التخطي إلى المحتوى

الفصل السابع والأربعون]]

رواية 

•~•~•~•~•~•~•~•

“كُنت كبيتٍ من زُجاج رغب الجميع في تهشيمي كل الوقتٍ؛ بينما جاءتني الضربة الحقيقية من عُقر داري”.

•~•~•~•~•~•~•

ركضت مُسرعةً ما أن أبصرت باب المبنى الذي يقطن فيه أباها والسعادة تغمرها في حنينٍ للقياه، ابتسم بهدوءٍ وهو يتأكد من إغلاق سيارته ثم أسرع يتبعها داخل المبنى ليجدها قد أكلت درجات السلم ركضًا دون استراحة قصيرة حتى، رفع بصره فوجدها قد وصلت إلى الطابق المقصود ثم بدأت تنظر إليه من فوق سور الدرج وتقول بمرحٍ:

-اسرع شوية يا تليد!!

كان يحمل في كفيه أكياس الفاكهة بعد أن أصر على حملهم جميعًا، ابتسم ابتسامة مثابرة مسالمة إلى أن وصل إليها فوجدها تنظر إليه بعينين تلمعان بشغفٍ وتقول:

-تعرف إن بابا هينبسط بالعلبة دي أوي.. أصله بيحب الجاتوه.

اقترب “تليد” منها بعد أن وضع الأكياس بالأرض حتى يُفتح الباب لهم ثم وضع ذراعه حول كتفها وقال بنبرة هادئة:

-بالهنا والشفا.

اندفعت فورًا نحو باب الشقة ثم شرعت تطرق عليه طرقًا يخلو من الصبرٍ والانتظارٍ، وما هي إلا ثوانٍ حتى سمعت صوت “سُهير” يقترب من الباب وهي تقول متبرمة:

-لحظة ياللي على الباب.. هو إحنا قاعدين وراه؟

ضحكت “وَميض” ضحكة رقيقة  وهي تنتظر ظهور “سُهير” أمامها في حماسٍ كبيرٍ، لحظات وطلت “سهير” من وراء الباب تنظر إليهما في اندهاش لتُبعد “وَميض” العلبة بذراعها قليلًا ثم ترتمي بين ذراعي “سُهير” التي تهللت أسارير وجهها وهي تقول بفرحةٍ:

-حبيبتي يا بنتي.. وحشتيني أنا وأبوكِ أوي!

تشبثت “وَميض” بوالدتها ثم تابعت قاصدةً طرد تلك الأفكار التي تراودها حول تخليها عنهما لأنهما ليسا والديها الحقيقيين؛ فدعمت بكلمات حنونة مدى اشتياقها لهما:

-أنا اللي وحشني كلامكم معايا وقاعدتنا سوى ووحشني كُل ركن في البيت.. أمال فين بابا؟؟

ابتعدت “وَميض” عن ذراعي والدتها ثم تجاوزتها للداخل تبحث بعينيها عن والدها؛ بينما نظرت “سُهير” إليه نظرات خاوية لا تحمل أية معاني ثم تابعت على مضضٍ:

-اتفضل.

قامت “وَميض” بوضع الكعكة على الطاولة الموجودة بالصالة ثم هرولت صوب غرفة والدها تتفقد وجوده بها، تنحت “سُهير” جانبًا فمرَّ الأخير بخطوات متهادية إلى أن وضع الأكياس القابعة بين كفيه على الطاولة بجوار الكعكة ثم تحرك نحو الصالون وجلس مُباشرةً على الأريكة وسط نظرات “سُهير” المدققة فيه في نقمٍ استطاع التعرف عليه من خلال حدقتيها الحادتين، أراح ظهره على الكرسي واشغل نفسه بالاطلاع على آخر الأخبار بهاتفه وقراءة تعليقات الجمهور حول شخصية “الجندي الخفي” الذي تعتبر هويته غامضة لا يُكشف عنها حتى أقرب الناس له بعد أن حلفوا القسم لصون العهد وجعل شخصيته الحقيقية خفية حتى يفصح عنها بنفسه.

كان بين الفينة والأخرى ينظر إليها بطرف عينه فيجدها ترميه بنظرات ساخطة جعلته يُبعد الهاتف عن وجهه قليلًا ثم ينظر إليها مُباشرة وهو يقول بهدوءٍ:

-في حاجة يا مدام سهير؟؟؟

تنحنحت في حرج قبل أن تتلعثم وهي تسأله سؤالًا كام يتوقعه منها:

-عامل أيه إنتَ ووَميض مع بعض؟؟ 

اِفتر ثغره عن ابتسامة خفيفة تحمل بين طياتها سخرية القدر من سؤال يبدو طبيعيًا من أُمٍ بينما لا يبدو كذلك من شخصية كسُهير التي ترغب أن يُخبرها بوجود الكثير من المشاكل والعراك والأهوال بينه وزوجته؛ ولكنه لم يمنحها هذه الأمنية حينما قال بهدوءٍ:

-على عكس ما بتتمني، بس إحنا بفضل ربنا وكرمه في أحسن حال، مكملاني وروحي فيها.

كوَّرت “سُهير” شفتيها بضيقٍ شديدٍ قبل أن ترد مُحتجة بغيظٍ تكتمه:

-أنا بتمنى لبنتي السعادة الأبدية بس ليك إنتَ لأ.

خرجت ضحكة عريضة من بين شفتيه وقال يستفزها بثقة كبيرة:

-ولو قولت لك إن السعادة الأبدية بالنسبة لبنتك تبقى أنا، هتزعلي؟؟

حدقت فيه بنظرات كارهة بينما استكمل هو ببرودٍ:

-معلش، هتزعلي شوية بس هتتقبلي الموضوع بعدين.

في هذه اللحظة قطع همساته معها صوت “وَميض” التي تعلو ضحكتها بمرحٍ وهي تأتي مع “علَّام” من غرفته حاضنًا إياها بقوة، ركز “تليد” انتباهه مع سعادتها التلقائية بصحبة والدها تحديدًا، تحرك “علَّام” صوب “تليد” الذي نهض باحترام وتقدير لرجل كبير كعلَّام وفي خبيئة نفسه يشكره جَمًا لأنه كان سببًا في عودة غائبه إلى وطنه؛ عودتها إلى ديارها؛ عودتها إلى قلبه وداره بعد فقدان دام لزمن طويلٍ.

صافحه “تليد” بحرارة حتى أنهما ضما بعضهما تعبيرًا عن الشكر الخالص الذي يخرج من كُلِّ منهما تجاه الأخير؛ كانت “وَميض” سعيدة من هذه المُصافحة الحارة، جلس “علَّام” على الأريكة وجاورته “وَميض” التي التصقت به واستقرت بين ذراعيه تُشبع شعورها بفقده، طبطب على ظهرها برفقٍ أُبوي ناعمٍ ثم التفت إلى “تليد” وقال بهدوءٍ:

-عاملة أيه وَميض معاك؟؟ أتمنى تكونوا بخير وحياة زوجية مُباركة ويديم عليكم نعمة الحُب والمساندة لبعض.

أومأ “تليد” ثم قال بلهجة حزينة نوعًا ما:

-ممكن تكون فاكر إنِّي جايبها زيارة ليكم يا عمي بس الحقيقة إن حصلت مشكلة بيني وبينها وأنا جاي اشتكي لك.

قطب “علَّام” ما بين عينيه في قلقٍ؛ أثار كلامه دهشتها فابتعدت عن والدها فورًا وهي ترمقه بعينين متسعتين من الدهشة بينما ظهرت على شفتي “سُهير” ابتسامة بسيطة لم تفلح في اخفائها فلاحظها بكُل الوضوح قبل أن يلتفت ناظرًا إلى “علَّام” مرة أخرى والذي تابع بقلقٍ:

-ليه يا بني؟؟ خير إن شاء الله!!

كانت تحدق فيه وتُشير بأناملها إلى نفسها في دهشة؛ فيما تابع هو بصوت جادٍ رغم ما تفوه به توًا:

-من يوم جوازنا وكُل يومٍ مكرونة وبانية وبتقول لي من باب ادخال السرور على قلب مُسلم؛ وأنا كمُسلمٍ إدخال السرور على قلبي يتوقف على المحشي، أنتوا مش معلمينها تعمل محشي ولا أيه؟

ارتخت ملامح وجه “علَّام” وتحولت من القلق إلى الهدوء والسكينة ثم خرجت منه ضحكة بسيطة وقال:

-الكِذب خِيبة يا بني، هي مكانتش مُهتمة بالمطبخ خالص ولا فاضية له.

رفع أحد حاجبيه ثم رد بمزاحٍ ماكرٍ:

-كانت فاضية تكتب مقالات عني بس وتسمي نفسها زهرة الخشخاش.

مطت شفتيها ثم ردت بغيظٍ مكتومٍ:

-زهرة اللافندر على فكرة.

قطعت “سُهير” حديثهما وهي تنهض من مكانها ثم تقول بصوت مُقتضب:

-هقوم أعمل لكم حاجة تشربوها.

تحول “تليد” بنظراته إليه ثم قال بصوت حازمٍ:

-مش قادر أشرب حاجة يا مدام سهير.. تقدري تعملي لعمي ووَميض.

رمقته “وَميض” بنظرات ثاقبة تُحلل عبارته التي قالها للتو حتى فهمت المغزى منها؛ ألا هو عدم الشعور بالطمأنينة تجاه والدتها لدرجة ألا يتناول شيئًا من يدها خاصةً بعد الواقعة السابقة لها في بيته، تنحنحت “وَميض” قليلًا قبل أن تنهض مسرعة في مكانها ثم تقول بحسمٍ:

-تعالي يا ماما ارتاحي.. أنا اللي هعمل لنا حاجة نشربها وعارفة تليد بيحب أيه هقوم أعمله له.

أومأت “سهير” دون إطالة؛ فتوجهت الأخيرة صوب المطبخ وهي تتجول بعينيها في تفاصيل المكان الذي بقى على حاله منذ استقرارها في بيت الزوجية، دخلت المطبخ وتوجهت مُباشرةً إلى الغلاية الكهربائية فكبست زرها ثم مالت على أحد الأدراج والتقطت مجموعة من الأكواب بعددهم ثم وضعتهم على صينية مدورة، قررت أن تتسلى قليلًا فوضعت سماعة الأذن الموصلة بهاتفها تستمتع ببعض الأغنيات حتى انتهاء المشروب، بحثت بعينيها عن علبة السكر ولم تجدها فبدأت تدور في الأرجاء تبحث بحرصٍ دون فائدة فضمت شفتيها بيأسٍ حينما أبصرت العلبة على أحد الرفوف وكعادتها التي لا تعرف الاستسلام قررت أن تحصل عليها بنفسها فدارت بعينيها تبحث عن شيءٍ تقف عليه ولكنها لم تجد، زفرت في حنقٍ وبدأت تقف على أطراف أناملها وقد امتد بصرها ناحية الرف مع امتداد قامتها وذراعها في محاولة مستميتة للوصول إلى العلبة.

وفي لحظة اندماج وإصرار منعتها عن الشعور بقدومه إلى المطبخ، وجدت جسده يلتصق بها من الخلف حتى قدميه وضعهما أسفل كعبيها المرفوعين، شدَّ على خَصرها بكفيه ثم رفعها بليونة عن الأرض حتى لمس كفها العلبة فقامت بخطفها فورًا ثم أنزلها برفق للأرض مرة أخرى، تنحنحت في وتوترٍ فلاحظ هو رفوف جفونها من شدة الخجلٍ فأرغمها بكفيه على الاستدارة إليه رغم محاولتها الهرب من عينيه ثم التقت عيناها بعينيه فوجدت ابتسامة متلذذة في انبساط على شفتيه ثم قال بنبرة هامسة:

-مفيش شُكرًا!!

عضت شِفتها السُفلى في ارتباكٍ قبل أن تُحتبس الكلمات في حلقها وتخرج على هيئة هسيس:

-شُكرًا.

قام بمُحاصرة وجهها بين كفيه ثم مال على أنفها وقبَّلها بأطراف شفتيه وهو يقول بعشقٍ ولهٍ:

-ظاهرة كسوف القمر كما يجب أن تكون.

تخضبت وِجنتاها فأكمل وهو يبتعد قليلًا ثم يدقق النظر في ملامحها الخطيرة بالنسبة له:

-دي ظاهرة أول مرة تحصل في قلبي، لازم أصورها!!

خرجت ضحكة خجِلة من فمها حينما استشعرت تغزله فيها بينما أخرج هاتفه من جيبه فورًا ثم جذبها إليه ووضع الهاتف أمام وجهيهما مُلتقطًا صورة مُميزة لهما معًا؛ وكانت هذه الصورة الأولى التي تعرف فيها على شكل قلبه مُتجسدًا أمام عينيه، انتهى من التقاط الصورة فأسرعت هي نحو الأكواب وبدأت تضع داخلها السكر هربًا من اخجاله لها وبينما هي مُندمجةً أو تبدي ذلك وقف بجوارها ثم جذب إحدى سماعات أذنيها ووضعها داخل أذنه وهو يقول بتساؤل:

-بتسمعي أيه بقى؟؟؟

لم ينتظر جوابها فأسرع بدفع السماعة بعيدًا عن أذنيه وهو يقول بعبُوسٍ خفيف:

-بتسمعي أغاني!!

رفعت أحد حاجبيها ثم تابعت بتبرمٍ وهي تنتقل محو الغلاية الكهربائية التي أنذرتها بانتهاء الغليان:

-دي بردو أبطلها؟؟

تنهد بعُمقٍ قبل أن يتابع في هدوءٍ:

-أنا مقولتش دا.. عامةً إنتِ هتبطليها.. بس بالتدريج لأني مينفعش أجي فجأة كدا أجبرك تبطلي حاجة طول عُمرك بتعمليها.. هيكون الموضوع صعب وشبه مُستحيل واحتمال تكرهيني.

سكت هنيهة ثم أضاف بمرونة وتروي:

-السموم اللي بتدخل أجسامنا مش بتخرج منها بسهولة؛ دي محتاجة علاج وأيام وصبر.. وأنا وقلبي صابرين ورزقي ورزقه على الله.

سكبت الماء بداخل الأكواب ثم أومأت في صمتٍ وهي تتجه إلى الثلاجة، فتحتها ثم بحثت فيها عن ليمونة وما أن التقطت واحدة حتى اتجهت إلى الأكواب مرة أخرى بعد أن التقطت السكين ثم جزأتها إلى شرائح ووضعتهم فوق كوب الشاي الخاص به، حملت الصينية بين كفيها ثم تابعت بهدوءٍ:

-شُكرًا إنك فاهم إن الموضوع خارج إرادتي.

ابتسم لها بهدوءٍ ثم تحركا إلى الصالون مرة أخرى وهنا تكلم “علَّام” حينما وضعت ابنته الشاي على الطاولة وأخذت مجلسها هي وزوجها:

-أنا بقول تباتوا معانا النهاردة، دي زيارة مش بتحصل كل يومٍ؟؟

تهللت وجهها ولكنها لم تبدي قبولها أو رفضها حتى التفتت إليه ورمقته بنظرات متوسلة جعلته يبتسم قائلًا في ثباتٍ:

-لو دا هيفرحها.. مفيش مشكلة نِبات.

ابتهجت ملامح “علَّام” الذي استرسل في حديثه مع “تليد” في اندماج وتقارب؛ فكانت تنظر إليهما كأُمنية تحققت من بعد إلحاحٍ؛ أب وزوج يتفاهمان يتشاركان في حُبها بمشاعرٍ صادقةٍ نحوها، وسط انغماس الرجلين في الحديث ضغطت “سُهير” على ذراع ابنتها فحثتها بإشارة من عينيها على تتبعها ففعلت الأخيرة.

استبقتها إلى الغرفة فلحقت بها “وَميض” فوجدتها تروح وتأتي تفرك كفيها بقلقٍ، زوت ما بين عينيها ثم تساءلت بتوجسٍ:

-مالك يا ماما؟؟ في حاجة؟؟

تنحنحت قليلًا قبل أن تسأل بنبرة سادرة:

-حساكِ مش مبسوطة يا بنتي.. كلامي كان في محله؟ لو حاسة إنه خطر على حياتك إحنا ممكن نبلغ أبوكِ.. اوعي يكون بيأذيكِ يا وَميض أو بيجبرك على حاجة؟؟

أومأت نافيةً ما يجول بخاطرها من هواجس لعينة فأسرعت تقبض على كفي الأخيرة ثم تقول بثبات:

-مفيش أي حاجة من الكلام دا يا ماما ولا في داعي لقلقك عليا.. أنا وتليد مبسوطين مع بعض وحياتنا ماشية كويسة وهو مُستحيل يجبرني على حاجة.

صمتت لثوانٍ ثم أكملت بصوت خافتٍ:

-أنا كمان حبيته أوي لدرجة إني مش ندمانة على جوازي منه.

زوت “سُهير” ما بين عينيها في استنكار ثم رددت:

-إنتِ حبيتي تليد؟؟ لا لا مش مصدقاكِ.. دا إنتِ كُنتِ تطيقي العمى ولا تطيقيه.

وَميض بنبرة أكثر ثباتًا تردف:

-كُنت، في الوقت الحالي، أنا بحبه وإن شاء الله مشاعري تكمل للمستقبل وللنهاية.

عضت “سُهير” شِفتها السُفلى قبل أن تتساءل بامتعاضٍ ونبرة ذات مغزى:

-أنا كُنت فاكرة إنك يستحيل تسلمي له نفسك يا وَميض؟؟ إنتِ بجد استجابتي لرغبته وحصل بينكم حاجة؟؟

رأرأت مُقلتيها قليلًا في توترٍ وذهولٍ من سؤال والدتها الجريء، تنحنحت تستعيد ثباتها وهي تقول بلهجة ثابتة:

-أه طبعًا حصل لأنه جوزي.. يمكن كُنت شيفاه مُخيف بس دا مش ذنبه دي أوهامي المريضة وقتها.

رفعت كفيها إلى وجه الأخيرة وقالت بلين:

-ماما أنا بحب تليد وأهو إنتِ شايفة بنفسك إنه مش حارمني منكم ولا عنده نية يبعدنا عن بعض، لو سمحتي حبيه زيّ ما أنا بحبه!!

تدبرت ابتسامة خافتة لم تصل إلى عينيها وقالت بهمسٍ:

-ربنا يسعدك.

لم تقتنع “وَميض” بقبولها البادي على صفحة وجهها الباهتة، ولكنها بادلتها ابتسامة خفيفة وخرجت على الفور، جاءت بعدها “سُهير” التي تظاهرت بشعورها بالدوار والإنهاك واستأذنت منهم للخلود إلى النوم، ظلت الدردشة مُستمرةً بين علَّام ونسيبه إلى أن اجتاح النعس عيني “علَّام” فاستأذن منهم على مضضٍ متمنيًا لو يجلس أكثر من ذلك ولكن النوم سُلطان يأمره، توجهت “وَميض” إلى غرفتها التي لم يتغير بها شيءٌ وقرر تليد” إجراء مكالمة سريعة ثم اللحاق بها.

لحظات وقام بفتح باب الغرفة وهو يمد ذراعه أمامه ويكور كفه فبدا كأنه قابضًا على شيءٍ ما إلى أن وصل إليها فأشار لها بعينيه إلى قبضته، اسبلت عينيها لوهلة في محاولة لفهم ما يريد ثم قررت في النهاية أن تكور كفها في شكل قبضة وتصدمها بخاصته وما أن فعلت ذلك حتى أبسط كفه فظهرت ورقة عليه، نظرت للورقة باستغرابٍ ثم أسرعت بالتقاطها وفتحها في فضولٍ وما أن نظرت داخلها حتى رددت بخفوتٍ:

-«اللهم إني أستغفرك لكل ذنب يعقب الحسرة، ويورث الندامة ويحبس الرزق ويرد الدعاء، اللهم إني أستغفرك من كل ذنب تبت منه ثم عدت إليه، وأستغفرك من النعم التي أنعمت بها عليَّ فاستعنت بها على معاصيك، وأستغفرك من الذنوب التي لا يطلع عليها أحدٌ سواك ولا ينجيني منها أحدٌ غيرك ولا يسعها إلا حلمك وكرمك ولا ينجيني منها إلا عفوك».

قرأتها في هدوءٍ احتله حيرة من تصرفه الذي يحتاج إلى تفسير، بينما تابع “تليد” بنبرة لينة:

-قولي الذكر أكتر من مرة.. هيكون مُفيد ليكِ.

رفعت رأسها إليه بعد قراءتها للذِكر أكثر من مرة فطالعته بعينين مسالمتين قبل أن يجلس بجوارها فورًا مُداعبًا بطرف إصبعه أرنبة أنفها ثم قال باستطرادٍ:

-هعلمك فكرة حلوة أوي.. طبعًا كُلنا بنعمل ذنوب ومفيش حد معصوم منها.. بس أيه رأيك بعد ما تعملي الذنب تقضي عليه بالأذكار؟؟؟.. أنا شخصيًا بطبق الفكرة دي.. يعني أحيانًا بقول لفظ مش في محله أو بتصرف غلط من غير ما أقصد بس بسرعة بقول أي ذِكر ييجي في بالي ولو طولت أقولهم كلهم بقول.

سكت هنيهة ثم أضاف بتنهيدة عميقة:

-من باب تنفيذ وصية رسول الله في حديثه “وأتبع السيئة الحسنة تمحها”.

ابتسمت في انصاتٍ وإعجاب شديدين وما أن استوعبت ما يرمي إليه قالت بتفهم:

-يعني لمَّا أسمع أغاني زيّ ما حصل من شوية أتبع دا بحسنة تمحي الذنب اللي عملته صح؟؟

أومأ في دعم ثم قال بحزمٍ:

-وتكرري دا لحد ربنا ما ينزع حُب الذنب دا من قلبك ويتوب عليكِ منه.

اعتدلت في استقامة وهي تجلس في الفراش ثم تربعت وراحت تفرك كفيها ببعضهما ثم تقول بصوت متلعثم قليلًا:

-تليد.. أنا عايزة أقول لك حاجة.. أو أعترف لك بحاجة.

توجه بانتباهه كُله إليها في انصاتٍ، فتنحنحت عدة مرات قبل أن تقول بملامح مرتخية رغم كسوها بحُمرة الخجل:

-أنا كُنت بقول عليك إرهابي وكُنت فاكرة إن حياتي انتهت بجوازي منك.

توقفت لوهلة ثم استكملت بنبرة مُتحشرجة:

-أنا آسفة كُنت فكراك “سِجِّين”.. بس إنتَ.. إنتَ لين.. كُل اللين.

بدأت تبتلع ريقها على مهلٍ حينما استشعرت اشراقة وجهه إثر كلماتها ولكنها لم تتراجع وهي تتابع بنعومة:

-لين أي بنت تتمناه في شريك حياتها.. وللمرة الأولى بعترف لك.. أيوة أنا كُنت غلط.. أيوة أنا محظوظة بيك.

انفرجت أسارير وجهه بانتصارٍ لاستطاعته كسب قلبها ففتح ذراعيه لها فاندفعت إليه تسكن بينهما وهي للمرة الأولى تُغلق عينيها وتسمح لمشاعرها أن تنتصر عليها، أخذت نفسًا عميقًا اختلط بالمِسك المُتشبث بجلده في استرخاء وسكون، ظلا هكذا للحظات حتى تابع “تليد” وهو يجذبها معه كي تميل متسطحةً على الفراش حتى نام هو ووضع رأسها على صدره:

-أنا بقول بقى إننا ننام ونخلي الاعتراف اللذيذ دا أكتر أمل نصبح بيه على خير.

ضحكت بغنج ورقة، لحظات ونزل بعينيه إليها يرمقها بطرف عينه ثم يقول:

-قومي يلا اقفلي النور وتعالي تاني.

زمت شفتيها بامتعاضٍ وردت:

-لأ أنا مكسلة قوم إنتَ.

رفع أحد حاجبيه ثم تابع بضحكة مازحة:

-خلاص إحنا ننادي على أبوكِ ييجي يقفل لنا النور.

ضحكت ملء شدقها وفي النهاية تنازلت عن سُكناها على صدره وتوجهت نحو المقبس فأغلقته ثم عاد إلى مكانها مرة أخرى، كانت تتابع وتيرة أنفاسه المتهادية قبل أن يتابع بهمسٍ:

-أيه رأيك احكي لك حدوتة؟؟

تنحنحت بمكرٍ ثم أجابته:

-طب أيه رأيك تحكي لي حاجة تانية وبصراحة؟؟

قطب جبينه وسألها بفضولٍ:

-عايزة تعرفي أيه؟؟

ضغطت شِفتها السُفلى في توترٍ قبل أن تُصرح له بأمر يُزعجها ويأخذ حيزًا كبيرًا من تفكيرها، دام صمتها للحظات قبل أن تتابع بصوت مخنوقٍ:

-تليد أنا بعتذر لك لأن اليوم اللي قولت لي فيه إنك هتعمل مكالمة تليفون في المزرعة أنا مشيت وراك لمَّا حسيت إنك متضايق!!

نزل بعينيه إلى عينيها المرفوعة نحوه، رمقها بطرفه في صمتٍ وقد فهم التالي في كلامها فتابعت هي بصوت أكثر ضيقًا:

-تليد أنا شوفتك واقف مع نجلا ومكنتش بتتكلم في الفون زي ما قولت؟؟ ليه كذبت عليا؟ مقولتش ليه إنك خارج تتكلم مع نجلا؟؟ وليه أصلًا تيجي لحد المزرعة في وقت متأخر زيّ دا؟؟

همَّ أن يتكلم فوضعت إصبعها على شفتيه برجاءٍ وأكملت:

-أنا شوفت الخلاف اللي حصل بينكم رغم إني مسمعتش حاجة، بس شوفتها بتنهار على الأرض وإنتَ حطيت ورقة في جيبك وسيبتها ومشيت.

سكتت هنيهة ثم أضافت:

-أنا كمان فضولي خلاني أشوف اللي جوا الورقة؟؟ كان تحليل حمض نووي لنجلا مع عينة تانية بدون اسم؟

ابتعدت عنه فورًا ثم جلست في مكانها وهي تضغط على كفيها معًا وقد ظهر الحُزن والضيق على صفحة وجهها بشكل ملحوظٍ، اعتدل هو الآخر وبدأ يدعك جبينه في ارتباكٍ رغم محاولته على الثبات لتتفوه “وَميض” بمشاعرٍ فاترة منكسرة:

-تليد ممكن تقول لي أيه اللي بيحصل بينك وبينها بالظبط؟؟ أنا ما بحبش الست دي أبدًا!!

-ليه ما بتحبيهاش؟؟؟

لا يعلم لماذا صاح مُرددًا سؤالًا كهذا؟، هل لأن ما يخفيه عنها يتنافى تمامًا مع مشاعرها الكارهة للمرأة؟؟ فلو كانت تحبها ربما كانت الحقيقة أسهل على نفسها ورغم نقمه الشديد على “نجلا” إلا أنه عليه أن يدافع عنها أمام “وَميض” ويبث في نفسها حُبًا للأخيرة حتى يجعلها مُهيأةً لحقيقة ستعلمها مهما طال اخفائها.

التوى شدقها ورددت بحنقٍ:

-من غير سبب، ولأول مرة أكره حد من غير سبب أو يمكن علشان هي غامضة شوية!!

تنحنح بخشونة وهو يربت على كفها ويقول بتمهلٍ:

-طيب ما تجربي تحبيها وهيكون عندك السبب، يعني إنها ودودة معانا وعُمرنا ما شوفنا منها حاجة وحشة، زائد إنها ست مسؤولة عن عيلة كبيرة من بعد وفاة جوزها فطبيعي تكون شخص مهموم وغامض.

رمقتهُ بطرف عينيها وتساءلت مُجددًا بإصرار:

-والتحليل؟؟ وأيه علاقته بيك؟؟

أومأ يتفهم مخاوفها قبل أن يلتقط كفيها بين راحتيه ويقول بلهجة ثابتة نافيةً لمخاوفها:

-نجلا ست مُحترمة جدًا.. ست دُغري وصريحة.. الكلام دا بقوله علشان ندي لكُل واحد حقه.. أما بالنسبة للتحليل.. نجلا عندها بنت من جوزها الأول وكانت غايبة عنها ولمَّا رجعت لها كانت عايزة تتأكد إنها فعلًا بنتها فلجأت لي أساعدها في دا وهل التحليل حقيقي ولا ملعوب فيه.

ضوى بريق عينيها بأملٍ جديدٍ وتهللت أسارير وجهها ولكنها أطرقت تحاول إخفاء فرحتها وهي تقول بصوت خافتٍ:

-وطلعت بنتها فعلًا!!

تليد وهو يتنهد بعُمقٍ ثم يبتسم ابتسامة مُجاملة رغم بهوتها:

-طلعت بنتها.

•~•~•~•~•~•

تقدمت “نجلا” بخطوات مُتهادية نحوها وما أن وقفت أمامها حتى رفعت “سكون” عينيها إلى الأخيرة واحتدت النظرات بينهما لبعض الوقتٍ قبل أن تجلس “نجلا” على ساقيها أمام الأخيرة وتقول بصوت مخنوقٍ يتردد متخبطًا بين ثنايا قلبها المكلوم:

-لو عايزة تعرفي الحقايق وتتحري عنها، أنا معاكِ وهعرفك.. عايزة بقى تغمي عينك وتسدي ودنك عن الحقيقة أنا هحترم دا بردو بس مش مسامحة وقتيلة حقي من عثمان ومش مسامحاكِ لو طلعتي بنتي ورفضتي وصولي ليكِ وأنا اللي كُنت مُجبرة على فراقك!!

حدقت فيها بجحوظٍ ثم زعقت بها في استنكارٍ:

-بنتك؟؟ أنا أمي موجودة على فكرة، ومش فاهمة إزاي شوفتيني هي؟؟

أشارت “نجلا” بسبابتها نحو قلبها ثم ردت بثبات ورباطة جأشٍ:

-قلبي.. عُمرك سمعتي عن أحاسيس الأُم اللي بتحس وبتعرف ضناها بالاستشعار والفطرة؟؟

نزلت “سكون” بنظراتها إلى سبابة “نجلا” المسيرة إلى قلبها وتابعت مُتساءلة في حيرة:

-وليه أنا مش شروق؟؟ وليه مش واحدة تانية غيرنا إحنا الاتنين؟؟

تنهدت بقوة وهي تتابع بمرارة غصَّت قلبها:

-علشان إنتِ الوحيدة من بنات عثمان اللي في عُمر بنتي الفعلي.

تساءلت “سكون” بفضولٍ رهيبٍ:

-ليه هي المفروض يبقى عندها كام سنة؟؟

نجلا بابتسامة ثابتة:

-واحد وعشرين، مش إنتِ بردو في نفس العُمر دا؟؟  

ابتلعت “سكون” غِصَّة مريرة مرت عبر حلقها، توترت ملامحها بوضوحٍ وتخبطت أنفاسها في صعود وسكون يشتدان بإخفاق، بينما استكملت “نجلا” حديثها بتساؤل مُهتم للإجابة أيًا كانت:

-ها؟ قرارك أيه؟؟

رمقتها “سكون” بنظرات مُرتابة وداخلها يرفض الرضوخ لهذه الحقائق التي لم تفصح عنها الأخرى بعد، خشيت أن تكون هذه كلها ادعاءات لتحطيم ميثاق العائلة في عينيها والسيطرة على عقلها وبث الشك في نفسها ولكنها في النهاية قررت أن تنصت برغبتها وإن لم يُعجبها ما ستقوله ستُقرر فورًا إنهاء النقاش والذهاب فورًا، تحولت بنظراتها إلى “كاسب” الذي وقف بجوارها كي يبث بعض الطمأنينة إلى نفسها فوجدته يومىء برأسه أن تتروى، فالتفتت بحسمٍ نحو نجلا مرة أخرى وقالت:

-تمام.. سمعاكِ!!.

تنفست “نجلا” الصعداء بقوة رهيبة قبل أن تلتقط هاتفها من داخل جيبها ثم تبحث فيه عن تسجيلات “عثمان” الصوتية والمرئية، ابتسمت في ظفرٍ ما أن وجدتهم قد أضحوا بحوزتها فضغطت زر التشغيل وهي تجلس أمام “سكون” مُباشرةً ثم قربت الهاتف من أذنها وقالت بلهجة حازمة:

-اسمعي دا وبعدين نتكلم.

ساد الصمتُ الأجواء تمامًا ولم يكُن يوجد سوى صوت “عثمان” الذي يخرج من الهاتف أثناء حديثه مع أحد عماله بشأن الحيوانات الميتة بفعل مرض ما وقراره في استخدامها كسلعٍ للمستهلك، انفتح فمها على آخره في صدمةٍ كاسحةٍ لصورة والدها المثالية التي تتلاشى رويدًا ومع الوقت فأسرعت بالتقاط الهاتف منها ثم نظرت إلى صورة والدها؛ فكان هو فعلًا ويبدو أن من سجل هذا المقطع كان يرغب في الفتك بأبيها وإظهار حقيقته المنفرة فظهر في المقطع بصورة مهزوزة ومقلوبة حتى يتمكن المُسجِل أو الفاعل من أخذ هذا المقطع كدليلٍ ماحقٍ ضده.

لم تتمالك أعصابها فبدأت ترتجف رغمًا عنها وهي تدفع بالهاتف بعيدًا عنها ورغم غضب “نجلا” المتأجج كلما سمعت صوته إلا أنها أسرعت بإغلاق المقطع ثم اهتمت كثيرًا لأمرها، قربت كفها من رأس الأخيرة وبدأت تمسح على خصلات “سكون” في محاولة لتهدئتها وهي تقول بصوت خافتٍ لين:

 -اهدي.. ممكن؟؟

مال “كاسب” بسرعة إليها ثم التقط كفيها يمسد عليهما بأطراف أصابعه وبنبرة مخنوقة أردف يحدثها بهدوءٍ:

-سكون، لازم تواجهي الحقيقة حتى لو كانت مُرَّة لأن الأمر من معرفة الحقيقة التغافل عنها، علشان خاطر عُمر لازم تكوني أقوى!!

اِفتر ثغر “نجلا” عن ابتسامة هزلية وهي تسألها سؤال ذا مغزى بعيد جدًا:

-مسألتيش نفسك يا سكون ليه عثمان مش بيحب عُمر؟؟

رفع بصره إليها فورًا ورماها بنظرات نارية مُحذرة حينما استرعى السؤال انتباه “سكون” التي زوت ما بين عينيها تنتظر إجابة الأخيرة حول سؤالها كما أنها استطاعت رؤية نظراته الشرسة المصوبة نحو “نجلا” والتي منعتها من استكمال حديثها بشأن هذا السؤال وغيرت مجرى كلامها وهي تتابع بصوت هادئ:

-هبدأ احكي لك من يوم الولادة.

طفقت تروي لها القصة بأكملها من لحظة تعدي “عثمان” عليها واكتشاف حملها مرورًا بموت والدها كمدًا على حالها وما يقوله الناس في حقها وحقه ثم تطليق زوجها المسافر لها وانقطاع أخباره تمامًا وحتى لحظة الولادة، تحشرجت كلماتها في هذه اللحظة وكأن ألمها وقتئذٍ مازال نابضًا بين أعماقها وكأن الوقت لم يمر عليه، اِغرورقت عيناها بدموعٍ ساخنة وهي تستحضر ذكريات تلك الأيام التي ذهبت روحها بذهابها ولا تتمناها لأشد أعدائها حتى.. تتمناها له فقط.

صرخت بهلعٍ حينما اجتاحها ألمُ المخاض وفاجأها ليلًا وهي تنام محتضنةً طفليها اللذين بكيا من شدة الجوع حتى ناما؛ انشطر قلبها نصفين عليهما فلم تعد قادرةً على العمل الذي بالكاد تحصل عليه من أجل إشباع بطنيهما، صرخات مدوية خرجت من فمها فاستيقظ الطفلين بهلعٍ أرجف أطرافهما وأبكاهما، بدأ العرق يتصبب من جبينها وهي تحاول أن تستند على طاولة بمنتصف الغرفة حتى تتمكن من النهوض وطلب العون من الجيران، لم تقوَ على ذلك فهرول الصغير الذي أدرك حاجتها للمساعدة إلى بيت الجيران يدق أبوابهم في ذُعرٍ واستجداءٍ لإنقاذ حياة والدته التي استحال لون وجهها وازرق بشدة، جاءت معه صديقتها التي تقطن بجوار بيتها مُباشرةً والتي تعمل مُمرضةً بإحدى المستشفيات العامة، هرولت مسرعةً معه وما أن أبصرتها حتى صاحت بفزعٍ:

-نجلا، إنتِ بتولدي.

أومأت بالإيجاب وهي تكتم صرخاتها داخلها فتخرج في صورة وجه محتقن بالحُمرة من شدة الكبت والألم، أسرعت إليها تعاونها على النهوض ثم احتضنتها من خصرها وهرولت بها نحو الباب وهي تقول بأنفاس متقطعة:

-خليك إنتَ هنا يا يحيى وخلي بالك من أختك لحد ما نجيب النونو ونرجع!!

ترقرقت عينيه بالدموع ولكنه تماسك شاعرًا بالمسؤولية وهو يومىء برأسه في تفهم ثم هرول إلى شقيقته الصغرى وضمها إلى صدره وقرر أن يجلس في سكونٍ ينتظر عودة أمه بشقيقته الجديدة، التفت بعينيه نحو الطاولة فوجد الحقيبة التي أعدتها نجلا من أجل استقبال الصغيرة مازالت في مكانها وقد نسيت أخذها، وضع رأس شقيقته على المخدة مرة أخرى ثم التقط الحقيبة وهروب خلفهما وهو يقول بأنفاس متصاعدة ما أن أبصرهما يتحركان بعيدًا:

-أمي؟؟ نسيتي الشنطة!!!

ركض بكُل ما أوتي من قوة ولكنه لم يلحق بهما حيث ركبتا سيارة الأُجرة قبل وصوله إليهما، عاد إلى البيت بمشاعرٍ حزينة متخاذلة وكل همه في هذه اللحظة هو ما الذي سترتديه المولودة حينما تخرج من بطن أمه؟

جذبتها من ذراعه فورًا ما أن اوصلتهما السيارة أمام المشفى بينما كانت تصرخ “نجلا” بصوت مكتومٍ من داخلها، مدَّت الصديقة يدها بالنقود إلى السائق ثم تابعت بنبرة مُتلعثمة مُعتذرة:

-أنا مش معايا غير دول!

نظر السائق لحالة المرأة التي على وشك الوضع ثم تابع بهدوءٍ دون أن يمد يده ويلتقط النقود:

-وأنا مسامح، خليهم معاكِ للظروف.

رمقته بنظرة مُمتنة قبل أن تهرول بها إلى ممر الطوارئ ثم تصرخ في زملائها بتوترٍ كبيرٍ:

-خدوها بسرعة أوضة العمليات علشان بتولد وأنا هكلمك دكتور محمد.

وضعتها المُمرضات على كُرسي متحركِ يُستخدم للمرضى ثم انطلقوا بها إلى غرفة العمليات بينما أسرعت الصديقة إلى غرفة الطبيب وأبلغته بوجود حالة فقيرة توشك أن تلد وتحتاج مساعدته الفورية فقبل فورًا طلبها لكونها مُمرضة ناجحة ومتفانية في عملها، تحرك على عجلٍ إلى غرفة العمليات ليُخضعها إلى ولادة مستعجلة، كانت تود كثيرًا أن تخضع لعملية ولادة طبيعية ولكن الأمر لم يتم وفي محاولة لإنقاذ الجنين خضعت “نجلا” لعملية ولادة قيصرية، شُقت بطنها للمرة الأولى وتركت علامة لا تزال باقية لم تُرمس وانشطرت روحها في هذه اللحظة إلى نصفين؛ نِصف بقى مع صِغارها بالبيت ونصف رحل مع وليدتها الغائبة والتي أقسمت على استردادها يومًا ما فلم وإن تُشق طبقات بطنها هباءً.

في هذه اللحظة خرجت الصغيرة تبكي فطلب الطبيب بعد أن أجرى لها اللازم أن تؤخذ إلى الحضانة لعدم انتظام أنفاسها التي تروح وتأتي في تقطع، أخذتها الممرضة وأودعتها هناك وانتقلت “نجلا” إلى غُرفة عادية وظلت نائمةً حتى استيقظت في صباح اليوم التالي على صرخات صديقتها تأتي من الخارج حينما ذهبت لتفقد الصغيرة ولم تجدها، فهرولت مذعورة بين الممرضين والعاملين بالمشفى تسأل كل واحد على حدى إن كان قد رأى الصغيرة بحوزة شخص ما؟؟ هرولت إلى ساحة الاستقبال بالمستشفى تنظر في الوجوه بتيه وحُزن ولفت انتباهها في هذه اللحظة وجه ذلك الحقير وهو يهرول خارج باب المستشفى مُسرعًا حاملًا بين ذراعيه الفتاة!!

صرخت بقوة وهي تهرول نحوه ولكنه أسرع بركوب سيارته مغادرًا المكان على الفور ولم يلاحظ رؤيتها له وإلا كان قد قتلها وانتهى!

استيقظت “نجلا” على صوت بكاء صديقتها بالخارج فحاولت أن تنادي عليها ولكن الألم يشتد بها كلما حاولت تحريك فمها حتى، سقطت دمعة من طرفي عينيها أثناء نومها وقلبها يُخبرها أنه الفراق قبل أن تدخل صديقتها وتقول بصوت باكٍ مُتحشرجٍ:

-عُثمان خطف البت يا نجلا.. أنا شوفته بعيني!!

لم تعي على نفسها وماذا تفعل؟ فقد سيطر عليها العجز ووقع عليها الخبر كالصاعقة فأخذت تصرخ وتصرخ صراخًا هستيريًا يطابق مؤشرات توحي بفقدان عقلها تمامًا، هرولت الصديقة إليها ثم صرخت ببكاء متهدجٍ:

-اهدي يا نجلا.. علشان خاطري اهدي.. جرحك هيفتح ودا خطر على  حياتك؟؟

لم تُنصت لها فحدث ما تنبأت به تمامًا، بدأ نزيفها يشتد وتدفقت الدماء بغزارة منها وانفتح الجرح بشكل مُدمرٍ سيءٍ، فتم نقلها إلى غرفة العمليات مرة ثانية وتخييط جُرحها الدامي ومن شدة ما عانته من آلام نفسية وجسدية لم تتحملها وعدم قبولها واقع سرقة صغيرتها دخلت في غيبوبة كانت فيها طريحة الفراش لمُدة أسبوعين ثم استيقظت بشخصية أُخرى كمن مَسَّه الشيطان وزال عقله تمامًا ولم يعُد يعي من حوله شيئًا، كانت تبدو مُخيفةً وغريبةً تهمس بينها وبين نفسها وتتجنب الحديث مع الناس وحينما يوجه لها أحدُ الحديث ترتجف وتنكمش على نفسها في ذُعرٍ، حاولت صديقتها تقديم يد المساعدة لها فعرضتها على طبيب أوعز حالتها إلى اكتئاب ما بعد الولادة ممتزجًا بالأحوال النفسية والعصيبة التي مرَّت بها فقد أطلعته الصديقة على تجربتها المريرة من أجل التشخيص السليم، رق قلب الطبيب لمُعاناتها واعطى الصديقة ورقة دُون عليها عناوينه وأرقام هواتفه إن احتاجوه يومًا، عادت “نجلا” إلى البيت مرة أخرى وكلما يسألها الصغير عن صغيرتها ترمقه شزرًا بلا وعي؛ قلم تكُن تعتني بهم ولا ويغيب عن عقلها للحظات حتى من هم؟؟ ومَنْ هي؟ حتى جاء ذلك اليوم الذي قسمها نصفين ودمر ما بقي لها في الحياة كي تعيشها لهم، ظلت الصغيرة تبكي بلا توقف بينما لا تُبالي “نجلا” بها عن غير قصدٍ حيث جلست تجمع ساقيها إلى صدرها بجوار باب البيت تهمس لنفسها بهسيس لا يسمعه غيرها فجاءها الصغير مهرولًا باكيًا:

-أمي؟؟ أختي جعانة وعايزة تاكل؟؟

لم تنظر إليه حتى وبقيت تهز جسدها في صمتٍ؛ فصاح الصغير ببكاء أعلى:

-أمي؟؟؟

التفتت إليه في هدوءٍ ثم سقطت دموعها وهي تقول بهدوءٍ لا يليق بالموقف:

-مفيش أكل.

كانت الصديقة تمر عليهم بيت الحين والآخر وتترك لهم ما تستطيع جلبه من الطعام حتى تستعيد “نجلا” نفسها وعقلها المُشتت ولكنها في هذا اليوم لم تأتِ، نهضت “نجلا” من مكانها كإنسانٍ آلي يتحرك دون روحٍ ولا عقل، اتجهت إلى الصغيرة ترفعها إلى حُضنها تشم رائحتها بعُمقٍ قبل أن تلتفت إلى الصغير وتمد ذراعها له، تشبث “يحيى” بكفها فتحركت بهما خارج البيت وقد كان الليل قد عشش وانتهي الناس من صلاة العشاء بالمسجد والتزموا بيوتهم؛ فهذه هي حياة القرية تجد الشوارع خالية تمامًا في فترة معينة من الوقت وبالأخص مع حلول الليل حتى وإن كان في أوله، رفع الصغير بصره إليها وقال بتساؤل برئ:

-أمي إحنا رايحين فين؟؟؟

نظرت إليه دون رد ثم استكملت طريقها، كانت تمشي في الشوارع هائمة على وجهها لا تعرف أين تذهب ولا يخدمها عقلها في التراجع أو إدراك ما تفعله بطفليها، ظلت تمشي حتى خرجت من القرية تجر قدميها عنوة حتى لا تتوقف إلى أن تجاوزت الكثير من القُرى ووجدت الصغير يبكي معبرًا عن تعبه وانتهاء طاقته:

-أمي، أنا رجلي وجعتني وعطشان وجعان؟؟؟

لم يجد منها ردًا أيضًا إلى أن وصلت إلى قرية تبدأ حدودها بقناة كبيرة لها سورًا عاليًا، هرولن “نجلا” نحو السور بغير اهتداءٍ، بدأت تنظر يُمنة ويُسرى ورغم ارتجاف أطرافها وبُكائها الصامت لم تتوقف عما تفعل، وضعت الصغيرة جانبًا ثم وضعت كفيها حول خصر الصغير وما أن رفعته حتى دفعته بقوة في القناة ثم مالت على الصغيرة والتقطتها لتطرحها بعده أيضًا وبقيت كالصنمٍ تُتابع سقوطهما بالماء، خرجت شهقة قوية منها وانهمرت الدموع على خديها رغم عدم وعيها الكامل وإدراك ما تم للتو وما هي إلا لحظات حتى هرولت بعيدًا جدًا.

ركضت ركضًا طويلًا ولم تشتكي التعب أبدًا وهي تعدو لمسافة طويلة جدًا لا يمكنك سيرها على الأقدام، لم تشعر بنفسها إلا وهي تقترب من بيتها فأسرعت تسند ظهرها على حائطها فبدأت أنفاسها تتسارع بلا هوادة وقلبها كاد من فرط الخفقان أن يتوقف، في هذه اللحظة فقط لم تعد قادرةً على الوقوف فسقطت أرضًا تصرخ في بكاء وعويلٍ تعود عليه جيرانها مُقدرين ما تمر به من أزمة نفسية قاتلة، كانت تأتي الصديقة من بعيدٍ وما أن رأت حالتها حتى هرولت إليها وصاحت بقلقٍ:

-نجلا.. إنتِ كويسة؟؟؟

أشاحت “نجلا” بنظراتها بعيدًا عنها وهي تدفن وجهها بين ساقيها جاهشةً بالبكاء، استبد القلق والشك بقلب الأخيرة التي هرولت داخل البيت ولم تجد الصِغار فعادت إليها من جديدٍ وتابعت بصوت متحشرجٍ ملتاعٍ في ريبة:

-نجلا فين عيالك؟؟؟

أجابتها بملامح وديعةٍ تجهل الكارثة التي حدثت تمامًا:

-في البحر.

لطمت الأخيرة خديها وصرخت في هلعٍ:

-يا نهار أسود.. رميتي عيالك في البحر!!!

مالت عليها وأخذت تهزها بقوة ضارية وتكرر:

-رميتي ضناكِ في البحر يا نجلا!!!!

كانت تهزها بقوة عنيفة وكانت هذه هي الصحوة المؤقتة لنجلا التي حدقت في صديقتها مصدومةً وكأنها لم تفعل وأخذت تبكي بمرارة أدمت عينيها قبل قلبها.

أصابتها نوبة ذُعر وضاقت أنفاسها وهي تحكي هذ المأساة التي قضت على أمومتها وإنسانيتها رغم أنها لم تفعل عمدًا ولم تعي حتى ما فعلت إلا بعد أشهر من هذه الكارثة، كانت “نجلا” تحكي بأنفاس متهدجة تلاحقها مرارة سرت بقوة عبر حلقها، تغضن وجهها الذي كسته الحُمرة من فرط الألم ورغم محاولاتها المُستميتة السيطرة على نفسها إلا أنها لم تستطع في النهاية وصرخت بوجعٍ قاتلٍ:

-أنا بسبب عثمان السروجي رميت عيالي في الميه، مكتفاش إنه خد مني بنتي دا كان السبب الوحيد في دخولي مستشفى المجانين.

كانت “سكون” تحدق فيها في صدمةٍ كاسحةٍ فتفاعلت وهي تصيح بلوعةٍ:

-ومدورتيش على ولادك؟؟

نجلا بانهيارٍ وهي تضع وجهها بين كفيها وترد ببكاء يتنافى مع ما تتعامل به من قوة زائفة:

-دورت.. دورت بجنون.. سألت الدنيا كلها عنهم.. أنا كُنت يعاقب نفسي كل يومٍ.. أنا مبطلتش أدور عليهم لحد اللحظة دي يا سكون.

سكون بلهفةٍ تسأل:

-ولقيتيهم؟؟

أطرقت “نجلا” برأسها قليلًا وهي تقول باختناقٍ:

-لقيت البنت بس مش قادرة أواجهها بأني أُمها.. مش قادرة أبص حتى في وشها.. بس مكنش ذنبي والله العظيم مكان بإيدي.. أنا محستش إني عملت كدا غير بعد ما فوقت بس كان فات الأوان.

لان قلب “سكون” قليلًا وتناست مع من تتكلم؟ السيدة التي كانت تنبذها من قبل؟ ولكنها الآن تتفاعل مشفقةً مع آلامها؛ فتابعت “سكون” بإصرار شديدٍ:

-بس إنتِ لازم تواجهيها وهي مع الوقت هتسامحك!!

افتر ثغر “نجلا” عن ابتسامة مهزومة ورددت بنبرة سادرة:

-تفتكري؟؟ تفتكري وَميض هتفهمني!!!

يتبع

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *