، لمحتها تقف على مقربة منهم تراقب الوضع من أسفل نظارتها السوداء، لم يختلط عليها الأمر البتة؛ فكانت هي “نجلا” بقوامها الشامخ وثيابها المنمقة التي تضيق بشدة على جسدها وابتسامتها المستفزة التي ترتسم على محياها بغرور وثقة، انطلقت السيارة وغابت الأخيرة أن ناظريها وتركتها تقع في بئر غويطٍ من الأسئلة المتحيرة التي تنهش لحم رأسها، كانت تتطلع بشدة وفضول كبيرين لأجوبة والدها وهل فعل ذلك حقًا أم أن هذه السيدة تدعي عليه بالباطل!!

•~•~•~•~•~•~•~•~•~•

تابعت انطلاق السيارات بأعين ثابتة وغضب مكتومٍ تختزنه للوقت الصحيح؛ فلم يتبقَ سوى القليل على المواجهة الحتمية مع عدوها، تسلحت “نجلا” جيدًا ناويةً على أن تُبهر كُل ذرة به ولا يوجد في ذلك سوى نتيجتين؛ إما أن يموت انبهارًا أو قهرًا وفي الحالتين سيفنى على يديها، أظهرت ابتسامة بمكرٍ وهي تلتقط هاتفها الذي يرن مُنذ زمنٍ لتجيب بتنهيدة قصيرة وهي تتلفت حولها:

-عملت أيه يا ماكسيم؟!

أتاها صوته يوجز قولًا:

-العينة وصلت المعمل وفي ظرف يومين النتيجة هتكون عندك.. أنا عملت المستحيلات علشان أوصل وقت النتيجة ليومين.

بللت شفتيها بطرف لسانها ثم تأبطت حقيبتها وسارت بخطوات ثابتة نحو سيارتها المصطفة على الجانب الآخر من الطريق وهي تقول بصوت لا يطيق صبرًا:

-كُنت زودت الفلوس شوية واستلمنا النتيجة قبل كدا؟

تابع نافيًا معتقدها:

-لا ما هو مفيش قبل كدا.. التحليل دا بياخد وقت كبير جدًا.. فكرة إنه يظهر في يومين دا في حد ذاته معجزة.

تناولت جهاز التحكم الخاص بالسيارة من جيبها ثم ضغطته لتنفتح أقفال السيارة، فتحت الباب ثم استقرت على مقعد القيادة بعد أن رمت حقيبتها على المقعد المجاور لها وهي تنفخ مستاءة من شدة الانتظار:

-ربنا يصبرني بقى على اليومين دول.

تنحنح “ماكسيم” قبل أن يسألها مهتمًا عن وجهتها:

-هترجعي الڤيلا ولا هتروحي فين؟!

ردت بإيجاز:

-جاية يا ماكسيم.. مش رايحة في حتة وبعدين أنا حفظت الدرس.. مينفعش أتصرف أو أخد أي خطوة من غير علمك واستشارتك علشان إيد لوحدها متصقفش!!.

غمرته السعادة من تجاوبها مع طلبه ولم يحتج أن يتوسل إليها كثيرًا بألا تتصرف بتهورٍ يدفعها إلى خسارة حربها ضد خِصم تدرسه جيدًا والفوز عليه كسهولة نُطقها لاسمها:

-تمام.. كدا أنا اتطمنت.

اِفتر ثغرها عن ابتسامة هادئة، أغلقت الاتصال معه وأجرت غيره على الفور، انتظرت أن يأتيها صوته على أحر من الجمرٍ وما هي إلا ثوانٍ حتى وجدته يصيح بحفاوة:

-نجلا هانم بنفسها بتتصل عليا!!

تعمقت نظراتها وهي تنظر إلى الفراغ أمامها، تغنجت بضحكة ناعمة وهي تقول بصوت أُنثوي:

-كدا يا حميد تعمل حفلة تنكرية وما تعزمنيش عليها، بالسرعة دي نسيت صداقتنا يا وحش!!

تنحنح مستشعرًا الحرج ثم تابع يصارحها بغير لوعٍ:

-أصل أنا عزمت عثمان السروجي وعارف إن حمدي مكنش بيحبه.. نيتي كانت إني مضايقكيش بوجوده.. بخلاف دا فأنا أتشرف بنجلا زهران كواحدة من ضيوفي الأجلاء.

كانت تستمع إليه لا مُبالية بكلماته المُتملقة اللعينة فهو لا يختلف كثيرًا عن صديقه، تناولت طلاء شفتيها من الحقيبة وبدأت تطلي شفاهها ناظرةً في المرآة المواجهة لها وما أن أفرع ما في جوفه حتى أجابته بلهجة ثابتة حاسمةً:

-نتقابل بالليل يا حميد.. أوريڤوار (مع السلامة)

استخدمت إصبعها في غلق المكالمة ثم عادت إلى طلاء شفتيها تدهنه باهتمامٍ، حدقت بقوة في صورتها المعكوسة بالمرآة وبدأت تقول بلهجة مُفعمة بلهفة الانتقام:

-أهلًا بيك يا عثمان في حربي المكشوفة.. بكرا أول يوم حرب بينا.

وضعت أحمر الشفاه داخل الحقيبة، وقبل أن تبدأ في قيادة سيارتها شعرت بحاجتها الشديدة في نيل القليل من الحرية فمالت بعينيها إلى حذاءها ذي الكعب العالي بضجرٍ جعلها وبدون تفكير تنزع الحذاء وترميه بمللٍ على الكنبة الخلفية من السيارة

•~•~•~•~•~•~•~•~•~•

كانت طاولة مستطيلة مهيبة لاقت بعائلة السروجي وأحفاده فوُضع عليها كل ما لذ وطاب وفي منتصفها وُضع الضأن المشوي القابع في صينية كبيرة مليئة بالأرز الملون، كان هذا اقتراح “تليد” لزوجة عمه لإماطة الأذى عن حياة أولادها وتحصينهم بالخيرات والصدقات فكان للطباخين والعمال طاولة مثيلة في بهو القصر يأكلون مما يأكله أهل البيت ورغم رفض “عثمان” للوضع إلا أنها أصرت بحزمٍ وغضب كبيرين.

لم يجلس الجميع إلى الطاولة إلا بحضور سيدة الليلة؛ فانضمت “سكون” بسعادة تنبض بين ضلوعها وأخذت تتأمل الحضور بنظرات مهتمة لتحقيق الراحة والاستمتاع لهم، لم تبصره عيناها فزوت ما بين عينيها بارتيابٍ ثم التفتت بسرعة إلى والدتها تابعت باستنكارٍ:

-فين كاسب يا ماما؟ أكيد مش بياكل برا مع الطباخين؟؟

أومأت نافيًا وهي ترد في جهل حول سؤالها:

-أعتقد مش على السفرة برا كمان!

ابتلعت ريقها على مضضٍ ثم تحولت بنظراتها الحزينة إلى “تليد” وقبل أن ينطق فِيِها (فمها) الكلام وجدته يهز رأسه متطوعًا للبحث عنه وهو ينهض عن كرسيه بصوت هادئ:

-هشوفه في أوضته وراجع.. جايز يكون نام من التعب.

رمتهُ بنظرة مُمتنة وهي تتنفس الهواء إلى صدرها بعُمقٍ، ترقبت دخوله مع ابن عمها وظلت عيناها بالباب مُتشبثةً إلى أن وجدته يأتي من بعيدٍ وما أن اقترب حتى تأكدت من ملامحه أنه غرق في النوم دون أن يشعُر، أشار له “تليد” حيث مقعده فجلس عليه صامتًا بينما تابعت “نبيلة” بنبرة حماسية:

-يلا يا جماعة نبدأ.. الأكل هيبرد وإحنا لسه بندور على بعض!

لم يرق الأمر لعثمان أبدًا، لا يُحب أن تتساوى الرؤوس وأن يلتزم كُل أمرئ الوضع الذي وُلد فيه غير متطلعٍ إلى حياة لا ينتمي إليها، حدج “كاسب” بنظرات حانقة لم يلاحظها سواها؛ فأغمضت عينيها تتنفس رويدًا رويدًا كيلا ينتهي الأمر بينها ووالدها إلى عراك قاسي ومواجهة محتدمة، تحارب مشاعرها منذ لقائها بتلك السيدة حتى لا تبوح بما عرفته لوالدها وتتحقق من صدق هذه الأقاويل فقد قررت أن تؤجلها لحين تحسنها وذهاب الجميع إلى حياتهم.

شرع الجميع في تناول الطعام في صمت وهدوءٍ، بينما كانت “وَميض” تنظر إلى “كاسب” نظرات ثاقبة محتدة بالغضب الشديد واستطاع رؤية ذلك بوضوحٍ ولكنه لم يجد تفسيرًا للأمر فأشاح يتجنبها بغير اهتمامٍ، في هذه اللحظة قطع انخراطهم في تناول الطعام دخول “علَّام” وزوجته الذي ألقى التحية ثم قال وهو ينسحب بهدوء:

-بأعتذر.. مكنتش أعرف إنكم في وقت غدا.. حبيت أنا وسُهير نيجي نطمن على سكون.

ابتسمت “سكون” ابتسامة عريضة وهي ترد بكلمات محبوبة شاكرة:

-شكرًا جدًا يا عمي علَّام على مشاعرك الجميلة دي ناحيتي.

أومأ مبتسمًا لها في هدوءٍ، همَّ أن يخرج حتى يفرغوا من الأكل ولكنه فجأة وجد ابنته تصيح بصوت مندهش ثابت تدعوه بطريقة متوارية للانضمام إليهم:

-بابا إنتَ مش هتقعد تتغدا معانا ولا أيه؟!

تحولت بنظراتها إلى والديها الواقفين ثم إلى الجالسين إلى المائدة في حالة من الدهشة والارتياب، اعتلت شفتيها ابتسامة ماكرة وتعمدت النظر بقوة داخل عيني عثمان الذي رماها بنظرات سوداوية يستقر أسفلها غضب كامن وبصوت باردٍ تابعت:

-ولا أيه يا أنكل عثمان؟؟

نبشت غضبه المختبيء خلف هيئته الثابتة بأظافرها الحادة فهمَّ أن ينطق إلا أن نبيلة قاطعته بابتسامة متوترة وهي تتجه بنظراتها بين وَميض وعلَّام:

-أكيد طبعًا.. علَّام عشرة عُمر وشال القصر دا على كتافه طول السنين إلى فاتت وكان أحسن عامل عندنا.

مالت “وَميض” بجسدها قليلًا فوضعت كوعها على الطاولة وكفها أسفل وِجنتها وابتسامة متحدية أضافت:

-كان فعل ماضي.. الحاضر بيقول إنه نسيب عيلة السروجي وواحد منهم ودلوقتي مفيش سيد وخدام من اللحظة اللي اتضاف اسمي واسم أبويا لعيلتكم.

انتقلت بنظراتها ترصُد رد فعله الذي يشتعل ويظهر ناره من حدقتيه، تعمدت زم رأسها وأنفها تكبرًا موحية له بأن نظريته في الحياة قد ثبطت وأن الرؤوس بالفعل قد تساوت.

بدأ يكور قبضتيه في غيظٍ لا يود إظهاره منعًا لإحزان ابنته بعد خروجها حديثًا من المستشفى، تنحنح “علَّام” قبل أن يتابع بلهجة ثابتة:

-على العموم بالهنا والشفا ليكم لأني سبقتكم، حبيت أحي أطمن على سكون والحمد لله شايفة قدام عيني بخير وسلامة.. استأذنكم.

أطبقت “وَميض” على أسنانها في حنقٍ، لاحظ “تليد” غضبها الذي يتكون في طوره الأول فأسرع بوضع كفه محتضنًا كفها الصغير رامقًا إياها بنظرة مُحذرة يحثها من خلالها على التريث والحكمة ثم تابع بابتسامة هادئة محاولًا تلطيف الأجواء وتخيف حدة الأمور:

-عمي علَّام بعد إذنك اقعد حتى لو سبقتنا.. الغدا دا بنية خروج سكون ورجوعها بينا ونكون شاكرين لو شاركتنا الخير دا!!

هدأت فرائصها بكلامه حتى تدخلت “نبيلة” في الحال بنبرة مُصرة:

-اتفضل يا علَّام قبل الأكل ما يبرد!.

انصاع “علَّام” تحت ضغط كلماتهم فاعتلى كرسيه وكذلك فعلت “سُهير” وقبل أن يتناول ملعقته ويبدأ هبَّ “عثمان” واقفًا في مكانه ثم ألقى بمنديل السفرة على كرسيه وقال بصوت خشنٍ حازمٍ:

-أستأذنكم.. عندي شغل مركون من أيام.

اندفع مُسرعًا خارج الغرفة ووجد أن ذهابه حلًا مثاليًا للسيطرة على انفعالاته وقلب الوسط إلى معركة كُل أخصامه فيها متكاتفين معًا للنيل منه، همَّ “علَّام” أن ينهض في حرج ولكنه وجد كف ابنته يضغط على ساقه أسفل الطاولة وابتسامتها المتشفية تعتلي محياها وبهمس خفيفٍ بجوار أذنه:

-متديلوش فرصة يتغلب عليك يا بابا!

أومأ في صمتٍ واستأنف الجميع ملأ بطونهم وما أن انتهوا حتى بدأت العاملات بالقصر في جمع الطاولة بانتظامٍ وكان من بينهم “هند” التي رمت غمزة لزميلتها السابقة بالقصر جعلت “سهير” ترفع كتفيها في غطرسة، بدأت تقترب “هند” منها وبنبرة هامسة بالقرب من أذنها وسط غفلة الجميع قالت:

-فاكرة إنك كدا بقيتي شبه الهوانم يا سُهير؟ والله لو عملتي أيه، ريحة الفقر ما هتسيبك.

رمت لها غمزة أخيرة وانسحبت على الفور وسط نظرات “سهير” المُشتعلة في غيظٍ.

•~•~•~•~•~•~•~•~•~•

عادت “سكون” إلى غرفتها مرة ثانية لأخذ قسطًا لا بأس به من الراحة وبدأ الجميع في التفرق في أنحاء القصر خاصةً بعد تشبث “سكون” بوجود عمها وابن عمها إلى جوارها هذه الليلة لأنها تعيش حالة من الأرق المزمن ولا تتمكن من النوم إلا أثناء الاستماع إلى صوت عمها الذي يتلو في سحر يسحبها إلى نومٍ هانئ حتى الصباح، استقبل “سليمان” طلبها بحُب وقبول وكذلك فعل “تليد” الذي استصعب مكوثه في هذا القصر ليلة كاملة ولكنه لم يود إحزانها؛ كان موقف “وَميض” مختلفًا تمامًا فرحبت بالفكرة دون مكابرة، تعجب “تليد” قبولها السريع ولكنه لم يُبالي بالأمر كثيرًا فهي في حمايته وأمام مرأى عينيه بينما ثمة أمور في نفس “وَميض” دفعتها لقبول البقاء في هذا القصر الثقيل هواه على قلبها ولكنها لا بد أن تواجه.

في غفلة عن أنظار الجميع بدأت تتسلل رويدًا رويدًا إلى حديقة القصر بخطوات مبعثرة خشيةً أن يرها زوجها أو غيره، تلفتت من حولها متوجسةً قبل أن تُبصر غرفته وتهرول نحوها، أسرعت بالخبط بقوة لتجده يطل من خلف الباب بعد فتحه وعلامات الاستغراب بادية على وجهه، ضيقت عينيها في استنكارٍ من بين نظراته المتسائلة وأردفت بنبرة حانقة:

-إحنا لازم نتكلم!

)على الجانب الآخر)..

استبد به القلق وهو يتجول بعينيه في القصر بأكمله، يتحرك مرتابًا بين مكان وآخر بحثًا عنها بعد أن فقدتها عيناه في لحظة غافلة منه، سأل الجميع عنها ولكن لم يرها أحد منهم وقبل أن تنال منه الشكوك وتنهشه الأفكار السوداوية قرر أن يصعد إلى الغرف علها تكون داخل واحدة منهم، التهم درجات السلم التهامًا حتى وصل إلى غرفة “سكون” التي تجتمع داخلها برفقة اشقائها ووالدتها، لم يبصرها بينهم فقصد الغرفة التي خُصصت لهم للمبيت وما أن فتح الباب حتى وجد الإضاءة مغلقة جميعها ولا يوجد سوى الفراغ، بدأ يزفر في تحفظ واختناق ثم رصد غرفة عمه القابعة في نهاية الممر، هرع إليها فورًا ثم وضع يده على المقبض وقبل أن يهمَّ بفتحه سمع صوته يتحدث إلى شخص ما:

-استلمت العينة وشربت المقلب يعني؟!

وصل إلى سمعه صوتًا أُنثويًا يجيبه من الداخل بضحكة ساقطة:

-عيب عليك كله تحت السيطرة بس الغريب إني لما راقبت الراجل اللي شغال تحت إيديها لقيته دخل معمل تحاليل بالعينة!!

كانت تحيط عنقه بذراعيها في دلالٍ، أسرع بدفع ذراعيها عنه وقد تشنجت فرائصه مستفسرًا بتوجسٍ:

-معمل تحاليل؟ ودا ليه؟ هو دا مش قَطر هتستخدمه في أذية البت!!

اِفتر ثغرها عن ابتسامة ماكرة وهي تمد إصبعها وتداعب به شِفته السُفلى ثم تقول بعجرفة:

-ودي حاجة تفوتني؟!

اقتحم عينيها بنظراته الصقرية يحثها على الاستكمال في لهفة بينما استفاضت الأخيرة تشبع فضوله المُلتهب:

-الراجل اللي خد مني العينة دا عامل زي ضِلها بالظبط فأنا قررت بعد ما خرجت من عند سهير وخدت عينة وَميض وادتها له إني لازم أراقبه لحد ما وصل لست أُبهة في نفسها أوي.. اتكلموا مع بعض شوية وبعدها مشي.. أنا عرفت بعدها إني دي نجلا هانم اللي قال لي عليها.. فضلت ماشية وراه وهناك لقيته دخل معمل تحاليل كبير.

سكتت هنيهة ثم أردفت بظفرٍ:

-حطيت ميتين جنية في صِدر البت اللي شغالة في الاستقبال وقالت لي إنه جاي يعمل تحليل حِمض نووي!!!

كمن سُكب عليه دلوًا من الماء البارد في شتاءٍ قارسة، يبست أطرافه بالكامل وصُعقَ من تصريحها فاندفع يقبض على ذراعيها ثم يهزها بهياجٍ قائلًا:

-يعني عينة وَميض في المعمل دلوقتي مش عند دجال؟!!!

زوت “هند” ما بين عينيها في استغراب وردت بنبرة سادرة:

-لأ ما أنا كنت فاكرة زيك إنها عايزة قَطر سكون علشان تعملها عَمل سُفلي تدمرها بيه وعلشان كدا قولت لك وإنتَ طلبت نبدله بعينة من بنت سهير ونخلص منها، بس العينة راحت حتة تاني خالص!

ضيقت عينيها ترمقهُ بفضول نهش لحم رأسها فلم تستطع كتمه وهي تقول بترقب:

-هي ليه بتعمل تحليل حمض نووي؟! إنتَ تعرفها يا عثمان بيه؟!

كور قبضة يده باختناقٍ شديدٍ وباليد الأخرى بدأ يمسح العرق الذي يتصبب على جبينه ثم التفت إليه مرة أخرى بعد أن تذكر أن يطرح سؤالًا متخوفًا بشأن هيئتها وقال بلهجة متعثرة مضطربة:

-شكلها عامل إزاي نجلا دي؟!.. انطقي!

ابتلعت ريقها على مهلٍ وردت:

-ست رفيعة كدا ولبسها ضيق وباين عليها بنت أكابر ومعرفتش أشوف ملامحها كويس علشان كانت لابسة نضارة سودة كبيرة.

كرر بعض من كلماتها باستهجانٍ وحيرة:

-بنت أكابر!

وصل إلى سمعه كل الحوار الدائر بينه وبين تلك المرأة الساقطة؛ لم يكُن يرغب في التنصت وقرر أن يغادر باب الغرفة ولكن اسم زوجته كان كفيلًا في جعله يهتم بسماع هذا الحديث المتواري للنهاية، انصدم من ذكر اسم شريكته وانفعل كذلك من تأجير فتاة لأذية زوجته ودفع الأذى عن أهله، نفرت عروقه بوضوحٍ واحتقن وجهه بحُمرة الغضب وقد أوغرت كلمات عمه قلبه بالغيظ والحنق، همَّ أن يفتح الباب مُنتفضًا ثائرًا والشرر يقدح من عينيه ولكن صوتها جعله يتراجع وهي تتساءل بوجومٍ:

-تليد، إنتَ بتعمل أيه؟!

التفت بجسده كُله نحو زوجته وبقى جامدًا في مكانه لا يُحرك ساكنًا، رمتهُ بنظرة ثاقبة يشوبها الحيرة من وقوفه المتجمد إلا أنه تمكن من انتشال جسده الذي أصابته الصدمة فخشبته، تحرك بخطوات هادئة صوبها وتدبر ابتسامة خرجت من داخله بالكاد وهو يقول بلهجة ثابتة:

-كُنت بدور عليكِ.. كُنتِ فين؟!

توترت قليلًا قبل أن ترد متوجسةً:

-في الجنينة؟ إنتَ فيك أيه؟ شكلك غريب ويمكن متوتر!!

ظل متصنعًا ابتسامة هادئة على محياه وهو يرفع كفه يلمس وِجنتها ويقول بحسمٍ منسحبًا من الإجابة على أسئلتها:

-أنا تمام.. هجيب شاي.. أجيب لك معايا؟!

أومأت بهدوءٍ فانسحب من أمامها في طريقه نحو الدرج وهو يقبض على ربطة عنقه وينتزعها باختناقٍ، تيقظ عقله الآن لمخططات عمه الدنيئة في النيل من “وَميض” دون مراعاة لزواجها من ابن أخيه أو حملها اسم العائلة حتى، أطبق أسنانه بقوة جامحة مقررًا تقوية حصونها والترصد لأعدائها ومعاقبة كُل من تسول له نفسه المساس بها وستكون البداية عند شريكته.

مطت “وَميض” شفتيها في حيرة مما رأت، فزوجها صار محتدًا بغضبٍ مكتومٍ قرأته في عينيه رغم تصنعه البسمة لإزالة الشك عن ما يضمر في داخله حتى خطواته المُتريثة تحولت إلى أخرى ثائرة تدك الأرض دكًا، تساءلت عما يفعله أمام غرفة عمه وما الذي سمعه لتتأجج حواسه كلها وتغلي على نار هادئة، أرادت أن تكتشف الأمرَ بنفسها ولكنها وجدت مقبض الباب يُدار فأسرعت بالابتعاد، تنهدت تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن تتجه إلى غرفة “سكون” للاطمئنان على حالها وقبل أن تمر عبر الباب وجدت “سكون” تنام بين ذراعي والدتها بينما تحتضنها “شروق” بقوة من ظهرها، كان تآلفهن تحطيمًا لروحها الهشة وبمثابة جمرة أُلقيت على أوجاعها الخامسة فأيقظتها، كان صوت جلجلة ضحكاتهن يقطع شرايين قلبها في مشهد لم تعشه من قبل ولم ترنو نفسها إلى تذوق دفئه من قبل.. رغمًا عنها تشعر بمشاعرٍ مغتبطة نحو علاقتهن ولكنها لا تتمنى لهن إلا دوام الترابط.. خفق قلبها بلوعةٍ داخل صدرها فرفعت كفها تسترق السمع إلى نبضاته الواهية ورغمًا عنها تسقط دمعة ساخنة من عينها، لم تشعر باقترابه منها أو ندائه المتكرر لها ولكنها استيقظت فجأة من سيطرت أوجاعها عليها وهي تجد ذراعيه يضمانها من الخلف وذقنه يستقر على كتفها قائلًا بنبرة هامسةً يغمرها الدفء والكثير من الوعود:

-أنا عيلتك.

ارتجفت أطرافها قليلًا وأسرعت تمحي دموعها قبل أن يراها، ظل مُتشبثًا بها ورفع وجهه قليلًا ثم قبل رأسها بحُب دفينٍ يتحرر من صومعته لأجلها فقط ، ابتلعت غِصَّة مريرة في حلقها ثم بدأت تستدير مقابلة لوجهه، ارتسمت ابتسامة مستخفة على فمها ثم قالت بخفوتٍ وكسرة:

-هو المشهد دا كتير عليا يا تليد؟!

التقط كفيها بين قبضتيه ثم أجابها مواسيًا يتعمق بنظراته داخل عينيها البُنيتين العسليتين:

-دي إرادة ربنا.. أراد يحرمك مشاعر المشهد دا علشان يعوضك بمشاعر أقوى منها بكتير.. ربنا بيمنع لأسباب في صالحنا.. لو كُنا مطلعين على تدابير ربنا كُنا اختارنا نعيش اللي إحنا فيه دلوقتي بردو.

لم تقاوم دموعها هذه المرة وانهارت باكيةً تدفن وجهها تلقائيًا بين ذراعيه وبصوت متحشرج مُجهش رددت:

-مش قادرة أقاوم إحساس الغصن الوحيد في شجرة دبلت وماتت!!

طفق يمسح على ظهرها بحنان بالغٍ يخصها به وحدها ثم أردف بلهجة حانية:

-خليكِ إنتِ الغُصن اللي هيمد الشجرة بالقوة من تاني علشان تطرح.. وبعدين مش يمكن الساقي موجود والغُصن اللي رافض؟!

رفعت بصرها إلى عينيه ترمقهُ بشكٍ فيما رفع أحد حاجبيه مشاكسًا وهو يستكمل:

-خلاص يا غُصن براحتك.. إنتَ اللي مش عايزني أسقي الشجرة علشان تطرحك ومتبقاش وحيد!

خرجت ضحكة بسيطة من بين شفتيها لم تقوَ على ردعها وراحت تقول بغيظٍ من بين بكائها:

-أستاذ في نقل الحوار لمكان تاني خالص واستغلال الفرص.

افتر ثغره عن ابتسامة عذبة وهو يميل على جبينها مقبلًا إياه:

-فرص كهذه استغلها وامخمخ لها كمان.. اللهم بلغت بقى.

•~•~•~•~•~•~•~•

سحبت التبغ إلى صدرها بقوة ثم زفرت الدخان منبعثًا من فتحات أنفها وهي تتصفح الانترنت مسترخيةً بالكامل على سريرها وأحداث اليوم تمر تباعًا أمام عينيه، أخذت آخر نفس من السيجارة ثم دعستها بأناملها داخل المنفضة لتلتقط الكوب الساخن القابع على المنضدة المجاورة لها فترتشف القليل منه باستمتاعٍ شديدٍ، فارق النوم أجفانها تمامًا وهي تنتظر بقلب مُستعر لحظة ظهورها أمامه وتنتشي من رؤيته مرتبكًا مفزوعًا يتعرق أمامها، ربما سيتفاجأ من “نجلا” جديدة لا تشبه تلك التي لم تكن سوى شيء لا يؤبه به ولا يُلتفت له، تلك البريئة الضعيفة التي عاشت أقسى لحظاتها في محاولة منها أن تميط نفسها عن أماكن الخطر والآن ترمي نفسها باستمتاعٍ داخلها، رفعت رأسها عاليًا وبدأت تسحب الهواء إلى صدرها باسترخاءٍ وتأهُبٍ ولكن كعادة ماكسيم يقطع عليها لحظات اختلاءها بنفسها لأنه يخشى أن يتركها لأفكارها المتهورة وعقلها الذي يحضضها على أشياءٍ مجنونة قد تدمرها عن غير قصدٍ، أجابته بهدوءٍ وصوت ناعسٍ:

-خير يا مُشتت الأفكار ومدمرة الخلوات إنتَ؟!

أجابها بضحكة مجلجلة لإثارة غيظها:

-طيب الحمد لله إني لحقتك وإنتِ وخلواتك اللي تخوف دي.

سكت هنيهة ثم تابع بظفرٍ:

-المهم عثمان الكرودية هو والبت بتاعته وقعوا في الفخ خلاص وزمانه دلوقتي برج من نفوخه طار.

جلجلت ضحكتها عاليًا وهي تتابع بمكرٍ:

-يعني مشيت وراك لحد المعمل زيّ ما إحنا عايزين؟!

ماكسيم مؤكدًا بثقة:

-واديت للسكرتيرة ميتين جنية علشان تسرب لها سبب وجودي في المعمل والسكرتيرة نفذت اللي قولت لها عليه واديتها التسريبة.

عضت “نجلا” شِفتها السُفلى ثم نبشت جانب رأسها بسبابتها وهي تسأل في فضول جامحٍ:

-تفتكر حالته أيه دلوقتي؟؟ بعد ما عرف إني أخدت عينة سكون من هند وروحت بيها المعمل؟!!

ماكسيم بابتسامة ماكرة يرد:

-يحترق وينهار ونفسه تكوني واقفة قدامه دلوقتي بس النهاردة من بكرا مش بعيد.

تنهدت “نجلا” طويلًا ثم أيدته بصوت خافتٍ:

-صح بكرا مش بعيد.

•~•~•~•~•~•~•~•~•~•

في صبيحة اليوم الموالي، استيقظت فزعةً على صوت رنين هاتفها المتكرر في عجلٍ، نفخت باحتقانٍ وغيظٍ من عدم إدراك المتصل بانعدام رغبتها على الرد وإلحاحه المُستمر، ضوت شاشة الهاتف مرة أخرى فألقت نظرة سريعة بعينين ناعستين وسرعان ما اعتدلت جالسةً في فراشها وهي تجيب على السكرتيرة الخاصة بمكتبها بعصبية مفرطة:

-في أيه؟ إنتِ مش عارفة إني نايمة وقبل ما أنام لاغية معاكِ كل مواعيدي النهاردة؟

ابتلعت السكرتيرة ريقها متوترةً قبل أن تقول بوجلٍ اتضح في نبرتها الخائفة:

-آسفة يا نجلا هانم.. بس تليد بيه السروجي هنا وطالب يشوفك ضروري جدًا.. حاولت أفهمه إن حضرتك مش جاية الشركة النهاردة بس أصر إني أكلمك.

زوت ما بين عينيها وتساءلت بدهشة:

-تليد!

أكدت السكرتيرة عليها ما سمعته، فبلغتها “نجلا” بقدومها العاجل في غضون دقائق وأن تطلب منه الانتظار في مكتبه لحين مجيئها، ارتدت على عجالة غير مكترثة لمظهرها هذه المرة حتى أنها نست أن حقيبتها بالكامل واستقرت داخل سيارتها تقودها إلى الشركة وما أن وصلت حتى سألت عن مكانه فأكدت السكرتيرة على وجوده في غرفته، سارت “نجلا” بخطوات ثابتة إليه وقبل أن تطرق الباب سمعته يصيح مُنفعلًا:

-ادخلي يا مدام نجلا.

فقد استشف حضورها من صوت طقطقة حذاءها العالي، تقدمت داخل الغرفة ثم تحولت بنظراتها الثاقبة إليه وهي تعتلي الكرسي المقابل له وبنبرة ثابتة سألت:

-خير يا أستاذ تليد.. في مصيبة حصلت ولا أية؟ مش عوايدك تيجي الشركة بدري وتطلب حضوري!

دقق النظر داخل عينيها مرددةً بلهجة صارمة محاولًا قراءة تعبير صفحة وجهها أثناء حديثه:

-إنتِ عايزة أيه مِن سكون يا نجلا هانم؟

حدقت فيه بعينين ثاقبتين لا يظهر عليهما التوتر، كذلك رفعت أحد حاجبيها قبل أن ترد مستنكرةً:

-وهعوز منهم أيه؟! ما إنتَ عارف إن مُشكلتي مع علام!

خرجت ابتسامة ساخرة من جانب فمه وصاح حانقًا:

-فعلًا؟ أمال طلبتي عينة من سكون ليه؟! وليه أصلًا وديتيها معمل؟ وحمض نووي أيه اللي بتعمليه؟! وأيه علاقتك بعمي؟ واوعي تقولي لي بنتقم لحمدي لأنه كلام تضحكي بيه على عيل أهبل مستعد يصدقك.

رفعت أحد حاجبيها ثم وضعت قدمًا فوق الأخرى وهي تقول بثبات كاملٍ:

-خلصت كلامك وأسئلتك؟! هتلاقي الإجابات كلها عند عمك يا شيخ تليد.

نهضت تقف في شموخٍ ثم زجرته بنظرة جامدة قبل أن تتجه صوب الباب وقبل أن تخرج منه سمعت جملته الصادمة التي تردد صداها بوضوحٍ على سمعها:

-العينة اللي راحت المعمل مش عينة سكون.. دي عينة وَميض مراتي وعمي قرر يلعب معاكِ لعبة صغيرة.

التفتت إليه مذهولةً بجسدها كُله حتى أنها أطلقت جلجلة ناكرة والدموع قد تجمعت في عينيها واضطرب صوتها بانكسارٍ:

-إنتَ أكيد بتهزر مش كدا؟!!

تليد وهو ينهض في مكانه ثم يصرخ فيها بصوت أجشٍ:

-لأ دي الحقيقة ودا اللي حصل فعلًا ومش فاهم عايزة أيه من سكون بتحليل حمض نووي ليها؟؟ إنتِ عايزة توصلي لأيه؟ 

سكت هنيهة ثم هدر عاليًا بلهجة مستبدة متوعدة:

-أما عمي فلازم يدفع تمن محاولة أذيته لمراتي، قسم باللي خلقني وخلقكم ما هتهاون لحظة في حق أذية مراتي سواء منك أو منه، هدفعكم التمن غالي أوي.

فقدت صوابها تمامًا وسقط عنها قناع القوة وظهرت “نجلا” في ثوبها الحقيقي، انسكبت دموعها في عجز مهين تملكها وراحت تسير بخطوات مبعثرة غير مدروسة كعادتها حتى وقفت أمامه مباشرة وهي تقول بصوت متحشرج:

-أنا مش عايزة من مراتك حاجة.. أنا عايزاك تقف جنبي وتساعدني.. حقي أنا مين اللي هيجيبه يا تليد؟!

صرخ فيها بصوت جهوري مخيفٍ:

-حقك من مين وعلشان أيه؟

لم تقوى على حمل جسدها الخائر أكثر من ذلك فانهارت تجثو على ركبتيها بالأرض ثم خرجت صرخة مجروحة تستعر بنيران مكبوتة من صدرها وهي تقول بانهيارٍ:

-أنا عايزة بنتي اللي خطفها من حُضني.. عايزة بنتي اللي رفضها علشان جاية من بطن خدامة اغتصبها ورماها.. عايزة بنتي!!!

يتبع

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *