راما
٣٥
بدأت جين حياتها الجديدة مع بدر بشيء من الحذر، ليس منه، ولكن من نفسها.
كانت تخشى أن يعيدها الزواج إلى دوامة الألم القديمة، أن تستيقظ ذات يوم فتجد نفسها وحيدة من جديد، أو أن تكتشف أنها لم تكن مستعدة لهذه الخطوة.
بدر كان صبورًا معها، لم يطالبها بشيء، لم يضغط عليها، بل منحها الوقت لتتأقلم مع وجوده في حياتها.
بدا الأمر كنجمتين فى أقصى قطبى الأرض تحاول كل واحده منهم الوصول إلى الآخر
كان يشعر بحذرها لكنه لم يواجهها به مباشرة، بل اكتفى بأن يكون بجانبها، صبورًا، متفهّمًا لصمتها، لشرودها أحيانًا، لارتباكها عندما يقترب منها أكثر مما تحتمل.
كانت الليالي الأولى غريبة، ليست كالأفلام التي تتحدث عن شغف البدايات، بل كانت أكثر واقعية، وأكثر هدوءًا مما توقعت جين لم تكن خائفة من بدر كشخص، بل كانت خائفة من أن تكون غير قادرة على منحه كل ما يستحقه.
وفي إحدى الليالي، بعد مرور أسابيع على زواجهما، كانا يجلسان سويًا في الشرفة، صامتين، يشربان الشاي نظر بدر إليها وسألها بهدوء:
— “أنتِ خائفة، أليس كذلك؟”
لم تحاول الإنكار. تنهدت، أبعدت عينيها عنه وهمست:
— اجل خائفه
رفع حاجبه بسؤال صامت، فأكملت:
— “أنا لا أعرف كيف أكون زوجة جيدة، لا أعرف كيف أفتح قلبي مجددًا، لا أعرف إن كنت قادرة على أن أعطيك كل ما تحتاجه…”
أمسك يدها برفق كأنه يخشى أن يفزعها، وقال:
— “جين، أنا لم أتزوجك لأضعك في اختبار، ولم أفعل ذلك لأنني أبحث عن صورة مثالية للزواج، أنا تزوجتك لأنني أحبك، وأريد أن أكون معك، كيفما كنتِ.”
نظرت إليه، لأول مرة منذ فترة طويلة شعرت بأن أحدهم يراها كما هي، بكل ندوبها، بكل خوفها، بكل ماضيها، ولم يحاول أن يغيرها.
ابتلعت ريقها وهمست بصوت مرتجف:
— “وأنا… أريد أن أحاول.”
كان هذا كل ما احتاجه بدر منها ليس وعدًا، ليس يقينًا، فقط استعدادها للمحاولة.
وفي تلك الليلة، لأول مرة، لم تشعر بالخوف عندما نامت إلى جانبه.
استيقظت جين في الصباح التالي وهي تشعر بشيء غريب، إحساس لم تعهده طوال عمرها، لم يكن فرحًا كاملاً، لكنه أيضًا لم يكن ذلك الحزن العميق الذي اعتادت عليه.
كان هناك هدوء ما، كأن روحها توقفت عن الصراع للحظة، كأنها كانت تسبح طوال عمرها ضد تيار جارف، والآن وجدت نفسها أخيرًا تطفو فوق الماء دون خوف من الغرق.
ظلت مستلقية للحظات على ظهرها تنظر إلى السقف، تحاول استيعاب هذا الشعور الجديد والغريب والممتع احيانا
لم تكن متأكدة إن كان ارتياحًا، أم مجرد تعب من المقاومة. هل كانت مستعدة لهذه الحياة الجديدة؟ أم أنها فقط استسلمت لما هو قادم؟
استدارت قليلًا، فرأت بدر مستغرقًا في النوم بجانبها، أنفاسه هادئة، ملامحه مستقرة كأن لا شيء في العالم قادر ان يعكر صفوه.
تأملته بصمت، شعرت بشيء يشبه الامتنان، لكنه كان ممتزجًا بحذر قديم لا تستطيع التخلص منه بسهولة.
وضعت يدها فوق صدرها، حيث كان قلبها ينبض ببطء، لم يكن ينبض بجنون كما اعتادت عندما كانت تحب آدم، لم يكن يضرب بعنف، لم يكن يصرخ، كان ينبض بهدوء، وكأن شيئًا ما بداخله قد تغيّر.
نهضت من السرير ببطء، سارت نحو النافذة، فتحتها قليلًا، فدخل هواء الصباح البارد أغمضت عينيها للحظة، استنشقت الهواء العذب، وهمست لنفسها بصوت خافت:
— “أنا هنا… وما زلت على قيد الحياة.”
لم تكن تعرف ما الذي تعنيه هذه الكلمات بالضبط، لكنها شعرت أنها خطوة ! خطوة صغيرة، لكنها لها.
عندما افرح اركض بكل قوتى هربآ من الحياه، اتوارى داخل الازقه المظلمه بعيد عن عيونها، اتسكع فى اماكن لا يمكنها توقعها، احتفظ بفرحتى أكبر قدر ممكن قبل أن تسلبها منى.
في مساء هادئ، كانت جين تجلس على الأريكة، تحتسي كوبًا من الشاي بهدوء، عندما رن هاتفها، نظرت إلى الشاشة، فتجمدت أناملها للحظة كان اسم آدم يلمع أمامها، كذكرى غير مرحب بها.
ضغطت زر الرفض دون تردد، لكن الهاتف رن مجددًا تجاهلته، ثم رن مرة ثالثة، شعرت بغضب مكتوم، فكتبت له رسالة قصيرة:
“لا تتصل بي مجددًا. احترم حياتي الجديدة.”
لكن آدم لم يستسلم بسهولة. وصلت رسالة أخرى منه بعد لحظات:
“أحتاج أن أتحدث معك، الأمر مهم.”
ضغطت جين على الهاتف بقوة، تشعر بنبضات قلبها تتسارع لم يعد هناك شيء مهم بينهما، لم يعد له حق في اقتحام حياتها.
كتبت له بوضوح:
“أي شيء تود قوله، احتفظ به لنفسك. أنا امرأة متزوجة الآن، ولا أريد أي تواصل بيننا، لا تكرر المحاولة.”
لا تعرف جين ان الرجل يركض خلف الانثى التى ترفضه أكثر من التى ترغبه وكلاهما يستحق الصفع فى لحظة ما
أرسلت الرسالة، ثم حظرت رقمه وضعت الهاتف جانبًا وأغلقت عينيها للحظة هذه المرة، كانت متأكدة أن الباب قد أُغلق إلى الأبد.
القى ادم الهاتف على الطاوله وهو يشعر بالخيانه، كانت داخله ثائر، كيف تلقى بنفسها فى حضن رجل اخر؟ كيف استطاعت ان تفعل ذلك به؟
الذين يعدون ان يظلو بالجوار طول العمر هم أكثر الخائنين والمغادرين
اذا أخبرك أحدهم انه سيظل طوال عمره جوارك ولن يتخلى عنك
امنحه ابتسامه بارده فقد أعلن رحيله بالفعل
وضعت جين الهاتف بعيدًا عنها، وكأنها تضع ماضيها جانبًا. كانت تعلم أن آدم لن يجرؤ على تجاوز هذا الحد بعد الآن، لكنها لم تستطع إنكار الاضطراب الخفيف الذي شعرت به في صدرها.
لم يكن اشتياقًا، ولا حنينًا، بل كان مجرد شعور غريب، كأنها أغلقت نافذة قديمة ظلت مفتوحة لسنوات، فتغيرت رائحة الغرفة أخيرًا.
سمعت صوت خطوات خلفها، فالتفتت لترى بدر يقف هناك، ينظر إليها بقلق خافت.
— “كل شيء بخير؟”
ابتسمت له جين مطمئنة، لكنها لم تخبره عن مكالمة آدم. لا لشيء سوى لأنها لم تعد تهم.
اقترب بدر منها، يمد يده ليلمس وجنتها بلطف، وكأنه يحاول أن يطمئنها قبل أن يطمئن عليها.
— “كنتِ شاردة، هل هناك ما يزعجكِ؟”
هزت رأسها بابتسامة هادئة.
— “لا شيء، فقط أفكر.”
— “في ماذا؟”
أخذت نفسًا عميقًا وهي تتكئ على صدره، تسمح لدفئه بأن يحيطها كما اعتادت منذ أن أصبحت زوجته.
— “في الماضي… وكيف انتهى كل شيء أخيرًا.”
مرر بدر أصابعه في شعرها بلطف وهمس:
—
رفعت رأسها لتنظر إليه، إلى الرجل الذي اختارها رغم كل شيء، والذي لم يطالبها يومًا بأن تكون شيئًا آخر غير نفسها
— “أحبكِ، جين.”
شعرت بجدران قلبها، تلك التي بنتها لسنوات، تتشقق ببطء أمام دفء كلماته.
لم تكن معتادة على أن تكون محبوبة بهذه الطريقة—بلا شروط، بلا مطالب، بلا خوف من الفقدان.
ابتسمت له أخيرًا، ابتسامة خفيفة لكنها صادقة، ثم همست:
— “وأنا أيضًا، بدر… أحبك.”
في تلك اللحظة، أدركت جين أن الحب الحقيقي ليس ذلك الذي يجعلك تقاتل وتتمزق وتتوسل بل هو ذلك الذي يمنحك السلام.
•تابع الفصل التالي “رواية راما” اضغط على اسم الرواية
التعليقات