الفصل الرابع والثلاثون
“لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك “
أحببتهُ وأسكنتهُ شرياني..
ولكن ماذا فعل ياساااادةة؟؟
جعلني أحترقُ بنارِ هواه..
وأقامَ معي معاركَ الغرور..
ألم يكتفي لحرقِ قلبي؟..
بلى!!
جعلني غربتهُ الهوجاء..
أخبروهُ إن كان هو آدم..
فأنا حوَّاء التي أخرجت آدم من جنَّةِ الخلدِ والبقاء..
اقتربَ منها مبتسمًا:
بلى سيدةُ الكون..
ماذا لو أخبرتُكِ أنَّي أُحِبُّكِ؟!
وتماديتُ حتى
ضعتُ خلف همسِ
شفتيكِ
فأنا يا حبيبتي كلَّما تمنيتكِ..
يرحلُ نبضي ليخفُقَ تحتَ
ضِلعيكِ
– ألم تسمعينَ قولَ المُتنبي :
لا السيفُ يفعلُ بي ما أنتِ فاعلةٌ
ولا لقاءُ عدوَّي مثلَ لُقياكِ
لو باتَ سهمٌ من الأعداءِ في كَبدي
ما نالَ مِنَّيَ ما نالتْهُ عيناكِ
فماذا ستفعلينَ بي ياحوَّاء
وأنا الذي أريدُ أن أدُّسكِ بين قلبي ونبضه..
فما ذنبي إن كانت النفسُ أمَّارةٌ بالشوقِ إليكِ
بمنزل ميرال
ظلَّت بمكانها جالسة، تنظرُ بضياعٍ حولها، و رغم أنَّ عقاربَ الساعة لم تخطُ سوى بضعِ دقائق، ولكنَّها شعرت وكأنَّهُ دهرًا كاملاً، احتضنت ركبتيها تحاولُ أن تلملمَ شتاتَ نفسها، تنظرُ بعيونٍ شاردةٍ ضائعة، عيونا أُطفئَ بريقها للأبد..أفكارها تتصارعُ في رأسها، لكنَّها تعودُ لنفسِ الحقيقةِ الموجعة: لقد تلاعبَ بمشاعرها، عبثَ بقلبها كدميةٍ بين يديهِ ثمَّ ألقاها دون رحمة.
انسابت دموعها كأنهارٍ جريحة، كلَّ دمعةٍ كانت تحملُ عشقهِ المؤذي، كلَّ قطرةٍ كانت ترتجفُ بأسى كلَّما تذكَّرت همسهِ المسموم، كلماتهِ التي كان ينسجها حولها كشرنقةِ حب، ثمَّ فجأةً تحوَّلت إلى قيودٍ تخنقها..وضعت ذقنها على ركبتيها، وأطبقت على جفنيها بشدَّة، تحاولُ مسحَ بصماتهِ التي تركها داخلها..كيف لها أن تنسى دفءَ أنفاسهِ حين كان يهمسُ لها بعشقهِ الأبدي؟ كيف لهذا الدفء أن يتحوَّلَ إلى بردٍ قارسٍ ينهشُ عظامها الآن؟
صوتُ كلماتهِ ما زال يتردَّدُ في أذنها، ورغم أنَّها كانت ناعمة، عذبةً بعشقها، إلَّا أنَّها أصبحت الآن كالسُمِّ يسري في روحها ببطءٍ قاتل..كانت همساتهِ فيما مضى تعويذةُ حب، أمَّا الآن، فهي لعنةٌ تحيطها بسحرٍ أسود..لمستهِ التي كانت دفئًا يحتويها، لكن الآن، كلَّ ذكرى منه تشبهُ أشواكًا حادَّةً تنغرسُ في جسدها، تمزِّقها بلا رحمة، وتتركُ على روحها جروحًا تنزفُ ألمًا لا يندمل.
شهقت شهقةً مرتجفة، كأنَّ الهواءَ صار سكِّينًا يجرحُ صدرها، وتنهيدةٌ باردةٌ أفلتت منها وهي تظنُ أنَّ هذه المرَّة نحرها بسكينٍ بارد، لا دماء تُرى، لكن الجرحَ في أعماقها لا يلتئم.
وفجأة، اخترقَ صمتها صوتًا باسمه..
-إلياس…
انتفضت، واتَّجهت إلى النافذة، عيناها الغارقةِ في الدموعِ تلتقي بترجُّلهِ من السيارةِ سريعًا، ونداءُ أحدهم باسمه، لكنَّه كان يتجوَّلُ بعينيهِ على المكان، كجندي حارسٍ للحدود، يبحثُ عن عدوه..استدارَ للذي يناديهِ واقترب منه:
-المكان يتمشَّط حلو، مش عايز دبانة تعدِّي من غير علمي، قالها وصعدَ للأعلى على رنينِ هاتفه:
-أيوة اسحاق باشا..على الجانبِ الآخر وبالقربِ من منزله:
-مش قولت متعملش حاجة بدون علمي ياإلياس..توقَّفَ عن الحركةِ واستدار ينظرُ بكافةِ الاتجاهاتِ مرَّةً أخرى:
-حضرتك اللي بعت الرسالة مش كدا؟..
-فيه ساكن قصادك، خلِّي بالك منه، وبلاش تهور، طول عمرك عاقل يابنِ السيوفي، ولَّا المرة دي أقولَّك يابنِ الشافعي.
كوَّر قبضته يضغطُ عليها بعنفٍ وأجابهُ بنبرةٍ حادة:
-متأكد إن حضرتك ورا هروبه المرَّة اللي فاتت، ومتأكد برضو إن حركتك الليلة دي علشان توقَّفني، بس بقول لحضرتك، أنا خلقي ضيَّق ومابحبش اللي بيدخَّل في حياتي الشخصية ياباشا، مع احترامي لشخصك.
-وأنا كرئيسك بأمُرك ممنوع الاقتراب من راجح ياحضرة الظابط، سمعتني ولَّا ولأ.. ولاأغيَّر نظرتي فيك…قالها وأغلقَ الهاتف ممَّا جعلَ الآخر يستشيطُ غضبًا، جلس على المقعدِ ينظرُ أمامه بشرود، قاطعهُ رنينَ هاتفه:
-إلياس عملت إيه؟..فيه حدِّ عندك في البيت فعلًا؟..تذكَّر شيئًا فتوقَّفَ سريعًا إلى سيارتهِ قائلًا:
-أرسلان خلِّي بالك من ميرال، لم ارجع ..قالها وأغلقَ الهاتفَ نهائيًا، ثمَّ قادَ السيارة متَّجهًا إلى وجهته، التي ستكشفُ له الكثير والكثير..
قاد السيارة بسرعة جنونية يريد أن يطير بها كلما تذكر ماحدث منذ قليل
قبل نصفِ ساعة:
وصلَ إلى وقوف ارسلان، ترجَّلَ من سيارتهِ وتوقَّف أمامه:
-انا هدخل لوحدي، كويس هوَّ ورانيا جوَّا، المرة دي لازم أوقَّعهم في بعض، عايز رانيا تسحب إيدها منُّه، أو حدِّ منهم يخلَّص على التاني.
ضيَّقَ أرسلان عينيهِ متسائلًا:
-بس أنا مش عايز حدِّ فيهم يموت، أنا عايز أعذِّبه وبس، ولمَّا طلبت منِّي أنُّه يعرف إنِّ رانيا بتخونه في بيته مكنتش هستنى أنُّه يقتلها، كنت ناوي أوقَّعه في شرِّ أعماله علشان لمَّا يجي تحت إيدي مرحموش.
زفرَ إلياس بغضبٍ يرمقهُ بنظرةٍ حادَّة:
-إزاي هموِّته ولسة أمي بينهشوا في لحمها؟..الراجل دا لازم ينزل البلد ويبان قدَّام الكل من غير ضغط منِّنا، علشان ميرجعشِ يقول هدَّدناه وعمل كدا تحت التهديد، أنا عايز أوقَّعه في رانيا علشان يعرف الستِّ اللي كان بيأمِّن لها عملت فيه إيه، وهيَّ ورا اللي وصلُّه دا كلُّه، هوَّ مفكَّر إن بابا اللي خرَّجه بفضيحة من شغله، ميعرفشِ إنِّ مراته الحقيرة اللي عملت فيه كدا..
-إلياس كدا هيموِّتها…قالها أرسلان باعتراض..
هزَّ رأسهِ بالنفي واستطرد:
-مش هيقدر يعمل حاجة في العلن، هوَّ هيخطَّط يخلص منها بس بطريقة راجح الشافعي، علشان هيخاف على نفسه، إنتَ ناسي رانيا بتعمل إيه، المهم لازم نسحب رانيا بعيد عنُّه وبس، لازم توقَّعه قدَّام الراجل بتاعهم، علشان يبقى آخر مسمار في نعشه، وبعد كدا نستلمه على رواقة، أمَّا طول ماهوَّ ماشي ورا رانيا بتسانده وبتقوِّيه علشان تفضل الصورة الحلوة قدَّامهم، فهمتني؟..
-لا مفهمتش، كلِّ اللي عايزه أجيب حقِّنا منُّه وبس.
-أرسلان من إمتى وإنتَ متهوِّر كدا؟..عايز أفهِّمك راجح كان بيدوَّر وراك الفترة اللي فاتت علشان يوقَّعك، لولا إسحاق كان زمانه سلِّمك تسليم أهالي ياحبيبي، إسحاق خلَّاك صفحة بيضة صاحب نادي، راجح إيده طايلة فوق ماكنَّا متخيلين، وللأسف فيه ناس من جوَّا بتساعده، مين منعرفش، حبِّيت فيك هدوءك وتركيزك، وعارف ومتأكِّد لو قعدت وفكَّرت هتلاقي آخر حاجة إنِّي أخلَّص على راجح دلوقتي..لازم نعرف أبونا مات ليه وإزاي، والحاجة التانية ليه رانيا عملت فينا كدا، مش موضوع غيرة ستات لا، الموضوع أكبر من كدا، ومتنساش إنِّي ظابط، يعني مينفعش أدخل بتهوُّر، لازم كلِّ خطوة يكون معمول حسابها، إحنا دلوقتي هندخلُّه على أساس بنزوره وبس، تكون بإيدك الخفيفة دي عملت المطلوب يارب تكون فهمت..
-تمام ياإلياس فهمت..قاطعهم رنين هاتف أرسلان:
-دي غرام هردّ عليها ممكن يكون حاجة مهمة…أومأ له وتحرَّك مبتعدًا وهو يجيب على زوجته:
-أيوة حبيبتي..استمعَ الى أنينها تهمسُ بصوتٍ خافتٍ متقطِّع:
-أرسلان الحقني أنا تعبانة ومش قادرة أتحرَّك..توقَّفَ نبضهِ واتَّجهَ سريعًا إلى سيارته وهو يتمتمُ بنبرةٍ خائفة:
-عشر دقايق وأكون عندك..قالها وأغلقَ الهاتف وهو يستقلُّ سيارتهِ وتحدَّثَ إلى إلياس:
-غرام تعبانة أوي لازم أروح لها.
هزَّ رأسهِ بالموافقة وتحرَّكَ هو إلى الداخل، أوقفهُ الحرس الخاص براجح، دفعهُ بقبضته:
-إنتَ اتجنِّنت!! توقَّف إلياس السيوفي: ياحيوان، هرولَ بعض الحرس لمحاصرةِ إلياس إلَّا أنَّه أشارَ إليهم وصاحَ بصوتٍ مرتفع:
-اللي يحاول يقرَّب منِّي هموِّته، قالها ودلفَ إلى الداخل وكأنُّه لم يخشَ شيئًا…بالداخل قبلَ قليل..توقَّفت رؤى تتطلَّعُ إليه بعدما اقتربَ يتساءل:
-إنتي مين؟!
ابتسامةٌ لمعت بعينيها حينما اقتربت منه ورسمتهُ بنظرها، يبدو أنَّهُ ذو هيبة، رجلٌ يظهرُ عليه الغنى، وسيمًا رغم تقدُّمِ عمره، دقَّقت بملامحهِ كثيرًا، فطافَ أمام عيناها ملامحُ إلياس، بينهما شبهًا ولكنَّهُ ليس بالبائن، كلَّ ماخُيِّلَ لها وقوفهِ بتلك الهيئة كأنَّها ترى إلياس أمامها..فاقت على سؤالهِ مرَّةً أخرى:
-إنتي مين يابنت؟!
-بابا..تمتمت بها مع دمعةٍ تسلَّلت من عينيها، دلفت رانيا تحدجها بنظرةٍ تفصيلية، ثمَّ توقَّفت أمامها:
عايزة مين يابت؟..لم تكترث لسؤالها، واقتربت من راجح قائلة:
-أنا رؤى..قطبَ جبينهِ متسائلًا:
-رؤى مين؟..ماتقولي عايزة إيه؟ولَّا أرميكي برَّة.
-انا رؤى راجح الشافعي.
توسَّعت عيناهُ بذهول، بينما شهقت رانيا تتمتم:
-نعم ياروح أمِّك!!بنت راجح إزاي؟! هوَّ إنتَ لسة بالحقارة دي مهما أنضَّف فيك لسة زي ماإنتَ..لم يهتمّ لحديثِ رانيا ولكنَّهُ اقتربَ منها بتساؤل:
-رؤى بنتي، إنتي بنت مين، صمت متذكر ثم اقترب:
-رؤى بنتي، إنتي بنت سمية؟..هزةٌ عنيفةٌ أصابت رانيا لتستديرَ سريعًا إلى راجح تهتفُ بحدَّة:
-إنتَ اتجنِّنت ولَّا إيه، ثمَّ رمقت رؤى وهدرت بعنف:
-امشي يابت اطلعي برَّة، مش ناقصني غير بنات الشوارع.
هزَّت رأسها بالنفي وتمتمت بتقطُّع:
-لا والله..طنط فريدة وإلياس قالولي أنا بنتك، وكمان ميرال ويزن قالولي كدا..حدجها راجح بنظرةٍ ثمَّ تساءل:
-فريدة وإلياس، إنتي البنت اللي قاعدة في بيت ابنِ السيوفي؟..
هزَّت رأسها وابتسمت:
-أيوة، ولسة عارفة من شهرين أنا بنتِ مين..قاطعهم صوت جلبة بالخارج، ودخول أحدهم:
-إلياس السيوفي برَّة ياباشا ومصمِّم يدخل.
شهقت رؤى تصرخ:
-يالهوي يعني عرف أنا جيت لك، دا هيموِّتني..أشار إليها بالصمت، ثمَّ التفتَ إلى رانيا:
-إزاي عرف مكانَّا؟..مش الفيلا دي إنتي لسة شارياها؟..
هزَّت رأسها وتحرَّكت للخارج:
-إنتَ ناسي أنُّه مش هيسيبك، متفكرشِ خرَّجك من السجن علشان يريَّحك، أكيد بيخطَّط لحاجة تانية..
أشارَ الى رؤى:
-خلِّيكي هنا لحدِّ ما نرجع، حتى لو جاي ياخدك مايقدرش..توقَّفت رانيا تطالعهُ بذهول:
-إنتَ مجنون، افرض طلع زققها عليك، خلاص إتاكِّدت إنَّها بنتك..
-امشي يارانيا وبطَّلي تخلُّف.
بالخارجِ دلف إلياس إلى بابِ الفيلا الرئيسي يتجوَّلُ بعينيهِ بالمكان إلى أن وقعت عيناه على راجح الذي يهبطُ درجات السلم، ابتسمَ ساخرًا:
-لا حلوة الفيلا ياراجح، عجبتني، ياترا دي باسمِ مين، أوعى يكون باسمِ الليالي الحمراء..
قطبَ جبينهِ واقترب منه:
-عايز إيه يابنِ جمال؟..اللي بينا انتهى، أخدت اللي ليك وأنا أخدت اللي ليَّا..
أخرجَ إلياس سيجارتهِ وقام بإشعالها، وتحرَّك إلى المقعدِ يجلسُ عليه يضع ساقًا فوق الأخرى وكأنَّهُ مالكَ المنزل، ثمَّ بدأ يتلاعبُ بالقدَّاحةِ التي بيديهِ إلى أن اقتربَ منه راجح وجلسَ بمقابلته:
-مقولتش عايز إيه يابنِ جمال؟..
-حقِّي ياراجح.
-نعم!!..حقِّ إيه؟..إحنا اتصفينا، أخدت البنت واتنازلت عن كلِّ مايخصَّها، لسة إيه تاني؟..
-حقِّي في جمال الشافعي، إيه نسيت أنا ابنِ مين
اقتربت رانيا تطالعهُ باستهزاءٍ قائلة:
-أبوك مكنشِ عنده أملاك، غير محلِّ السمك ودا عندك في السويس، والبيت اتباع لو عايز حقَّك فيه معنديش مانع..
-اممم..دا اللي فهمتيه يابتاعة نضافةِ الستات
-إيَّاك تتمادى معايا يابنِ جمال، ملكشِ حق عندنا، ثمَّ اتَّجهت بنظرها إلى راجح:
-بعنا البيت بعشرة آلاف جنيه ارمي له خمسة…هبَّ من مكانهِ واقتربَ منها إلى أن تراجعت خلفَ راجح، ابتسمَ شبه ابتسامةٍ ساخرة:
-خمس آلاف جنيه يارانيا، دول ارميهم غدا لكلب، إنتي عارفة قصدي يابتاعة نضافةِ الستَّات، حقِّ جمال الشافعي وحقِّ فريدة ياراجح، هسيبك أسبوع واحد بس، تنزل السويس وتبرَّأ أمي من كلِّ التُّهم اللي إنتَ والقذرة دي رمتوها بيها…رفعت رانيا يديها وصاحت غاضبة:
-احترم نفسك، جاي تهدِّد وتتشطَّر في بيتي، دا أخلِّيهم يموِّتوك وماأخدشِ فيك يوم واحد..
دنا إليها بخطواتٍ باردة، ورغم تحرُّكهِ البطيء إلا أنَّها شعرت أنَّه يضغطُ بها فوق صدرها، توقَّفَ أمامها ينظرُ إليها باشمئزازٍ وأردفَ بصوتٍ خافت:
-هتروحي يارانيا، وهتبوسي على إيد أمي، وتطلبي منها السماح..
تخصَّرت تهزُّ نفسها وتبسَّمت بخبث:
-بتحلم يابنِ جمال، وياريت تفوق من كوابيسك دي..
أمالَ بجسدهِ يغرزُ عينيهِ بعينيها، يطالعها بنظرةٍ باردةٍ كبرودِ الثلجِ قائلًا:
-كلمة كمان وهخلِّيكي تبوسي على رجليها، أهو أحسن من القمصان الحمرا والتنطيط في الفنادق، دنا وهمس:
-والمشي ورا الجرابيع وفي الآخر يطلعوا سوابق وشغل مسهوكين..
برقت عيناها تطالعهُ باهتزاز، حاولت ابتلاعَ ريقها ولكنَّها لم تستطع حتى شعرت بأنَّ جوفها بداخلهِ أشواك، تراجعت وحاولت التماسك، ونظراتهِ المتسلِّية عليها ثمَّ اتَّجهَ إلى راجح الذي قاطعه:
-امشي اطلع برَّة يالا، بدل ماأعمل زي مارانيا قالت، وهقول هجم على بيتي..
مطَّ شفتيهِ وخطا يدورُ حوله:
-اطلع برَّة ويالا..رفعَ أناملهِ يحكُّها بأنفهِ ثمَّ هزَّ رأسهِ ومازالت نظراتهِ على الأرضِ يردِّدُ مانطقهُ راجح، دقائقَ جحيمية شعرت بها رانيا عندما وجدت صمته، إلى أن رفع رأسهِ ينظرُ إلى راجح:
-يعني واحد خلَّى أب يتنازل عن بنته قولًا وفعلًا، وسرق ورق ورجَّعه من غير حتى ماأعرف إيه هوَّ، واحد لبَّسه خمس قضايا في دقيقة ومسك في رقبته وخلَّاه زي الخاتم في صباعي، تفتكر صعب عليه يخلص منَّك بأبشع الطرق..
-أخرك يابنِ جمال..
قاطعهُ رنينُ هاتفه، فتحهُ وإذ يظهرُ أمامهِ فيديو تصوير لمنزله، فتحرَّكَ سريعًا للخارجِ دون أن ينطقَ بحرفٍ واحد..
بمنزلِ أرسلان:
وصلَ إلى منزله بدقائقَ معدودة، دلفَ للداخلِ يبحثُ عنها بلهفة، فجأةً توقَّفَ بجسدٍ متجمِّدٍ وهو يراها ملقاةً على الأرضيةٍ كالجثة، نزل على ركبتيهِ ورفعَ رأسها محاولًا إيفاقتها، دقائقَ كالسيفِ على العنقِ وهو يشعرُ بانسحابِ أنفاسهِ
عندما وجدَ وجهها الشاحب، رفرفت أهدابها تأنُّ بصمت، حملها متَّجهًا بها إلى الفراش، ورفع هاتفهِ لمهاتفةِ طبيبهم الخاص، اتَّجهَ إلى المطبخِ وأحضرَ كوبًا من المياه، ساعدها بالجلوسِ وارتشافِ بعضه، استمعَ الى تأوهها ومحاوطةِ بطنها:
-بطني ياأرسلان، مش قادرة عندي ألم فظيع..مسحَ على شعرها وضمَّها لأحضانهِ يتمتمُ بهدوء، بعدما فقد التحكُّمَ بنفسهِ كلما تذكَّرَ حالتها:
-الدكتور في الطريق حبيبتي، ارتاحي..
تمسَّكت بكفَّيهِ تضغطُ عليه:
-أنا كويسة حبيبي، يمكن ضغطي نزل..
-ارتاحي حبيبتي، الدكتور زمانه على وصول..أشارت على ثيابها:
-طيب شوف إسدالي أو أيِّ حاجة..أومأ لها يتحرَّكُ كالتائه، يتخبَّطُ بمشيه، كلَّما تذكَّرَ حالتها يكادُ يفقدُ وعيه..
بعد فترةٍ خرجَ الطبيبُ مبتسمًا:
-المدام حامل، وتأكيد تروح لدكتور نسا ياسيدي، بس أنا متأكِّد من غيره، بس طبعًا إنتَ لازم ترتاح ، على العموم ألف مبروووك مقدَّمًا.
لمعت عينيهِ بالسعادة يتمتمُ بفرحة:
-متأكد؟..داعبهُ الطبيب:
-لأ حاسس..قالها مبتسمًا..ودَّعَ الطبيبَ وتحرَّكَ متَّجهًا إليها وعيناه ترسمها:
-معقول الخبر الحلو دا..مرَّرت أناملها على بطنها قائلة:
-كنت حاسة، بس مش متأكدة..
-نعم ياختي، أومال الدكتور عرف إزاي؟..
لكمتهُ تدفنُ رأسها بصدره:
-بس بقى ياأرسلان، حاوطها تحت حنانِ ذراعيه:
-ربِّنا يبارك لنا فيه ويجي بالسلامة، المهم عايزك ترتاحي دلوقتي، وبكرة نشوف دكتور كويس نتابع معاه..
-مش هتقول لماما؟..
هزَّ رأسهِ بالنفي قائلًا:
-لا حبيبتي، لمَّا نتأكِّد، مينفعشِ غير لمَّا نكشف.
رفعت حاجبها معترضةً ثمَّ نطقت:
-بس أنا متأكدة ياأرسلان، وبعدين مش اللي كشف دا دكتور ولَّا إيه؟..
نهضَ من مكانه، والتقطَ هاتفه:
-برضو ياغرامي، لازم نشوف دكتور نسا، هعمل تليفون وراجع لك ياروحي..
بمنزلِ إسحاق:
دلفَ للداخلِ مع بعض الضباط، اتَّجهَ إلى تلك الطاولة، يشيرُ إليها وهو يقومُ بنزعِ سترته:
-فرَّجوني كدا على آخر التطورات..
فردَ أحدُ الظباطِ تلك الخريطةٍ التي بيده، وبدأ يشيرُ إلى المخطَّطاتِ التي حصلوا عليها بمساعدةِ أرسلان..
صمتَ إسحاق ينظرُ إلى أهمِّ النقاطِ التي يقومونَ بوضعِ علاماتٍ مميَّزةٍ بها، هزَّ رأسهِ موافقًا على حديثه، ثمَّ ألقى عليهم المهمَّات، صمتَ متذكِّرًا ذلك القناص قائلًا:
-هتكلِّم راجلنا اللي بيراقب بيت الراجل دا، لحدِّ دلوقتي مش باين أصله، بس أيِّ حركة له موِّته على طول..
دخل البلاد على أنُّه سائح يافندم..
نقر على الطاولةِ متذكِّرًا هويته، والجنسية التي يحملُها، رفعَ رأسهِ إليهما:
-ممكن يكون تمويه، وممكن يكون طُعم، قاطعهُ الآخر قائلًا:
-وممكن فعلًا جاي علشان يخلَّص على الظابط.
أومأ قائلًا:
-علشان كدا مش عايز تهوُّر، وكويس إنِّنا تدخَّلنا قبل وصول إلياس.
استمعَ إلى رنين هاتفه:
-اسحاق عدِّي عليَّا عايزك.
-تمام..قالها وأغلقَ الهاتف يشيرُ إلى ضبَّاطهِ إلى طاولةِ الطعام:
-نتسحَّر مع بعض بقى.
بمنزلِ آدم:
تجلسُ تراجعُ على دروسها، نظرت بساعةِ يدها، ثمَّ تراجعت تستندُ على ظهرِ المقعدِ تهمسُ لنفسها:
-وبعدهالك ياآدم، إيه اللي بيحصل معاك؟..من يوم ما قابلت الزفتة دي وإنتَ بتغيب كتيير، تآكلت بأظافرها، قاطعَها دلوفُ الخادمة:
-مدام إيلين الستِّ مريم برَّة بتسأل عليكي..أومأت لها ثمَّ نهضت تجذبُ روبها وتحرَّكت للخارج:
-مريم عاملة إيه حبيبتي؟..
-الحمدُ لله ياقلبي، تعالي عايزاكي في موضوع قبل ماآدم يرجع..
جلست منتظرة حديثها، حمحمت مريم قائلة:
-عرفتي اللي حصل لراحيل بنتِ خالو؟..
ابتعدت بنظرها عنها:
-عرفت، بس بلاش نتكلِّم في حياة راحيل يامريم.
-يابنتي اسمعيني، خالو كلَّم أحمد وقال خالتو زهرة هتيجي تقعد معانا يومين، وبما أنُّه خالتو هتيجي يبقى راحيل ممكن تيجي..علشان اللي عرفته إنِّ جوزها طلع حيوان وأخد كلِّ اللي بتملكه..
-إيه..إيه اللي بتقوليه دا؟!..
ضيَّقت مريم عينيها متسائلة:
-أومال إنتي قصدك إيه؟..
هزَّت رأسها قائلة:
-كنت مفكَّرة إنِّك بتتكلِّمي عن موضوعها مع أحمد وآدم.
-قصدِك علشان الشغل يعني، لا عادي حقَّها يابنتي، ومتزعليش، آدم مالوش في شغلِ الشركات دا، هوَّ دكتور، إيه دخله في الشغل..
-أيوة بس مالهاش حقِّ تكسفه قدَّام الكلِّ في الاجتماع وتقولُّه مالكشِ حقِّ في الإدارة، إنتي عارفة لولا خالو مكنشِ راح أصلًا.
-إيلين هتفضلي كدا طول عمرك، انسي اللي حصل، واللهِ راحيل غلبانة وبتحبِّك.
-أيوة عارفة إنَّها بتحبِّني، المهم..مطلوب منِّي إيه؟..
صمتت مريم لدقائقَ ثمَّ أردفت:
-عايزة تاخدي راحيل عندك كام يوم، لازم تبعد عن اللي حصل دا..
-مش فاهمة أخدها عندي فين؟..ماهو دا بيت خالها، يعني مقدرشِ أرفض قبولها ولَّا رفضها..
-مش دا قصدي ياإيلين..
زمَّت شفتيها بتأفُّفٍ ثمَّ نطقت بنبرةٍ حادَّة:
-عندي مذاكرة يامريم، هاتي من الآخر..
-شقة آدم اللي في مدينة نصر.
-مدينة نصر!!..أكيد بتهزري، الشقة دي مقفولة بقالها سنين، غير أنا نسيتها أصلًا..
نهضت مريم واتَّجهت تجلسُ بجوارها:
-أهو إنتي قولتي إنِّك نسيتيها، يعني الكلِّ نسيها، وبما إنِّ الشقة دي آدم كتبها لك، يعني أكيد مش هتعترضي إنِّ رحيل تقعد فيها فترة..
-مريم أنا مش فاهمة عايزة توصلي لإيه؟..
-راحيل عايزة تهرب من جوزها، بس مش عارفة تروح فين، هوَّ عارف خالو زين، واللي فهمته منها إنِّ جوزها صعب، هوَّ دخل عليها بدور الرجولة، وهيَّ مش عايزة تدخَّل خالو في الموضوع، عايزة تربِّيه بمعنى أصح، بس بطريقتها..
-طيب تهرب ليه؟..دي المفروض تعلِّمه الأدب..
-والله ياحبيبتي، كلِّ اللي قالته كلِّمي آدم على الشقة، وآخد رأيك، هي مش عايزة تلجأ لحاجة من أملاكها علشان جوزها مايوصلهاش..
-طيب أقول لآدم ولَّا إيه؟..مش فاهمة..
-مش عارفة، بس لازم يعرف..
قاطعهم دلوف آدم ملقيًا السلام، نظرت بساعةِ يدها وجدتها تجاوزت الثانية بعد منتصفِ الليل.
-حمدالله على السلامة يادكتور..ابتسمَ ودلفَ للداخلِ بعدما توقَّفت مريم مجيبةً التحية..
-هنزل، زمان أحمد صحي وعايز يتسحَّر..
رمقتهُ إيلين بنظرةٍ ذات مغذى وتمتمت:
-كويس أنُّه نايم وقدَّام عيونك، مش أحسن متبقيش عارفة هوَّ فين من أربع ساعات..لكزتها مريم وسحبت قدميها مغادرة..تحرَّكت للداخلِ خلفه، توقَّفت على عتبةِ الباب تعقدُ ذراعيها:
-لسة بدري يادكتور، كنت استنى لبعدِ الفجر، وصلَ إليها بخطوةٍ واحدة، وقبضَ على ثغرها بطريقةٍ أخرستها عن الحديث، ظلَّ للحظاتٍ ينثرُ عشقهِ المترنِّم، إلى أن سحبَ أنفاسها، فتراجعَ يضمُّها إلى أحضانهِ بحنانٍ ثمَّ لثمَ جبينها:
-آسف حبيبتي عارف اتأخرت، بس كان عندي كام مشوار..
رفعت أناملها تتلاعبُ بزرِّ قميصه، وأردفت بدلال:
-دومي، مش مخبِّي عليَّا حاجة ياحبيبي؟..رفعَ ذقنها بأنامله:
-يارب دومي يموت لو كنت مخبِّي عليكي حاجة ياروح دومي، وضعت أناملها على شفتيه:
-بعد الشرِّ عليك ياحبيبي، مهما كان أوعى تدعي على نفسك، وبعدين ناسي إنِّنا في أيام مفترجة..
ضمَّها بحنانٍ ثم انحنى يضعُ رأسهِ بحنايا عنقها يهمسُ بأنفاسهِ الحارَّة:
-وحشتي حبيبك ياروح حبيبك..طوَّقت خصرهِ تهمسُ بخفوت:
-الفجر لسة عليه ساعة ونص على فكرة، هنا تراجع برأسهِ يدقِّقُ النظرَ بملامحها البريئة، ثمَّ انحنى يحملها بين فولاذيتهِ يهمسُ لها:
-فعلًا السحور قبلِ الفجر على طول صحِّي..أفلتت ضحكةً ناعمةً تلكمهُ بصدرهِ حتى ارتفعت ضحكاتهِ الرجوليةِ تصدحُ بالمكان…بعد فترةٍ جلسَ بجوارها على طاولةِ الطعامِ قائلًا:
معزومين بكرة بفيلا السيوفي، بابا لسة مبلَّغني من شوية..
توقَّفت عن الطعامِ تطالعهُ بذهول:
-يعني خالو اتصالح كدا مع طنط فريدة؟..ماحضرتك من يوميها ماحكتليش حاجة، ولا أعرف إيه اللي حصل..
رفعَ كفَّيهِ يعدلُ وضعية خصلاتها خلفَ أذنيها وأردف:
-حبيبتي إنتي كنتي بتمتحني، محبتش أشغل دماغك بحاجات مش مهمَّة..
أمسكت كوب الزبادي وتمتمت بتقطُّع:
-عملت إيه مع البتِّ المغربية؟..توقَّفَ عن الطعام، وسحبَ كفَّيهِ من فوق خصلاتها مبتعدًا عن نظراتها ثمَّ أجابها:
-اتفقنا، وإن شاءالله القضية تخلص على خير، أنا شبعت حبيبتي هقوم أجهز لصلاةِ الفجر..
-لسة نصِّ ساعة..توقَّفَ قائلًا:
-هقعدها في المسجد، الوقت دا حلو في الذكرِ والتسبيح، وإنتي كمان خلَّصي واتوضي علشان تستعدِّي لصلاة الفجر..قالها وانسحبَ من المكانِ بالكامل..ظلَّت تراقبهُ بنظراتها إلى أن خرجَ من المنزل، تنهيدةٌ ثقيلةٌ أخرجتها من جوفِ آلامها تردِّد:
-يارب قلبي المرة دي يخوني ياآدم وميكونشِ فيه حاجة توجعني منَّك..
بمنزلِ يزن:
جلسَ على طاولةِ الطعام يتناولُ سحورهِ مع أخوته، رفعَ عينيهِ إلى إيمان:
-حبيبتي بكرة معزومين عند طنط فريدة، الصُبح أوصَّلك عند ميرال ويبقى تروحي معاها..
أومأت مبتسمةً ثمَّ أردفت:
-مش جوزها قال هيجوا يفطروا معانا النهاردة؟..جذبَ شريحةَ الجبنة والتقمها قائلًا:
-لا طنط فريدة عزمتنا..توقَّفت عن الطعامِ متسائلة:
-طيب وراحيل؟..توقَّفَ عن مضغِ طعامه، ثمَّ اتَّجه إليها بنظرةٍ ضائعة، هربت الحروفُ من مخرجِ شفتيهِ يهزُّ رأسهِ دون حديث، ثمَّ نهضَ من مكانهِ يحملُ كوبَ الشاي الخاص به متَّجهًا بهِ إلى غرفته، هوى على المقعد، يشعرُ وكأنَّ أحدهم وضعَ داخل صدرهِ وقودًا مشتعلًا، كلَّما تذكَّر إهانتها، نظراتها المحتقرة له..
ضغطَ على الكوبِ الساخنِ الذي يضمُّهُ بيديهِ إلى أن انكسرَ بكفَّيه، لم يشعر بسخونته، ولا بانكساره، كلَّ ماشعرَ به هو احتراقَ صدرهِ من نظراتها التي أشعرتهُ بمدى حقارته..دارت به الأرضُ وشعرَ بتزلزلها تحت قدميه، تناولَ هاتفهِ وتحدَّثَ مع رجالهِ الذين عيَّنهم لحمايتها بل لحجزها:
-أستاذة راحيل خرجت النهاردة؟..
-لا يافندم، ومفيش حدِّ جه خالص عندها..
-تمام خد بالك مش عايز غلطة..
بمنزلِ ميرال:
ظلَّت بغرفتها بعد خروجه، تكلِّمُ نفسها:
-ليه جه، وليه مشي، نهضت من مكانها تدورُ حول نفسها كالطائرِ الذبيح، إلى أن شعرت أنَّ قدميها لم تعد تحملها، فهوت جالسةً مرَّةً أخرى..
نظرت بالساعةِ لتبدأَ تواشيحُ الفجر، استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفة..
سمحت بالدخول، دلفت الخادمة تحملُ كوبًا من اللبنِ وبعضِ الطعام:
-الفجر خلاص هيأذِّن وحضرتك رافضة تنزلي، إيه رأيك تاكلي حاجة بسيطة وتشربي اللبن دا؟..
أشارت بيدها بالرفضِ ثمَّ قالت:
-ماليش نفس، انزلي كمِّلي سحورك، وأنا هقوم أحضَّر نفسي للصلاة..اقتربت تضعُ أمامها كوبَ اللبن:
-طيب اشربي دا، متنسيش إنِّك بترضَّعي، استمعت إلى رنينِ هاتفها، أشارت إلى الخادمة:
-هاتيلي تليفوني، وسيبي اللبن، بس خُدي الأكل ماليش نفس.
نظرت لهاتفها، وجدت اسمهِ ينيرُ شاشتها، لمعت عيناها بالدموع، ثمَّ ألقتهُ بعيدًا عنها ونهضت من مكانها تحملُ كوبَ اللبن متَّجهةً إلى النافذة، وقفت تستمعُ إلى تواشيحِ الفجرِ مع ارتشافها للبن، انبثقت دمعةٌ من عينيها على الأدعيةِ التي تستمعُ إليها مع زيادةِ رنينِ الهاتف، ولكنَّها ظلَّت كما هي، ارتجفَ جسدها مع شفتيها وهي تدعي ربَّها:
“ربِّي هوِّن ثمَّ هوِّن عليَّا حياتي، ربِّي اجمعني بزوجي وارزقنا السعادة واليُسر، اللهمَّ ألِّف بين قلوبنا وأعنِّا على طاعتك ونقِّنا من شرورِ أنفسنا، دقائق وهي واقفةٌ تنظرُ إلى السماءِ مع أدعيتها إلى أن أنهت كوبها، ثمَّ تحرَّكت لتتجهَّزَ إلى صلاةِ الفجر..
بعد فترةٍ انطلقَ أذانُ الفجرِ الذي يريحُ القلوب..اتَّجهت للواحدِ القهَّار، الذي لا يغفلُ ولا ينام، فما أجملُ من المواظبينَ على صلاةِ الفجر، وماأنفعُ مايقتنيهِ الفردُ من تلك الصلاة، لا تنسى عزيزي القارئ أنَّ لصلاةِ الفجرِ أثرًا على النفسِ من الطمأنية، فهي التي حثَّنا بها الرسول عليه الصلاة والسلام بأنَّها تعدلُ قيامَ الليلِ كلِّه، حيثُ قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:
من صلَّى الفجرَ فكأنَّما قامَ الليلَ كلِّه. يكون للمداومِ على صلاةِ الفجرِ أجرُ حجَّةٍ وعمرة، إذا بقي يذكرُ الله حتى تطلع الشمس قال -عليه السلام- «من صلَّى الغداةَ في جماعة، ثمّ قعدَ يذكرُ الله حتى تطلعُ الشمس ثمَّ صلَّى ركعتين كانت له كأجرِ حجَّةٍ وعمرة»؛ وصلاةُ الغداةِ هي صلاةُ الفجر،رواه الترمذي.
نعم سيدتي..
ويفضَّلُ صلاةُ الفجرِ للنساءِ أو بمعنى أدق فضلُ صلاةِ الفجرِ في البيتِ بالنسبةِ للمرأة، فقد ثبتَ في الصحيحِ من حديثِ جندب بنِ عبد الله – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلَّى الصبحَ فهو في ذمَّةِ اللهِ فلا يطلبنَّكم الله من ذمَّتهِ بشيء فيدركهُ فيكبُّهُ في نارِ جهنم » أخرجهُ مسلم في صحيحه.
أنهت صلاتها وظلَّت لبعضِ الوقتِ تذكرُ ربَّها مع دعائها، حتى تناست آلامَ قلبها، فمن يلجأُ إلى ربِّهِ لن يخسر أبدًا، بل تطمئنُ الأفئدةُ وتهدأُ الأعضاء، مرَّت قرابةَ الساعتينِ حتى أنهت وردها، ابتسامةٌ مرضيةٌ وهي تمرِّرُ أناملها على كتابِ الله، ثمَّ رفعتهُ وقبَّلتهُ مع احتضانها له، ياالله كيف كنتُ غائبة عن هذا الارتياح، ماأجملَ العبدُ الذي يلجأ إلى ربِّهِ وماأحنَّ ربِّ العبادِ في لمسِ القلوبِ وزرعِ الطمانينة، فربُّ العبادِ الذي قال: “ادعوني استجب لكم”
يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً
فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ
إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ
فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ
أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً
فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ
ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلا الرَجا
وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ
وبهذهِ الكلماتِ انتهت خلوتها مع ربَّها، نهضت متَّجهةً مرَّةً أخرى لتقيمً ركعتي الضحى..فإنَّ صلاةَ الضحى من النوافلِ المستحبَّةِ ولها فضلٌ عظيم، وقد وردَ عن النبي صلَّى الله عليهِ وسلم أنُّه قال: “يُصْبِحُ عَلَىَ كُلّ سُلاَمَىَ مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. فَكُلّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ. وَكُلّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ. وَكُلّ تَهْلِيلَة صدقة…”
أي مجزئةً عن جميعِ الصدقاتِ المطلوبةِ على جميعِ سُلَامِيات بدنِ الإنسان -أي: عِظَامه- في كلِّ يومٍ شكرًا للهِ تعالى على نعمتهِ وفضله…
اللهمَّ اجعلنا من المواظبينَ عليها ياأرحمَ الراحمين
انتهت ميرال ثمَّ اتَّجهت إلى غرفةِ ابنها فلم تراهُ منذ ساعات، دلفت بهدوءٍ حتى لا توقظه، وجدتهُ غارقًا بنومه، توقَّفت بجوارهِ ثمَّ انحنت تطبعُ قبلةً على جبينه، لحظات ترسمهُ بعينيها، ترى فيه والدهِ.. فلقد جمعَ ملامحَ والدهِ بالكامل، أغمضت عينيها متنهِّدةً ثمَّ اتَّجهت إلى غرفتها..
عند إلياس:
وصلَ إلى السويس، وترجَّلَ من سيارتهِ التي توقَّفت أمام المقابرَ الخاصَّةِ بعائلةِ الشافعي، اقتربَ من قبرِ والدهِ وقامَ بالدعاءِ إليه كعادتهِ بالفترةِ الأخيرة، هرولَ المسؤولِ عن المقابرِ بعد رؤيته:
-حمدَالله على السلامة ياباشا..
أومأ له ثمَّ أردف:
-فين الراجل والستِّ اللي قولت هتوصلُّهم؟..هزَّ الرجلُ الذي يتخطَّى الخمسينَ عامًا رأسهِ وهو يشيرُ إلى الخارج:
-ليهم بيت قريب من هنا ياباشا، همَّا كانوا سابوا السويس من فترةِ المرحوم، وفجأة بعد سنين رجعوا، ولمَّا حضرتك سألت عليهم وأنا قولت لك أنُّهم سابوا البلد، مكنتش أعرف أنُّهم هيرجعوا تاني، علشان كدا اتَّصلت بيك، جايين يجوِّزوا ابنهم هنا، وباين هيرجعوا تاني..
ربتَ إلياس على كتفهِ ثمَّ التفتَ إلى مقبرةِ والده:
-اهتم بالزرعِ اللي حول القبر، وفيه حاجات في العربية عايزك توزَّعها على الناس الفقيرة، أخرجَ دفتر شيكاتهِ وقامَ بوضعِ مبلغًا ما قائلًا له:
-شوف إيه اللي الناس محتاجاه هنا في البلد واعمله، دا مبلغ كويس، وفيه حدِّ هيكون معاك..نصِّ ساعة ويكون موجود..
-مش فاهم حضرتك ياباشا متأخذنيش، يعني إيه اللي ناقص البلد؟..
توقَّفَ مستديرًا إليهِ ثمَّ نظرَ إلى الشيك الذي بيده:
-الفلوس اللي هنا دي هتروح بيها مع الراجل اللي هيوصل بعد شوية، شوف لو فيه مركز علاجي ناقص له أدوية، أو مساجد ناقص لها حاجة، مدارس..أيِّ حاجة..فلاتر ميه في الشوارع، المهمِّ اتصرَّف، إنتَ قاعد في البلد وعارف أكتر منِّنا، وبرضو هيكون معاك واحد هيخلَّص لك كلِّ حاجة..فهمت كدا؟..
ابتسمَ الرجل ودعا له:
-ربنا يراضيك يابني، ويريَّح بالك..
تحرَّكَ وهو يؤمنُ على دعائه:
“اللهمَّ آمين..ربِّنا يراضيني ويريَّح بالي”..تحرَّكَ خلفهِ إلى أن وصلَ إلى منزلِ ذاك الرجل…دقائقَ معدودةً وهو جالسًا بغرفةِ معيشته، يتجوَّلُ بعينيهِ على المنزلِ القديم، ورغمَ قدمهِ إلَّا أنَّ أثاثهِ كان فاخرًا، يبدو أنّّ ذلك الرجلَ كان يتمتّّعُ بالغنى، مايؤكِّدُ أنَّ حياتهِ ميسَّرة، لماذا غادرَ البلدَ بعد وفاةِ والده؟..هذا ماتساءلَ بها إلياس بينه وبين نفسه..
دلفَ إليه الرجلَ وقامَ بالترحيبِ به، ثمَّ جلس:
-أهلًا يابني، ماقولتليش إنتَ مين؟..
دقَّقَ إلياس النظرَ بعينيهِ حتى تعلَّقت الأعينُ ببعضها وأردف:
-إلياس..قالها وصمتَ للحظاتِ ومازال يحدجهُ بنظراتٍ مبهمةٍ إلى أن أردف:
-أو ممكن تقول يوسف جمال الشافعي.
هبَّ الرجلُ من مكانهِ وانتفضَ جسدهِ ينظرُ إليهِ بارتباك:
-يوسف مين؟..وجمال مين؟..قالها بتجلجلٍ بعدما فقدَ السيطرةَ على ذاته.
نهضَ إلياس من مكانهِ واقتربَ منه، ليتراجعَ الرجلَ هاويًا على المقعد..انحنى إلياس يحاوطُ جلوسهِ وغرزَ عينيهِ بعينيه:
-جمال الشافعي، صاحبك اللي اتقتل غدر، فاكره؟..
هزَّ رأسهِ وتجمَّعت الدموعُ بعينيه:
-أنا معرفشِ حاجة، ربِّنا لا يسيئك يابني.. واللهِ أنا جاي أجوِّز ابني وأمشي على طول، معرفشِ حاجة..
ضغطَ الياس بقوَّة على المقعد، وهمسَ من بينِ أسنانه:
-عارف إنَّك مالكشِ دخل، بس عايز أعرف إجابة واحدة بس، راجح الشافعي له يد بقتلِ أبويا ولَّا لأ؟..وليه قتلوه؟ دا كان صياد، يعني مالوش في حاجة، مين اللي غرَّق مركبه؟..
بكى الرجل يجذبُ يد إلياس:
-وحياة رحمة أبوك يابني ابعد عنِّي، أنا عايز أعيش لمَّا أجوِّز ابني وأخواته، وحياة حبيبك النبي يابني ابعد عنِّي..
رفعَ كفِّهِ وربتَ على كتفهِ محاولًا تهدئته، بعدما سحبَ نفسًا وطردهُ قائلًا:
-اسمعني ياعمُّو لو سمحت، إنتَ متعرفشِ إحنا كنَّا عايشين إزاي؟..ولا اتعمل فينا إيه؟ أنا مش طالب غير أعرف أبويا اتقتل ليه؟..وليه خطفونا أنا وأخويا؟.. دي مجرَّد غيرة من ستِّ ولَّا كان تخطيط ينتقموا من جمال وولاده؟..
-والله يابني ماأعرف، بس أنا حذَّرت أبوك وهوَّ اللي مسمعشِ منِّي، كان فاتح صدره وأهو ياحبيبي مش هنوُّه بيك ولا بأخوك..
توسَّعت عينا إلياس حتى ارتجفت شفتيهِ متسائلًا:
-مين اللي عمل فينا كدا؟..ماهو مش راجح، راجح مش قدِّ لعبة زي دي، وأبويا مين اللي قتله؟..
-معرفش…صرخَ بها الرجل، لم يشعر إلياس بنفسهِ إلَّا وهو يقبضُ على عنقهِ، وتحوَّلت عيناهُ إلى حممٍ بركانيةٍ يزأرُ بعنف:
-مين اللي قتل أبويا؟..دلفت ابنة الرجلِ التي تبلغُ من العمرِ خمسةً عشرَ عامًا، بعدما استمعت إلى صراخِ إلياس ووالدها، ولكنَّها توقَّفت تصرخُ باسمِ والدها وهرولت إليهِ بعدما وجدت إلياس يخنقه..ابتعدَ سريعًا يكوِّرُ قبضتهِ بعدما استمعَ إلى بكاءِ الفتاة، ثمَّ تراجعَ سريعًا للخارج، ركضَ بخطواتٍ متعثِّرةٍ وساقيهِ تلتفُّ حول بعضها البعض من ثقلِ مايحملهُ من غصَّاتٍ تطبقُ على صدره، رفعَ هاتفهِ وهاتفَ أخاه:
-الراجل مقالش حاجة ياأرسلان، حاولت معاه، ومعرفتش أوصل لحاجة..
اعتدلَ أرسلان يجذبُ الغطاءَ على زوجته، ثمَّ تحرَّكَ للخارجِ يتابعُ حديثهِ مع إلياس:
-كنت متأكِّد، اللي يخلِّيه يهرب يسيب بيته وأرضه وحاله كلُّه، يبقى الموضوع أكبر من أنُّه عايز يسافر لتحسين معيشته..
رفعَ كفَّيهِ بخصلاتهِ وزفرَ بقوَّةٍ متسائلًا:
-طيب هتعمل إيه؟..بقولَّك ارجع إنتَ القاهرة، وأنا هنزل السويس تاني، وهحاول أوصل لحاجة..
-يعني هتعمل أكتر من اللي عملته، الراجل كان هيموت في إيدي، تخيَّل بنته شافتني وأنا بخنقه، كنت هموِّت روح بريئة في رمضان..
تنهَّدَ أرسلان بيأس، ثمَّ صمتَ للحظاتٍ وأردفَ دون جدال:
-أنا هتصرَّف، وأعرف مين اللي ورا دا كلُّه، المهم عملت إيه عند راجح؟..
تحرَّكَ إلى سيارتهِ وأردف:
-اسأل اسحاق اللي في مرَّة من المرَّات هيكون موته على إيدي، كلِّ مرَّة يطلع بعفريت، صدَّقني أنا خُلقي بقى ضيِّق من ناحيته، خلِّيه يبعد عنِّي، هوَّ ماله ومال شغلي؟..وماله ومال راجح؟..
ضيَّقَ أرسلان عينيهِ متسائلًا:
-مش فاهم، ليه إسحاق عمل إيه؟..
توقَّفَ بعدما وصلَ إلى سيارتهِ وأجابه:
-بعت لي فيديو لبيتي وبيقولِّي أنا في البيت والحق مراتك، وشوفت رسالة من غير رقم..
أفلتَ أرسلان ضحكةً وتحدَّث:
-فعلًا محدش يعمل الحركة دي غيره، بس ليه عمل كدا؟..هوَّ كلِّمني وأنا قولت له مع بنتِ عمِّي عند الدكتور.
سبّّهُ إلياس وأردف:
-معرفش إنتَ بقيت الأيام دي لا تطاق، ارجع شغلك ياأرسلان، شكل غرام أكلت عقلك..قالها وأغلقَ الهاتفَ بوجههِ وهو يردِّد:
-أستغفرُ الله العظيم يارب، الواحد مش عايز يغلط وهوَّ صايم..
مساءَ اليوم التالي:
بغرفةِ راحيل جمعت كلَّ أشياءها الخاصة، وضعتها بحقيبتها، ثمَّ اتَّجهت إلى غرفةِ ثيابها وانتقت أجملَ ثيابها، ارتدتها مع وضعِ لمساتها التجميلية التي جعلتها أيقونةً من الجمال، توقَّفت أمامَ المرآةِ تنظرُ لنفسها مع ذكرياتها مع من أدمى قلبها، خطت بعدما استمعت إلى صوتِ درَّاجتهِ بالخارج..
حملت حقيبةَ يدها وهبطت إلى الأسفل، وجدتهُ جالسًا مع والدتها، اقتربت منهما، ثمَّ أردفت بنبرةٍ باردة:
-أنا جاهزة..دنا منها يقيِّمها بنظراته:
-هتخرجي كدا؟..إيه ناسية إنِّك صايمة وفي رمضان؟..
رفعت حاجبها وتمتمت بنبرةٍ استفزازية:
-متحسِّسنيش إنَّك راجل أوي..أطبقَ على ذراعيها وهمسَ بنبرةٍ تحملُ من التهديدِ ماجعلَ قلبها ينتفضُ قائلًا:
-لو متلمتيش في كلامك معايا هنفِّذ تهديدي بتاع الصبح، إحنا رايحين لناس على أساس إنِّك مراتي حبيبتي، عايز مرات يزن السوهاجي الكلِّ يتكلِّم باحترامها، هتطلعي تلبسي حاجة كويسة ولَّا لأ؟..
-لأ..صاحت بها غاضبة، ثمَّ لكمتهُ بقوَّة:
-متخلنيش أقرف منَّك أكتر من كدا..
لو حاسس إنِّي هعريك طلَّقني..
سحبها بقوَّةٍ متَّجهًا بها إلى الأعلى ثمَّ ألقاها بغرفتها وأشارَ على ثيابها:
– لو مغيرتيش هدومك، هغيَّرلك أنا سمعتي ولَّا لأ؟..
نهضت من مكانها وأشارت على نفسها:
-تعالَ غيَّرلي، لو راجل فعلًا أنا قدَّامك أهو، أوعى تفكَّر أنا بتهدِّد، لااا فوق واعرف إنتَ واقف قدَّام مين، أنا هخرج بهدومي دي عجبك عجبك مش عاجبك اخبط دماغك في مليون حيطة، بدل أنا مقتنعة بحاجة محدش له يدَّخل في حياتي..إيه هنخرج ولَّا الباشا الميكانيكي رجع في كلامه؟..دا لو له كلمة أصلًا..
طالعها بنظراتٍ تطلقُ لهيبًا يريدُ أن يحرقها بها، رفعَ كفِّه وجذبها من خصلاتها بقوَّةٍ حتى لفَّها على كفيه:
-لا، أدفنك ولا إنِّي أتحاسب على بنتِ تافهة زيك..
دفعتهُ بقوَّةٍ بعدما شعرت بآلامِ رأسها من قوَّةِ جذبه:
-أنا بكرهك..
تحرَّكَ سريعًا مغادرًا الغرفة بعدما فقدَ القدرةَ على مانطقت به، يريدُ أن يحطِّمَ فكَّها الذي ألقاهُ بكلماتٍ كالسهامِ المسمومة..وصلَ بعد قليلٍ إلى فيلا السيوفي، اتَّجهَ إلى تجمُّعِ الجميع..ألقى التحية، توقَّفت فريدة تدقِّقُ النظرَ به:
-فين مراتك حبيبي؟..
جلسَ وهربَ من نظراتِ الجميعِ متسائلًا عن إلياس، هنا شعرت بدقَّاتِ قلبها السريعةِ منتظرةً أن يجيبها أحد، فمنذُ وصولها ولم ترَ سيارتهِ شعرت بانقباضٍ حادٍّ بصدرها، استمعت إلى إسلام الذي تمتم:
-منعرفشِ عنُّه حاجة من امبارح، اتَّجهَ بنظرهِ الى رؤى وتساءل:
-مش كان رايح معاكي بيت يزن امبارح؟.. ثمَّ رفعَ عينيهِ إلى يزن:
-هوَّ مفطرشِ عندك امبارح؟..
حاوطَ أكتافَ ميرال قائلًا:
-لا، اعتذر وقال هيفطر مع ميرو، رفعَ ذقنها متسائلًا:
-حبيبتي فين جوزك؟..
-معرفش..كلمة بسيطة بحروفٍ متألِّمةٍ نطقت بها وهي تضعُ رأسها على كتفِ يزن..طالعتها رؤى بتهكُّمٍ قائلة:
-هوَّ فيه حد ميعرفش جوزه فين؟..نهضت فريدة تنادي على غادة:
-هاتي رؤى وتعالوا نساعد البنات علشان المغرب هيدن، أرسلان في الطريق..اعتدلت ميرال واستندت على الطاولةِ أمامها تحدجُ نظراتها برؤى:
-أنا بحذَّر مرَّة واحدة وبس، صدَّقيني اللي مخلِّيني متقبلاكي هوَّ إلياس وبس، من حبِّي له أيِّ كلمة له لازم أنفِّذها حتى لو مش متقبلاها، أصلك متعرفيش يعني إيه حبِّ الحبيب، فاتلمِّي وابعدي عنِّي، علشان مقلبشِ عليكي بجناني فعلًا..قاطعهم وقوفُ سيارةِ أرسلان بالحديقة، توقَّفت رؤى واتَّجهت إليهِ وهي تتمتم:
-بيحبِّك فعلًا، علشان كدا رميكي دايمًا، وصلت إلى أرسلان:
-ازيك..ابتسمَ إليها واقتربَ وهو يحتضنُ كفَّ غرام:
-ازيك يارؤى عاملة ايه؟..أومأت مبتسمةً ثمَّ أردفت:
-الحمدُلله، إنتَ عامل إيه؟..ازيك يا غرام؟..
-كويسة حبيبتي..طافت بالمكان ثمَّ اتَّجهت بنظرها إلى أرسلان:
-هروح لميرال..وقعَ بصرهِ على ميرال القابعةِ بأحضانِ يزن، فأشارَ على الداخل:
-لا..ادخلي لماما، علشان متزعلش، ميرال أخواتها حواليها..هزَّت رأسها بالموافقة وتحرَّكت وهي تلُّوحُ بيدها إلى ميرال، بينما توقَّفَ أرسلان يضعُ كفوفهِ بجيبِ بنطالهِ وعيناهُ على رؤى..
-كنتي فين إمبارح بالليل؟..
ارتبكت تطالعهُ بعيونٍ مذهولة، لحظات وشعرت بتوقِّفِ دقَّاتِ قلبها، ابتلعت ريقها بصعوبةٍ ثمَّ أردفت بنبرةٍ متقطِّعة:
-كنت عند واحدة صاحبتي، واستأذنت من طنط فريدة، ومتأخرتش، رجعت على طول..أومأ لها دون حديثٍ ثمَّ تحرَّكَ للداخل..بينما ظلَّت كما هي متوقِّفة تضعُ كفَّيها على صدرها تهمسُ لنفسها:
-معقولة يكون عرف؟!! أيوة صح نسيت أسأله هوَّ فعلًا شغال في المخابرات، بس أسأله إزاي دا ممكن يشكِّ كدا، صمتت تفكِّرُ بشيئٍ ما، ثمَّ همست مبتسمةً وكأنَّها فازت بجائزة:
-غادة، دي اللي هتقول كلِّ حاجة..
عند ميرال:
-لسة زعلانة إنتي وإلياس؟ فكَّرت اتصالحتو، تراجعت بجسدها وأغلقت عينيها تريدُ أن تنسى كلَّ مايمرُّ بها، ملَّسَ على ظهرها:
-حبيبتي لازم تفوقي علشان ابنك، دا وعدك ليَّا، مش خلاص تخطِّينا مرحلة الحزن دي، وبعدين إلياس بيحبِّك مش أنا اللي هقولك..
-أعمل إيه يايزن علشان أفقد الذاكرة، عايزة أرجع لحياتي من قبلِ خمس سنين، كنت أسعد إنسانة في الدنيا، رغم مكنتش أعرف إنِّ الشخص اللي بحبُّه بيحبِّني بس كنت سعيدة، سعيدة بثقتي بنفسي وبنجاحي، بحبِّ أمي ليَّا..انزلقت دمعةٌ من عينيها، أزالتها سريعًا وهي ترتجف:
-ياريتني ماعرفت إنَّها مش أمي، الفكرة نفسها بتموِّتني، بتمنى أكون في كابوس…وصلَ إليهم أرسلان بصحبةِ غرام، مع إيمان وغادة اللتان يلهونَ مع بعضهما بالحديث..
-عاملة إيه ياميرو؟…قالها أرسلان وعيناهُ تحاوطها:
-الحمدُلله كويسة، اتَّجهت بنظرها إلى غرام:
-مبروك ياغرام، ربنا يتمِّم حملك على خير ياروحي..
-ميرسي ياميرال، ربنا يباركلك في يوسف..
-فين أبو يوسف؟…تساءلَ بها يزن وهو يرمقُ أرسلان..
نظرَ بساعةِ يدهِ قائلًا:
-معرفش، أكيد زمانه جاي، هوَّ عارف إنِّنا هنفطر هنا..
دلفت سيارةُ زين إلى الحديقة، فنهضَ أرسلان إليهم وأشارَ إلى يزن:
-خليك زي ماإنتَ علشان الموضوع يتفهم صح..
-مين قالك إنِّي هقوم من مكاني أصلًا، لولا طنط فريدة مكنتش هاجي..تحرَّكَ أرسلان إليهم بعدما دلفوا إلى الداخل يهمسُ لنفسه:
-ربنا يستر والليلة تعدِّي على خير..
اقتربت غادة من ميرال:
-ميرو ياله جوَّا هنفضل هنا؟..
-ادخلوا أنتوا، أنا هفضل لحدِّ المغرب مايأذن..
حاوطها يزن بذراعه، لتخبئَ رأسها بكتفهُ حتى تمنعَ تلك الدمعة التي غدرت بها، وانبثقت من جفنيها، لا تريدُ أن يرى أحدًا ضعفها وانكسارها، ربتَ أخاها على كتفها وتمتمَ بنبرةٍ حنونة:
-لو عايزة نتمشَّى شوية معنديش مانع، هزَّت رأسها بالنفي وظلَّت كما هي، إلى أن استمعت إلى صوتِ إيمان:
-ياله ندخل المدفع ضرب، وعيب قاعدتنا دي، يقولوا إيه..توقَّفَ يزن وحاوطَ جسدها:
-ميرو ياله ياقلبي، وبعد الفطار نتكلِّم..قاطعهم صوتُ سيارتهِ التي دلفت من البابِ الرئيسي، ترجَّلَ من السيارةِ مع صوتِ الأذان، اتَّجهَ إلى وقوفهم وتوقَّفَ وعيناهُ تحدجها بعتاب، ثمَّ اقتربَ وبسطَ كفَّيه:
-تعالي عايز أتكلِّم معاكي..أوقفهُ يزن بعدما رأى انهيارها الداخلي:
-بعدين ياإلياس، نفطر الأوَّل، كأنَّهُ لم يستمع إليهِ واقتربَ منها يبعدُ كفَّ يزن من فوقِ أكتافها، وسحبها متجهًا للداخلِ وهو يحاوطُ خصرها:
-وحشتيني..
-كنت فين؟..تساءلت بها بنبرةٍ كادت أن تخرجَ من بين شفتيها..
قرَّبها إلى أحضانهِ وهمسَ بجوارِ أذنها
-بقولِّك وحشتيني، المفروض تردِّي وتقولي و إنتَ كمان، مش كنت فين..
توقَّفت عن السيرِ وتطلَّعت إليه بعيونٍ محجَّرةٍ بالدموع:
-ليه جيت لعندي امبارح ياإلياس؟..ليه رجعت تقلق راحتي بعد مااتعودت على بعدك؟..ليه دايمًا بتحاول تسحبني لعندك وبعد كدا تدوس عليَّا؟..خايف أخرج من تحت سيطرة إلياس السيوفي؟..
اقتربت خطوةً منه حتى لم يفصل بينهما سوى أنفاسهما وتعمَّقت بحدقتيه:
-ولَّا كنت عايز تشوف إنِّ ميرال الحلوة لسة هتمتَّع إلياس زي زمان ولَّا لأ..
رمقها بنظرةٍ مميتةٍ وأشار بسبَّباته:
-بتغلطي ياميرال، وهتندمي..
ابتسمت بدموعها التي انزلقت من جفنيها:
-مش شايف الكلمة دي ميرال تخطَّتها، شوف حاجة اقوى من كدا يابن عمي
حاوطَ خصرها وجذبها للداخل بعدما استمعَ إلى صوتِ غادة تناديهم:
-انا جاي تعبان وصدَّقيني ماليش نفس للخناق، ممكن تأجِّليه حتى بعد مالناس تمشي..
دلفَ للداخلِ ملقيًا التحيةَ على الجميع، سحبَ كفَّها واتَّجهَ يجلسُ بجوارِ والدهِ بمكانهِ المخصَّص، جذبَ مقعدها وأشارَ إليها بعينيه، جلست بهدوء، وقعت عيناها على رؤى التي تقابلها، فسحبت نظرها الى إيلين:
-نوَّرتي يادكتورة، شوفتي طلعنا قرايب..
ابتسمت إيلين تنظرُ إلى آدم:
-أيوة عرفت من آدم وكمان رؤى..
بترت حديثهما رؤى قائلة:
-مش قولت لك ياإيلي، أهو طلعنا قرايب ومش بس كدا، طنط فريدة طلعت مرات عمِّنا، رمقت ميرال بنظرةٍ باردة:
-يعني ميرال مطلعتش بنتها، مجرَّد مربية..
-تعرفي تاكلي وإنتي ساكتة يابت وماسمعشِ صوتك، وبدل مابتحكي تاريخ العيلة كدا، فكَّري إزاي هتبرَّري خروجك امبارح بالليل من غير إذني…قالها إلياس وعيناه ترمقها بسهامٍ نارية..
أفلتَ اسلام ضحكةً وهو ينظرُ إلى صحنه:
-كانت بتجري ورا الفيران..
-ااااي خفَّة ياظريف..قاطعهم أرسلان:
-لا كانت بتعدِّ النجوم في السما، وفجأة واصطدمت في عربية روبابيكيا..
-دا فطار ولَّا مسرحية هزلية بقى..كلِّ واحد ياكل وهوَّ ساكت..قالها مصطفى بعدما اعتذر من زين..
آسفين يازين باشا، الولاد متعوِّدين لمَّا بيتلمُّوا على بعض بيطلَّعوا مواهبهم..
-كلِّموا أبوكو، أنا جاي لأمي..
-لا وإنتَ قبلهم ياحضرة المهندس..التفتَ أرسلان إلى يزن:
-رد على عمُّو مصطفى إنتَ مبتسمعش؟..
-أرسلان..قالها إلياس وهو ينظرُ بعينيهِ إلى الطعام ..نهضَ من مكانهِ وجذبَ بعض الطعامِ من أمامه:
-عارف إنَّك خايف عليَّا علشان كدا بتقولِّي خد أكلك..
-بس ياله، احترم نفسك الناس تقول علينا إيه؟..
التفتَ برأسهِ إلى زين:
-حضرتك منوَّرنا والله، ياريتنا اتعرَّفنا عليك من زمان..ثمَّ اتَّجهَ إلى آدم وأحمد:
-منوَّرين والله يا ولاد خالي..مش كدا صح ياستِّ الكل؟..
ابتسمَ زين ينظرُ إلى فريدة:
-مش معقول، دا أرسلان اللي قولتي عليه؟..
-لا..قالها إلياس وهو يمضغُ طعامه، ثمَّ استأنفَ حديثه:
-دا واحد لقيينه على بابِ الجامع..
-اسمَ الله عليك ياأخويا، وإنتَ لقيناك على بابِ الدار..
قهقهَ إسلام يشيرُ على نفسه:
-وأنا لقيتوني في بطنِ سمكة، غمزَ إلى يزن ماتقولِّي ياعمِّ المهندس وإنتَ حدفوك في البحر، واتقابلنا في بطن البحر..ارتفعت الضحكات إلى أن قاطعم صوتُ فريدة وهي تطلَّعُ إلى ميرال:
-حبيبتي قرّّبي لجوزك أكله، منتظرة إيه؟..نسيتي إنِّ دا بيتك، أوعي تتعاملي على إنِّك ضيفة مهما يحصل..
دفعت رؤى الطبقَ بجهةِ إلياس قائلة:
-أصله بعيد عنَّك…وأنا عارفة إنَّك بتحبُّه، ألقى يزن نظرةً على مايحدث بين رؤى وميرال، ثمَّ انحنى برأسهِ إلى أرسلان:
-أقولَّك على حاجة..انتظرَ أرسلان أن يكملَ حديثه:
-رؤى بتكره ميرال، خايف الكره دا يخسَّرنا اللي بنخطَّط له..
-عارف، وعلى فكرة هيَّ راحت لراجح امبارح، وإلياس شافها هناك، بس ناوي على إيه معرفش.
-تفتكر تكون قالت له عليَّا؟..
-معرفش بس جايز، السؤال المهم ليه بتكره ميرال رغم أنُّهم أخوات؟..
قاطعهم صوتُ زين:
-باشمهندس يزن، بعد الفطار لازم نتكلم
-إن شاء الله..قالها بهدوء
تناولَ الجميعُ فطورهم بجوٍّ من الألفة ومحبةِ رمضان بعدما أثارت رؤى الأجواء، ولكن طريقة أرسلان وإسلام أخرجتهم بضحكاتهم المرتفعة، مع حديثِ زين عن فريدة في طفولتها، و اشتراكِ إيلين وآدم عن حديثِ والدهم عن مافعله والده بالبحثِ عنها..كان مصطفى يستمعُ بصمتٍ عن إثناءِ زين لجمال ومدحهِ المتكاملِ بشخصه، وقصةَ العشقِ التي كانت بينهما، توقَّفَ مصطفى محمحمًا باعتذار:
-آسف ياجماعة شبعت الحمدُلله، البيت بيتكم..قالها وتحرَّكَ بعيدًا عن طاولةِ الطعام، راقبهُ إلياس إلى أن خرجَ إلى الحديقةِ وخلفهِ الخادمة تحملُ قهوته، توقَّفَ هو الآخر معتذرًا، وانحنى يهمسُ إلى ميرال:
-خلَّصي أكلك براحتك، واعمليلي قهوتي، وحشتني قهوتك، قالها وتحرَّكَ خلفَ والده، بينما اندمجَ الجميعُ بحديثِ زين وشقاوةِ أرسلان مع إسلام، إلى أن انتهى فطورهم..
بالخارج:
جلسَ بجوارِ مصطفى، وسحبَ منه سيجارة:
-بابا صحِّتك، كنت وقَّفت تدخين، إيه ياسيادةِ اللوا إحنا بنكبر ونرجع في كلامنا؟..
رسمَ ابتسامةً يبتعدُ عن أعينِ ابنهِ وهتف:
-نفسي راحت لها، معرفشِ ليه، عايز أدخَّن..أمالَ بجسدهِ ينظرُ بداخلِ أعينِ والده:
-لتكون غيران ياسيادةِ اللوا؟..
قطبَ جبينهِ وتصنَّعَ جهل ما يقصده..
-لا..مش عيب تخون ذكاء ابنك برضو، أنا إلياس مصطفى السيوفي يادرش، يوسف معرفوش، وقولتها لك، ابنك دايمًا هيكون وراك وفي ضهرك، عرفت إنَّك غرت من كلام خالو زين، بس دا ماضي، يعني مالكشِ فيه مشاهد ياحضرةِ اللوا، الماضي يخصِّ جمال الشافعي، وحقِّ أمي مع ذكرياته، أمَّا الحاضر والمستقبل دا يخصَّك لوحدك، ودايمًا كان عقلك الموزون بيعجبني، حكمتك كانت طريقي يابابا، أتمنى تفضل طريقي..
رفعَ مصطفى كفَّيهِ على رأسهِ وجذبهُ إلى أحضانه:
-إنتَ نور عيني ياإلياس، صدَّقني يابني ولا لحظة حسِّيت إنَّك مش من صُلبي، عايزك دايمًا تكون سند لأبوك وأخواتك..
وصلت ميرال إليهما تحملُ قهوته:
-شوفت الدادة جايبة قهوتك، علشان كدا معملتش غير لإلياس بس..
ابتسمَ إليها ورفعَ كفَّيهِ إليها:
-تعالي حبيبة عمُّو، وحشاني، كدا أسبوعين كاملين متسأليش عن عمِّك..
جلست بجوارهِ وتحدَّثت:
-كان عندي شغل كتير والله، وكنت برجع تعبانة وأنام وكسل رمضان بقى ياعمُّو..
ملَّسَ على رأسها بحنان:
-وشِّك مخطوف ليه؟..أوعي يكون من الصيام..كان يرتشفُ قهوتهِ بهدوءٍ ظاهري، رغم النيرانِ القابعةِ بصدره،
وصلت فريدة بجوارِ زين ليتوقَّفَ مصطفى لاستقبالهم ..جلسَ الجميعُ في جوٍّ من المحبة، توقَّفَ أرسلان يسحبُ غرام معتذرًا:
-بعد إذنكم ياجماعة، لازم نمشي هنعدِّي لسة على بابا..سهرة سعيدة..
فعلَ مثلهِ يزن:
-خدني معاك، عندي مشوار مهم، بحثَ بعينيهِ عن إيمان وجدها تجلسُ بجوارِ غادة وإسلام:
-إيمي ياله..قالها وهو يتَّجهُ خلفَ أرسلان يناديه:
-أرسلان، لازم أعرف رؤى قالت إيه لراجح؟..
ربتَ على كتفهِ قائلًا:
-متخفش إلياس هيعصرها، حتى لو معرفشِ حاجة بس أنا واثق في دماغه حاجة..
بمنزلِ يزن:
كان يجلسُ في غرفته، شارداً، يستعيدُ كلماتِ راحيل التي أشعلت بداخلهِ نيرانًا لم تخمد أبدًا..قاطعهُ صوتُ هاتفه، التقطهُ بسرعة، وعيناهُ التهمتا الاسم المتوهِّج على الشاشة: راحيل!!
-أيوة يا راحيل؟
لم يسمع سوى بكائها، شهقاتها المتقطِّعة كانت كالسكاكينِ التي مزَّقت روحه، فانتفضَ واقفًا كمن مسَّتهُ نيرانُ قلقه..لم يحتج إلى أكثرِ من لحظةٍ حتى كان منطلقًا بدراجته، يعبرُ الطرقاتِ بجنون، يتحدَّى سرعةَ دراجته، وصلَ في غضونِ دقائقَ معدودة، دلفَ إلى فيلتها. لم ينتظر إذنًا، دلفَ إلى الداخلِ وعيناه تبحثانِ عنها بلهفة، كأنَّها الهواءُ الذي يحتاجهُ ليحيا. أخبرتهُ الخادمة أنَّها في غرفتها، فصعدَ بخطواتٍ لاهثة، وقلبهِ يدقُّ بجنون..
دفعَ البابَ بخفَّة، وماإن وقعَ نظرهِ عليها حتى تجمَّدَ في مكانه، انحبست أنفاسه، وعيناهُ لم تستطع الابتعادَ عن سحرِ طلَّتها..
كانت تقفُ في شرفةِ غرفتها، بردائها الأبيضِ الشفافِ الذي يلامسُ فخذيها، وخصلاتها تتطايرُ مع نسماتِ الليل، تراقبُ السماءَ بعينينِ تائهتينِ كأنَّها تشكو همومها إلى الرحمن..
دنا منها بخطواتٍ متأنِّية، كفنانٍ يرسمُ لوحةً من العشقِ بعينيه، يلتهمُ تفاصيلها بنظراتِ عاشقٍ مسحور…وقفَ خلفها تمامًا، همسَ باسمها بصوتٍ خافت، لكنَّهُ حملَ بين طيَّاتهِ ألفَ شعور:
– راحيل…
التفتت إليه بعينينِ غارقتينِ بالدموعِ لتقابلَ عيناهُ الممتلئتينِ بالقلق..لم يحتمل المسافة بينهما، فانحنى يجذبها إلى أحضانه، يحتويها بذراعيه كأنَّهُ يريدُ أن يحميها من العالمِ بأسره:
– خفت عليكي…
لم تتردَّد لحظة، حاوطت خصرهِ بقوَّة، كأنَّها تختبئُ داخله، أغمضت عينيها، وسحبت رائحته، وهمست باسمه:
-يزن…
شعرَ برجفةٍ عنيفةٍ اجتاحت جسده، لم يشعر بنفسه إلَّا وهو يهمسُ لها بصوتٍ متحشرج، محمَّلًا بكلِّ المشاعرِ التي حاولَ إنكارها:
-روح يزن…
تجمَّدت بين ذراعيه، وقلبها يصرخُ بدقَّاتهِ العنيفة..رفعت رأسها ببطء..وتاهَ الاثنانِ في نظراتِ حبٍّ لم يعد بإمكانهما إخفاءها.
رفعَ يده، ومرَّر أناملهِ برقَّةٍ على وجنتها، كأنَّها كنزهِ الوحيد، ثمَّ انحنى ببطءٍ يحتضنُ شفتيها، كانت القبلةُ انفجارًا من الشوقِ والجنون، عناقًا من الأرواحِ قبل الأجساد، لحظةً اختلطَ فيها العشقُ بالرغبة، فتعلَّقت برقبتهِ بقوَّة، وذابت معه في لذَّةٍ لا تعرفُ الحدود.
لم يدركا الزمن، لم يشعرا بشيءٍ سوى ببعضهما، وحين تركها أخيرًا، كانت أنفاسها متقطِّعة، ووجنتاها تلتهبانِ بلون العشق..رفعت كفَّيها، احتضنت وجههِ بين راحتيها، ونظرت إليه بعينينِ مترقرقتينِ بالدموع:
– يزن، أنا بحبَّك…
ارتعشَ جسده، وكأنَّ كلماتها أطلقت زلزالًا داخله..ظلَّت تحدقُ فيه، ثمَّ أكملت:
-عايزة أكون مراتك بحقِّ وحقيقي..أنا موافقة نتمِّم جوازنا…
لم يمهلها حتى تكمل، بل رفعها بين ذراعيه، كأنَّها أثمنُ ما يملك، وطارَ بها إلى جنَّةٍ لا يسكنها سواهما، حيث لا يوجدُ سوى الحب، والرغبة، وعالمًا خاصًّا بهما وحدهما…
بمنزلِ السيوفي:
صعدَ إلى الأعلى يبحثُ عنها، قابلتهُ غادة:
-بدوَّر على حاجة ياأبيه؟..
-فين إسلام مش باين ليه؟…اقتربت منه وتوقَّفت تنظرُ إليه بخبث:
-معرفش كان بيسألني من شوية عن ميرال..وصلت إليهم رؤى:
-أه وشوفتهم وهمَّا بيضحكوا عند البيسين ..فتحت غادة فمها للحديث ولكنَّهُ اختفى من أمامهما، نادتهُ رؤى ولكنَّهُ تحرَّكَ ولم يستمع الى أحدٍ..
وصلَ الحديقة وجدها تجلسُ على العشبِ تتلاعبُ مع طفلهما الذي يلاغيها بصوتٍ مرتفع، اتَّجهت بنظرها إلى فريدة:
-شوفي ياماما، بيقول إيه..نهضت فريدة واقتربت منها حتى جلست بجوارها تربتُ على كتفها:
-بكرة يقولِّك ياماما كمان، نظرت إلى فريدة وتمتمت:
-تعرفي أنا بستنى اليوم دا أوي، مش مصدَّقة يكبر علشان أتكلِّم معاه، أقولِّك على حاجة غريبة، ندمت أنُّه مش بنت، كانت هتفهمني أكتر، فاكرة لمَّا كنتي بتحكي لي عن بابا المزيف، خلِّيتيني أحبُّه وأرسم له صورة في دماغي، رغم أنُّه طلع مزيَّف بس كنت فرحانة بيه أوي..
-لا ياحبيبتي، جمال عمره ماكان مزيف، وبعدين مش اتفقنا إنِّك بنتي، ليه رجعتي تقولي إنِّك مش بنتي؟..
-علشان دي الحقيقة ياماما، تعرفي أنا اتاكِّدت إنِّ ربِّنا مش بيحبِّني، علشان أخدك منِّي، وخلَّى واحدة زي رانيا دي أمي..قطعت حديثها عندما شعرت بأحدهم يجلسُ بجوارها ويحاوطُ جسدها:
-وربِّنا بيكرهك علشان اتجوِّزتك مش كدا؟..رفعت عينيها إليه:
-صدَّقني مبقتش عارفة ياإلياس إذ كنت فرحانة ولَّا حزينة..توقَّفت فريدة لتتركَ لهم مساحةً من الوقت، ثمَّ أردفت:
-باتوا هنا حبيبي، وحشتوني أوي أنتوا الاتنين..هزَّ رأسهِ وعيناهُ على ميرال التي تصنَّعت انشغالها بطفلها، نادى على مربية طفله:
-خدي يوسف، لفوق
-بس أنا عايزة أرجع بيتي ياإلياس..
اعتدلَ بجلوسهِ وجذبها إلى داخلِ أحضانه:
-الأوضة وحشتها ريحتك ياميرا، تعرفي من آخر مرَّة كنتي هنا ومش خلِّيتهم يغيَّروا السرير، علشان ريحتك كانت فيه..
تطلَّعت إليه بذهولٍ متمتمة:
-ليه مصرّ تعمل ..بترَ حديثها بعدما اقتربَ برأسهِ يحتضنُ ثغرها، لحظاتٍ يسلبُ أنفاسها إلى أن تراجعَ قائلًا:
-مش عايز غلط ياميرا، لأنِّك هتتعاقبي ومتحاوليش تترجِّيني، قالها ونهضَ يسحبها من كفِّها متَّجهًا إلى سيارته ثم رفع هاتفه يهاتف المربية لتنزل بالطفل مرة أخرى
اتجه بنظره اليها
-هنروح بيتنا مش بيتك ..
كانت واقفةٌ بشرفةِ غرفتها، تتآكلُ من نيرانِ الغيرة، دلفت للداخلِ تدفعُ الباب بقوَّة، ثمَّ دارت بالغرفة تأكلُ أظافرها:
-مش هسيبك تتهنِّي بكلِّ حاجة، عيشتي حياة كلَّها رفاهية، وكمان تتجوِّزي واحد زيه، وأنا بعد الإهانات دي كلَّها أكون أختك على الفاضي، اصبري عليَّا ياستِّ ميرال..
وصل بعد قليل إلى منزل :
دلفت بجواره إلى الداخل ، خطواتها متردِّدة، وقلبها يخفقُ بشدَّة، خوفًا من ضعفها كعادتها..، صعد بها إلى غرفتها بعدما أوصى المربية على الطفل، توقَّفت عند العتبة، جالت بعينيها المرتعشتينِ في أرجاءِ المكان، لكنَّهُ لم يمنحها فرصةً للتراجع، جذبها نحوهِ بقوَّةٍ حتى اصطدمت بصدرهِ الصلب، يريدُ أن يغرقها في كيانه، رفعَ ذقنها بأناملهِ وتساءل:
-“كنتي بتقولي إيه أوَّل ما جيت؟ نسيت.. عارفة جوزك ذاكرته ذاكرة سمكة!”
قالها بصوتٍ خافت، لكن نظرتهِ كانت مشتعلةً بالعشقِ الدفين، رفعت عينيها نحوهِ بعناد، رغم أنَّ دموعها كانت تهدِّدُ بالانهيار..
-“مين اللي ذاكرته ذاكرة سمكة؟ ده إنتَ فاكر حاجات من عشرين سنة، يا زوجي المغرور!”
ارتسمت على شفتيهِ ابتسامةً خفيفة، وعينيهِ لم تفارقا وجهها، كأنَّهما ترسمانِ حدودها وتحفرانِ وجودها داخله..مرَّر أناملهِ ببطءٍ على وجنتها، شعرَ برجفتها، أغمضت عينيها فزادَ من اقترابه، حتى باتت أنفاسهِ تلفحُ شفتيها المرتعشتين..
رفعَ أصابعهِ لتنسابَ برفقٍ وتنزعُ حجابها، بحركةٍ بطيئةٍ كأنَّها طقسٌ مقدَّس، ثمَّ جمعَ خصلاتها على جانبِ وجهها بحنانٍ فائق:
-“يعني أنا ذاكرتي قوية، صح؟”
-“كنت فين إمبارح؟ ليه سبتني وكأنِّي واحدة جيت تقضِّي ليلة معاها جبر خاطر؟”
قالتها بنبرةٍ مرتجفة، مع اهتزازِ عيناها بدموعها الحبيسة، حدَّق بها طويلًا، كأنَّها ألقت بسؤالها سكِّينًا في صدره، صمتَ قليلًا ولكن ارتفعت أنفاسه، ثمَّ فجأة، أمسكَ وجهها بين يديه، وأجبرها على الغرقِ في عمقِ عيناه، وأردفَ بصوتٍ عميق:
-“لسه بتغلطي يا ميرا؟ لسه مصرَّة إنِّي مقرف؟”
شهقت دون إرادة، وانزلقت دموعها الساخنةِ على وجنتيها، وارتجفت أناملها وهي تشيرُ إلى نفسها، تسألُ بآخرِ ما تبقَّى لها من قوَّة:
-“أنا إيه في حياتك ياإلياس؟”
تشنَّجَ جسدهِ للحظة، من سؤالها الذي اخترقَ صدرهِ بسهمٍ قاتل، واشتعلت عيناهُ بنيرانٍ لم يحاولُ إخمادها، ثمَّ ببطءٍ أشبهُ بعذابٍ يحرقُ داخله، الصق جبهتهِ بجبهتها، وأنفاسهِ الساخنةِ تتلاحق، يهمسُ بصوتٍ غلَّفهُ وجعُ العشق:
-“حياتي..”
ارتجفت شفتيها أكثر، لكنَّهُ لم ينتظر لحظة، فأطبقَ بيديهِ على وجهها، يضغطُ على وجنتيها بحنان، وهمسَ بصوتٍ قاتلٍ بالعشق:
-“حياتي وروحي..بنتِ قلبي..عصفوري الجميل اللي شبه عصافيرِ الجنة..قطِّتي الشرسة..بنتي النقية الطاهرة..”
رفعت عينيها الغارقةُ بالدموع، وعجزت عن النطق، ولكنَّها أفلتت شهقةٌ بنبضها الذي يريدُ أن يحطِّمَ صدرها من قوَّةِ خفقانه، بينما أكمل هو بصوتٍ صار أضعف، لكنَّهُ أكثرُ عمقًا، أشبهُ بوشوشةِ روحٍ تتعلَّقُ بالحياة :
-“إنتي روح وحياة إلياس..عاملة زي الميَّة للبحر، والهوا للحياة..كلِّ حاجة ياميرال، لو محسِّتيش بدا، يبقى محبتنيش.”
أطلقت شهقةً عاليةً وهي تضمُّهُ بكلِّ ضعفها، تتشبَّثُ به كأنَّها تتشبَّثُ بالحياةِ نفسها، بكت بوجع، بصمت، ثمَّ نطقت بصوتها الذي يجمعُ من حروفِ الألمِ مايقتلها:
-“أنا تعبانة، تعبانة وعايزة أرتاح يا إلياس..حياتي كلَّها اتدمَّرت..”
لم يسمح لها بالنطقِ أكثر، حملها بين ذراعيهِ بسهولةٍ وكأنَّها لا تزنُ شيئًا، ورغم خفَّةِ وزنها، إلا أنَّ عشقها أثقلُ من أكبرِ الجبالِ ثقلًا، اتَّجهَ بها نحو فراشهما، يريدُ يعيدَ أنفاسهما، روحهما، وحتى قلبهما الذي تبعثرَ كثيرًا.
وضعها فوق السرير برفقٍ شديد، كأنَّها جوهرةٌ يخشى أن تنكسر، ثمَّ جلسَ بجوارها، أناملهِ أمسكت بيدها، شدَّدَ عليها بحنان، ثمَّ همسَ وهو يمسحُ دموعها بقبلاته:
-“لمَّا جوزك يموت، يبقى تقولي كدا.. طول ما أنا بتنفِّس، مش مسموح لك تتألِّمي ولا تخافي..لو حسِّيتي بكدا وإنتي في حضني، يبقى مليش لازمة.”
همست بانكسار، بالكادِ وصل لمسامعه :
-“حتى لو الألم دا منَّك؟”
ابتسمَ بحزن، واقتربَ أكثر، حتى اختلطت أنفاسهِ بأنفاسها، وانخفضَ صوته حتى صارَ وشوشةُ عاشقٍ فقدَ سيطرتهِ تمامًا:
-“هداويه..ما أنا زيِّك يا روح إلياس..سم وترياق في نفسِ الوقت.”
هنا، لم يبقَ بينهما سوى صوتِ نبضاتِ القلوب، التي عزفت سيمفونيةُ حبٍّ مشتعلة، تركَ لأناملهِ أن تستكشفَ تفاصيلها ببطء، وأنفاسه التي أذابتها، حتى أصبحت بين يديهِ تهمسُ بعشقه، ليزدادَ لهيبُ العشقِ ويسحبها إلى عالمهِ الذي لم يعد سوى مزيجٍ من النبض، والعشق، والجنون…
فترةٌ ليست بالقليلةِ ولا بالطويلةِ وهي تحلِّقُ تحت كنفِ نبضِ قلبهِ الذي يروي لها من العشقِ مالا تراهُ سوى لديهِ فقط، سواءً نظرةٍ أو همسةٍ أو لمسة، عشقٌ خالصٌ ممزوجٍ بالنبضِ بحروفِ اسمها فقط..قاطعهم طرقاتٌ على بابِ الغرفةِ ولكنَّهُ ابتعدَ عن كلِّ شيئٍ وكأنَّهُ الحاضرَ الغائب، لا يريدُ لأحدٍ أن ينزعَ روحهما التي ترفرفُ كبساطِ الريحِ فوق سماءٍ ربيعية..
مساءَ اليومِ التالي بفيلا راحيل:
أمسكت هاتفها:
-أيوة ياإيلين انتي فين؟..
-داخلة عليكي..نظرت من النافذة لذلك الرجلِ الذي وضعهُ يزن على بابِ الفيلا لحمايتها، ثمَّ أغلقت النافذة تهمسُ لنفسها:
-إنتَ اللي وصَّلتني لكدا يايزن..طافت بعينيها على الغرفة، إلى أن وقعت عيناها على سريرها الذي شهدَ ملحمةَ عشق.. ودَّت لو اختلفَ الزمانُ والأسباب، لأصبحت أسعدَ العاشقين، ولكنَّهُ أجبرها إلى السقوطِ الهاوية..اقتربت من السريرِ وانحنت تجذبُ سترتهِ تنظرُ إليها بدموعٍ الخزي من نفسها، ثمَّ ألقتها
وحملت حقيبتها متوجِّهةً إلى الأسفل، اتَّجهت إلى والدتها:
-ماما أنا مسافرة، وزي ماقولت لك، التواصل بينا هيكون عن طريق إيلين، أوعي ياماما يزن يعرف حاجة، توقَّفت والدتها متَّجهةً إليها:
-ليه جوزك عمل كدا ياراحيل؟..أنا مش مصدَّقة أنُّه يكون بالبشاعة دي..
قبَّلت وجنتيها ثمَّ جلست أمامها:
-ماما ماتفكريش في حاجة، المهمِّ روحي عند خالو زين، ياله إيلين جت، عايزة أخرج معاكم من غير ماحدِّ يحس..
بمنزل ميرال
فتحت عيناها حينما شعرت ببرودة المكان حولها، هبت من مكانها سريعًا تنظر حولها باضطراب انفاسها، ظنا أن ماعاشته منذ فترة كان حلمًا، تطلعت لهيئتها تهز رأسها بالنفي رافضة ماصفعه عقلها للمرة الثانية ..جذبت روبها بعدما تيقنت أنه لم يكن حلمًا ونزلت بساقيها المرتعشة تدعو ربها أن لا يخذلها فمن ارتجف القلب له، هرولت للاسفل حافية القدمين ودموعها تخفي وجهها من كثرتها، وصلت للاسفل تنظر حولها بضياع بسبب العتمة، المنزل مظلمًا بالكامل سوى من الإضاءة الخافتة بالأركان شهقة اخرجتها من جوفها متألمة، هل يعقل أنه أتى رغبة وليس اشتياقًا، هزت رأسها بجنون وارتفعت شهقاتها تلعن قلبها على توصلت إليه، ولكن هناك بصيص أمل تسلل إليها حينما وجدت إضاءة غرفة مكتبه، جرت ساقيها بصعوبة ودقاتها تضرب صدرها مما شعرت بآلام أضلعها، بسطت كفيها المرتعش تفتح الباب بهدوء مميت تدعوا من الله أن يخيب ظنها، لحظات وظهر جسده المنشغل على جهازه وكأنه يتواصل مع احدهما، لم يشعر بدخولها لدقائق..ظلت متسمرة بمكانها، وجسدها ينتفض رهبة مما شعرت به، هي تعلم أنه ليس كذلك ولكن شيطانها تحكم بها يضع أمامها كل ما يحرق روحها، لا تعلم كيف فقدت القدرة على الوقوف لتهبط بجسدها على الأرضية وعينيها تفترش وجنتيها،. رفع رأسه بعدما شعر بوجود أحدهم ..هب من مكانه مفزوعًا من هيئتها التي جعلت قلبه ينزف
-ايه اللي حصل، مالك؟!
هنا فقدت القدرة وارتفعت شهقاتها ليجثو أمامها ينظر إليها بشحوب، يشعر وكأن أحدهم انتزع روحه وألقى بها إلى الهاوية، تمتمت بشهقات متقطعة، لتصل إلى صدره كالسكاكين الباردة
-فكرتك مشيت زي كل مرة، خوفت، خوفت اعاني من غيابك تاني
ياالله كيف اوصلها لتلك المرحلة، هنا شعر وكأن كلماتها بلور يشحذ صدره ببرود ..لم يعد لديه قدرة للتحمل أكثر من ذلك، فجذبها يضمها بقوة لأحضانه، ثم رفعها بين ذراعيه وصعد بها، متحركًا إلى غرفتها بجسد يجبره على التعايش من أجلها فقط..يقسم بداخله أنه لا يؤلم قلبها مرة أخرى …وضعها بهدوء ثم التقط كوب الماء وجلس بجوارها
-اشربي حبيبي..رفرفت بأهدابها المثقلة بالدموع تهمس بصوت مبحوح بالبكاء
-يوسف، يوسف نايم ..
حاوط خصرها وجذبها إلى أحضانه
-أيوة نايم، انا كنت بخلص شغل، وكنت هطلع اصحيكي علشان نتسحر مع بعض
دفنت رأسها بصدره ولفت ذراعيها حول خصره
-مش عايزة اكل، عايزة احس بالامان وبس، مش عايزة اقوم من النوم تاني ومتكنش جنبي، خرجت من حضنه تنظر لعيناه التي تبلور الحزن الممزوج بالألم داخلها
-لو عايز تمشي صحيني بدل مااقوم مفزوعة كدا
طبع قبلة حنونة فوق جبينها واحتضن وجهها
-وعد مش هيحصل تاني ..ارتاحي وهنزل اعمل سحور ايه رأيك، عرض محدش يتخيله مني
رسمت ابتسامة حزينة تضع كفيها على وجهه
-مش عارف انت فعلا إلياس ولا بتعمل كدا علشان تقارير الدكتور اللي اخذتها منه
رجفة عنيفة أصابت جسده حتى فقد النطق، فهمت ماجال بخاطرها فتراجعت تستند على السرير واغمضت عيناها
-متخفش ياالياس، الفترة دي اتعلمت كتير، واهمها مهما يحصل للإنسان مبياخدش غير نصيبه في الدنيا، لو خايف اني اموت نفسي زي ماالدكتور قالك تبقى غلطان، انا كفاية اللي خسرته من جهلي لديني الفترة اللي فاتت، مستحيل أبيع آخرتي بحاجة متستهلش ..
-مهما قال الدكتور، بس انت فعلا روحي ياميرا
-طيب وراجح ياالياس هيفضل بيخنق فيا، تعرف كل يوم بيتصل بيا، وبيهددني
جذب رأسها إلى أحضانه وشعر بالسعادة لأنها بدأت تحكي مايؤلمها مثلما أخبره الطبيب، استمع الى بقية حديثها
-مش عايز يشوفني سعيدة، بيهددني بابني وبيك، صورك وفيه قناص موجه سلاحه عليك ..انا خايفة اخسرك ياالياس وفي نفس الوقت مش قادرة اتعامل معاك كزوجة وحبيبة
ازال دموعها ونظر لداخل عيناها
-وافقي على عرضه ياميرو، وابعدي عني وروحي له لو شايفة إن دا هيخرجك من حالتك دي، وشايفة اني قليل ومش عارف احميكي واحمي ابني روحي له، ومش هزعل منك
طالعته بتشتت ونظرات ضائعة ثم همست
-مش هقدر ..فتحت فاهه للحديث إلا أنه وضع إبهامه على شفتيها
-مش عايز ولا حرف تاني، قولنا اللي المفروض يتقال، الراجل دا انسيه وكأنه مش موجود، تمام ..قالها وغادر الغرفة قائلا
-هعمل سحور خليكي زي ماانت
التعليقات