رواية رحماء بينهم الفصل الثاني والخمسون 52 – بقلم علياء شعبان
•~•~•~•~•~•~•~•
“وكان مَجِيئكَ إلى قلبي كالعامٍ الذي جاء مُغيثًا للناس”.
•~•~•~•~•~•~•~•
كان اندفاعها سيلًا كاد أن يُبدد قواه؛ فحينما يراها تضطرب جميع حواسه وتتأجج أنفاسه وتتصاعد؛ فهي المرأة الوحيدة التي استطاعت أن تنتصر عليه ولم يكُن يتخيل أبدًا أن ثمة امرأة على وجه البسيطة يمكنها أن تخفس بقواه الأرض وتحني قامته خجلًا، اختنق حانقًا يتساءل كيف للماضي أن يعود ليُدمر ما عاش عُمرًا يبنيه، لم يتخيل أبدًا أن تلك الضعيفة الوضيعة ستظهر أمامه من جديد على هيئة كبرياء امرأة غاشمةٍ، لقد نال ما اشتهى منها ومرَّ ولم تعبر إلى ذاكرته مرة أخرى!!
خطت خطواتها الواثقة نحوه قبل أن تقف في المنتصف وبقيت “سكون” خلفها، حدقت “نجلا” فيه بنظرات نارية قبل أن تردد بنبرة ناقمةٍ:
-خلي عندك ضمير مرة واحدة وقول لها الحقيقة، بجاحتك مش هتغير معرفة بنتك بوساختك.. رُد عليها؟؟
رفعت سبابتها أمام عينيه ثم استكملت بملامح عدوانيةٍ ونبرة محذرة:
-لو فكرت تمد إيدك على بنتي تاني يا سروجي.. هدمرك في ظرف ساعة.. أنا معايا كُل حاجة ممكن تتخيل إنها تقضي عليك.. اوعي تكون فاكر إنِّي ساكتة عنك خوف؟ لأ.. سكت طول الوقت دا علشان أوصل لبنتي.. بس بعد الوصول.. بدأ العد التنازلي لأيامك.
اكفهر ملامح وجهه قبل أن يصيح مُنفعلًا بصوت رخيمٍ:
-والله وطلع لك صوت يا نجلا!!
نجلا وهي تضحك ملء شدقيها بتهكمٍ:
-وأعلى بكتير من صوتك اللي فاكر إنك بتخوفني بيه!
مطت شفتيها بامتعاضٍ ثم رددت بشفقةٍ مُصطنعةٍ:
-إنتَ ضعيف أوي يا عثمان، ضعيف بيستخبى ورا صوته.
تأججت النيران داخله وقدحت عيناه شرًا قبل أن يصيح بنبرة نارية:
-أنا هوريكِ الضعيف.
أنهى جملته ثم همَّ يرفع ذراعه عاليًا وقبل أن ينزل به على وجهها كان “ماكسيم” قد انتفض مُسرعًا نحوهما ثم وقف حائلًا بينهما وقبض بشراسةٍ وغضبٍ على رسغه ثم تكلم بلهجة عاتية تستشيط وعيدًا وغضبًا:
-أنا ممكن أحرقك في قلب بيتك لو قلبك جابك تاني وفكرت تلمس شعرة منها، كُل أعدائك لحُسن حظك ناس متربيين إنما أنا وِسخ وتربية شوارع وحواري.. لازم تخاف مني.
ابتلعت “سكون” غِصَّة مريرة في حلقها قبل أن تصيح بأنفاس مضطربة في اختناقٍ:
-رُد عليَّا يا بابا.. رُد وريحني!!
نفض ذراع الأخير قبل أن يصيح غاضبًا:
-أيوة بنتها يا سكون.
ابتسمت “نجلا” ابتسامة ظافرة وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها وترمقه بنظرات ثاقبة بينما حدقت فيه “سكون” مصدومةً، لا تفهم سر هذه الصدمة؟؟ أم أنها ناتجة عن اعتراف والدها الذي وجدته مستحيلًا وظنت أنها ستبقى مُشتتةً للأبد، في هذه اللحظة التفتت إلى “نبيلة” ثم أردفت وهي تبتلع ريقها في بكاء:
-يعني إنتِ كُنتِ عارفة إنه خاطفني من حُضن أمي؟؟ ووافقتي؟؟ وافقتي تحرقي قلب أم على بنتها؟؟ المفروض إنك تحسي بمشاعرها لأنك أم زيها!!!
نجلا وهي تلتفت صوب “نبيلة” ثم تبغضها بنظرات حانقة وتقول بسخريةٍ:
-أشك.
أسرعت “سكون” تلتفت إلى “نجلا” وقبل أن تتكلم وجدت “عثمان” يصيح هادرًا من شدة الغضب:
-اطلعي برا يا نجلا إنتِ واللي معاكِ دا؟؟ ولو فاكرة إنه هيحميكِ مني تبقي غلبانة.. كل حلقة كسرتيها في سلسلة استقرار عيلتي هبكيكِ عليها دم.
ابتسمت ابتسامة مستخفة لم تصل إلى عينيها ورددت باستنكارٍ:
-استقرار عيلتك على حساب استباحة أعراض ومشاعر الناس؟؟.. لسه بِجح وفاكر إن مفيش أقوى منك بس خلاص عصر ظُلمك انتهى بولادة نجلا جديدة ودا وقتي يعني أنا اللي هبكيك دم على موت أبويا المقهور وطلاقي وخطف بنتي وفراق عيالي.. أنا عندي ما يكفي من أسباب علشان امحي اسم مجرم زيك من الوجود.
ابتسمت “سكون” بمرارة من بين بكائها وهي توجه إليه سؤالًا يحوم حول عقله طوال الوقت:
-مش فاهمة.. رفضت إزاي تعترف بيَّا وبعدين خطفتني؟؟ خوفت مثلًا على اسمك يتربط باسم خدامة؟؟؟
كانت الدموع تنسكب بغزارة من عيني “نبيلة” التي لن تستطع الكلام على الإطلاق وكل ما عليها أن تنظر إلى زوجها في دهشةٍ، كان “عثمان” يرمقها بنظرات ثاقبة بينما تكلمت “نجلا” وهي ترفع أحد حاجبيها وتردد بلهجة ثابتة:
-لأ.. بس معنديش مانع أقول لك أنا السبب الحقيقي.
التفتت بتروٍ نحو البقية تنظر إلى أعينهم الجاحظة في صدمةٍ وكأنهم ضيعوا طريق الكلام في هذه اللحظات، ثم عادت مرة أخرى تنظر إلى “عثمان” في صمتٍ بينما سألتها “سكون” متوجسةً:
-أيه السبب الحقيقي!!
تعمقت نظراتها داخل عينيه قبل أن تقول بصوت متروٍ بطيء:
-أقول يا عثمان؟؟
كان ينظر إليها بعينين حادتين ولكنها شعرت بارتباكه وتغير ملامحه التي أصبحت أقل حدةً ليقول بلهجة شديدة:
-نجلا بقول لك اطلعي برا!!
اِفتر ثغرها عن ابتسامة مستمتعة بتوتره قبل أن تقول بثباتٍ:
-جبان.
استمتعت “نجلا” كثيرًا وخف الغليل المتراكم في قلبها درجة واحدة فقط، أكد ببجاحة بأنها والدة “سكون” الحقيقية وبهذا يكون قد أكد على كُل ما ارتكبه من آثام نحوها، شعرت ببعض الارتياح من اعترافه وكذلك قَبول ابنتها لها بسرعة كبيرة فقد عرفت عن “سكون” اللين والرحمة؛ فلا تقبل أن تجور على حقوق الناس أو تتغافل عن الظُلم الواقع عليهم، شعرت بانتماء هذه الفتاة لها حينما عادت إلى حياة عثمان من جديد وأجرت أبحاث مُفصلة عن حياته وأعمار أبنائه وطباعهم ليتسلل الشك إلى قلبها بشأن هذه الفتاة التي عرفت عنها القوة والكبرياء!
-خلينا نمشي يا ماكسيم.
تشدقت بها “نجلا” في حزمٍ وهي ترمقه “عثمان” شزرًا قبل أن تستدير وتتجه صوب بوابة القصر فيما تبعها “ماكسيم” في ثباتٍ، الفتت “سكون” تنظر إلى “نبيلة” بعينين دامعتين قبل أن تتابع بصوت مخنوقٍ:
-إنتِ ليه مش بتتكلمي؟؟ إنتِ كُنت عارفة كل دا وموافقة عليه؟؟؟
هزَّت “نبيلة” رأسها إيجابًا دون أن تنطق، تجهمت معالم وجه الأخيرة بغضب كبيرٍ قبل أن تستدير ثم تهرع للحاق بـ “نجلا” ليصيح فيها “عثمان” بصوت جهوريٍ مُحذرٍ:
-سكون.. إنتِ رايحة فين؟!!
التفتت برأسها نحوه قبل أن تردف بتمرُدٍ وغضبٍ شديدٍ:
-رايحة ورا أمي!!
صرخ بحدةٍ يحذرها:
-لو خرجتي من باب القصر اوعي ترجعي له تاني لأني هعتبرك ميتة.
سكون بنظرات فاترة ترد:
-مش كفاية بُعد عنها لحد كدا؟؟ على العموم اتطمن واعتبرني ميتة.
هرعت مجرد أن أنهت كلامها، توجهت خلف “نجلا” وما أن خرجت من بوابة القصر الخارجية حتى وجدتها تستقر داخل سيارتها وتستعد للمغادرة فهرولت صوبها ثم وقفت أمام النافذة بعينين تلمعان بالدمعٍ، تبادلت “نجلا” نظرات عميقة ومؤثرة معها قبل أن تفتح زجاج النافذة ثم تقول بصوت مخنوقٍ:
-يمكن تكوني زعلانة على أبوكِ لأنك في النهاية بنته، بس بالنسبة لي هو ولا حاجة وعُمري ما هغفر له فراقك عني.. إنتِ كدا عرفتي الحقيقة كاملة والاختيار يرجع لك.
تكلمت “سكون” فورًا حالما افضت الأخيرة ما في جوفها؛ فقالت بنبرة مهزومة:
-أنا جاية معاكِ.
اهتز قلب “نجلا” فجأة، كيف لعبارة بسيطة أن تُحيي فيها كُل شيءٍ، صور بريق لامع في عينيها قبل أن تفتح باب السيارة لها في سعادة طغت على صفحة وجهها، استدارت ثم صعدت “سكون” بجوار والدتها بينما ظل “ماكسيم” واقفًا بسيارته خلف سيارة “نجلا” ينتظر رحيلها أولًا للاطمئنان على سلامتها.
انطلقت بالسيارة فورًا وداخلها يرقص فرحًا بينما خارجها بقى هادئًا مؤازرة لمشاعرٍ ابنتها المتأذية من ذلك الوغد، تنفست “سكون” بعُمقٍ قبل أن تلتفت بعينيها إلى والدتها ثم تقول بصوت خافتٍ:
-طبعًا إنتِ دلوقتي بتسألي نفسك إزاي بالسهولة دي تقبلت حقيقة إنك أُمي؟!!!
ابتسمت “نجلا” ابتسامة هادئة قبل أن ترد:
-لأ مش بسأل نفسي يا سكون عارفة ليه؟؟ لأن اللي مريت بيه يستحق إنك تتقبليني عليه ولأن شخصيتك ما هي إلا امتداد ليَّا؛ لا تحبي الظُلم ولا أكل حق الناس وطبعًا أنا متفهمة إن قبولك ليا عبارة عن سبب تنصريني بيه على أذى عثمان ليه وأسف منك على اللي عمله!!
سكتت هنيهة ثم أضافت بصوت مهزوزٍ:
-عارفة إني عُمري ما هتحب زيّ أي أُم طبيعية لأن الظروف والدنيا أجبرتني أخلف بس مع إنها لو ادتني فُرصة كُنت هبقى أُم يتحلف بيَّا، أُم والله كافحت كتير علشان تأكل عيالها وتبعد عنهم الجوع والموت.
ذرفت دمعة من جانب عينها بينما بقى وجهها ثابتًا لم يخشع متأثرًا بآلام لن ترحل عنها لطالما تمتلك ذاكرة من حديد، تنهدت “سكون” تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن تقول باختناقٍ يسيطر على حلقها:
-أنا أوقات كتير بكون مُمتنة لنفسي؛ نفسي اللي رافضة الظُلم والقهر؛ نفسي اللي لا يمكن تكون في مكان مش مرغوبة فيه أو تتشارك نَفَس واحد مع شخص ظالم.. علشان كدا كان غصب عني طول الوقت بحاول أرسم لبابا صورة حلوة لأني خوفت.. خوفت ما أقدرش أقف قصاده وأواجهه بعيوبه.. تغاضيت عن أخطائه في حق اخواتي علشان بس أفضل بحبه وصورته ما تتهزش في نظري.. قولت أهي عيوب بسيطة وإحنا في الآخر أولاده بس مطلعتش عيوب بسيطة أبدًا.
نجلا وهي تردد بملامح مكفهرة:
-عثمان أقذر مما تتخيلي ودي مش الجريمة الأولى له ولا حتى الفيديو اللي شوفتيه.. شايف أرواح الناس زي البهايم اللي بيدبحها في مصنعه.. سهلة وميتبكيش عليها.
أطرقت “سكون” برأسها قبل أن تردد باكيةً:
-بس مش قادرة أتخطى فكرة إنه أبويا.. مش قادرة أكرهه.. مش قادرة ما أخافش عليه.. نفسي يفهم إن الأذى بيترد والدنيا بتدور.. قلبي موجوع عليه لأنه في غفلة.
تنفست “نجلا” بقوة قبل أن تتابع بهدوءٍ وصوت متراخي:
-لو بتقولي لي الكلام دا علشان أتراجع عن قراري في إني أحبسه وأفضحه تبقي شريكة في جرايمه يا سكون.. لو سامحتي في سنين عُمرك اللي ضاعت وإنتِ مخدوعة في حضن واحدة مثلت دور أمك فأنا مش هسامح لأن أنا ملقيتش اللي يعوض أمومتي عنك ولا عن إخواتك.
في هذه اللحظة توقفت “نجلا” فجأة بالسيارة ثم ابتسمت ابتسامة بسيطة في وجه ابنتها وقالت بهدوءٍ ولين:
-أنا حكيت لك قصتي.. حاربت علشان أوصل لك.. كشفت لك كل الحقيقة.. شاركتك أوجاعي على أمل إنك تحسي بلهفتي عليكِ وعلى أمل أن الزمن يعوضني كُل السنين دي ويقر عيني بيكِ وبأختك وكُنت أتمنى لو يحيى كان عايش.. أنا راضية أعيش معاكم يوم واحد لو هموت بعده بس أعيشه وأسمع كلمة “أُمي” وعارفة إن دا شبه مُستحيل وأنا دلوقتي فاهمة تخبطك وهحترم رغبتك في وقوفك جنب أبوكِ بس من فضلك وإنتِ واقفة جنبه وبتدافعي عنه افتكري إن في روح خصيمه له ليوم الدين.. روح سرق منها كل حاجة.. سرق شرفها.. أيامها.. أحلامها.. سرق شبابها حتى عيالها سرق ومخلاش.. بكاها وسابها للمصير ينهش فيها والذكريات تاكل من روحها.
نظرت صوب الباب وقالت بغِصَّة مُرةٍ:
-تقدري تكوني جنب أبوكِ دلوقتي يا سكون لأن الجاي شديد عليه.
أجهشت “سكون” بالبكاء في هذه اللحظة وارتفع أنينها ثم التفتت تنظر إلى الأخيرة لبضع ثوانٍ قبل أن تندفع إليها ترتمي إلى حضنها وتتشبث بوِسطها بكلا ذراعيها، بادلتها “نجلا” العناق وهي تسحب نفسًا طويلًا مرتاحًا إلى صدرها فبدت كالتي ترتوي من بعد ظمأ، بدأت تمسح برفقٍ على خصلات شعرها وهي تردد باكيةً منهارةً:
-عارفة إني كُنت هسميكِ أشجان؟؟ تعبيرًا عن أحزاني ساعتها.
ابتسمت “سكون” برقةٍ من بين بكائها وهي تقول بصوت مضطرب خافت:
-لأ.. كدا الحمد لله إني اتخطفت.
انطلقت ضحكة منهزمة من فمٍ “نجلا” وكذلك “سكون” التي أغلقت عينيها تستمتع بقُربها ولا تنكر أن هذا الحُضن يختلف عن حُضن نبيلة، حتى المشاعر والأنفاس هنا مُختلفة؛ بها من الطمأنينة والشغف ما لم تشعر به من قبل بقُرب الأخيرة، تذكرت “سكون” تلك العبارة التي قالتها أثناء مواجهتها بالداخل، فتنهدت بقوة قبل أن تقول وما تزال مستقرةً بين ذراعي نجلا:
-بما إنك صارحتيني بكُل حاجة فأنتِ نسيتي تقولي لي سبب خطف بابا ليا بعد ما كان رافضني؟؟
رمقتها “نجلا” بطرف عينيها قبل أن تقول بابتسامة يغلفها الانبهار:
-صدقيني إحنا مش محتاجين “دي إن أيه” علشان أعرف إنك بنتي، الطبع يغلب أي تحليل والله.. عَنيدة وشوافة.
•~•~•~•~•~•~•~•
هكذا مرَّ شريط الساعة الأخيرة من توقد الأحداث أمام عينيها حينما ظهرت من خلف الحائط ووقفت بقامة راسخة أمام “وَميض” التي ركزت ببصرها عليها قبل أن تسقط بين ذراعي زوجها مُغشيةً عليها، ارتجفت أطراف “نجلا” ما أن رأت غياب وعيها وكذلك “سكون” التي جحظت عيناها في صدمةٍ بينما أسرع “تليد” بحملها فورًا قبل أن يتجه بها واضعًا إياها على الأريكة ثم هرول فورًا إلى غرفة نومهما ليعود وفي يده قنينة عِطره، تكلم بصوت مخنوق أجشٍ وهو يرفع رأس زوجته على ذراعه:
-المفروض كُنتِ تسأليني يا سكون قبل ما تقرري من دماغك، مش كُل الناس يقدروا يواجهوا الحقايق بنفس ثباتك، كان لازم ترجع لي!!
جلست “سكون” على رُكبتيها أمام الأريكة تتشبث بكف “وَميض” بينما فتح “تليد” غطاء القنينة وسكب منها القليل على باطن كفه ثم قربه من أنفها يجبرها على اشتمام الرائحة ليعود وعيها إليها ثم توجه ببصره إلى “نجلا” التي تفرك كفيها معًا في توترٍ وقال بصوت رخيمٍ:
-واضح إنك ما فهمتيش كلامي يا نجلا؟؟؟ قولت لك وَميض مش عندها أي بوادر مسامحة ليكِ ومش بالسهل عليها تظهري قدامها!!
عاد ببصره إلى زوجته مرة أخرى وبقلبٍ مُلتاعٍ بدأ يضرب وِجنتها برفقٍ وصوت مُرتابٍ:
-وَميض!!!
بدأت أهدابها تتحرك ببُطء فالتقط أنفاسها بمثابرةٍ ثم رفع رأسها إلى صدره وقال بلهجة لينة:
-سمعاني!!
بدأت تفتح عينيها تدريجيًا ثم نظرت صوب عينيه مُباشرةً في صمتٍ مُريبٍ بينما تكلمت عيناها بدلًا عن فمها فانسكبت دموع غزيرة من عينيها على ذراعه، التاع قلبه ألمًا وحُزنًا عليها فيما تكلمت “سكون” بنبرة ملتاعة آسفة:
-أنا آسفة.. أنا مكنتش عايزاها تتوجع.. كنت شايفة إن معرفتها بالحقيقة بدري أفضل من التمادي في الكذب.. مكنتش عايزاها تعيش اللي أنا حاسة بيه دلوقتي!!
ابتلعت “نجلا” غِصَّة مريرة في حلقها وهي تقترب منهم أكثر ثم تقول بصوت مُضطربٍ:
-وَميض.. حاولي تسمعيني يا بنتي حتى لو هتيجي على نفسك شوية!!
اتقدت أنفاس “وَميض” ما أن سمعت صوتها وأسرعت تدفن وجهها في صدره تخبره بهذه الطريقة رفضها التام الاستماع، أطرقت “نجلا” في خجلٍ قبل أن تتفهم رغبتها في الصمت:
-سامحيني يا بنتي!!
ابتعدت مُسرعةً من بين ذراعيه قبل أن تلتفت إلى “نجلا” ثم تصرخ في وجهها بانهيارٍ:
-أنا مش بنتك.. متقوليش يا بنتي.. أنا ماليش أُم .. عيشت طول عُمري فاكرة إن ليا أُم بس اتفاجئت إني اتولدت من رحم البحر.. لكن إنتِ معرفكيش ومش عايزة أعرفك.
انهارت “نجلا” تبكي بقهرٍ ينقطع له نياط القلوب عاجزةً منكسرةً أمام ابنتيها لتردف بانهزامٍ:
-بس إنتِ كدا بتكسريني يا وَميض.. إنتِ حتى مش قادرة ولا بتحاولي تسمعي أسبابي!!.. طيب على الأقل سامحيني!!
رمقتها “وَميض” بنظرات نارية قبل أن تصرخ بأعلى صوت لديها والذي على إثره جاء الجميع تقريبًا وعلى رأسهم الشيخ سليمان:
-لو بينك وبين الجنة ذنبي مش هسامحك ولا هقبل بيكِ في حياتي، غدرتي بيَّا فإزاي ببجاحة طالبة غفراني؟؟
التفتت مُسرعةً إلى زوجها ثم توسلت إليه بشهقات مرتفعة:
-خليها تمشي يا تليد.. مش عايزة أشوفها قدامي.. وجع الدنيا كُله في قلبي منها.. غدرت بيَّا.
أوشكت أن تفقد عقلها تمامًا، قامت بملامسة خديه ثم ترجته باستجداءٍ وانهيارٍ:
-إنتَ قولت لي إنها غدرت بيَّا.. غدرت بينا.. كان ليا أخ مش كدا؟؟ مات بسببها صح؟؟ مات وسابني وحيدة طول السنين دي، طب كانت سابتني في حُضنه ومشيت، كان هياخد باله مني وكُانت الدنيا هتعلمنا وهسند عليه ونكمل.. استكترت حياتنا علينا واستكترته عليا.. مين الأم اللي مهما كان دافعها ترمي عيالها في البحر؟؟ دي جبروت مش أُم.
ارتجف قلب “نجلا” من فرط الوجع الذي طالها من كلمات “وَميض”، أغمضت عينيها ووضعت كفيها على أذنيها في قهرٍ قبل أن تحاوط “سكون” وِجنتي شقيقتها يكفيها ثم تتابع باستجداءٍ:
-علشان خاطري يا وَميض اهدي؟؟ حقك عليا.. حقك عليا أنا!
نهضت واقفةً في مكانها ثم بدأت تُقبل رأس شقيقتها برفقٍ بينما صرخت “وَميض” بقهرٍ وهي تدفن وجهها في صدر زوجها الذي اشتعل غضبًا ولكنه تجرعه حتى لا تشتعل الأجواء أكثر من ذلك وهنا أبصرت “نجلا” الشيخ الذي يقف صامتًا بجوار الباب بعد أن أصبح لديه علمًا بخبايا الأمور وعلنها؛ فاستنتجت “نجلا” ذلك من صمته المهيب لتهرول مائلةً على كفه ثم تحاول تقبيله وهي تتوسل إليه قهرًا:
-علشان خاطري يا شيخ سليمان قول لها تسامحني؟ كلامها دابحني والله كلامها دابحني!!
تراجع الشيخ بضع خطوات قبل أن يتابع بصوت هادئ يحثها فيه على النهوض:
-استغفر الله.. قومي يا بنتي.. كُل أزمة بمشيئة الله محلولة.
كانتا “رابعة” و “مُهرة” تقفان بجوار الشيخ ولا تفهمان ما يجري أبدًا ورفض “نوح” الدخول خشيةً أن يكون ثمة ما لا يجب رؤيته ورغم قلقه الشديد على صديقه مما يجري معه نتيجة الصراخ الذي طال أذنيه إلا أنه قرر البقاء بالخارج، نظرت “رابعة” إلى المائدة بحسرةٍ فقد كانت “وَميض” في أوج سعادتها بقضاء عشاء متألقٍ مع زوجها ولكنها الآن في دنيا غير الدنيا لا تكف عن الصراخ والعويل وبقيت مُتشبثة بأحضان زوجها كأنما أُلقيت طمأنينة الدنيا أجمع بين ذراعيه، أخذت تهمس بحروف لا تُفهم وقد شعرت بالإعياء الشديد وهالة من السخونة تحيط عينيها فأغلقتها باستسلام.
نظر “تليد” إليهم جميعًا ثم قال بصوت رخيمٍ حادٍ:
-بعد إذنك يا بويا.. ممكن تطلب منهم يسيبوني مع مراتي لوحدنا؟؟؟
تنهدت “سكون” تنهيدة ممدودة بعُمقٍ ورغم أنها متأكدة بأنها فعلت الصواب إلا أنها شاعرةً الآن بالندم؛ فكان عليها أن ترجع إليه أولًا ولكن ما عرفته في السيارة عن والدها جعلها تفقد اتزانها تمامًا وتهرع إلى شقيقتها خوفًا عليها أن يمس قلبها تلك النيران التي التهمت روحها.
مالت على شقيقتها تُقبلها قُبلة أخيرة قبل أن تتابع بغِصَّة واختناقٍ:
-خلي بالك منها وصدقني دا كان لازم يحصل.
أنهت حديثها ثم اندفعت تخرج من الشقة وفي طريقها للخروج من المزرعة بأكملها؛ التفت “تليد” إلى “مُهرة” ثم تابع بأنفاسٍ مُشتعلةٍ:
-مُهرة بعد إذنك بلغي نوح يروح وراها فورًا ويتأكد إنها وصلت بالسلامة.
مُهرة وهي تومىء ثم تقول بقلقٍ:
-واضح فعلًا إنها مش كويسة!.
أسرعت “مُهرة” خارج الشقة تبلغ زوجها بالرسالة بينما التفت “سليمان” إلى “نجلا” وقال بلهجة لينة:
-تعالي يا بنتي نتكلم شوية!!
أومأت فورًا ثم التفتت تنظر في كسرةٍ إلى تلك الغائبة عن وعيها وبعدها تحركت هي ورابعة خلف الشيخ، فُرغت الشقة من الجميع فأراح “تليد” رأسها على الوسادة قبل أن يندفع غضبًا صوب الباب ثم يصفقه بقوة، رفع كفيه يقبض بهما على رأسه قبل أن يعود إلى زوجته التائهة مرة ثانية ليميل عليها قليلًا ثم يقول بلوعةٍ:
-وَميض.. أنا مش عايز منك غير شوية قوة.. بالله عليكِ ما توجعي قلبي أكتر من كدا!!
أيقظت كلماته وَعيها فأسرعت تجهش بالبكاء ثم بذراعيها ضمت ساقيها إلى صدرها تتقوس على نفسها هربًا مما تعيشه؛ لم يتحمل استسلامها وانهزامها بهذه الطريقة فأسرع يحتضنها بقوة وهو يقول بثباتٍ:
-مش إنتِ بتثقي فيَّا؟؟
أومأت من بين بكائها، بدأ يُبعد خصلاتها عن وجهها ثم يربت بحُنوٍ على وِجنتها ويقول:
-طيب قولي لي أيه الطريقة اللي بتخفف وجعك ونعملها؟؟
لم يجد منها ردًا فالتاع قلبه أكثر، وبارتيابٍ بدأ يمسح على خصلات شعرها ثم يتساءل بتوجسٍ:
-طيب حاسة بأيه؟؟ سمعاني كويس؟؟
أومأت مرة أخرى، تنهد تنهيدة ساخنة قبل أن يقف في مكانه ثم يحملها فورًا بين ذراعيه ويتجه بها إلى السرير، قام بالجلوس عليه ووضعها بين ساقيه لتستند برأسها على صدره ثم التقط المصحف وفتح دفتيه ثم وضعه أمامه خوفًا أن ينسى ما حفظه منه عن ظهر قلبٍ في موقفٍ صعبٍ كهذه اللحظة ثم بدأ يقرأ بعذوبة بعض آيات القرآن وهو يضع كفه على جبينها ثم يحركه من حين إلى آخر برفقٍ، بقى يقرأ على مسامعها لوقتٍ طويلٍ علها تجد راحتها بين هذه الحروف الثرية ويحارب القرآن أوجاعها بسيف قوته، ظلت صامتةً لفترة ثم وجدها تبكي بمرارة بينما رجفة جسدها أخذت في الهدوء إلى أن توقفت عن البكاء وسكنت تمامًا وغطت في سُباتٍ من التعب.
خشي خسارتها وأرعبه سكونها هذا، فأسرع يبتعد من خلفها حتى تمدد جسدها براحةٍ ثم مال مرتابًا يقترب من أنفها يتحسس من خلاله انتظام وتيرة نَفسها الذي يستجيب في لحظات الألم ببُطء وحينما تأكد من كونها بخير قبل جبينها وصار يتأملها بعينين أضناهما رؤية ضعفها وقد كانت قبل قليل شُعلة من الحماس والأمل.
هرولت “سكون” في الشوارع كالمجنونةٍ بينما بقيت عيناه عليها كما أوصاه صديقه، انهمرت دموعها بلا توقفٍ تسقط معها كُل الخيبات والهزائم التي تعرضت لها في فترة وجيزة، سارت هائمة على وجهها لا تدري لمن تلجأ ومن تشتكي أوجاعها التي لا تستطيع امرأة عجوز تحمُلها وأثقال لا يستطيع رجل عتيد حملها، هرولت صوب الجسر فارتعب “نوح” أن تفعل ما جاء إلى عقله، اندفع مهرولًا وقبل أن يصل إليها وجدها تحرر صرخة عميقة كان لوقع صداها على أذنيه رهبة كبيرة وعلم بذلك أن هذه الصغيرة ثارت حمم بركانها وفقدت السيطرة على كبت المزيد، تنهد بقوةٍ قبل أن يقول بثبات رغم تأثره:
-أنا مش عارف لحد دلوقتي أيه اللي بيحصل بس أنا مع إنك تصرخي.
التفتت مفزوعةً خلفها قبل أن تجهش باكيةً عند رؤيته ثم تقول بمرارةٍ:
-كُل حياتي عبارة عن كذبة.. مفيش فيها حقيقة واحدة غير إخواتي.
نوح وهو يبتسم برفقٍ ويقول:
-ودا كفاية صدقيني.. خذلان الدنيا والأيام والناس يهون طول ما في إخوات يداووا.
سكون تبكي بمرارة:
-بس أنا كُنت عايزة حياة بسيطة.. أب وأم وأخوات.. ليه مش عارفة أعيش زيّ أي بنت في سني؟؟.. بس أنا بشكر ربنا.. بشكر ربنا إنهم إخواتي فعلًا وإلا كُنت اتجننت.. بس عارف.. أنا خايفة أوي.. خايفة أصحى في يوم اكتشف إن هم كمان مش إخواتي!!
حاول “نوح” الربت على قلبها بما استطاع قوله رغم عدم إحاطته علِمًا بِمَ يجري، هدأت أنفاسها قليلًا قبل أن تقول بابتسامة فاترة:
-نوح أنا بشكرك إنك عايز تخففي عني بس من فضلك ارجع.. لو تليد خايف أعمل في نفسي حاجة فطمنه أنا أكبر من أي وجه.. محتاجة أكون لوحدي!!
أخبرته “نجلا” أن يأتي بسيارته ويُسرع خلفها مُجتهدًا في العثور عليها قبل أن يصيبها مكروه، انطلق “كاسب” بسيارته بجنونٍ يجوب الطرقات والشوارع بحثًا عنها وما أن أبصرها تقف بعيدًا وثمة رجل يقترب منها حتى خفق قلبه فزعًا وحمل غضبه مُهرولًا يعبر الطريق إليها دون أن ينظر على جانبيه حتى فقد استبد خوفه عليها منه وأفقده صوابه ليصرخ بصوت جهوريٍ:
-سكون!!!!!!
اندفع بكُل ما أوتي من قوةٍ نحو “نوح” وما أن قبض على كتفه من الخلف وهمَّ يرفع قبضته كي يلكمه ظنًا منه بأنه تعرض لها ولكنه توقف فورًا حينما أبصر “نوح” الذي نظر إليه في ذهولٍ قبل أن يتراجع “كاسب” على الفور وهو يردد بكلمات مُضطربة:
-كُنت فاكرك حد بيتعرض لها!
أومأ “نوح” الذي لمس صعوبة الأمر والذي بدا أوعر مما يتخيل ثم أسرع بالربت على كتف “كاسب” وقال بهدوءٍ:
-هي دلوقتي أمانة عندك.
ألقى كلماته ثم غادر على الفور في حين بقيت “سكون” تنظر إليه نظرات ثاقبة حادة بينما تكلم “كاسب” وهو يقترب أكثر منها:
-سكون.. أنا كُنت هعترف لك!!
صرخت في وجهه بقوةٍ ثم بدأت تضرب صدره بكلتا قبضتيها منهارةً:
-وليه ما أعترفتش؟؟ كُنت مستني أيه؟؟
ظلت تضربه بغليلٍ وقوةٍ بينما بقى راسخًا أمامها لا يتحرك، يراقب بكائها بانكسارٍ فلا تعرف هي كيف يحول بكائها أيامه إلى رماد خلفه البركان الذي فاض على جانبيه.. لا تعلم كيف ينهزم خائرًا أمام دمعها وهو الذي يموت قتيلًا على الانتصار في دروب حياته البائسة التي خلت من الروح والسعادة حتى جاءت هي.
لم يتحمل رؤية دموعها أكثر من ذلك فقبض على كفيها ثم أجبرها على الاستدارة وبقوة ضمها من الخلف وراح يُقبل جانب رأسها مُردفًا بحسرةٍ:
-مش عايز أشوف دموعك.
سكون وهي تتهدج من فرط البكاء:
-وأنا مش عايزة أشوفك تاني يا كاسب.. مش هتشوف دموعي تاني لأنك مش هتلمحني قَدرًا أصلًا.
همس بخفوتٍ بجانب أذنها وقال بعزيمة فتاكةٍ:
-هعاند القدر وهتكوني ليَّا.. هتكوني ليَّا حتى لو بتعاندي قلبي وقاصدة توجعيني.. هحارب علشانك.. أنا اللي طول عمري بحارب علشان أعيش وباخد حقي من عين الدنيا مش هعرف أحارب علشان تكوني نصيبي؟؟؟
قبل جانب رأسها مرة أخرى وهمس باشتياقٍ لها رغم قربها ولوعةٍ:
-أنا قتيل عليكِ.
ابتلعت غِصَّة مريرة في حلقها وقالت:
-كاسب.. سيبني عايزة أمشي؟؟
رد بلوعةٍ أكلت جدران قلبه وأذابت حمم مشاعره:
-خليكِ قريبة من قلبي.. داويني.. ما أنا مش هتساب مجنون.. عقلي وقلبي معاكِ.. أنا دلوقتي من غيرك فاضي.
صمت لوهلةٍ ثم أضاف بصوت مخنوقٍ:
-أنا ذنبي أيه؟؟ أيه اللي بتعاقبيني عليه؟؟
ارتفع صوت بكائها وهي تقول بقهرٍ:
-ذنبك إنك حبيتني يا كاسب.. أنا الحُزن اللي جوايا الوقت عُمره ما هيعالجه وخيبة الأمل اللي دوقتها على إيديكم كلكم مستحيل أنساها.. إزاي فرطت فيَّا يا كاسب.. إزاي بتقول حبيتني وكُنت بتبص في عني وإنتَ كذاب.. إنتَ دخلت حياتي علشان تدمرني وتدمره.. يعني لو مكُنتش حبيتني كُنت استحليت أذيتي وأنا ماليش ذنب في الليلة دي كلها غير إني بنت عثمان السروجي.. عثمان السروجي اللي بقى نُقطة سودا في حياتي.
صرخت بما استطاعت من قوة وهي تقول:
-مش مسامحاك يا كاسب ومش مسامحاكم كلكم.
في هذه اللحظة، قطع نحيبها صوت رنين هاتفها فالتقطته من جيب معطفها ثم نظرت إلى شاشته بيأسٍ قبل أن تُقرر الرد بينما بقى هو متشبثًا بها يدفن وجهه في عُنقها:
-أنا كويسة يا شروق.. أنا كويسة حبيبتي ما تقلقيش عليا؟؟
أجابت بنبرة تصنعت فيها الثبات والمتانة حينما سألتها شقيقتها بفزعٍ عن حالها، لم تقتنع “شروق” بجوابها فتابعت بنبرة باكية:
-طيب قولي لي إنتِ فين وأنا عِمران نيجي ناخدك؟؟
تنفست “سكون” بقوةٍ قبل أن ترد:
-شروق.. إنتِ هتوحشيني.. خلي بالك من نفسك.
زوت “شروق” ما بين عينيها وهي تلمح كلامًا يائسًا يحمل الوداع بين طياته فخفق قلبها بقوةٍ وهتفت:
-سكون؟؟ إنتِ ليه بتقولي كدا؟؟ علشان خاطري قولي إنتِ فين وهنتقابل ونتكلم!!
سكون وهي تحرر زفرة عميقة من داخل صدرها وتقول دون مواربة:
-شروق أنا محتاجة أسيب الدنيا دي كلها وأبعد.. صدقيني لو تعافيت هرجع.. بحبك أوي.
لم تنتظر رد الأخيرة وأسرعت بإنهاء المكالمة وإغلاق الهاتف نهائيًا؛ فالأمر ما عاد يحتمل الجدال أو المواجهة فقد نفدت أطنان الصبر والسلوان داخلها.
ذُهل “كاسب” من كلامها مع شقيقتها فترك عناقها ثم استدار يقف أمامها ويقول بلهجة سادرة:
-هنبعد سوى مش كدا؟؟
أومأت في ثباتٍ وهي تنظر مُباشرةً داخل عينيه:
-هبعد لوحدي يا كاسب ويمكن ما أرجعش، فُرصة نتداوى بالأيام من مشاعرنا المستحيلة لبعض.
كان يحدق فيها متجمدًا صامتًا قد ضل طريقه للكلام تمامًا وغرق متطلعًا بإمعان داخل عينيها ثم ردد بنبرة متحشرجة:
-أنا ممكن أديكِ فُرصة تكوني فيها مع نفسك يا سكون.. يمكن تعيدي حساباتك وتوصلي لأني ماليش ذنب.. أنا بس كان نفسي أكون جنبك وأساندك ونتخطى الأزمة دي سوى.. بس تمام؟؟ حابة تروحي فين وأنا هوصلك بنفسي بشرط أكون عارف كل تحركات والمكان اللي هتقعدي فيه وتليفونك يتفتح طول الوقت!!
لم يطاوعه قلبه أن يتركها وحدها ولكنها عنيدة لن ترضخ لكلامه ولن تأتي شدته معها بأية ثمار؛ فهي امرأة شديدة البأس صلبة، أومأت بعد لحظاتٍ من التفكير فالتقط كفيها وقبلهما في لوعةٍ تعبر عن اشتياقه المُسبق إليها.
•~•~•~•~•~•~•~•
ضمها “عِمران” إلى صدره بعد أن تشنجت فرائصها وانفجرت باكيةً من توديع شقيقتها لها، انهمرت دموعها بلا هوادة بينما ظل زوجها يمسح على ظهرها بمشاعرٍ مُتأذيةٍ وحتى الآن مازالت الصدمة تتملكه تمامًا، كيف فعل حماه ذلك؟؟ كيف يستبيح سرقة صغيرة من بين أحضان والدتها مُبررًا أُبوته لها ثم يضعها في أحضان أُخرى كي تمنحها الرعاية والأمومة بدلًا عن الأم الحقيقية لها؛ فمهما اشتعل وطيس الحرب بينهما وبلغ ذروته لا يجرؤ أحد على انتزاع روح خرجت من روح بالقوة!!
دعك عينيه بباطن كفه قبل أن يواسيها بكلمات خافتة:
-شروق لازم تكوني أهدا من كدا.. إنتِ عارفة إنها ما تقدرش تبعد عنكم ومجرد شوية وقت محتاجاهم وهترجع تاني!
شروق وهي تومىء برأسها سلبًا وترد بصوت مُتهدجٍ:
-لأ.. أنا عُمري ما شوفت سكون بالحالة دي من الضعف والاستسلام.. أختي في حاجة اتكسرت جواها!
صمتت تبتلع ريقها ثم تابعت:
-أنا خايفة عليها أوي.. خايفة عليها حتى من نفسها.
كان “عُمر” يستمع إلى حديثها مقهورًا وهو يضع رأسه بين كفيه من شدة الألم الذي اجتاح كل ذرة بجسده؛ بل رأسه بالتحديد، صمت ولم يتفاعل مع كلام شقيقته وفي نفسه بعض الطمأنينة على شقيقته حينما طلب مساعدة “كاسب” وتأكد من بقائه معها كيلا تؤذي نفسها.
“على الجانب الآخر”.
-لازم تلاقي حل يا عثمان.. أنا بنتي بتروح مني.. أنا خسرت سكون!!
صرخت بانهيارٍ وهي تقف أمامه ثم تهزه بقوةٍ بينما يقف أمامها صلبًا يشتعل داخله اشتعالًا ويزيده بسحب تبغ سيجارته إلى صدره وطرده بزفير هائجٍ إلى أن قال بحزمٍ:
-مش الكُل عرف الحقيقة؟؟ بردو مفيش حاجة هتتغير، بنتي ورفضت أربيها مع خدامة واختارت لها حياة أسرية مُرفهة وسعيدة وأنا حر فيها، هتزعل شوية بس هترجع تاني وكل حاجة هتعود لمجراها.
توقفت “نبيلة” عن هزه تنظر إلى ثباته في دهشةٍ قبل أن تقول بانفعالٍ ناقمٍ:
-إنتَ السبب في كُل اللي إحنا فيه دلوقتي لأنك مش بتشبع.
حدق فيها بنظرات قوية قبل أن يتفوه بتحذيرٍ من بين أسنانه المطبقة:
-اوعي تنسي إنك كُنت موافقة على كُل اللي حصل يا نبيلة.. اوعي في لحظة تنسي إني عملت كل دا علشانك!!
صرخت ببُغض وثورة:
-مكنتش أعرف إن الزمن هيدور ونقابلها تاني.. ظهرت لنا من أنهي داهية دي.. أرجوك يا عثمان اوعي تسمح لها تدمر حياتي وبيتي وعيلتي!!
عثمان وهو يتنهد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ ويرد بوعيدٍ أثناء التفاته إلى النافذة:
-قبل ما تفكر تعمل دا هكون قضيت على الباقي منها.
أسرعت “نبيلة” تقبض على ذراعه ثم تحثه على الالتفات إليها وهي تقول بانهيارٍ:
-كلم سكون دلوقتي.. كلمها وقول لها ترجع.. مينفعش تكون موجودة مع الست دي في مكان واحد!!
أومأ بعد أن نفخ بقوةٍ يستسلم لرغبتها وصحة حديثها حول بقاء ابنته برفقة هذه المرأة التي وبالتأكيد لن تتوقف عند هذه النقطة بل ستأتي إليه بالمزيد فما رآه من قوة في عينيها جعلته يتوقع وتيرة أيامه القادمة جيدًا!.
•~•~•~•~•~•~•~•
بدأ يجمع المائدة التي بقيت على حالها من بعد هذه الفوضى وعيناه لا تفارق تفقدها من حين إلى آخر، التقط الأطباق وأعادهم إلى الحوض بعد أن أفرغ ما بهم داخل القدر ثم غطاه، عاد للمائدة وجمع كُل ما عليها ونظف المكان بأكمله وشعور الصمت والفراغ اللذين خلفتهما من لحظة نومها يأكلان لهفته عليها، أنهى ما يفعل قبل أن يتحرك مرة أخرى صوبها يتفقد وتيرة أنفاسها للمرة التي لم يحصر عددها، قرب أذنه من أنفها يطمأن لانتظام وتصاعد خفة نَفسها حتى بقى جامدًا يتأملها في صمتٍ ورغبة مُلحة داخله تطلب منه أن يوقظها ولكنه نفض هذه الفكرة عن رأسه وهو يهزها يمينًا ويسارًا قبل أن يخرج من الغرفة على الفور.
في هذه اللحظة، سمع رنين هاتفه فأسرع صوب الطاولة يلتقطه ليجده صديقه وما أن أجابه حتى طلب منه أن ينزل للأسفل للتحدث قليلًا مع والده، مشى “تليد” بخطوات حذرة وخرج من الشقة بعد أن وارب بابها دون أن يغلقه ثم هبط للطابق الأول حيث يعيش والده برفقة نوح.
-تعالى يا عِز الناس.. تعالى يابني!.
ربت الشيخ على طرف الأريكة بجانبه يحث ابنه على التقدم منه والجلوس إلى جواره، فعل “تليد” مُلقيًا بنفسه على الأريكة في إجهاد بينما تابع “نوح” بهدوءٍ:
-أنا هعمل شاي.
أومأ “سليمان” مُمتنًا قبل أن يلتفت إلى ابنه ثم يربت على ساقه قائلًا بمواساة:
-اوعى تحزن يابني.. إن شاء الله هتكون كويسة.. إنتَ لازم تمدها بالقوة وتدعمها.. انسى أي خلاف بينك وبين نجلا!
صمت لثوانٍ ثم أردف بمشاعرٍ مُتضررةٍ من فُرقة أُم وابنتها فتبدوان غريبتان عن بعضهما البعض؛ وكأنما لم تُولد من رحمها:
-حنن قلب مراتك على أُمها يابني.. اسعى في الخير واجمع قلب أم مكلومة ببنتها.. انتزع من قلبك ضغينة رؤيتك ليها وهي بترميها.. إنتَ لا عيشت ظروفها ولا مُعاناتها.. إحنا يابني مش جزارين بنسن سكاكيننا على رقاب وأفعال الناس إحنا أهل خير ودعوة.
ترك “تليد” تصنعه الصلابة جانبًا وهو يميل للأمام قليلًا ثم يضع وجهه بين كفيه مرددًا بإنهاكٍ:
-مش قادر أسامح في حقها زيّ ما هي بالظبط مش قادرة تسامح في حق نفسها.. أنا مش عارف أعمل أيه لو وَميض اكتشفت إني كُنت عارف؟؟ أكيد هتتوجع أكتر!
جاء “نوح” يحمل الصينية بين يديه ثم وضعها على الطاولة أمامهما قبل أن يلتقط من صديقه طرف الحديث وهو يقول في ثباتٍ:
-بس إنتَ سكتت علشان كُنت بتحاول تمهد لها الموضوع مش كدا؟؟؟
تليد وهو ينفخ باختناقٍ:
-وهم ما شاء الله دمروا كُل حاجة.. دمروا كُل اللي قعدت أبنيه جواها.. وأهي عبارة عن جسم نايم هربان بعقله ومشاعره من الواقع.. أنا متأذي وأنا شايفها كدا.
أومأ الشيخ بتفهم قبل أن يقول بلهجة لينة:
-وأنا مُقدر خوفك عليا وعلى سلامتها.. بس مهما عملت نجلا فهي أُمها.. لازم تسامح يابني.. النبي كان من صفاته المسامحة وربنا جل علاه يغفر ويسامح.. صفة التسامح موجودة في فِطرتنا التي فطرنا الله عليها.. الغريب بيسامح الغريب.. معقول البنت مش هتسامح أمها؟؟
تليد وهو يتنهد تنهيدة طويلة ثم يقول:
-بس صعب عليها تتقبلها بالسهولة دي.. تسامح واحدة راجعة بعد أكتر من عشرين سنة تطالب بحقها فيها كأُم؟؟
تنحنح “نوح” وقال بثباتٍ:
-تليد حاول تلغي غضبك منها.. حاول تدعمها بكلمات تزيل غضبها ناحية نجلا.. ساعدها تتقبلها والوقت مش مهم.. الأهم إن النتيجة تكون فعالة.
مسح “تليد” غُرة رأسه قبل أن يتنهد مرددًا باستسلام:
-هحاول.. خير إن شاء الله.
•~•~•~•~•~•~•~•
استقر بسيارته حيث الميناء كما طلبت منه أن يفعل بالضبط، وَدت أن تذهب وحدها في رحلة عبر البحر لاستنشاق بعض نسمات الهواء العليل التي قد تشفيها من سقمها وتُجدد روحها المُستهلكة، ورغم رغبته الجارفة في منعها قرر ألا يفعل وأن يمنحها بعض الخصوصية في ترتيب أولويات حياتها والعودة أقوى من السابق، كور “كاسب” قبضة يده في ارتباكٍ وبارتيابٍ حيث يُخبره قلبه بأن ثمة أمر غير مُريح خامدًا أسفل هذه الرحلة ولكنه حتى النهاية لا يريد سوى كسب ثقتها وحُبهما مرة أخرى وهذه الرغبة لن تأتي بفرض قوته وسيطرته.
بقيت ساكنةً في مكانها تنظر من خلال زجاج النافذة المُغلق بينما يصوب هو ناظريه بها يُمعن النظر فيها طويلًا يُحاول جاهدًا أن يُشبع قلبه من رؤية ملامحها الملائكية شبعًا يُعينه على قضاء هذين اليومين بدونها، فقد أخبرته أنها بحاجة إلى يومين فحسب ووافق هو على مضضٍ.
-أشوفك على خير.
استدارت بعينيها إليه، رأى ضياءً مُشعًا ينبعث من حدقتيها وبدا له رغبتها في البُكاء، أسرع بإحاطة رأسها بكفيه ثم قرب جبينها إليه حتى التصقت بجبينه قبل أن يسلط نظراته عليها ويقول بلهفةٍ وجزعٍ:
-يومين بس.. يومين بس يا سكون!!
سقطت دموعها فورًا ثم أومأت دون أن تنبس ببنت شفةٍ ليتركها تترجل من السيارة مُسرعةً صوب السفينة التي أوشكت على مغادرة الميناء، وما أن سارت خطوتين حتى التفتت تنظر إليه من جديد بدموعٍ ساخنة ونظرات يرى فيهما صورة لفراق دائمٍ!!!.. خفق قلبه بين ضلعيه بقوةٍ فأسرع مُترجلًا من السيارة يهرع خلفها ولكنها صعدت فورًا على متن السفينة التي تحركت عقب ذلك مُباشرة، مدَّ ذراعه يلمسها فلم تكُن المسافة بينهما كبيرة ففعلت هي أيضًا حتى تشابكت أصابعهما معًا قبل أن يفرقها امتداد المسافة وتوسعها، أحس بغِصَّة مريرة تنهال لكمًا في منتصف قلبه ولكنه ثابر وصبر وارتضى فراقها الصغير لتشكيل بداية جديدة لا فراق بعدها، ولكنه لا يعلم أن الفراق الصغير ما هو إلا بداية النهاية في احتضار حبهما.
التقطت “سكون” هاتفها من جيب سترتها ثم نظرت داخل عينيه مُباشرة قبل أن تمد ذراعها ثم تُفلت الهاتف من بين يدها ليسقط فورًا في المياه وسط نظراته المحدقة في صدمةٍ بها!!!
يتبع
•تابع الفصل التالي “رواية رحماء بينهم” اضغط على اسم الرواية
التعليقات