رواية أنشودة الأقدار الجزء الثالث للكاتبة نورهان العشري الفصل الثالث والأربعون
العفو عِند المقدِرة. جُملة بسيطة مُكونة من كلمتين كِلاهُما لا تصِح من دون الأُخرى، فالأولى لا تأتي من دون الثانية، والتي ماهي إلا دربًا وعِرًا مُلغمٍ بالأشواك ليس باستطاعة الجميع تجاوزها و المُضي به. انما يتطلب الأمر مجهودًا عظيمًا قد لا تكفي طاقتنا ل تحمُله. لذا ف عِندما يشِق على قلوبنا العفو ف ذلك لا يعني ظلامها انما فاق الأمر حدود احتمالها. أيُعاتب المرء على شقائه؟
نورهان العشري.
كان الأمر برمته كارثي للحد الذي جعل الأجساد تتخشب و العقول تتوقف عن العمل. الثواني الفاصلة بين إطلاق النار على «جنة» و تلقي «حازم» الطلقة بدلًا عنها و بين خطفها ضئيلة جدًا بالمُقارنة بحجم الكوارث التي حدثت بها، فحتى «جرير» الذي كان يُعرف عنه سُرعة البديهة و خفة الحركة تجمد أمام هذا المشهد الذي اعتصر فؤاده على ذلك الفتى الذي لا يعلم كيف تغلعلت محبته إلى داخل قلبه الذي انتفض لدى رؤية دماءه فوق الأرض و ما كاد أن يصل إليه حتى اختطف أولئك الرجال تلك الفتاة التي و كأن الحظ ضل طريقه إليها لتقع فريسة بين قلوب اسودت من فرط احتراقها فلم تعُد تعرف معنى الرحمة أو الشفقة، و لهذا صرخ ذلك الجريح بين يدي شقيقه قائلًا بألم.
خدوها. خدوها يا سالم. الحق جنة.
انتفض «سالم» ذُعرًا وهو يرى شقيقه يُنازِع الموت بين يديه بينما صرخات مُفزِعة مُتفرقة انطلقت من الأفواه المُحيطة به و كان من بينهم صرخة مفزوعة استقرت في منتصف قلبه الذي تمزق بين الجميع في تلك اللحظة فزمجر بانفعال
اوعوا كدا. خلوه يعرف يتنفس.
كان هذا صوت «سالم» الذي أزاح الحرس من حوله ل يُمسِك بكف «حازم» يُقبله قائلًا ب شفاه ترتجف.
حازم. انت كويس. خد نفسك. انا هوديك المستشفى، و المرة دي مش هسيبك تموت. مش هسيبك أبدًا.
آلمه قلبه من فرط سعادته لسماعه كلمات شقيقه التي كانت إعلانًا صريحًا بالغُفران فهتف بنبرة مُعتذرة
مقدرتش امنعهم ياخدوها.
اقترب «سليم» منه بحذر و قلبه يرتعب من هذا الوداع الذي يلوح بالآفاق
انت هتبقى كويس، و كمان جنة. انا عارف. مش هخسر حد فيكوا.
همس «حازم» بنبرة خافته وهو يُجاهد ألمه و دوامة سوداء تُغويه حتى يستسلم لها
حقك عليا. ياخويا.
أنهى جملته التي عرفت طريق أعماق «سليم» الذي أخذ يتراجع إلى الخلف و هو عاجز عن إقصاء عينيه بعيدًا عن شقيقه لتفزعه صرخة «مروان» حين اقترب يقود أحد السيارات قائلًا
هاتوا يا سالم يالا بسرعة.
اعتدل «سالم» يحاول حمله فاقترب «جرير» ليُساعده فحدجه سالم بنظرة مُرعبة تحمل من اللوم الكثير كما جاءت نبرته حين قال
هي دي الأمانة يا شيخ جرير!
جملة كانت كسيف باتر يعرف جيداً كيف تُدق الأعناق ولكن الوقت لم يُسعفه للإجابة فقد حمل «سالم» «حازم» بين يديه ليُدخله السيارة وسط هرج و مرج من الجميع و ما أوشك على الركوب بجانبه حتى تفاجئ من «هارون» الذي تدخل بلهفة
استنى يا سالم. انا هركب معاه، و هحاول اوقف النزيف. انا اتدربت على حاجات زي دي قبل كدا. الحق انت الحاجه أمينة قبل ما تعرف اللي حصل.
ما أن ذُكِرت والدته حتى شعر برجفة قوية تضرب قلبه الذي لوعته فكرة ان تعرف والدته بما حدث، فإن تحمل قلبها خسارة عزيزه لمرة فحتمًا لن يتحملها الثانية لذا ارسل نظرة مُمتنة إلى «هارون» قبل أن يتركه فانطلقت السيارة بأقصى سرعتها ليصدُر عن أحتكاك إطارتها بالأرض صوتًا مُريعًا كصوت «طارق» الذي صاح يُعنف الحرس
انتوا يا بهايم. اللي حصل ده حصل ازاي؟
نطق الحارس بلهفة.
يا طارق بيه ملحقناش ضربوا نار من بعيد و حازم بيه جري اخد الطلقة مكان الهانم وفجأة جت عربية بسرعه شدتها و جريت و كل دا و هما بيضربوا نار مقدرناش نرد عليهم خوفنا على جنة هانم. حتى لما حاولنا نلحقهم كانوا بيضربوا عشوائي.
تدخل «صفوت» حانقًا و هو يُمسِك بهاتفه يتواصل مع جميع الدوريات في المنطقة
طب قولي. خدتوا رقم العربية؟ شفتوا حد من اللي كان موجود فيها؟
العربية كانت من غير نمر، و اللي جواها كانوا مُلثمين.
لم يُزِد في الحديث بل اندفع للتواصل مع الشرطة، ليسود الجو حالة من الهرج بينما لازال أحدهم لازال يُعاني من صدمته مثل «فرح» التي كانت مُتجمدة بمكانها و قد تشوشت الأصوات حولها الا من صوتًا واحد راح يعلو أكثر ف أكثر داخل عقلها
تلك المرة خسرت شقيقتها.
برقت عينيها و أخذ جسدها يرتجِف حتى كادت تسقُط لولا ذراعين تحملان حنان العالم أجمع حاوطتها وهو يقول بقوة
فرح. بصيلي يا فرح.
حين لم تُجيبه احتدت نبرته كما ازداد ضغطه فوق ذراعيها وهي يهزها بقوة قائلًا
فرح. فوقي و بصيلي.
شهقة قوية كان أول استجابة لها لما يحدُث لتصرخ بفزع
جنة. جنة يا سالم.
«سالم» بطمأنة
جنة كويسة. أن شاء الله هتبقى كويسه. متقلقيش.
هربت الكلمات من بين شفتيها لتتساقط من مقلتيها وهي تلتفت تلقائيًا لرؤية ذلك الأسد الجريح الذي يُزمجِر هنا و هُناك بلا هوادة و كأن أحدهم غمس سهمًا مُشتعِلًا بمُنتصف قلبه وهو مُكبل عاجز عن إنتشاله، و التخلُص من ذلك الألم المسعور الذي يكاد يفتك به، فلم تحتمل ما يحدُث بغرس نفسها بداخل أحضانه تكتم صرخاتها بصدره الذي أرتج إثر لوعتها و حريق روحه لشعوره بالعجز عن إضفاء الأمان بقلوب أحبته ليشعُر بيد قوية تربُت على كتفه ليلتفت فإذا به يجد «عبد الحميد» الذي قال بنبرة قوية.
رچالتنا بيدوروا في كل مكان. خد فرح چوا و تعالى عشان نعرفوا هنتصرفوا ازاي؟
اومأ «سالم بصمت لينظُر إلى «فرح» التي كانت ترتعِب فقام بحملها و الدلوف بها إلى الداخل
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
في الداخل اهتاجت «حلا» قائلة بانفعال
في ايه انت و هو؟ خلونا نطلع نشوف في ايه بره؟
الحارس باحترام
يا ست هانم مهينفعش. فيه ضرب نار بره، و ياسين بيه أمرنا منخرجش حد منكوا واصل.
صاحت «أمينة» بنبرة مُهتزة
ولادي بره عايزة اطمن عليهم.
اطمني يا حاچة كلياتهم بخير.
تدخلت «شيرين» بحنق
و نعرف منين؟ سيبونا نخرج نتطمن بنفسنا.
و أيدتها «همت» التي صاحت بذُعر.
يا ابني احنا مش ناقصين وجع قلب سيبونا نطلع نشوف في ايه؟
الحارس بعناد
يا هانم على عيني. بس ياسين بيه هيجطع رجبتي لو حد منكوا خطى خطوة واحدة. الصبر وانا هشيع حد يشوف في ايه؟
ما أن أنهى جملته حتى جاء «ياسين» القادم من الخارج لتقول «أمينة» بلهفة
اهو ياسين جه اهو. طمني يا ابني.
اقترب «ياسين» واضعًا قبلة دافئة فوق جبهتها وهو يقول بحنان يوازي شفقته على تلك السيدة التي ذاقت الويلات و لا ينقصها ما حدث منذ لحظات لذا هتف مُطمأنًا
اهدي يا حاجه في ايه؟ ليه القلق دا كله؟ دا واحد من الرجالة كان بيضربوا نار عشان الفرح و للأسف جت في واحد صاحبه و نقلناه المستشفى، و أن شاء الله هيبقى كويس. متقلقيش.
هتفت «أمينة» بلهفة
صحيح يا ابني بالله عليك. انا قلبي هيقف.
«ياسين» بطمأنة
صحيح يا حبيبتي. متقلقيش.
تنفس الجميع الصعداء بينما كانت هي تُحاول ألا تتأثر بوجوده و ذلك الحنان الذي يقطر من بين نبرته و عينيها لوالدتها، و رغمًا عنها شعرت بالإمتنان له على فعلته، و بينما كانت غارقة بأفكارها تفاجئت بيده الذي جذبتها إلى أحضانه بقوة اجفلتها واضعًا قبلة دافئة فوق خصلاتها تضمنت الكثير مما لم تفهمه، فقد كان يعتذر، يؤازر، يُشفِق عليها من تلك الحقيقة التي تجهلها، و أخيرًا غاضب يتوعد بالهلاك لمن تجرأ على المساس بأبنه عمه.
طب يالا يا حاچه ندخل چوا بدل وجفتنا دي. روكبنا من الخضة وچعتنا.
هكذا تحدث «تهاني» إلى «أمينة» و الجميع و قد كانوا بحاجة للراحة بعد تلك الدقائق الصعبة التي عاشوها لتبقى بمفردها معه فهمس بجانب أذنها حين لامس رجفة جسدها بين يديه
متخافيش. انا جنبك.
جملته أعادتها إلى واقع أليم و شعور مُروع لازالت غصته تفطر قلبها من الداخل لذا تململت بيد ذراعيه لتقول بجفاء.
ربنا معايا، و اخواتي بعده، فالحمد لله مش محتاجه لحد تاني.
تفهم ما تمُر به، وقد كان يتوقع و يرتضي ب ذلك و أكثر لذا اكتفى بجملة واحدة حتى لا يُزيد من الضغط الماثل فوقها
حتى لو مش محتجاني انا جنبك.
جاهدت حتى تظل على جفاءها، و قد قررت إعطاءه السُم على هيئة جُرعات لم تكُن قاتلة ولكن وجعها مُميت لذا طافت أنظارها الساخرة على ملامحه وكأنها تخبره أنها لا تُصدقه ل تتراجع إلى الداخل بدون التفوه بكلمة واحدة، فالتجاهُل هو بداية طريقها الشائك معه، و قد أتت طريقتها بثمارها فقد شعر بألم حاد في قلبه لكونها تجاهلته على الرغم من أنه عرف مقدار خطأه و لكن تألم لهذا لم يستطِع منع نفسه حين قال.
و هفضل جنبك العمر كله.
مر الوقت ثقيل على الرغم من كل تلك الجلبة و البحث المُضني الذي لم يُثمِر عن شيء ملموس مما جعل «سالم» يطلِق صرخة غاضبة وهو يضرب يده في حائط المشفى ليقترب منه «مروان» قائلًا بقوة
اهدى يا سالم. كل حاجه هتتحل بإذن الله.
ناظر «مروان» ساخطًا.
ايه اللي هيتحل بالظبط؟ حازم اللي جوا بين الحيا و الموت، ولا جنة اللي مش عارف هي فين؟ و لا سليم اللي قرب يتجنن وهو مش مش لاقي مراته! و لا ماما اللي متعرفش اي حاجة، و مش عارف هنخبي عليها لحد امتى؟ ولا فرح.
صمت لثوان وقد شعر بدقات قلبه خناجر تتسابق داخل صدره حتى تقضي عليه وهو يتذكر حين اقترب يضعها فوق مخدعها ليجدها تُشدِد من قبضتها على قميصه وهي تقول بنبرة مُشبعة بالأسى يخالطه التوسل الذي يتساقط من عينيها مع عبراتها
جنة يا سالم.
لأول مرة لم يستطِع بثها الأمان الذي تحتاجه ولكنه حاول الثبات قائلًا بخشونة
متخافيش.
عاد إلى واقعه على يد «مروان» الذي ربت فوق كتفه بقوة وهو يقول ببسالة.
كل دا هيتحل بأمر الله. اسمع مني. انا عارف اللي جواك. بس انت معندكش رفاهية الإنهيار. الكل مسنود عليك بعد ربنا، وانت قدها. اللي معاه ربنا ميخافش يا كبير. مش دا كلامك؟
أراد الصراخ لا البُكاء في تلك اللحظة فقد كان وليمة للحزن و الأسى ليقول لأول مرة بنبرة مُشبعة بالألم
ونعم بالله. لكن انا مش واثق في نفسي المرة دي يا مروان.
ولكنها كانت لحظة حصاد لزرعته الصالحة حين صاح «مروان» بقوة.
ياخي انا واثق فيك. قول يارب انت بس.
همس بحرقة
يارب.
كان «هارون» يُشاهِد ما يحدُث بقلب ينفطر ألمًا فقد سيطر عليه هاجس قوي بأن الفاعل هو شيطانهم المريد، فلم يستطِع عقله تخيُل أنه قد مات، وقد شعُر بأن «سالم» يُشاطره نفس تفكيره حين سمعه يقول ل«مروان» بقسوة
يا ويله لو كان هو اللي ورا اللي حصل دا.
«مروان» بصدمة.
سالم. بتقول ايه؟ تقصد مين؟ متقوليش ناجي! دا مات وشبع موت
«سالم» بسخرية مريرة و حيرة جراء تخبط عقله و ضياعه أمام هواجس تؤرقه
محشستش ولا لحظة أنه مات. طول الوقت جوايا احساس بيقولي ازاي هيموت بالسهولة دي؟
«مروان» بتعقُل
ازاي يكون نجي من كل اللي حصل دا؟ مش في تحاليل أثبتت أن جثته كان من ضمن الجثث اللى كانت في اليخت؟
حازم عامل ايه؟
هكذا تحدث «طارق» الذي كان مظهره يُشبه رجال العصابات يرتسم الإجرام على ملامحه و بجانبه كُلًا من «عمار» و «ياسين» و «عبد الحميد» الذي أعاد سؤال «طارق» بنبرة جافة
اخوك كيفه يا سالم؟
«سالم» بجفاء
لسه منعرفش حاجه.
«عبد الحميد» بنبرة حادة.
چينا عشان نعمل الواچب، واني طبعًا مجدر خوفك و جلجك على أخوك، لكن بعد اللي حوصول ده التار مبجاش تارك لوحدك يا ولد الوزان.
زفر «سالم» غاضبًا قبل أن يقول بخشونة
رجالتي مش ساكتين، و اظن انت شايف بعينيك.
تدخل «عمار» بحدة
شايفين يا سالم. ياريت تكون انت اللي شايف.
«سالم» بقسوة
تقصد ايه؟
تدحرجت عيني «عمار» بين الجميع لتستقر على «هارون» قائلًا بحدة.
اللي حوصول دا مش طبيعي، و لو كان ناچي دا لساته عايش يبجى أكيد في خاين في داركوا.
قاطع استرساله في الحديث يد «سالم» الذي امتدت لتُدير رأسه إليه و هو يقول ب جهامة و نظرات سوداوية
بيتي نضيف مفهوش خونه، ولو كان في قبل كدا ف دا كان عن معرفة مني، و تخطيط كمان. دماغك متروحش بعيد يا عمار عشان منخسرش بعض في أكتر توقيت غلط.
تلقائيًا أخذ الجميع موضعه ليكون المشهد كالآتي «سالم» و يحاوطه كُلًا من «طارق» و «هارون» بملامح مُتجهمة و نظرات سوداوية، و في المُقابل «عبد الحميد» يحاوطه حفيديه «عمار» و «ياسين» بملامح مُكفهرة و نظرات مُتوعدة فساد صمتًا قاتل تتخلله أنفاس قوية تُنذِر بأن القادم سيئًا، فكان من يراهم من بعيد يظن بأن هناك نزال سيُقام بين العائلتين في حلبة المشفى إلى أن اخترق ذلك الجو المشحون صوت «مروان» الذي صاح غاضبًا.
في ايه يا جماعه؟ ايه جو مصارعة الثيران دا؟
بدل ما تقفوا في وش بعض. أقفوا جنب بعض. هو دا الوقت اللي الناس مفروض بتقف فيه جنب بعضها.
تدخل «ياسين» بحدة
واحنا جينا نقف جنبكوا. بس سالم بيه الكلام معجبهوش، و مش عايز يعترف بغلطه، و مُصِر يعرض عيلته كلها للخطر!
برقت عيني «سالم» و ما أن أوشك على الحديث حتى تدخل «مروان» بصوت جهوري.
سالم الوزان عقله يوزن بلد يا ياسين يا عمران، و خلي بالك من كلامك، و بعدين كلامكوا دا يُعتبر إهانة لينا احنا مش عيال صغيرين قدامكوا، و سالم لو مش عاقل و كبير كان حاسبكوا على الغلط دا بس هو عمل حساب للنسب اللى بينا. ماهو لما تتهموا واحد مننا باتهام خطير زي دا يبقى غلط كبير في حقنا كدا ولا لا يا حاج عبد الحميد؟
كان حديثه مُقنعًا و محاولة جيدة لحقن الدماء التي كانت على وشك أن تسيل لو انساق كل طرف حول غضبه لهذا تحدث «عبد الحميد» بتعقُل
احنا منجصدش يا ابني نتهمكوا. احنا في الآخر أهل و چنة بتكوا زي ماهي بتنا.
تدخل «طارق» الذي شاهد «سالم» و قد كان الأخير في حالة نادرة و مقيتة من الغضب. لذا قال يُهدأ من حدة الموقف أكثر.
كُلنا في مركب واحدة يا حاج عبد الحميد، و اللي عمل كدا في جنة و حازم حتى لو كان اخويا هعاقبه عقاب الملكين.
هدأ الجميع ل لحظات و فشلت محاولة الشيطان في زرع الفتنة في نفوسهم لتمُر دقائق بسيطة قبل أن يخرُج الطبيب من غرفة العمليات ف هرول «سالم» إليه قائلًا بلهفة
طمني يا دكتور.
الطبيب بطمأنة
الحمد لله. قدرنا ننقذه، الطلقة كانت قريبة من الشريان الرئيسي للقلب لكن مأذتوش.
رُدت روحه إليه في تلك اللحظة و ما كاد الطبيب يُغادِر حتى رن هاتفه و قد كان «صفوت» الذي ما أن أجاب «سالم» حتى صاح بلهفة
حالة سليم صعبة اوي يا سالم، و مش عارفين نسيطر عليه.
هتف «سالم» بخشونة
جراله ايه؟
هُناك ألم لا نستطِع وصفه، و لا نملك القدرة على محوه، و التعايش معه يُشبِه قطعة ثلج أُلقيت في قعر الجحيم قائلين لها لا تذوبي!
كانت حالته لا تفي الكلمات لوصفها. خائف، مُرتعِب، عاجُز. مُتألم و كأنه يتقيأ روحه، فقد كان يدور حول نفسه كالمجنون بعد أن بحث بجميع الطُرُق باحثًا عن سراب يحمل رائحتها، ولكن بائت كل محاولاته في إيجادها بالفشل الذي جعل منه وليمة للجنون خصوصًا حين وجدوا السيارة التي اختطفتها وهي مُتفحمه تُشبه علبة من الصفيح الذي أكلته النيران حتى أسود لونه. عند تلك اللحظة برقت عينيه و غاب عقله عن العمل ليخرج كل شيء عن سيطرته فأخذ يركُل بيديه و قدميه في السيارة المُتفحمة و هو يصيح كالأسد الجريح فحاول الحرس السيطرة عليه و معهم «صفوت» ولكن باءت كل محاولتهم بالفشل فلم يجد الأخير مفر من مُهاتفة «سالم» الذي تحولت نظراته الى شيء يُشبِه الجحيم حين لاحظ تراجع «هارون» إلى الخلف وهو يتحدث إلى أحدهم على الطرف الآخر، و سُرعان ما غاب عن ناظريه ليقوم بقسوة.
قوله مراتك الليلة هتبات في حضنك.
اللهم عافني في بدني اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري. اللهم رب الناس أذهب البأس أشفي أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً. اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر.
تحققت أسوأ مخاوفه حين شعر بإهتزاز هاتفه بجيبه ليتراجع عن ذلك الجمع وداخله يتمنى لو يحدُث شيء يُكذِب هذا الهاجس المُريع الذي يُسيطر عليه، و لكن دائمًا تأتي الرياح بما لا تشتهي السُفُن ليجد قلبه يهوى قلبه بين ضلوعه حين سمع ذلك الصوت الذي جعل جسده يقشعِر و خصوصًا تلك الضحكات المُروعة المتبوعة بكلمات يفوح منها القيح
ابني الغالي. اللي باع أبوه و قضيته و رمى نفسه في حضن أعدائي. عامل ايه؟
انمحت من عقله جميع ما درسه عن و تدرب عليه في ضبط النفس و التحكم بانفعالاته لتخرُج كلماته مُتلعثمة حين قال
أن. انت. انت لسه. لسه عايش؟
قهقهات مقيتة تُغلفها قسوة مُرعِبة تخللت لهجته على الرغم من سخرية كلماته حين قال
دا سؤال بردو؟ لسه معرفتش قدرات أبوك! ياخي عيب.
قست كلماته حين تابع بتوعد
ولا حتى الموت يقدر عليا، و خصوصًا أن لسه مخدتش تاري من الكلاب اللي محاوط نفسك بيهم.
تقاذفت دقاته داخل صدره قبل أن يقول بنبرة حاول جاهدًا جعلها ثابتة
عملت فيها ايه؟
«ناجي» بتهكم
بخير. متقلقش. مش هضيع فرصة اني اشوف الحسرة في عين سليم و أنا بقتلها قدامه.
كان قد انزوى بأحد الممرات وهو يهتف من بين إسنانه
اوعى تفكر تقربلها. انا اللي…
قاطعه «ناجي» بقسوة
انت تقرر دلوقتي اذا كنت معايا أو ضدي. شفت ابوك راجل حقاني ازاي؟
شعر بالأرض تميد به و لم يعرف ماذا عليه أن يفعل؟ فقد كاد أن يفقد عقله ليأتيه صوت «ناجي» القاسي
قدامك لحد الفجر. تقرر، ولو معايا يبقى تقابلني عند المكان بتاعنا.
صاح «هارون» حانقًا
انت بتقول ايه؟ انت اكيد اللي حصل دا أثر على عقلك! انا مش هروح في أي حتة، و هقول لسالم على كل حاجه.
بتكلم مين يا هارون؟
هكذا استفهم «مروان» بجفاء ليلتفت «هارون» بلهفة قبل أن يتحمحم بخفوت قائلًا
لا دي شيرين. كنت بطمنها. في جديد؟
«مروان» بجفاء
لا.
مرت الدقائق ك حوافر تدهس فوق قلوبهم دون رحمة. الجميع يُعاني الجميع خائف حتى اولئك الذي كانوا يجهلون حقيقة ما يحدُث لم تنجو قلوبهم من الألم و الخوف، ف الشعور السيء تفشى في صدور الجميع، والخوف من تحققه كان أسوأ ما في الأمر، فبعد أن اطمئن «سالم» أن حالة حازم مُستقرة و أنه يرقد بالعناية المُركزة لم يتوانى عن رؤيته حتى يطمئن قلبه ولو قليلًا لذا اقترب يُلثِم جبين شقيقه قبل أن يرفع رأسه يُطالعه بحنان تجلى في نبرته حين قال.
اوعى تمشي. قاوم عشان خاطري، و خليك فاكر ان ولاد الوزان مبيستسلموش.
توجه الرجال المزرعة بعد أن اهتم «سالم» بتأمين المشفى ليطمئن أن شقيقه بسلام ليُغادر و لأول مرة بحياته يتجمع بداخله كل هذا الغضب الذي جعل من ملامحه صورة حية للشيطان الذي خرج من محبسه ينوي الانتقام بأبشع صورة مُمكنة.
بسم الله أرقي نفسي من كلّ شيء يؤذيني، ومن شر كلّ نفس أو عين حاسد، بسم الله أرقي نفسي الله يشفيني، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلّا بالله، أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ويشفي مرضى المسلمين.
حانت لحظة الإختيار، و كأن الحياة تضعه في المنتصف بين قطارين إحداهما يحمل لائحة كُتِب عليها عذاب الحق و الآخر كُتِب عليه نيران الباطل، وهو مُجبر على الاختيار بين كليهما.
ابتسامة ساخرة لاحت على ملامحه، فقد اختارت الحياة بدلًا عنه لتجعله يستفيق وهو في أجمل لحظات حلمه بوجود والدته و شقيقتيه بجانبه على كابوس حقيقة انتمائه لذلك الرجُل، ولم تكتفي بذلك بل قيدته في قاع جحيم مُستعِر تأجج له صدره وهو يخطو كل خطوة تجاه ذلك المكان الذي يود لو يندثر من على خريطة هذا العالم الشاسع الذي شعر به يضيق من حوله، ولكنه أجبر نفسه على المُضي في دربه الوعِر الذي اختاره بكل ما أوتي من بأس.
فُتِحت البوابة الأمامية و توجه إلى الداخل و قد التقمت عينيه المكان الذي كان مُدججًا بالرجال و القناصات المُختبئه بخُبث في كل الزوايا تتحين الفُرصة للفتك بمن يُفكِر الاقتراب من هذا المكان.
كان المكان هادئًا حد الرُعب حل ما به يبعث على النفور رغمًا عن نظافته ولكن يكفي أن يكون مأوى الشيطان
نورت. كنت مُتأكد انك استحاله ه تخذلني.
ابتلع جمرات غضبه الحارق من كلمات «ناجي» المُستفزة و خاصةً حين أردف بجفاء
عشان انت مش زيهم و لا شبههم. انت شبهي انا بس انت اللي بتكابر
أخذ ينظُر إلى تلك البقعة المُظلمة التي تحجب ملامحه فقط جسده ليهتف بحنق
شبهك في ايه؟ انت مفيش حد شبهك، و لا يعرف حد يرقى شبهك.
صاح «ناجي» بغرور مريض
طبعًا. ناجي الوزان نسخة واحدة مش هتتكرر.
قاطعه «هارون» باحتقار.
دا من رحمة ربنا بينا. انت غلبت الشيطاين في شرهم. انت مش بس بتوسوس للناس انت كمان بتهيألهم كل فُرص الغلط، و لو ربنا هداهم بتجبرهم عليه.
قال جملته الأخيرة صارخًا فتقدم منه «ناجي» بخطوات بطيئة ليخرُج من ظلامه إلى ذلك النور الذي أبرز تشويهًا كبيرًا في وجهه ذو مظهر بشع تقشعر له الأبدان وقد شعر «هارون» بسوط جلدي يلسع جسده بقوة ولكنه حاول تدارك رد فعله بشق الأنفُس و خاصةً حين استمع الى كلمات «ناجي» المُحتقنة بسموم و كراهية لا حدود لها.
كويس انك عارف، و كويس أننا وصلنا للنقطه دي، و أظن انك شوفت بعينك انا اللي بنتصر في النهاية. عملوا المستحيل علشان يقضوا عليا، و معرفوش. بس النهاردة انا هخلص عليهم كلهم.
هتف «هارون» بنبرة جافة قاسية
جبتني هنا ليه؟
«ناجي» بشر
علشان اخيرك.
«هارون» باستنكار
تخيرني!
«ناجي» بجفاء
حياتك قصاد حياة امك و أخواتك!
«هارون» باندهاش
نعم!
«ناجي» بصرامة.
اختار.
هتف «هارون» بحنق
انت عارف كويس اوي اني هختارهم من غير تفكير. أنا عايز اعرف ايه اللي ورا الاختيارات دي.
«ناجي» باستمتاع
ذكي. طالع لأبوك.
لم تنمحي نظرات الغضب من عينيه ليقول «ناجي» بشر
بص وراك.
التفت «هارون» للخلف لتظهر شاشة كبيرة بعرض الحائط و ما أن ضغط على أحد الأزرار حتى برقت عينيه حين شاهد ذلك المشهد المُرعِب لعدد كبير من السيارات وجيش من رجال المُدججين بالأسلحة و ذخيرة تكفي لهدم ذلك المكان و جعله رمادًا.
التفت «هارون» بذعُر تجلى في نبرته حين قال
انت هتعمل ايه؟
سألتني ايه اللي ورا الاختيارات دي. وانا هقولك. تنقذ نفسك بأنك ترفض الطلب اللي هطلبه منك، و تنقذ امك و اخواتك بأنك تنفذ طلبي و اللي هو انك تغتصب البت مرات سليم.
بهتت ملامحه و برقت عينيه من هول ما سمعه و قد شعر في تلك اللحظة بأن عقله توقف عن العمل ليُتابِع «ناجي» بقسوة.
باين عليك لسه مفهمتش. ابسطلك الأمور. لو رفضت تنفذ طلبي هتخرج من هنا زي ما جيت بس على ما توصل هيكونوا امك و اخواتك بقوا بقايا بني آدمين. احتمال متلاقيش حاجه باقيه منهم تدفنها، و لو اختارت امك و اخواتك، و نفذت طلبي. هتخرج بردو من هنا على رجليك بس هتشوف الوش التاني لولاد الوزان اللي هيقطعوك بسنانهم. ها لسه مفهمتش!
شعر للحظات بأنه على وشك السقوط فقد سمع عن هذا الرجل ما يجعل الأبدان تنتفض ذُعرًا ولكن ما يُعايشه الآن معه تخطى حدود المعقول فهاهو يُضحي به بعد أن كان يُخبره بأنه فعل كل شيء لأجله
انت بتقول ايه؟ انت عايز تعمل فيا انا كدا؟
«ناجي» بسلاسة.
انا راجل حقاني يا هارون، و انت من البداية عارف قانوني. أنا عمري ما سامحت في الخيانة. مع إني اتخليت عن مبادئي عشان خاطرك و مردتش اخلص عليك بنفسي بسبب خيانتك ليا.
«هارون» بصدمة
انت ازاي كدا؟
«ناجي» بنفاذ صبر
بقولك ايه احنا رغينا كتير و انا صدعت قولي هتختار ايه؟
تجاهل «هارون» حديثه عمدًا و قال بصياح.
انت مفكر أن ولاد الوزان مش هيقدروا يوصلولك! سالم المرة دي ناوي يخلص عليك بنفسه.
«ناجي» بسخرية
وانا مش ممانع. يتفضلوا ينوروني و الشاطر يطلع من هنا سليم؟
تحرك «هارون» بعشوائية في المكان وهو يصيح بغضب
طبعًا ما انت مأمن نفسك. بس تفتكر الكام قناص اللي انت منطورهم في المكان دول هيخلصوا على مين ولا مين؟
«ناجي» بسخرية.
الكام قناص! كل برج في الأبراج دول فيه قناص عشرين برج محاوطين المكان مستنيين اي كلب يفكر يدخل عشان يصطادوه. انا مبسبش حاجه للحظ.
التعليقات