رواية رحماء بينهم الفصل السادس و الاربعون 46 – بقلم علياء شعبان
•~•~•~•~•~•~•
“أحب بقاع الكون إليَّ؛ قلبها”
•~•~•~•~•~•~•~•~•
قاد سيارته مُغادرًا المدينة إلى البلدة منذ ساعتين تقريبًا حتى قارب على الوصول إلى بيت العائلة للاحتفال معهم بقدوم أول حفيد لهم، غفت على كرسيها من لحظة صعودها للسيارة وحتى تكلم “عِمران” بصوت خافتٍ يغلفه الهدوء وهو يطالعها تارة وينظر إلى طريقه تارة أخرى:
-شروق؟؟.. اصحي إحنا داخلين على البيت.
وصلها هسيسه الخافت فبدأت تُحرك أهدابها بإرهاق شديدٍ ثم أدارت رأسها نحوه وهي تقول بنعاسٍ:
-وصلنا فعلًا!!
حرك رأسه مومئًا، ففركت عينيها بأطراف أصابعها ثم اعتدلت في جلستها على المقعد وهي تحاول استعادة تركيزها واذهاب الأرق والنوم عن عينيها، تنحنحت باستعدادٍ وهي تدقق النظر فيه بينما هو منشغلًا بقيادة السيارة بين الأزقة الضيقة في البلدة لتبتسم في هدوءٍ وتقول:
-كل مرة نيجي فيها البلد بتكون مُصمم تدخل العربية لحد باب البيت وترجع تختنق من ضيق الشوارع.
اكفهر وجهه وهو يستدير لليمين ثم يقول بلهجة لينة عكس ما يظهر على ملامحه من ضيق:
-ما ينفعش أركنها في بداية البلد، إحنا هنا مش في القاهرة وهيكون في احتمال من الاتنين يا تتسرق أو العيال في الشارع يبكوني عليها.
انطلقت ضحكة رقيقة من بين شفتيها ثم أومأت في صمتٍ وما هي إلا لحظات حتى كان يصف سيارته أمام بيت العائلة الذي كان بابه مفتوحًا على مصراعيه لاستقبال المهنئين بقدوم أول ولي عهد لعائلة النوبي المعروفة في البلدة والثرية؛ معقبين بأنه أخيرًا جاء من يرث عنهم كل هذه الأموال الطائلة، نزل “عِمران” من السيارة يتململ واقفًا من تيبس جسده الذي بقى أمام كرسي القيادة لأكثر من ساعتين، نزلت هي الأخرى من السيارة وقد عبست ملامحها فجأة وظهر الارتباك باديًا على وجهها وهي تستعيد ذكرياتها المؤلمة بين جدران هذا البيت الذي رفضها دائمًا، ابتلعت ريقها على مضضٍ وبدأت تفرك كفيها سوية فلاحظ هو ذلك، استدار إليها فورًا ثم حرر كفيها والتقطهما بين خاصتيه وهو يقول بلهجة ثابتة بعد أن قرأ عينيها وما يجول في خاطرها بدون أن تتفوه بحرف منه:
-اوعي أحس تاني إنك خايفة أو هايبة حد أو مكان طول ما أنا جنبك ولو في وضع جوا معجبكيش بلغيني فورًا!!
همَّت أن تتكلم ولكنه وضع سبابته على شفتيها وأكمل بنظرات معاتبة ولهجة حازمة:
-اوعي تسكتي عن إهانتك علشان المركب تمشي أو اليوم يعدي!
عِمران بنبرة أكثر حدةً يحذرها:
-تغرق المركب أو تعطل حتى الأهم إن محدش يدوس على طرف منك، فهماني؟؟
أومأت بتفهم فأمسك بيدها وسار بها داخل البيت، كان البيت حاشدًا بأهل البلدة كلهم تقريبًا من رجالٍ ونساءٍ وما أن لمحه أبوه وشقيقه حتى أتيا لاستقباله بحفاوة كبيرة فتصافحون بحرارة ثم جاءت والده التي تهللت أسارير وجهها عن رؤيتهم، وبعد السلامات قامت بأخذ “شروق” إلى الداخل حيث مراسم استقبال المولود التي تقمن بها النساء، كانت “شروق” تنظر من حولها في انبهارٍ وهي تجد مجموعة كبيرة من السيدات يجلسن داخل غرفة تراصت فيها أواني وأقدار عملاقة يطهون الكثير من الأكلات الشعبية الدسمة لتوزيعها على أهل البلدة كافة ومجموعة أخرى تنكب على تجهيز أكياس مُلأت بالفول السوداني والحلوى المُشكلة والفشار، لمحت “راوية” تجلس على الأريكة تُشرف بعينيها على الجميع، فافتر ثغرها عن ابتسامة عريضة وهي تتجه إليها:
-حمد لله على سلامتك يا راوية، إن شاء الله يتربى في عِزك وعِز والده وتشوفيه بأحسن حال.
ابتسمت لها “راوية” ابتسامة باردة وردت:
-عقبالك يا حبيبتي!
نحت “شروق” ببصرها للرضيع الذي ينام بجوارها ثم دست كفها داخل حقيبتها تلتقط علبة من القطيفة ثم تميل نحو الصغير لمداعبته وهي تقول بسعادة كبيرة:
-بص بقى أنا جبت لك أيه؟؟؟
وقبل أن تكشف عن وجهه وجدت “راوية” تحابي على الصغير بذراعها تحثها على التوقف وهي تقول بلهجة حانقة:
-معلش لسه مولود ومناعته ضعيفة ومش عايزة حد يبوسه!!
غابت السعادة عن ملامحها وشعرت بالحرج وهي تستقيم مرة أخرى في وقفتها ثم تقول بصوت مخنوقٍ:
-مكنتش هبوسه، بس طبعًا عندك حق.
ثمة غِصَّة عالقة في حلقها جعلتها تقول بصوت متهدج حزينٍ:
-اقبلي الهدية البسيطة دي مني.
أنهت عبارتها ثم انصرفت من أمامها فقابلتها “تماضر” التي كانت تهتم بالإشراف على تعبئة الوجبات، نادت إحدى العاملات وطلبت منها أن تحمل الحقيبة عن شروق وترافقها إلى غرفتها، صعدت ومعها العاملة وما أن دخلت الغرفة حتى تابعت العاملة باحترام:
-حاجة تانية يا ست هانم؟؟
شروق وهي تومىء نافيةً ثم تقول بخفوتٍ:
-لأ يا حبيبتي.. اتفضلي إنتِ.
خرجت البنت على الفور فألقت “شروق” بنفسها على الفراش ترمي همومها قبل أن تقع هي عليه، جلست على طرفه يغلفها الانكسار واللوعة في تقبلها أمر الخالق وتحطيم الخلق لها خاصةً راوية التي أصابها لمعة غريبة في عينيها تشبه التجبُر والترفع؟؟ حتى بحة صوتها صارت أقوى وأغلظ كمن شعرت بالقوة والصلابة بإنجابها ولدًا للعائلة فصارت تطغى بنظراته وكلامها واثقةً أن ما تفعله لن يكون له مردودًا لأنها منحت العائلة غُصنًا مُمتدًا لنسلهم، فرَّت دمعة ساخنة من حدقتيها شاعرةً بالوضاعة التي انبعث تقبض على عنقها من أعين “راوية” وكأنما تخبرها بأنها لم تقدم لهذه العائلة شيئًا؛ بل هي من قدمت لهم جزورًا تمتد للنهاية.
طُرق الباب فمحت دموعها فورًا قبل أن تفتح “تماضر” الباب ثم تقول بدهشة:
-أيه يا شروق، إنتِ لسه هنا؟ تعالي يلا اقعدي مع البنات وانبسطي بالأجواء!.
أومأت شروق وهي تنهض من مكانها متجنبة النظر إلى أعين “تماضر” حتى لا تلاحظ لمعة عينيها الدامعتين، خرجت “شروق” من الغرفة ونزلت إلى الصالة التي تجلس فيها النساء، كانت تجلس في وحدة وحُزن فلم يصيبها القدوم إلى هذا المكان إلا بالوحدة، التفتت إليه إحدى السيدات التي ربتت على كفها وقالت بنية سليمة لا يشوبها ذرة شماتة:
-وإنتِ يا بنتي، ربنا يديكِ ويراضيكِ قُريب.
لقد داهمت التجاعيد كف المرأة العجوز بشكل قاسٍ، شعرت “شروق” بحُنوٍ جارفٍ في حديثها وقبل أن تتكلم وجدت “راوية” تتصنع التأثر وهي تقول بحُزن زائفٍ:
-بدعي لها والله يا خالة إن ربنا يرزقها بمعجزة وتخلف وتدوق حلاوة الضنا، أصل الدكاترة قالوا لها إنها مش بتخلف.
عبست العجوز وأسرعت تقول بلهجة ناقمة:
-تفي من بؤك يا راوية، ليه يا بنتي كدا، الملافظ سعد، مفيش حاجة عن ربنا بعيدة.
ابتلعت “شروق” غِصَّة مريرة في حلقها وهي تشيح بوجهها للجهة الأخرى وتقول بخفوت رغم نزف مشاعرها المكلومة:
-ونعم بالله.
في تلك اللحظة، هبَّت “راوية” من مكانها وشرعت تمشي بخطوات متهادية أمامهما وهي تضع كفها أسفل بطنها المجروح وتقول بنية غير سوية:
-الوجع هيموتني بس كله يهون علشان عيون النوبي الصغير.
ابتعدت من أمامهما بينما ظلت “شروق” مُطرقةً برأسها للأرض في اختناقٍ ورغبة عاتية تنبعث من داخل نفسها في البكاء.
نظرت “راوية” يمينًا ويسارًا تتأكد من انشغال الجميع في أعمالهم، فطفقت تصعد الدرج رويدًا وعلى مهلٍ بعيدًا عن انتباه الكل حتى صعدت للطابق الثاني ثم بدأت تلتفت حولها في ارتباكٍ قاصدةً غُرفة “شروق” خصيصًا وما أن وصلت حتي اندفعت للداخل وأغلقت الباب خلفها وأخذت تتنفس الصعداء في وجلٍ ولم تترك لنفسها لحظة لالتقاط الأنفاس فأسرعت فورًا تشمل الغرفة بعينيها بنظرات مبعثرة مضطربة حتى وقعتا على الحقيبة الشخصية، هرولت إليها ثم بدأت تقلبها وتفرغ ما في جوفها على التسريحة تبحث عن شيءٍ بذاته، شيءٌ يُعزز ذنبها تجاه الأخيرة وحرمانها الأمومة إلى أن رأت كرة من الشعر فابتسمت بظفرٍ وعينين تلمعان وقامت بإخفاء الكرة داخل حمالة صدرها ثم اندفعت تخرج من الغرفة قبل أن يراها أحدُ.
هرولت نحو الدرج تهبطه مرة أخرى، بينما ظلت “تماضر” تراقب هبوطها الدرج وهي تختبئ خلف الحائط وما أن نزلت حتى قدح الشرر من عيني “تماضر” واستبد بها الشك حول “راوية” التي رغم أنها ما زالت مرأة نفساء حققت الزواج الناجح ورُزقت بالابن إلا أنها لا تنظر إلى حياتها وتحمد الله وتكتفي بل تسعى ألا يحقق غيرها هذه الإنجازات!!
أطبقت “تماضر” أنيابها في غيظٍ وقد اشتعل صدرها وجاش بنارٍ لا تنطفئ، توعدت لها ومحاسبتها عمَّا يضمر في نفسها تجاه “شروق” من ضغينة دفعتها لأذيتها كي تبقى هي سيدة البيت وأم الأحفاد وحدها ودون أن تشاركها غيرها في ذلك.
اندفعت “تماضر” بمشاعرٍ مُلتهبة وخطوات مهتاجة نحو غرفة “شروق” ثم جمعت الأشياء داخل الحقيبة مرة أخرى والتقطتها وخرجت بها من الغرفة، كان وقع خطواتها عنيفًا حينما هبطت الدرج وتوجهت نحو حشد النساء ومن ثم إلى الرقعة التي تجلس بها “شروق” و “راوية” وما أن وقفت أمامهما حتى لوحت بالحقيبة أمام عيني “شروق” ثم تابعت بابتسامة ثابتة تخفي غيظها عن مرأى أعينهما:
-خُدي يا شروق يا بنتي شوفي شنطتك ليكون ناقص منها حاجة!!
زوت “شروق” ما بين عينيها قبل أن تسأل في تعجُبٍ:
-دي كانت في أوضتي!!
التفتت “تماضر” بعينيها إلى “راوية” التي توترت صفحة وجهها بشكل ملحوظٍ جاهدت في إخفائه ثم التفتت من جديد إلى “شروق” وقالت بلهجة شديدة:
-لقيت كل اللي فيها مرمي على التسريحة قولت يمكن حد من عيال الضيوف فتحها وخد حاجة؟
أومأت “شروق” في تفهم؛ دست يدها وعيناها داخل الحقيبة تتفقد أشيائها جميعًا وما هي إلا لحظات قبل أن ترفع عينيها مرة ثانية ثم تقول بهدوءٍ:
-لا مفيش حاجة ناقصة غير خصلات شعر العروسة اللي كانت بتلعب بيها بنوتة عندي في الكيدز إيريا (مكان مخصص للأطفال).. ربنا يستر ومفيش طفل يلاقيها ويحطها في بؤه.
تماضر وهي ترفع أحد حاجبيها ثم تبتسم بمكرٍ:
-آآآآه، شعر عروسة لعبة؟؟
أومأت “شروق” إيجابًا؛ فتوترت “راوية” أكثر وجاش صدرها بنيران الغيظ والغضب ونجحت “تماضر” في ملاحظة ذلك بوضوحٍ شديدٍ.
•~•~•~•~•~•~•~•
اندفع من بوابة المصنع بسرعة البرق؛ تقدم إلى الداخل بخطوات متعثرة لا تُشبه الراسخة التي كان عليها من قبل، كان وجهه مُكفهرًا والنيران تنبعث من حدقتيه وهو يضع الهاتف على أذنيه ويقول بلهجة شديدة الغضب:
-في أيه يا نبيلة؟ إنتِ مش عارفة إن العمال كلموني علشان الكارثة اللي حصلت في المصنع؟
جاءهُ صوتها تقول بكلمات مُضطربة:
-سكون لحد دلوقتي مرجعتش البيت وأنا قلقانة عليها!!
عثمان وهو يهيج صارخًا بانفعالٍ:
-هتروح فين يعني.. مهما لفت لازم هترجع.. اقفلي دلوقتي يلا.
أكمل سيره بخطوات مستعجلة للداخل إلى أن التقى بسكرتيرته التي سارت بجواره في وجلٍ دون أن تتكلم بينما تابع هو بصوت أجشٍ جعل جسدها ينتفض:
-فين ياسر من كُل اللي بيحصل هنا؟؟
ابتلعت ريقها بصعوبة بالغة وهي تقول بتلعثمٍ:
-مع العُمال في المصنع يا عثمان بيه!!
غير مسار طريقه من غرفته إلى المصنع وما أن عبر أبوابه حتى وجد تجمهرًا من العمال حول الماشية الميتة على الأرض، صوت غمغمة العمال ضغط أعصابه؛ فتسارعت أنفاسه وهو ينظر إليهم بعد أن أدرك أنه يتعرض لخسارة فادحة لم يكابد مثلها على مر الأعوام ومنذ نشأة المصنع، حيث وصله أنباء بانتشار فيروس ما بين المواشي مما أدى إلى قتلها وتسرب هذا المرض المُعدي إلى العُمال أيضًا فمرض منهم من مرض وتخلف عن الحضور من تخلف.
نظر مصدومةً من حوله قبل أن يصيح مُنفعلًا:
-ياسر؟؟ فهمني أيه اللي بيحصل؟؟ وامتى الكلام دا كله حصل؟؟ ومرض أيه دا اللي ظهر ما بين يوم وليلة؟؟
أسرع “ياسر” إليه قيل أن يقبض بهدوءٍ على ذراعه ثم يحثه على الابتعاد عن العُمال ثم التكلم، تنحنح أولًا قبل أن يقول بتوترٍ:
-المرض كان موجود من فترة بس الدكاترة كانوا مسيطرين على الوضع ولكن فجأة كل حاجة اتغيرت ووصلنا النهاردة لقيناهم ميتين.
قبض على كفه الممدود إلى ذراعه ثم أطاح به بقوة ضارية وأردف:
-لازم تلاقي حل المهزلة اللي بتحصل قدام العمال دي، مكنش لازم يحصل قدامهم الكلام دا، إنتَ المسؤول قدامي عن النتيجة يا ياسر.
تصبب جبين “ياسر” عرقًا قبل أن يقول بخوف يكتنفه:
-الأهم من كُل دا، إنتَ لازم تعمل تحليل للڤيرس دا يا عثمان بيه، لازم نطمن عليك!
استبد الخوف به وخشي أن يكون قد أصابه هذا المرض المنشود وهو المصاب بحب ذاته وخوفه الشديد على صحته وسلامته، أومأ مؤيدًا رأي ياسر قبل أن يتلعثم الأخير وهو يسأل متوجسًا:
-مش عايزك تقلق خالص، أنا هكلف العُمال يتخلصوا من الحيوانات دي في أسرع وقت وهنسكتهم بمبلغ وكأن مفيش حاجة حصلت.
قدح الشرر من عيني “عثمان” وهو يطبق على أسنانه بشراسة ويقول:
-حيوانات أيه اللي هترميها يا مُغفل إنتَ؟؟
قطب “ياسر” ما بين عينيه باستغرابٍ وتساءل بشكٍ وريبة:
-أمال نعمل فيهم أيه؟؟
خفت حدة صوته وخفض نبرته الحادة وهمس من بين أسنانه المطبقة:
-إحنا هنتظاهر إننا تخلصنا منهم ولكن هيتم استخدامهم كسلع انتاجية خارجة من المصنع للمستهلك عادي جدًا.
خرجت عيني “ياسر” في جحوظ وصدمة لجمته عن النطق لثواني قبل أن يتابع بلهجة مضطربة يكسوها الريبة:
-بس دي ميتة؟؟ ودا حرام؟؟
رمقه “عثمان” بنظرات نارية قبل أن يتابع بلهجة محذرة:
-ما هو محدش يعرف غيري أنا وإنتَ يا ياسر!
ضرب بكفه على صدر الأخير الذي تصلب في مكانه ويبست أطرافه وهو ينظر مصدومًا إلى الفراغ من حوله، بقى هكذا للحظات قبل أن يصيح “عثمان” في وجهه بصرامة:
-فين الدكتور اللي هيعمل لي التحاليل!!
استفاق “ياسر” من دهشته وهو يتعثر في كلماته ويقول وما يزال تحت وقع الصدمة:
-من هنا.. من هنا يا عثمان بيه.
انطلق “عثمان” حيث أشار الأخير وذلك بعد أن أكد عليه تنفيذ ما طلبه منه في سرية تامة وبأسرع وقت، صر بقوة على أسنانه من هول ما يرغب هذا الرجل المُستبد الذي يرى أن لا أهمية للإنسان ولا حياة أثمن من حياته، اشتعل الغضب وملأ قلبه الحاقد على عثمان.
فتح “عثمان” الباب بقوة فوجد الطبيب يجلس في انتظاره وما أن دخل حتى صاح بصبرٍ نافدٍ:
-خلص اللي هتعمله والنتيجة تكون عندي النهاردة وفي أسرع وقت، مفهوم؟؟
أومأ الطبيب بقلقٍ وقال:
-تحت أمرك يا عثمان بيه.
كشف على الفور عن ذراعه قبل أن يغرس الطبيب سِن الإبرة في وريده ويسحب عدة قطرات قليلة تفي بالغرض وما أن انتهى حتى هبَّ عثمان واقفًا مرة أخرى واندفع بغضبٍ مُدمرٍ نحو غرفته لإتاحة الفرصة لعقله للتفكير فيما يجري معه في الآونة الأخيرة خاصةً منذ ظهورها..
فتح الباب بعصبية مُفرطة ولكنه بقى صنمًا لا يُحرك ساكنًا ولا يتجاوز عتبة الباب حتى، اتسعت عيناه على وسعهما حينما أبصرها تجلس على كرسي مكتبه واضعةً قدمًا فوق الأخرى وابتسامة ماكرة تظهر على شفتيها؛ انتشل نفسه من الصدمة فورًا وهو يصيح مشتعلًا من شدة الغضب:
-إنتِ إزاي دخلتي هنا؟؟
اِفتر ثغرها عن ابتسامة ساخرة وهي تقول ببرودٍ وكأنما تستمتع بتأججه:
-من الباب.
اندفع بقوة نحوها فاستدارت بالمقعد كي تواجهه، قام بمحاصرتها بوضع كفيه على مسندي الكرسي بينما مال عليها يرمقها بنظرات نارية فبادلته نظرات أكثر من خاصته اشتعالًا وقسوةً، ظلا ينظران إلى أعين بعضهم للحظات قبل أن تقول هي بلهجة استفزازية ثابتة:
-سكون بنتي مش كدا؟؟؟
انتفض داخله في صدمة على عكس جسده الذي بقى صامدًا إلا عينيه، رأت الارتباك والهروب فيهما حينما ضغط كفيه معًا وقال بلهجة نارية:
-شكلك مريضة نفسيًا لدرجة إن الوهم صور لك إني ممكن أحتفظ ببنت منك!!
انطلقت ضحكة عالية من بين شفتيها؛ لم تكُن على الإطلاق ضحكة بل كان غليلًا يتصاعد في تراكمٍ لتتكلم بلهجة ناقمة:
-أمال خطفت بنتي مني يوم ولادتها ليه؟؟ كان أيه هدفك وقتها لمَّا بعدتها عني؟؟.. اقنعني يلا!!
رفع أحد كفيه ثم ضرب جانب رأسها وهو يقول بغليلٍ ينبعث بين طيات حروفه:
-إنتِ مين علشان أقنعك؟؟ قولت لك مليون مرة أنا مخطفتش حد ولا فارق معايا إنتِ أو حد يخصك، تقتنعي أو لأ ميفرقليش ويلا غوري من هنا قبل ما أسرق روحك.
أسرعت برفع قدمها قليلًا ثم دعست قدمه بقوة مغلولة جعلته يسحبها فورًا وهو يصيح يغيظٍ وألفاظ نابية:
-يا بنت ال*لب.
رفعت أحد حاجبيها بثبات وما أن جاءت سيرة والدها على طرف لسانه بل وسبه وكأنه لم يكفه ما تعرض له والدها بفضل فعلته الدونية، ارتسمت ابتسامة عريضة على مُحياها قبل أن ترفع ساقها للأعلى ثم تضربه ضربة ضارية بركبتها بين ساقيه وهي تقول بصرامةٍ:
-خلفتك الجاية.. خطر على البشرية.
انبعثت صرخة متألمة من بين شفتيه فأسرع في كتمها وهو يضغط على مكان الألم قائلًا بنبرة ينفجر منها الوجع:
-دا أنا هشرب من دمك يا رخيصة يا بنت الحرام!
هبَّت واقفةً في مكانها ثم وضعت حقيبتها في كتفها ورددت بابتسامة غير مُباليةٍ بوجعه:
-هسألك للمرة الأخيرة قبل ما أعرف بطريقتي وساعتها العقاب هيكون ضعفين!!
سكتت هنيهة وهي تحدق في عينيه بتحدٍ وتقول:
-سكون بنتي اللي خطفتها مني ولا لأ يا ديل الكلب؟؟
انتظرت رده بحاجب مرفوعٍ وذراعين معقودين في ثبات كبيرٍ؛ فوصلها الرد بعد لحظات حينما باغتها بقبضته التي أطبقت عنقها ثم أخذ يدفعها للخلف إلى أن التصق ظهرها بالحائط، أخذ يضغط عنقها بقوة حتى ظنت أنها مفارقة للحياة لا محال ورغم ذلك أخذت تقاوم ذراعه وتحاول دفعه بعيدًا عنها بينما عيناها تجحظان من شدة الاختناق إلى أن توصلت إلى حلٍ ينقذها من بين براثنه، أسرعت بوضع كفها داخل جيب معطفها والتقطت القداحة على الفور وعلى حين غُرة منه قامت بإشعالها وتوجيهها نحو خصلات شعره التي التقطت النيران فورًا ليتركها على الفور وما أن شعر بسخونة ودخان ينبعثان من رأسه؛ كما ازدادت الرائحة بصورة ملحوظة فبدت كرائحة الشواء ليُحررها رغمًا عنه ثم يهرول مسرعًا إلى الحمام ويقوم بوضع رأسه أسفل الصنبور لإطفاء النيران، بدأت تستعيد وعيها الذي أوشكت أن تفقده وراحت تتنفس بقوة ثم هدأت وتيرة أنفاسها لتُقرر الذهاب قبل عودته وهي تقول بلهجة شديدة أثناء خروجها من الباب:
-المرة الجاية هحرق لك ديلك.. لأن مفيش أمل أنه يستقيم أو يتعدل.
تجذفت في سيرها خارج المصنع بأكمله وما أن وصلت إلى سيارتها واستقرت بالمقعد الخلفي حتى فتحت النافذة ليظهر أمامها وهو يقول بنبرة متوترة:
-دي العينة يا نجلا هانم.
ابتسمت له بهدوءٍ ثم تساءلت بحزمٍ:
-الفيديو والتسجيل الصوتي؟؟
أردف “ياسر” بارتباكٍ شديدٍ وهو يتلفت حوله مخافةً أن يراه أحد:
-قبل ما توصلي البيت هيكونوا على تليفونك، ما تنسيش لازم نحذر الناس من منتجات اللحوم لشركة عثمان السروجي.. أنا خايف على الناس تتأذي!!!
أومأت “نجلا” وتابعت بتفهم:
-سيب الموضوع دا عليا، أنا هتصرف بمعرفتي.
تابع يذكرها بكلمات مُشتتة:
-اوعي تنسي تفبركي تحليل علشان هيسأل كل دقيقة عن نتيجة تحليل الڤيرس!!
نجلا بابتسامة هادئة تتدارك مخاوفه:
-اعتبر حصل يا ياسر.. اوعى تخاف منه.. إنتَ شخص أمين وربنا هيسترها معاك.
بادلها ابتسامة بسيطة ثم ابتعد عن السيارة على الفور عائدًا إلى الشركة قبل أن يلاحظ “عثمان” غيابه ويتساءل حوله.
•~•~•~•~•~•~•~•~•
مطت شفتيها بامتعاضٍ وهي تجوب الشوارع بعينيها من خلال نافذة السيارة قبل أن تلتفت صوبه ثم تقول باستغرابٍ وهي تُشير إلى أحد المنعطفات:
-تليد، طريق بيت بابا من هنا!!.. إنتَ نسيت ولا أيه؟؟
أومأ سلبًا ينفي اعتقادها ثم التفت بعينيه إليها وقال بابتسامة مسالمة:
-قبل ما نروح لبابا.. حبيت نروح مكان هيبسطك أوي.
انبسطت ملامح وجهها بسعادة متحفظة قبل أن تسأل باهتمام وتوجسٍ:
-فين؟؟ هنروح البحر وألبس مايوه؟
ضحك ضحكة بسيطة لا صخب لها قبل أن يقول بحرصٍ ودهاءٍ:
-إنتِ والبحر تاني؟؟ دا بعينك تحققي أحلامك الوردية دي، عايزة بحر ومايوه، علينا وعليكِ بخير الصيف الجاي وهيبقى شاليه مُغلق بحمام سباحة وعيشي.
التوى شدقها وسألت في فضولٍ:
-أمال إحنا رايحين فين؟؟
أجابها بإيجاز وهو ينخرط مركزًا مع طريقه:
-حالًا هتعرفي.
ارتحت أكثر فوق كرسيها تُسند رأسها عليها وقررت أن تنتظر ظهور المفاجأة قريبًا، هي فضولية تحب أن تعرف كل شيءٍ في وقته بينما يعلمها هو الصبر والترويج وليس كل شيءٍ نريده أو نريد معرفته يكون توقيته “الآن” التريث في نيل الأشياء أو المعرفة بها دومًا تقنية جيدة لا تكابدك خسارة كبيرة وقد لا تكابدك خسارة أبدًا بينما التسرع لا ينجم عنه إلا الهباء.
استقر بسيارته أمام أحد المولات التجارية قبل أن ينظر إليها ثم يقول بابتسامة عذبة:
-يلا يا ست البنات، تعالي!
زوت ما بين عينيها وهي تنظر للمكان، ترجل على الفور من السيارة ثم سار إلى الباب التي تجلس بجواره وفتحه وهو يمد كفه لها ويقول بلين:
-يا فضولية، خلاص هتعرفي دلوقتي.
انطلقت ضحكة صغيرة من بين شفتيها مع إدراكه ما يجول في رأسها، وضعت راحتها على كفه وهي تترجل من السيارة في تروي وتمهلٍ، أحكم غلق الأبواب ثم انطلق بها للداخل بينما تنظر هي بانبهارٍ إلى محلات الملابس الموجودة بالدور الأول فاجأها حينما انعطف يسارًا بعيدًا عن المحلات تمامًا، كان يمسك بيدها إلى أن وصلا إلى باب كبير فعبرا منه ليلتفت “تليد” بعينيه إليها يتفقد ملامحها حينما ترى المفاجأة، شهقت بخفوتٍ وهي تنظر إلى الصالة الكبيرة المغطاة بالجليد والتي تُستخدم في التزلُج وهذه أكثر الأمنيات التي أرادت تحقيقها مع زوجها يومًا ما، فغرت فمها وهي تتحول بنظراتها إليه ثم تقول بدهشة:
-اوعى تقول إنك قرأت مذكراتي؟؟
قطب حاجبيه معًا قبل أن يومىء نافيًا معتقدها وهو يقول بلهجة ثابتة:
-لا والله خالص.. أنا قولت نعمل حاجة مجنونة مع بعض!!
تهللت أسارير وجهها وهي تنظر بانبهارٍ إلى المكان قبل أن تلاحظ خلوه من الناس وتتساءل بشأن هذا:
-بس هي فين الناس؟؟
تليد وهو يلتقط العجلات من يدٍ الرجل ثم يقول بهدوءٍ:
-حجزت الصالة كاملة لمدة نص ساعة، نلعب فيها أنا وإنتِ وبس.
دقَّ قلبها بقوة وبغير هوادة، هذا بالضبط هو الاهتمام الذي رغبت أن تناله وتستحقه يومًا؛ بل شغفه واهتمامه بها كانا أجمل بكثير مما حلمت به طوال عمرها، انفرجت ملامح وجهها بسعادة غامرة تمكن من رؤيتها بوضوحٍ فسرت السعادة بين شرايين قلبه لفرحتها، في هذه اللحظة أسرع بجذبها من ذراعها حتى أجلسها على دِكة حديدية بالصالة ثم نزع حذاءها الرياضي عن قدميها ووضع حذائي التزلج وتأكد من ثبات قدميها داخلهما، كان جالسًا على قدميه أمامها ومنخرطًا في التأكد من ارتداؤها للحذاء بإحكام لتُمرر هي أناملها برفق على خصلاته السوداء الناعمة فرفع عينيه يلتقي بعينيها ويمعن النظر فيهما قبل أن يرمي لها غمزة قتلت الثبات فيها ويقول بابتسامة هادئة:
-يلا بينا!!
أومأت وما زالت تتطلع إلى عينيه الخلابتين فبدت هائمةً في عالمٍ آخر ولم تسمع سؤاله حتى، ابتسم على حالها وأسرع بارتداء حذائه قبل أن يمسك كفها مرة أخرى ثم يتجه بها صوب الرقعة الجليدية.
بدأت تضحك بشكلٍ متوترٍ حينما دفعها بروية على الجليد وهي تصرخ باستجداء راغبةً في بقائه إلى جوارها:
-خليك جنبي يا تليد.. أنا عمري ما استخدمت العجلات دي!!
دخل إلى الساحة هو الآخر بينما بقيت هي واقفةً تترنح في ذعرٍ خشية أن تسقط على وجهها فانتظرت حتى اقترب منها ثم تشبثت بقوة في ذراعه وقالت بتلعثم:
-يا لهوي، دي مش بتثبت على الأرض؟؟
انطلقت ضحكة عالية من فمه وسأل في دهشة:
-أمال كان نفسك تركبيها إزاي؟؟
تركت الإجابة عن سؤاله جانبًا وتحولت ملامحها إلى غيظٍ وهي تقول:
-شوفت إنك قريت ذكرياتي!!
ضرب كفًا بالآخر وهو يقول بغيظٍ مكظومٍ:
-يا ستي والله ما حصل، إنتِ اللي لسه قائلة دلوقتي.. وبعدين إحنا جايين ننبسط.. بلاش جو البرتقانة المُلتهبة دا وإلا هسيب دراعك.. إنتِ حُرة بقى!!
هزت رأسها بنفي وهي تتشبث أكثر بذراعه ثم تقول بخوف جلي في نبرتها:
-لأ خلاص، أنا آسفة.
سكتت هنيهة ثم تابعت بتمرد وتبرم:
-على فكرة بقى أنا أترچاية مش برتقانة؟؟
تليد بضحكة هزلية يقول:
-مش هتفرق، أهي كلها برتقاليات.
كانت قدمها تنجرف للأمام تارة فتُسرع بالتشبث بالأرض قبل أن تسقط وللخلف تارة فتقبض أكثر على ذراعه حتى قال وهو يضع كفه أسفل ذقنه بنفاد صبرٍ:
-خلينا واقفين لازقين في بعض زيّ التوأم المتلاصق لحد صلاة الجمعة الجاية، يا أمي؟؟ إحنا جايين نلعب، حلي عن دراعي!!
وَميض وهي تهتف بإصرار وارتيابٍ:
-مش هحلك.. افرض وقعت على وشي د لوقتي؟؟
تليد بانفعالٍ خفيفٍ يرد:
-طب ما تقعي عادي وقومي تاني؟؟ ليه محسساني إنك هتقعي من برج خليفة؟؟
مثلت اختناق نبرتها وبكائها فصاحت:
-إنتَ قاسي على فكرة و…
تليد بضحكة ماكرة وهو يدفعها برفق بعيدًا عنه ثم يقول بلهجة مازحة:
-هل تظنيني وَغدًا؟.. أنا أوغد مما تظنين!.
صرخت بهلعٍ وساقها تقودانها بعيدًا عنه مُرغمةً، فضغطت أسنانها وهي تُبطبط كبطةٍ واقعةً في الماء فتميل على أحد شِقيها تارة وأُخرى على الشِق الثاني، فصاحت متبرمةً:
-تقريبًا كدا لازم أقاوم وابقى سترونج، بدل ما أما هُزء كدا؟؟
صفق لها بحرارة وهو يقول:
-براڤو يا هُزء.. قصدي يا سترونج، جوووو.
بدأت تتغلب على مخاوفها رويدًا رويدًا خاصة حينما وجدته يلف الصالة باستخدام عجلاته وكأنه مُتمرسًا فلم تجده للحظة يتخبط أو تنزلق قدميه وهذا ما دفعها أن تقلده حتى تصل إلى درجة ثباته، بدأت تترك نفسها وتقودها العجلات وبينما هي متوجسةً استطاعت أن تسير مسافة كبيرة دون أن تنزلق قدميها فصاحت بسعادة وانتصار:
-شوفتني يا تليد؟؟ أنا مشيت مسافة كويسة من غير ما رجلي تتزحلق!!
كان يتابعها بطرف عينيه حتى لا تسقط سقطة قاسية تؤلمها وما أن تحدثت إليه حتى بدأ يتجه نحوها وهو يقول بابتسامة عريضة:
-شوفتك يا روح تليد.. براڤو عليكِ.. الثقة بالنفس أهم من الخوف في اللعبة دي.
أومأت في حماسٍ وبدأت تتحرك بعيدًا عنه ولكن على حين غُرة منها انزلقت قدميها معًا فمالت للأمام فاقدة الاتزان تمامًا وقبل أن يرتطم وجهها بالأرض أسرع فورًا بلف خصرها بين ذراعه متمسكًا بها بقوة إلى أن جذبها إليه مرة أخرى فاستقام طولها والتصق ظهرها بصدره فأردفت وهي تستدير إليه متوترةً ثم تقول في دهشة من إنقاذها السريع:
-كنت هقع على وشي حالًا.
تليد وهو يُمعن النظر في ملامحها المرتابة من الخضة ثم يقول في توددٍ مُتغزلًا بتفاصيلها:
-دا قلبي اللي وقع على وشه حالًا.
عانقت كلماته ثنايا قلبها الذي تعلق به رغمًا عنها ورفض القيود التي حاصرته بها كيلا يقع في حُبه وتُصبح سبية لرجلٍ مُتطرفٍ يستخدمها لأغراضه إلا أنها تفاجأت برجلٍ عتيدٍ رصينٍ في فعله وقوله لم يُقدم لها حتى الآن سوى اليُسر واللين؛ فلو كان ثمة من هو مُتطرفٌ أو إرهابيٌ إنما هو عقلها الذي صور لها هذا اللين على هيئة سِجِّين!!
تنفست بعُمقٍ بعد أن توترت من نظراته المحدقة فيها وتابعت بإنهاك:
-كفاية كدا.. أنا مش قادرة ألعب تاني.
أومأ يُقدر رغبتها وأن هذه المرة الأولى لها؛ فمدَّ كفه إليها فأمسكت به بينما تابع وهو يسير بها بترفق نحو الباب:
-زيّ ما تحبي.
سارا بمحاذاة بعضهما، اهتم كثيرًا أن تبقى مستقيمة راسخة حتى خروجها، فدفعها برفق أمامه ثم خرج بعدها وما أن وصلا إلى الدِكة حتى حثها على الجلوس في هدوءٍ ثم أسرع بنزع الحذاء عن قدميها لتميل هي معه وتبدأ في ارتداء حذاءها الرياضي، وهنا أردف باستعدادٍ وهو يهندم ثيابه ويخلل أصابعه بين خصلاته المبعثرة لتنظيمها:
-يلا ظبطي نفسك وهدومك علشان نخرج.
ارتدت حذاءها ثم وقفت أمامه ترتب ثيابها التي أصابتها الفوضى وكذلك حجابها؛ فقامت بحله ثم وضعته على رأسها بصورة مُنمقة أكثر ثم تابعت بانتهاءٍ:
-يلا بينا!
وجدته مُحدقًا فيها بعينين ناريتين فرمقته باستغرابٍ وتساءلت متوجسةً:
-في أيه؟ مالك؟؟
رفع كفه إلى حجابها والتقط طرفه ثم قام بجذبه للأمام حتى تجاوز جبينها وهو يقول بغيظٍ ظهر في كلماته:
-قُل للتي أظهرت طليعة شعرِها وتشبهت بحسونة، صونِي حِجابكِ أختاه واغلقي البلكونة!!.
التوى شدقها بغيظٍ وهي تجد حجابها الذي نظمته بالكاد قد بُعثر من جديد؛ فتابعت بحنقٍ وهي تدفع غُرة شعرها بأصابعها تحت الحجاب:
-كدا حلو؟؟؟
تليد بابتسامة متراضية يقول:
-تمام.
اِفتر ثغرها رغمًا عنها عن ابتسامة ناعمة حينما وجدته يقبض على رأسها بكفيه ثم يقربها من فمه ويقبلها قُبلة هادئة تحمل شغفًا لا ينتهي لها.
•~•~•~•~•~•~•~•~•
قد تكون المأساة الحقيقية لك حينما ترى العالم أجمع في عينين لا تراك سوى ضيعة مُتهالكة؛ هكذا بدا شعوره المؤسف منها، رغم ما يحمله داخل صدره من شوقٍ لا ينضب أبدًا لها لا يراها تتنازل له بقدر إصبع حتى، يمنحها حُبًا فترده كَلمًا ينزُف من عمقه ولا ترد له بالًا إن كان تألم أو لا!
كان يجلس على الأرض يسند ظهره على باب الغرفة ويدفن رأسه بين ذراعيه في سكونٍ بعدما هدر طاقته كُلها يُقنعها بالعدول عن عداوته التي لا يستحقها منها.
وقفت هي أمام النافذة بصدر يجيش غيظًا وغضبًا منه، كيف يحتجزها كذليلة وسبية له في غرفة بمنزل عدوتها؟؟ كيف سحب بذور ثقتها به بعد أن ظل يغرسها فيها طويلًا؟؟ هل أخذ الحق يؤتى بالعُنف؟؟ كان جسدها يفور من شدة لهيبه المُشتعل فنحت ببصرها إليه ثم صرخت بنظرات نارية حادة:
-لآخر مرة بقول لك، سيبني امشي يا كاسب؟؟
كاسب بصوت صارمٍ يقول دون أن يرفع وجهه:
-لأ.
تحركت نحوه بخطوات متمردة إلى أن وقفت أمامه وصاحت وهي تنظر إليه من علوٍ:
-أيه؟ مستني أوامرها؟ طب لو مستني أوامرها فعلًا، بلغها بأني عايزة أتكلم معاها!!
رفع بصره إليها فوجدها تنظر داخل عينيه بتحدٍ ليقول بلهجة شديدة:
-متخليش الغضب يعمي عينيكِ خالص يا سكون؛ لأنك في الفترة دي هتحتاجي تشوفي كل واحد على حقيقته.
صرخت بحدة وغيظٍ:
-ما أنا شوفت فعلًا!!
لم يتحمل نبوج صوتها أكثر من ذلك، انتفض واقفًا في مكانه ثم ضغط على ذراعها بشراسة ما أن تداركها حتى أرخى قبضته قليلًا وهو يهدر بلهجة حادة:
-بتحاولي تستفزيني بصوتك علشان أوجعك بفعل أو بكلام وبعدين تقولي عرفتك على حقيقتك؟؟ لا يا سكون مش هتنولي مرادك لأنك سكون اللي مش هفكر أجرحها بنظرة حتى.. لأني مش إنتِ.. بتجرحي وبتجحدي عادي.
ضوى بريق الانكسار في عينيها ولم تستطع اخفائه حينما أردفت بلوعة مريرة:
-جبتني هنا ليه يا كاسب؟؟؟ وحابسني ليه؟؟
رق قلبه لعينيها الدامعتين فألان نبرته قليلًا وهو يردف:
-إنتِ اللي أصريتي تعرفي مكاني فأنا قررت أعرفك بالسر اللي مخبيه عنك، إنتِ ليه مش قادرة تشوفي ذنب أبوكِ؟
هدأت فرائصها قليلًا قبل أن ترد بخفوتٍ ولوعة:
-لأني مش بشوف ذنوب اللي بحبهم.
افتر ثغره عن ابتسامة فاترة منكسرة وهو يقول بحنقٍ:
-بس شايفة ذنبي؟؟ دا لأنك مش بتحبيني!
فرَّت دمعة من عينيها وهي ترد بنبرة مختنقة حُبست آلامها فيها:
-أو يمكن بتظاهر إني شايفة لك ذنوب؟؟
كانت عبارتها بمثابة رد أنفاسه إلى صدره مرة أخرى بعد أن انقطعت، دبت الأمل في قلبه دون أن تُدرك ذلك، تنفس بقوة قبل أن يجدها تقول بلهجة مستسلمة:
-عايزني أسمعك؟؟ قولي لي أيه اللي حصل لي من لحظة دخولي هنا؟؟ وليه نيمتوني؟؟
رمقها بنظرات جامدة وأكمل:
-بس إنتِ رافضة تصدقي أي حاجة ومش عارفة تشوفينا غير مُذنبين!!!
تلفتت تنظر حول نفسها وهي تقول بصوت مهزومٍ:
-ما أنا صدقتك كتير.. شوف وصلتني لفين؟؟ حابسني في بين أكتر إنسانة بتتمنى لي ولأبويا الموت!!
صاح بانفعالٍ شديدٍ ينفي اعتقادها باقتيادها إلى سفح جبل شاهق وقبل أن تظن بأنه يرميها من فوقه تابع دون أن يعي ما يقول:
-الست اللي بتقولي عليها بتكرهك مغدور بيها من أبوكِ اللي خطف بنتها منها.
حدثت فيه في جحوظٍ وبدت وكأن الدهشة سلبت روحها فشعرت بارتيابٍ يحتل صدرها ثم صاحت باستنكارٍ تامٍ:
-وهياخد بنتها يعمل بيها أيه؟؟
كاسب بنفاد صبرٍ يصيح:
-لأنها بنته بردو!!!
زوت ما بين عينيها غير مصدقة ما يتفوه به من تُرهات؟ هل حملت “نجلا” من أبيها في محاولة الاعتداء عليها كما تزعم؟ وإن كان كذلك؟ فلماذا يختطف ابنتها؟؟ والأهم أين هي؟.
افتر ثغرها عن ابتسامة متهكمة ترفض تصديق قوله وهي تبغض كلامه المتحامل على والدها:
-مستحيل بابا يخطف طفلة!!
في هذه اللحظة وجدت الباب يُفتح فورًا فظهرت “نجلا” أمامها والتي تابعت بلهجة لينة تقول:
-كُنتِ بتقولي بردو مستحيل يكون مُغتصب رغم إنه كدا فعلًا.. عامةً يا سكون أنا هريحك.. تحبي تسمعي الحقيقة؟؟؟
•تابع الفصل التالي “رواية رحماء بينهم” اضغط على اسم الرواية
التعليقات