التخطي إلى المحتوى

 رواية عن تراض الفصل الثالث وعشرون بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة الشروق للروايات)


رواية عن تراض الفصل الثالث وعشرون بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة الشروق للروايات)

(٢٣)

#رواية_عن_تراض

تناهى إلى مسامعهما صوت خطوات تقترب صاعدة الدرج، فارتبكت رغدة، بينما تصلبت ملامح بدر.

تقدما بحذر، يترقبان هوية القادم، ثم تبادلا نظرة متوجسة، فلا شك أن تلك الخطوات تحمل ما لا يُحمد عقباه.

“ادخلي جوه يا رغدة.”

همس بها «بدر» بصوت مضطرب، وهو يشير نحو باب شقته، كانت نظراته قلقة ويداه ترتعشان قليلاً.

مسحت «رغدة» دموعها سريعًا، وه مست بعناد:

-لا… مش هعمل كده، مينفعش.

زفر «بدر» بضيق، محاولًا إقناعها، لكن كلماتها كانت كالجدار، ولم تخترقه محاولاته…

وقبل أن يجد جملة أخرى يستدرجها بها، جاءهما صوت مألوف مشحون بالسخرية:

-إزيكوا يا متواضعين؟

التفتا نحو «سعيدة»، التي كانت تقف عند أول الدرج، تبتسم بمكر، وعيناها تتنقلان بينهما بفضول جليّ.

حكّ «بدر» جبهته بارتباك، محاولًا أن يبدو طبيعيًا وهو يقول بابتسامة:

-أهلًا يا خالة سعيدة… إيه النور ده كله…

رمقته «سعيدة» بنظرة ساخرة، ثم أشارت حولها بإيماءة هازئة وهي تضحك بخفّة:

-نور إيه؟ دا حتى السلم ضلمة!

ابتلع «بدر» توتره، وحاول أن يبدو ثابتًا، لكنه شعر به يتسرب إلى صوته رغمًا عنه وهو يلتفت إلى «رغدة» المتسمرة بجواره:

-طيب يا رغدة… الكتاب اللي إنتِ بتسألي عليه، هبقى أوصله لعمرو… يلا روحي بقى عند سراب، اللي كنتِ عندها من شوية، وقلتِ بالمرة تطلعي تسأليني عنه.

شعرت «رغدة» بأن قدميها قد تجمدتا في الأرض، وعينا «سعيدة» تفترسانها بنظرات مريبة، وكأنها تقرأ ما وراء الكلمات ثم صعدت في سرعة لتقف قبالتهما…

وقبل أن تتمكن «رغده» من قول أي شيء، جاء صوت «بدر» أقوى هذه المرة، فيه نفحة أمر خفيّة:

-يلا يا رغدة!

انتفضت، وتلعثمت وهي تحاول مجاراة الكذبة:

-هه… آه… صح، أنا كنت عند سراب… وطلعت أسأل عن كتاب الـ… الـ…

أكمل «بدر» بسرعة، رافعًا سبابته وكأنه يلقنها الجواب:

-العربي… كتاب العربي!

أومأت «رغدة» سريعًا، بينما كانت «سعيدة» تراقبهما بصمت، تعض على طرف شفتها السفلى وكأنها تمضغ شكوكها، قبل أن تمصمص شفتيها أخيرًا، وتتمتم بريبة:

-كتاب العربي!!

زفر «بدر» بضيق وهو يستدير ليغلق باب شقته، ثم استقام في وقفته، محاولًا أن يبدو طبيعيًا وهو يقول:

-كنتِ عايزة حاجة يا خالة سعيدة؟

ضيّقت «سعيدة» عينيها بدهاء، وابتسمت ابتسامة خفيفة لم تصل إلى عينيها:

-كنت جاية أطمن عليك… بس واضح إني جيت في وقت غلط.

ألقت نظرة جانبية نحو «رغدة» التي بدورها تجمدت في مكانها، وهي تشعر بثقل تلك الكلمات…

وقبل أن تجد ردًّا مناسبًا، تردد صدى خطوات صاعدة على الدرج، ارتعشت أنفاس «رغدة»، واشتدت أصابعها حول حقيبتها وهي تهمس بانفعال مكتوم:

-ده عمرو!

شعر «بدر» بقلبه يسقط بين ضلوعه، وعضّ على شفته السفلى في توتر…

أما «سعيدة»، فابتسمت بمكر، ورفعت صوتها قائلة بسخرية:

-تعالَ يا متواضع… إحنا هنا أهوه!

أغمض «بدر» عينيه للحظة، كأنما يستجدي الصبر، ثم تمتم من بين أسنانه:

-حسبي الله ونعم الوكيل.

ظهر «عمرو» أخيرًا عند أول الدرج، وقف هناك للحظات، وحاجباه مرفوعان باستغراب، يتفحص المشهد أمامه؛ «رغده» مطأطئة الرأس، و«بدر» متشنج الملامح، و«سعيدة» تبتسم كما لو كانت تستمتع بعرضٍ مسرحي.

اقترب «عمرو» وهو يسأل:

-إيه ده! واقفين كده ليه؟

لم تهدر «سعيدة» وقتًا، تبادلت نظرة سريعة مع «رغدة» قبل أن تقول، وهي تجر الحروف بتسلية واضحة:

-أصل رغدة كانت عند سراب… وجت تسأل بدر عن كتاب الـ… كتاب العربي.

أنهت جملتها بضحكة خفيفة، بينما ازدرد «بدر» ريقه، وفرك أذنه في محاولة لإخفاء توتره. 

أحسّت «رغدة» بحرارة الخجل تزحف إلى وجنتيها، فخفضت رأسها سريعًا، وكأنها تحاول أن تختفي عن الأنظار.

أخذ «عمرو» يبدل نظراته بين الثلاثة، كان حاجباه معقودان في شك، وعيناه تحملان أسئلة أكثر مما قد يتحملها هذا السلم الضيق.

قطعت «سعيدة» الصمت، وهي تصفق بيديها بتنهيدة مرتفعة كما لو أنها أنهت عرضًا مسليًا:

-طيب، أنا همشي بقا… كويس إني اطمنت عليك يا مهندس بدر.

رفع «بدر» يده بحركة شبه آلية، وقال بابتسامة ساخرة:

-شكرًا يا خالة سعيدة… مش عارف أودي جمايلك دي فين؟

قهقهت «سعيدة» وهي تهبط الدرج بخطوات واثقة، تتمايل قليلاً وهي تغني بنبرة مرحة، وكلماتها تتردد في الفراغ كأنها ترمي رسالة غير مباشرة:

“بالعربي كده عشان بص مندخلش في حوارات، بالعربي كده عشان بص أنا مش ناقص متاهات!”

تلاشى صوتها تدريجيًا، لكن الصمت الذي تركته خلفها كان أكثر ضجيجًا.

أطبقت «رغدة» يدها على فمها، وكأنها تحاول كبح شهقة…

نظرت إلى «بدر» بعينين ممتلئتين بالقلق، وكأنها تبحث في ملامحه عن طوق نجاة:

-هتروح تقول لجدو يا مستر؟! أنا ما صدقت صالحني!

وبتلقائية نطق «بدر» يلومها:

-وإنتِ إيه اللي جابك يا رغده؟

تدخل «عمرو» الذي قطب حاجبيه أكثر، وقال بفضول:

-أنا عايز أفهم… في إيه؟

شعر «بدر» بالتوتر، فتنفس بعمق محاولًا لملمة أفكاره، لكنه وجد الكلمات تتبعثر بين شفتيه:

-رغدة… كانت… يعني قبل كده…

صمت وزفر بضجر، ثم مرر يده في شعره بعصبية قبل أن يرفع كفيه أخيرًا مستسلمًا:

-أنا مش عارف أقول إيه والله!

تجاهلت «رغدة» كل شيء، ولم تعد ترى أمامها سوى طريق الهروب، فانطلقت تهبط الدرج بعجلة، وعيناها مغشيتان بالدموع التي حجبت عنها حتى رؤية الدرجات.

زلّت قدمها للحظة، فاختل توازنها، وكادت أن تهوي، اخترق صوت «بدر» الصمت بلهفة حادة:

-حاسبي يا رغدة!

تحرك نحوها دون تفكير، متجاهلًا تمامًا نظرات «عمرو»، وقبل أن تمنحه فرصة للمساعدة، استقامت مجددًا، تتشبث بآخر ذرة من كبريائها المرتجف.

قال لها «بدر»، محاولًا تهدئتها بصوت خافت لكنه ثابت:

-اهدي… ولو على جدك، روحي قوليله من دلوقتي إنك كنتِ عند سراب، وشوفتيني بالصدفة، وإنك مش هتيجي تاني.

رفعت «رغدة» رأسها نحوه، وعيناها متقدتان بعاطفة حادة لا يفهمها، قبل أن تهمس بحدة، ودون تفكير:

-أكذب؟! أنا مش هكذب، واللي يحصل… يحصل!

ارتجف صوتها في آخر الجملة، ولم تمنحه وقتًا للرد، بل أدارت ظهرها واندفعت تهبط الدرج مجددًا، كأنها تهرب من كل شيء… ومنه تحديدًا.

وقف «بدر» في مكانه، يراقبها بصمت وهي تغادر، بينما على بُعد خطوات، كان «عمرو» يتابعهما، وقد عقد ذراعيه أمام صدره، وعيناه مغمضتان قليلًا، وعلى شفتيه ترتسم ابتسامة تفهّم هادئة، لكنها تحمل ما يكفي من السخرية لإشعال أعصاب بدر.

التفت «بدر» نحوه، وما إن رآه بهذه الهيئة، حتى زفر بضيق، وتأفف بصوت مسموع…

نطق «عمرو» أخيرًا، بنبرة متهكمة وهو يومئ برأسه تجاه الدرج حيث اختفت رغدة:

-وأنا اللي كنت فاكرها من القاهرة! طلعت من هنا…

قطّب «بدر» حاجبيه، وحدة نظراته تسبق كلماته:

-أنا مش ناقص سخافتك يا عمرو دلوقتي.

ضحك «عمرو» بخفة، لكن سرعان ما اختفت البسمة عن وجهه، وحلّت محلها نظرة أكثر جدية وهو يسأل، بصوت منخفض لكنه حاد:

-رغدة كانت بتعمل إيه هنا يا بدر؟

حدّق «بدر» في الأرض للحظة، يمرر يده على ذقنه في حركة بطيئة، ثم زفر بتثاقل، كأن الكلمات تتعثر في صدره قبل أن تخرج…

رفع عينيه أخيرًا، لكنه تلعثم:

-أنا والله ما… كانت…

نظر إلى «عمرو» فوجده صامتًا، مترقبًا، عيناه تحملان مزيجًا من الفضول والانتظار، مما زاد ارتباكه. 

تنهد «بدر» بعمق، ثم قال بصوت منخفض، وكأنه يحدث نفسه أكثر مما يخاطب «عمرو»:

-هي لسه صغيرة أصلًا… وأنا…

ابتلع كلماته، ومرر يده على وجهه، وكأن عقله يحاول إعادة ترتيب الفوضى داخله، ثم زفر مجددًا، محاولًا اتخاذ قرار سريع…

رفع رأسه نحو «عمرو» وقال بحسم:

-تعالى نقعد جوه، وهحكيلك كل حاجة.

استغفروا  

                   ★★★★★★

في غرفة «عامر»، دفع نظارته الطبية للأعلى بحركة عصبية، وعيناه متشبثتان بالمرآة الصندوقية أمامه…

لم تكن مجرد مرآة، بل نافذة إلى ما وراء حدود الإدراك البشري، صاغها من مواد خاصة لم يسبق لها مثيل، تعكس أبعاد الغرفة لا كما تراها العين المجردة، بل بما يعجّ فيها من كائنات دقيقة، وتعكس جزيئات الهواء وكأن الغرفة بأكملها وضعت تحت الميكروسكوب…

وعند إحدى زوايا سطحها، خُطت نقوش غامضة، حفرها بدقة، لم يكن يفهم معناها، لكنه نفذها كما ينبغي…

مد يده ببطء، يتلمسها وأطراف أصابعه ترتجف فوق سطحها، وقلبه يخفق بعنـ ـف، ثم سلط الضوء على المرآة، وبدأ مصباح التجربة بالدوران، يتبدل لونه كل ثانية… أحمر… أصفر… أزرق… أبيض…

حبس أنفاسه وأشاح بصره للحظة، وأصابعه تنقر سطح المكتب بتوتر متزايد فها هو الاختبار الذي استنفذ طاقته حتى فقد عدد محاولاته لكنه لم يفقد الأمل، وإن كان الأمل نفسه يتراقص على حافة الرهبة.

ابتلع ريقه، ثم همس بخشوع، كأنه يبعث دعاءً في الفراغ:

-يا رب… يارب المرة دي تنجح بقا… يا رب…

تنفس بعمق، وضغط على الزر.

دوّى الصوت الرتيب “تيت… تيت… تيت…”، وكأن الغرفة بأكملها تحبس أنفاسها معه.

وفجأة…

دوى انفـ ـجار مدوٍ اهتزت له الجدران، وسمعه الشارع بأكمله!

ضجيج مرعب اجتاح المكان، كأن عاصفة غير مرئية اندلعت من العدم…

الهواء نفسه اهتز، واندفعت موجة عنـ ـيفة من المرآة، قـ ـوة بدت وكأنها خرجت من عالم آخر.

لم يكن لديه وقت ليستوعب…

قـ ـوة جبارة، غير مرئية، دفعته بعنـ ـف فارتطم جسده بالجدار بقـ ـوة ساحقة، واهتز كيانه بأكمله كما لو أن العظام داخله على وشك التحطم.

ارتجّت الغرفة، وتحطمت الأدوات الزجاجية، وتناثرت الشظايا كالمطر، وتطايرت الأوراق في دوامة فوضوية.

تناهت إلى سمعه صرخات مذعورة من الخارج، لكنها بدت بعيدة… ضبابية…

وفي اللحظة الأخيرة، قبل أن يغرق في الظلام، لمح شيئًا غريبًا، المرآة… كانت تبعث وميضًا غريبًا، كأنها تتنفس ببطء… تتململ… تستيقظ!

غمغم «عامر» يستغيث، وصوته بالكاد يخرج من شفتيه المرتجفتين:

-ماما… بابا…

ثم ساد الظلام.

                     وعلى الصعيد الأخر

احتشد الناس أمام بيت دياب، يتبادلون النظرات القلقة ويقلبون كفوفهم بحيرة، بينما تعالت الهمهمات المتوجسة…

كان البعض يهمس، والبعض الآخر يلوّح بيديه في انفعال، فقد ظنوا أن عامر تراجع عن اختراعه… ذلك الاختراع الذي لم يجلب لهم حتى الآن سوى الانفـ ـجارات المرعبة!

تجمعت العائلة بأكملها أمام غرفة «عامر»، والقلق ينهش وجوههم، كان «رائد» و«دياب» يطرقان الباب بجنون، وضـ ـرباتهما تتوالى في هلع، وتتداخل مع نداءاتهما المتكررة.

في تلك اللحظة، اندفع «عمرو» إلى المنزل راكضًا، يتبعه «بدر» بنفس اللهفة، ودون تبادل كلمات، انضما إليهما فورًا، وراحوا يدفعون الباب بكل ما أوتوا من قـ ـوة، وهتافاتهم باسمه تتعالى، تختلط بضجيج الأصوات حولهم…

صاح «دياب» بلهفة:

-افتح الباب يا ابني…

صاح «بدر» بقلق:

-عامر! إنت كويس؟!

تحطم الباب أخيرًا بارتطـ ـام عنيـ ـف، فاندفعوا إلى الداخل، أنفاسهم متلاحقة…

تجمدوا في أماكنهم للحظة «عامر» كان ملقى على الأرض فاقد للوعي.

في اللحظة ذاتها، اندفعت «تُقى» و«سراب» إلى الغرفة، وما إن وقعت أعينهما عليه حتى انطلقت صرخاتهما المفزوعة…

لم تمضِ سوى ثوانٍ حتى تدافع الجيران إلى الداخل، متزاحمين وسط فوضى عارمة، أصواتهم تتعالى بين ذهول وخوف بينما ركض «بدر» ليحضر الماء، وجثا «رائد» بجوار شقيقه، يربّت على وجهه في محاولة لإفاقته.

-عامر! فوق يا حبيبي! سامعني؟!

وببطء، تحركت جفون «عامر»، كان كل شيء ضبابيًا، وومضات متقطعة من الوعي تتراقص أمام عينيه.

رشّوا الماء على وجهه، وكان يسمع «تقى» ووالدته تناديان باسمه…

انتفض جسده فجأة، أخذ يلتقط أنفاسه بصعوبة، ثم جلس مذعورًا، وعيناه تتسعان بذهول.

ورغم ألم جسده، قفز من مكانه فجأة واندفع نحو المكتب متجاهلًا من حوله…

نظر إلى اختراعه “المرآة الصندوقية”… كانت هناك، سليمة تمامًا! لا أثر لأي شروخ أو تحطم، على عكس كل مرة سابقة!

ارتجفت أنفاسه وهو يتفحص الفوضى التي عمّت الغرفة، الحطام المتناثر، العيون المذعورة المحدقة فيه، غطى سطح المرآة في سرعة ليخفيها عن أعينهم…

ثم همس لنفسه، كأنه يحاول استيعاب ما حدث:

-إيه اللي حصل؟! ليه كل ده؟! هي دي قوى الضوء ولا ايه؟

غرق «عامر» في أفكاره، محاولًا استيعاب ما حدث، بينما صدح صوت «دياب» بغضب:

-ارحمنا بقى… كفاية اختراعات يا عامر!

ولحقه صوت والدته المرتجف باللوم:

-حرام عليك… نشّفت دمنا النهارده! 

ثم جاء صوت «بدر»، مليئًا بالقلق:

-عامر… إنت كويس؟

التفت «عامر» نحوه، لكن عينيه ظلّتا عالقتين في الفراغ، وكأنه ينظر إلى شيء لا يراه أحد سواه، جلس على طرف سريره بصمت، شارد الذهن، تلاشى ضجيج الغرفة أمام صوت داخلي ينبع في نفسه يطغى على كل شيء.

كان يسمعهم جميعًا، لكنه لم يكن معهم حقًا، بدا وكأن المسافة بينه وبينهم ليست مجرد خطوات، بل هوّة سحيقة…

اكتفى بهزّ رأسه بين الحين والآخر، دون أن يدرك تمامًا ما يقال حوله.

بعد لحظات، بدأ الجميع يغادر الغرفة، تاركينه مع «تُقى» التي بقيت في مكانها، تراقبه بقلق، تترقب أي إشارة منه، أي كلمة تكسر هذا الصمت الثقيل.

وفي الخارج…

طمأن «دياب» و«رائد» الجيران على عامر، وأكدوا أن كل شيء بخير…

شيئًا فشيئًا، انفض الجمع، وعاد المنزل إلى هدوئه المضطرب…

جلس أفراد العائلة في الصالة، حاولت «نداء» و«سراب» تهدئتهم، بتوزيع أكواب عصير الليمون، في محاولة لتخفيف ثقل اللحظة، بينما ظل القلق مخيمًا في الأجواء.

********

وبهدوء، جلست «تقى» جواره، لمست ظهر يده بحنو وهمست:

-عامر!

رفع رأسه إليها، وعيناه ما زالتا تائهتين، لم يجب سوى بإماءة خفيفة بالكاد تُلاحظ.

كررت سؤالها، وحين لم تجد منه ردًا، ربتت على يده برفق وقالت:

-متزعلش… حتى لو فشلت مية مرة، ماتبطلش تحاول… أكيد هتنجح في مرة.

قبض «عامر» على شفتيه للحظة، كأنما يحاول كبح اضطرابه، ثم زفر بأنفاس متسارعة:

-حصل حاجة غريبة أوي يا تُقى…

انعقد حاجباها بقلق:

-إيه… إيه اللي حصل؟

ظل صامتًا للحظات، ثم هزّ رأسه بعدم استيعاب، وهمس:

-مش عارف…

نهض واتجه يكشف الغطاء عن المرآة لكنه وقف أمامها ليحجبها عن عيني تقى، وبأنفاس مضطربة، راح يحدّق بالرموز المحفورة على سطح المرآة ليتأكد من صحتها، وعيناه تضيقان بغضب مكبوت، قبل أن يصرخ بنبرة مشوبة بالضياع:

-عملت كل حاجة بالظبط! فين الغلط؟ فــيـــــن؟! الظاهر إنها مش نافعة… تعبي كله طلع على الفاضي… اكتر من خمس سنين من عمري راحت على وهم!

اقتربت «تُقى» بخطوات مترددة، وعندما انتبه لها، سارع بتغطية المرآة الصندوقية كأنها شيء محرم لا يجب أن تراه…

لم تفهم، لكن القلق الذي ارتسم على ملامحه بث في نفسها توترًا أكبر.

مدّت يدها بحذر وربتت على كتفه، تحاول السيطرة على رجفة صوتها وهي تقول:

-اهدى يا عامر… بس قولي، إنت بتخترع إيه؟

لم يلتفت إليها، حمل المرآة، ثم فتح أحد أدراج مكتبه بعصبية، وألقى بها داخله وأوصد الدرج بالمفتاح، كأنه يدفن سرًّا يخشى انكشافه.

تنهد بعمق، مرّر يده على وجهه في محاولة يائسة لمسح شعور ثقيل يخنقه، ثم هوى جالسًا على مقعده، وعينيه فارغتان كأنهما تحدقان في اللاشيء، ثم تمتم بصوت خافت يائس:

-سيبيني لوحدي يا تُقى… لو سمحتِ.

حدّقت فيه للحظة، ترددت بين البقاء والرحيل، لكن صوته جاء أكثر حدة وهو يكرر بنبرة قاطعة:

-سيبيني لوحدي يا تُقى.

تصلبت مكانها، تشبثت بالأرض وكأنها ترفض الرضوخ للأمر، ثم هزّت رأسها ببطء، عيناها تبحثان عن تفسير في ملامحه المضطربة، قبل أن تهمس بثبات:

-هقعد… ومش هتكلم.

لم يُبدِ «عامر» أي اعتراض، كأنه لم يسمعها، فقط غرق أكثر في شروده، في أفكاره التي صارت سجنه الخاص…

جلست «تُقى» على مقربة، تراقبه بصمت، تتأمل كيف هدأت العاصفة التي اجتاحته قبل لحظات، لكنها تركت وراءها أنقاضًا من الخيبة واليأس.

وفجأة، نهض كمن تلقى أمرًا داخليًا، مدّ يده إلى أحد الرفوف وسحب كتابًا غريب الهيئة… غلافه أسود قاتم، وعنوانه محفور بحروف انجليزية (rdj htp).

فتح «عامر» الكتاب بعصبية، وقلب صفحاته بجنون، عيناه تتنقلان بسرعة بين الأسطر، كأنهما تبحثان عن حقيقة بين السطور…

ازداد توتره، فأخذ يتمتم بانفعال، ونبرته تحمل خليطًا من الغضب والإنكار:

-خيال… كله خيال علمي… خيال في خيال… مفيش الكلام ده!

وبضـ ـربة قوية، أغلق الكتاب وألقى به داخل درج مكتبه بعنـ ـف، ثم أوصد الدرج كأنه يحاول دفن خيبة أمله داخله…

راح يجمع أوراقه المبعثرة على الأرض، أوراق تحمل سنينًا من المجهود والأبحاث، لكنه كان يلتقطها بلا اكتراث، كأنها فقدت قيمتها في لحظة واحدة…

انحنت «تُقى» بجواره، تلتقط الأوراق معه في صمت وهي تراقب ملامحه المتصلبة، أنفاسه الثقيلة، وعيناه المنطفئة…

جلس «عامر» على الأرض، أسند مرفقيه إلى ركبتيه، ومرر يديه فوق وجهه قبل أن يتمتم بصوت مثقل باليأس:

-كل ده في الفاضي… طلع ملهوش أي لزمة يا تُقى… أنا فاشل.

توقفت «تُقى» عن جمع الأوراق، رفعت عينيها إليه، بدا لها كطفلٍ محطم، ضائع وسط عالم لم يعد يفهمه…

لم تحتمل رؤيته بهذا الشكل، فاقتربت منه أكثر، وضعت يدها على كتفه وربتت عليه بلطف، وقالت وهي توقع كلماتها بإصرار:

-بلاش يأس، يا عامر… إنت مش فاشل، بالعكس، إنت شخص ناجح، وأنا واثقة فيك…

صمتت هنيهة وهي تتأمل الغرفة ثم قالت:

-يمكن بس محتاج تشتغل على اختراعك أكتر، أو يمكن لسه ميعاده مجاش يا عامر… ركز بس وجرب تاني وتالت…

زفر «عامر» بعمق، وعينيه لا تزالان تحدقان في الفراغ، ثم تمتم بصوت خافت، أقرب للاستسلام:

-ملوش لزمة…

لم تحتمل سماع نبرة الاستسلام في صوته، تحركت دون تردد، جلست قبالته مباشرة، ورفعت وجهه برفق، لتجبره على النظر في عينيها المتقدتين بالإصرار…

قالت وهي تضغط على كل كلمة كأنها نقش لا يُمحى:

-عامر… لازم تؤمن بنفسك أكتر من كده… الفشل مش نهاية الطريق، النجاح محتاج صبر، وإصرار، وعزيمة أكتر من كده… ويمكن المرة الجاية هي اللي تنجح!

قالت أخر جملة بابتسامة دافئة، ثم أشارت إلى الأوراق المتناثرة حولهما وقالت بحماس:

-إنت عملت كل ده… يمكن فاضل خطوة واحدة بس!

ظل «عامر» ينظر إليها بصمت، كأن كلماتها تحاول اختراق الجدار السميك الذي بناه حول يأسه…

كان هناك شيء في نظراتها… شيء جعله يشعر بأنه ليس وحده، بل هناك من يؤمن به…

و ببطء، بدأت زوايا فمه ترتفع بابتسامة صغيرة، ابتسامة تحمل بقايا الأمل، قبل أن يهمس بنبرةٍ تحمل بعض الامتنان:

-حاضر… حاضر يا تؤتؤ… مش هستسلم… بس يا ترى هتقدري تستحملي جوزك الفاشل ده؟

رمقته بنظرة مستنكرة قبل أن تلكزه في ذراعه بخفة، وابتسامة دافئة تتسلل إلى شفتيها:

-متقولش فاشل… أنا واثقة إنك هتنجح.

توقفت للحظة، تحدق في ابتسامته التي بدأت تعود للحياة، شعرت بشيء من الارتياح يتسلل إلى قلبها… وأخيرًا قد عاد عامر الذي تعرفه.

استغفروا  

                  ★★★★★

وخارج منزل دياب…

كانت شمس الصيف الحارقة تنعكس فوق الأسطح، تنشر ضوءها الساطع على الشارع الهادئ…

لم يكن هناك سوى صوت الكرة وهي ترتطم بالأرض، وضحكات الأطفال المتفرقة وهم يركضون، ومن بعيد، كان صوت القرآن يتردد بهدوء من مذياع قديم في المقهى القريب، يمتزج بأنفاس الصيف الثقيلة، قبل أن يقطعه فجأة بوق سيارة مسرعة، جعل الأطفال يلتفتون للحظة، ثم عادوا للعبهم غير مكترثين.

كان «عمرو» يمسك بزجاجة مياه باردة، أخذ منها رشفة طويلة، ثم مدّها إلى «بدر» الذي اكتفى بالنظر إليها قبل أن يعلق مازحًا:

-أنا مبشربش مكان حد…

رفع «عمرو» حاجبه، ملوحًا بالزجاجة في يده وهو يرد بسخرية:

-عنك ما شربت… مش إنت اللي قلتلي اشرب الأول؟

ضحك «بدر» بخفة، ثم أخذ الزجاجة ورفعها عاليًا، مائلًا إياها ليهطل الماء في فمه دون أن تمس شفتيه…

أعادها إلى «عمرو» الذي شرب منها مرة أخرى، قبل أن يمسح فمه بكمه، ويقول بنبرة هادئة لكنها جادة:

-مكملناش كلامنا بسبب عامر واختراعاته…

زفر «بدر» وهو يشيح بوجهه قليلًا، متجنبًا أشعة الشمس التي انعكست على زجاج النوافذ فوقهما، عبث بأنامله في طرف قميصه قبل أن يتمتم:

-مفيش حاجة تاني زي ما قلتلك بالضبط… حكيت للشيخ يحيى، وهو مستني مني رد.

هزّ «عمرو» رأسه بتفهم، وعيناه تتجولان سريعًا بين الشرفات المزدحمة بأسلاك الغسيل، والأطفال الذين يلعبون كرة القدم غير عابئين بحرارة الجو…

ثم عاد ببصره إلى «بدر»، وازدادت نبرته جدية وهو يسأل:

-وإنت ناوي على إيه؟

مرر «بدر» يده في شعره، كأنه يحاول ترتيب أفكاره، ثم زفر ببطء قبل أن يتمتم بصوت متعب:

-مش عارف والله يا عمرو… بس أنا محتاج أفكر كويس، ده جواز مش لعبة.

ابتسم «عمرو» ابتسامة جانبية، ثم دفع كتف «بدر» بخفة، وقال بمرح محاولًا تخفيف التوتر:

-فكر براحتك واعتبرنا موافقين هو إحنا يعني هنلاقي عريس أحسن منك فين؟

ضحك «بدر» ضحكة قصيرة، لكنها جاءت باهتة، كأنها تخفي ترددًا عالقًا في ذهنه…

حكّ عنقه بحركة لا إرادية، قبل أن يتمتم بتردد:

-بس… هي مش صغيرة عليّا؟

أمال «عمرو» رأسه قليلًا ورد بثقة:

-لا، سنكم مناسب لبعض… هي الفكره بس في إن هي لسه صغيره يعني مينفعش الجواز قبل سنتين تلاته.

زفر «بدر» مرة أخرى، ونظر بعيدًا للحظات، يراقب سيارة تمر ببطء في الشارع، قبل أن يقول بصوت منخفض، وكأن الكلمات خرجت دون أن يخطط لها:

-مش عارف يا عمرو… مش عارف أعمل ايه وخايف… خايف عليها من أخواتي، ومن المشاكل اللي أنا غرقان فيها.

صمتا هنيهة ثم تنهد «بدر» مسح وجهه، وأضاف بهدوء:

-ادعيلي…

ربّت «عمرو» على كتف «بدر» وهو يقول:

-أكيد هدعيلك… ربنا يرشدك للصالح يا غالي.

ظل الصمت قائمًا لفترة، حتى قطعه «بدر» بقوله:

-طيب أسيبك تروح تشوف عامر.

نظر «عمرو» إلى بوابة بيته المفتوحة، ثم هز رأسه بلا مبالاة وهو يعيد غطاء زجاجة المياه، وقال بنبرة عادية:

-لا متقلقش عامر معاه تُقى جوه… وبعدين إحنا متعودين على كده، إنت بس اللي أول مرة تحضر معانا مناسبة زي دي…

ضحك ساخرًا وهو ينهي جملته، فانضم «بدر» إلى ضحكته، ثم سأله بفضول:

-صحيح، هو أخوك بيخترع إيه؟

قلب «عمرو» شفتيه، وهز كتفيه بإيماءة خفيفة:

-ولا أعرف… مبيقولش لحد.

-ربنا يوفقه إن شاء الله.

تمتم «عمرو» وهو يتنهد:

-يارب…

ساد بينهما صمت قصير، قبل أن يشير «بدر» بيده إلى بيته المقابل:

-طيب، أنا هطلع بقى أشوف جدي…

أومأ «عمرو» متفهمًا، فسار «بدر» خطوتين مبتعدًا، لكنه توقف فجأة وعاد ليقترب منه، وجاء صوته هذه المرة خافت بعض الشيء:

-مقولتليش… عملت إيه مع سراب؟

رفع «عمرو» حاجبيه قليلًا قبل أن يبتسم نصف ابتسامة ويرد بلهجة لا مبالية:

-ولا حاجة… الوضع كما هو عليه.

رمقه «بدر» بنظرة فاحصة، كأنه يحاول أن يقرأ ما وراء كلماته، ثم هز رأسه بابتسامة صغيرة ولوّح له قبل أن يتجه إلى بيته.

أما «عمرو»، فظل في مكانه، يعبث بغطاء الزجاجة بين أصابعه، بينما تجولت نظراته في الشارع بشرود، وكأن عقله في مكان آخر تمامًا…

تنفس بعمق، ثم زفر أنفاسه ببطء قبل أن يخطو إلى الداخل، وبالكاد تجاوز العتبة حتى لمح سراب تهبط الدرج أمامه فأسرع إليها…

توقفت مكانها حين رأته، كان هناك شعاع شمس قوي يتسلل عبر نافذة جانبية على الدرج، يلقي ضوءه على درجات السلم، كاشفًا ذرات الغبار العالقة في الهواء…

انعكس النور على بشرتها، فأضفى عليها توهجًا دافئًا،  وانزلق بصر «عمرو» تلقائيًا إلى يدها…

وسط ذلك الضوء الذهبي، كان الخاتم باصبعها يلمع بوضوح، فامتدت ابتسامة «عمرو» بسلاسة، ورفع يده مشيرًا إلى الخاتم وهو يقول بنبرة لا تخلو من مكر:

-اعتبر إن ده رد غير صريح على طلبي؟

ارتبكت «سراب»، تراجعت خطوة إلى الخلف، استندت بيدها على حاجز الدرج للحظة، قبل أن ترد بصوت بدا جافًا أكثر مما أرادت:

-مش وقته يا عمرو…

لم يتراجع عمرو، بل تقدم خطوة أخرى، وقال بنبرة تحمل إصرارًا نافد الصبر:

-أومال إمتى وقته يا سراب؟!

زفرت بضيق، حاولت النزول لكنه كان أسرع، اعترض طريقها بجسده، فتوقفت تتأفف بضجر، وعيناها تتوهجان بالغضب المكبوت:

-عايز إيه يا عمرو؟!

-عايز إجابة على طلبي.

-قلتلك مش وقته، وبالله عليك متستفزنيش…

-مش بستفزك أنا بتكلم بهدوء أهوه.

أشاحت وجهها جهة النافذة، متجنبة عينيه، التفت «عمرو» حيث تنظر، فاصطدم بوهج الضوء المنعكس على الزجاج مما جعله يضيّق عينيه للحظة، ثم عادت إليه ابتسامته الخفيفة وهو يهمس:

-على فكرة… أنا قلت لماما وبابا.

حركت أصابعها فوق الدرابزين بخفة، وكأنها تحاول أن تمتص توترها، تحاشت النظر إليه، وقالت:

-ما هي طنط كلمتني امبارح… وأنا قولتلها ردي…

قال بنبرة خافتة لكنها مليئة بالإلحاح:

-إللي هو ايه ردك؟

لثوانٍ، بدت وكأنها تفكر في شيء آخر، تاهت نظرتها للحظة في الضوء ثم انحرفت زوايا شفتيها بابتسامة صغيرة لم تصل لعينيها، وقالت بصوت خافت لكنه واضح:

-روح اسألها…

لم تمنحه فرصة للرد…

تجاوزته وهبطت الدرج بخطوات متسارعة، وأطراف ثوبها تتراقص مع اندفاعها بينما شعاع الشمس المنعكس على الجدار رسم ظلها للحظة قبل أن تختفي عن ناظريه تمامًا.

ظل واقفًا في مكانه، ينظر إلى الفراغ الذي كانت تشغله قبل ثوانٍ… ثم، وبابتسامة لم يستطع كبحها، استدار وصعد الدرج بخطواتٍ واسعة، متجهًا إلى والدته، متلهفًا لسماع الإجابة بنفسه.

صلوا على خير الأنام

                     ★★★★★

توالت الأيام ببطء، وانقضى شهران كاملان دون أن يظهر أي من الغائبين، وكأن الزمن تجمد في انتظارهما…

لم يتوصلوا إلى أي خيط جديد، وكل الأسئلة التي كانت تحاصرهم بقيت بلا إجابة، حتى حسين اختفى تمامًا، لم يعد يراقبهم أو يرسل رسائله الغامضة، وكأنه يأس منهم… أو ربما، وهو الاحتمال الأقرب، تأكد من جهلهم بما يريد، أو قد يكون وجد بالفعل ما كان يبحث عنه.

*********

               في منتصف شهر أغسطس

عاد «عامر» و«بدر» إلى عملهما في سنتر الدروس الخصوصية…

انتقل «بدر» من تدريس الإعدادي ليُدرس الرياضيات لطلاب الثانوية…

كان يتعمد تجاهل «رغدة» تمامًا، رغم أنه تحدث هو و«يحيى» مع «ضياء» بشأن الزواج بها، وأعطاه ضياء موافقة صريحة، لكنه استأذنه ألا يخبرها وأن ينتظر عامًا أو اثنين حتى يستعد هو ولا تنشغل هي عن دراستها…

في قاعة الدرس شبه الفارغة حيث لم يتجاوز عدد الطلاب العشرة، كان «بدر» يشرح بتركيز، يرفع عينيه بين الحين والآخر ليتأكد أن الجميع متابع…

وفجأة، قطع هدوء القاعة طرقٌ على الباب، فتنهد بضيق وهو يسير نحوه، متمتمًا بنبرة متذمرة: 

-قولنا يا جماعة ما نتأخرش عن الميعاد.

فتح الباب ليجد «رغدة» أمامه، رمقها بنظرة خاطفة، ثم ابتعد قليلًا ليفسح لها الطريق…

دخلت بخطوات بطيئة وجلست وحدها في آخر القاعة…

لاحظ «بدر» غياب أختها «رحمة»، لكنه ابتلع تساؤلاته، مجبرًا نفسه على العودة للدرس، لكنه لم يستطع منع عينيه من التوجه إليها بين الحين والآخر…

انتهت الحصة، وبدأ الطلاب بالمغادرة واحدًا تلو الآخر، ثم نهضت «رغدة» وسارت بسرعة لتهرب منه قبل أن يناديها لكن… وقبل تصل إلى الباب، جاء صوت «بدر» ثابتًا:

-أومال رحمة فين؟

توقفت للحظة، ثم استدارت ببطء، حمحمت لتجلي حلقها ثم أجابته بصوت خافت:

-رحمه تعبانة شويه…

قال بلطف:

-ألف سلامة عليها… المهم فهمتي كويس؟ كنت حاسس إنك سرحانة!

رفعت عينيها إليه سريعًا، نظرة عابرة لكنها كانت كفيلة بأن تثقل صدره بشيء لم يفهمه بعد…

تمنت لو لم تلتقِ به أبدًا، لازال قلبها ينبض بعنـ ـف كلما رأته، لا تفهم لماذا يُصر جدها أن تأخذ درسًا خصوصيًا عنده هو بالذات! حتى بعدما أخبرته «سعيدة» عن رؤيتها لها عند «بدر» تجاوز عن الأمر وكأنه لم يكن…

تنفست بعمق قبل أن ترد بصوت جامد، لكنه يخفي الكثير خلفه:

-لا فهمت… وإن شاء الله أحل المسائل اللي حضرتك قلت عليها.

راقبها للحظات في صمت وهي تعدل نظارتها بارتباك، ثم قال بنبرة هادئة:

-تمام، ولو احتجتِ حاجة عرفيني… 

أومأت سريعًا وهمت أن تغادر لكنه سألها:

-عندك دروس تاني النهارده ولا راجعه البيت؟

لاحظ كيف اشتدّ طرف فمها، وكيف ضغطت على أسنانها قليلًا، ثم قالت دفعة واحدة بصوت منخفض لكنه حاد:

-بالله عليك يا مستر، ما تهتمش بيا كده… أرجوك.

ثم استدارت بسرعة وغادرت قبل أن تمنحه فرصة للرد، رفع يده وكاد يناديها لكنه تراجع وظل في مكانه، يراقبها وهي تبتعد…

التفت حوله ليتأكد أن القاعة أصبحت خالية تمامًا.

وقبل أن يتحرك من مكانه، دخل «نادر» إلى المكان بخطوات واثقة وعينين تمتلئان بالفضول، ألقى نظرة متفحصة حول المكان قبل أن يبتسم ويقول بنبرة مرحة:

-حلو السنتر ده! ما تشغلوني معاكم أي حاجه؟

طالعه «بدر» لبرهة قبل أن يقبل إليه مبتسمًا وهو يردّ بنفس النبرة:

-أهلًا باللي لسه موصلش لعربيته لحد الآن!

ضحك «نادر» وهو يرفع كتفيه بلا مبالاة، ثم أومأ وقال برضا:

-يلا الحمد لله كانت أخر حاجه عليها علامات استفهام عندي وراحت، قد يكون فلوسها حرام…

ابتسم «بدر» ومدّ يده ليصافحه، فبادله «نادر» المصافحة بحرارة قبل أن يقول بنبرة يغلبها الحماس:

-المهم، أنا كنت قدمت على شغل في القاهرة… والإنترڤيو كمان يومين بالظبط… ادعيلي.

ارتفع حاجبا «بدر» بدهشة طفيفة، ثم عقد ذراعيه أمام صدره وسأله باستغراب:

-وإيه اللي رماك على القاهرة يا بني؟

تنهد «نادر» وهو يهز كتفيه، وقال بنبرة هادئة:

-والله يا بدر، قدمت في كذا حاجة تخص مجال دراستي، ودول اللي ردوا عليا…

ارتسمت على شفتي «بدر» ابتسامة خفيفة، ثم مد يده وربّت على كتف صديقه بإخلاص، قائلًا:

-ربنا يوفقك يا غالي… بس مقدم على شغل فين بقى؟

قبل أن يرد «نادر»، دوّى هاتفه برقم والدته، فاستأذن وأجاب عليها…

رن هاتف «بدر» أيضًا فأخرجه من جيبه ونظر إلى الشاشة للحظة…

-رقمٌ من دولة تانيه! 

قالها «بدر» باستغرب وسارع بالرد، ألقى السلام عدة مرات حتى جاءه صوت مألوف افتقده بشدة، فقال بلهفة:

-باسل! إنت فين يا باسل؟

جاءه صوت «باسل» هادئًا لكنه يحمل شيئًا من الشوق:

-عامل إيه يا بدر؟ أنا آسف إني متواصلتش معاك الفترة اللي فاتت، بس أنا بخير… اتجوزت نرمين، وهي حامل دلوقتي… ولو طلع ولد هسميه بدر.

اتسعت ابتسامة «بدر»، وكان الاشتياق أكبر من أن تخفيه الكلمات، قال بحنين:

-وحشتني أوي يا باسل… هترجع إمتى؟

أطلق «باسل» تنهيدة طويلة قبل أن يجيب بصوت متردد:

-مش عارف والله يا بدر أنا خايف على نرمين من عمها… المهم سيبك مني، طمني عليك!… رجعتوا لحسين الحاجة بتاعته ولا لسه؟

قطب «بدر» حاجبيه، ثم قال بنبرة جادة:

-حاجة ايه مرجعناش حاجة، وحصل حاجات كتير أوي… وعايز أسألك على حاجات أكتر…

لاحظ «بدر» انشغال أخيه بالكلام مع أحدهم، فسأله:

-إنت معايا يا باسل؟

رد باسل:

-معلش لحظه وهكون معاك أصل أنا في الشغل…

-تمام أنا معاك…

انتظر «بدر» ثواني، حتى عاد صوت «باسل» سأله عن أحواله وأخبره بدر عن اختفاء «حسين» المباغت، فأطلق باسل ضحكة كالزفرة وقال:

-سمعت إن حسين عمه توفى من حوالي شهرين، وحسين  مشغول عشان الشغل كله عليه، هيفوق ويرجعلكم تاني… يلا ربنا ينتقم منه يارب.

وقبل أن يسأل «بدر» أي شيء، قال «باسل» بسرعة:

-مضطر أقفل دلوقتي، بس سجل رقمي دا عليه واتساب وهكلمك تاني، سلام.

-استنى بس! قولي الأول حسين عايز مننا إيه؟… يا باسل…

انقطع الخط قبل أن يحصل «بدر» على إجابة، تأفف بضيق، ثم سجّل الرقم سريعًا، والتفت حوله يبحث عن نادر.

في زاوية أخرى، كان «نادر» غارقًا في أفكاره، عيناه شاردتان وملامحه توحي بحيرة دفينة.

أتى اليوم خصيصًا لرؤية «رحمة» قبل أن يغادر إلى القاهرة، لكن خيبة الأمل ضـ ـربته حين رأى «رغدة» تخرج من المكان بمفردها…

تذكر كيف طلب من «نداء» ووالدته أن يراها عندما أفاق بعد حادث سرقة سيارته، لكن مع شروق الشمس، تراجع عن قراره، ورغم أن «نداء» لم تخفَ عنها الحكاية، وشعرت أن هناك رابطًا ما بينه وبين رحمة، لكنها لم تسأل، لم تجادله… فقط تركته يواجه صراعه وحده.

أما رحمة؟ فماذا سيقول لها إن التقاها؟ كيف ينطق بما يثقل صدره؟ تمنى لو يطلب منها المغفرة، لو يبوح لها بالحقيقة كاملة، لكنه يعرف أنه لن يفعل… ولن يستطيع.

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم  

                       ★★★★★

أرخى الليل سدولهِ المُظلم، مُودعًا بقايا شمسٍ ذهبية تلاشى وهجها في سماءٍ أرجوانية…

وفي الصالة الرياضية

ترددت في الأجواء أصوات الأوزان تُرفع وتهبط، متداخلة بتناغم مع تلاوة القرآن التي تنساب من السماعات المعلّقة، تملأ المكان بسكينة غريبة وسط الصخب.

وفي زاوية قريبة من المرايا، وقف «عمرو» يمسح جبينه المتعرّق بمنشفة صغيرة، وعروقه نابضة تحت الجلد المشدود من المجهود، كان يتنقل بين المتدربين، يوجّه هذا ويصحّح وضعية ذاك، ثم يتراجع قليلًا ليلتقط أنفاسه.

رفع زجاجته إلى شفتيه وأخذ رشفة ماء، وانعكست في ذهنه أحداث الشهرين الماضيين…

سراب وموافقتها على طلبه الزواج، وقرار كبار العائلة بتحديد موعد زفافهما مع زفاف «عامر» و«تقى»…

وها هو الوقت يمضي كريح عابرة، ولم يتبقَّ سوى أسبوع على الموعد المنتظر، وعقد قرانهما سيكون بعد يومان…

جذب انتباهه انعكاسها في المرآة، فتوقف للحظة، وعيناه تراقبان طيفها القادم إليه بخفة.

استدار ببطء، وأقبل إليها وعلى وجهه ابتسامة تشي بمكنون صدره…

وقف قبالتها عند الباب، مسح آخر قطرات العرق عن جبينه بظهر يده، نظر للأفق بعدما أسدل الليل ستاره المعتم وقال عاقدًا حاجبيه:

-جايه هنا ليه دلوقتي يا بنتي؟

أشرقت عينا «سراب» بحماس، واتسعت ابتسامتها، وقالت:

-أنا فرحانة أوي يا عمرو… جالي عرض شغل أخيرًا! عروسة من هنا اشترت الفستان من المحل بتاعنا، وأنا هكون الميكب أرتست… وبسعر رمزي جدًا، لأنها بنت يتيمة وحبيت أساعدها…

انفرجت ملامحه بسعادة صادقة، وقال بإعجاب صادق:

-خبر حلو جدًا، ربنا يوفقك يارب… بس متروحيش لوحدك، أنا هاجي معاكي.

هزّت رأسها ببطء، وترددت لحظة قبل أن تقول:

-ما هو…

لاحظ ترددها، فضاقت عيناه قليلًا، واكتسى صوته بشيء من السخرية وهو يكرر:

-ما هو… إيه؟

حمحمت قليلًا قبل أن تقول بنبرة هادئة، وكأنها تلقي شيئًا عابرًا لا يستحق الانفعال:

-هو بس فيه مشكلة رفيعة جدًا كنت جايه أقولها لك…

عقد حاجبيه بفضول حذر، وقال بنبرة جادة:

-رفيعة! خير؟

ابتلعت ضحكتها وهي ترفع عينيها إليه، ثم قالت بنبرة خفيفة، وكأنها تلقي دعابة:

-المفروض إن فرحهم يوم فرحنا…

لم يبتسم، بل اكتفى برفع حاجبه ببطء، ثم قال بسخرية ناعمة:

-مشكلة رفيعة جدًا الحقيقة…

وقبل أن يضيف شيئًا، رمقته بجدية مفاجئة وقالت بحدة غير متوقعة:

-بقولك إيه، أنا أصلاً مش عايزة أتجوز يا عمرو… جدي ده لو يسيبني في حالي ويسكت، مكنتش وافقت عليك أصلاً… أتجوزك ليه؟ وإحنا طول عمرنا زي الإخوات… وأنا بعتبرك زي أخويا…

ثبتت الكلمة في الهواء كطعنة غير متوقعة، تجمدت ابتسامته في مكانها، ثم أمال رأسه قليلًا وكأنه يحاول استيعاب وقع كلماتها عليه… 

لم يعلّق مباشرة، فقط مرر لسانه على شفتيه، وكأن طعم الكلمة كان مُرًّا أكثر مما يحتمل…

وأخيرًا، قال بصوت منخفض لكنه واضح الحدة:

-أخوكي؟ تمام! بصي بقا… انسي موضوع الفرح ده… لأن ببساطة، مش هقدر أعمل أي حاجة.

عقد ذراعيه أمام صدره، ثم أطرق لبرهة، فقالت بنبرة يغلفها عتاب ناعم، تتسلل إليه لمسة درامية متعمدة:

-هتخذلني يا عمرو؟ وأنا اللي مراهنة الحياة كلها عليك… مكنش العشم بجد.

أومأ رأسه قليلًا وهو يزم شفتيه، ثم زفر ببطء وكأنه يحاول ضبط أعصابه، قبل أن يقول بنبرة هادئة لكنها تحمل صبغة ضجر معتاد:

-أممم… نفس الاسطوانة اللي اتعودت عليها… امشي يا سراب دلوقتي، وهنبقا نشوف حل إن شاء الله.

اتسعت ابتسامتها فورًا، وضـ ـربت كفيها ببعضهما في سعادة طفولية وهي تقول بمرح:

-كنت متأكده إنك هتساعدني… والله أحسن عمرو في الدنيا… روح يا شيخ، إلهي ربنا ما يحوجك لحد… إلا ليا!

أنهت جملتها ضاحكة وهي تشير إلى نفسها بإصبعها، فضحك هو الآخر رغمًا عنه، لكن ضحكته ما لبثت أن تلاشت حين لاحظ بعض الشباب في الجيم يراقبونه بنظرات مشاكسة…

زفر وهو يهز رأسه، ثم أشار لها قائلاً بنبرة آمرة لكنها خفيفة:

-يلا بقى، امشي، نتكلم بعدين.

رفعت يدها ولوّحت له سريعًا وهي تقول بنبرة مرحة:

-ماشي… سلام!

راقبها للحظة وهي تبتعد، ثم زفر ومسح وجهه بيده، قبل أن يتمتم بصوت بالكاد يسمعه:

-إيه البِت دي! نفسي أفهم بحبها ليه؟

تنفس بعمق ثم استدار بخفة وعاد إلى الصالة الرياضية…

صفق بيديه مرتين بقـ ـوة ليجذب انتباه المتدربين، وصوته يعلو بالحماس ليقطع غمغماتهم:

-عاش يا شباب… عاش، كملوا!

سار بينهم بخطوات واثقة، يراقب أداءهم بعين خبيرة، بينما تتردد في الخلفية آيات القرآن، فتماهى صوته الخافت مع التلاوة، وكأن قلبه يحاول إيجاد إيقاعه الخاص وسط الفوضى.

وظل «عمرو» مشغول بعمله حتى تخطت الساعة الحادية عشر مساءا…

استغفروا

                        ★★★★

“في سكون الليل، ثمة قلوب عاصفة اجتاحها شتاء قاسٍ، تجمدت فيها الأحلام، وتراكم الصقيع فوق نبضاتها، وأخرى لا تزال في ربيعها، حيث الأوراق خضراء، والنسمات تحمل عطر الحياة في خفتها…

ليتنا ظللنا صغارًا، نركض في دفء ذلك الربيع، دون أن تدركنا قسوة الفصول.”

أغلقت «نداء» دفترها ببطء، وكأنها تحاول احتواء الألم الذي تسلل إلى قلبها مع آخر كلمة خطّتها…

فتحته مجددًا وزفرت طويلًا وهي تحدق في الصفحة للحظة، كأنها تستعيد المشهد الذي كتبته، أو ربما المشهد الذي عاشته.

عادت أفكارها إلى ما روته لها ابنتها «أروى»، إلى تلك الهمسات التي التقطتها من حديث جدتها مع «يحيى»، وإلى القرار الذي اتخذتاه معًا… أن يبقى ذلك السر طي الكتمان…

حتى الآن، لم يعلم به أحد، ولم تدرِ «شيرين» بمعرفتهما به، لكن… إلى متى؟

كان القلق يتآكلها شيئًا فشيئًا، كريح باردة تتسلل تحت الأبواب المغلقة، يشغلها «عامر» وحالته تلك، كانت تدعو له كل ليلة، ترفع يديها في صلاتها وتهمس باسمه في رجائها…

ومع ذلك، لم تخبر «رائد» بشيء، رغم أنها اعتادت أن تشاركه كل ما يشغلها، لكن هذه المرة… خشيت أن تورثه قلقها، وأن ينهشه ذلك الشعور الذي يمزقها الآن.

أغلقت الدفتر ونهضت بهدوء لتطمئن على أولادها قبل أن تتسلل إلى فراشها، حيث كان زوجها يبدو غارقًا في النوم… أو هكذا ظنت.

بمجرد أن انصرفَت، تحرك «رائد» بحذر، تملؤه الريبة، وتناول الدفتر الذي بات يشغله أكثر مما ينبغي…

هل تكتب رواية؟ كل ليلة، حين تظنه نائمًا، تترك سريرها بخفة وتغرق في الكتابة لساعات، كأنها تهرب إلى عالم آخر.

فتح الدفتر على آخر صفحة خطّتها، وعيناه تتابعان الكلمات في صمت…

انتقل إلى الصفحة السابقة، ثم التي قبلها، حتى تجمدت أنفاسه فجأة… شهق بصدمة، وكأن الكلمات قفزت من الصفحة لتصفعه، ثم أفلت الدفتر من يده وكأنه أحرق إصبعه…

ضغط يده على فمه، كأنه يمنع نفسه من التفوّه بما قرأ، قبل أن يهمس بصوت مختنق بالحزن الحقيقي:

-إيه الكلام ده؟! عامر مش بيخلّف؟!

رأته نداء يجلس قبالتها، بعدما خرجت من غرفة أولادها، فانتفضت بفزع قبل أن تتدارك نفسها وتقول باضطراب:

-آآ… إنت صحيت ليه؟

لم يجب، بل نهض في سرعة حمل دفترها وجذبها من ذراعها نحو غرفتهما، حرصًا ألا يوقظ أبناءهما…

أغلق الباب خلفه ثم استدار نحوها، يهز دفترها بيده وعيناه تضيقان بغضب مكبوت:

-ليه مقولتليش؟

ارتبكت، تشابكت أنفاسها وهي تحاول التظاهر بالجهل:

-عـ… عن إيه؟

غرس نظراته في عينيها مباشرة، عله يقتنص منها الحقيقة قبل أن ينطق بصوت خافت لكنه مشحون بالتوتر:

-عامر مش بيخلّف؟!

جف حلقها، وازدردت ريقها بصعوبة قبل أن تتهرب بضعف، استدارات وتلعثمت:

-آآ… دي… دي رواية و… والبطل… البطل اسمه عامر.

لم يلتفت إلى كذبتها، وكأنها لم تُقال من الأساس…

عاد بنظره إلى الأرض، تشنجت ملامحه وهو يتأمل شيئًا غير مرئي، قبل أن تخرج دموعه، ارتشف دموعه وغمغم بشرود:

-الواد عامر دا اتبهدل أوي… يعني زمان اتعمى فجأة وقعد فترة طويلة مش لاقي علاج زي ما حصلي بالظبط في طفولتي… وبعدين لما رجعله بصره، عمل حادثة… ودلوقتي مش بيخلف… اتبهدل يا حبيبي.

ارتفع نشيجه فأقبلت إليه نداء وترقرت عيناها بالدموع وهي تقول:

-اهدى يا رائد عشان خاطري.

مسح وجهه من الدموع وأطلق تنهيدة طويلة، كأنه يفرّغ بها ثقلًا جثم على صدره، وتمتم بحزن:

-يا حبيبتي يا ماما… شايلة في قلبها وساكتة… لا حول ولا قوة إلا بالله.

رفع عينيه إليها مجددًا، وهذه المرة كانت نبرته تحمل شيئًا مختلفًا، شيئًا يشبه التصميم:

-بس تُقى لازم تعرف… أنا مش فاهم إزاي يحيى مقاليش وهو كمان وساكت…

زفر بقـ ـوة ليكبح انفعاله فأطرقت نداء وقد ثقلت الكلمات على لسانها…

توجه «رائد» إلى النافذة، يستند بذراعه عليها، وران عليهما صمت ثقيل، قطعه فجأة بصوت حاسم:

-أنا هقول لتُقى… ولو الوقت مش متأخر، كنت هروح أقولها دلوقتي.

انتفضت «نداء» في مكانها، هتفت برجاء:

-بلاش… بلاش عشان خاطري… متكسرش فرحتهم يا رائد بالله عليك.

لم يرد، وكأنه لم يسمعها، أو ربما لم يرد أن يسمع. حاولت أن تثنيه، أن تقنعه بأن يصمت، أن يؤجل هذه المواجهة، لكنه ظل واقفًا، وملامحه منحوتة كحجر صوّان لا يتزحزح.

وأخيرًا، التفت إليها بعزم لا يتزعزع، قائلًا بصوت هادئ لكنه مشحون بالحسم:

-لازم تعرف… وتختار، إما تُكمل أو لأ…

قاطعته بانفعال، تتشبث بأي أمل:

-تُقى بتحب عامر يا رائد و… وصدقني مش هيفرق معاها… عشان خاطري، متقولش حاجة.

رمقها بنظرة باردة، وكأن كلماتها لم تترك أثرًا يُذكر، ثم قال بجفاء:

-مالكيش دعوة يا نداء.

ألقى كلماته غادر الغرفة بخطوات غاضبة انتفضت نداء وهو يغلق الباب خلفه رغم أنه لم يصفعه بعنـ ـف، كتفت ذراعيها حول جسدها، وهي تلعن دفترها الذي صار لعنة، وتكره اللحظة التي وقع فيها بيد رائد…

لم تجد لها ملاذًا تركن إليه إلا الله، دخلت تتوضأ ثم ارتدت اسدالها وشرعت تصلي بخشوع وهي تدعو لعامر وتُلح في الدعاء…

                     ★★★★★★

وفي غرفة عامر أمام مكتبه دوّن أخر ملاحظاته الجديدة، ثم أغلق الضوء، وأضاء مصباح خافت قبل أن يسحب الاختراع من درج مكتبه بتردد…

لم يلمسه منذ الحادث الأخير، ولم يكن متأكدًا إن كان مستعدًا لمواجهة ما قد يحدث هذه المرة.

رفع الغطاء ببطء، وكأنه يخشى أن يوقظ شيئًا نائمًا تحته، انعكس وجهه على سطح المرآة، لكن ما لفت انتباهه لم يكن ملامحه، بل تلك النقاط الدقيقة التي تحركت في الهواء حوله، كائناتٌ ضئيلة، وربما ذرات غبار عالقة بالهواء، أو جزيئاتٌ لا تُرى عادةً بالعين المجردة، تسارعت دقات قلبه، تساءل هل يجرب الآن؟ في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ لا، لن يكرر الخطأ…

مدّ يده ليعيد الغطاء، لكن قبل أن يمسه، تحرك الغطاء من تلقاء نفسه، كأن المرآة تسحبه عليها!

ارتد «عامر» للخلف خطوتين، وقلبه يقرع ضلوعه، ابتلع ريقه بصعوبة محدثًا نفسه لا، لابد أن هذا وهم… 

راح يتمتم بآياتٍ من القرآن، يحاول طرد أي وساوس، حتى لاحظ نسمة هواء تتسلل عبر الشرفة، فتنفس الصعداء.

تمتم ساخرًا من نفسه:

-هو أنا خايف ولا إيه؟ لا… أنا مبخافش.

لم يكد يُنهي جملته حتى انفتح باب الغرفة فجأة!

انتفض عامر وخرجت منه شهقة مذعورة، متراجعًا خطوتين، قبل أن يلمح وجه عمرو وهو يضيء الغرفة قائلاً:

-قاعد في الضلمة ليه كده؟

لم يرد «عامر»، بل التقط الاختراع بسرعة ودسّه في الدرج، وقبل أن يُغلق عليه، وضع معه الكتاب ذا الغلاف الأسود وبعض أوراقه الخاصة.

أغلق «عمرو» الباب خلفه واقترب ساخرًا:

-مالك يا عم؟ مخضوص كده ليه…

ضحك «عمرو» وأضاف:

-إنت عامل زي اللي دخل عليه الشرطه وهو معاه ممنوعات.

استقام «عامر» واقفًا، كان وجهه مشدودٌ وعضلاته متوترة، خطا نحو الباب بغضبٍ مكبوت وهو يقول:

-مش تخبط قبل ما تدخل يا عم إنتَ؟

ابتسم «عمرو» ببرود، خلع جاكيتَه ببطءٍ وألقاه على الكرسي، ثم جلس وهو يتنهد بعمق، وسأل بجدية:

-مالك يا عامر؟

مسح «عامر» وجهه بتعب، ثم عاد يجلس قبالة مكتبه، وقال بصوت يشي بالإرهاق:

-بقالي شهرين مشغول في تجهيزات الفرح، ومش قادر أركز في اختراعي خالص…

ضحك «عمرو» ضحكة خفيفة، وأمال رأسه للخلف باستخفاف:

-الحمد لله إنك مشغول… إحنا لسه مفوقناش من الخضة اللي فاتت، سيبنا ناخد نفسنا قبل الانفـ ـجار الجاي.

رمى «عامر» دفترًا صغيرًا نحوه بغضب، فتفاداه عمرو بسرعة البرق، ثم ضحك باستفزاز…

إلا أن ابتسامته سرعان ما تلاشت، وعاد الجِدّ إلى ملامحه، نظر إليه بعينين يملؤهما القلق وقال:

-أنا لولا إني خايف عليك، كنت قولتلك روح اعمل تجاربك بعيد عن هنا… بس لا، اعملها هنا قدام عنينا.

أطلق «عمرو» ضحكة أخرى، وهو يشبك كفيه ببعضهما، ثم قال مازحًا:

-وأهو يا نعيش كلنا… يا العكس! وإن شاء الله مش العكس.

نهض «عامر» منزعجًا، وحدّق فيه بنظرة غاضبة قبل أن يقول بنبرة حادة:

-إنت بتتريق عليّا؟ طيب أنا مش قاعد معاك في مكان واحد.

وثب «عمرو» واقفًا، ورفع يديه باستسلام وهو يقول:

-خليك يا عم، أنا أصلاً رايح الحمام أخد دوش… أسيبك مع اختراعك المجهول ده.

أخذ عمرو ثيابه من مخدع الملابس وغادر مُسرعًا، تاركًا عامر وحده في الغرفة…

ساد الصمت، لكنه لم يكن مريحًا… بل مثقلاً بالقلق.

نظر «عامر» نحو الدرج، حيث أخفى اختراعه، ثم زفر ببطء، كأنما يحاول طرد الأفكار التي تزاحمت في رأسه…

استلقى على الفراش، وتوسد ذراعه، محدقًا بالسقف.

أخذت الأفكار تتشابك في ذهنه يتأمل حياته، وعمله،  واختراعه…

ثم، كأنما اخترقت ذكرياته صورة تُقى…

تنهد بعمق، وتسللت ابتسامة خفيفة إلى شفتيه، قبل أن يُغلق جفنيه مستسلمًا لأحضان النوم.

عاد «عمرو» إلى الغرفة بهدوء، فوجد «عامر» مستلقيًا، وابتسامة خفيفة تعلو شفتيه…

ابتسم بدوره، وقاده الفضول نحو الدرج الذي أخفى فيه «عامر» اختراعه.

تسلل بخطوات حذرة، وعيناه تراقبان أخيه بحذر…

مدّ يده ببطء، وأخذ يبحث عن المفتاح، وكاد يفتحه…

في تلك اللحظة، كان «عامر» غارقًا في حلم غريب كان يسقط من مكان مرتفع، والريح تعصف من حوله، وبينما يتهاوى، سمع صوتًا يصيح في أذنه:

-قوم… قوم… قوم!

انتفض من نومه فجأة، فوقع بصره مباشرةً على «عمرو»، الذي كان يوشك على فتح الدرج!

-بتعمل إيه؟!

صوت «عامر» الجهوري شقّ الصمت، فارتبك «عمرو» وانتفض واقفًا…

لم يُمهله «عامر» فرصة لتبرير فعلته، بل اندفع نحوه، ودفعه خارج الغرفة بعنف قبل أن يوصد الباب خلفه.

وقف «عمرو» في الخارج متضجرًا، وزفر قائلاً بسخط:

-ماشي يا عامر…

                   ★★★★★★

بعد مرور يومين…

على مدارهما، حاول «رائد» مرارًا إخبار «تُقى» عن «عامر»، لكن في كل مرة كانت الكلمات تُخنق في حلقه، وتتراجع إلى أعماقه قبل أن ترى النور…

ظن أن الأمر سيكون بسيطًا، لكنه اكتشف أن بعض الكلمات أثقل من أن تُقال بسهولة…

كان البيت يعج بالحركة، والجميع مشغولون، فبعد صلاة الظهر سينعقد قران «عمرو» و«سراب» 

كان الجو مفعمًا بالسعادة، الضحكات تتعالى من المطبخ حيث اجتمعت شيرين وابنتاها لتحضير ما يلزم، وسط أحاديث مبهجة عن الزفاف… 

ووسط ذلك، جذب «رائد» «نداء» من يدها، موجهًا لها نظرة توسل صامتة، قبل أن يبتعدا إلى الشرفة، حيث يمكنهما التحدث بعيدًا عن الأعين.

وقفا هناك، يتهامسان وسط ضجيج المشاعر، وقال «رائد» بصوت خافت لكنه متوتر:

-لازم تساعديني أقول لتُقى.

تنهدت «نداء»، ناظرة إليه بقلق وقالت:

-قول لماما أحسن، خليها هي تتصرف.

هزّ رأسه بعناد، وكأن الفكرة غير قابلة للنقاش:

-مش هقولها إلا لما أقول لتقى الأول.

زفرت« نداء» بضيق قبل أن تهمس باستسلام:

-إنت عنيد أوي يا رائد…

-صدقيني دا الصح، لازم تعرف يا نداء أرجوكِ ساعديني…

نظرت إليه للحظات، وكأنها تحاول قياس حجم إصراره، ثم قالت بعد تفكير:

-طيب، بس استنى لبعد كتب الكتاب… خلي الكل فرحان وبعدين نشوف هنعمل ايه…

تنفس رائد وأومأ ببطء، مستسلمًا لرأيها، ووقفا معًا، ينظران إلى الشارع حيث كان «عمرو» يقف أسفل بيت سراب، منشغلًا بمكالمة هاتفية…

بدا شاردًا، وملامحه غارقة في التفكير، لكن فجأة…

اندلق عليه سائل من الأعلى! فقفز مبتعدًا وهو يحدق في قميصه المبلل، لم يحتج حتى لرفع رأسه ليعرف الجاني…

زمجر بغضب، وصوته وهدر بانفعال:

-يا بنتي، اتنيلي بصّي تحت قبل ما تكبي الحاجة!

تردد ضحك مكتوم من الشرفة حيث يقف رائد ونداء، بينما رفع «عمرو» يده في استسلام، ممسحًا وجهه وهو يتمتم بشيء غير مسموع…

رفع رأسه إلى الأعلى، وعيناه تضيقان بغضب مكبوت…

تجمد يد «سراب»، للحظة حين سمعت صوته، وزحفت نظراتها بحذر إلى الأسفل، لتلتقي بعينيه المشتعلتين غضبًا…

قال بصوت هادئ، لكنه مشحون بالوعيد:

-ماشي يا سراب… إن شاء الله محدش هيربيكِ غيري.

رفعت حاجبها بتحدٍّ، وكأنها ترفض أن تكون الضحية في هذا الجدال الصباحي، وردّت بسخرية:

-احترم نفسك بقى على الصبح! وإيه يعني لما كبيت عليك شوية بتاع…

ازدادت زوايا فمه تشددًا وهو يكرر بنفس النبرة الخطرة:

-ماشي يا سراب… مسيرك تقعي تحت إيدي.

أمالت رأسها قليلًا، وحركت سبابتها في الهواء كأنها تحذره وهو يشتعل غضبًا:

-اتلم، وإلا والله هنزلك يا عمرو!

لم يتراجع، بل ازداد عنادًا وهو يقول بثقة مستفزة:

-لا متتعبيش نفسك وتنزلي… كلها ساعة وأنا اللي هطلعلك عشان نكتب الكتاب، وساعتها هوريكِ.

تغيرت ملامحها على الفور، وتوهجت عيناها بتصميم مفاجئ وهي تقول بحدة:

-هتوريني!! طيب كلمة كمان يا عمرو، وهنهي كل حاجة حالًا ولا يهمني!

شعر للحظة أن تهديدها حقيقي، فتوترت قسمات وجهه، لكنه كان مستعدًا للرد… إلى أن قطع صوت «رائد» من الأعلى المشهد، وهو يقول بحزم:

-بس بقا يا عمرو… اطلع تعال…

وصاح «البدري» مناديًا سراب:

-يا بت يا سراب، احترمي نفسك، مش ناقصين فضايح!

ردّت بعناد، وعيناها تتوهجان بالغضب:

-هو اللي بيستفزني يا جدو! 

تنهد البدري بنفاد صبر، ولوّح بيده:

-ادخلي تعالي… ربنا يهديكِ.

ألقت «سراب» نظرة سريعة على «عمرو» قبل أن تستدير وتدخل.

جلست قبالة «البدري»، الذي قال بحدّة وهو يطرق بعصاه على الأرض:

-هتعيشي معاه إزاي بقى إن شاء الله؟ على العموم، لسه قدامك فرصة تفكري تاني وتوافقي على بدر.

نطقت بلا تفكير:

-أصلًا بدر بيحب واحدة تانـ…

لكنها ابتلعت بقية الكلمة على عجل، وعضّت لسانها ندمًا وهي ترمق البدري بنظرة جانبية قلقة، ثم وثبت واقفة، وقالت:

-آآ… أنا رايحه أجهز نفسي…

توجهت إلى غرفتها وهي تنادي تقى، بينما كانت قدماها تتباطآن كلما استدارت للخلف حيث كان البدري ما زال في مكانه، يستند إلى عصاه، يحدّق في الفراغ بصمت، وكأنه لم يسمع… لكنه سمع ولم يُعلق…

تذكر حين فاتحه «دياب» قبل شهرين بشأن زواج عمرو وسراب، كاد يرفض غريزيًا، لكن شيئًا ما أوقفه. تريث قليلًا، ثم سأل سراب عن رأيها، فجاء ردها حاسمًا، عيناها تشعان بتصميم لا يقبل الجدال:

“لو متجوزتش عمرو، أنا مش هتجوز خالص يا جدي…”

لم يكن «البدري» يومًا ممن يلينون بسهولة، لكنه وجد نفسه يطلق زفرة ثقيلة، قبل أن يوافق على مضض، كمن يخوض معركة يعلم أنه خاسرها منذ البداية.

                       ومن ناحية أخرى

قطب «عمرو» حاجبيه، أطبق على أسنانه لبرهة، قبل أن يدير وجهه غاضبًا ويستدير متجهًا إلى داخل البيت، تمتم بينه وبين نفسه بضيق شديد:

-مش عارف إيه اللي عجبني فيها والله…

            

استدار «رائد» الذي كان يتابع المشهد إلى «نداء» وقال بتهكم:

-دول المفروض هيتكتب كتابهم كمان ساعة!

أطلقت «نداء» ضحكة قصيرة، أشبه بالزفرة، وهي تهز رأسها بمرح:

-من النهارده، مش هنعاني من انفجـ ـارات عامر بس… هيكون فيه انفجـ ـارات تانية.

نظر إليها «رائد» للحظة، ثم ابتسم وهو يتمتم بسخرية هادئة:

-والله عندك حق.

                   ★★★★★

عند الحادية عشر صباحًا

عبر «نادر» بوابةً تعلوها لافتة تحمل بخط واضح: “دار المجد لرعاية المسنين”

كان الهواء ساكنًا، والشمس تصبّ نارها على الأرض، بينما العرق يتسلل على جبينه…

توقف للحظة عند المدخل، يجول بنظره بين الحديقة الواسعة والمظلة الخشبية التي بدت كواحة صغيرة وسط هذا القيظ، زفر ببطء، محاولًا تهدئة التوتر الذي يعتصر صدره….

كان يخشى الرفض، يخشى أن يُغلَق هذا الباب أيضًا في وجهه كما أُغلِقت قبله أبواب أخرى كثيرة.

دلف إلى الداخل، متمنيًا أن يكون هذا اليوم نقطة تحول، لا مجرد محاولة أخرى للهروب… الهروب من الماضي، ومن الذنب الذي يطارده كظل لا يرحم.

بعد أقل من ساعة، خرج من مبنى الإدارة بعدما تم قبوله، بل وبمرتب مجزٍ أيضًا…

لكنه لم يشعر بالفرحة الحقيقية، كيف له أن يشعر بها وهو يعلم أن كل هذا ليس سوى محاولة يائسة لغسل روحه من خطيئة لن تزول؟

وقف عند العتبة، يحدّق في الفراغ، وصورة «رحمه» تتسلل إلى ذهنه كخنجر صدئ، ليته لم يصنع ذلك الفيديو، ليته لم يدخل لحياتها من الأساس! هل كان سيحتاج اليوم إلى الهرب من كل شيء لو لم يفعل؟

لكن الأسئلة لم تعد تجدي، فالماضي مهما حاول الفرار منه، لا ينسى… ولا يغفر.

توجه إلى قسم الرجال، فاستقبله العامل بابتسامة مرحبة، ثم اصطحبه في جولة داخل الدار، يعرّفه على المكان…

لم يكد يخطو بضع خطوات حتى لمحته عينان متقدتان بالحماس، هرول نحوه أحد المسنين، وجهه يشع بالحيوية رغم تجاعيده، وصوته يحمل شوقًا مفاجئًا وهو يقول بتلهف:

-إنت نادر العميد! أنا عارفك كويس، متابعك على الفيسبوك طول الوقت!

قبل أن يتمكن نادر من الرد، جاء صوت آخر من بعيد، متذمرًا بعض الشيء:

-إيه اللي بتعمله عندك يا توفيق؟ تعالى بلاش تزعج الناس!

شوح «توفيق» بيده بضجر، كأنما يبعد إزعاج «فاروق» عنه، ثم استدار نحو «نادر» بابتسامة واسعة، وقال بحماسة طفل يلتقي نجمه المفضل لأول مرة:

-دا ممثل مشهور، هات الموبايل وتعالى ناخد معاه صورة.

ضحك نادر وهو يهز رأسه قائلاً:

-ممثل إيه! أنا ممثلتش غير فيلم واحد واعتزلت، الحمد لله.

لم يهتم توفيق، وأشار بحماس أكبر:

-بس أنا متابع كل فيديوهاتك اللي بتنزلها على اليوتيوب والفيسبوك! تعالى اقعد معانا شوية… احكيلنا عن عامر بالله عليك! أنا كتبتلك تعليقات كتير عشان أسأل عنه، طمّني هو عامل إيه دلوقتي؟

أشار «توفيق» للعامل لينصرف، ثم أمسك بذراع «نادر» وكأنه يخشى أن يفلت منه، جذبه برفق نحو المقاعد وهو يواصل الحديث بحماس صادق:

-تعالى نشرب شاي، واقعد معايا شوية… تحكيلي عن عامر وأحكيلك عن نفسي… أصل أنا بحب عامر ده أوي ومن غير ما أشوفه، وبدعيله والله في كل سجدة.

رفع «نادر» حاجبيه، وقال بنزق مصطنع:

وأنا؟ مبتدعليش؟

ضحك «توفيق» بحرارة وهو يربت على كتف نادر قائلاً:

-الصراحة… لأ!

وقبل أن يرد «نادر»، خرج «فاروق» من غرفته وهو يتمتم بضيق:

-سيبه في حاله يا توفيق! قوم يا بني شوف مصلحتك، عمك توفيق ده ملوش شغلانة غير الرغي طول النهار…

بدل «نادر» نظراته بينهما وقال بابتسامة عذبة:

-يرغي براحته، أنا أصلاً شغلتي هنا إني أرغي معاكم… قولولي بقى، إنتوا كام واحد هنا؟

عاد «توفيق» بظهره إلى الخلف، مسندًا جسده على الكرسي، وأطلق تنهيدة عميقة حملت في طياتها سنوات من الذكريات، ثم قال بصوت متهدج:

-كنا خمسة في الشقة هنا… اتنين سبقونا وتوفوا ورا بعض، ومافضلش غيري أنا وعمك فاروق… والحاج راشد.

قطب «نادر» حاجبيه وهو يسأل باهتمام:

-وفين الحاج راشد؟

لوّح توفيق بيده كأنه يشير إلى مكان بعيد، وقال بنبرة تحمل شيئًا من القلق والتفاؤل معًا:

-محجوز في المستشفى بقاله أسبوع، بس بيقولوا اتحسن… وشك حلو، قالولنا إنه راجع النهارده.

لم تمر سوى لحظات حتى ظهر عند العتبة رجل مسن، شعره أبيض بالكامل، وله شارب خفيف يحيط بشفتيه، كانت نظراته هادئة لكنها تحمل ثقل خفي.

ألقى السلام بصوت عميق وجلس مستندًا على عصاه، قبل أن يبدأ في الحديث عن حالته وما لقاه في المستشفى متجاهلًا «نادر» الذي كان يحدق به شاردًا…

ابتسم «توفيق» وربّت على كتف الرجل قائلاً بحماس:

-أهو ده بقى الحاج راشد!

ظل «نادر» يحدق في الرجل للحظات، وعينيه تضيقان في شرود وكأن ذاكرته تبحث عن صورة مخبأة في طياتها…

وفجأة، سرى تيار من الصدمة في جسده، أخرج هاتفه بسرعة وبدأ يقلب في الصور حتى وقف عند صورة محددة، ثم راح يبدل نظره بينها وبين الرجل الجالس أمامه.

تسارعت أنفاسه، واشتدت نبضات قلبه، أشار للرجل قبل أن ينطق بذهول، وعيناه تتسعان ببطء:

-عمي… كارم!!!

ساد صمت ثقيل، كأن الهواء نفسه توقف عن الحركة، بينما ارتسمت علامة استفهام على الوجوه…

                ★★★★★

وبعد الظهر، تعالت الزغاريد، بعدما كُتبت «سراب» على اسم «عمرو» أخيرًا…

وفي غرفتها، جلست على طرف الفراش، تقرض أظافرها بتوتر بعدما وقعت على أوراق الزواج، كانت تشتعل على أقل كلمة تُقال لها، نظراتها زائغة، وكتفاها مشدودين كأنها تحمل عبئًا ثقيلًا لا تستطيع إسقاطه، لاحظ الجميع اضطرابها، فتركوا لها مساحة كي تلتقط أنفاسها…

فجأة، فُتح الباب…

فوثبت من جلستها، وقلبها يدق بعـ ـنف، وعيناها تلاقيان عيني «عمرو» اللامعتين ببريق لم تره من قبل.

ارتبكت، ازدردت لعابها، وتراجعت خطوة بلا وعي، لكن قبل أن تستوعب موقفها، ظهر خلفه بقية العائلة، فخفضت رأسها بحرج، ثم رفعت عينيها ببطء، تطوف بين الوجوه المبتسمة، حيث تتناثر الزغاريد وتعانق الأناشيد الجدران… لكنها لم تكن تسمع سوى دقات قلبها المتسارع.

قبضت يدها بقـ ـوة، وكأنها تتشبث بثباتها، بينما تصاعد الد**م الحار إلى وجنتيها، حذّرته بنظرة قاطعة ألا يقترب أكثر، فثبت في مكانه، لكنه لم يتراجع، على العكس، ابتسم، وعيونه تشع يقينًا وهو يقول بصوت ودافئ لكنه يُسمع الشارع بالخارج:

-واجتمعنا دون ميعاد، ودون تخطيط… وكأن القدر شاء أن يرسم دروبنا بيده، إنه تدبير الله؟ وما أروعه من تدبير! أنتِ زهرة تأخر تفتحها في قلبي، لكن حين أزهرت نثرب بقلبي عطر وحياة… واليوم، أقف أمامك، أُقر بتلك الحقيقة، وأطلق لقلبي حرية النبض دون تردد أو خوف… بارك الله لنا، وبارك علينا، وجمع بيننا على خير.

رفّت عيناها بحيرة، تصنعت ابتسامة ارتعشت على شفتيها قليلًا، فلم تكن تعلم مدى صدق كلماته… هل نطق بها أمام الجميع فقط، أم أن قلبه بثها قبل لسانه؟

تعالت الزغاريد من جديد، واقتربت «وئام» تحتضن أخاها، ثم لحقت بها «هيام».

وبعد لحظات، وجدت «سراب» نفسها بين ذراعي «تُقى»، التي همست وعيناها تفيض بالمحبة:

-أنا فرحانة أوي.

أغلقت «سراب» عينيها… تحاول استيعاب ما يحدث حولها، وقلبها يختلج خلف أضلعها…

وبعد فترة، انسحب الجميع، تاركينهما بمفردهما…

اقترب «عمرو» منها، وسألها بصوتٍ دافئ:

-مبسوطة؟

رفعت ذقنها متظاهرة باللامبالاة، وردّت ببرود:

-عادي… لا مبسوطة ولا زعلانة.

بسط كفّيه أمامها، يدعوها لوضع يديها بين يديه…

للحظة، شعرت بترددها يفضحها، فهربت بعينيها بعيدًا، قائلة بارتباك:

-لأ طبعًا! إحنا متفقين… الجوازة دي بشروط! مش إنت قلت إنك هتحميني عشان أنا زي أختك؟ مترجعش في كلامك بقى!

ساد الصمت لبرهة، ثم انفـ ـجر ضاحكًا بخفوت، مال نحوها وعيناه تضيقان بمكر وقال:

-إنتِ هبلة يا سراب؟ هو إنتِ فاكرة إننا هنعيش زي الأخوات؟ باين عليكي بتقرّي روايات كتير… يا حبيبتي، إحنا متجوزين بجد، مش تمثيلية!

تراجعت خطوة، التوتر في عينيها يفصح عن صراعها الداخلي…

حدقت فيه، وكأنها تراه لأول مرة، ثم هتفت بانفعال خلفه ارتباك:

-بس دا مكنش كلامك! إنت كنت بتجرّ رجلي! وَله طلقني يَله… أنا اللي غلطانة إني وافقت من الأول!

راقب ارتباكها بصمت، وعيناه تجولان في ملامحها، يدرس كل تفصيلة كأنه يحفظها…

ازداد ارتباكها، فتراجعت أكثر، ثم صاحت بنبرة أكثر حدة، محاولة كسر الصمت الذي كاد يخنقها:

-طلقني بقولك!

تشنّجت ملامحه، وحدّق بها بنظرة صارمة وهو يقول بحِدّة مكبوتة:

-هو لعب عيال ولا إيه؟! مسمعكيش بتنطقي الكلمة دي تاني!

سرعان ما اتسعت ابتسامته وهو يطالع ارتباكها بمتعة واضحة، وكأن الحدة لم تكن سوى قناع عابر…

ازدادت سخونة الموقف، فهتفت سراب بانفعال:

-والله أنا الغلطانة إني وافقت عليك! إنت حد مستفز و… و… ولا تُطاق!

أومأ برأسه بلامبالاة، قائلاً بسخرية:

-ماشي، شكرًا… عارف ده من زمان.

زفرت بضيق، ثم سحبت ورقة من دفترها على سطح المكتب، دفعتها نحوه قائلة بجديّة:

-اقرأ الورقة كويس… دي القوانين اللي هنمشي عليها.

رفع حاجبه بدهشة، ثم ضحك بسخرية وهو يردد:

-قوانين؟!

انتصر فضوله عليه، فأخذ يقرأ بصوت مسموع:

-تنظيف الشقة وترتيبها… عمرو يوم الإثنين، سراب يوم الجمعة… تنبيهات هامة: اللي ياكل في طبق يغسله، واللي يشرب في كوباية يرجعها مكانها… كل واحد هيعمل أكل لنفسه، وكل واحد هيغسل هدومه لنفسه… وممنوع اللمس والأحضان والكلام الفاضي ده…

رفع عينيه عن الورقة يطالعها رافعًا حاجبيه، ثم أطلق ضحكة قصيرة، وبحركة مباغتة، قطع المسافة بينهما وعانقها، فتسارعت أنفاسها وتجمّدت بين ذراعيه…

متنسوش التفاعل حطوا تعليقات كتير ولايك…

يتبع

#كتابات_آيه_شاكر

#روايات_آيه_شاكر

يتبع

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *