رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل السادس عشر
خُلق القلب عصيًا: -اليوم تذكرتُ جميع من خذلوني دفعةً
واحدة ؛ ولا أدري السبب
لكنّني أدركتُ أنّني كُنت أصُب عطفي وحُبّي
في قُلوب مثقوبة.
فارق مقعده ووقف ملاصقًا بها بعد ما طوق خصرها وقال: -ما تسيبي الرقص يقول رأيه؟ ويحكم ما بينا؟
-ازاي؟
-يعني ممكن نكسب وممكن نخسر، لو خسرنا يبقى متفقين، أما لو كسبنا يبقى في حاجة مهمة ما بينا لازم ناخد بالنا منها.
ثم مد يده ليستقبل موافقتها، راقت لها الفكرة ولبت طلبه بأناقة ووثبت قائلة بتحدٍ: -حتى لو حسمت قراري!
-الل هو؟
-هرجع الغردقة أول ما ننزل مصر.
ضمها من خصرها وحملها بيمينه فألتف ذراعيها حول عنقه بتلقائية وهو يجيبها بحسم وعزيمة: -ده في أحلامك،!
وصل إلى منتصف الساحة ثم أنزلها ببطء حتى لامست قدميها الأرض، طالعته بدهشة: -أنت كُنت بتقول أيه! مسمعتش؟
حاوط خصرها بكفيه وقال هامسًا: -ركزي في الرقص.
اشتغلت أحد الأغاني الفرنسية الشهيرة وشرع عاصي بمغازلة خصرها برقة على ألحان الغناء. كان ذراعيها جنبًا لم تُشاركه الرقصة ولكنها كانت مستسلمة لحركاته اللطيفة والذكية التي تعرف بحكمة كيف تروض أنثاه. رغم ذلك لا يقل من هيبته ووقاره الذي كان محط التفات الجميع.
تدلت أنظارها لأسفل، فأبي ابتعاد عينيها عنه، أمسك بذقنها ورفع وجهها إليه حيث كانت النظرة من عينيه بمثابة حضن ف وقال بهمسٍ: -متبعديش عينك عني.
دققت النظر بعيونه المُدججة بربيع الحب وقالت مستنتجة: -كل ما أبص فيهم مش بشوف غير أسرار.
-وهو الإنسان أيه غير مجموعة من الأسرار!
كادت أن تجيبه ثم باغتها بحركة مفاجئة ليبعدها عنه ولكنه ممسكًا بيدها ودارها أمامه كالفراشة ثم جذبها بنفس القوة التي ابتعدت فيها عنه. ألتف ذراعها حول عنقه وانحنت للوراء بليونة مستندة على كف يده المنصوب على ظهرها ثم أرجعها إلى حضنه مرة ثانية وهي تقول: -أنت عرفت عني كل حاجة، وأنا معرفش عنك أي حاجة. ده مش عدل!
دفن أنفاسه بجدار عنقها وقال: -هتعرفي كل حاجة لما يجي آوانها!
-اللي هو أمتى؟
لفها تحت يده مرة ثانية ثم جذبها برفق ليرتطم ظهرها بجدار صدره القوي، حاوطها بقبضة ذراعيه المتينة وهمس في أذنها قائلًا: -كُنتِ كاتبة في روايتك، نفسك تعيشي أحساس رقصة سندريلا مع الراجل اللي بتحبيه.
مالت رأسها على كتفه وقالت بأنين: -تفتكر هقابله!
ابتسم بخبث وهو يراوغها بين يديه حتى عاشت أجواء الرقصة معه واندمجت بالغناء وبرائحته التي كان لها دورًا كبيرًا في تحريك روحها قبل جسدها. همس إليها في تلك المرة التي عادت فيها إلى حضنه مستفسرًا: -لما تقابليه هتقوليله أيه؟
تسلل كفها على جدار رقبته وأجابته تحت سطو رائحته وأجابته هائمة: -هقوله إني استنيته كتير أوي.
غمرها بمزيج من اللهفة التي احتلت صوته وقال: -لأنه كان بيدور عليكِ!
احتدت الموسيقى وزادت حركاتهم إثارة، وجاء دور المشاعر التي أخرجت أجمل ما خُفي بجوفي الاثنين، انسحب جميع المتسابقين ووسعوا الساحة لعاصي لينفرد بمداعبة أميرته، تكرر المشهد السنيمائي الشهير لأول رقصة جمعت بين الأمير وسندريلا، تحولت الحكاية الخرافية إلى حقيقة مجسدة على أرض الواقع. أدت حياة أداءً رائعًا وجميلًا، مهما غلبت العاطفة إلا أن الثنائي احتفظا بهيبتهم وفخامتهم على ساحة الرقص…
في المرة الأخيرة التي التقى بملامحها وخاصة درجة الحُمرة القاتمة التي تلون شفاهها فتبدو كقطعة من التوت الأحمر البري الذي فجر شهيته لتذوقه. يحترق المرء من فرط نهمه وهذا ما تتوق بنفسه، لأول مرة يراوغه شعور الجوع، صاحت عصافير قلبه رغبة ف تقبيلها.
أوشك أن ينال مراده بعد ما باتت تحت سطو سحره الرجولي، جاءت أصوات جرس الختام، ليختم المسابقة تحت هِتاف و صخب الجميع، وحماسهم، وتصفيقهم للثنائي الرائع الذي تناسى الحشود حولهم سابحين في عالم الحُلم. فاقت حياة من سُكر قُربه الذي أزهر بقلبها مشاعر عاشتها على الورق فقط وقالت بخجل:
-هما بيعملوا كده ليه!
طالع الجميع حوله بدهشة ورهبة: -تعرفي تجري؟
انفجرت ضاحكة بجواره وهما يسيران ناحية الطاولة الخاصة بهما. مرت الدقائق سريعًا حتى جاء الرجل المختص بإعلان النتيجة، وبين مماطلة وتلاعب بأعصاب الجميع لإعلان النتيجة أعلن بفوز أجمل ثنائي بالسهرة وهما عاصي وحياة في تلك اللحظة التي كانت تستعد فيها حياة للذهاب. تصلبت تعابير وجهها وهي تخبره:
-أنت سمعت هما قالوا أيه؟
-هما بيشاوروا علينا؟ أحنا كسبنا ولا أيه!
تركت حياة حقيبتها على الطاولة وأمسكت بيده: -تعالى دول بينادوا علينا…
جاءت سوزان وبيدها كوب من السحلب بعد ما رأت نور الغُرفة الموجودة بها عالية مازال مشتعلًا. طرقت الباب بخفوت وما أن دخلت عليها:
-كُنت متوقعة أنك منمتيش! بتفكري في أيه؟
تركت عالية الهاتف من يدها بكلل: -ولا حاجة، زهق بس.
جلست سوزان على طرف الفراش بعد ما وضعت الكوب بجوارها على الكومود وقالت بعتب: -مش كنتي جيتي ندردش سوا بدل ما أنتِ قاعدة لوحدك!
-آكيد حضرتك عندك شُغل محبتش أسهرك معايا.
-ماتقوليش كده هزعل منك، ربنا وحده يعلم غلاوتك عندي.
-تسلمي يا طنط، أنا جيت لك هنا لما شفت الطريقة اللي دافعتي بيها عني قُدام مراد، وكمان ماما بتسمع كلامك، عشان كلامها مع عاصي بيجيب مشاكل.
بدت الحيرة تقاسم ملامح عالية حيث سألتها:
-مامتي كلمتك النهاردة.
-ااه اتكلمت، وأنا أصريت أنها تسيبك لوحدك شوية لحد ما تشوفي أنتِ عايزة أيه. وبعدين أنتِ فكرتي صح، بابي مفتوح لك دايمًا.
تنهدت عالية بمرارة: -مش عارفة، أنا بجد مش عارفة أنا عايزة أيه!
طالعتها سوزان بشفقة على حالتها المُشتتة: -ليه يا عالية. طيب بيني وبينك كده، أنتِ صحيح حامل ولا قولتي كده عشان تخلصي من الجدع ده!
ضمت عالية ساقيها إلى صدرها وهزت رأسها بالنفي: -لا. قلت كدة عشان اخلص منه، ومش عارفة هواجه مامي أزاي بعد اللي عملته.
-سيبك من عبلة دلوقتي، أنتِ عايزة أيه، عبلة قالت لي أنك عايزة ترجعي لمراد، ده صحيح؟
خيمت الحيرة على معالم وجهها وقالت بتردد: -حتى لو عايزة، يا ترى هو عايز أيه! أنا عاملة زي اللي رامي شِباكه في الصحراء ومستني يصطاد سمك.
رمقتها سوزان بشفقة على الحالة التي تُعاني منها، ومرارة الفراق الذي أصاب قلبها الرقيق، فأكملت عالية:
-أنا جرحته، وسببت إهانة ل رجولته، بس وقتها كنت في ساعة غضب.
-طيب أنتِ عايزة ترجعي ليه عشان بتحبيه فعلًا، ولا ده من باب رد الكرامة، يعني ساعة تبرري لنفسك أنك مذنبة، وساعة كمان لإنك اعترضتي للرفض.؟
فكرت عالية طويلًا حتى حسمت القرار مع نفسها: -طنط أنا طول عُمري لوحدي، محدش كان حاسس بيا، وجود مراد واهتمامه ومناقشته طول الوقت خلوني أخاف من الوحدة، بقيت مش عايزة ارجع لها تاني.
طالعتها سوزان بشكِ: -بس اللي بيخاف من الوحدة هيتشعبط في أي سكة تنجيه منها، يعني كُنت قبلتي ب وليد لمجرد وجوده سد خانة.
اقتنعت عالية بوجهة نظرها وأيدتها بالموافقة، ابتسمت سوزان بهدوء وقالت: -خذي وقتك وفكري، أنتِ عايزة مراد نفسه، ولا أي راجل يملى حياتك، عشان أقدر أساعدك.
لمعت عينيها ببريق الشكر والامتنان وهي تربت على كف سوزان بعرفان: -بجد مرسي أوي يا طنط على وقفتك معايا.
-متقوليش كده، أنتِ زي بنتي يا عالية. بس خدي قرارك بسرعة عشان عبلة مش هتصبر عليكِ أكتر من كده، عشان نعرف نتصرف.
ردت عالية بسرعة عقب بعدها الخجل: -أنا عايزة مراد.
ثم بررت: -مش متخيلة إني أعيش مع راجل غيره، أقصد يعني محدش لمس قلبي زيه.
اتسعت ابتسامة سوزان بحب: -مفيش حد مجبر يبرر مشاعر حبه، أنتِ حبيتي مش أجرمتي يا عاليه.
-طيب في حل ولا بجري وراء وهم.
فكرت سوزان لبرهة: -هو فيه، بس محتاج وقت، محتاجة أعرف مشاعر مراد أيه من غير ما يأثر على كرامتك وصورتك، عايزاها تيجي منه. بس قبل ده كله لازم نهدي عبلة شوية، لأنها مش هتبطل تجيب لك عريس تاني وتالت.
-أزاي.
ردت سوزان بصرامة: -هنكمل في كذبة حملك…
بالسيارة
تجلس حياة بجواره فارحة كالأطفال بالوسام الذي حصلت عليه والذي يعد اعترافًا صريحة لشرارة الحُب بينهم، الحب ألذى رأه الجميع وما زالت تُكابر عن الإفصاح عنه.
حاول مداعبتها ممازحًا: -اشكريني طيب.
-على أيه؟
-مش أنا كُنت السبب في الجائزة دي!
انكمشت معالم وجهها وهي تعارضه: -لا طبعًا!
-أومال مين السبب؟
بررت بتمرد: -عادي، أصلًا كُل اللي هناك كانوا فِييك، أنت الوحيد اللي عرفت تمثل كويس.
رد بثبات متعمدًا إثارة غضبها: -وأنتِ كمان، مثلتي حلو أوي.
-الميوزك كانت جميلة بس وبحبها. اندمجت شوية مش أكتر.
أصدر إيماءة خبيثة: -أمم كده متفقين، أحنا الاتنين مثلنا حلو.
رمقته باستهزاء ثم ضمت الوسام الفضي إلى صدرها وتأملت الطريق من خلف النافذة، أرسل نحوها ابتسامة ماكرة ف حبذا قتل الصمت السائد بينهم بصوت عمرو دياب، قلب بعشوائية في القائمة حتى استقر على اختياره للأغنية التي تعبر عن حاله.
تسلل صوت عمرو وهو يشكو حنينه ويعاتب حبيبته على جمودها قائلًا حبيبي ولا على باله وشوقي إليه ولا شاغل، بالي أنادي عليه
رمقته بنظرة غامضة عما شغله فتجاهلها مندمجًا مع الكلمات التي حكت كل ما يدور بخاطره، ارتدت ثوب التجاهل وعادت لتتأمل الطريق مرة أخرى.
وصل الثنائي إلى الغُرفة قرابة الثالثة فجرًا، وأول شيء فعلته خلعت حذائها ذو الكعب العالي، والفرو وضعته بعشوائية ثم توجهت نحو المرآة وحررت شعرها من عِصابة الرأس المعدنية التي كانت تضم أوتار شعرها.
في اللحظة التي نادى باسمها كان ممسكًا بمعصمها ليُديرها إليه: -حياة.
أجابته مشدوهة بتلقائية: -نعم!
اقترب منها خطوة سُلحفية هائمًا بثغرها المقطوف من شجرة التوت، وبعد اتخاذه نفسًا طويلًا قال: -بصي أنا هعمل حاجة، وأنتِ هتزعلي. بس هعملها.
بثت نظراته الثائرة وميض القلق والإرتباك بقلبها، فسألته بنبرة مبحوحة: -حاجة أيه؟
حافظ على ثباته مكتفيًا بإغراقها بحديثه الوهمي ليسلب انتباهها إليه: -من أول ما شوفتك وأنا هتجنن وأعملها، وكُنت ماسك نفسي بالعافية، بس دلوقت.
قاطعته: -دلوقتِ أيه!
-عمرو دياب الله يجازيه هو السبب. كبرها في دماغي.
الأَغاني حُجَّة ذكيِّة لل مُبادّرة بكُل شيء. كادت أن تتراجع للوراء ف وجدت يديه كالحصن المنيع الذي عاق خطوتها، رفعت حاجبها محذرة: -ومادام متأكد أنها هتزعلني، هتعملها ليه؟
ردها لعنده بقوة وقال بحسمٍ: -هصالحك بعدها.
دقق النظر بها كأنه يعلم جيدًا أن عينيه التي تسبي بحورها تُربكها بشدة، ف ضمت شفتيها بتلقائية مما فجرت أخر ذرة صبر بقلبه، أوشكت أن تمارس دلالها الأنثوي عليه ولكن سمات رجولته طغت وبادر ب وجنتها المكتنزة بهدوء معلنًا حقيقة مُبتغاه هناك قمر بالسماء يريد أن يأخذ من جمالك معقده .
سرت قشعريرة طاحت بكل قوتها أقفلت إثرها جفونها وسقط فيها قلبها بين قدميها، فترجم استسلامها لقبول، تزحزحت بؤرة حبه برفق لتنطبق على حمرتها الفاتنة، دب برحمها عطره الذي أصبح في تلك اللحظة مرادها. انغرست ترقوة عنقه المُعلقة بأوتار عنقها البارزة خاصة بعد ما باتت تحت حِصاره. تريد أن تطوي عليه يديها ولكن ثمة غصة تقف بحلقها تمنعها من فتح بابًا جديدًا تهب منه رياح الخذلان. لذا اكتفت بترك جسدها الموج أما يُغرقها أو يلقي بها على شاطىء الأمان.
بات يرتشف من بحيرتها العذبة قدر المُستطاع منتظرًا منها ردًا بليغًا يتشرع له نوافذ روحه المغلقة التي ضبها عنها قسرًا، خشي أن ينفرط زمامه فيهد الوصال بينهم، ابتعد عنها بصعوبة وتحت وتيرة أنفاسه الحارقة سألها: -أنتِ كويسة!
فتحت جفونها ببطيء كأنها غير متقبلة انتهاء حلمها الجميل بهذه السرعة، أسبلت النظر بعيونها التي أقرت معترفة: - انجذب إليك بقوة و لكن قلبي مصابٌ بعلة الخوف.
بللت شفتيها التي جفت إثر بعده وتوارت هاربة منه ومن ضجيج قلبها، أخذت منامتها القطنية وتأهبت للرحيل فوجدته أمامها ليعرف طريقها: -رايحة فين؟
ردت بحدة: -هنام جمب البنات. لو سمحت.
-حياة، ممكن متكبريش الموضوع، محصلش حاجة.
-عايزة أنام، من فضلك وسع.
لبى طلبها كي يمرر الليلة، وفي الصباح يحل ما أقدم عليه، سارت بعجلة مفارقة غرفتهم وهي تضغط على قلبها الصاخب كي يهدأ حتى انتقل ألم الشوق الحارق لمعدتها، تجاهلت كل ذلك وفرت من المكان الذي أسكرها برائحة أنفاسه.
وقف في منتصف الغُرفة راضيًا عما فعله، خاصة نظرة الضعف المتوقة من عيونها والتي قرأها ببراعة، وهو يقول لنفسه: -هانت…
اندست حياة تحت الغطاء بجوار داليا بعد ما بدلت ملابسها وهي مصابة بداء الرعشة التي حلت على كيانها كل ما مر طيف الأمر بذاكرتها، حتى ارتسمت ابتسامة رضا على وجهها وقالت موبخة نفسها: -أنتِ سكتي ليه! مش عارفة لساني بلعته القُطة وقتها.
ثم وضعت أناملها على ثغرها المرتجف وقالت بتنهيدة: -هو عمل أيه!
صباح اليوم التالي
-شكلك متغير ليه؟
أردف تميم سؤاله عندما لاحظ تبدل ملامح شمس المتحمسة إلى أخرى معقدة تحمل قفة الهم بين ثناياها، جلست بجواره بتردد:
-نوران رافضة تيجي معانا، وبتقول عندها مذاكرة، وأنا مش هينفع اسيبها لوحدها. تميم ممكن نلغي السفر، أنا مش هقدر أبعد عنها.
يبدو أن خطته التي رسمها مع نوران ستنتهي بالفشل، رد باعتراض: -دول يومين يا شمس، وبعدين سيدة هنا هتاخد بالها منها، ونوران مش صغيرة وبلاش نعطلها.
رمقته بتردد: -أنا مش عارفة أنت مصمم على السفر ليه، ممكن نأجلها للصيف.
-محتاج أغير جو يا شمس، وأنتِ كمان محتاجة ده.
-خايفة حد يضايق نوران يا تميم. وخاصة كريم مش مرتاحة له.
اقترب منها وأمسك بكفها ليطمئنها: -أنتِ مكبرة الموضوع، وبتفترضي وجود حاجات في دماغك وبس. دول يومين يا شمس، الدنيا مش هتخرب فيهم يعني. صدقيني السفرية دي هتفرق معاكِ أوي.
وافقت على مضضٍ: -تمام، هكمل تجهيز الشُنط.
بالأسفل
-يعني أيه يا سوزان! أنتِ اتأكدتي بنفسك! طيب أزاي؟ يعني أي عالية حامل!
تسللت الجُملة الأخيرة إلى أذان كريم الذي يتبع تحركات عبلة في الفترة الحالية خطوة بخطوة. حيث لاحظ انخفاض نبرة صوتها وهي تقول:
-سوزان أنا مش عايزة تهريج، قولي لعالية ترجع عشان نشوف حل في المصيبة دي، الطفل ده لازم نخلص منه، أنا مش عايزة حاجة تربطها بمراد.
سألتها سوزان بحيرة: -وافقتي على جوازهم ليه من الأول؟
توترت عبلة ف الجواب: -جوازهم كان له ظرف خاص وانقاذ موقف، لكن بعد اللي عمله ده بني آدم همجي ومستحيل اطمن على عالية معاه.
انصرف كريم من وراء الحائط المتواري خلفه عندما سمع جملتها الأخيرة ليُبلغ مراد بما تخطط له عبلة. انهت المكالمة الهاتفية مع سوزان وهي تضرب كف على الأخر وتلعن الحظ الذي يعاكسها دومًا، في تلك اللحظة جاء اتصال فريد الذي استقبلته بلهفة:
-فريد، جيت في وقتك.
-فريد دايمًا تحت أمرك.
تفحصت المكان خلفها ثم خفضت نبرتها وقالت: -اللي ما تتسمى شمس، مسافرة النهاردة هي وتميم دهب. فرصتنا وجات لحد عندنا.
ابتسم بمكر: -قلت لك موضوعها عندي، أنا متابع خطواتها خطوة خطوة. المهم في حاجة مغيرة مودك!
-أقولك أيه بس يا فريد، كل حاجة جاية عكس.
-طيب أيه رأيك في سفرية يومين الغردقة، وفريد هينسيكي الدنيا كلها.
راقت لها الفكرة وقالت: -معاك حق، امتى؟
تحمس فريد بلهفة: -الليلة، مفيش وقت.
-معاك حق، فرصه قبل عاصي ما يرجع من السفر.
-استاذة هدير، هنبتدي تصوير أمتى!
جاء مدير مكتب عاصي ليستفسر عن بدء الحملة الإعلامية الخاصة بعرض الجواهر النفيسة القسم المسؤولة عن إدارته هدير. قلبت في الملفات أمامها وسألته:
-عاصي بيه لسه مرجعش!
-لا لسه، عنده فحص مهم في باريس، بس يسري بيه رجع، وحاليا ف المكتب بيراجع الورق المتأخر.
أومأت بالايجاب: -طيب سيب الصور هنا، واديهم خبر من بكرة هنبتدي تصوير.
-أوامرك يا فندم.
في تلك اللحظة التي غادر فيها الموظف المكتب، شرعت هدير في تصوير جميع التصاميم الجديدة التي ستعلنها الشركة مع بداية السنة الميلادية القديمة، وقامت على الفور بأرسالها ل هاشم مدكور . ثم قالت لنفسها:
-أنت اللي ابتديت يا عاصي بيه.
في باريس
جاء اتصال هاتفي لعاصي قطع نومته الهنية في حضن وسادته، رفس الوسادة بعيدًا ورد بصوت مفعم بالنوم: -خير يا يسري.
-كله تمام معاليك، الشغل ماشي مظبوط بالمسطرة، وهنبدأ تصوير الحملة الإعلانية من بُكرة.
-تمام يا يسري، المهم. مش عايز عينك تغفل عن فريد، شوفي لي حواره، وميته أيه. حق حياة وأخواتها لازم يرجع.
-هخلي حد من رجالتنا يتابعه. ويجيب لنا كل تحركاته.
اعتدل في نومته وقال سريعًا لينهي المكالمة خاصة بعد ما سمع صوت تقيؤها بالمرحاض: -تمام يا يسري، عايز أرجع من السفر يكون الموضوع ده خلصان، يلا سلام أنت دلوقتِ.
قفل الهاتف ثم تناول سترته العلوية وارتدها بعشوائية دون الاكتراث لقفل أزراها فوق بنطال منامته الزرقاء وركض نحو مصدر تأوهاتها. فتح الباب بدون إنذار مسبق وقال بلهفة:
-برضو لسة تعبانة، حياة أنا بدأت أقلق، أيه سبب الترجيع ده؟
غسلت فاها جيدًا وتجاهلت قلقه ثم شرعت في غسل أسنانها، فكرر غاضباً:
-ألبسي نروح لدكتور هنا.
-متشغليش بالك، أنا كويسة.
-لأ مش كويسة، وبطلي عناد.
جففت وجهها بالمنشفة وكادت أن تخطو خطوة فاختل اتزانها وأحست بدوار شديد يضرب رأسها، ارتمت بين ذراعيه فحملها بدون تردد وركض بها إلى غرفته، تحاشت النظر إليه بقدر الإمكان حتى وضعها على الفراش برفق وشد الغطاء فوقها: -ده برد شديد متمكن منك. هكلمهم يبعتوا فطار وليمون دافي.
لم تعد لديها القوة الكافية لتجادله بل استسلمت لجميع طلباته. قفل مع مطعم الفندق، ثم ذهب إلى غُرفة بناته وشد الغطاء فوقهم بحب ثم عاد إليها مرة آخرى. مدد بجوارها وسألها:
-حاسة بأى حاجة بتوجعك.
أجابته بوهن: -أنا بقيت كويسة، زي ما قولت شوية بردو وهيروحوا لحالهم.
اتكأ على مرفقه وكان يعلوها ويتأملها بعيني العاشق قائلًا: -ده أخرة اللي يروح ينام جمب البنات، نامي جمبي ووعد البرد هيخاف يقرب منك؟
تذكرت فعلته الجنونية التي أطاحت بقلبها وقالت بجدية
-أنا أصلًا مش بكلمك. لو سمحت مالكش دعوة بيا.
-ليه؟
-عاصي أنت هتبطل أمتى الحركات دي!
ابتسم بحب: -لما تبطلي تحلوي كل يوم عن اللي قبله كده. ده مش ذنبي على فكرة.
رمقته باستهزاء: -لا والله!
شرع بمداعبة شعرها وقال بحنان: -ااها، كله بسببك. أقاوم الجمال ده كله أزاي! أنا بشر.
-عاصي!
-عيون عاصي.
-عايزة فسيخ.
-نعم يا ختي؟
طافت عينيها ببراءة طفولية: -هو ده شرطي عشان أنسى اللي هببته إمبارح يا استاذ!
-حياة فسيخ الساعة 9 الصبح في باريس!
هزت كتفيها بلا مبالاة: -اتصرف، حاسة لو مأكلتش فسيخ دلوقتِ هتحصل لي حاجة.
أخذ يُقلب الكلام برأسه خاصة كلام سيدة الأخير، فسألها بفضول:
-حياة انتِ استخدمتي الحاجات اللي جبتيها من الصيدلية!
ردت بعفوية: -اااه طبعًا. وبعدين أنت مالك!
-غريبة!
فكر طويلًا: -طيب أجيب منين فسيخ دلوقتِ! اطلبي حاجة أسهل.
-ورنجة ومعاهم لمون كتير.
-كمان! طيب قومي ننزل ندور على الحاجات دي في أي سوق ولا مطعم مصري، قومي.
-مش هروح حتة معاك، أنا أصلا مش هكلمك لحد ما تجيب لي فسيخ.
-دي ماكنتش بوسة! أومال لو كنت سخفت شوية كنتي هتطلبي لبن العصفور!
حاولت فهم همس شفتيه ولكن بدون جدوى لا تصل لشيء، فسألته: -أنت بتقول أيه!
رد مجبورًا: -حياة، أنا عايزك في شغل مهم. ومش وقت دلع خالص.
ردت بدلال: -أنا دلوقتِ مش بفكر في أي حاجة غير الفسيخ، فأي كلام تاني مش هفهمه. أجله بعد الفسيخ.
ضرب كف على الأخر ونهض ملبًا لطلبها وقام بتبديل ملابسه بإجبار وكل ما يشغله من أين يأتي بمطلبها الصعب في هذه البلدة. مرت قرابة النصف ساعة فكان واقفًا أمام المرآة يهندل شعره فاقتربت منه وسألته: -أنت رايح فين!
-رايح أدور على فسيخ. ويارب ألقى.
عقدت حاجبيها ببراءة: -لا خلاص، مش عايزة، أصلاً مش بحبه.
أغمض جفونه بجزعٍ وهو يكور يده بغضب دفين: -أنتِ بتلعبي معايا يا حياة!
-كان نفسي فيه وغيرت رأيي، خلاص. فين المشكلة!
-لا خالص مفيش مشكلة. واضح أنك بقيتي أحسن، ممكن تجهزي عشان ننزل.
-هنروح فين؟
-في العربية هفهمك كل حاجة. استعجلي وصحّى البنات.
طالعته بنظرة غامضة لم تترجمها خبرته في عالم النساء، ورحلت من أمامه بعدها ألقت قذائف مكرها الأنثوي. زفر حائرًا: -البنت كانت عاقلة والله! حصلها أيه بس؟
-مراد، أنت راجع أمتى من عندك.؟
سأله كريم بفضول ليحدد إثر رده إذا كان عليه إخباره بما سمعه أم يؤجله لوقت لاحق. رد مراد: -الليلة هكون في البلد. حصل حاجة يا كريم!
-خلاص بقا لما ترجع.
أصر مراد: -صوتك ما يطمنش، كريم مخبي أيه؟
فارق كريم مقعده وذهب ناحية الشُرفة وقال: -مراد لما ترجع مش هينفع في التليفون…
بد الغضب والقلق يتغلف بنبرته، فصمم قائلًا: -انجز يا كريم. في أيه؟
-بصراحة كده، عالية حامل وخالتك بتخطط تنزل البيبي ده غير أن عالية سايبة البيت ليها يومين!
فزع مراد من مكانه مصدومًا: -أي التهريج ده، حامل ازاي؟
عارضه كريم: -أيه يابني هي مش كانت مراتك. المهم دلوقتِ لازم تتصرف، متسيبش عالية في الورطة دي لوحدها، لان واضح أنها متمسكة بالحمل.
دخل مراد في حالة هستيرية: -آكيد في حاجة غلط. كريم أنت متأكد من اللي بتقوله!
-يابني زي ما أنا متأكد من أني بكلمك، وبصراحة اللي حصل ده في الجون، عشان ينفي أي ادعاءات كيدية كانت بينك وبين عالية. المهم هنتصرف ازاي؟
كادت رأس مراد أن تنفجر من صاعقة حلة على رأسه، تمتم بعدم اهتمام: -هفكر وأرد عليك يا كريم، خلي عينك عليهم وأي جديد بلغني…
قفل مراد وما تأهب كريم لاحتفاله بكونه سيصبح عمًا بالمستقبل، جاءه صوت جيهان من الخلف مستكشفًا: -هي عالية حامل!
مع غروب الشمس
وصل تميم مع شمس إلى الشالية الخاص بهما وأخذا الثنائي قسطًا وفيرًا من الراحة. نهضت شمس بحماس ورفعت الستائر ويبدو أن هواء البحر غير من نفسيتها وأنساها همومها.
قفل تميم جهاز الحاسوب ليرد على أخر إيميل وسألها: -تحبي ننزل؟
-الجو يجنن يا تميم. بجد المكان تحفة أوي.
حرك المقعد الكهربي إليها وقال: -على فكرة، مش ملزمة تكوني بالحجاب، لأن المكان خاص جدًا، والمسئول عن خدمته كلهم بنات. يعني خدي راحتك.
جلست على ركبتيها أمامه وسألته بتعجب: -أنت أزاي قادر تاخد بالك من كُل التفاصيل دي!
-لازم. هاا يالا ننزل.
تأهبت أن تستعد للنزول ولكنها تراجعت وقالت بحماس: -تميم، أنا متفائلة أوي بالدكتور الجديد ده. حاسة او متأكدة أنك هترجع تمشي على رجليك تاني.
حبال الكذب مهما طالت فهي ضئيلة، لا تتحمل الاتكاء عليها أكثر، ليس لها ضمان. فهي تأخذك أنت والأبرياء معك في قاع المحيط. علقت الغصة في حلق تميم وسألها:
-هتعملي أي اول ما ده يحصل؟
-يا خبر! أنا ممكن أطير من الفرحة، ماتصورش نفسي اد اى أشوفك وأنت واقف على رجلك، هو واضح طبعا أنك أطول مني بكتير، بس بجد عندي حماس اقف جمبك، تميم انا متفائلة أوي…
-ممكن اسألك سؤال وتجاوبي بصراحة؟
-أنا طول عمري صريحة معاك يا تميم. سؤال أيه؟
رمى قذيفة سؤاله بدون تردد: -أنتِ طلبتِ أن جوازنا يكون على ورق بسبب الإعاقة اللي عندي؟
بيلا سوزان
-أنا خلصت كل شغلي بدري النهاردة، عشان ارجع أقعد معاكي، ومتكونيش لوحدك.
أردفت سوزان جملتها بحماس وفرحة بالغة أنارت قلبها وملامحها بوجود عالية معها. جلست بجوارها وأخبرتها:
-على فكرة عبلة مسافرة يومين.
-مامي؟ مسافرة فين!
-قالت هتغير جو. وده أحسن لينا، عشان نبدأ نشوف خطتنا أيه،؟
فكرت بتوجس: -طنط هو ده صح؟
رمقتها سوزان بشفقة: -القلوب مفهاش صح وغلط. القلوب بتدور على راحتها حتى ولو كانت في الغلط…
-واضح إنك عشتي قصة حُب قبل كده.
اشتعل وجهها ببريق الذكريات الجميلة التي عاشتها في كنف حبيبها الذي لم تعوضه بعد ولم تجد رجلًا يسد فراغ قلبها بعده، أومأت بالإيجاب، فتحمست عالية: -بجد! احكي لي…
-هقولك، بس أي رأيك ننزل نجهز العشا سوا، ونرغي وأحنا بنعمله.
وثبت عالية بحماس لسماع قصتها: -موافقة. هلم شعري بس.
-هسبقك على المطبخ، وأنتِ براحتك.
وقفت عالية أمام المرآة ورفعت شعرها على هيئة ذيل حصان، ثم ارتدت روب منامتها الشتوية التي تنتمي لسوزان، والتي تُقاربها في المقاس. نزلت ركضًا على الدرج، وما كادت أن تخطو خطوتها الأخيرة فتوقفت على أعتاب المطبخ إثر سماعها رنين صوت الجرس. فطلبت منها سوزان: -معلش افتحي الباب يا عالية، ده آكيد السوبر ماركت جاب الحاجات.
لبت طلبها على الفور وكانت الصدمة الكُبري عندما فتحت الباب ففوجئت بمراد يقف أمامها بهيئته الشامخة والمرعبة، تراجعت للوراء متفوهة بصدمة:
-مراد!
عودة إلى الأجواء الباريسية
-النهاردة بجد بجد كان أحلى يوم؟
تركض في الهواء الطلق حاملة بيدها قرطاس الأيس كريم معبره عن فرحتها، فنادها عاصي لتنتبه:
-طيب حاسبي.
في تلك اللحظة ركضت إليها حياة وضمتها بحب قبل أن تسقط أرضًا وعاتبها: -مش هنبطل نمشي بضهرنا كده!
ضحكت داليا ببراءة: -لا.
تدخلت تاليا المختصة بالجمال والموضة: -بابي، حياة النهاردة كانت قمر أوي.
اقترب منها والدها وقال مغازلًا: -هي قمر طول الوقت، و مسببة فتنة كبيرة في مشاعري.
-يعني أيه يا بابي فتنة في مشاعرك؟
-متاخديش في بالك.
تدخلت داليا مقترحة: -بابي، أنتوا مش بتتصوروا ليه، ممكن نصوركم سوا.
ألقى نظرة سريعة إليها وقال: -فعلًا أحنا ما بنتصورش ليه!
ثم أخرج هاتفه الحديث بنوعية أيفون ، وقال: -مين هيصورنا!
جذبت تاليا الهاتف بحماس وشرعت بإخراج روحها الإبداعية، حدجته حياة بلوم: -أنت بتدبسني!
-وهو في أحلى من كده!
أشارت إليهم تاليا: -يابابي قربوا كمان شوية!
ألفت ذراعه على خصرها فتنهدت منتشية ومشتهية لقُربه الذي فقدت السيطرة على تلجيمه وقالت من وراء فكيها المنطلقين: -عاجبك كده أنت!
ابتسم برزانة وقال: -بجد شُكرًا…
غيروا وضعية الصورة متخذين وضع رقصة سلوو وسألته: -ليه!
-كنت قلقان ترفضي عرضي.
تململت بين يديه بغرور: -ده بس عشان صعبت عليا ولقيتك محتاس، قلت اكسب فيك ثواب.
اعتدلوا وشرعت تاليا في تصوير يديو إليهم هما يسيران كالعشاق على أحد شواطئ باريس، ضحك عاصي بصوت عالٍ على تمردها وقال بغزل:
-أجمل وجه إعلامي هنقدمه السنة دي. حياة أنتِ هتكوني وش السعد عليا.
-طيب عد الجمايل بقا.
غمز لها بطرف عينه وهو يدنوها منه: -دانا حافظهم صم.
فسألته بمكر: -بس هدير ممكن تزعل، يعني شيفاني أخدت حبيبها منها وشغلها، وأنا ماليش ذنب في كل ده.
-سيبك من هدير، بمناسبة الأجواء دي، ممكن اعترف لك بحاجة…
رُج قلبها من مكانه متحمسة لسماع اعترافه، فتظاهرت بعد الاهتمام عكس دواخلها تمامًا: -براحتك.
-ماشي يا عم التقيل.
أمسك بمعصمها وأوقفها أمامه قائلًا: -حياه. أنا ب
جاءت تاليا تركض إلى والدها وقالت بضيق: -بابي موبايلك مش مبطل رن، اتفضل شوف مين!
عقد حاجبيه باستغراب: -يا مواعيدك يا يسري!
ثم استأذن منها بعينيه وانصرف: -خير يا يسري!
-عاصي بيه! أيه علاقة عبلة هانم بفريد المصري؟
التعليقات