رواية رحماء بينهم الفصل الثالث والخمسون 53 – بقلم علياء شعبان
•~•~•~•~•~•~•~•
“ارتقبت وِدكِ رغم الملامة.. أخبروني ألا أُهرول خلف السراب وألا أُسرف في الهوى.. ارتقبت عودتكِ لأيام فمتى؟؟”.
•~•~•~•~•~•~•~•~•
لم يبرح الميناء، انقضى على غيابها سبعة أيام بل مرُّوا على قلبه وكأنهم سبع سنوات، سرقت كل ما بداخله معها وأبقته فراغًا تمر الرياح والأعاصير عبره بلا شفقةٍ أو مُقاومةٍ منه، جلس خائب الأمل كحالٍ كل يومٍ، تمر الوجوه أمامه وتأتي غيرها ولا يُبصره وجهها حتى الآن؛ كيف فعلت هذا بقلبه؟ كيف تركت اشتعال النيران داخله يتصاعد رغم علمها بأن نجاته في قربها؟؟ أخبرته أنها رحلة بحرية قصيرة خارج البلد وستُخاطبه بكل الوسائل الممكنة وستعود إليه بطاقة جديدة ليكملا السير معًا.
لم تفي بوعدها له، ولم ييأس هو من انتظارها وترقُب رؤية وجهها بين الوجوه التي تروح وتأتي عليه، كان يذهب إلى البيت حينما يحل الليل وتشتد لُجَّته ثم يأتي في النهار ويمكث مُنتظرًا وعدها وأحيانًا كان يبيت في مكانه؛ لتمر الأيام هكذا مؤلم وقاسية.
لاحظ العاملون بالمكان تواجده اليومي بالمكان وكيف تستقر الدموع في عينيه ولا يحررها وكيف يبقى صامتًا في لوعةٍ ظهرت جليةً في نظراته المتلهفة لكُل سفينةٍ تستقر في الميناء وكيف يهرول باحثًا عنها بين المسافرين القادمون من كُل حدبٍ وصوبٍ.
إنهُ اليوم السابع، جلس “كاسب” على الدِكة الخشبية بحسدٍ خائرٍ تمامًا، وضع رأسه بين كفيه حينما أبصر مغادرة السفينة قبل قليل ولم يُبصر مجيء لأية سفينة قادمة، تنهد تنهيدة مُستعرة لا ينطفأ لهيبها منذ أيامٍ رغم ما يتحلى به من رباطة جأش قبل أن يجد كفًا يمتد ضاغطًا برفقٍ على كتفه، رفع “كاسب” بصره فوجد “عُمر” يقف بكرسيه أمامه وصفحة وجهه لا تقل يأسًا ولا حُزنًا عن الأخير الذي قال بصوت مُتحشرجٍ مُنهكٍ:
-جيت ليه تاني يا عُمر؟؟ قولت لك أنا كويس!!
تنفس “عُمر” بقوةٍ قبل أن يتابع بصوت مخنوقٍ:
-لأ إنتَ مش كويس يا كاسب وأنا لازم أكون جنبك!
عاد “كاسب” يطرق برأسه مرة أخرى قبل أن يقول الأخير بأنفاسٍ مُتقدةٍ من الفقد واللهفة:
-مشيت وأخدت معاها بهجتنا كُلنا بس أنا متأكد إنها هترجع لنا قريب.. سكون مُستحيل تفارق حد بتحبه للأبد.. ممكن تاخد هُدنة بس مستحيل تفارق لأن روحنا ساكنة فيها.
رفع “كاسب” بصره إليه مرة ثانية وقال بلهجة تتأجج غضبًا:
-وأنا أيه كان ذنبي؟؟ كانت ممكن تهرب من الدنيا كلها فيا؟؟ كُنت هبقى لها الدوا والمُعين، كُنت هداويها بسرعة بس هي شافت راحتها في البُعد زيّ ما أكون بالنسبة لها شخصية خيالية في حلم وفاقت منه والمفروض إني مكُنش موجود على أرض واقعها!!
سكت هنيهة ثم أضاف بقهرٍ:
-أنا عارف إنها هترجع علشانكم.. هتسامحكم كلكم.. بس مستحيل تسامحني لمجرد إنها تعاقبني.
مال “عُمر” إليه قليلًا ثم لصق جبهته بجبهة الأخير وقال بعينين دامعتين:
-أوعدك لمَّا ترجع هقول لها إنكَ أعظم راجل بيحب في الدنيا وإنها لازم ما تخسركش.. هانت اللقاء بيها قريب.
كاسب بزفيرٍ مختنقٍ:
-امتى؟؟ تعبت.
عُمر وهو يتدبر ابتسامة خافتة على شفتيه رغم حُزنه الشديد:
-قاوم مشاعرك شوية واستحمل وأول ما ترجع عاتبها ولومها على كل لحظة ألم وفقد دوقتها لك بس صدقني هي مستحيل تأذي حد عن قصد.. سكون كانت محتاجة تبعد وإلا هتنفجر.
تنهد “كاسب” تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن يردد مستقيم الظهر في ثباتٍ:
-هستناها ولو هستنى هنا العُمر كله بس مش هتكون مع أو لحد غيري.. ولازم تسامحني ونتجوز ونخلف عيال حلوين وعِناديين زيها!!
اتسعت ابتسامة “عُمر” تأثرًا بأحلامٍ ينسجها عقل هذا العاشق الوله والمُبحر في أمنياته عنها ومعها وهنا استكمل “كاسب” بكلمات مُصرة وحاسمةٍ:
-ممكن أتنازل عن رغبتي فيها.. عن أحلامي وأمانيا معاها.. ممكن أتغاضى عن مشاعري الواقعة فيها.. عارف.. أنا موافق تبعد عني وأكون نقطة سودا في صفحة من ماضيها كمان.. موافق تكون مع واحد تاني ومش معايا.. بس لازم أشوف بعيني تضحيات منه أكتر من اللي أنا قدمتها لها.. غير كدا.. أنا أولى بيها وقتيل عليها.
عُمر متنفسًا بقوةٍ ومُجيبًا بدعمٍ:
-صدقني هي لا بتحب ولا عايزة غيرك لأنها مُتأكدة إنك مُستحيل تتكرر في حياتها تاني، اديها بس شوية وقت!!
دقق “كاسب” النظر داخل عيني “عُمر” ثم قال بلهجة ثابتة:
-اوعى يا عُمر يكون سبب ثباتك الانفعالي دا إن سكون بتتواصل معايا ومخبي عليَّا؟؟ عُمر أنا مش عايز أكتر من إني اتطمن عليها؟؟؟
أومأ الأخير مُسرعًا في نفي وقال:
-لأ خالص.. أنا زيّ زيك يا كاسب.. مستني أي خبر عنها بفارغ الصبر.
أومأ الأخير في ثباتٍ وشرد بعينيه يتفقد قدوم أية سفينة ربما تحمل أخبارًا عنها.
•~•~•~•~•~•~•~•
-إنتِ هتفضلي قاعدة في الأوضة وقافلة على نفسك؟؟ أنا لسه ما مُتش!!
صرخ “عثمان” فيها بملامحٍ مُتأججةٍ وهو يفتح الباب على مصراعيه ثم ينطلق صوبها مُندفعًا من شدة الغيظ، أشاحت “نبيلة” بوجهها بعيدًا عنه تنظر صوب النافذة ولا تنبس ببنت شفةٍ حتى وقف أمامها مُباشرة ثم أردف بلهجة حادة:
-نبيلة.. أنا بكلمك؟؟
أخرجت زفيرًا ساخنًا من بين فمها المزموم وقالت بحنقٍ:
-وأنا مش هتكلم يا عثمان لحد ما بنتي ترجع لحضني.. سكون بنتي أنا مش بنتها هي!!
مسح على غُرة رأسه بعصبيةٍ مفرطةٍ قبل أن يصيح مُحتدًا بالغضب:
-بقول لك سكون خارج حدود مصر دلوقتي في رحلة بحرية للبحر المتوسط والله أعلم هتروح بعد كدا لفين!!
نبيلة وهي تحدق فيه بعينين ناريتين:
-يعني أيه؟؟ مش هشوفها تاني؟؟ بنتي راحت مني؟؟ أنا سهرت وربيت وتعبت علشان يسندوني في عجزي وأنا عجوزة مش علشان يفارقوني!!
نهضت تقف على ركبتيها أعلى الفراش قبل أن تكيل له ضربًا يائسًا في منتصف صدره وتقول بانهيارٍ:
-أنا خايفة أكون وحيدة.. طول عُمري خوفي إني أكون وحيدة لمَّا أكبر زيّ الشبح بيراودني في نومي وحتي وأنا صاحية يا عثمان.. أنا خايفة من الوحدة أوي؟؟ علشان خاطري اتصرف وسيطر على الوضع؟؟؟
ارتفعت شهقاتها ثم أجهشت مُنهارةً خائرةً القوى:
-إنتِ اديتني أمل بيهم.. حلفت لي إني مش هكون في يوم وحيدة وإنتَ لازم توفي بوعدك يا عثمان.. اوعى تسمح بأكتر من اللي حصل لأني مش هقدر على أكتر من كدا.. مش هقدر أشوفهم بيروحوا مني واحد ورا التاني!!!
عثمان وهو يقبض على كفيها ويقول بوعدٍ وصلابةٍ:
-مفيش حد فيهم هيروح منك.. اللي حصل مع سكون هيتداوى مع الوقت ومفيش حد هياخد حد منك.. إنتِ الأحق بيهم.
نبيلة وهي تنظر بخوفٍ داخل عينيه وتقول:
-ولو ظهر شخص تاني ياخد حد فيهم مني؟؟ ولو انكشفت أسرارنا؟؟ أنا كدا هعيش وحيدة؟؟ كلهم هيروحوا مني!!
اعتلى الغضب صفحة وجهه وأخذ يهزها بقوةٍ ويصيح في وجهها:
-مفيش حاجة هتنكشف.. إنتِ أُمهم.. لملمي نفسك بسرعة يا نبيلة قبل ما ريحة خوفك توصل لهم.. مش لازم حد منهم يعرف إنك مش الأُم الحقيقية.
نبيلة وهي تذرف دموعًا تسيل بغزارة:
-بس أنا اللي سهرت على راحتهم وربيت وكبرت وعلمت.. يعني ليا حق فيهم.. مش كدا يا عثمان؟؟
أومأ صامتًا وهو يجذبها إليه ثم يضغط على أنيابه غيظًا ويتوعد في نفسه بانتقامٍ ساحقٍ من نجلا التي قلبت موازين حياته وسرقت طمأنينة حياته مع زوجته وأولاده وأثارت الذعر في قلب زوجته التي خشيت طوال عُمرها أن تهرم وحيدة بلا ذرية تسندها، لقد تدمرت تمامًا حينما أخبرها الطبيب بأنها امرأة عاقر وفكرة إنجابها درب من المستحيل، تلقيها الخبر بإصرار على المحاولة وظلا يحاولان الإنجاب بشتى الطرق والوسائل فكانت تتابع حالتها مع أكثر من طبيبٍ ثم خضعت لأكثر من عملية حقن مجهري وفشلت جميعها، سعيا لسنوات تعيسة حتى بات الأكل يتلاشى مع مرور السنين واضطربت حالة “نبيلة” النفسية وتدمر جسدها وصارت روحها مُتهالكة حتى كاد يفقدها ليُقرر في هذه اللحظة أن يقتل اليأس فيها ويأتي إليها بما تاقت إليه نفسها يومًا وسعى فيما سعى ودمر حيوات من دمر بدمٍ باردٍ حتى ألقى بين ذراعيها ثلاثة أطفال من صُلبه وقال بانتصارٍ أحياها من بعد موتٍ:” مَنْ هُم مِن صُلبي أبنائكِ للأبد”.
بَكَت وقتها من فرط الفرحة كأنه سرقها من قاع بحرٍ قبل أن تفقد قدرتها على التنفس، ألقاهم في حِجرها لإشباعٍ غريزة أمومتها التي تلهفت مرارًا وتألمت في جميع أُمسياتها من شدة الفقد، أرادها أن تتقابل وحلم الأمومة على طريقته الخاصة فتشبع ما تتوق إليه نفسها ناسيًا أنه خَلفَ وراءه أرواح تعاني مفارقة أبنائها.. خَلفَ وراءه أمًا تتجرع مرارة الفقد والقسوة رغبةً في إشباع غريزة امرأة لم يكتب الله لها أن تعيش حلم رؤية ذرية رحمها قائمة أمام عينيها، اعتنت بهم “نبيلة” بكل ما تكنه من مشاعر جارفةٍ ولم تسأله كيف ومِن أين أتى بهم؟؟ فلا فرق عندها وكان الأهم بالنسبة لها أن تعيش حلمها فبدأت مخاوفها تتلاشى برؤيتهم يكبرون أمام عينيها وأصواتهم تملأ المكان حولها وكلمة أمي تُرضي غريزتها وتُشبعها حتى صار الأمر عاديًا مع الأيام حينما ضمنت وجودهم في حياتها للأبد.
•~•~•~•~•~•~•~•
جمعت المائدة بهمَّة فاترة وملامح ذابلة فقدت رونها الذي أُعيد إليها قبل أيام حينما اعترفت بالحقيقة وتشاركتها مع ابنتها كاملة ولم تعد تحتفظ بها بين جنبات قلبها ولكن سرعان ما غابت روحها عنها مرة أخرى حينما ذهبت “سكون” بعيدًا ورفضت “وَميض” الاعتراف بها أو تقبُلها حتى، ألقت بالأواني داخل الحوض وهي تزفر زفرة طويلة وحانقة وشعور الوحدة ينغص أيامها بعدما تسلل إليه رائحة الأمل في اجتماع أبنائها.
تحركت متباطئة صوب غرفة المعيشة وما أن دخلت وجلست على الأريكة حتى التقطت هاتفها وظلت تنظر بإمعان إلى الفيديو الذي اختارته كي تقوم بنشره عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وقبل أن تضغط على زر النشر قامت بمشاهدته مرة أخيرة وابتسامة مُتشفية تعتلي ثغرها قبل أن تنقر “نشر”.. حدقت في شريط تحميل الفيديو حتى اكتمل رفعه على الصفحة وما هي إلا ثوانٍ حتى جاءها تفاعل رهيب ينهال على الفيديو من حيث لا تعلم وبدأ الجميع يتشاركونه ما بين مصدوم وناقم، كان الفيديو يخص “عثمان السروجي” في مصنعه وحواره مع أحد العمال حول استخدام حيوان ميت وبيعه للمُستهلك في الخفاء.
بدأ الهجوم على الشركة في التصاعد فرقص قلبها فرحًا حينما بدأ الجميع يتساءل عن ناشر الفيديو الذي يتخفى وراء حساب مُزيف؛ لم يكُن يهمها معرفة الجميع بها بل يهمهما أن تكون أول من يأتي إلى عقل “عثمان” حينما يسمع بهذه الكارثة، لحظات وبدأت ملايين الرسائل تُبعثُ إليها من قِبل الصحافة والإعلاميين وبعض رجال الشرطة يتساءلون حول صحة الفيديو فكانت ترد بأن هناك المزيد في جُعبتها.
ألقت الهاتف جانبًا ثم بدأت تتنفس بقوةٍ ومشاعر انتقامها منه تتشبع رويدًا رويدًا.. فقد أقسمت على جعله يتجرع من كأس سنواتها الضائعة المريرة يتجرع حتى يفقد ما بقى من اتزانه فتبدأ في ركله بشراسة في مواضع قوته حتى تقضي عليه تمامًا.
قطع نشوة انتصارها في هذه اللحظة رنين هاتفها، فأسرعت تجيب بابتسامةٍ عريضةٍ:
-أيوة أنا.
جاءها صوتهُ يقول بلهجة ثابتة:
-ومن قبل ما اسألك.. عمومًا كُنت عارف إن إنتِ اللي نشرتي الفيديو يا نجلا.
نجلا بابتسامة ظافرةٍ:
-بس أيه رأيك في التفاعل؟؟ مش مصدقة إنه انتشر بالسرعة والسهولة دي ومن غير مجهود مني.
ماكسيم وتو يُجيبها بوفرة طويلة:
-عثمان لو عرف إنه إنتِ مش هيسكت.. هيحاول يأذيكِ بأي شكل.. دا خنزير.
تكلمت “نجلا” بقوةٍ جامحةٍ وتابعت بثباتٍ:
-أنا عايزاه يتأكد أن أنا اللي سربت الفيديو دا ويحاول يهددني أو ياخد خطوة خبيثة معايا علشان تكون دليل للعالم كله على وساخته ونهايته اللي قربت.
تنهد “ماكسيم” وتابع بصلابةٍ:
-يبقى إنتِ من النهاردة مش هينفع تكوني لوحدك يا نجلا.
نجلا بابتسامة هادئة ترد:
-شوف أيه اللي يريحك علشان تكون متطمن عليَّا وأنا معاك.
تابع “ماكسيم” بحسمٍ:
-هزود الحراسة على قصر حمدي وعلى بيتك التاني وهكون زيّ ضلك والمكان اللي هتروحيه رجلي هتسبقك عليه.
نجلا دون مجادلةٍ:
-عُلم ويُنفذ.. ها؟؟ حاجة تاني؟؟
ماكسيم بتنهيدةٍ قويةٍ:
-حاليًا لأ وربنا يستر.
•~•~•~•~•~•~•~•
-يا عُمر علشان خاطري لو سكون بتكلمك قول لي؟؟ أنا قلبي واكلني عليها؟؟ عايزة أعرف بس إنها كويسة وبخير؟؟
أردفت “شروق” باكيةً وهي تتحدث إلى أخيها عَبر الهاتف تترجاهُ أن يوافيها بأية معلومة قد يعرفها عنها وإن كانت على تواصل معه فعلًا ويخفي هذا؛ فهي لو استطاعت أن تنعزل عن العالم بأكمله لا تطيق الابتعاد عن عُمر ولو لثانيةٍ حتى أن ثباته الانفعالي في غيابها مُثيرًا للشكوك فكان يجدر به الآن أن يجلس وَحيدًا يرثي رحيلها وهي التي تمده بالقوة كُل صُبحٍ جديدٍ.
تنهد “عُمر” تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن يقول بثبات:
-شروق حبيبتي.. أنا ما أعرفش عن سكون حاجة بس صدقيني هي هترجع لنا بالسلامة وقريب جدًا.
نفخت بقوةٍ تطرد حُزنها الدفين من داخلها قبل أن تقول:
-مُتأكد يا عُمر؟؟ مُتأكد إن سكون كويسة وهترجع لنا بالسلامة.
جاءها صوتهُ يقول في صلابةٍ:
-خليكِ واثقة في كلام أخوكِ وحاولي تهدي يا شروق.. أيام وهتعدي فلازم نستحمل كل صعوباتها.
ابتلعت “شروق” غِصَّة مريرة في حلقها قبل أن تقول بصوت مُتحشرجٍ:
-تمام.
أغلقت المكالمة معه قبل أن ترمي الهاتف من يدها ثم تضم ساقيها إلى صدرها وتضع رأسها بإنهاكِ على ركبتيها تئن في حُزنٍ وقهرٍ وما هي إلا لحظات حتى دخل “عِمر” الغرفة يحمل بين يديه صينية الطعام ويقول بعتابٍ:
-معقول يا شروق.. لحد دلوقتي ما قُومتيش من مكانك ولا غسلتي وشك!!
أجابته بصوت مُنهكٍ دون أن ترفع رأسها المحني:
-معنديش طاقة يا عِمران صدقني ومش جعانة خالص.
أومأ برأسه يمينًا ويسارًا في اعتراضٍ وهو يضع الصينية على الفراش ثم يتجه صوبها ويبدأ في مسك ذراعها وجذبها برفقٍ للنهوض عن الفراش، تنهدت بضيقٍ قبل أن تقول بانفعالٍ خفيفٍ:
-عِمران ما تضغطش عليا بعد إذنك.. أنا حقيقي مش قادرة غير إني أفضل في السرير.
زوى “عِمران” ما بين عينيه قبل أن يترك ذراعها ثم يجلس أمامها مُباشرة ويضع وجهها بين كفيه قائلًا في حُبٍ:
-شروق.. اللي بيحصل في بيت أهلك مش بإيدك ولا بإيدي.. حاولي تقاومي حُزنك على أختك.. سكون هترجع بس محتاجة تستعيد طاقتها وبعد إذنك افصلي ما بين الأمور!!
شروق وهي تجهش باكيةً منهارةً:
-بس أنا حلمت إنك خونتني وخلفت بنوتة من واحدة تانية؟؟ الواقع والأحلام الاتنين ضدي.
افتر ثغر “عِمران” عن ابتسامة هادئة قبل أن يقول بلين:
-حبيبتي.. قولتي بنفسك إنه حلم.. ليه مُصرة تفرضيه علينا واقع؟؟!
شروق وهي تتنهد في محاولةٍ يائسةٍ لطرد انفعالاتها:
-آسفة.. بس الضغط المرة دي جاي لي من كل اتجاه.
عِمران وهو يجذبها إليه ويضمها باحتواءٍ:
-يبقى نفعل خاصية المقاومة ونتغلب عليه.
أومأت في صمتٍ قبل أن يراودها سؤال آخر:
-عِمران.. إنتَ هتفضل تحبني رغم كُل حاجة مش كدا؟؟ أنا حطيت ثقتي كلها قدامك وبنيت أحلامي عليك!
عِمران وهو يقبل مقدمة رأسها ويقول بتماسكٍ وهدوءٍ:
-ربنا ما يخيب أملي فيكِ ولا يخيب أملك فيَّا. ويمدنا بزاد ثقتنا في بعض دايمًا.
•~•~•~•~•~•~•~•
ارتشفت “سهير” من كوبٍ الشاي القابع بين يدها رشفة وراء الأخرى في حالة من الصمتٍ التامٍ حينما ذهبت لرؤية ابنتها التي تمتنع عن الرد عليهم وانقطعت أخبارها عنهما تمامًا؛ فقرر “علَّام” الذي التاع قلبه خوفًا عليها أن يذهب إلى المزرعة ويتفقد حالها وما الذي يجري معها حتى غابت أخبارها عنه لمدة أسبوع كامل.
كانت “وَميض” تستقر بين ذراعي “علَّام” في حالة من السكن والاسترخاء بينما بقى هو شاردًا مصدومًا فيما سمع، هل “سكون” هي ابنة عثمان الذي رفض الاعتراف بها منذ سنوات طويلة؟؟ هي نفسها الفتاة التي جاءت من اعتداء عثمان عليها بالقوة وكيف حدث هذا قَدرًا واُكتشف أن “وَميض” هي الأخرى ابنة نجلا الكُبرى؟؟ لقد كان يعلم أن “نجلا” لديها من زوجها السابق طفلة رضيعة وطفل ولكنه لم يرهما من قبل، كاد أن يُجن من توالي الأحداث بهذه الطريقة وكشفها تباعًا بل ويفصل بين الحقيقة والأخرى ليس سوى أيامٍ.
باتت ملامح “وَميض” ذابلة لا حياة بها، مشاعرها خاملة وتفتقد لشغف الحياة وكلما جاءت مواجهتها مع “نجلا” إلى عقلها تبكي بمرارةٍ وحسرةٍ، في هذه اللحظة أطبقت “سهير” على أنيابها في غيظٍ فقد تقبلت فكرة معرفة “وَميض” بأنها ليست والدتها الحقيقية ولكنها الآن تستشيط غضبًا وُحرقةً لأن الأم الحقيقية ظهرت في الوسط ورغم اعتراف “وَميض” بمدى رفضها لنجلا إلا أن “سهير” ترتعب خوفًا من ابتعاد “وَميض” عنها والالتفات إلى حياة جديدة مع والدتها الحقيقية، كان “تليد” يتحدث إلى هاتفه بالشُرفة، تنحنحت “سهير” قبل أن تقول بغيظٍ مكتومٍ:
-اوعي تسامحيها يا وَميض اوعي.. الأم مش اللي بتخلف.. الأم اللي بتربي.. ودي واحدة جاحدة ومالهاش أمان.
قاطعها “تليد” وهو يقول متوجهًا بثباتٍ صوب زوجته:
-وإنتِ تعرفي أيه عن ظروفها يا مدام سهير؟؟ معلش يعني اللي إيده في المية مش زيّ اللي إيده في النار!!
تنحنحت “سهير” حرجًا قبل أن تضع الكوب بانزعاجٍ على الطاولة ثم ترد بغيظٍ:
-المفروض إنها ترميها في البحر وتسامحها، هو في ست ترمي عيالها مهما كان ظروفها؟؟
حدجها “تليد بنظرات ثاقبة قبل أن يقول بلهجة حادة:
-أمها يا مدام سهير.. أمها اللي خلفتها.. حقها عليها تسامحها.. مش كدا ولا أيه؟؟
التفت إلى “علَّام” وتساءل بثباتٍ:
-مش كدا ولا أيه يا عمي علَّام؟؟
أومأ الأخير متنهدًا بتماسكٍ وقال:
-كدا يابني.. عندك حق.
ربت “علَّام” على كتف ابنته قبل أن يتابع بهدوءٍ:
-نستأذن إحنا يا ابني.. خلي بالك منها وأنا هكلمها كل شوية اتطمن عليها.
أومأ “تليد” في هدوءٍ قبل أن يقبل جبين ابنته ثم ينهض من مكانه ثم يشير بيده لزوجته أن تنهض وتتحرك أمامه ففعلت على مضضٍ وداخلها يشتعل غيظًا وغضبًا، غادر علَّام وزوجته وأغلق “تليد” الباب خلفهما قبل أن يتحرك صوب زوجته ثم يجلس بجوارها ويقوم بجذبها بلينٍ إلى صدرها حينما أبصر دموعها تتساقط من عينيها ليقول بلهجة ثابتة:
-على فكرة إنتِ وَعدتيني إن مفيش عياط تاني، صح؟؟
أومأت إيجابًا وأسرعت تمحو عَبراتها وهي تقول بصوت خافتٍ مُتحشرجٍ:
-آسفة.. غصب عني.
تليد وهو يقبل جبينها ثم يقول ناهضًا في حسمٍ من مكانه:
-طيب أيه رأيك بقى إننا هندخل المطبخ ونعمل كيكة مع بعض.
تدبرت ابتسامة باهتة قبل أن يتجه “تليد” إلى الغرفة ثم يُحضر الكاميرا الخاصة به ويقوم بتثبيتها على عصاها أمام زوجته ثم فعَّلها وأستخدم تقنية التقاط الصورة المؤقت ليهرع إلى “وَميض” مرة ثانية ويقول بمرحٍ:
-تعالي ناخد صورة الأول.
أسرع بجذبها إلى أحضانه وقال مُسرعًا:
-نضحك بقى نضحك؟؟
تدبرت ابتسامة بسيطة فتذمر طالبّا إعادة الصورة وفعل ذلك ثم جذبها إليه مرة ثانية وطفق يقبل وِجنتها باستمتاعٍ فاتسعت ضحكتها أكثر وكانت هذه الصورة هي الأجمل في نظره على الإطلاق، نهض عن الأريكة مُمسكًا بكفها قبل أن يسير بها إلى المطبخ ثم يقول بحماسٍ:
-أنا نفسي في كيكة من إيد مراتي، ممكن؟؟
زمت “وَميض” شفتيها حُزنًا قبل أن تقول بأسفٍ:
-بس أنا مش بعرف أعملها؟!!
أحس بحُزن أكبر تسلل إلى نفسها نتيجة شعورها بتأنيب الضمير نحو عجزها عن تلبية رغبة لديه، فقام باحتواءٍ كفيها بقبضتيه ثم ضمها بقوةٍ إلى صدره وربت بحُبٍ على ظهرها بمشاعرٍ تجيش عشقًا لها وقال هائمًا:
-نعملها سوى.. عايز كيكة مصنوع بالحُب ومن إيد الحُب.
ابتسمت ابتسامة رقيقة واستكنت دون كلام بين ذراعيه لبعض الوقت قبل أن تتساءل في حُزنٍ وقلقٍ:
-تليد، هي سكون هترجع؟؟
تنهد بقوةٍ قبل أن يتابع مفتقدًا ابنة عمه المسكينة وملتاعًا من فرط القلق عليها:
-سكون في معية الله.. سألته سلامتها وأبويا كُل دقيقة يدعي ترجع لنا بالسلامة، وَحشتك؟!
عضت شفتها السُفلى قبل أن تُعبر دون مواربةٍ في اشتياقٍ:
-أوي.. مش عارفة إزاي ولا إمتى.. بس أنا سكون وَحشاني أوي!.
رفع رأسها قليلًا قبل أن يقبل جبينها ثم يقول بثباتٍ:
-هترجع.. هتعيشوا أيام حلوة سوى.. هتشبعي منها وهتشبع منك.
ابتعد عنها مُسرعًا قبل أن يتجه صوب الثلاجة ويتفقد ما بداخلها ثم يقول بحماسٍ كبيرٍ:
-عال أوي.. أعتقد كل مكونات الكيكة موجودة.
التقط هاتفه وقام بالبحث عن طريقة تحضير الكيك ثم جذبها إليه ليتشاركا معًا المعلومات ويبدأ وهي في التنفيذ.. كان يستمع إلى المكونات ويقوم بالتقاطها من الثلاجة وبعد ذلك أحضر قدر بلاستيكي ووضع الهاتف على الرخامة أمامه وقال متطلعًا إلى زوجته في سعادةٍ:
-اتفضلي يا ست البيت.. نفذي!
تقدمت “وَميض” صوب الرخامة ثم التقطت بيضة والتقط هو واحدة كذلك ليقرب البيضة التي تقبع بين يده من الأخرى التي تقبع بين يدها ثم يصدمان البيضتان معًا لتنكسرا.. ضغط “تليد” مسرعًا على البيضة فسقط ما بداخلها في القدر وتبقى القشر فاسترعى ذلك انتباهها فقالت في ذهول وتركيزٍ:
-إنتَ إزاي عملت كدا؟؟
تليد بابتسامة مُعتزًا بنفسه:
-لأ دا فن.
حاولت “وَميض” تقليده فسقطت القشرة بالقدر فزمت شفتيها متذمرةً ليضحك مستمتعًا بمرحٍ، ثم أسرعت تضع باقي المكونات وتبدأ في دمجهم معًا في اهتمامٍ ثم وضعت الدقيق عليهم وبدأت في مزجه مع باقي المكونات وما أن انتهت حتى ساعدها في وضع الخليط داخل الصينية ثم وضعها على الفور داخل الفرن وهو يقول مازحًا رافعًا يديه يدعو:
-يارب تنجح وإلا وَميض هتعيط وتغرقنا هنا!
كانت تجثو أمام الفرن على ركبتيها في ترقب فقام بالجلوس على ركبتيه مثلها ثم نظر حيث تنظر قبل أن يقول بضحكة مكتومة:
-إنتِ بتعملي أيه يا وَميض؟؟
وَميض ومازالت مسلطةً بصرها في منتصف الفرن:
-براقبها!
حدق فيها بعينين متسعتين وتساءل متوجسًا:
-بتراقبيها ليه؟؟ بتغش؟؟
انفلتت ضحكة عريضة من بين شفتيه قبل أن تلتفت إليه ثم تمط شفتيها وتقول بغيظٍ:
-أمال المفروض أعمل أيه؟؟
تليد وهو يقول بابتسامة عريضة:
-سيبي الناس في حالها يا شيخة.. المراقبة حرام.
نهض واقفًا في مكانه قبل أن يمد كفه لها فتتشبث به وتنهض أيضًا فيضمها بانسيابية بيت ذراعه ثم يقول بهدوءٍ:
-إحنا نشرب كوبايتين شاي لحد ما تخلص وبعدين نعمل كوبايتين شاي تاني نشربهم جنبها.
أسرع إلى الغلاية الكهربائية يجهز كوبين من الشاي ثم يمد يده لها بالكوب وبعد ذلك يلتقط كوبه ثم يستند إلى الرخامة ويقول بابتسامة هادئة:
-تعرفي إن حكاوي المطبخ دي مُريحة ولذيذة!!
وَميض وهي ترد بابتسامةٍ ناعمةٍ:
-بس كوباية الشاي مع شخص بنحبه أريح وألذ.
تقدمت أكثر منه ثم وقفت بجواره وأسندت ظهرها إلى الرخامة فقرر أن يترك كوبه قبل أن يحثها على ترك كوبها ليضع كفيه في وِسطها ثم يرفعها مُجلسًا إياها على الرخامة ثم يقول بمُداعبة:
-أنا كامل أوي بيكِ يا وَميض.. تعرفي دا؟!
تنهدت بعُمقٍ قبل أن تقول بخفوتٍ:
-لو أنا الجُزء اللي بيكملك فإنتَ المُحارب الباسل لأوجاعي.. أنا مُمتنة للأيام والقدر علشان جمعوني بيك.
أشار لها بكفه أن تقترب بوجهها منه؛ فمالت عليه قليلًا ليُقبل جبينها بعُمقٍ واستمتاعٍ، قام بالتقاط كوبه مرة أخرى قبل أن يسأل مهتمًا مترقبًا لجوابها:
-وَميض.. نجلا مش وِحشة.. الظروف قادرة تكسرك وتحطك تحت رجليها لو كُنت وحيد ومش لاقي اللي يقويك.. أحيانًا الظروف بتفرض نفسها علينا لأننا ببساطة فقدنا السيطرة عليها.. فقدان السيطرة دا ممكن يكون غياب شغف.. قهر.. عجز أو حتى ضياع ومش كتير مننا عنده عزيمة الوقوف أقوى من بعد السقوط.
تنحنح لوهلةٍ قبل أن يتابع تنهيدة ممدودة بعُمقٍ:
-نجلا في النهاية أمك.. حاولي تتقبلي دا وتقبليها.. أنا حكيت لك كل ظروفها ومش بقول لك سامحيها تمامًا ولا دلوقتي بس على الأقل جاهدي شيطانك وإنتِ بتحاولي!!.
اغرورقت عيناها بالدموع ولكنها سحبتها داخلها مرة أخرى ثم أومأت في صمتٍ، قرر إنهاء الموضوع فتطرق إلى آخر حتى نضجت الكعكة، هرع إلى الفرن وأخرجها وهو ينظر إليها بانتصار وقال:
-تقريبًا كدا إحنا نجحنا؟؟؟
تهللت أسارير وجهها قليلًا وقررا معًا أن ينزلان بها إلى الشيخ ليتشاركاها مع ومع صديقه ومن يجلس بالأسفل، وضعها بتفاخرٍ أمام والده وقال:
-أأقدم لكم كيكة من صُنع وَميض.. رأيكم مطلوب ولأننا ديمقراطيين فلا نقبل إلا بالآراء الإيجابية.
نوح بابتسامة ماكرة:
-والسلبية؟؟
تليد وهو يحدق فيه مُحذرًا ويضيف بمكرٍ:
-ابلعها مع الكيكة.. دا علشانك.. علشان مصلحتك يعني.
انطلقت ضحكة رقيقة من بين شفتيها وشرعوا جميعًا في تذوقها فنالت استحسان الشيخ وكذلك “نوح” الذي دعمها بكلمات طيبةٍ قبل أن يلتفت إلى “تليد” ويقول متذكرًا:
-صحيح يا تليد.. أنا من فترة كدا وصلت لحاجة مهمة بس مكنش فيه الوقت علشان أقول لك عليها!
استرعت كلماته انتباه الجميع، رفع “تليد” أحد حاجبيه ثم تساءل بانتباه شديدٍ:
-حاجة أيه؟؟
نوح مستطردًا في ثباتٍ:
-أنا بمساعدة ميان قدرت أوصل لعنوان الشخص اللي سرب الفيديو اللي انتشر لك قبل فرحكم وقت خناقتك إنتَ ووَميض.. كنت بفكر أتعامل أنا وأروح له.. بس قررت إني مش هعمل أي حاجة غير بمعرفتك!!
تأججت مشاعر “تليد” غيظًا قبل أن يتساءل بلهفةٍ يشوبها الحنق:
-ودا أيه عنوانه؟؟
التقط “نوح” هاتفه وبدأ يقرأ العنوان المرسل إليه في رسالة:
-العنوان مدينة نصر.. منطقة •••••.. شارع••••••… عقار رقم •••••••.
جحظت عينا “وَميض” الذاهلتين في صدمةٍ كاسحةٍ وهي تتعرف على ذلك العنوان جيدًا بل وتعرفه عن ظهر قلبٍ.. وِسَام مَنْ يقطن بهذا العنوان فعلًا؟ هل هو من قام بتسريب هذا التسجيل؟؟ وبمعاونة مَنْ؟؟؟
•تابع الفصل التالي “رواية رحماء بينهم” اضغط على اسم الرواية
التعليقات