الفصل التاسع والخمسون]]
“ما قبل الأخير”
رواية
•~•~•~•~•~•~•~•
“لم أطق النأيَّ عنكِ؛ فهرولت إليكِ مُبتغيًا سُكنى قلبكِ”.
•~•~••~•~•~•~•
انتشرت شهقاتهن العالية وغمغمتهن محدثات الكثير من الصخب بالمكان، بدأن يتقاذفن الاختبار المنزلي من يدٍ ليدٍ بأعين جاحظةٍ تفيض بالدمع ومشاعر تتخبط بين السعادة والدهشة، يجدن المُشكلة قد حُلت من جذورها في لحظة ويبدو أن “وَميض” ستحظى بحياة زوجية سعيدة من بعد الآن حينما يعلم زوجها فيهرول عائدًا إليها دون تفكيرٍ، تهللت أسارير وجوههن بالأخص حينما صاحت “سكون” بابتسامة ماكرة:
-أخيرًا عرفنا هنرجعك إزاي يا أخ تليد!!
انسكبت دموع “وَميض” على خديها وقد لجمتها المفاجأة عن الكلام بينما فتحت “نجلا” ذراعيها في سعادة لترتمي “سكون” بينهما وهي تصيح فرحًا:
-اوف، وَميض حامل!!
بدأن يعانق بعضهن بسعادةٍ غامرةٍ وصوت صياحهن يملأ الشقة؛ خرج مُسرعًا من مكانه ثم هدأت خطواته المتوجسة حينما أدرك انبعاث هذه الأصوات من الحمام فسار حثيث الخطى صوبه قبل أن يفتح فمه على وِسعه حينما أبصر فريقًا من السيدات اكتظظن ملتصقات بجوار بعضهن داخل الحمام ليصيح عاليًا في حنقٍ وهو يقف أمامهن مُباشرةً بينما هن مشغولات بعناق بعضهن:
-إنتوا بتهببوا أيه في الحمام!!!!
سكت صياحهن فجأة وتشخصت أبصارهن إليه في الحال قبل أن يكرر في غيظٍ:
-خشروميت مَرة في الحمام؟! عاملين حفلة للخبث والخبائث!!
بدأن يلتفتن إلى بعضهن البعض وأخيرًا أدركن أنهن يقفن في الحمام منذ وقت طويلٍ فعلًا لتردد “رابعة” باستنكارٍ:
-صحيح، إحنا بنعمل أيه كلنا كدا جوا الحمام وإزاي ساعنا أصلًا!!
ضغط “نوح” على أسنانه وهو يشير لهن بكفيه ويردد غيظًا:
-اطلعوا لي.. اطلعي لي يا سكر مِنك ليها.. عايز تفسير منطقي للي أنا شوفته حالًا دا؟! هل دا حمام جماعي؟! ولا بارتي (حفلة) لألهم احفظنا!!!
التفت ينظر بطرف عينه إلى “رابعة” ويتابع بأسف:
-حتى إنتِ يا خالة رابعة كُنتِ معاهم في الحمام؟! عيب على سنك ووقارك!!
التوى شدق “رابعة” وهي ترمقه بنظرات حانقة وترد:
-في أيه يا نوح.. إنتَ مسكتنا متلبسين بالجرم المشهود.. إحنا كُنا بنعمل اختبار حمل لوَميض!!
انفتحت عينيه على وِسعهما وهو يتساءل متوجسًا:
-دا بجد؟! وفين هو الاختبار دا!!
أسرعت “مُهرة” تمد كفها إليه بالاختبار ليلتقطه بلهفةٍ منها على الفورٍ ثم ينظر إليه بإمعان وكذلك وجهن أبصارهن نحو الاختبار أيضًا بعد أن التففن حوله، كان ينظر مشدوهًا قبل أن تفصله كلمات زوجته التي تابعت بتلقائيةٍ:
-أحنا محتاجين دكتوغة نسا تأكد لنا الحمل.
رفع “نوح” بصره إليها بفمٍ مفتوحٍ قبل أن يمد يده مُتشبثًا بطرف حجابها ويسحبه بغتة عن رأسها ثم يُسرع بوضعه على رأسه وهو يقول بابتسامة مغلولة:
-كدا أنفع يا أخت مُهغة ياللي طلاقك هيكون الليلة دي؟!!
أسرعت “مهرة” بوضع كفها على فمها وهي تقول بتلعثمٍ:
-آسفة يا قلبي نسيت لوهلة والله إنك دكتوغ نسا!!
نوح بغيظٍ:
-نسيتي لوهلة.. إنتِ ما بتفتكريش أصلاً.. أنا بحذرك ذكاء الكلاب دا يوصل لجينات عيالي!
خرجت ضحكة مكتومة من فمٍ “سكون” التي تابعت:
-إحنا آسفين يا حضرة الدكتور.. ممكن بقى بعد إذنك تقول لنا دا حمل ولا لأ!!!
أسرع بنزع الحجاب عنه بامتعاضٍ قبل أن يعاود تدقيق النظر بالاختبار فيقتربن معه أيضًا ويحدقن بالاختبار ليصبح “نوح” متأففًا في غيظٍ:
-إنتوا بتبصوا على أيه؟! هتفضلوا مبحلقين كدا كتير زيّ المهاطيل!
نجلا وهي ترفع أحد حاجبيها وتقول:
-أيوة يعني دا حمل ولا أيه بالظبط!!!
نوح وهو يبتسم ابتسامة عريضة ويردد:
-دا لو حامل في تنين مُجنح الشَرطة التانية مش هتكون باينة أوي كدا.. دا اختبار واحدة على وِش ولادة.
زمت “نجلا” شفتيها وتابعت بتوجسٍ:
-ودا معناه أيه؟!!
التفت “نوح” إلى “وَميض” التي لا تتوقف دموعها عن الهطول في صمتٍ مُريبٍ ثم تساءل مهتمًا للإجابة:
-وَميض.. حصل تأخير للزائرة الشهرية عندك؟!!
ابتلعت “وَميض” ريقها على مهلٍ قبل أن تتكلم بصوت خافتٍ:
-ماجتش الشهر اللي فات بس ميعادها الشهر دا لسه مجاش.
أومأ في تفهمٍ قبل أن يجوب بنظراته بينهن ثم يقول بملامحٍ متهللةٍ:
-نقدر نقول ألف مبارك يا سيدات الحمام والنهاردة إن شاء الله هاخدها أعمل لها تحليل دم وسونار كمان علشان نتأكد.
تهللت أسارير وجوههن قبل أن تلتفت “سكون” إلى شقيقتها وتقول بسعادةٍ غامرةٍ:
-كدا بقى لازم نبلغ تليد ومتأكدة إنه هينزل بعد ما يسمع الخبر فورًا.
في تلك اللحظة صاح “نوح” معترضًا في ثباتٍ:
-لأ.. محدش يبلغ تليد بالخبر دا نهائي.. إنتوا سامعين؟؟
نظرن إليه في استغرابٍ ودهشةٍ قبل أن تتسع ضحكته الماكرة وهو يتجه جالسًا على الأريكة واضعًا قدمًا فوق الأخرى:
-هنلعب معاه شوية يا سيدات الحمام.
رابعة وهي تلوح بذراعها في تبرمٍ:
-يا خويا أيه سيدات الحمام اللي طلعت لنا فيها دي؟! بوريه منك يا نوح بوريه.. هتاخدها علينا ذِلة لسنة قُدام.
نوح وهو يصرح باحتجاجٍ مازحٍ:
-لسنة قُدام؟! دا حتى تقوم الساعة.. أنا خلاص اعتمدتها.
وَميض وهي تقول من بين بكائها:
-إزاي عايزني أخبي عليه حاجة زيّ دي؟!
زم “نوح” شفتيه مُتبرمًا قبل أن ينفخ حانقًا ويقول:
-حد يسكت النواحة دي.. يا ستي مش بقول لك تخبي عليه.. أنا من الآخر عايز أوقع قلبه شوية.. مش عايز رجوعه يكون علشان البيبي.
أردفت “نجلا” بابتسامة ثابتة وهي تستكمل حديثه:
-عايز رجوعه يكون علشان بيحبها؛ فهتقرر تلعب معاه لعبة الغيرة!!
تدخلت “مُهرة” تقول وهي تضرب بكفها على رأسها:
-أه فيقوم هو مطغبق الدنيا على دماغنا ومطلقها الطلقة التانية؟!!!
نوح يصيح معترضًا في غيظٍ:
-ليه هي حِنة شيماء.. إنتِ طالق قبل الفطار وطالق بعد الغدا وطالق بين الوجبات.. هو كورس علاج هو!!!.. لازم يتعلم يمسك لسانه.. الكلمة دي مش بتتقال كل ما ننفعل!
مُهرة تزوي ما بين حاجبيها وتقول بصلابةٍ:
-أنا مش موافقة على اللعبة دي.
التفت إليها ثم رماها بنظرات ساخطة وهتف مغتاظًا:
-كلمة كمان وهطلقك!!!
انفرج فمها بدهشةٍ قبل أن يستكمل مازحًا:
-بهزر يا دكتوغة قلبي يا شُراعة حياتي.
رفعت “رابعة” جانب شفتها العُليا وهي تسأله مستفسرةً في حيرةٍ:
-شُراعة حياتك!!
نوح مبتسمًا بمكرٍ:
-ظابطة زوايايَّ الانحرافية.
خرجت ضحكة مكتومة من فمٍ “مُهرة” قبل أن تتابع “سكون” بفضول شديدٍ:
-إنتَ يا عم المُنحرف.. اخلص وقول لنا الخطة هتمشي إزاي؟!!
عَبس وجهه فور إنهاء عبارتها ثم تابع بثباتٍ وجدية:
-وَميض مش هتبعت له رسايل تاني نهائي، مش هو بردو بيشوف رسايلك ومش بيرد عليها!!
أومأت “وَميض” إيجابًا فابتسم بمكرٍ وأكمل:
-بعد اللي هنعمله.. هو اللي هيبعت رسايل وإنتِ اللي مش هتردي عليه.. بس في مشكلة بتواجهنا دلوقتي!!
سكون بإنصاتٍ ولهفةٍ:
-أيه هي؟؟؟
نوح وهو يتنهد تنهيدة عميقةٍ:
-عمي سليمان.. علشان الخطة تكون محبوكة لازم يشاركنا فيها وطبعًا صعب نضمه للفريق لأنه مش هيوافق على اللي بتعمله.
سكون بابتسامة ثقة:
-ولو خليته يوافق؟! رسينا إنتَ على الحوار كله وسيب موضوع عمي عليا!
أومأ “نوح” بحماس قبل أن يستطرد طرح خطته على مسامعهن، اندهشت “وَميض” من قدرته على حَبك خطة متينة لهذه الدرجة لاستدراج صديقه أملًا في عودته إلى حياته مرة أخرى، اتفقن في النهاية على تنفيذ الخطة بذكاء شديد يفوق ذكاء “تليد” الذي يستطيع شم رائحة الكذب عن بُعد فأوصاهن “نوح” بالتحرز من الوقوع في ثغرات هائفة تُفشل خطتهم!
في هذه اللحظة، جاء الشيخ “سليمان” يمشي على استعجالٍ حينما غاب أثر الجميع بالخارج فظن حدوث أمرًا مُريبًا ليبصرهم يجلسون في صالة شقته يتشاورون فيما بينهم ويبدو أن “نوح” هو مَنْ يترأس الاجتماع؟؟.. تنحنح بخشونةٍ قبل أن تلتفت أبصار الجميع إليه وتصيح “سكون” بنبرة سعيدة للغاية:
-عمي.. وَميض حامل!!
كان يسير صوبهم فاستوقفته جملة “سكون” التي اخترقت ثنايا قلبه فداوت حُزن أيامه السابقة وبعثت السرور على قلبه تأملًا للخير القادم، ترقرقت عيناه بالدموع ثم تحرك سيرًا صوب “وَميض” وجلس بجوارها قبل أن ينظر داخل عينيها الدامعتين ويقول بكلمات منشرحة:
-لو تعرفي إنتِ إزاي طبطبتي على قلبي وزودتي زاده من السعادة وبدلتي حُزنه لفرح.. مهما تخيلتي يا بنتي هيكون قُليل على اللي أنا حاسس بيه دلوقتي.
أسرعت “وَميض” بالارتماء بين ذراعيه فربت على ظهرها واستكمل بصوت مُتحشرجٍ تخلله بوادر بكاء:
-ربنا رايد يصلح ذات بينكم يا بنتي ويزيح الفراق عنكم.. ربنا استجاب دعواتي وتقبل مناجاتي وأنا بدعيه بذرية من صُلبي وصُلب وحيدي قبل ما ياخد ربي أمانته.
وَميض وهي تردد من بين بكائها:
-بعيد الشر عنك يا بابا!!
رابعة بنبرة متأثرة حزينة:
-ربنا يبارك في عُمرك وتشيل أحفادك وأحفاد تليد كمان.
ابتسم “سليمان” ابتسامة طيبة وتابع:
-الموت عُمره ما كان شر.. الموت رحمة من رب العالمين.. بييجي للإنسان علشان يرحمه.. رحمة لمريض مش قادر يتحمل التعب.. رحمة لمُفسد في الدنيا بلغت ذنوبه عنان السماء.. رحمة لصالح زهد نعيم الدنيا وأراد أن يتذوق نعيم الله.. الموت في حقيقته رحمة وكُل بني آدم ذائقيه.. فاجعلنا اللهم من عِبادك الأوابين التوابين.
ابتسم ثم استكمل برضا كبيرٍ وهو يقبل ظاهر وباطن كفه:
-كان مطلبي وأمنيتي الأخيرة من رب القلوب إنه ينعم عليَّا برؤية ذرية لتليد، فاستجاب الحمد لله، ربنا يتم حملك على خير يا بنتي ويرزقكم طفل سليم مُعافى بار بيكم واجعله اللهم ممن يُعلي راية الإسلام ويطبقه.
وَميض وهي تبتسم بهدوءٍ وسكينةٍ:
-اللهم آمين.
أزاح بسرعة دمعة فرَّت من عينه قبل أن تتابع “سكون” بابتسامة هادئة:
-عمي، إحنا محتاجين منك مُساعدة، وصدقني دي كِذبة بيضا علشان نجمع قلوب زوجين من تاني!!
أومأ “سليمان” وهو يتابع بلهجة ثابتة:
-طبعًا.. كُنت على يقين إن هذا التجمع مشكوك به.. بأي خُدعة جئتم هذه المرة؟!
ضحك “نوح” ضحكة عالية قبل أن يشير على نفسه ويقول بثقة كبيرةٍ:
-دي خدعتي وأنا اللي بحرضهم على الرزيلة.
حدق فيه “سليمان” مندهشًا بينما أسرع “نوح” يردف بنبرة ضاحكةً:
-لأ مش الرزيلة اللي جت في دماغك، خلاص إحنا نمسح رزيلة قبل ما اتضرب ونمشيها خدعة.
سليمان يقول مازحًا:
-كويس إنك عارف إني كُنت هضربك يا مُشاكس.
أسرعت “سكون” نحوه ثم احتضنته بودٍ من الخلف وهي تقول برجاءٍ:
-علشان خاطري يا عمو، اسمع لنا المرة دي بس، إحنا عايزين تليد يرجع لنا بالسلامة ويرجع لمراته وطفله، وَميض اتعلمت الدرس وتابت عن التسرع وهو كمان لازم يتعلم التحكم في أعصابه والتسامح، إنتَ بقى اللي هتساعدنا في دا وصدقني دا سعي في الخير مش كِذب!!
تنهد “سليمان” تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن يسأل بفضولٍ:
-وأيه بقى خطتكم؟!!
نوح يتابع بحماسٍ:
-أهداف الخطة هي عودة تليد لمراته قبل رمضان مش لأجل مراته لأجل يعلق الزينة معايا.. أنا مش هعلق الزينة بتاعة المزرعة دي كلها لوحدي يكون في علمك!!
سكون بابتسامة حماسية:
-لسه باقي خمستاشر يوم على رمضان لو خطتنا أتت ثمارها هنلاقيه طابب علينا في خلال أسبوع أو أسبوعين بالكتير.
نوح وهو يشهق مصدومًا:
-أسبوعين يعني أول رمضان.. يعني أنا بردو اللي هعلق الزينة لوحدي.. يا مراري!
مُهرة بابتسامة رقيقة ترد:
-أنا مش هسيبك تعلقها لوحدك بردو!!
نوح بابتسامة مستمتعة يرد:
-شُراعة قلبي!!
مطت “سكون” شفتيها وصاحت بغيظٍ:
-مبدئيًا كدا نوح ومراته يطلعوا برا حالًا علشان نفسي غَمت عليا.
نوح مُضيفًا بضحكة ماكرة:
-أختك تحمل وإنتِ اللي نِفسك تغم عليكِ.. مُنتهى الإخاء والترابط الأُسري.
ضحك الجميع بسعادةٍ قبل أن يصل اتصال هام إلى “نجلا” التي استأذنت بهدوءٍ وتوجهت خارج الشقة للإجابة وما أن جاءها صوته حتى تابعت بقلبٍ نابضٍ:
-صباح الفل يا عيون نجلا.. وَحشتني يا يحيى!!
أردف متجاوبًا مع لهفتها إليه بمثيلها:
-إنتِ كمان وحشاني يا أمي.. أنا خلصت المهمة اللي كانت ورايا وأخدت أسبوع أجازة كمان.. مش عايز أقضيه مع حد تاني غيرك إنتِ وأخواتي!!
تهلل قلبها بفرحةٍ عظيمةٍ قبل أن تتابع بحماسٍ كبيرٍ:
-دا هيكون أحلى أسبوع في عُمري بس صعب اللي بتقوله دا يحصل.
قطب “يحيى” ما بين حاجبيه وتساءل متوجسًا:
-ليه؟!
تنهدت “نجلا” تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن تجيبه:
-علشان عندك أخت مش بتطيق تشوفني وقلبها مش قادر يسامحني.
يحيى يتساءل مرة أخرى في حيرةٍ:
-أكيد تُقصدي يُسر مش الصغنن!!
ابتسمت “نجلا” ابتسامة سعيدة وردت:
-قصدك وَميض.. أما بالنسبة للصغنن فهي صغنن أه بس نينجا، أنا وهي حبة فول وانقسمت.
يحيى يربط على قلبها بكلمات لينة:
-بُكرا تسامح يا أمي لأنك تستاهلي تدوقي السعادة بلمتنا في حُضنك، ربنا جاب لك حقك من الظالم وزرع حُبك في قلوبنا حتى لو ذكرياتنا معاكِ قُليلة بس إرادته إننا نتجمع تاني ويجبر كسرك وقلبك.
دمعت عيناها وهي تقول بصوت مهزوزٍ يتخلله بعض الضعف وقلة الحيلة:
-لو بس وَميض تسامحني وأسمع كلمة ماما منها؟! إنتَ عارف يعني أيه ترجع لحُضني إنتَ وأخواتك؟!.. أنا حاسة إني مالكة الدنيا كلها بين ايديا.. لأول مرة أحس إن ضهري مسنود.. رجوعك لحُضني قواني.. أنا مش لوحدي.. أنا عندي راجل يحميني وياخد حقي من عين الدنيا.
تكلم “يحيى” بوعدٍ وصلابةٍ:
-أوعدك إن مفيش حق ليكِ هيضيع طول ما أنا موجود، اسندي عليَّا وارمي حمولك، أنا عُمري بيكِ ما هميل.
أجهشت باكيةً قبل أن تقول من بين دموعها:
-طيب أنا دلوقتي عايزة أشوفك قُدام عيني وأخدك في حُضني!!!
يحيى بابتسامة هادئة يسأل:
-طيب إنتِ فين وأنا أجي لك؟!!!
تابعت “نجلا” بسرورٍ:
-أنا في مزرعة الشيخ سليمان.. ثواني وهبعت لك اللوكيشن.
يحيى بهدوءٍ:
-تمام.. هقفل معاكِ ودقايق وهكون عندك.
نجلا بفرحةٍ عارمةٍ:
-توصل بالسلامة يا عيني.
•~•~•~•~•~•~•~•
تحرك كُلًا من “كاسب” و “عُمر” بين الغرف بسعادةٍ كبيرةٍ يتفقدون كُل زاوية ورُكن ببيتهما الجديد، سار “كاسب” يدفع كرس الأخير منبهران بكل غرفة يدخلانها قبل أن يتابع “عُمر” بحماسٍ وإعجابٍ:
-لأ بص بقى.. الأوضة دي هتبقى أوضتي.
ضحك “كاسب” ملء شدقيه قبل أن يقول:
-دي تالت أوضة ندخلها وتقول إنها بتاعتك.. استقر على واحدة مُحددة علشان أختار أنا كمان!!
ابتسم “عُمر” ابتسامة عريضة قبل أن يقول بحسمٍ:
-خلاص.. أنا استقريت على دي.. هواها بحري وشباكها باصص على الزراعة مش الطريق والدوشة.
حك “كاسب” جانب رأسه بطرف إصبعه وهو يفكر في حيرةٍ:
-تمام.. ممكن أخد الأوضة اللي بتطل على الطريق.. أنا بحب الدوشة والونس.
عُمر مُضيفًا بحماسٍ:
-كدا فاضل أوضة كمان والريسبشن.
كاسب وهو يومىء بثباتٍ ثم يتابع بلهجة شديدة:
-لا التالتة دي هتبقى أوضة الفيران.
ضيق “عُمر” ما بين حاجبيه وأردف مستفسرًا في توجسٍ:
-اشرحها لي دي!!!
كاسب بابتسامة ماكرة:
-ودي محتاجة شرح.. الأوضة اللي هحبس فيها أختك أم راس تخين لحد ما تتعدل وتاخد قرار.. يا إما تشاركني أوضتي بما يرضي الله وعلى سنة الله ورسوله أو أعتبرها أسيرة حرب وأحبسها مع حبة فيران يعلموها الأدب وفي الآخر هتستسلم لي بردو.
تنحنح “عُمر” بقليل من التوترٍ قبل أن يقول:
-نسيت أقول لك قرار سكون الجديد!.
رفع “كاسب” أحد حاجبيه ثم أردف بثباتٍ:
-مبدئيًا كدا قراراتها دي تبلهم وتشرب ميتهم تلت مرات في اليوم.. بس أحب أسمع!!
حك “عُمر” جبينه قبل أن يقول بنبرة سادرة يكسوها الحُزن:
-سكون قررت تقبل عرض الجواز من زين وهيروح لعمي سليمان علشان يطلب إيديها وبعد كتب الكتاب هتسافر معاه.
كور “كاسب” قبضة يده بقوةٍ ثم نفخ بانفعالٍ ناقمٍ وردد:
-دي دماغها راحت منها خالص يا عُمر.. صبرًا.. أنا هفوقها من غيبوبتها دي بطريقتي علشان التكة اللي عندي خلصت دلوقتي حالًا.
عمر وهو يبتسم ابتسامة هادئة سعيدًا بهيام خاله بشقيقته غاضبًا من عِنادها ولكنه يرى تخبطها النفسي فيلتمس الأعذار لها:
-براحة عليها، زيّ ما بتحبها هي كمان بتحبك والعِند هيروح مع الوقت.
كاسب هاتفًا بغيظٍ:
-العِند عندها معشش في دماغها ما بيروحش.
أخذ نفسًا عميقًا لتهدئه نفسه قبل أن يزفر باختناقٍ ويستكمل:
-بس أنا هكلم الشيخ سليمان يلاقي لي حل معاها!
•~•~•~•~•~•~•~•~•
توقف بسيارته أمام بوابة مزرعة السروجي كما وصفتها له “نجلا” ، ترجل من السيارة بهدوءٍ قبل أن يغلق آخر زرار في بذلته العسكرية وهو يجوب المكان بعينيه، زفر باستعدادٍ متلهفٍ لرؤية شقيقاته الصِغار كما وعدته “نجلا” أن تفعل بعد عودته من مهمة تخص عمله وبعد استقرار الأوضاع لدي كلتا شقيقاته، صفق الباب بصلابةٍ قبل أن يتناول هاتفه من جيب بنطاله ويتصل بها في الحال ثم لحظات وسمع صوتها الدافئ يردد بانشراحٍ:
-إنتَ وِصلت؟!!
أجابها بصوت رخيمٍ ثابتٍ:
-قُدام باب المزرعة.
خفق قلبها بفرح كبير لتهرع مُسرعةً صوب البوابة ثم تقول بلهجة ثابتة أثناء تحدثها إلى الحارس:
-افتح الباب بسرعة.
أومأ الحارس مُنصاعًا ومنفذًا لأوامرها، وقفت في مكانها تفرك كفيها بحماسٍ بينما تحرك “يحيى” البوابة ما أن فُتحت له ثم تجاوزها للداخل ليُبصر “نجلا” تنتظر ظهوره بعينين تضويان بهجة، اتسعت ضحكته الجذابة للغاية وهو يسعى بخطواته نحوها فتسعى بلهفةٍ إليه أيضًا حتى فرد ذراعيه أمامها فهرولت ترتمي بينهما وهي تصيح باشتياقٍ جارفٍ:
-حمد لله على سلامتك يا يحيى باشا.
قام بعناقها بحبٍ كبيرٍ ثم قبل جبينها وهو يتابع بثباتٍ:
-أنا باشا على أي حد إلا إنتِ يا ست الكُل.. أنا الواد يحيى ابنك.
نجلا وهي تضم حصريه أكثر وتردد بنبرة متأثرة يخالطها بوادر بكاء:
-قطع لِسان اللي يقول عليك واد.. إنتَ ابني حبيبي وتاج راسي.
أسرعت بتقبيل كتفه فور إنهاء كلامها فالتقط “يحيى” كفها وقبله بودٍ ومحبةٍ قائلًا:
-تعرفي إنك وَحشتيني الأيام اللي فاتت دي أكتر من السنين اللي عدت.. أصل بمجرد ما شوفتك أول مرة في النيابة وأنا بقيت عايز كل يوم أشوفك.. أصحى على وِشك القمر دا ويا سلام بقى لو أكلت من إيدك.. واحشني حياة الابن وأمه دي.
عَبست ملامحها قليلًا ثم أردفت بنبرة حزينة:
-ليه هو حافظ مجابلكش أُم؟!
أومأ سلبًا ثم رد:
-لأ.. أبويا ما اتجوزش تاني.. باكل من ايد دادة شوقية طول عمري.. ست زيّ الفل.. بتسيح لي الزبدة من صغري وتحطها لي في مج على إنها عصير وتديني شاليمو علشان أشفط لحد ما جابت لي انسداد في الشرايين.
انفجرت ضحكة “نجلا” من بين بكاءها قبل أن تبتعد عنه بهدوءٍ ثم تكفكف دموعها وابتسامة هادئة تظهر على شفتيها وهي تقول:
-لا بس الزبدة البلدي سرت ومرت ما شاء الله، زيّ القمر ربنا يحفظك.
يحيى وهو يبتسم بحنوٍ:
-قمر أيه وإنتِ موجودة.. بصي بقى.. أنا عايز أشوف البنات دلوقتي بجد؟؟
اتسعت ابتسامة عريضة على شفتيها وهي تقول بتذكرٍ وابتهاجٍ:
-نسيت أقول لك إنك هتبقى خال!!!
حدق في عينيها بدهشةٍ فتابعت بحماسٍ:
-وأنا هبقى تيتا.. أنا مش مستوعبة والله.. بس وَميض حامل.
تهللت أسارير وجهه ثم تابع بحسمٍ:
-عايز أشوفها وأبارك لها بنفسي.. أنا مقدر الظروف اللي هم فيها.. بس أعتقد إن وجودي ممكن يفرحهم!!
أومأ “نجلا” إيماءات متتالية قبل أن تتابع بحسمٍ وهي تتحرك من أمامه:
-لحظة وراجعة.
أومأ متفهمًا ارتباكها حول ظهوره فجأة في حياتهما وردود أفعالهما، جاب المزرعة بعينيه يتفحص معالمها المريحة وتفاصيلها الذكية التي تشبه بلدتهم القديمة حتى شرد مسحورًا في بهاء المكان شاعرًا بالحنين إلى طفولته التي لا يتذكر منها سوى بكاء أمه ضعفًا ونهنهة شقيقته الصُغرى جوعًا والقناة التي شرب ماءها حتى كاد يفارق الحياة، حمد الله أنه كان واعيًا بآلام والدته وكفاحها لبقائهما على قيد الحياة ورغم الذنب الفادح الذي اقترفه والده في حقهم إلا أنه عوضه كثيرًا عن هذه الأخطاء ودعم نفسه المشتتة وظل يتكلم عن والدته بالخير ويزرع حبها داخله حتى صار رجلًا لا تفارق ملامح والدته الشبابية خاطره ولا يتذكر لها سوى كفاحها من أجل بقائه ودفء كفيها الحانيين لحظة مداعبة كفه.
-سكون، ممكن تيجي معايا لحظة إنتِ ووَميض، موضوع ضروري!!
أردفت “نجلا” في توترٍ وهي تقف على عتبة باب الشقة ونبرتها تبدو مرتبكةً للغاية، نظرت “سكون” تجاه شقيقتها ثم أعادت النظر إلى والدتها ورددت بقلقٍ:
-ماما إنتِ كويسة؟؟!
افتر ثغر “نجلا” عن ابتسامة عريضة من فرط الحماس ثم أومأت إيجابًا وهي تردد بنبرة خافتةٍ:
-كويسة يا قلبي.. في حاجة مهما برا لازم تشوفوها!!
زمت “وَميض” شفتيها باستغرابٍ بينما هبت “سكون” واقفةً في مكانها قبل أن تمد ذراعها نحو شقيقتها تحثها على التشبث بها لتضع “وَميض” كفها بين كف شقيقتها وتنهض على مضضٍ في استجابة فاترة لرغبة “نجلا” التي تهللت أسارير وجهها بقدومهما لتهرع مُسرعةً خارج الشقة قبل أن تلتفت إليهما مرة أخرى وتقول:
-في حاجة كانت نقصانا علشان نكون كاملين!
انتظرت خروجهما عبر ممر البيت إلى المزرعة ثم بدأت تراقب نظراتهما المتحيرة من كلماتها التي لم تُفهم بالنسبة لهما لتستكمل بتلعثمٍ وهي تفرك كفيها معًا:
-في شخص نفسه يشوفكم وإنتوا كمان كان نفسكم تشوفوه!!
ابتسمت “سكون” بهدوءٍ قبل أن تردف بحيرةٍ:
-ماما، إحنا بجد مش فاهمين حاجة!!
ابتعدت من أمامهما بعد أن كانت تحجب رؤيتهما له ثم توجهت بنظراتها نحو الواقف بعيدًا وهي تقول بصوت هائمٍ مُتحشرجٍ:
-عارفين مين دا؟!!
نبض قلبه بقوةٍ ما أن أبصرهما تقفان أمامه تبدوان سيدتين كبيرتين بملامحٍ أُنثوية فاتنة، متى كبرتا هكذا؟ لقد كان بالأمس يهدهد شقيقته ويربت على ظهرها كي تنام وبالأمس أيضًا كانت تشكو أمه إليه وَهن الحمل وقسوته على جسدها الضعيف، بالأمس ذهبت أمه لإنجاب صغيرة له، عادت أمه من دون الصغيرة فمتى كبرتا هكذا؟!!.. لاحت ابتسامة واسعة على شفتيه وهو يُعمق نظراته بهما.
لم تكُن “وَميض” تهتم كثيرًا حول ما تريد “نجلا” إخبارهما به ولكنها ما أن رأته أمام عينيها وسمعت كلمات “نجلا” الموحية والمثيرة للشكوك حتى بدأت تحدق فيه بقوةٍ ورغمًا عنها تقودها قدماها نحوه بينما سارت “سكون” بجوارها وهي تتساءل بريبةٍ:
-مين؟؟؟
عضت “نجلا” شفتيها من شدة التوتر شاعرةً بعدم القدرة على التفوه أو الإجابة على سؤال ابنتها، بينما رفع عنها “يحيى” عناء الرد وهو يقول بلهجة لينة:
-أنا يحيى.. أخوكم!!
توقفت “وَميض” عن السير إليه وكذلك تسمرت “سكون” في مكانها تطالعانه بدهشة كبيرةٍ قبل أن تردف “نجلا” منخرطةً في البكاء:
-يحيى طلع عايش يا سكون.. ربنا أراد يكمل فرحتي بيكم وما يسيبهاش ناقصة بغيابه.
اندفع “يحيى” صوبهما قبل أن يتوجه بعينيه إلى شقيقته الأصغر منه ثم يقف أمامها مُباشرة مرددًا باشتياقٍ ولوعةٍ:
-يُسر!!
انهمرت دموعها دون سابق إنذار وهي تحدق فيه بعدم تصديق، ارتفعت شهقاتها المتهدجة قبل أن يحاصر وجهها بكفيه ثم يقول بحُزن دفينٍ:
-العياط دا علشان وَحشتك زيّ ما وَحشتيني؟!!
أسرع على الفور بجذبها إلى أحضانه فبقى ذراعيها مرتخيين في وَهن وصوت بكائها يعلو بحُرقة وبعد لحظات بدأت تعي وجود شقيقها الذي افتقدته طيلة حياتها ماثلًا أمامها الآن وكأنما بعثه الله إليها حتى يسند ميل قامتها المنهكة، أسرعت بلهفةٍ تشد على ظهره وتضمه إليها بقوةٍ فتهللت أسارير وجهه فرحًا وهو يهمس بسعادةٍ بجوار أذنها:
-كل اللي فات من حياتي كان سعي مني علشان اللحظة دي.
التفت ببصره نحو “سكون” ثم تابع بابتسامة حانية:
-وَحشتيني يا صغنن!!
اغرورقت عينا “سكون” بالدموع وهي تبتسم في خفوتٍ وتأثرٍ قبل أن يشير لها بكفه يحثها على الاقتراب منهما، بدت وكأنها تنتظر دعوته لها بشدة فاندفعت ترتمي على ذراعه الآخر وهي تضم جسد شقيقتها بذراعها مشكلين حلقة دائرية متكاملة، انسكبت دموعهم جميعًا في اشتياقٍ وألمٍ فرضه الفراق عليهم دون رغبتهم، تمنوا لو عاشوا طفولتهم معًا وصِباهم وشبابهم دون أن يفرق الظلم شتاتهم فيكبرون أمام أعين بعض ويتآلفون بإخاء واتحاد، انهارت “نجلا” باكيةً وهي تحتضن ابنها من الخلف وتضع رأسها على ظهره لتشعر في هذه اللحظة بأنها لم تلقي برأسها على ظهره بل ألقت على عاتقه همومها بأكملها واثقةً بأنه أهل لذلك.
“على الجانب الآخر”.
تنهد الشيخ سليمان باستسلامٍ أمام إصرارهم جميعًا وبالأخص “نوح” الذي يود أن يُعلم صديقه درسًا عامًا حول الصمود وقت الشدة وعدم الانسحاب كلما اشتد عليه الألم وانهارت حصونه، شعر “سليمان” أن ابنه استحق هذه المراوغة البسيطة جزاءً على وداعه له وذهابه دون رغبته وزوجته التي سهرت لياليها تبكي بحُرقة وتستجدي الجميع أن يتوسطون إليها عنده كي يرأف بحال قلبها المكلوم على فراقه؛ شعر أنه لا بأس ببعض المراوغة التي تجعل ابنه يهرع إلى بيته وسكنه مرة أخرى.
التقط “نوح” هاتف الشيخ سليمان ثم ضغط على أيقونة الاتصال صوتًا وصورةً بابنه من خلال أحد مواقع التواصل الاجتماعي، ثم حثه على الذهاب إلى غرفته كي يكون على طبيعته وراحته أثناء الكلام ففعل الأخير منتظرًا رد ابنه وما هي إلا ثوانٍ حتى ظهرت صورة ابنه أمامه يقول باشتياقٍ وملامةٍ:
-بقى كدا يا بويا مش عايز ترد عليَّا!!
تجهم وجه “سليمان” عَبُوسًا قبل أن يتابع بلهجة شديدة:
-وماكنش في نيتي الرد عليك يا وَلدي لولا إن جد في الأمور جديد.
قطب “تليد” ما بين حاجبيه ثم تساءل متلهفًا مرتابًا:
-وَميض كويسة؟!!
دخل الشيخ غرفته وصفق الباب خلفه ثم تقدم للأمام حتى جلس على الأريكة وبعد ذلك تنهد طويلًا قبل أن يستكمل بحزمٍ وجديةٍ:
-ومالك بتسأل عنها بقلق كدا ليه؟! مش إنتَ تجاوزتها ومشيت يا بني واختارت حياتك من غيرها!!
مسح “تليد” على جبينه قبل أن يردد متوسلًا إلى والدته:
-بالله عليك يا بويا افهمني.. أنا اتكسرت بسببها ومش عارف أتجاوز الغضب اللي جوايا منها.
أومأ “سليمان” بهدوءٍ ثم تابع بلهجة ثابتة:
-ارتاح واطمن يا بني لأنها هتعمل اللي إنتَ عايزه وتخرج من حياتك للأبد.
سرت رجفة شديدة في قلبه وهو يستمع إلى كلمات والده الغامضة، ابتلع ريقه على مهلٍ قبل أن يسأل متوجسًا في لهفةٍ:
-مش فاهم؟؟ هتخرج من حياتي للأبد إزاي؟!!
تجهمت معالم وجه الشيخ وهو يرد بثباتٍ:
-وَميض طالبة الطلاق يا بني وأنا شجعتها على دا.. هو مش إنتَ قبل السفر بيوم قولت لي لو عازت تنفصل في أي لحظة أبلغك وتنفذ لها رغبتها.. في واحد جدع في حياتها.. جه كلمني علشان يفهم موقفها من زواجكم وقولت له إن الحياة ما بينكم مستحيلة وقريب هيحصل الطلاق واتفق معايا إن بعد شهور العدة هيعقد قرانه عليها.
داهم غاضب عارم صفحة وجهه بأكملها وهو يرد بانفعالٍ مستعرٍ داخل صدره:
-جدع أيه اللي في حياتها؟ وشهور عِدة أيه دي؟! أنا مطلقتش وَميض أصلًا ومش عايز أطلقها، وبعدين إزاي تدخل راجل تاني حياتها وهي على ذمتي وإنتَ إزاي يا بويا وافقت بدا أصلًا!!
صاح “سليمان” محتدًا بالغضب في لهجة شديدة:
-البنت مش غلطانة ومالهاش كلام معاه أبدًا، شاب ابن حلال من طرف والدتها عرف بخلافكم فطلب كلمة مني وقرر ينتظر طلاقكم وشهور عدتها بدون التواصل معاها نهائيًا، أنا فهمته إنه لا يصح الكلام عن ست متزوجة أو حتى مطلقة بدون مرور شعور عِدتها وهو تفهم كلامي واحترمه وحاليًا مش بييجي إلا لزيارتي فقط.
ضغط “تليد” على أسنانه قبل أن يصيح مُنفعلًا بصوت مخنوقٍ رخيمٍ:
-يا بويا إنتَ مُقتنع باللي بتقوله؟!!!
صاح “سليمان” مغتاظًا بلهجة شديدة:
-تليد إنتَ اللي قررت تمشي وتلغي دورك في حياتها وكمان بلغتني بتخليك عنها وقت ما تحب هي، هي تحت أمرك عايزها تقعد تبكي على الأطلال وهي في انتظارك والعُمر ياخد شبابها منها؟!.. أنا نفذت كلامك اللي إنتَ قولته بملء إرادتك ومراتك عايزة تطلق علشان تعيش حياتها اللي مش هتقف عليك.
سكت هنيهة ثم انفعل بشكلٍ أكبرٍ يبدي ضيقًا حقيقيًا منه:
-مراتك بنت مُحترمة وأصيلة.. زمن الجواري ولى يا بني.. مش قررت بدون إرادتي وإرادتها إنك تبعد؟؟ أتمنى تنبسط في حياتك الجديدة وإحنا بعيد عنك.. هرجع أكلمك تاني في وجودها علشان النطق بالطلاق.. مع السلامة يابني.
كان “تليد” محدقًا إلى الشاشة في صدمةٍ وعينين حمراوين وقبل أن يتسنى له فُرصة الرد قام أباه بإغلاق المكالمة وترك مرجل غضبه يمور ويفور في قلبه وأنفاسه المضطربة في عدم استيعابٍ وتيه.
جاشت مراجلهُ واشتعل غضبه حتى بلغ قلبه حنجرته من شدة الضيق، بدأ يضرب جبينه بقبضة يده وفورًا التقط هاتفه وأجرى اتصالًا بصديقه على أحر من الجمر بالنسبة له، صاح “نوح” بظفرٍ وابتسامة ماكرة حينما ورده اتصال من الأخير فهرع إلى غرفته ثم تظاهر بالثبات مجيبًا في برودٍ:
-أيوة يا تليد!!
جاءه صوت الأخير يهيج ثائرًا في اختناقٍ:
-أنا عايز أفهم أيه اللي بيحصل عندك بالظبط، يعني أيه مراتي تعرف واحد وهي لسه على ذمتي!
تنحنح “نوح” متظاهرًا بالتوترٍ قبل أن يقول بثباتٍ أكبر يحث الأخير على الهدوء والتريث:
-اهدى بس علشان نعرف نتكلم.. الشاب يبقى قريب وَميض.. قريب نجلا يعني.. نجلا كانت اتكلمت معاه عن الخلاف اللي بينك وبين وَميض وإنكم في حكم المنفصلين وهو شاف وَميض وعجبته فكلما عمي سليمان ونجلا إن الانفصال لما يتم هيستنى شهور عِدتها تخلص ويكتب كتابه عليها.
قدح الشرر من عينيه وهو يصيح محتدًا بالغضب:
-إنتوا ناويين تجننوني؟!.. نوح.. هي هبت منك إنتَ كمان.. قسمًا بالله هنزل أطربق الدنيا على دماغكم واحد واحد.
ضيق “نوح” ما بين عينيه قبل أن يردف بنبرة متعجبة متظاهرًا بالغيظٍ:
-يا بني مش دي كانت رغبتك؟! وإنتَ مسافر على أساس إنك مش راجع تاني وهي برا حياتك؟! طلقها وخليها تشوف حياتها وإنتَ شوف حياتك كمان وخلصت الحكاية على كدا.
تليد وهو يصيح منفجرًا في اختناقٍ:
-مش هطلق يا نوح.. مش هطلقها.
نوح وهو ينفخ متظاهرًا بالضيق:
-براحتك.. وَميض ناوية ترفع عليك قضية خُلع لو مطلقتهاش بالتفاهم وأنا شايف إنكم زيّ ما دخلتوا بالمعروف تخرجوا بيه!!!
سكت هنيهة ثم استكمل يستفزه أكثر:
-بصراحة الشاب ميترفضش.. أعتقد إنه بسهولة هينسيها اسمك واليوم اللي عرفتك فيه.. خسارة يا تليد خسرتها.
تليد وهو يضغط على أسنانه مُضيفًا في حنقٍ:
-خسرتها إزاي يا حبيبي وهي لسه على ذمتي!!
نوح وهو يضيف بخفوتٍ:
-حاسس إن وَميض ميالة له وبدأت تحـ…..
أسرع تليد بمقاطعته وهو يردف بلهجة صارمةٍ:
-اخرس يا عم.. إنتوا عالم هربانة منكم وهتجننوني معاكم.
استطاع “نوح” بمعجزة أن يمنع انفجار ضحكة مكبوتة من بين شفتيه فسعل مسيطرًا على الوضع ثم تنحنح بثباتٍ وقال:
-تليد.. قرر إن عايز أيه بالظبط وناوي على أيه؟! ولو عايز تكمل عندك متقفش قدام حريتها!!
•~•~•~•~•~•~•~•
“بعد مرور أسبوع”.
تمددت “وَميض” بجسدها على الأريكة القابعة بصالة شقتها في إعياءٍ أذبل ملامحها بعد أن طلب منها “نوح” الراحة التامة ووصف لها بعض الأدوية التي تقوي حملها المهدد نتيجة لبنية جسدها الهذيل وبعض المضاعفات المناعية التي تتعرض لها، يحاول زوجها منذ أسبوعٍ التواصل معها ولكنها تتجاهل اتصالاته ورسائله مرغمةً على هذا لتنفيذ خطة الأخير التي ستسرع من عودة زوجها إليها، لم يتوقف عن الاتصال بوالده وصديقه وهي والجميع يتجاهلون عمدًا الرد عليه أو إعطائه أية تفاصيل عنها.
جلست “مُهرة” على طرف الأريكة بجوار الأخيرة ثم نبشت كيس الأدوية للحظات قبل أن تلتقط شريط من الأقراص ثم تتابع وهي تلتقط معه كوب الماء:
-الفوليك أسيد دا مينفعش يتنسي وإلا نوح يقتلني فيها.
اِفتر ثغر “وَميض” عن ابتسامة فاترة وهي تفتح كفها فتتناول القرص منها ثم تلقيه في فمها وترتشف الماء من بعده، تحولت “مهرة” ببصرها إلى الكيس تنبشه بأناملها مرة أخرى قبل أن تتابع بابتسامة أوسع:
-البغونتوجيست دا بقى مينفعش يتنسي أوس اتنين علشان الكتكوت يثبت.
تناولت منها القرص الثاني وتجرعته بالماء قبل أن تنفخ بإنهاك شديدٍ:
-أنا تعبت من البرشام والحُقن.
ضربت “مُهرة” جبينها وهي تتابع بتذكرٍ:
-صحيح دا في حُقنة الساعة 8 يعني كمان ساعة، ربنا يستر وما أنساش، بصي يا وَميض لازم تفهمي إن حملك صعب شوية وكمان النفسية مزودة الموضوع صعوبة ومأزماه، حاولي تكوني أحسن علشان جنينك!!
في هذه اللحظة، جاءت “سكون” تحمل صينية صغيرة بين يدها وهي تقول بهدوءٍ:
-الأكل وِصل علشان نغذي الكتكوت.
ابتسمت “وَميض” ابتسامة هادئة قبل أن تتابع بشفاه مذمومة:
-ليه كلكم بتقولوا كتكوت ما يمكن كتكوتة!!
تحركت “مهرة” على الفور وجلست “سكون” مكانها والتي تابعت بابتسامة ودودةٍ:
-بنت أو ولد.. إحنا راضيين الأهم ييجي علشان يدي لحياتنا طعم ويلون الأبيض والأسود اللي إحنا عايشين فيه دا.
أمسكت “سكون” بالطبق جيدًا ثم وضعت الملعقة داخله وملأتها بالشوربة وقربت الملعقة من فم شقيقتها مرددةً بهدوءٍ:
-صحيح يا مُهرة.. جوزك مستنيكِ تحت مع الشباب علشان نعلق الزينة والنهاردة إنتِ استراحة.. أنا وماما وشروق هنبات مع وَميض النهاردة.
رمقتها “وَميض” بضيق من طرف عينها فتنهدت الأخيرة قبل أن تتابع بهدوءٍ وهي تضع الملعقة داخل الطبق وتداعب وِجنة شقيقتها:
-متكشريش بقى علشان خاطري؟! والله بتكون قلقانة عليكِ وعلى البيبي وطلبت تكون جنبك النهاردة.
تنهدت “وَميض” بإنهاكٍ قبل أن تومىء موافقةً ثم بدأت تتناول طعامها في صمتٍ، هبَّت “مُهرة” من مكانها وقبل أن تغادر تساءلت مندهشة:
-إنتِ مش هتشاغكينا في تعليق الزينة يا سكون؟؟
سكون وهي تمط شفتيها بضيقٍ وترد:
-كان نفسي أوي بس كاسب موجود.
أومأت “مُهرة” وغادرت دون أن تُعلق بينما تابعت “وَميض” بابتسامة هادئة:
-كاسب راجل وجدع.. إنتِ مش واخدة بالك من حُبنا كُلنا له؟!.. كفاية عُمر بيحبه.. دا كفيل يخليكِ تحبيه من غير تفكير.. إنتِ أصلًا ما تقدريش تكوني مع واحد غيره واللي بتعمليه مع زين دا مش عادل لأن عمره ما هيوصل في علاقته معاكِ لأكتر من علاقة ملهاش ملامح مشاعرها من طرف واحد.. ارحمي كاسب علشان خاطري.. صدقيني شخص زيّ كاسب لو فاض بيه فعلى قد ما حب على قد ما هيتخلى.. مستعدة تقفليه منك وتخسريه للأبد!.. لو مستعدة كملي في اللي إنتِ بتعمليه.
خفق قلبها بلوعةٍ من مجرد التفكير في غيابه تمامًا من حياتها، أشاحت بعينيها بعيدًا عن نظرات شقيقتها الثاقبة بها، في هذه اللحظة صدح رنين هاتفها برقم “زين” لتردف “وَميض” بثباتٍ:
-ودلوقتي تردي عليه وتنهي المهزلة دي، في قلب بيحبك أكتر منه، يلا شوفي هتعملي أيه وأنا هنام شوية.
أومأت “سكون” وهي تنهض من مكانها ثم تلقي الغطاء على شقيقتها قبل أن تتجه صوب باب الشقة وهي ترد بهدوءٍ:
-أيوة يا زين.. إنتَ قدام باب المزرعة؟!!.. تمام ثواني وهكون عندك.
وأثناء هبوطها الدرج اصطدمت بجسد والدتها التي ضيقت عينيها وهي تقول بقلقٍ:
-في حاجة حصلت مع وَميض!!
أومأت “سكون” سلبًا وهي ترد بابتسامة مطمئنة هادئة:
-وَميض كويسة أوي.. أنا بس هعمل مكالمة وراجعة.
نجلا وهي تتنهد ثم تقول بحيرةٍ:
-تليد مش مبطل رن عليَّا ولمَّا رديت عليه بيتخانق معايا علشان فاكرني جايبة لها عريس وأنا روحت مطينة الدنيا وباعتة له صورتها مع يحيى بطلب من نوح، نوح دا هيخليه يلتهب ويهيج علينا كلنا.
انطلقت ضحكة عالية من فمٍ “سكون” قبل أن تتابع باستمتاعٍ:
-خليه يعرف إن الله حق.. أنا لحظة وجاية.
أومأت “نجلا” ثم تحركت تصعد الدرج بخطوات مترددة خوفًا أن تعكر صفو ابنتها إن رأتها؛ فالأجواء بينهما لم تصفى بعد، صعدت الدرج ثم وصلت إلى الشقة لتبصر “وَميض” نائمة على الأريكة، تنهدت تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن تسير بخطوات هادئة صوبها وما أن اقتربت منها حتى مالت عليها وقبلت وِجنتها ثم جبينها برقةٍ وحنوٍ قبل أن يقطع تأملها لابنتها صوت رنين هاتفها ليتضح أن المُتصل هو تليد؛ فأسرعت بالإجابة عليه وهي تقول بخفوتٍ:
-متصل علشان تكمل خناق ولا أيه يا تليد؟؟؟
جاءها صوته يقول بغيظٍ شديدٍ:
-يعني مش شايفة نفسك غلطانة؟!!.. أنا حجزت التذكرة وجاي مصر كمان يومين.. عايز أكلم مراتي لو بتشوفيها أو بتتواصلي معاها بلغيها إني عايز أكلمها.
ابتسمت “نجلا” ابتسامة مُتشفية قبل أن تتابع ببرودٍ:
-أنا بردو اللي غلطانة.. إنتَ فاكرني هصقف لك لمَّا تكسر قلب بنتي وتعدي عليه وتمشي؟! ملهاش سند ولا ضهر يحميها؟!.. زعلها وتعبها هدوني وقسموا قلبي نصين.. إنتَ اللي اختارت يا تليد.
سكتت هنيهة وهي تستمع إلى زفرات حارقة تخرج من صدره قبل أن تستكمل من جديد:
-على فكرة أنا واقفة دلوقتي قدام مراتك وهي نايمة حاليًا لمَّا تصحى هقول لها ترد عليك.
ضربته لهفةٍ عارمةٍ ما أن جاءت سيرتها وشعر بغيرة شديدةٍ من عدم تمكنه من رؤيتها هو أيضًا، فتنحنح بحرجٍ لم يردعه عن الإفصاح عما يختلج صدره:
-أنا عايز أشوفها.. هرن عليكِ فيديو.. ماشي؟؟
ابتسمت ابتسامة مكتومة في نفسها قبل أن ترد موافقةً على مضضٍ:
-ماشي.. رن.
أسرع بإجراء مكالمة فيديو بها فأجابت وهي تنظر إليه لتجده ينظر إليها بعينين حمراوين يكسوهما الحُزن ودون أن تنبس ببنت شفةٍ وجهت الكاميرا باتجاه “وَميض” النائمة، دق قلبه دقات متتالية ومتسارعة كأنه يهرول في سباق وسط الخيول، أصابته وَخزة قاسية بمنتصف قلبه وهو يطالع ملامحها الحسناء باشتياقٍ ولوعةٍ قبل أن يقول بنبرة مهزومةٍ أمام سكونها:
-هي ليه طول الوقت نايمة!!
أسرعت “نجلا” بتحويل الكاميرا إليه قبل أن يستخدم ذكائه ويكتشف لعبتهم، تنحنحت “نجلا” بثباتٍ قبل أن تتحرك خارج الشقة وهي تقول بحزمٍ:
-عندها شوية برد في معدتها!!
حاولت “نجلا” أن ترمي له طرف الخيط كي يتمسك به ويستنتج مما تعاني زوجته في الآونة الأخيرة حسبما يسمع عن أحوالها، أسرعت بغلق الباب خلفها ثم استأذنته بإنهاء المكالمة، فتحت “وَميض” عينيها بسرعةٍ وهي تلتقط أنفاسها التي أوشكت أن تخنقها؛ لم تكن نائمة كل ذلك الوقت حتى أن صوته ألهب لهفتها وحاجتها إليه، وبسرعة وضعت يدها على قلبها تحجم من اضطرابه الهائج حيال سماع نبرة صوته فقط، إذن ماذا سيفعل ما أن يقف أمامها بعد يومين؟؟؟؟
يتبع
التعليقات