التخطي إلى المحتوى

الفصل الخامس والأربعون]]

رواية 

•~•~•~•~•~•~•~•

طلبت استدعاء طبيبًا خاصًا من داخل أحد المختبرات الطبية الشهيرة والمعروف عنها السُمعة والدقة في نتائجها؛ كما يتضمن المختبر نُخبة من أمهر الأطباء كما أن التقنيات والوسائل المُستخدمة بغرض ظهور النتيجة هي الأحدث على الإطلاق، كانت تنام في سكينة على سرير “نجلا” بعد أن حملها “كاسب” ووضعها عليه، كان لون جلدها شاحبًا يُثير الخوف بين جنبات قلبه الهلع، بدأ يتحرك داخل الغرفة كليثٍ جريحٍ لا تُخمد ثورته ينظر إليها تارة وأُخرى إلى “ماكسيم” الذي وقف مستندًا على الباب في صمتٍ بينما جلست “نجلا” بجوارها على الفراش وبدأت تمسح على خصلات شعرها في حُنوٍ وفيرٍ قبل أن تتحقق حتى مما إن كانت صغيرتها أم لا!!

لحظات وجاءت الخادمة تُخبرهم بوصول الطبيب؛ فأسرع “ماكسيم” في استقباله ثم صحبه فورًا إلى الغرفة وقبل أن يدخل الطبيب، أسرع “كاسب” بالاقتراب منها مُعدلًا غطاء جسدها ومتأكدًا من ستره تمامًا تحت أنظار “نجلا” التي تابعت ما يفعله بملامحٍ لينة مثابرة وهي تقسم في نفسها بأن “كاسب” صار عاشقًا هائمًا قد سقط في عالمها ولن يعود قط!

لحظات ودخل الطبيب الذي هرول إليه “كاسب” بملامحٍ هلعة وبنبرة متلعثمة ردد:

-الحقها يا دكتور.. بعد ما تسحب العينة عايز أشوفها صاحية.. قالوا لي إن دا مهدئ وهتفوق بعد ساعة.. عدا ساعة ومافاقتش!!

أومأ الطبيب ثم رد متفهمًا ما يمر به من مشاعرٍ مشتتة مبعثرة:

-اهدى من فضلك.. كُل حاجة هتكون كويسة!!

اتجه الطبيب نحوها، طالعها بنظرة مُتمعنة قبل أن يُتابع بصوت ثابت:

-وشها شاحب شوية ودا لأن الحقنة كانت تقيلة وإن شاء الله في خلال نص ساعة هتكون فاقت.

طالعتهُ “نجلا” بنظرات ثاقبة وقالت:

-طيب نبدأ!!

الطبيب وهو يسأل بهدوء لجمع معلوماته قبل البدء:

-حضرتك الأم؟؟؟

أومأت دون أن تنبس ببنت شفةٍ؛ فتابع الطبيب باستطراد:

-هل الغرض من تحليل الأبوة إثبات نسب البنت لأبوها بغرض استخدامه في قضية؟؟ أو مجرد تحليل لإثبات نسب البنت ليكِ؟؟؟

كانت ترمقهُ بنظرات خاوية من أي شيء ولكن سرعان ما تحولت نظراتها إلى أخرى تلمع بوميض يغلبه عليه الانتقام وهي تقول بحزمٍ:

-اثبات نسب لينا إحنا الاتنين وهستخدمه في قضية ضد الأب.

تشخصت نظراتهما إليها في مزيج من الحيرة والدهشة بينما طالعتهما بنظرة ثابتة وابتسامة صغيرة لاحت على شفتيها، أومأ الطبيب ثم تابع بحسمٍ:

-تمام، كدا إحنا محتاجين عينة للأب علشان نتأكد من نسب البنت له!!

اكفهر وجهها فجأة في ضيق من طلبه الذي بدا مُستحيلًا كما أنه سيُعطل الإجراءات وبالتالي النتيجة، مسحت على وجهها في شيءٍ من الاختناق قبل أن تستمع إلى صوت “كاسب” يقول بلهجة حادة:

-أنا معايا عينة منه.

انهى عبارته ثم فرد كفيه أمام الطبيب وهو يقول بتمعنٍ ومتابعة لرد فعل الطبيب حينما أكمل “كاسب’ بثبات:

-الدم اللي على إيدي منه وقت ما كُنا بنضرب بعض، لو ينفع نتستعين بيه في الموضوع؟!!

زم الطبيب شفتيه بأسفٍ وقال:

-للأسف محتاجين عينة يتم التحفظ عليها في المختبر وتكون في متناول إيدينا لأنها بتمر بمراحل كتير جدًا.

تدخلت “نجلا” التي هتفت بحسمٍ وثبات وهي تنظر إلى “سكون” بملامح باهتة:

-تمام أنا هتصرف والعينة هتكون عندك النهاردة.. نقدر دلوقتي نسحب عينة منها ومني قبل ما تصحى ويكون الموضوع أصعب من الوصول لعينة أبوها؟!

أيد الطبيب رأيها وشرع في تنفيذ ما جاء من أجله، تحرك نحو الفراش واندفع خلفه “كاسب” الذي أخرج ذراعها للطبيب وكشف عنه بأبعاد كُمها بينما بدأ الطبيب في سحب العينة عبر إدخال الإبرة في أحد أوردتها ثم سحب قطرات الدم داخل الأنبوب رويدًا رويدًا، لم يحتج أكثر من ثلاث قطرات وما أن نزع الإبرة عن جلدها حتى التقط “كاسب” القطنة وبدأ في المسح مكانها برفق وحرص شديدين، فعل الخطوات ذاتها مع “نجلا” التي لم تتأثر أو تُحررك ساكنًا عند سحب عينتها بل تابعت بوجه متجهم وثبات زائفٍ:

-أقرب وقت تظهر فيه النتيجة ياخد أد أيه؟؟

تابع الطبيب وهو يسحب الإبرة للخارج ثم يقول:

-من يومين لتلاتة.

نجلا بصوت غاشم صلبٍ:

-مش عايزة أستنى أكتر من يومين، هدفع للمعمل كل اللي هيحتاجه في مقابل ظهور النتيجة في ظرف يومين بالظبط!!

أومأ الطبيب ثم قال بحسمٍ وهو يستقيم في وقفته ثم يتحرك نحو جمع أشيائه:

-هنشوف.. مستني منك العينة التالتة.

نجلا بصوت خافتٍ لا حيوية فيه ترد:

-تمام.

جمع الطبيب مُعداته وقرر المغادرة فصحبه “ماكسيم” بينما التفت “كاسب” إليها من جديد بقلبٍ مُرتجفً يهاب رؤيتها في سكونٍ وهن الذي اعتاد على عواصفها، التقط كفها بين راحتيه يتأملها بعينين نادمتين لكونه لم يتمكن من السيطرة على نفسه في مقاتلة والدها وهذا جعلها تنتفض غضبًا منه ويبدو أنها فقدت ثقتها الكاملة به، كان كفها باردًا للغاية يشبه شحوب وجهها الناصع البياض وكأنما هي جُثة فارقة الحياة للتو!

أفزعه هذا التخيل فأخذ يرفع راحتيه القابضتين على كفها ثم ينفخ فيه بقوة بغرض تدفئته؛ فتارة ينفخ وأخرى يفركه إلى أن تحولت عينيه إلى “نجلا” التي تتابعه في صمتٍ وقال بنبرة غليظة أظهرت قُرب نفاد صبره:

-كُنتِ عارفة إن ماكسيم هيعمل كدا؟؟.

رماها بنظرات مرتقبة لردها يتخللها الحدة والغضب ولكنه لم يجد ردًا منها حينما تنفست بعُمقٍ تطرد أوجاعًا تملأ صدرها فصرخ هو بنبرة أكثر انتفاضًا:

-رُدي!!

نجلا بصوت متهدجٍ مُنهارٍ:

-مكنتش أعرف.. صدق بقى.. وبعدين محدش يقدر يلمسها وإنتَ عارف كويس إني مبأذيش حد ملوش ذنب!!

انطلقت ضحكة ساخرة من بين شفتيه ثم رد بحنقٍ:

-وبالنسبة للطلب اللي طلبتيه مني؟؟ مكنش أذية؟؟ مشاعر الانتقام والحقد على عثمان خليتك تنسي المبادئ دي.

سكت هنيهة ثم رماها بنظرة ثاقبة ذات مغزى ثم قال بجمودٍ:

-أنا هنفذ اللي طلبتيه مني علشان ننتقم من عثمان حتى لو طلعت بنتك!

أراد استفزازها والتلاعب على أوتار أعصابها كما فعلت به وهي تطلب منه أذية من يُحب، بقى صامتًا فور إنهاء عبارته ومازال يرتقب غضبها الهائج من تصريحه ولم يلبث طويلًا حينما هبَّت واقفةً في مكانها ثم مالت بجذعها العلوي إليه وهما يقفان في مواجهة بعضهما لترفع سبابتها أمام وجهه وبعينين حادتين ونبرة نارية تقول:

-اللي بتقوله دا مش هيحصل، أنا عارفة إنك بتقوله بدافع استفزازي ولكن أنا هاخد بناتي لحضني ولحياتي غصب عن عثمان وغيره، لأن أنا من حقي أعيش حياة طبيعية وسط ولادي.. عايزة أكبر وأعجز وسطهم وأشوفهم بيكبروا قدام عيني.

استقام جسدها من جديد وهي تمسح بقوة على وجهها وعرة رأسها ثم تقول باختناقٍ:

-مش كفاية عليا عذاب وفقر وفراق من يوم ما وعيت على الدنيا؟ الدنيا خلاص مبقاش ليها سُلطة عليا، أنا دلوقتي هعيش بقوانيني أنا وهطوعها لرغباتي وأحلامي يا كاسب وهجبرها تضحك لي.

همَّ أن يتفاعل معها ولكن صوت صدوح رنين هاتفه جعله يسرع بسحبه من جيب بنطاله الخلفي ثم نظر إلى شاشته ليخفق قلبه وهو يقول مرتبكًا:

-عُمر!!

لم ينتظر رأيها فيما ينبغي عليه فعله؛ فأسرع بالإجابة فورًا:

-عُمر في حاجة حصلت تاني؟؟

جاءهُ صوت “عُمر” المتهدج من الحُزن والبكاء يقول بلوعٍ:

-إنتَ كويس يا كاسب؟؟

كاسب بابتسامة هادئة اقتحمها سعادة حقيقية:

-كويس يا حبيب كاسب.. إنتَ اللي كويس؟؟

عُمر بصوت مُثابر يرد:

-الحمد لله، كدا خلاص مش هشوفك تاني يا صاحبي؟؟

ضرب “كاسب” جبهته بباطن كفه وهو يقول بحُزن دفينٍ أوردته كلمات الأخير ونبرته التي أنهكها الحُزن، ابتلع غِصَّة مريرة في حلقه وأكمل بثبات لا يعرف كيف نجح به:

-أنا عُمري ما هتخلى عنك يا عُمر.. اللي حصل دا مش هيفرق صداقتنا وقريب جدًا هنتقابل.

لم يستطع تمالك نفسه أكثر من ذلك، أغلق المكالمة ووضع وجهه بين كفيه تاركًا المجال لدموعه المختزنة منذ زمن أن تتحرر وتعرب عن أوجاعها الكامنة خريفًا وراء الآخر، تحرك “نجلا” إليه ثم ربتت على ظهره وهي تقول بلهجة ثابتة:

-كُل حاجة هتكون تمام.

•~•~•~•~•~•~•~•~•

استقرت السيارة أخيرًا أمام قطعة أرضٍ خاوية لم تِبنى بعد تقع في مُقدمة إحدى القُرى الريفية الفقيرة وظهر ذلك في تأملها للأبنية المتهالكة وانفجار أنابيب المياه تُغرق الشوارع وكذلك الطفح الذي نجم عن المصارف، كان الوضع مُزريًا تمامًا؛ فظلت تنظر باستغرابٍ عظيمٍ للمكان قبل أن تلتفت إليه وتسأل بفضول كبيرٍ:

-أيه المكان دا، إنتَ واخدني فين؟؟

منحها ابتسامة هادئة فقط ولم يُجب بعد أن حثها على الصبر بنظرات من عينيه؛ فظلت تتأمل المكان في شدوه إلى أن توقفت السيارة في النهاية على إحدى الأراضي التي لم يتم بناؤها بعد.

ترجل “تليد” من السيارة فورًا ثم استدار إلى بابها يفتحه وما أن نظرت أمامها حتى وجدت مجموعة كبيرة من الشباب والفتيات يرتدين نفس السُترة وتوجد كاميرات بين أيديهم؛ فبدا المكان كأنه موقعًا للتصوير التليفزيوني، تعجبت في نفسها؛ هل سيجري مقابلة تليفزيونية ولم يُخبرها بذلك؟؟، مد كفه لها فتشبثت به وهي تترجل من السيارة ثم سار بها إليهم وبابتسامة عريضة بدأ يعرف عنها ويقدمها لهم:

-اقدم لكم، وَميض السروجي، مراتي وإن شاء الله هتكون المُدير التنفيذي للبرنامج بعد سفر دكتور محمد ملقيتش أفضل منها للمكان دا.

استقبلوا هذا الخبر بتصفيقات حارة بينما هي لم يتضح لها بعد ما يجري؟ هل يُعينها أحد مسؤولي برنامجه دون أن يستشيرها في ذلك؟؟ حدقت فيه بعينين متسعتين من الدهشة ولكن قطعها صوت إحدى الفتيات وهي تقترب منها وتهم بمصافحتها وهي تقول بابتسامة هادئة:

-نورتينا يا مدام وَميض، مع حضرتك شغف الـ stylist  الخاصة بكُل كاست البرنامج والمسؤولة عن ظهور الشيخ تليد بكامل أناقته.

اتسع إدراكها وهي تلتقط العبارة الأخيرة بوجه متجهمٍ ثم تصافحها ببرودٍ قائلةً:

-أهلًا بيكِ.

صافحتها الفتيات تباعًا وسلم عليها الشباب عن بُعد، تحرك “تليد” نحو الشباب يتأكد من تمام كُل شيءٍ على أكمل وجه في سرية تامة ودون أن تلتقط أذناها ما يدور، أتاه أحد الشباب بورقة حصر فيها عدد سكان القرية ومن يحتاجون ومن لا يحتاجون المساعدة بينما قال شاب آخر:

-الأستاذ كرم في طريقه لينا وهو اللي هياخدنا في جولة للقرية وهياخدنا لبيوت الناس اللي هنعمل معاهم اللقاء.

أومأ في تفهم قبل أن يعود إليها مرة أخرى ليجدها تقول بفضولٍ يطل من عينيها:

-هو إنتَ عندك تصوير برنامج ومقولتليش؟؟ مش المفروض إننا كُنا نازلين نتفسح مش نشتغل؟؟

أومأ يؤيد كلامها المنطقي ولكنه تابع وهو يمنحها ابتسامة حانية:

-كلامك صحيح، بس المكان هنا من برنامج الفُسحة اللي وعدتك بيها، إحنا مش هنطول بإذن الله وبعدها نروح في المكان اللي إنتِ تحبيه.

أومأت وهي ترد بخفوتٍ:

-تمام.

لحظات وجاء “كرم” الذي يعيش داخل هذه القرية ويحفظ أزقتها وكُل رُكنٍ فيها عن ظهر قلبٍ وقد استعانوا به ليدلهم على البيوت التي تحتاج مساعدة وتُعاني فقرًا مُدقعًا، اندفع نحو “تليد” ثم سلم عليه بحرارة وحفاوة كبيرة فبادله الأخير المثل قبل أن يلتفت إلى “وَميض” ويمد كفه لها، همَّت تُصافحه ولكنها وجدت كف “تليد” يقبض على كفها وباليد الأخرى يصافح “كرم” الذي بقى ذراعه مُمتدًا نحوها وهو يقول بلهجة ثابتة:

-أهلًا أستاذ كرم.. نقدر نبدأ منين؟؟

نظرت إلى كفه القابض على كفها في دهشة من تصرفه مع الرجل؛ فكان هذا التصرف بالنسبة لها يخلو من الذوق، تنحنح “كرم” قبل أن يقول:

-من نهاية القرية علشان الأُسر المقصودة متجمعة كلها هناك.

أومأ “تليد” في امتنانٍ ليلتقط طاقم العمل أدواته وحقائبه ثم يسيرون معًا نحو القرية من جهة الخلف للبدء من هناك، كان “تليد” مازال يقبض على كفها يسيران بجوار بعضهما حينما همست بصوت خافتٍ يغلفه الغيظ:

-على فكرة إنتَ أحرجت الراجل جدًا!! فيها أيه لو سلم عليا يعني؟

تليد وهو يرفع حاجبه باستنكارٍ ويرد بنفس الخفوت:

-فيها تنازل صريح عن رجولة راجل تقبل لمس زوجته من راجل غريب، فيها دياثة، فيها عقاب للست اللي بتصافح أجنبي عنها، فيها سواد وبلاوي

وَميض بغيظٍ مكتومٍ:

-بس هو بيسلم عادي مش قصده حاجة؟؟

تليد بلهجة صارمة:

-إحنا لسه هنفكر في قصده ومش قصده؟؟ يسلم بالبؤ، ميسلمش بالإيد وما يلمسكيش.

تنهدت بتأفف ثم تابعت:

-طيب إحنا هنفضل ماشيين كتير؟؟ على الأقل قول لي إحنا جايين هنا ليه؟؟

اِفتر ثغره عن ابتسامة هادئة قبل أن يتفوه بحسمٍ:

-تحلي بالصبر.

قررت أن تتوقف عن الأسئلة وأن تسير بخطوات متقدمة حيث يسيرون بينما يتشبث هو بكفها ولا يتنازل عن تركه، نزلت بعينيها إلى كفه وخانتها ابتسامة تبدو مُستلذةً من تمييزه لها وحرصه على وجودها إلى جواره؛ راقها لوهلة ذلك الحُب الذي يتدفق من عينيه كلما نظر إليها حتى وإن كان به بعض المتحكمات والقيود الصارمة من وجهة نظرها؛ لم تكُن تتخيل أن تتزوج رجلًا يُضيق من دائرة معارفها، ينقي أفكارها التي تبنتها طيلة حياتها بل ويجعلها تشعُر بالسكينة والاسترخاء عند سحبه هذه الأمور من حياتها فجأة؛ وعلى عكس المتوقع؛ لم تثور أو تنتفض متعنتة برأيها بل تقبل بصمته في شؤونها وتتقبل أفكاره التي كانت تنبذها من قبل والآن رويدًا رويدًا يتسلل إلى قلبها بوادر قناعات بما يؤمن به ويستقر في قلبه وعقله.

انتشت مشاعر غيرته عليها كوقعٍ المِسك يداعب خياشيمها كما تداعب غيرته قلبها وتملكه دون حول لها ولا قوة، فتجده يطأ قلبها بقدميه بُغتة منها كمُحتلٍ لا تقوى على مقاومته وقد ضربها من زوايا ضعفها؛ فمشاعر الاحتواء والتمييز لها عن غيرها هي أكثر ما افتقدته يومًا.

لاحظ تركيز نظراتها على كفه فابتسم خِفية وهو يضغطه أكثر مما جعلها تستعيد وعيها على الفور وهي تنظر أمامها في تنحنح وحرج.

وصلوا أخيرًا إلى خيمة قد نصبها “كرم” من أجلهم لاتقاء أشعة الشمس التي اشتدت في نهار شتاء يبدأ ومن أجل احتياجها في أمور أخرى إن أرادوا، وقف الطاقم بجوار الخيمة ثم التفت “تليد” إلى “كرم” وقال بهدوءٍ:

-فين أول بيت؟! وأيه طلباتهم؟؟؟

مدَّ “كرم” بصره نحو مكب القمامة الذي يظهر على مقربة منهم ثم أردف:

-أول بيت اللي عند المقلب.. محتاجين سقف للبيت والأجهزة الكهربائية المهمة وبطاطين.

كانت تتابع حديثهما بعينين ثاقبتين تحيطهما الحيرة واللا إدراك من هذه الأسئلة وأجوبتها وما علاقة ما يجري بمقابلة زوجها التليفزيونية؟؟ فضلت الصمت وقررت أن تجلس إلى أحد المقاعد التي أتوا بها وأن تتركهم يؤدون ما جاءوا من أجله، أومأ “تليد” بحسمٍ ثم أردف:

-يلا يا شباب.. استعدوا!

كانت تنظر إلى انتظام خطواتهم المدروسة والاستماع إليه في انصات وتقبل أوامره بحُب ودعمٍ، مال جميعهم يشرعون في فتح حقائبهم بينما اندفع هو نحو الخيمة وفي يده حقيبته وقبل أن يدخلها التفت بنظراته نحوها ثم ألقى غمزة ساحرة من عينه جعلتها تبتسم له في ارتباكٍ وهي تفرك كفيها في انتظار رؤية الأمر الذي سيجري بوضوحٍ.

لحظات ووقف الطاقم بعد أن لبسوا أقنعة تداري وجوههم بجوار بعضهم البعض فحدقت إليهم في ذهول وقد خلج صدرها الشك حول أمر ما، لم تمر دقيقة حتى وجدته يخرج عليهم بملبس يرتديه كلما ظهر في هذا البرنامج ووجهه مُغطى بقناعٍ تعرفه جيدًا!!!

ارتخت شفته السُفلى وهي تُدرك الأمر أخيرًا، فشهقت بقوة وهي تضع كفيها على فمها في صدمة، تقدم إليها على الفور ما أن لاحظ وقع الصدمة عليها وما أن وقف قبالتها حتى مد كفه لها وقال بابتسامة مبتهجة:

-قررت تشاركيني مُغامرة النهاردة.

ارتجفت أطرافها وهي تضع كفها على راحته ثم تقف أمامه وتحدث داخل عينيه مُباشرة وتقول بانبهارٍ:

-إنتَ؟؟ إنتَ اللي بتعمل البرنامج دا؟؟ إنتَ الجندي الخفي؟؟

أومأ في ابتسامة عريضة وقال:

-أيه رأيك؟؟

زوت ما بين عينيها ثم تابعت تستفسر في حيرة:

-بس الصوت مش صوتك؟؟؟

 أجابها بحُب وهو يمد قناعًا آخر لها:

-بستخدم جهاز لتغيير الصوت.. يلا البسي!!

انفرجت أسارير وجهها في سعادة غامرة، لم تكن تعلم أنها ستحب هذه الزيارة التي لم تكن تفهم ماهيتها ولكنه لن يفشل منذ زواجهما في كسب ثقتها واقتحام قلبها ومشاعرها بتصرفاته الودودة والداعمة معها أو غيرها، التقط كفها لتسير معه إلى الحالة الأولى لبدء البرنامج، زحفوا جميعًا إلى البيت المنشود فقررت ما أن بدأ التسجيل أن تنسحب وتقف من وراء الكاميرات وأن تتابع زوجها بفخر يلمع في حدقتيها، بدأ بثُ البرنامج عن طريق تقنية البث المباشر في فيسبوك ليحصد البث الملايين من المشاهدات والدعوات لهم، بدأ “تليد” يتحدث إلى أصحاب الحاجة فسمع إلى مطالبهم وبدأ يحقق جُزءًا منها أمام الكاميرات فقد جمع شكاوى هؤلاء الناس من قبل ومول طاقمه بالمال ثم كلفهم بشراء كل ما احتوت عليه شكاوى الناس ويمكن شراؤه، طلب من طاقمه من الرجال أن يشرعون في حمل الأجهزة إلى الدار وكذلك أغطية ثقيلة تقي أفراد البيت البرد ووعد العجوز أن يسارع في بناء السقف لها وقبل أن ينهي حديثه معها قام بطبع قبلة على كفها في ودٍ ثم قال بلهجة مترفقة تطمع في دعاء يخرج من قلبها الطيب:

-ممكن دعوة ليا من قلبك؟؟

انهالت عليه بذخر من الدعوات يفيض على أذنيه فيبتهج قلبه، شكرها ثم خرج مع طاقمه بعد أن أنهوا عملهم، وقف مرة أخرى أمام الكاميرات يخاطب جمهوره، بينما عيناه ترصدها في كُل ثانية ليتمكن من رؤية الفخر به داخل حدقتيها فضوى بريق في عينيها من شرارة سعادتها وإعجابها به وبينما هو يتحدث نظرت داخل إحدى الكاميرات الخاصة بإحدى الفتيات والمخصصة لالتقاط الصور ثم أسرعت بينما هو يتحدث بوضع كفيها أمام الكاميرا بينما هي تختبيء خلفها وراحت تشكل بإصبعيها السبابة والإبهام قلبًا بعد أن ضمتهما إلى بعض وأبقته في المنتصف ثم حثت الفتاة بإشارات من عينيها على التقاط الصور، ابتسمت الفتاة بسعادة لحبهما وما أن رأى ما تفعل حتى ارتبك داخله وجاهد ألا يظهر الارتباك في نبرة صوته وهو يُنهي البث بكلمات بسيطة توجز قولًا حتى لقائهم في المهمة الجديدة.

ارتفعت تصفيقات حارة من قِبل فريقه وكانت هي أول من صفق بحرارة وحفاوة لا تكفي لِمَ أدهشها به، بادلهم ابتسامة عريضة وهو يشكرهم جميعًا على مجهودهم الذي لا يمكن التغافل عنه وأشار إلى أهمية كل فردٍ منهم بالنسبة له وأن لولاهم ما حقق هو ذلك النجاح المُبهر، طلب منهم أن يأخذوا قسطًا من الراحة ويتناولون الوجبات التي أرسل في طلبها فورًا ثم وقف يلتقط أنفاسه وهو يشير إليها بكفه أن تأتي؛ فأسرعت بالذهاب إليه وما أن وقفت أمامه حتى صرحت بإعجاب أبهر كل ذرة بها:

-كُنت رائع.. كُنت مُدهش.. كُنت جامد يا تليد.. أنا فخورة أوي بيك.. يعني أنا دلوقتي جوزي أكتر راجل بيساعد الناس ومحدش يعرفه؟؟ أنا كُنت مُعجبة بيك أوي رغم عدم صدقي في المحتوى بنسبة 100%.

لمس صدق مشاعرها والفخر الذي انبعث عبر كلماتها، ظهرت على مُحياه ابتسامة هي الأسعد على الإطلاق منذ أن تعرف على عشقه لها وبنبرة متأثرة سأل:

-يعني إنتِ بجد فخورة بيا؟؟

لم تشعر إلا برغبة جامحة في عناقه فأسرعت تتعلق بعُنقه وتحتضنه بشدة وبنبرة ناعمة تقول:

-فوق ما تتخيل يا تليد.. أنا فرحانة إني معاك.

كان قلبهُ في حالة سُباتٍ عميقٍ منذ فراقها وحتى التقائه بها؛ فلم تكُن تمنح قلبه الحياة بجفائها له ولكنه شعر بانتفاض سُبات قلبه الآن حينما سرت رجفة قوية في جسده من وقع كلماتها واشتعال مشاعرها التي تقبلته وقبلت عشقه الأفلاطوني لها أخيرًا، كان يود أن يحتضنها بكلا ذراعيه وأن يطبق عظام ظهرها من فرط الاشتياق والحنين إليها؛ ولكنه غار عليها من نظرات الجميع قربت على ظهرها برفق قبل أن يبتعد فورًا وهو يقول بصوت لين:

-وأنا أكتر راجل محظوظ في الدنيا علشان إنتِ من نصيبي.

أظهرت استحياءً من كلماته المتدفقة بأنهارٍ هيامه بها، أطرقت برأسها قبض على ذقنها بأنامله ثم أكمل بكلمات مطرية على خجلها:

-واقعٌ كُلي في طماطم خديكِ.

انطلقت ابتسامة عريضة من بين شفتيها ثم أسرعت تهرب من حدة نظراته داخل حدقتيها فجلست على كرسيها المجاور لكرسيه فورًا، أسرع بالجلوس بعدها ثم ناولها وجبتها وقال بعينين منجذبتين لتفاصيلها:

-بألف هنا وشفا على قلب الطماطم.

تناولت العلبة البلاستيكية منه في توترٍ رصده في أطرافها جيدًا ولكنه قرر إبعاد عينه عنها كي تتمكن من الأكل براحة أكثر وإلا ستبقى جائعة لا تقرب الطعام كلما أطال النظر إليها.

شرعوا جميعًا في التهام وجباتهم قبل أن يجمعوا متاعهم ويستعدون للذهاب وفي نيته أن يأخذها إلى بيت أبيها لقضاء المتبقي من اليوم برفقتهما، نهض الشباب يحزمون المتاع؛ وكذلك فعلت “وَميض” تساعد الفتيات في لم المعدات من كاميرات وغيرها ليأتي إلى بصرها رؤية تلك الفتاة تتجه نحو زوجها وتبدأ في الحديث معه للحظات قبل أن تُشير إلى رأسه ثم تشرع في الاقتراب أكثر منه وكفها يمتد إلى رأسه.

تجهمت ملامحها فجأة وشعرت باضطراب يسري بين جنبات قلبها الذي قرصته بوادر غيرة جعلت الشرر يقدح من عينيها وهي تندفع مسرعةً إليهما فوجدته يقول بحزمٍ:

-مفيش مشكلة يا شغف.. سيبيها!

نطقت الفتاة باستنكارٍ وإصرار على الاقتراب:

-إزاي يا شيخ.. حضرتك لسه شاب ما شاء الله عليك.. المفروض ما تسيبش حاجة زيّ دي في شعرك؟!!

وقفت أمامهما بغضب متأجج وسألت بنبرة حادة وهي تطالع الفتاة بعينين ناريتين:

-خير، في أيه يا شغب!!

توقفت الفتاة عن الاقتراب منه ثم تابعت بحنقٍ وهي تلتفت إليها:

-اسمعي شغف مش شغب!

رمقتها “وَميض” شزرًا قبل أن تعقد ذراعيها أمام صدرها وتقول ببرودٍ:

-أصل أنا شامة ريحة شغب؛ فعلشان كدا الاسم دا لايق عليكِ أكتر.

التوى شدق “شغف” التي همَّت أن تقترب منه مرة أخرى بإصرار وهي تقول:

-لقيت شعرة بيضا في راس دكتور تليد وبحاول أقنعه يشيلها!!

لم تستطع تمالك نفسها دقيقة أخرى فأسرعت تخترق المسافة التي تفصل بينهما ثم دفعتها من كتفها بقوة وهي تقول محتدةً بالغضب:

-ايدك عندك ويكون في حدود، إنتِ مسؤولة عن اختيار لبس البرنامج ليس إلا يعني وبس.. برا البرنامج فشعره ولبسه حاجة برا عنك.. يلا يا شغب.. توكلي على الله.

حدقت “شغف” فيها بملامحٍ مُتجهمة ثم سارت من أمامهما فورًا وهي تغمغم بكلمات غامضة لم تأبه “وَميض” لمعرفتها، التفتت بنظراتها إليه فوجدته يضحك ضحكة مكتومة لتتابع بغيظٍ وهي تقترب من رأسه:

-وريني الشعرة البيضا يا شيخ تليد ولا شغب هي بس المسؤولة عن شعرك الأبيض وأنا بتنجانة وسطكم!!

أسرعت تخلل أصابعها بين خصلاته تبعثرها بينما قبض “تليد” على ذراعها ودفعه برفق عن شعره وهو يقول بابتسامة هادئة أثارت استفزازها أكثر:

-اعتبر دي غيرة؟

وصل إلى أنفه رائحة اشتعال النيران داخلها؛ فحدسه لا يخيب حتى أن مشاعر الغيرة عليه تنمو وتتفاقم داخله، التوى شدقها وهي تسحب كفها من بين قبضته وقالت بحنقٍ:

-تليد وديني عند ماما دلوقتي!!

•~•~•~•~•~•~•

سمعت طرق على باب البيت فازداد الشك داخل  قلبها خاصة بعد مكالمته التي أنهاها معها قبل قليل ويخبرها فيها أن تستعد لخروجها معه، علقت نظراتها على الباب بارتيابٍ حينما وجدت أمها تقترب نحو الباب ثم تفتحه بترقُب وما هي إلا ثوانٍ حتى تابعت باستغرابٍ:

-نوح؟؟ في حاجة حصلت في المزرعة ولا أيه يابني؟؟

أومأ سلبًا ثم رفع كفيه أمامها يدفعها للهدوء وهو يقول بابتسامة عذبة:

-كله تمام.. مفيش حاجة يا خالة.. أنا بس كُنت جاي أطلب منك طلب؟؟

كان صوتهُ يصل إلى سمعها فأسرعت بدفن وجهها بين صفحات الكتاب الذي تقرأه؟ وهي تتمتم بغيظٍ من إصراره وهي التي رفضت عرضه كيلا تنزعج أمها عليهما،  في حين تابع “نوح” على الجانب الآخر يقول بلهجة مسترسلة:

-كُنت بستأذنك أعزم مُهرة على الغدا النهاردة لأنها تعبت الكام يوم اللي فاتوا دول معايا لحد ما لقيت سكرتيرة للمكتب ورفضت كمان تاخد فلوس مقابل تعبها؛ فأنا عايز أكافئها بغدوة.

سكت هنيهة وقبل أن يسمح لها بالكلام تابع بحماسٍ:

-على فكرة هكون مبسوط لو إنتِ كمان جيتي معانا؟؟

تنفست “رابعة” بقوة قبل أن تلتفت إلى ابنتها التي تتظاهر بلا مُبالاة زائفة وبين وجهه الذي بدا عليه الحماس الزائد، تنحنحت قليلًا قبل أن تقول بتروٍ:

-إنتَ عارف إني مش هينفع أسيب المزرعة والعمال وامشي وكمان مُهرة هتساعدني في كام حاجة النهاردة.

نوح وقد ذهب الحماس عن وجهه وهو يقول بانزعاجٍ صريحٍ خلطه بمزاحه:

-ما سماح تساعدك مش لازم مهرة يعني!!.. إنتِ بتتهربي من طلبي صح؟؟ عيب والله عيب دا اللي بينا عيش وملح وحاجات كتير أوي.

رابعة وهي تزفر بغيظٍ بعدما فشلت في التهرب منه ونجح في كشفها:

-يوه بقى يا نوح، خلاص روحوا ومتتأخروش.

تهللت أسارير وجهه فأسرع بالتقاط كفها وشرع يقبل ظاهره قبلات كثيرة وهو يقول بامتنانٍ:

-أحلى كونتيسا رابعة في الدنيا كلها، يا شيخة روحي إلهي أشوفك حماتي.

أسرعت بسحب كفها منه واعتلى شفتيها ضحكة واسعة وهي توبخه في رفقٍ:

-ما خلاص إنتَ هتشحت؟

وقف أمامها يُعدل من هندامه قبل أن يقول بثقة وحماس كبيرين:

-نادي لي الدكتوغة بتاعتي.. معلش.

رابعة وهي تقول بلهجة مازحة رغم إظهار امتعاضها:

-أنا عارفة الهبلة دي عاجبها فيك أيه.. دا إنتَ مُتنمر.

نوح بضحكة ماكرة:

-ما إنتِ جاوبتي نفسك.. هبلة بقى.

ضربت “رابعة” كفًا بالآخر قبل أن تلتفت إلى الأخيرة ثم تصيح بنبرة ثابتة:

-اعملي نفسك مش مُهتمة وإنتِ ودانك كبرت من كُتر ما مصدراها عندنا.. انجزي.. هتخرجي معاه ولا لأ!!

نسيت تمامًا أمرَ شعورها بالخجل من أمها فأسرعت برمي الكتاب على الأريكة ثم انتفضت واقفةً وهي تقول بسعادة غامرة:

-جاهزة يا ماما.. أنا جاية أهو.

حدقت فيها “رابعة” مصدومةً وهي تلاحظ للمرة الأولى ارتداء ابنتها لملابس الخروج قبل أن يأتي حتى!.. رفعت أحد حاجبيها ثم رددت ومازالت على دهشتها تضع أناملها أسفل ذقنها:

-ولابسة كمان؟؟ صبرك عليا يا مُهرة لمَّا ترجعي لي.

تجاوزت “مُهرة” والدتها وتخطت عتبة الباب لتجده يستقبلها بابتسامة واسعة وينحني أمامها قليلًا ثم يفرد ذراعه ويقول متحمسًا:

-دكتوغتنا القمر، العربية في انتظارك.

انتصب معتدلًا في وقفته حينما وجدها تندفع بفرحة مفرطة نحو باب السيارة وقبل أن يتابع خطواته إليها سمع صوت يقول بلهجة ساخطة مرتفعة:

-رايحة فين يا مُهرة؟؟؟

وقفت في مكانها ثم تشخصت الأبصار إليه وهو يتقدم من ثلاثتهم، امتعض وجه “مُهرة” من سؤاله ووجدت أنه لا حق له في سؤالها عن وجهتها، بقي “نوح” صامتًا يطالعه بعينين ثاقبتين بينما أجابته “رابعة” بلهجة ثابتة:

-رايحة شغلها مع دكتور نوح يا إبراهيم، اتفضل لو هتدخل وإنتوا اتحركوا علشان متتأخروش على شغلكم.

صاح “إبراهيم” بلهجة صارمة يقول:

-مُهرة مش هتتحرك من البيت قبل ما ييجي خالي.

زوت “رابعة” ما بين عينيها وسألت في دهشة:

-هو خالك جاي عندنا؟؟ أمال مبلغنيش ليه؟؟

رفع “نوح” كفه إليها يحثها على الانتظار والتوقف عن الكلام قبل أن يلتفت إلى “إبراهيم” ثم يرمقه بعينين حانقتين ويقول بلهجة شديدة:

-لحظة، إنتَ مش شايف إنها خارجة معايا؟؟ أيه الثقة اللي مقوية قلبك دي وإنتَ بتمنعها من الخروج؟؟ دا باعتبار إن ليك حُكم عليها؟؟ إنتَ لا أبوها ولا أخوها ولا جوزها.. إنتَ حياله ابن خالتها.. مستوعب ولا لأ!!

رماه “إبراهيم” بنظرة نارية قبل أن يقف مواجهًا له ثم يقول بلهجة حادة:

-خالي مأمني عليهم طول ما هم بعيد عنه، دي الحاجة الأولى.. التانية بقى.. مين قال لك أني حياله ابن خالتها ومليش حكم عليها.. مش يمكن أبقى جوزها قريب!

نوح وهو يطالعه بنظرات ناقمة ويتابع بثبات زائفٍ رغم تلف أعصابه ورغبته الجامحة في الفتك به:

-ما هو إنتَ مش هتكون وكل محاولات المفقوسة دي تبلها وتشرب مايتها.

تدخلت “رابعة” لإنهاء هذه المشادة قبل أن ترتفع شرارتها ولا تستطيع السيطرة عليها بعد ذلك:

-خلاص يا جماعة.. استعدوا بالله.. ادخل معايا يا إبراهيم خلينا نتكلم مع بعض شوية وسيبهم يروحوا شغلهم.

نبج صوتهُ يصيح بلهجة جهورية:

– وأنا قولت مُهرة مش هتروح في حتة!

انفجرت ضحكة ساخرة من فم “نوح” قبل أن يرمق الأخير شزرًا تاركًا إياهُ يعوي بلا فائدة، تحرك من أمامه إلى السيارة ثم أمرها بلهجة ثابتة بعد أن فتح الباب لها:

-اركبي.

انصاعت فورًا، همَّت أن تركب ولكن أوقفتها قبضة “إبراهيم” المتملكة من ذراعها وتمنعها من الدخول، نحا “نوح” ببصره للخلف ليجدها تتقهقر للوراء والأخير يقبض بشراسة على ذراعها ويصيح بعنادٍ ناري:

-مفيش ركوب ويلا امشي من هنا، معندناش بنات بتدور على حل شعرها.

ازدادت حِدة الشرر المُنبعثة من عيني “نوح” وهو يُبصره قبضة الأخير على رسخها، لم يشعر بنفسه إلا وهو يندفع إليه وما أن اقترب منه حتى وجه له ضربة مُميتة من رأسه تطيح بأنف الأخير الذي صرخ عاليًا على الفور من شدة الألم الذي نجم عنه نزيف بأنفه، شهقت “رابعة” بقوة وهي تهرول إليه ثم تقول بارتيابٍ:

-كفاية يا نوح.. مناخيره بتنزف!!

أسرعت “مُهرة” بالوقوف حائلًا بينهما ثم أبعدت “نوح” بكل ما أوتيت من قوة وهي تقول بهلعٍ:

-نوح!!

أخذ صدره يعلو ويهبط في غليلٍ سامٍ وهو لا يود ترك الأخير قبل أن يفتك به تمامًا؛ فقاوم دفعتها له يرغب في الانقضاض عليه مرة أخرى بينما رمقته “مُهرة” بنظرات مُحذرة وقالت:

-اهدى!!

•~•~•~•~•~•~•~•~•

كانت تنظر إليه في ارتيابٍ وهي تعتدل في نومتها جالسةً بعدما استعادت وعيها تمامًا، تستطيع تذكر ما حدث لها بوضوحٍ؟؟ لقد رأت “نجلا” تقف خلفه وبينما هي تدخل من الباب شعرت بسن إبرة يُغرس في عنقها ثم لم تعد تدري بشيءٍ بعد ذلك، كان ينظر إليها بملامحٍ منبسطة بعد انقباض أنفاسه وهو ينتظر استيقاظها، بدأت تفرك عينيها بقوة قبل أن تتابع بإعياءٍ واضحٍ:

-إنتَ كُنت بتكذب عليا كُل الوقت دا؟؟ كُنت بتمثل إنك خايف عليا أنا وعُمر علشان تنتقم من بابا؟؟؟

تجمعت الدموع في عينيها في تأثر وانكسارٍ أصاباها ما أن تحطمت الثقة التي تجمعها به، ابتلع ريقه على مهلٍ قبل أن يقول بلهجة مخنوقة:

-إنتِ وعُمر مشاعري ليكم كانت حقيقية مش تمثيل، أيوة كُل حاجة حصلت من يوم دخولي حياتكم تمثيل إلا مشاعري كانت برا اللعبة.

أسرعت برمي الغطاء قبل أن تجاهد في النزول عن الفراش، خرجت صرخة متألمة منها حينما شعرت بألم شديدٍ يكتنف ذراعها؛ انتفض قلبه قبل جسده واندفع مُسرعًا نحو بينما لاحت سبابتها أمام عينيه وصرخت مُحذرة له وهي تنهض واقفةً:

-اوعى تقرب مني.. إنتَ خاين.. ابعد عني واوعى إيدك دي تلمسني.

تأججت نيران مشاعره التي تنهار من كلامها عنه والذي خلا من الثقة فيه تمامًا، بدأت ترتدي معطفها ثم تحركت بخطوات مترنحة فقدت فيها قدرتها على الاتزان بينما صرخ هو بأنفاسٍ ملتهبة:

-أنا أه واحد من رجالة نجلا.. بس لا أنا خاين ولا هي ست خبيثة.. عثمان السروجي هو اللي خان واتخابث.. أنا عُمري ما فكرت أأذيكِ.. إنتِ نور عيني وهبتيني بصيرة أعرف بيها أفصل المذنب عن اللي مالوش ذنب.. إنتِ والله كُنتِ وما زلتي بصري وبصيرتي.

رمقته بنظرات نارية قبل أن تستند بجسدها على الحائط كيلا تسقط بفضل ما تشعر به من دوار ثم صرخت بقلبٍ مكلومٍ:

-ولمَّا أنا نور عينك طفيتني ليه؟؟؟ أنا عمري ما اديت ثقتي لحد قبلك ولا بعدك.. إنتَ مخادع ومُجرم وأنا مش هستنى لمَّا تخلص من بابا ولو كان ليك حق عنده الأفضل لك تاخده بالقانون مش بالانتقام والغدر.

اندفع مُسرعًا إليها وما أن وقف أمامها مُباشرة حتى هاج بانفعالٍ ناقمٍ:

-أنا مغدرتش بيكِ.. أنا بحبك يا غبية!

نظرت داخل عينيه بتحدٍ ثم صرخت بقلبٍ مُرتجفً يرعد لقولها عكس ما يضمر به:

-وأنا بكرهك.. وعُمري ما هحبك.

كاسب وهو يرمقها بثبات ثم يقول بلهجة ثابتة:

-بتحبيني يا سكون.

انهمرت دموعها تنفجر من عينيها ثم بدأت تنهال على صدره بضربات منتقمة من كفيها وهي تصرخ ملتاعة:

-لو كُنت سيبتني أتحرق في العربية كان أهون عليا من النار اللي بتاكل قلبي دلوقتي، على الأقل وقتها كُنت هبقى جثة مش حاسة بالألم لكن أنا دلوقتي وجع الدنيا كله فيا.

قام بالقبض على كفيها ثم ترجاها بأنفاس مضطربة مكلومة:

-مينفعش تتخلي عن قلبي علشان تتمسكي بأوهام، إنتِ متعرفيش أسبابي، متعرفيش حاجة، إنتِ نضيفة رغم إنك بنت عثمان، ومش هتخرجي من هنا غير وإنتِ مصدقاني يا سكون.

لمعت الدموع في عينيه حينما وجدها تصرخ باستهجانٍ وهي تتعمق بنظراتها داخل عينيه:

-أيه؟؟ هتحبسني؟؟

أومأ برأسه ثم اندفع بثبات نحو الباب وقام بغلقه ثم وقف خلفه وهو يطالعها بنظرات متحدية ثم يهدر بلهجة صارمة:

-بما إنك هتقفي في وشنا وقت تنفيذ خطتنا يبقى هحبسك يا سكون.

صرخت بلوعٍ وهي تقترب منه:

-خطتك دي اللي هي قتل أبويا؟؟

كاسب بنفس الحدة يتابع:

-أنا مش هلوث إيدي بدم فاسد، إحنا ما إلا بنجمع أدلة ضده.. مسألتنيش يا سكون.. أبوكِ أيه ذنبه؟؟ ولا خايفة أكون على حق؟؟

أجهشت باكيةً بمرارة قبل أن يحسم القرار في هذا الأمر ويتابع بلهجة شديدة:

-أبوكِ خطف طفلة رضيعة من أمها علشان يحطها في حُضن مراته!

يتبع

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *