التخطي إلى المحتوى

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السبعون

ما مرت به لم يكن هينًا، ولهذا ربما دفعها بإتخاذ قرارًا صعبًا عليها قبله، أعاد علي الدواء محله، وغلق العُلبة المفتوحة، ثم خرج يصفف شعره الطويل بحزنٍ إلتهمه دون رأفة، ما يؤلمه بتلك اللحظة أنها لم تتعافى كليًا مثلما إعتقد، وإخفاءها لأمر هكذا عنه يؤكد بأنه خسر علاقته بها كطبيب، باتت تخشى الفصح عن المتعلق بها حتى لا ينزعج منها.

سبق وأخبرها من قبل أنها وقت احتياجها إليه كطبيب سيلبيها، وحينما تختاره زوجًا سيكون ونعم الزوج والحبيب، بل إن شاءت سيكون الصديق والرفيق وكل ما يغنيها عن صنف الذكور إن أرادت.

-علي!
تناديه لمرتها الثالثة، ومازال يقف أمام المرآة يصفف شعره بشرودٍ، حجره عن سماعها، اقتربت منه فاطمة تهزه برفقٍ وترفع من صوتها تلك المرةٍ:
-علي!
استدار جانبًا يرسم ابتسامة هادئة:
-آيوه يا حبيبتي.
انكمشت تعابيرها بانزعاجٍ، وسألته:
-بقالي فترة بناديك ومش بترد، سرحان في أيه؟
ترك(المشط) من يده، وقال مبتسمًا:
-في الشغل اللي ورايا، وبالأخص حالة عندي مخلياني عاجز معاها.
زوت حاجبيها بدهشةٍ، وهتفت:.

-هو معقول في حالة بيقف قدامها دكتور علي الغرباوي عاجز!
شقت بسمته الحزينة صفحة وجهه، وقال بتبرمٍ:
-شوفتي!
ومضى بحديثه ورماديته لا تفارق مُقلتيها البريئة:
-بقالي فترة شغال معاها عشان الحالة تثق فيا وتقولي كل اللي مرت وبتمر بيه بصدق، اكتشفت إنها خبت عليا اللي كان لازم أعرفه عشان أقدر أساعدها، الظاهر موثقتش فيا بالشكل الكافي صح؟
توترت أمامه بشكلٍ ملحوظ، ازدردت صوتها الهادر وقالت:.

-لو موثقتش فيك يبقى العيب من عندها هي، لإنك عملتلها كل اللي لازم يتعمل، وممكن تكون محتاجة وقت.

ضم وجهها بكفيه معًا، وقال يمازحها:
-مهما طالت مدة الحالات اللي عندي محدش هيوصل لطول مدتك لحد ما بس سمعت صوتك، إنتِ طلعتي عيني وروحي وقلبي وكل اللي أملكه يا فطيمة.
ضربت الحمرة وجهها، فهمست له على استحياءٍ:
-يعني مستهلش يا دكتور علي؟

تمعن بعينيها تائهًا في محرابها، ليتها تعلم أنه يعود من غربته لموطنه فور أن تتعانق مُقلتيه بمُقلتيها، يتمنى لو لم يكن قارب نجاتها، بل يطمع بأن يكون الموج العتي الذي يحوم هلاكًا بمن يحاول المساس بقاربها، وإن كان شرسًا يلتهم من يبدأ التسلسل إليه، سيكون في سكنته الوديعة لأجلها هي، ربما يسقط سفن عملاقة بباطنه، ولكنه سيسعى أن يحيط قاربها الصغير بكل احتواء وأمان يمتلكه.

تعجبت فاطمة من صمته، رغم أن عينيه حملت لها من العشق أبياتًا، أعاد خصلاتها المتمردة خلف أذنيها، وقال بصوته الرخيم:
-كلما اندمجت بعينيكِ وجدت كمالة قصتي، ونبضي يرُفل شوقًا إليكِ، وبين محراب فؤادي ستجديني أحملكِ بين الوريد، غاليتي أنتِ وحبيبتي، خليلة وجدني، وإجابة دعوتي في ليالي خلواتي، مهما قوي رابطي، سأظل أدعو الله أن أكون جنتك، وأن لا أكون شكوتك!
(علي الغرباوي).

انتهى من كلماته العاشقة لها، فوجد عينيها تدمعان فرحة بما قاله لها، أزاحهما، ومال يقبل رأسها بعاطفةٍ وعشق، هامسًا لها بإجابة سؤالها الذي ظنته تناساه مع صمته المطول:
-تستاهلي كل الدلال يا روح قلب علي من جوه.

وشملها بين ذراعيه بقوةٍ، يحجب على شيطانه كل محاولةٍ مستميتة يبذلها؛ ليفرق بينهما، لا يعينه ما فعلته يعلم أن ما خلفته شيئًا مؤلمًا لها، كطبيبٍ محترف لن يكون من الجيد مواجهتها الآن أبدًا، وكزوج يتمزق من داخله لسماع اجابتها سيكون من الصعب عليه الانتظار، وكعاشقًا سيقتلهما وسيظل يدللها حتى وإن أرادت أن تفارقه!

فور أن انتهوا من تناول طعامهما، جابوا الطرقات بلا أي وجهة، وجلسوا على أحدى الآرائك الخشبية، الموضوعة أمام أحد المنازل، راقب آيوب صمت عُمران بقلقٍ، ولكنه أثار السكون حينما وجده يراقب تفاصيل الحارة باستمتاعٍ، وكلما مر عليهما أحدٌ كان يحيي آيوب بحفاوةٍ، والآخر يستقبل ترحباتهم بابتسامةٍ بشوشة، ابتسم عُمران وقال يشاكسه:
-معجبينك كتير أوي يابن الشيخ مهران!

استدار إليه وقال بتجهمٍ:
-معجبين أيه يا عم، دول رجالة الحتة هتوديني في داهية ليه بس!

شمله بنظرةٍ متفحصة، وقال ساخرًا:
-فزعك ده وراه طلبك للطاعة والولاء من الجنس الناعم، شكلك وقعت ومحدش سمى عليك.
زم شفتيه بسخطٍ، وتمتم بصوتٍ وصل لعُمران من مجلسه:
-حسرة عليا، هو أنا عارف ألمح طرفها، مبشفهاش غير كل أسبوعين مرة وياريتها بتبقى قعدة ود، دي قعدة تسميع قرآن.
واستطرد يدمدم بضيقٍ:
-أنا بالنسبالها بقيت مجلد الأسئلة المتعثرة عليها في الدين!

وتابع بصوتٍ مرتفع وابتسامته الساخرة اضحكت الطاووس رغمًا عنه:
-طب ده أنا رحمة عن يونس، الشيخ مهران سامحلي بقعدة كل أسبوعين لتسميع الورد، يونس لا، طايل سما ولا أرض، ولا حتى يلمحها صدفة على السلم، الشيخ مهران مبيسبش حاجه للصدف يا عُمران.

انتهى من رفع شكوته، واستدار يقابل نظرات الآخير الثابتة، ابتلع ريقه بتوترٍ وردد:
-هي النية كانت إني أساعدها تهرب من عمها على مصر، بس اللي حصل بعد كده مش بتاعي صدقني.
منحه ابتسامة جذابة، وبرخامة صوته قال:.

-متبررش يا آيوب، زمان كان ممكن أشد معاك ونتكلم عن تفاصيل مينفعش أعرفها عنك أصلًا بس ده كان لخوفي عليك، جوازك منها كان غلطة وكل اللي حواليك من الشباب كانوا بيحاولوا يبعدوك عنها بذوق، كل شخص وله طريقته، وأنا كمان استعملت طريقتي عشان ابعدك عنها بس سبحان الله كل اللي بيحصل ده كان مقدر من ربنا سبحانه وتعالى، عشان توبتها تكون على إيدك.

وأضاف بعقلانية جعلت آيوب يزداد احترامًا له:
-من اللحظة اللي اتطمنت فيها عليك حياتك الخاصة معاها بقت دايرة مغلقة ليا ولأي حد مهما كانت مكانته عندك.

انزوى بجلسته إليه، وقال بحيرةٍ:
-ليه بتقولي كده يا عُمران؟
انتظر سماع اجابة سؤاله، ولكنه وجده يتطلع لنقطة بعيدة عنهما، انتقل بصر آيوب تجاه ما يتطلع إليه، فوجده يتأمل رجلًا عجوزًا يحاول رفع ثقل باب محل البقالة الخاص به، ليبدأ رزق يومه، نهض عُمران من جواره، وأسرع إليه يرفع الباب الحديدي بكل قوته، وهو يخبره برفقٍ:
-عنك يا حاج.

استدار الكهل خلفه، فوجد شابًا آنيقًا، يبدو عليه الثراء، يعاونه برفع ثقل الباب الجرار، بل ومضى يسحب الحاملات المعدنية للخارج، ابتسم العجوز ودعى له بقلبٍ مجبور:
-ربنا يراضيك يابني ويريح قلبك.

وكأنه يعلم أنه إمتلك أغلب الأشياء، الا السعادة، دعوته أصابته بالصميم، منحه ابتسامة مشرقة، وعاد للجهة المقابلة للطريق، حيث محل جلوس آيوب، الذي يطالعه بدهشةٍ انزوت داخل مُقلتيه، وما أن جلس جواره حتى صاح بحيرةٍ:
-ازاي قادر تتشكل بأي مكان تدخله بالشكل ده، الشخص اللي ساعد الراجل العجوز ده وكلمه بنبرة ولاد البلد مش هو الطاووس الوقح ولا هو النسخة الآرستقراطية لعُمران سالم الغرباوي!

مازحه ضاحكًا:
-أمال لو شوفتني وأنا رافع انبوبة غاز على كتفي من شوية، لا والست الله يكرمها كانت عايزة تكافئني وتجوزني بنتها!
ضحك آيوب حتى أحمر وجهه، وهدر من يين ضحكاته بصعوبة:
-إنت شيلت أنبوبة!

احتدت معالمه فجأة بشكل جعله يتنحنح بجدية، تبتلع كل ضحكاته، وبخوفٍ مصطنع قال:
-سرك في بير يا بشمهندس.

تلاشت ابتسامته فور أن ذكر آيوب مهنته، شرد عُمران ونظراته تحيط محل البقالة من أمامه، وتتجول على المحلات البسيطة من حوله، تحولت ملامحه البشوشة لحزنٍ بالغ، جعل آيوب يسأله بقلق:
-مالك يا عُمران؟
رد عليه ومازالت عينيه تتجول بالحارة:
-عارف أن بدخل كام في اليوم الواحد يا آيوب؟
بفرف بأهدابه بعدم فهم، فاستدار له عُمران يسترسل بقهرٍ:.

-بدخل بالعملة الصعبة اللي مخليهم يشيلوني على كفوف الراحة، وأنا حقير وغبي ومستمر هناك بالمشاريع وبزيد عليهم ربح الدولة من اللي بدخلها، حقارتي خلتني أعمى عن ناس بلدي اللي ممكن يستفادوا من مشاريع ضخمة زي دي.

وبألمٍ فاه:
-خيري طالع للأجانب يا آيوب، أد أيه أنا حقير!
فهم آيوب ما يزعجه بتلك اللحظة، كل مرةٍ يتأكد من جودة معدن عمران الأصلي، أجلى أحباله الهادرة قائلًا:
-مكنش بايدك حاجة يا عمران إنت اتولدت بره، فأكيد ميولك كانت هتسبقك للمكان اللي اتربيت فيه وآآ..
-أنا مش هرجع لندن تاني يا آيوب.
قالها مباشرة بشكلٍ قطع الحديث عنه، فاتسعت ابتسامته ونسى ما سيقول:
-بجد؟

هز رأسه بابتسامة جذابة، وقال:
-هفتتح مشاريع كتيرة هنا، وأول خطوة هعملها هختار مكاني السري ليا، في لندن اختارت مكان منعزل كنت بحب أقضي فيه وقت كتير مع نفسي، وعلى ما يبدو اني اختارت مكاني السري قبل ما أخد خطوة تانية مجنونة..

واستدار إليه يخبره:
-عايز أشتري شقة هنا في حارتك يابن الشيخ مهران.
ابتهجت معالمه، وصاح بفرحةٍ:
-يا فرحتها حارة الشيخ مهران بيك يا عم الطاووس.
قهقه ضاحكًا وقال:
-تاني؟
حمى وجهه بيديه وصاح:
-صلي على رسول الله واستهدى، إحنا لوحدنا يا هندسة؟
راق له رؤيته مرتعبًا لهذا الحد، فرفع ساقه فوق الاخرى وقال متعجبًا:
-هندسة دي لقب مشتق من مهندس ولا لفظ شعبي متداول؟
ابتسم وهو يراه يتساءل باهتمامٍ سخي، فقال يجيبه:.

-هو يمشي الاتنين، بس مال برنس الطبقة الراقية بالالفاظ الشعبية؟
بجدية تامة قال:
-الست بتاعت الانبوبة، بتقول عليها تقيلة ملح!
وطرح سؤاله الجادي:
-هو الملح تقيل عندك ولا أيه؟

راقبه لدقيقةٍ ومن ثم انفجر ضاحكًا حتى احمرت عينيه، بينما جدية ملامح الطاووس لم تهتز مطلقًا، سيطر على ضحكاته وقال:
-ده لفظ شعبي، بيتقال عشان نعبر بيه عن حاجة تقيلة مش قادرين نشيلها، وآه الملح لو شيكارة بحجم الانبوبة صعب تتشال تنكر؟

أزاح خصلاته البنية عن عينيه وقال:
-خلصنا فكرة الاسئلة، شوفلي اللي قولتلك عليه وياريت في اقرب وقت.
رد عليه بمشاكسة:
-للاسف طلبك صعب هنا، بس الوحيد اللي لسه عامل معمار جديد من فترة، وطلبك بحذافيره عنده أعتقد مش هتحب تعرف هو مين.
زم شفتيه معًا، وهدر ساخطًا:
-شميت ريحة الرزالة من كلامك يبقى عرفت.
هز رأسه يؤكد له:
-بالظبط، هو نفسه كابتن إيثو اللي مخلتش حيطة في الحارة الا وخلتها تسلم عليه بالاحضان.

ابتسم والمكر يتربع بين رماديته الفاتنة، وقال بوجوم:
-كل طرقه تؤدي لبطشي، شكل اللي جاي هيجمعنا كتير.
تغاضى آيوب عما يقول، وسأله باهتمامٍ:
-هو إنت مالكش أي أملاك أو بيوت هنا يا عُمران.
اتسعت ابتسامته وقال يجيبه:
-تراث عيلة الغرباوي كله هنا يا آيوب، وأهمهم قصر أجدادنا، أنا وعلي من أهم المالكين له، لينا نصيب كبير فيه، ومفيش حد معانا فيه غير عمي.
وأضاف بخبثٍ:.

-بما إني قررت أعيش هنا، خليني أحضر المملكة لفريدة هانم بشكل يخليها ترفض الرجوع تاني للندن.
واستدار إليه يسأله:
-هتساعدني في التصميمات يا برجل؟
تلاشت ابتسامته، هاتفًا بدهشةٍ:
-برجل!

أكد له بجدية مضحكة:
-مش لسه قايل من شوية إني عجينه بتتشكل وقتما شاءت، زيد عليها إني حريف وأنا بأخد حقي، ادتني لقب شامل الهندسة، فرمتك بما يليق بك يابن الشيخ مهران.
وأضاف مازحًا:
-لو مش عاجبك برجل نشوف حاجة تانية.

انتصب بوقفته يردد ببسمة واسعة:
-لا تانية ولا تالتة حقك عليا يا بشمهندس، اللي يعرفك يجاهل مقامك يا عُمران باشا.
مشطه بنظرةٍ ساخرة:
-مضطرين نعفو عنك، عشان هنحتاجك كتير الفترة الجاية.
ونهض يشير له:
-يلا طلعني على رأس الحارة عندي مشوار مهم عايز أعمله.
وتابع بحيرة:
-تفتكر أطلب أوبر ولا أرن لآدهم؟
اجابه آيوب بعد تفكير:
-آدهم أكيد مشغول في ترتيبات جوازه، نطلب أوبر أفضل.

هز رأسه باقتناع تام، وسحب هاتفه من جيب بنطاله، رفعه على أذنيه وقال بعد مدة من الصمت:
-أنا على أول الحارة بتاعت آيوب، متتاخرش يا حضرة الظابط.

أغلق عمران الهاتف ومضى بطريقه، بينما يضرب آيوب كفًا بالآخر، ولحق به هاتفًت بحنق:
-طيب بتأخد رأيي ليه مدام هتمشي بدماغك؟
أجابه وهو يلهو بمفاتيحه بتسلية:
-بحاول أحسسك إنك مهم، بس للأسف قرارتي من دماغي طول عمري ومتغيرتش حتى بعد نزولي مصر.
دمدم الاخير بغيظٍ:
-يا صبر آيوب!

انتهى من ارتداء جاكيته الأسود، واتجه للأسفل، يستعد للذهاب لحارة آيوب، كان بطريقه للخروج حينما أوقفه مصطفى بحدة:
-على فين؟

زفر بضيقٍ، واستدار يوجهه:
-خارج زي ما حضرتك شايف.
حرك مقعده ودنى إليه، يهتف بغضب:
-مش هتخرج من هنا الا لما توعدني.

سئم من الحديث بالأمر منذ وقت عودته، ومع ذلك تصنع الهدوء وقال:
-يا بابا اللي بتطلبه ده صعب، مينفعش آيوب يعرف خالص بالموضوع ده قبل امتحاناته، استنى لما يمتحن ووقتها هنقوله.
وأضاف مستنكرًا تصرفه:
-مش ده اللي اتفقت عليه مع الشيخ مهران؟

صرخ بعصبية هادرة بعدما فشل باستمالته:
-وإنت تضمن منين إني هعيش لحد ما يمتحن ويرجع، أنا تعبان يا عمر، وحاسس إن أيامي معدودة، عايز اخده في حضني وأكفر عن سيئاتي يابني.

تنهد بقلة حيلة، وإتجه ينحني إليه، قبل أعلى رأسه وقال:
-بعد الشر عليك يا حبيبي، أنا نفسي أريحك والله العظيم بس أنا عاجز عن الخطوة دي، خايف من رد فعل آيوب، بس أوعدك بعد فرحي على طول وقبل سفري هيكون آيوب عارف الحقيقة كلها!

تعالى رنين الجرس لمرته الخامسة، ومازال يتمدد على الأريكة، ساهمًا لنقطة فارغة من أمامه، مثل حياته التي باتت لا تحتوي سواه، عاد الرنين يزداد مصاحبًا لطرقات قوية على بابه، تلاه صوت يوسف المرتفع:
-جمال افتح أنا عارف إنك جوه افتح.

أغلق عينيه يعتصر مُقلتيه، فأفاضت بدموعه، ازداد يوسف بحدة طرقاته وصاح بعصبية:
-هتفتح الباب ده ولا أكسره على دماغك!

نهض بخطواتٍ متهدجة، منكسرة كحال قلبه، مال على الباب بجبينه يهمس بصوتٍ حُطم مثله:
-إمشي يا يوسف، انا مبعملش حاجة غير إني بأذي كل اللي حوليا.
وتابع ودموعه لا تفارقه:
-إمشي قبل ما أذيك إنت كمان.

ضرب الباب بقبضته، وبعصبية صاح:
-أذية أيه اللي بتتكلم عنها، افتح الباب بقولك.
استند بظهره عليه، وكأنه يسد مجال دخوله، وبهمس شاحب ردد:
-مش عايز حد جنبي، عايز أكون لوحدي، احترم قراري يا يوسف.
كز على أسنانه بغيظٍ:
-هحترمه لو مقتنع بكلامك، افتح الباب وخلينا نتكلم لإني مش هتنقل من هنا أساسًا.
وتابع بمكرٍ:
-وبعدين أنا كنت جاي أقولك خبر مهم عن صبا.

اعتدل بوقفته، وسأله باهتمامٍ:
-خبر أيه؟
استغل لهفته لمعرفة الأمر، وقال:
-افتح وهقولك طيب.

حرر مقبض الباب واتجه للداخل بيأسٍ، يستحوذ عليه كليًا، أغلق يوسف الباب ولحق به، يردد بغضب:
-مش عايز تفتحلي يا جمال، بقى بعد كل البهدلة اللي اتبهدلتها بسببك دي وعايز تكنسنلي من برة برة.
وازاح الملابس الملقاة أرضًا، قائلًا بضجرٍ:
-وأيه اللي إنت عامله بالبيت ده؟ كل ما أجيلك القيك قالبها على سوق الخميس.

تمدد على الأريكة بتعبٍ، بينما نزع يوسف جاكيته، وانحنى يلملم ملابس جمال الملقاة أرضًا، أشمر عن ساعديه واتجه للمطبخ يجمع الاطباق وأكواب القهوة الفارغة لمنظفة الأطباق، بينما يقوم بجمع الملابس للمنظفة الكهربائية، أعاد تنظيف الردهة وغرفة الضيافة والمطبخ، وامتنع عن دخول غرفة النوم لخصوصيته، بينما يتابعه جمال بفتورٍ تام.

وضع يوسف طبق المعكرونة بالصوص الأبيض وقطع البانيه التي صنعها، على الطاولة أمام جمال، وأشار له:
-قوم كلك لقمة عشان محتاجين نتكلم مع بعض.

وضع يده على عينيه وردد:
-مش عايز أكل يا يوسف، قولتلك سبني عايز أكون لوحدي شوية.
ترك الصينية أمامه، وجلس جواره يصيح بانفعالٍ:
-وبعدين معاك يا جمال، أخرة اللي إنت فيه ده أيه؟

مال بوجهه إليه؛ فتمكن يوسف من رؤية دموعه، انقبض صدره وتحشرجت أنفاسه، فوضع يده على ساقه وردد بحزنٍ:
-جمال في أيه؟
همس له بصوتٍ مبحوح:
-أنا عايز أرجع مصر يا يوسف.

وتابع وهو يميل على كتفه ببكاء:
– أحجزلي على أول طيارة لو خايف عليا بجد، خلاص معتش قادر، حاسس بخنقة رهيبة وهو مش جانبي، الوجع اللي جوه عينه رافض يسيبني، أنا هنا بتوجع وأنا لوحدي يا يوسف، عايز أتطمن بيه جنبي، هطالبه يسامحني تاني، مش هستسلم يا يوسف.
أدمعت عين يوسف تأثرًا برفيقه، فضم عينيه بيده يزيحهما عنه، وربت على ذراعه هاتفًا بصوتٍ متحشرج:.

-سافر يا جمال، أنا كنت عارف إنك مش هتستحمل تكون هنا من غير عُمران، توقعت إنك هتأخد القرار ده بعد يومين تلاته من سفره، بس آنت كالعادة بتفاجئني وأخدته من أول يوم يا عبحليم!

ضحك جمال من بين بكائه، وقال بمرحٍ:
-معتش بعمل تسريحته المنيلة، زيحوا اللقب عني إلهي ربنا يسهلك حالاتك المتعسرة.
رد عليه باصرار:
-ولو بردو هتفضل عبحليم مهما تتكجول!

مسح دموعه المتدفقة، وقال:
-عبحليم عبحليم المهم تحجزلي على أول طيارة.
هز رأسه بخفة وأضاف:
-هعمل كده بس مش على اول طيارة، هحجزلك مع سيف ومراته على الأقل أكون مطمن عليه معاك.

ابتعد عنه يقابله بنظرة فضولية، وتساءل:
-معقول هتخلي سيف ينزل مصر بالسهولة دي؟
سحب نفسًا ثقيلًا، وقال:
-غصب عني يا جمال، الظاهر إننا استهونا باللي اسمه يامن ده قوي، الشخص ده مش سهل والتعامل معاه مش عايز ناس عادية زينا.
وأضاف يخبره بما حدث بالفترة الماضية، حتى ظهوره بالكاميرات لزوجة أخيه، وانتهى بقوله:
-كلمنا آدهم وقالنا إن نزول سيف مصر لصالحه، واكدلي إنه هيقدر يحميه وهو هناك جنبه.

شعر بالخزي من نفسه لعدم مشاركته رفيقه لما يمر به، وبالرغم من الاحمال الثقيلة التي يحملها، الا أنه لم يتخلى عنه للحظةٍ، فقال بحرجٍ:
-بتمر بكل ده وأنا زايد عليك بمشاكلي وهمومي! حقك عليا يا يوسف.

أحاطه بنظرةٍ معاتبة، وقال بضيقٍ:
-بطل الغشومية دي يا عبحليم، إنت آه ساعات بتتصرف بعقل وبتحسسني انك الكبير فينا، بس وماله لما تدلعلك يومين، صحيح لو عُمران كان هنا كان ظرفك واحدة بطل دلع بروح أمك ظبطت اعدادتك المنعرجة دي فورًا، بس أهو أديني بحاول اعدلك باللتي هي أحسن وحاسس إنك مش جاي معايا سكة، إنت عايز وقاحة الطاووس، وأديك داخل خندقه وبرجليك يا بشمهندس!

ابتهجت معالمه المنطفئة، وقال بلهفة:
-أقوم أجبلك جواز سفري.
تمعن به بنظرة حزينة وهو يرى لهفته للاجتماع بعمران، يخشى أن يصده حينها سينتهي، تنحنح يوسف وسأله:
-طيب وصبا يا جمال؟

تلاشت دمويته بشكلٍ ملحوظ، أسند ظهره للأريكة وقال يجيبه بحزنٍ:
-الظاهر إن رجوعنا بقى شبه مستحيل.
مسح على ساقه وقال بثبات:
-متقولش كده، مدام صبا يتحبك بس محتاجة وقت، وآنت لازم تقدر ده.

حرك رأسه بخفةٍ ومازال شاردًا فيما حدث اليوم، وحينما تذكر ما قال، اعتدل إليه يسأله:
-كنت عايز تقولي أيه عنها؟
تنهد بحزنٍ، وقال:
-مصممة إنها تشتغل، طالبة من ليلى تدورلها على شغل، وليلى كلمت دكتور علي، ووظفها المدير المسؤول عن حسابات المركز، يومين تلاته وهتستلم مكتبها.

خيم الهدوء عليه بشكلٍ أقلق يوسف، فناداه بتوترٍ:
-جمال روحت فين؟
أجابه وهو يجاهد برسم ابتسامة على وجهه المنطفئ:
-خليها تشتغل يمكن انشغالها يهون عليها اللي عاشته بالفترة الآخيرة.

ابتسم رغم مرارة الألم العالقة بحلقه، وردد بتمني:
-ربنا يهديلك الحال يا صاحبي.
منحه ابتسامة لم تصل لعينيه المظلمة، وقال بنفس لهفته:
-أجبلك الجواز؟
ضحك وقال مشاكسًا:
-متقدرش تبعد عنه إنت! قوم يا سيدي هاته، ده أنا لو مربي نعجة بلدي كانت نفعتني عنكم إنتوا الاتنين وتالتكم أخويا الحقير!
احتقنت معالمه وهو يراقب الرسائل المرسلة إليه، والمنسوبة بجملة ساخرة.

«ابن الشيخ مهران مدورها مع تمناتشر شاب غيرك، عشان بس لو مخليك تفكر إنك الصاحب الوحيد اللي في حياته، واتفضل الاثبات أهو، صاحبك المنحط مقضياها شوية مع ابن عمه يونس، وشوية مع حضرة الظابط، ودلوقتي في أحضان الخواجة، البلوك مش حل لتصرفاته لازم تنتقم لكرامتك المهدورة دي.
فاعل خيرطيب وابن حلال، غرضة الوحيد مصلحتك!».

دفع سيف الهاتف عن يده وهو يصيح بغيظٍ:
-ماشي يا آيوب، وربي لأعيد تربيتك من أول وجديد، هانت وراجعلك.

-سيف!
انتفض محله فور أن تسلل إليه صوت صراخ زوجته، خرج يبحث عنها، فوجدها تدلف من الشرفة الخارجية باكية وهي ترتدي اسدالها، وما أن رأته حتى هرولت إليه تختبئ خلف ظهره برجفة زلزت جسده أسفل أصابعه المرتعشة، بينما صوتها المتقطع يخرج له:
-يامن!، أنا شوفته بره.

أغلق عينيه بقوةٍ يحاول التعامل بذكاء مع الموقف، فقال بخشونة:
-زينب أطلعي من ورايا وأقفي قدامي هنا.
بقيت كما هي، عينيها متعلقة بالشرفة ورعشتها تزداد، فصاح بعنفوان:
-اخرجي وواجهيني حالًا.

بكت من خلفه وهي تهز رأسها بالنفي، جذب معصمها لتقف قبالته، فصاح بعصبية هادرة:
-ممكن تفهميني لحد أمته هنفصل بالوضع ده، طول النهار والليل على نفس السيناريو، إنتي أيه مبتزهقيش! أنا خلاص مبقتش قادر بجد، إحنا يعتبر لسه بنبدأ حياتنا مع بعض وإنتِ تقريبًا مش شايفه غير الحقير ده.

ضمت كفيها معًا، وببكاء قالت:
-يامن هنا يا سيف، صدقني.
تمزق نياط قلبه العاشق لها، ولكنه مازال يحافظ على ثباته واتزان نبرته، بل هدر بغضب:
-مفيش حد هنا غيري أنا وانتي يا زينب، تحبي أثبتلك؟
جذبها بشراسةٍ للشرفة الواسعة، وصرخ:
-هو فين اتفضلي شاوريلي!

ازدادت بالبكاء، وفتشت بشرفة الشقة المجاورة لها، ورددت من بين بكائها:
-كان هنا يا سيف والله.
استجمع كل ثباته وهدر:
-يوووه أنا اتخنقت خلاص، هخرج وأسيبلك الشقة كلها عشان ترتاحي.

وتركها وولج لغرفة نومهما، فهرولت من خلفه تتمسك بيده ببكاءٍ:
-سيف عشان خاطري متسبنيش لوحدي، إنت عندك حق انا مزودها وبتخيل وجوده، أنا آسفة مش هتكلم تاني والله، بس خليك معايا.

جذبها لأحضانه وهمس لها بصوتٍ منخفض للغاية:
-مصدقك يا زينب، إنتِ مبتتوهمش، الحقير ده فعلا هنا وبيحاول يدمر، علاقتنا باللي بيعمله، أنا اللي آسف يا عمري، كنت مضطر، أجاريه وأثبتله إن خطته جايبه نتيجة بلهيه لحد ما نسافر، محبتس أقولك عشان لو حس إننا بنمثل هيأخد رد فعل مش هنكون جاهزين ليه.

تعلقت بقميصه بقوة، وطالبته بتكرار ما قاله، حينما قالت:
-يعني إنت مصدقني يا سيف؟
قبل جبينه بحبٍ:
-مصدقك من أول يوم يا زينب، اطمني أنا جنبك المرادي وأنا اللي هحطله حد.
وابعدها عنه يقبل يديها وبحب قال:
-يلا يا حبيبتي روحي حضري شنطتك والحاجة المهمة اللي هتحتاجيها بس، عشان منلفتش الانتباه للي هنعمله.
هزت راسها وهو تزيح دموعها:
-حاضر.
ابتسم وغازلها بحب:
-يسلملي القمر وهو مطيع كده!

اختلجت معالمها حمرة طفيفة، واتجهت للخزانة على الفور تعد أغراضها، بينما هدر سيف بغيظٍ من بين اصطكاك أسنانه:
-هلاقيها من ابن الشيخ مهران ولا من الحقير ده!
-فين الخواجة، ملقتوش على السطوح!
قالها إيثان وهو يغلق دفتر الحسابات المفتوح أمام يُونس، الذي سحب كوب الشاب الساخن يدمسه بالنعناع الطازج، ويرتشفه وهو يطالعه ببرودٍ، بينما الآخير يقتاد غيظًا:
-ما تنطق يا يونس راح فين الخواجة؟
وضع الكوب عن يده وقال بسئم:.

-عايز أيه على الصبح يا إيثان، إنت حالك مبقاش عاجبني، من ساعه ما الخواجة ظهر وإنت عقلك اتلحس!

وتابع وهو يشير على القدح المغموس بين طاسة الفحم:
-اشرب شاي بنعناع بيروق الدماغ وبيهدي التعبان!

ألقى الكوب من يده وهو يصرخ بعصبية:
-يونس متعصبنيش، بقولك فين الخواجة ده عايز أحط عليه!
أبعد مقعده، ونهض يجابه غضبه:
-إنت من كتر رفض بنت خالتك ليك عقلك لحس ولا أيه، مالك يا إيثان ما تظبط الحوار معايا بدل ما أظبطك على الصبح، شايل اعصابي وحاططلك تلاجة لمصلحتك، لو فكتها هنلقفك على القرافة مش الحيطة زي ما الخواجة بيلقفك عليها.

منحه نظرة مستنكرة لما قال، دفعه للخلف وهدر منفعلًا:
-كانت فين عصبيتك دي امبارح، ولا جاي على هواك اللي حصل لصاحبك.
لانت تعابيره وتمتم بخفوتٍ:
-استغفر الله العظيم واتوب إليه.
زفر وهو يستعيد قوته، واشار له:
-تعالى يا إيثو، شوف مهما تعمل هتفضل عملي الرضي، عايز اخبلك شخشيخه أطفال زي بتاعت يونس كل ما عفريتك يحضر أهشتكه.

وكبت ضحكاته وهو يخبره بجدية مضحكة:
-يعني خلاص هنسيب اشغالنا ومالنا وهنقعد للخواجة على الساقطة واللاقطة يا إيثوو، بالله ده كلام!
وتابع وهو يلف ذراعه حول كتفه:
-بص انا حاسس إنك اعصابك تعبانه من فترة، روح استهدى بالله وافتح الجيم بتاعك، العبك سبع تمن ساعات على الأجهزة بتاعتك وهترجع فلة ومسك.
واضاف بمزحٍ:
-لو اتاخرت عن كده هجي أبص عليك أهو أسلكك من خناقة الاجهزة المعقربة بتاعتك دي وأهو كله بثوابه.

هز إيثان رأسه باقتناع، وقال وهو يتجه للخروج:
-هروح فعلا أعمل كده، بس راجعلك إنت وهو تاني وآ..
تلاشت جملته فور أن تلاطم جسده بسفح جبلي، استدار ليرى من؟ فاحتقنت مُقلتيه بغضب، بينما أدمى يونس شفتيه من فرط كبته للضحك، وهو يرى القدر يجمع بينهما رغمًا عن أنوفهم.

منحه عُمران نظرة مستحقرة، جابته من رأسه لأطراف قدميه، وببرود قال:
-طول ما انت باصص وراك في مشيتك مش هتنطحك بقرة بس، ده هيعدي عليك طوب الأسفلت.

صاح بعنفوان:
-مين ده اللي يعدي عليا، ده أنا شقيته نصين زي ما هتبتدي معاك من دلوقتي.
جحظت عيني آيوب صدمة، فأشار ليونس بجدية تامة، فأسرع يجذب إيثان للخلف بينما يطالعه عمران ببرود وثبات انهاه قائلًا:
-البداية على طول بتكون من عندي، بس أنت عشان معرفة حد غالي عليا هخليك تبدأ، وريني تمامك أيه يا كابتن؟

احتجت أعصابه غيظًا من برودته بالتعامل، فحاول دفع يونس للخلف وهو يصيح بغيظٍ:
-وسع يا يونس، أبعد كده.

-إيثان.
صوتًا أنوثيًا رقيقًا اقتحم محل وقوفهم، استدروا للخلف، فوجدوا فتاة ترتدي جيب أسود طويل، وقميصًا أبيض يعلوه جاكيت أسود من الجلد، شعرها قصير بعض الشيء، تطالعه بحدةٍ ببنيتها الثائرة.
اعتدل إيثان بوقفته بعيدًا عن يونس، وهمس بمشاعرٍ مرهفة:
-كريستينا!

استدارت رؤؤس الشباب عنها، بينما مضى هو بخطواتٍ مرتبكة حتى وقف قبالتها، فاذا بها تندفع بصوتٍ مرتفع سمعه جميع من بالمحل وعلى رأسهم الشباب:
-باعت خالتي تهددنا يا إيثان، قولتلك لو إنت أخر واحد على الكوكب كله أنا مش هوافق بيك، أنا مش الاستبن اللي قاعدلك في خانة الاحتياط، تلف لفتك وبالآخر ترجع ليه، فوق لنفسك.
وتابعت وعينيها تلمعان بدموع الكبرياء:.

-لو فاكر إني موافقتش على أي عريس من اللي متقدملي لإني بحبك ومستانية جنابك تحن تبقى عبيط وأهبل، أنا معتش شايفاك أصلًا، مستانية أختار الإنسان اللي يستاهلني وأستاهله بجد.

كاد بأن يبرر لها فعلته، ولكنها أشارت بيدها بتحذيرٍ، وشراسة:
-أوعى تدخل خالتي بالموضوع ده تاني، فاهم!
وتركته ورحلت بينما الثلاث شباب يتابعون ما يحدث من خلفه، مال عُمران ليونس يخبره:
-صاحبك طلع غشيم ونطع!

لم يستوعب ما قاله عُمران، بل كان مشدوهًا لما يحدث، لم يتخيل أن تواجهه بتلك الحدة وعلى مسمع ومرأى الجميع، دنى عمران من إيثان الذي يتابع خروجها بغضبٍ، رأى بعينيه رغبته بالثأر والانتقام لكرامته التي أهدرتها تلك الفتاة، فعزم الرحيل خلفها؛ لتحقيق مبتغاه، أوقفه عمران حينما دفع كتفه للخلف وركز رماديته إليه هاتفًا بحروفًا بطيئة ربما يستوعب:
-غلط! اللي هتعمله غلط وهيضيعها من ايدك نهائي يا غشيم.

برزت حدقتيه بحدة، لحق نبرته:
-وإنت مالك أصلًا، إبعد عن طريقي.
لم يتذحزح قيد انامله، بل تابع بثقةٍ لا تليق سوى به:
-عقلك مصورلك لحظة غضب إنها باللي عملته دلوقتي نهاية لاي فرص بينكم، بس الحقيقة هي فرصة لو استغلتها صح هتكون ليك، زي مانت عايز وخايف تعترف بيه.

لانت تعابيره قليلًا، واندفع فضوله لسماع المزيد منه، فتابع عُمران برزانة وهدوء يراه يونس وإيثان فيه لأول مرة:
-نص كلامها كدب ومش صحيح، لو كانت عايزة ترتبط بشخص كويس كانت عملت كده من زمان، باقي كلامها عبرت فيه بدون ما تحس أنها بتحبك وعايزاك بس رافضة طريقتك نفسها يا غشيم!

تغاضى عن جملته التي ينهي بها أي جملة، وقال بتأففٍ:
-يعني أيه؟ مش فاهمك أنا!
أخبره باستفاضةٍ:
-اللي فهمته من كلامها ومن تصرفك العبيط على كنبة الفشارين امبارح إنها كانت بتحبك من زمان وإنت عارف كده، الظاهر كمان انها حاسة إن كان في واحدة في حياتك غيرها، ولما رفضتك او الموضوع اتفشكل لأي سبب رجعت تتقدم ليها، كأنك رضيت إنك هتكون ليها.
عبث بعينيه بعدم فهم، فابتسم ساخرًا:
-Sorry, I forgot you re stupid.

آسف، نسيت انك غشيم!(غبي)
صاح ايثان بغضب:
-وبعدين في طولة لسانك دي بقى!
زوى حاجبيه بدهشة، وأشار على نفسه ببراءة أضحكت يونس وآيوب اللذان يتابعان ما يحدث بذهول بينهما:
-أنا يا إيثو اللي لساني طويل، ولا مامي اللي معرفتش تربي الحيلة؟
واستطرد بفتور:.

-عمومًا مش موضوعنا دلوقتي، إفهمني بقى عشان مش هعيد كلامي تاني ومعنديش وقت لده اساسًا، انت كنت غشيم معاها، حسستها إنها استبن وإنك عايزها لمجرد انك تتجوز وخلاص، كان المفروض تلطف الدنيا وتقول كلمتين حب والذي منه عشان تكسب قلبها المجروح، الست يا كابتن إيثو مفيش أرق من قلبها، خصوصًا لو شالك في يوم ذرة حب، قصاد حبها مستعدة تعديلك كل حاجة.

واضاف متنهدًا بنبرة حزن مطموس:
-نبرتها وهي بتتكلم فيها وجع كبير، الظاهر إنك مكنتش غشيم بس، لا كنت غبي كمان، ولازم تراضي غرورها كأنثى.
أشار عُمران على باب المحل الضخم الخاص ببونس وقال:.

-فرصتك الوحيدة قدامك، الحقها وهي بالحالة دي اقف قدامها وبصلها وقولها بحبك وإن كل الكلام اللي قالته ده غلط، هتتراضى حتى لو عارفة انك كداب، لكن لو عايز تخسرها روح واعمل اللي في دماغك، استعيد كرامتك اللي شايفها اتبعترت قدامنا وقدام العمال، بس بخسارتها، خليك عارف إن في الحب مفيش كرامة.
وببسمة جذابة اخبره:.

-الراجل المغرور بيكون أول واحد بيقع في المعركة، العلاقة الصحيحة لازم يكون فيها تنازلات، اتنازل عشان تفوز بالساحة كلها مش في حرب واحدة من حروبها، وخليك عارف إن طول ما في ست في حياتك طول ما احتياجك للسيف وأدوات الحروب أكتر من احتياجك للأكل، أتمنى تكون فهمتني يا إيثو ولو إني أشك!
وتمتم بسخطٍ:
-شكلك هطلع غشيم وأنا مبحبش النوع ده، وللاسف ربنا ابتلاني بواحد وشكل التاني على الطريق!

أحاطه إيثان بنظرةٍ حائرة، فتحرك يونس ودفعه بغضب:
-لسه واقف تنيل أيه؟ اجري نفذ اللي قالك عليه يا غشيم!

تلقفه احد العمال قبل سقوطه أرضًا، فنهض يتمتم بغيظ:
-متزقش يا يونس الله.
واشار لايوب بقلق:
-مالي ايدك من الخواجة ده ولا يكون بيسوحني عشان ينتقم.
منحه آيوب نظرة ساخطة وقال:
-عُمران صح انت غبي مش غشيم!
ونكز يونس بحنق:
-اتعامل انت عشان ورايا امتحان ومذكرة انا!

ردد العامل الذي حال بينه وبين السقوط بنزقٍ:
-زمان الهانم وصلت البيت وخسرت فرصتك يا غشيم آآ، أقصد يا كابتن إيثان.

تنحنح بخشونة غليظة وهو يستعيد هيبته المفقودة:
-روح شوف شغلك يابو لسان طويل، يلا كل واحد على شغله، فضيناها.

انفض الجمع من حوله، حرك كتفيه يعدل من جاكيته، واستدار يخبرهم وهو يمرر يده على رقبته بحرج:
-طيب هروح انا بقى وراجع.
وشمل يونس الذي يطالعه باستحقار:
-خد بالك من المحل، شوية وراجع مش هعوق أنا.

فور مغادرته تساءل عُمران بدهشة:
-أيه أعوق دي، مش دي بتتقال لما تحس اللي قدامك تمادى بالامر فبتقوله مش عايز عوق أنا، يقصد أيه باللي قاله؟
ضحك يونس وقال:
-لا ده قصده مش هيتأخر يعني، مستحيل يشد في خناقك تاني يا خواجة، إنت يعتبر مواجب معاه ومركبه واحد.
زوى حاجبيه بذهولٍ، وتمتم:
-مركبه واحد!

نهر آيوب يونس بضجر:
-ألفاظك إنت وصاحبك قذرة.
ومال إليه يهمس له بصوتٍ مسموع للطاووس:
-كفايا عليه اللغات اللي معاه مش عايزين نخليه أوقح من كده، هيطلعه على بشمهندس جمال ودكتور يوسف لو رجع لندن، إهمد إنت والغشيم اللي مصاحبه.
-ما تسيبك من حوارك العبيط ده وترفع صوتك يابن الشيخ مهران.
استدار آيوب إليه، وقال مبتسمًا بتصنع:
-ده أنا خايف عليك وعلى لغتك الراقية لتنحدر هنا يا بشمهندس.
رد عليه بسخرية:.

-قولتلك قبل كده أنا لو حطوني في عالم الجن هعرف أتعامل، خاف على نفسك إنت يا برجل!
تعالت ضحكات يونس وهتف بعدم تصديق:
-حلوة برجل دي جديدة.

-السلام عليكم ورحمة الله
قالها آدهم الذي ولج للتو، لينتبه له الجميع، استدروا إليه، يرددوا السلام، والابتسامة تنبلج على وجه آيوب بحفاوةٍ، الذي لم يكتفي بسلامه واتجه يضمه بكل محبة، ويساله بلهفةٍ:
-أخبارك يا آدهم؟

ربت على ظهره والحزن يعتريه، يشعر بالمكانه المختلفة التي يميزه بها آيوب، وهو العاجز عن بوح الحقيقة إليه، يتمنى أن يحصل والده على الخلاص، ولكنه يخشى أن يكون في ذلك خسارة آيوب الابدية!

تحرر من صمته يجيبه مبتسمًا:
-بخير الحمد لله، طمني عليك إنت وعلى مذكرتك، الامتحانات خلاص قربت!
لاحظ الحزن الذي يملأ مقلتيه، وقال:
-إطمن هشرفكم.

هز رأسه وقال بفخر:
-واثق إنك هتعمل ده.
دنى إليه عُمران يشاكسه:
-أيه يا حضرة الظابط مفيش أهلًا ولا سهلًا، شكلي موحشتكش!
أجابه ببسمة بشوشة تعكس صدق حديثه:
-وحشتني والله وصاصا كان هيبعتني امبارح نص الليل عشان ترجع معايا، بس آيوب ثبته على الفون.
وأضاف بتهذبٍ:
-كنت جايلك أصلًا قبل ما تكلمني، شوف حابب تروح فين وأنا تحت أمرك.
همس له بصوتٍ منخفض، يملأه المكر:.

-مكان حبيبنا، واجب نواجب معاه ولا أيه رأيك يا حضرة الظابط؟
ضحك بملء ما فيه، وقال ساخرًا:
-حضرة الظابط دي متكلش مع المشوار اللي رحينه ده، مشيها إسمي الحركي أحسن!

ارتاب آيوب لامرهما، وتساءل بشكٍ:
-انتوا رايحين فين بالظبط؟
دفعه عُمران بخفة:
-روح ذاكر يا آيوب، هنروح مشوار على السريع كده وهشوفك بليل.
أصر أن يعلم ما بينهما، فردد باصرارٍ:
-هاجي معاكم لو مقولتوش رايحين على فين؟
ربت على كتفه وقال يمازحه:
-مشوار للكبار يا حبيبي، روح ذاكر زي ما قولتلك.

قالها عُمران وغادر للخارج ومن بعده آدهم بعدما ربت على كتف آيوب ومنحه ابتسامة هادئة.
-كريستين استني!

التفتت خلفها تجاه صوته المنادي، فصعقت حينما وجدته يركض من خلفها، انحنى إيثان مستندًا على ركبتيه، يلتقط انفاسه بصعوبة، ما كان ليلحق بها الا لاعتياده على ممارسة الرياضة الشاقة، وبالأخص الركض المتواصل على الأجهزة.

استعاد اتزانه، ونهض يقترب منها، طالعها بدهشةٍ حينما وجد أثر البكاء على وجهها، لقد واجهته بقوةٍ وشراسة، ومضت تكشف عن ضعفها بين الطرقات، لاحظت تعمقه بها، فاستدارت تزيح دموعها وواجهته بقوةٍ إلتحفت بها مجددًا:
-خير؟

وخز قلبه دون رحمة، فقال وهو يرنو إليها:
-أنا آسف.
منحته نظرة ساخرة، وتساءلت بسخطٍ:
-على أيه؟
ضم شفتيه معًا والحزن يتغلغل داخل مُقلتيه، وبوجع ردد:
-على كل لحظة ضيعتك فيها من ايدي بسبب غبائي، كريستينا أنا بحبك، اكتشفتها متأخر أوي بس دي الحقيقة، أنا غبي وحيوان، ومتسرع وكل العيوب اللي في الكون اتجمعت فيا، بس صدقيني معملتش كده عشان ارتبط بيكِ وخلاص، أنا بس اتاكدت من مشاعري مش أكتر.

رمشت بعدم استيعاب مما قال، وكأن من يقف أمامها شخصًا آخر غير ذلك السليط، وجد هدوء يحيط عاصفتها الجامحة، على ما يبدو بأن ذلك الوقح يمتلك خبرة بالتعامل مع النساء، فتابع قوله:
-أنا عايزك يا كرتستين، وده لاني بحبك ومحتاحالك جنبي، تصرفي مكنش كويس عارف، بس أنا هقدر اي رد فعل ليكي، حتى لو اختارتي تكوني لغيري.

وأضاف مازحًا:
-لو كنني لغيري هاجي فرحك وهغنيلك اغنية اعذريني يوم زفافك وأنا صوتي أصلا لوحده هيطفش العريس والمعازيم، وميبقاش غيري انا وأنت يا جميل، ووقتها مش هحلك، هتجوزك يعنس هتجوزك حتى لو هخطفك.
ومال إليها يسألها بنظرة اجتهدت لتنقل حبه لها:
-ما تيجي أخطفك من دلوقتي ونوفر الفيلم الهندي ده؟
ابتسمت رغمًا عنها، فصاح بحماس:
-هو ده، ضحكت يعني قلبها مال.
تلون وجهها من شدة حيائها، وخاصة حينما سألها:.

-أجيب خالتك وأجي بليل؟
رفعت عينيها إليه، وبرقةٍ هزت رأسها وغادرت من أمامه سريعًا، فابتسم وهو يهمس بسخرية:
-بركاتك يا خواجة!
-طيب ممكن تفهميني إنتِ بتعيطي ليه دلوقتي؟ مش عملتي اللي في دماغك وهنتيه وكسرتيه!
قالتها ليلى بعصبية بالغة إلى صبا المنهارة من البكاء، تنهدت بقلة حيلة وقالت:
-يا صبا صدقيني إنتِ كده بتدمري نفسك، خلاص مدام شايفة إنك عملتي الصح زعلانه ليه؟ عيشي حياتك عشان نفسك أولًا وعشان ابنك.

أزاحت دموعها وبانكسارٍ قالت:
-غصب عني يا ليلى، هو وجعني وجع كبير، كنت عايزة أنتقم منه وأشفي الجرح اللي جوايا، بس لا وجعه دواني ولا كسرته شفت جروحي.

تدفقت الدموع من عيني ليلى تأثرًا بها، فضمتها لصدرها وقالت بحنان:
-صبا حبيبتي اللي مريتي بيه مكنش سهل نهائي، أنا فخورة بيكِ انك وبالرغم كل اللي مريتي بيه مازالتي واقفة على رجليكِ وبتحاربي عشان ابنك وكرامتك.
وابعدتها عنها تقابل عينيها وهي تخبرها بعزيمةٍ:.

-انسي كل اللي فات ادي لنفسك فرصة تعيشي الحياة من غيره، وشوفي هتقدري ولا لأ، انزلي شغلك الجديد بالمركز وخصصي وقت لنفسك ولابنك، لو عدت عليكي أيام نستيه فيها، تأكدي إنك فعلا مش قادرة تسامحي وحياتك بقت أفضل من غيره فصممي على قرارك بالانفصال، لو حسيتي إنك ضعفتي ومحتاجة تديله فرصة، إعملي كده عشان خاطر ابنك بس وانتِ واخده حقك كامل ومكمل، وانتي حاليًا بدأتي أول درس باسترداد حقك.

رسمت بسمة باهتة على وجهها وقالت بامتنانٍ:
-تفتكري من غير وجودك ودعمك ليا كان هيجرالي أيه؟
ضمتها مجددًا إليها وقالت بحب:
-ربنا يعلم بمعزتك عندي يا صبا، وأكتر حاجة مفرحاني انك هتنزلي الشغل معايا وهنكون مع بعض.
كان يعمل على أحد الملفات الهامة من أمامه، حينما ولج أخيه لمكتبه، دنى إليه بكل عنجهيةٍ، ووضع أمامه ظرفًا أبيض مطوي، وزع الجوكر نظراته عليه وعلى ما وُضع أمامه وبذهولٍ تساءل:
-أيه ده؟

أجابه رحيم وهو يجذب اللافتة الخشبية الصغيرة، الموضوعة على مكتبه، يلهو بها بتسليةٍ:
-تذكرة سفرك.

رفرف بأهدابها الطويلة بدهشةٍ:
-سفر مين؟

ضم حاجبيه ببراءةٍ مصطنعة:
-إنت يا مراد، هتسافر كمان ساعتين ايطاليا، يلا يا بطل جهز نفسك وفي المطار هتلاقي شريكك في المهمة جاهز وفي انتظارك.
نهض يجابه وقوفه، وصاح بدهشة:
-مهمة أيه؟ ومين ده اللي باعتينه معايا؟ إنت بتقول ايه!

سحب الاسطورة كوب العصير الأزرق الخاص بمراد، ارتشفه مرة واحدة، زم شفتيه ووضع الكوب هادرًا:
-غريب عصيرك ده!

كز على اسنانه بغيظٍ وهدر:
-رحيم متستفزنيش مهمة أيه اللي حجزلي فيها التذكرة بنفسك دي؟
نهض يعدل جاكيته، وقال بجمود:
-مهمة الميكروفيلم، رحلتك لايطاليا بعد ساعتين، تذكرتك جاهزة، سلام يا جوكر.
واتجه ليغادر وقبل أن يخرج من الغرفة استدار يبلغه ببسمة خبيثة:
-الاماكن المحظور عليك دخولها عشان هتكشفك قدامهم عايزك تزورها يوميًا، من الآخر عايزهم يعرفوا بوجودك من أول يوم، واوعى تتنكر.
وبابتسامةٍ شيطانية قال:.

-خليهم يعرفوا أننا مش هنسكت.
ضرب كفًا بالآخر وهدر منفعلًا:
-هو مش سيادة اللوا قال المهمة دي مينفعش فيها حد معروف!
ببسمة باردة قال:
-بس أنا بقول ينفع، غير هدومك واتحرك على طول هتتأخر، على معاد الطيارة.

أوقفه بعصبية طائلة:
-وانا همشي كده من غير اي خطة مدروسة!
استدار إليه يواجهه بنظرة شيطانية:
-اخدت جزءك من الخطة بالفعل، هتتحرك فوق الستار وباقي التيم من تحته، هنغربلهم في النص، عايز تفهم أيه أكتر من كده!

ومنحه ابتسامة كشفت عن اسنانه، وسأله بخبث:
-موحشكش جو التوابيت؟
زوى حاجبيه بصدمة من بروده، بينما دث رحيم يديه بجيب جاكيته وغادر يطلق صفيرًا مستمتعًا تاركًا الجوكر يحارب ذاته الا يسحب احد قنابله النووية يفجر بها أخيه لينهي عذابه من هذا الشخص الاحمق!
فتح الرجال الباب، ليدلف عُمران وآدهم للداخل، حتى وصل للسرير الصغير الذي يعتليه نعمان، ابتسم ساخرًا وهو يردد:
-سمكة دولفين بريئة نايمه!

وأشار لآدهم بسخرية:
-خد بالك ده أبشع من الدولفين، شوفت اخطبوط البحر، ده نسخته بس على أرزل.

وتركه واقترب يهزه بعنف وهو يصيح:
-قوم يا نعمان قيامتك قامت!

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *