رواية راما الفصل الثالث والثلاثون 33 – بقلم اسماعيل موسى
راما
٣٣
لم يكن التعافي رحلة قصيرة أو سهلة، لكنه كان حقيقيا، جين لم تستيقظ في صباحٍ ما فجأة خالية من الألم، بل كان الشفاء عملية بطيئة، تتسلل إليها في تفاصيل يومها دون أن تشعر.
في البداية، كان الأمر مجرد محاولات: أن تنهض من السرير دون أن تفكر كثيرًا، أن تنهي يوم العمل دون أن تتساءل عما كانت ستفعله لو كانت حياتها مختلفة، ثم شيئًا فشيئًا، بدأت تلاحظ الفرق—لم يعد قلبها يثقلها عند ذكر اسمه، ولم تعد نظرات الفضول من حولها تثير بداخلها أي شعور.
بدأت تستعيد لياقتها البدنية، تذهب إلى صالة الرياضة بانتظام، ليس لهدف معين، بل لأنها أرادت أن تشعر بالقوة في جسدها كما بدأت تشعر بها في داخلها، أصبحت تستمتع بمشيها الصباحي قبل الذهاب إلى العمل، تعتاد على روتين جديد لم يكن مرتبطًا بأي أحد سواها.
في العمل، بدأت جين تبني سمعة مختلفة عن تلك التي كانت تمتلكها في الماضي، لم تكن مجرد الموظفة المجتهدة التي تريد إثبات نفسها، بل أصبحت الشخص الذي يعتمد عليه الآخرون، الذي يعرف كيف يدير الأزمات بهدوء، الذي لا يخشى تحمل المسؤولية.
لم يكن هناك إنجاز ضخم واحد يثبت نجاحها، بل سلسلة من الخطوات الصغيرة: عروض ناجحة، قرارات دقيقة، اجتماعات خرجت منها وهي تشعر بأنها سيطرت على الأمور تمامًا.
لم يكن الأمر سعيًا وراء إثبات شيء، بل كان تعبيرًا عن ذاتها، عن القوة التي وجدتها بعد أن ظنت أنها فقدتها.
بدأت تحصل على فرص أفضل، ترقيات لم تطلبها لكنها استحقتها، وصوتها أصبح مسموعًا أكثر في الاجتماعات، لم تعد تلك المرأة التي يشعر الآخرون بالشفقة عليها، بل أصبحت امرأة يحترمونها، يعترفون بقدراتها دون الحاجة إلى أي سياق آخر يفسر وجودها.
لم تكن جين تبحث عن حب جديد، ولم تكن ترفضه أيضًا. لكنها عرفت هذه المرة أن الحب، إن أتى، يجب أن يكون إضافة لحياتها
كانت تخرج مع أصدقائها، تسافر في عطلات قصيرة، تملأ وقتها بما يجعلها سعيدة، وليس بما يُشغلها عن الفراغ.
وفي أحد الأيام، بينما كانت تمشي في أحد شوارع المدينة، شعرت بنسمة هواء باردة على وجهها، وأدركت أنها لم تعد تفكر بالماضي بنفس الطريقة لم يعد يطاردها، لم يعد يشكل هويتها.
كان مجرد جزء منها—لكنه لم يكن كل شيء.
كان مساءً هادئًا عندما قررت جين الخروج إلى المقهى الذي اعتادت الذهاب إليه، ليس لسبب محدد، بل لمجرد رغبتها في الجلوس مع كتابها وكوب القهوة المعتاد.
لم تكن تبحث عن شيء، لم تكن تنتظر أحدًا، لكنها لم تكن تعلم أن بعض اللحظات تأتي دون دعوة، تمامًا كما حدث تلك الليلة.
عندما دخلت المقهى، كان مزدحمًا أكثر من المعتاد، بحثت عن طاولة فارغة، لكن لم يكن هناك سوى مقعد واحد متاح بجانب شخص بدا منشغلًا في حاسوبه المحمول. ترددت للحظة، لكنها تقدمت وسألته بهدوء:
— “هل يمكنني الجلوس هنا؟”
رفع رأسه، نظر إليها لثوانٍ قبل أن يبتسم بلطف ويغلق حاسوبه قليلاً.
— “بالطبع، تفضلي.”
شكرته وجلست، لم تكن تنوي التحدث، لكنها لاحظت أنه كان يرسم على دفتر صغير بجانبه، لم تكن رسومات عادية، بل خطوط دقيقة، حادة، تحمل نوعًا من الدقة التي لفتت انتباهها، لم تستطع منع نفسها من التعليق:
— “رسوماتك جميلة… تبدو وكأنها تصاميم هندسية أكثر من مجرد رسومات.”
ابتسم، وأدار الدفتر نحوها قليلًا.
— “أنتِ قريبة جدًا من الحقيقة. أنا مهندس معماري، وهذه مجرد أفكار أولية لمشروع أعمل عليه.”
نظرت إلى التفاصيل في رسمه، كانت هناك عناية واضحة بكل خط، بكل ظل، لم تكن تفهم كثيرًا في الهندسة، لكنها رأت الشغف في الطريقة التي يتحدث بها.
— “هذا واضح… يبدو أنك تحب عملك.”
ضحك بخفة، ثم قال:
— “أحبه كثيرًا، لكنه لا يتركني وشأني حتى عندما أقرر أخذ استراحة.”
لم تكن جين معتادة على الانخراط في محادثات مع الغرباء، لكن هناك شيء في أسلوبه جعل الأمر سهلًا، لم يكن يحاول إثارة إعجابها، لم يكن متصنعًا، فقط شخص يتحدث عن شيء يحبه.
بعد بضع دقائق، نظر إليها وقال:
— “أنا أدرك أن هذا قد يكون غريبًا، لكن… بما أنكِ منحتِني رأيك في رسمي، هل يمكنني أن أعرف اسمك؟”
ترددت للحظة، لكنها لم تجد سببًا للرفض.
— “جين.”
مدّ يده بابتسامة واثقة:
— “تشرفت، جين. أنا بدر
صافحته بسرعة قبل أن تسحب يدها، لكنه لم يُظهر أي انزعاج من حذرها.
في تلك الليلة، لم يكن هناك شيء درامي، لم يكن هناك شيء يشبه الأفلام الرومانسية. كان مجرد لقاء بسيط، مصادفة غير متوقعة، لكنها غادرت المقهى وهي تفكر أنه ربما، فقط ربما، هناك أشياء جميلة يمكن أن تحدث دون أن تخطط لها.
ومع الأيام، وجدت بدر يحاول الاقتراب منها… ليس بإلحاح، بل بصبر واهتمام، وكأن الأمر بالنسبة له لم يكن مجرد لحظة عابرة، بل بداية شيء قد يكون مختلفًا.
لم يكن بدر رجلاً يندفع نحو العواطف بسهولة،كان يفكر دائمًا قبل أن يسمح لأي شخص بالاقتراب منه أكثر مما ينبغي،ربما كان ذلك بسبب تجاربه السابقة، أو ربما لأن قلبه تعلّم أن يكون حذرًا حتى لا يُكسر مرة أخرى.
في ماضيه، لم يكن الحب غائبًا، لكنه لم يكن رحيمًا أيضًا،كان قد أحب مرة، حبًا ظنّه ثابتًا، لكنه انتهى على غير ما توقع. كانت هناك خيبات، كانت هناك وعود لم تصمد أمام الزمن. ليس لأنه لم يكن كافيًا، بل لأن البعض لا يعرفون كيف يبقون، مهما قدمت لهم.
لهذا، عندما بدأ يلاحظ جين، عندما بدأ يشعر بشيء مختلف وهو يتحدث معها، كان الأمر مربكًا بالنسبة له، لم يكن معتادًا على أن يأخذه الإعجاب بهذا الشكل، لم يكن معتادًا على أن يجد نفسه يتطلع للقاء شخص ما دون أن يدرك متى بدأ ذلك.
كانت جين مختلفة. لم تكن تحاول لفت انتباهه، لم تكن تبحث عن شيء، لكنها كانت ببساطة هي… وهذا ما أبهره.
في كل مرة كان يلتقي بها، كان يراها تتصرف بطبيعتها، دون تصنع أو محاولات لإثارة الإعجاب،لم تكن تحاول إثبات شيء لأي أحد، وكانت هذه الثقة الصامتة أكثر ما جذبه إليها.
رآها امرأة عاشت ما يكفي لتعرف أن الحياة لا تنتظر أحدًا، لكنها رغم ذلك لم تفقد قدرتها على الاستمتاع بها. كان يرى في عينيها بقايا حزن قديم، لكنه لم يكن حزنًا يُغرق، بل حزن امرأة تعلّمت كيف تسبح ضد التيار.
وبدون أن يشعر، وجد نفسه يريد أن يعرفها أكثر، ليس لأنه كان يبحث عن حب جديد، بل لأنه شعر بأن هناك شيئًا فيها يستحق أن يُكتشف.
لكن الحذر لم يتركه بسهولة،كان يخشى أن يعيد نفس الأخطاء، كان يخشى أن يدخل إلى شيء قد ينتهي كما انتهى كل شيء من قبل.
لكن مع جين، بدأ يدرك أن الخوف ليس دائمًا سببًا كافيًا للتراجع.
وأكثر ما كان يخيفه… أنه لم يكن متأكدًا إن كان يريد التراجع أصلًا.
لم تكن جين امرأة يسهل إبهارها، ولم تكن مستعدة لفتح قلبها مجددًا بعد كل ما مرّت به، الطلاق لم يكن مجرد انفصال عن آدم، بل كان قطيعة مع فكرة الحب كما عرفتها من قبل.
لقد عرفت ما يعنيه أن تبني عالمك حول شخص ثم تراه ينهار، عرفت كيف يكون الحب جميلًا في البداية، ثم يصبح مع الوقت شيئًا آخر، شيئًا مؤلمًا، شيئًا يشبه الخيبة أكثر مما يشبه السعادة.
لهذا، عندما بدأ بدر يقترب منها، شعرت بالقلق أكثر مما شعرت الإعجاب، لم يكن الأمر متعلقًا به كشخص، بل بها هي… بمخاوفها، بجروحها التي لم تندمل بالكامل، برغبتها في أن تعيش حياتها دون أن تربط مصيرها مرة أخرى بشخص قد يرحل يومًا ما.
كانت تعرف أن بدر مختلف، كانت تراه بوضوح، تلاحظ حذره هو الآخر، تلمح في عينيه شيئًا مألوفًا، كأنه يفهم تمامًا لماذا تخشى أن تخطو خطوة أخرى في هذا الاتجاه.
لكنها لم تكن مستعدة، لم تكن تريد خوض علاقة لم تكن واضحة، لم تكن تريد شيئًا بلا إطار رسمي، بلا التزام حقيقي، بلا يقين.
— “أنا لا أبحث عن شيء مؤقت، بدر.”
قالتها بهدوء ذات مساء، عندما لمح بطريقة غير مباشرة أنه يودّ قضاء المزيد من الوقت معها، أن يتعرف عليها أكثر.
نظر إليها بصمت للحظات، كأنه كان يتوقع هذه الكلمات، لكنه لم يعرف كيف يرد عليها فورًا. ثم قال بصوت هادئ:
— “ولا أنا.”
لكن حتى هذه الإجابة لم تكن كافية لتهدئة مخاوفها. لأنها لم تكن تخشى فقط أن تقع في حب شخص قد لا يكون مستعدًا لها بالكامل، بل كانت تخشى أن تقع في الحب مرة أخرى، بكل ما يحمله ذلك من احتمالات الألم.
لهذا، حاولت أن تضع مسافة، أن تبقي الأمور في إطار الصداقة، أن تتجاهل كيف يجعلها وجوده أكثر راحة، كيف تشعر معه بشيء لم تشعر به منذ زمن طويل… بشيء يشبه الأمان.
لكن ما لم تكن تدركه، أن بعض المشاعر لا يمكن تجنبها إلى الأبد.
لم يكن بدر رجلاً يندفع نحو القرارات الكبيرة بسهولة، كان يفكر طويلًا، يحلل الأمور، يتريث قبل أن يخطو خطوة قد تغير مسار حياته،الحب لم يكن فكرة سهلة بالنسبة له، بل كان شيئًا معقدًا، محفوفًا بالمخاطر.
لقد رأى كيف يمكن للعلاقات أن تنهار رغم البدايات الجميلة، رأى كيف يصبح الشغف صمتًا، وكيف يتحول الارتباط إلى عبء إذا لم يكن قائماً على أسس قوية، لم يكن يريد الوقوع في هذا الفخ، لم يكن يريد أن يخسر نفسه في علاقة غير واضحة، أو أن يصبح جزءًا من قصة أخرى تنتهي بالخذلان.
لكن جين… كانت مختلفة.
كانت حذرة مثله، مترددة كما هو، تخشى الحب لكنها في الوقت نفسه تترك أثرًا لا يُمحى. لم تكن تحاول لفت انتباهه، لكنها فعلت. لم تكن تسعى لتكون مميزة في نظره، لكنها كانت.
معها، لم يكن بحاجة إلى الأقنعة، لم يكن مضطرًا لإثبات أي شيء. كان يستطيع أن يكون هو، ببساطته، بحذره، بكل شيء يحمله داخله من مخاوف وطموحات.
ومع الوقت، أدرك أنه لا يريد أن يفقدها.
لهذا، رغم كل تردده، رغم كل المخاوف التي لم تختفِ تمامًا، وجد نفسه يتخذ قراره أخيرًا.
في إحدى الأمسيات الباردة، عندما كانا يجلسان معًا في مقهى صغير، ينظران إلى الشارع المزدحم أمامهما، قال بصوت هادئ لكنه ثابت:
— “جين، أريد أن أتزوجك.”
رفعت عينيها إليه ببطء، وكأنها لم تكن متأكدة مما سمعته للتو. كانت تعلم أن بدر لم يكن رجلاً يلقي بالكلمات عبثًا، وأن هذه الجملة لم تخرج منه بسهولة.
لكنها أيضًا شعرت بشيء آخر… خوفها.
التفتت إلى نافذة المقهى، راقبت الأضواء المنعكسة على زجاجها، ثم همست:
— “بدر… أنا خائفة.”
أومأ برأسه، كأنه توقع هذه الإجابة.
— “وأنا أيضًا.” قالها بصراحة، دون محاولة إخفاء الحقيقة.
التفتت إليه، نظرت في عينيه، ورأت فيهما انعكاسًا لمخاوفها، لكنه لم يكن تراجعًا، لم يكن ضعفًا. كان إدراكًا أن الحب ليس مجرد لحظة شغف، بل قرار.
— “لكننا لن نعرف أبدًا ما ينتظرنا إذا لم نحاول، أليس كذلك؟” تابع بصوت هادئ لكنه يحمل يقينًا لم يكن موجودًا من قبل.
صمتت للحظات، ثم زفرت ببطء، كأنها تحاول طرد مخاوفها مع أنفاسها.
ثم، أخيرًا، رفعت عينيها إليه وقالت بصوت خافت، لكنه كان يحمل في طياته بداية جديدة:
— “فلنحاول إذًا.”
بعد ثلاثة أيام كانت جين فى طور التفكير وصلتها رساله غريبه من راما
اريد ان القاك باقصى سرعه يا جين لأمر هام
•تابع الفصل التالي “رواية راما” اضغط على اسم الرواية
التعليقات