رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الثالث عشر 13 بقلم ياسمين عادل
رواية ليلة في منزل طير جارح الجزء الثالث عشر
رواية ليلة في منزل طير جارح البارت الثالث عشر
رواية ليلة في منزل طير جارح الحلقة الثالثة عشر
“ربّ ذنبٍ لم تقترفه في الخفاء أو العلن، يكون فيه نهايتك.”
_____________________________________
كانت تتناول غداءها بشهية منعدمة، فقط كإجراء روتيني مجبرة عليه كي لا تتكدر معدتها بسبب الأدوية المتنوعة التي تتعاطاها، وكان ذلك ملحوظًا له، وهو الذي كان يراقبها مختلسًا النظر إليها، شاعرًا بعيون “جليلة” التي تتفرس النظر إليه من حين لآخر.
قطع “هاشم” لحم البطّ بيدهِ ثم وضع أمامها قطعة طرية من لحم الصدر وهو يردف بـ :
– أكلتك ضعيفة ومش هتنفع مع العلاج اللي بتاخديه يارحيل… هانم.
أدرك إنه نطق إسمها بدون تكلفٍ أو ألقاب، فـ مررّ لحظات قبل أن يلحق بخطئهِ متعمدًا ذلك، لكي ترفع هي بنفسها تلك الكُلفة بينهم، وقد كان :
– مفيش داعي تقولي هانم.. ناديني بأسمي عادي.
ثم نظرت لقطعة البط الكبيرة وهي مستثقلة تناولها :
– مش هقدر آكل أكتر من كده حاسه معدتي مش متقبلة الأكل التقيل ده.
تدخلت “جليلة” وهي تدّس قطعة صغيرة بفمها لكي تلوكها:
– معلش يارحيل تعالي على نفسك يابنتي.. هاشم بيتكلم صح العلاج لازمه غذا كويس.
ثم سكب لها “هاشم” ملعقتين من الحِساء وهو يتابع :
– تسلم إيدك يا هانم.. الأكل من إيدك ليه طعم تاني، بقالي كتير محروم من الأكل البيتي.
شعرت “جليلة” بالشفقة عليهِ، لتقول بتلقائية شديدة وهي تسمح لنفسها بالتدخل في حياته، بحكم إنه الصِهر المنتظر :
– ياعيني يابني!.. هي مكنتش بتطبخلك ولا إيه؟.
جحظت “رحيل” بعينيها في ذهول من تطفل والدتها المفاجئ :
– ماما!!.. إحنا مالنا بالحاجات دي؟!.
فـ ضحك “هاشم” بدون أن يصدر صوتًا ليجيب :
– سيبيها على راحتها من فضلك.. انا مرتاح في الكلام معاها.
ابتسمت “جليلة” بمزيد من الرضا لتقول :
– ربنا يحفظك يابني.
ثم استرسل في الحديث متعمدًا التطرق لأجزاء مصغرة من حياتهِ السابقة، أجزاء معينة اختار هو توصيلها بمغزى معين يقصده:
– كانت بتطبخ، بس مش الأكل اللي بحبه واللي بيجي على مزاجي.. يعني مثلا معتقدش إن عمرها عملتلي بط وملوخية وفريك ومحشي ورق عنب.. الأكل ده كنت دايمًا أكله برا لأنها محاولتش تعمله.. حتى ليلى في أكل كتير متعرفوش بسبب كده.
أشفقت عليه “جليلة” أكثر وهي تندمج معه في الحديث :
– عيني عليك.. خلاص متشيلش همّ أنا هعوضك انت وأميرتنا الصغيرة ليلى كمان.
ابتسم “هاشم” في إمتنان شديد وهو يلحّ عليها لتنفيذ وعدها :
– ياريت ياهانم.. نفسي ليلى تجرب تاكل من إيدك.
– ميكونش عندك فكر أنا هغذيها كويس بس هي تيجي.
وقفت “رحيل” عن جلستها وقد أحست بتوعك معدتها بعدما أكثرت في الطعام، فـ وقف “هاشم” عن جلستهِ سائلًا إياها :
– رايحة فين؟.. لسه مكملتيش أكل!.
تحسست معدتها وهي تجيب :
– مش هقدر آكل أكتر من كده.. هدخل آخد العلاج بتاعي.. عن أذنكم.
وخرجت بخطواتها البطيئة منتقلة إلى غرفتها، وهي تحس بالفضول الشديد حول الحقائب الكثيرة التي أحضرها لها، فجلست على الفراش وهي تفتش فيهم ونظرات الإعجاب تملأ عيناها، لقد كان ذو زوق رفيع حقًا، كل قطعة تختلف عن الأخرى في التصميم والألوان، وتعمّد ذلك الإختلاف من أجل التنوع الذي سيُضفي على صاحبتهِ الإناقة والجاذبية، حتى أوشحة الرأس كانت تليق تمامًا مع الثياب وتزيد من رونقها المحتشم الجميل، ولم ينسى أبدًا أحذية القدم بأشكالها وأنواعها. تبسمت “رحيل” وهي تشعر بإنه أعطاها قيمة غالية جدًا، وتصرفهِ اللبق هذا كسر بعضًا من الحواجز الأمنية التي فرضتها بينهم، خاصة حينما قبلتهُ بشرط لم تنساه، وهو أن تسدد ثمنهِ الغالي لاحقًا.
لم تلبث أن تركت الحقائب حتى تشكلت صورة أبيها أمامها، لقد كان أكثر الناس تدليلًا لها ورفقًا بها وبأمها، حتى أصبحت الآن ناقمة على أولئك الذين يدعون إنهم من دمها، بينما الغدر في دمائهم يسيل سيلًا جارفًا. تلك اللحظة التي أحست فيها بالقلق يعاود من جديد إليها، ليحوم فوق رأسها، فرفعت عيناها للسماء تتضرع بهمسٍ خفيض :
– يارب انصرني يارب وأبعد آذاهم عننا.
*************************************
لم يبدأ الشجار بعد، ولكن على وجه كل واحدٍ منهم تعابير التأهب حاضرة لخوض المعركة الكبرى، في حال اعتراض “حسين” على قرارهم بأخذ “منال” من ذلك المنزل الذي أهُينت فيه. هبط “حسين” من على سطح المنزل وعلى وجهه تلك الإبتسامة المتّصنّعة وهو يرحب بزيارتهم المفاجئة :
– أهلًا وسهلًا ياعمي.. نورت الدار والله.
وفي أعقابهِ “حمدي” قائلًا :
– زدت البيت نور ياحج عدنان.. أتفضل واقف ليه؟!.
لم يتفوه “عدنان” بكلمة واحدة، فقط ظلت قبضتيهِ مستندة على عصاه الغليظة المصنوعة من الزان الثقيل، وعيناه غائمة تتسلط على الدرج المقابل له، في حين تناوب ابنهِ الأكبر “جمال” الرد عليهم بلهجة حادة :
– ولا سلام ولا مسا يا حسين.. معندناش ستات تضرب وتتهان في بيت چوزها، لما تعرف قيمة منال تبقى تيچي تاخدها من بيت أبوها معززة مكرمّة.
منع “حسين” ذلك الغضب الذي استطر على جبينهِ من أن يظهر لهم، محاولًا تبرير فعلتهِ الحقيرة ببعض المبررات الواهيه :
– أسمعني بس ياجمال، الراجل من حقه يأدب مراته لو غلطت و……
التفتت عينا “عدنان” إليه وگأنه على وشك أن يجهز عليه، وحدجهُ بنفورٍ عازم على تلقيهِ درس قاسي مهين :
– لما تبقي البت مش متأدبة ياحسين!.. إنما بنتي أنا غالية ومتربية أحسن تربية، ميجيش واحد زيك يعلمنا كيف نربي بناتنا.
تدخل “حمدي” متحرجًا من الموقف المحرج الذي حشرهُ به “حسين” قبل أن يتفاقم الوضع أكثر من ذلك :
– روق ياعدنان ياأخويا.. كل حاجه تتحل بالهداوة وهما ملهمش غير بعض في الآخر.
خطى “عدنان” خطوتين للإقتراب منهما، اقترابًا متحفزًا خطيرًا وهو يرد بجدية لم تخلو من الصرامة :
– لاه.. بنتي ليها بيت أبوها ياحمدي، لحد ما تربي ولدك ويعرف مين هي منال الصاوي.. ولا بنتك تيسير محكتش ليكم كيف ابن اخويا بيعاملها!.. حاططها فوق راسه تاچ، هي دي الرچولة، اللي يضرب مرته ده راچل ناقص.
قال كلمتهِ الأخيرة تلك وهو يزجرهُ بنظرة محتقرة، فـ اشتعلت رأس “حسين” أثر إهانتهِ الواضحة، ولم يقوَ على حجب إنفعالهِ أكثر من ذلك :
– ما بلاش الغلط ياحج.. انت جوا بيتنا وانا عامل اعتبار ليك لحد دلوقتي.
لكزهُ “حمدي” وهو ينهرهُ لقلة صبرهِ التي توقع بهم دائمًا في مأزق :
– أسكت ياواد..
– عنك انت ياحچ حمدي، ده واچب عليا.
رفع “عدنان” عصاه ليمسك بمنتصفها، وبقوة كان يضرب العكاز الذي يستند عليه “حسين” كليًا، فأطرحهُ أرضًا وسط صرخةٍ مدوية وهو يقول :
– متقدرش تعمل حاچه غير إنك تحط عينك في الأرض وانت بتكلم معايا يا حسين، وإلا رچالتي برا جاهزين يكسروا رچلك التانية، كيف ما عملها ولد العزيزي قبل سابق.
انحنى “علي” ليسند أخاه الذي وقع توًا، عاجزًا عن الدفاع عنه وهو يعلم جيدًا إنه مخطئ خطأ كبير في حق زوجته التي تحملته كل تلك السنوات حتى فاض بها الكيل، وقبل أن ينفتح فمهِ مرة أخرى بكلماتٍ قد تزيد من فداحة موقفهم كان “حمدي” يقف قبالتهِ يا يجأر فيه :
– أخــرس ولا كـلمـة.
صوت أقدام “منال” وأطفالها الثلاثة كانت تحتك بالسُلم، وسط صوت النساء بالأعلى وكأنها حرب دائرة ما بين مؤيد لذهابها ومعارض، فـ تقدّم منها شقيقها يحمل عنها الحقيبة الكبيرة التي أعدتّها، ثم حمل الطفلة الصغيرة بأحضانهِ وهو يقول :
– تعالي ياقلب أخوكي.. مكانك على الراس يامنال وغير كده منقبلوش بيه.
منع “علي” شقيقهِ من التدخل فيما يحدث، وأردف بنبرة متعقلة :
– أستهدى بالله ياعم عدنان.. كل حاجه هتتحل وبالودّ، خراب البيوت مش بالساهل.
ودعم “حمدي” قول ابنهٍ الأصغر العاقل وهو يقول :
– صح.. الخراب مش بالساهل ياحج.
ضرب “عدنان” الأرض بالعصا، في إشارة واضحة منه بعدم التراجع عن موقفهِ مهما حدث :
– أسمع ياحمدي، لما ولدك أتچوز على بنتي چيت لحد عندها وسألتها، قولت لو عايزة طلاق أطلقك منه في الحال.. قالتلي لا يابا.. بحب چوزي وشرياه، سيبتها على راحتها رغم إني مش راضي بضرة على بتي، لكن الإهانة لاه والله ما أقبل بيها.. والأيد اللي تتمد على عيالي أقطعها من جدرها، لكن انا مش هعمل كده عشان العيال..
ثم ضرب الأرض مرة أخرى بالعصا وهو يتابع :
– بس اللي ميقدرش النعمة يبقى ميساهلش يعيش فيها.. وابنك ميستاهلش منال.
كانت “منال” وشقيقها قد وصلا لباب المنزل، حينما هدر “حسين” بصوتهِ الجهوري، محاولًا منع خروجها من المنزل :
– لو خرجتي من هنا يا منال تبقي طالق مني.. وبالتلاتة.
أوجعت كلمتهِ بقايا كرامتها التي تحاول لملمتها الآن، وشعرت بنفسها جارية لم يعتني بها سيدّها المالك، وهي التي كانت سيدة تأمر وتطاع في بيت أبيها، ابتلعت “منال” غصة وقفت بحلقها، ودعست على قلبها العاشق لزوجها وبيتها، لتشتري نفسها بدلًا منهما. توقع “حسين” إنها ستعود إدراجها، وأن تهديدهِ هو الورقة الرابحة التي بين يديهِ، فهو يعلم كم تعشقهُ وكم هي متعلقة به، لعل ذلك الضمان هو الذي دفعهُ لإستعبادها حدّ المرض، فمن ضمن بقاؤك سينهشك بلا رحمة، متأكدًا أن لديك من الصبر مخزون لا نهاية له.
ولكـن… ما وصلت إليه “منال” تخطى توقعاتهِ وخيالهِ المحدود، إذ تجبّرت بقوةٍ لم تكن تعتادها، وهي تخبره بإنها لم تعد تهتم، بل إن تلك هي رغبتها الآن :
– خليهم أربعة ياحسين.. تبقى وفرت عليا مشاوير المحامين ووقفة المحاكم.
انفجرت القنبلة العالقة بين ضلوعهِ، وصرخ بصوتهِ الهادر وقد كان الشيطان حاضرًا مجلسهم :
– طب انتي طـالـق يا منـال.. طـالـق بالتـلاتــة.
************************************
أغلقت هاتفها، واعتذرت عن الذهاب للمشفى لبقية الأسبوع، واعتكفت في منزلها تفكر في مصيبتها التي أتت حتى بابها بدون سابق إنذار.
الكارثة الحقيقية إنه يعتقد إنها خائنة، وهذا ما استشعرتهُ من نبرتهِ الساخرة التي بدت وكأنها لا تصدق أي تبرير منها، وإنه قد يتصرف على هذا الأساس ظالمًا إياها، وهي التي رفضت أي تساهل من أي نوع في علاقتها مع “رمزي”، لكي لا تتلطخ بوبال الخيانة الحقيرة، ولأجل الحفاظ على ابنتها التي تمثل لها حياتها كلها. انزوت “كاميليا” على نفسها والضيق يشق صدرها شقًا شقًا، غير قادرة على مواجهة هذا الألم النابع من أحشائها، من ناحية افتقدت ابنتها بشدة، و ناحية أخرى تخشى كل الخشية أن يحرمها “هاشم” منها، وقد يجدد مسعاه بشتّى الطرق إن لم تؤتي أذيتها الثمار المبتغاه. تأففت وهي تدفن رأسها في وسادتها، فـ استمعت لصوت والدتها التي فتحت عليها الباب لتهمس بـ :
– كاميليا.. رمزي برا ومصمم يشوفك يا بنتي.
انتفضت “كاميليا” من جلستها غير مصدقة إنه أقبل على فعل متهور گهذا، ثم هتفت بـ إنفعال :
– وإيه اللي جابه لحد هنا! أفرضي هاشم مراقب البيت ولا مخلي حد يمشي ورايا ؟؟.. دي تبقى مصيبة ياماما!.
ذمّت “هداية” على شفتيها بتوجسٍ وهي تشارك ابنتها نفس المخاوف :
– مش عارفه بقى!.. أنا حاولت أخليه يمشي لكنه مصمم يشوفك، الراجل هيتجنن عليكي يا كاميليا بقاله يومين.. أخرجي يابنتي فهميه الحكاية.
وضعت “كاميليا” وشاحًا صوفيًا على أكتافها، ثم خرجت في أعقاب والدتها نحو غرفة استقبال الضيوف، حيث كان واقفًا في مكانه لم يجلس حتى، قلبه ينبض على غير استقرار، وأنفاسهِ تعاني إضطرابًا حقيقيًا أثر توتره الزائد؛ وما أن رآها حتى اندلعت نيران صبرهِ التي لم تعد تحتمل لأكثر من هذا، وهو يحدجها بغيظٍ مُسعرٍ :
– ليه يا كاميليا تعملي معايا كده؟.. لـيه إنسان زيي يفضل قاعد على نار ولا عارف انتي بخير ولا لأ؟.. انتي مصممة تفقديني عقلي لــيـــه؟ ..
كانت ملامحها خاوية تمامًا، لم يستدل منها على أي تعبير أو إيماءه تفيد بما يجول بداخلها من معارك مستشيطة، وهذا ما دفعة رأسه للجنون أكثر، ليمسك رسغها بتمتاديٍ غير مقصود لعلها تفيق من حالة الصمت اللعينة تلك :
– كــاميـليـا!.. فـي إيــه بالظـبـط ما تفهميني؟!.
أغمضت عينيها بقوةٍ تعتصرهم، قبل أن يخرج همسها الذي بالكاد سمعهُ :
– هاشم عارف كل حاجه.. عارفك وعارف علاقتنا.
اتسعت عينا “رمزي” بذهولٍ لم يكن يتوقع أمر گهذا، إما كان ذلك الرجل شيطان إما يروض الجنّ لحسابه كي يعلم بشأن گهذا، وذلك يدل على مدى خطورتهِ، إذ ظل صامتًا صامتًا، ثم أعطاها حريتها على طبق من ذهب حينما طالبت بها، ثم مرّت مدة العِدة، ثم اختطف ابنته، ثم ورطها بقضية شائكة لا أحد يعرف مصيرها حتى الآن.. كل ذلك ولم يبوح بأمر إكتشافهِ الخطير هذا سوى الآن، إذًا تلك هي الورقة الجديدة التي يتلاعب بها معهم، للحصول على ثأره بحرمانها من أنفاسها التي تتنفسها، من إشراقة وجهها، من نور عينيها، من ليلـى.
************************************
تأففت الصغيرة “ليلى” بقنوط وهي تنتظر بجواره في السيارة، بينما هو عيناه گالصقر الجريح الذي خُدش جناحهِ، فـ ظل رابضًا في مكانه غير قادر على الحِراك، يُطالع البناية العريقة التي تسكنها “كاميليا”، بعدما رأى “رمزي” وقد صعد منذ أكثر من ثُلث الساعة ولم يهبط حتى الآن، فأجبرهُ ذلك على الثبوت في مكانه لبعض الوقت، لكي لا ترى “ليلى” بأم عينها زوج والدتها المستقبلي، والذي ضحت بحياتها مع “هاشم” لأجله هو. كان شعورًا حارقًا مُلهبًا، شعورًا قاسيًا وحاميًا، أن يحس رجلًا بتفضيل زوجتهِ رجل آخر عنه، بل وتخطط للتخلص من زيجتها من أجل أن تعقد قرانها على رجل آخر، متجاهلة بذلك كرامتهِ الرجولية التي لن يسمح بأن تُمس، وأن الرد سيكون قاسيًا لا محاله، فما بالك إن كان هذا الرجل هو “هاشم العزيزي” بنفسهِ؟.
انتبه “هاشم” لتذمر الصغيرة بجوارهِ، وهي تربت على ساقهِ لتلفت إنتباههِ إليها :
– يا دادي!.. مش بترد عليا ليـه انت زعلان من ليلى؟؟.
مسد “هاشم” على شعرها بلطفهِ المعتاد، ثم أردف بـ :
– أنا برضو أقدر أزعل من سُكر حياتي وأميرة قلبي.. أنا بس هطلع أشوف مامي فوق ولا لأ وبعدين هنزل آخدك معايا.. اتفقنا ؟.
عبست “ليلى” بعدما وعدها أبيها أن ترى والدتها الآن، ولكنه على ما يبدو سيتراجع عن ذلك الآن :
– مش قولتلي هتاخدني عند مامي؟؟ رجعت في كلامك ليه؟.
ربت على وجنتها الصغيرة قبل أن يطبع بشفاههِ قُبلة على جبينها مسترضيًا إياها :
– مقدرش أرجع في كلامي أبدًا.. بس عايز أتأكد إنها فوق الأول، مش هتأخر عليكي ،ماشي ؟
استسلمت الصغيرة لرغبة أبيها وهي لا تملك سوى ذلك، بينما التفت “هاشم” للسائق قائلًا :
– خلي بالك منها ياحامد.. دقايق وراجع.
– عنيا يا فندم.
ترجل “هاشم” عن السيارة متوجهًا نحو البناية، منتويًا مداهمة مسكن والدتها الذي تعيش فيه معها منذ الطلاق، ولتكن المواجهة على المشاع وبدون أي خفاء بعد الآن.
صرخت بها “كاميليا” بعدما انفجر خزان صبرها النافذ، وعيناها ترتجّ بالدموع تعاني من قسوة عقابها على ذنب لم تقترفهُ :
– مــعرفـش يا رمـزي معرفش.. مش هاممني عرف إزاي وأمتى اللي يهمني مدفعش تمن ذنب أنا مرتكبتوش!.. بنتي ملهاش ذنب تتحمل نتيجة عقابي وتتحرم مني أبدًا.
تدخلت “هداية” وقد أرهقها رؤية الحالة التي عليها وحيدتها :
– أهدي يا كاميليا، حالتك دي مش هتحل المشكلة يا بنتي.
كظم “رمزي” غضبهِ من تخاذلها واستسلامها لحكمهِ، بينما هي تقدر على رفع قضية خطف ضدهِ إن شائت ذلك :
– مش فاهم إيه سر موقفك الضعيف ده يا كاميليا؟!.. الحضانة ليكي انتي ومن حقك تاخدي البنت غصب عنه وبالقانون.
زفرت بنفاذ صبر وهي تفسر ذلك الضعف الذي يجتاحها رغمًا عن طاقتها العدوانية ضد طليقها :
– عشان أنا عارفه هاشم كويس.. العند معاه نهايته مش في صالحي، لازم أسايسه لحد ما آخد منه بنتي غير كده مش هعرف أشوفها بقيت عمري زي ما هددني.
صوت جرس الباب أثار انتباه الجميع، فخرجت “هداية” لتفتح الباب بدون أن يخطر بذهنها هوية الضيف الزائر، وإذا بها تبهت فجأة، وتشحب بشرتها مع رؤيته هنا الآن، وعلى وجهه صنوف من أشكال الغضب المكتوم، وعيناه تبرقان بنذير خطرٍ يطرق أبوابهم المهشمة، وهو يقول بنفس لطافتهِ الخادعة :
– مساء الخير يا حماتي.. أقصد يا هداية هانم.
وتجولت عيناه على الداخل وهو يسأل بخبثٍ :
– مش هتقوليلي أتفضل ولا إيه؟؟.
أطرقت “هداية” رأسها في محاولة لمنع نفسها من الإضطراب أمامه، ثم سألتهُ بنبرة فجّة غليظة :
– عايز إيه تاني يا هاشم؟.. مش كفاية المركز اللي اتقفل بسببك، ومجهودي ومجهود بنتي اللي رميته على الأرض بعد كل السنين دي؟!.
لم ينتظر “هاشم” دعوتها للدخول، وتقدم بدورهِ يدخل للمنزل ثم أغلق الباب من خلفه وهو يرميها بنظرةٍ بالية غير مهتمة بما ترويه من كلمات فارغة بالنسبة له :
– أنتوا كده دايمًا يا ستات.. تلومو الراجل على رد الفعل وتنسوا إن الفعل كان من عندكم.
تجاهل النظر إليها وعيناه ترصد غرفة الإستقبال، ثم أردف بـ :
– بنتك فين ياترى؟؟.. لسه مخلصتش مقابلة الغرام لحد دلوقتي؟.
كتمت “هداية” شهقة كادت تنفرج بها شفتيها، حينما كانت “كاميليا” تخرج من غرفة الإستقبال ومن خلفها “رمزي”، بعد سماع ذلك الصوت الرجولي الواضح بالخارج، لتُصدم “كاميليا” برؤيته هنا.. والآن.. في هذا التوقيت الحرج والخاطئ، بينما عيناه هو تتسلط على ذلك – الحشرة- كما وصفهُ، والأسئلة تقف على لسانهِ في ترددٍ للخروج، ثم أحس إنه لا جدوى من ذلك، فعلى ما يبدو إنها اختارت طريقها، وأن الثمن ستدفعهُ لا محالة. كاد “هاشم” يعود لفتح الباب والخروج منه بعدما رأت بعينها إنه داهمهم، فـ ركضت نحوهِ قبل أن يخرج وهي تلهث بتعبٍ قائلة :
– هاشـم.. هاشم استنى أرجوك.
وقف ينظر إليها بنظرةٍ خائبة، وكأنه يكوي ضميرها ويحرق آخر أمل لها بالتفاوض معه، قبل أن يهتف بـ :
– وجودي ملهوش لزوم.. انتي اختارتي خلاص وكل واحد لازم يدفع تمن اختيارهُ.
فهمت إلى ماذا يرمي، فـ أمسكت بذراعهِ ترجوه بنطراتها الدامعة، أن يرحم أمومتها وضعفها وألا يعاقبها بذلك العقاب القاسي :
– لأ أرجوك متقولش كده.. أي اختيار قدام بنتي خسران يا هاشم، بنتي عندي أهم من أي حاجه أرجوك رجعهالي وانا أوعدك هعمل كل اللي تقول عليه.
حقًا كانت تلك هي نقطة الضعف التي أمسكها بها، فضغط عليها بكل قوةٍ لتدفع ثمن الأثم الذي لم تعترف به بعد، متلذذًا برؤيتها تعاني كما أذت هي مشاعرهِ وخدشت رجولتهِ :
– مبقاش في كلام يتقال خلاص يا دكتورة، وأي إتفاق كان هيتم بينا اعتبريه… لاغـي.
تشبثت “كاميليا” به حينما تدخلت “هداية” لتمنع ذلك الظلم البيّن الذي تراه :
– حرام عليك ياهاشم انت مش عارف حاجه.. متاخدش بالظاهر وتظلم بنتي وتظلم ليلى كمان.
– هاشم أنا مستعدة أضحي بأي حاجه عشان بنتي، أرجوك أديني فرصة وانا هحكيلك كل حاجه، والله انت ظالمني.
تجاهلها “هاشم” وهو ينظر لـ “هداية”، موحيًا بالقرار الذي اختاره فيما يخصها :
– أنا مش هظلم ليلى أبدًا.. بنتي هتعيش الحياة اللي تستحقها حتى لو من غير أمها، من غير الخـاينة.
لم يقوَ “رمزي” على رؤية ذلك الذلّ والهوان عليها، قلبهِ يتمزق من بين ضلوعهِ وهو يراها ترجوه وتشحذه هكذا وهو جامدًا متحجرًا گالصخر، فبادر بمحاولة لتفسير ما حدث، وإنه ظالمًا لهم بتنبؤاتهِ الخاطئة :
– أستاذ هاشم، أنا بقسملك إن مفيش أي حاجه بيني وبين مدام كاميليا وإنك فاهم غلط، دي زميلتي في المستشفى وعمرها ما تمادت معايا أو……
لم يجد “رمزي” ردًا شفهيًا، وإنما لكمهُ “هاشم” لكمتين طرحتهُ أرضًا يقاسي من شدة الألم، ثم ضبط ياقة معطفهِ وهو يجأر بـ :
– شوفلك دكتور يصلح وشك.. يا دكـتور.
لم تتجرأ “كاميليا” على التفوه بكلمة واحدة وهي تراه في ذروة جنونهِ المتهور، وتنحّت جانبًا لتتحاشى مصيرًا قد يكون أبعد مما تتخيل، بينما انحنت “هداية” نحو “رمزي” لتلحق به حينما خرج “هاشم” تاركًا باب الشُقة مفتوحًا من خلفهِ.
هبط متعجلًا ليرى صغيرتهِ تقف بداخل السيارة وأمام النافذة لتراه، وقد تهللت أساريرها ظنًا بإنها ستصعد لوالدتها؛ لكن “هاشم” أحبط تلك السعادة التي كانت تتراقص في عينيها، حينما هتف بـ :
– مامي مش فوق يا ليلى، للأسف هنضطر نمشي ونيجي وقت تاني تكون موجودة فيه.
اختفت الإشراقة عن وجهها، وهي ترضخ لوالدها بدون أن تنبث بكلمة، فوضعها “هاشم” على ساقيه وهو يسألها :
– إيه رأيك لو ناكل أيس كريم ؟.
فسألته بعفويتها :
– في البسكوتة؟.
– أكيد في البسكوتة، وبعد كده هنروح مكان جميل.. إيه رأيك ؟.
مطت الصغيرة شفتيها ببعض الرضا، وهي تجيب بموافقتها :
– ماشي موافقة.
قبّل “هاشم” رأسها وهو يشير لسائقهِ كي يتحرك، بينما بقيت صغيرتهِ قيد أحضانهِ طوال الطريق، وكأنه بذلك يعوضها عن قرارهِ بحرمانها عناق واهتمام وحضن الأم، يعوضها عن الثمن الذي ستدفعه بأثم والدتها، ستدفعه بالحرمان منها.. إلى الأبد.
**************************************
صفّ “مراد” سيارتهِ أمام إحدى الصيدليات الشهيرة، متمنيًا لو يجد الدواء الناقص الذي يبحث عنه منذ مدة، لعله يُشفى من “الأنفلونزا الموسمية” التي بدأت تداهمه أعراضها منذ الأمس. ارتدى قناع طبي لئلا يصيب أحد بالڤيروس، ثم ترجل عن سيارتهِ سائرًا نحو مدخل الصيدلية، فـ أوقفه اصطدام سيدة به وكأنها لم تراه أمامها بذلك الوضوح الذي يمنع تصادمهم، فـ رفعت بصرها المتحرج إليه لتعتذر :
– أسفة جدًا لحضرتك.
شحب وجهه وتجمدت أطرافهِ وهو يراها أمامه، وسرعان ما نزع القناع عن وجهه هاتفًا بأحرف أسمها :
– نـدى!؟.
اتسعت حدقتيها بذهولٍ وقد تبين عليها أمارات التعب :
– مـــراد!!!.
**************************************
فتحت الباب بعدما تأكدت من وشاح الرأس خاصتها، واستقبلتهُ بحفاوةٍ گعادتها مؤخرًا، وهي ترنو للصغيرة المتشبثة برقبتهِ بنظرةٍ عطوفة :
– أهلًا وسهلًا.. تعالى يابني أدخل.
دخل “هاشم” وهو يعتذر عن زيارتهِ المفاجئة، بعدما أتصل بها ليستأذن بالحضور في هذا التوقيت الليلي، فسمحت له “جليلة” بعدما أحست بنبرتهِ المقلقة. ابتسم “هاشم” بوداعةٍ وهو يعتذر للمرة الثانية :
– أنا آسف.. بس محتاج مساعدتك.
أغلقت “جليلة” الباب وهي تعود إليه بعتابها :
– متقولش كده.. لو مش هنخدمك نخدم مين يعني.
ثم حملت عنه “ليلى” وهي تقول :
– أهلًا وسهلًا ياحببتي.. تعالي لتيتة.
انبعجت شفتي “هاشم” وهو يبحث عنها في محيط الصالة؛ لكنها لم تكن موجودة، فـ عاد ينظر إلى السيدة الحنونة “جليلة” وهو يسألها :
– محتاج أتكلم معاكي.
أومأت “جليلة” برأسها متفهمة، ثم أنزلت الصغيرة من أحضانها وأشارت لها لغرفة “رحيل” قائلة :
– شايفة الأوضة اللي هناك دي يالولي.. أدخليها هتلاقي رحيل مستنياكي هناك.
فـ التفتت “ليلى” لأبيها تسأله :
– فين الهدية بتاعت رحيل عشان أديهالها يادادي ؟.
ابتسم “هاشم” بدورهِ وقد أصيب بمفاجأة، عندما فضحت الصغيرة أمرهِ وهو لم يرتب بعد إنه يعطيها تلك الهدية الآن؛ فأضطر أن يخرجها من جيب معطفهِ، حيث كانت عُلبة مخملية مربعة بلون أزرق قاتم، وناولها إليها قائلًا :
– خدي ياليلى، قولي لطنط رحيل إنك اختارتي الهدية بنفسك.
قطبت “ليلى” جبينها بغير رضا، وهي تسأله بشئ من الإعتراض :
– أكذب يعني؟.
ضحكت “جليلة” من أجل عفوية الصغيرة التي فضحت فعلة والدها، ثم انحنت عليها لتقول :
– دي مش كذبة يالولي.. إحنا هنقولها كده عشان ترضى تاخدها منك.
أومأت “ليلى” رأسها بتفهمٍ و هي تصحح لها :
– قوليلي يا لوليتا.. مش لولي.
قبّلت “جليلة” رأسها غير قادرة على منع نفسها من ضحكتها التلقائية :
– حاضر يالوليتا.. يلا روحيلها.
ركضت الصغيرة نحو المكان الذي أشارت إليه “جليلة”، بينما دعتهُ الأخيرة للجلوس والتحدث معًا كما أراد، لتقرأ بين ثنايات وجههِ بأن ثمة أمر يعكر صفو ابتسامتهِ اللطيفة، ويستبدلها بعبوسٍ يحاول أن يداريهِ. قدمت إليه “جليلة” قهوة مُرة كما يحب، ثم سألته بإهتمام :
– قولي يابني.. إيه اللي حصل؟.
ترك “هاشم” قهوتهِ جانبًا وهو يطلب مساعدتها مباشرة :
– أنا عايز ليلى تقعد معاكم هنا فترة.. لحد ما أظبط أموري وأشوف الفترة الجاية هيحصل إيه.
لم تتردد “جليلة” في قبول طلبهِ، بل اعتبرته جزء من ردّ الجميل، ولكن فضولها دفعها لمعرفة أساس الحكاية، وما القصة وراء وجود طفلة صغيرة معه هو وليست مع أمها، ولهذا سألته بدون مراوغة :
– على راسنا طبعًا.. بس معلش يعني أعذر فضولي، هي مامتها.. فين ؟!.
تشكلت جمرات من النار في نظراتهِ الحارقة، وتسطّر حاحبيهِ گالذي يحجب غضبًا مقيتًا بصعوبة بالغة، ليقول من بين أنين ضلوعهِ المتعطشة للإنتقام، ردًا لرجولتهِ التي أحس وإنها استُبيحت بالفعل :
– مـاتت.. مامـتها مـاتت يا هانم….
**************************************
يتبع…..
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ليلة في منزل طير جارح)
التعليقات