الفصل الثامن والخمسون]]
رواية
•~•~•~•~•~•~•~•~•
خفق قلبها هلعًا حينما أبصرتها تلتقط الفتى وترميه بالقناة ثم تتبع الفتاة به، شهقت شهقة مصدومة وهي تضرب صدرها بكفها أثناء تبادلها نظرات مشدوهة مع ابنها المراهق الذي تسمر في مكانه تمامًا لتتابع والدته بعويلٍ خافتٍ:
-يا مِيلة بختك يا خويا على دي جوازة، مرات خالك اتجننت ورمت ضناها في القناة!!
أسرعت تلطم وِجنتيها ومازالت واقفةً في مكانها فتتحرك عيناها على القناة تارة وعلى “نجلا” المجذوب عقلها تارة أخرى، كانت تقف وابنها متوارية على الطرف الثاني من الجسر الذي يحتاج إلى دقائق طويلة من الجري للوصول إليها، وما هي إلا لحظات حتى رأت “نجلا” تهرول مبتعدةً لتُقرر أن تعدو وابنها صوب الطرف الآخر من القناة لنجدة الصِغار تدعو أن تنقضي المسافة بسرعة حتى تلحق بهما، نظرت حولها يمينًا ويسارًا علها تجد سيارة أو أية وسيلة مواصلات أخر تقلها للطرف الآخر من القناة في وقت قصير ولكنهما لم تجد فظل يعدو ابنها وتعدو خلفه حتى وَصلا إلى المكان الذي كانت تقف به “نجلا” قفز الشاب في القناة دون ترددٍ يسبح في كل اتجاه باحثًا عنهما ليقرر أن يغطس إلى القاع عله يلمح طرف لهما، مرَّت دقائق كثيرة حتى وجدت هي ابنها يخرج من الحافة الأخرى حاملًا ابن أخيه بين ذراعيه، نيمه “خليل” على الأرض وبدأ يضغط صدره بقوةٍ أكثر من مرةٍ حتى لفظ “يحيى” ما شرب من ماء خارج فمه وقد أُعيدت إليه أنفاسه من جديدٍ.
صرخت الأم بأعلى صوت لها حتى يصله صوتها تتساءل متوجسةً:
-والبت يا خليل!!!
أومأ متأسفًا في حُزن وصاح بصوت مرتفعٍ:
-مش موجودة.
عادت بالصغير إلى بيت أمه ولكنها لم تجد أثرًا لها لتُقرر التواصل مع أخيها وإخباره بما أصاب زوجته وأطفاله واختفاء صغيرته الرضيعة التي ابتلعتها القناة، بكى نادمًا مكلومًا حينما أعماه الغضب عن رؤية ضعف زوجته وحاجة أطفاله إليه، لام نفسه وحملها نتيجة ما وصلت إليه الأمور لأنه لو كان احتوى زوجته حينما توسلت إليه أن يصدقها وينكر تلك الشائعات عنها ما كانت وصلت الأحداث إلى هنا لقد توهم خيانتها وكان أصمًا لا يسمع إلا صوت كبريائه الذي ضيع كل شيءٍ من بين يديه.
بعدها بأيام شاع في البلدة خبر زج “نجلا” داخل إحدى مستشفيات الأمراض النفسية العقلية ليُقرر “حافظ” استدعاء ابنه إليه خارج البلد حتى يعيش معه نُصب أعينه متكفلًا بتعليمه وتلبية كافة احتياجاته على وعدٍ بالالتقاء “بنجلا” حينما تسترد اتزانها وتعود إلى وَعيها؛ هكذا وَعد ابنه الذي لا يتوقف لسانه عن السؤال عن أمه ولا ينام إلا ويستيقظ على كابوسٍ إلقائها له في القناة، اجتهد “حافظ” كثيرًا كي يؤهله نفسيًا ويدعم موقف “نجلا” أمام ابنها شعورًا منه بتحمل كافة مسؤولية ما جرى؛ فكان يحكي له ما تعرضت له والدته من ظلم بائن وأوجاع أذهبت عقله وأنها تحبه حُبًا جمًا ولو كان عقلها برأسها لما فعلت به ذلك ولكنها كانت مغلوبةً على أمرها قد غاب عقلها وتدمرت نفسها، ففعلت ما فعلت دون أن تعيه، انتظر “حافظ” طويلًا استردادها عقلها وخروجها من تلك المصحة كي يتوسل إليها ويعتذر عما بدر منه ولكنها اختفت في لمحٍ البصرٍ فور خروجها ولم يعد هنالك أثر لها في البلدة أو أي مكان، لم يستطع هذه المرة إنكار الرد على سؤال ابنه الذي يفتقد والدته ليُخبره باختفاء والدته المفاجئ دون أن تترك أثرًا خلفها يدلهم عليها.
بقى “يحيى” هكذا حتى شب، يطلب من والده البحث عنها ويرثي في ألمٍ كبيرٍ وفاة شقيقته الصُغرى واختفاء الشقيقة الأخرى التي ذهبت أمه ذلك اليوم لولادتها!!.. هل ذهبت والدته دون عودةٍ؟! هل أصبح الآن وحيدًا لا أشقاء له وكذلك يتيم الأم وهي على قيد الحياة، حاول ولم يستسلم الوصول إلى أخبار عنها حتى صار رجلًا والتحق بالكلية التي رغب فيها بمساعدة والده وبعض من أصدقائه الثِقال فقد أصبح “حافظ” من أكبر وأثقل رجال الأعمال بالخارج ولكنه قرر العودة إلى بلده واستئناف أعماله بمصر والبقاء بجوار ابنه الذي التحق بكلية الشرطة وسعى متفانيًا لإثبات جدارته بهذه المهنة ومع كل نجاح وإصرار منه كان يرتفع رتبة أعلى ولكن نجاحه لم يثنيه عن تذكر والدته ورغبة البحث عنها حتى جاء أمامه قدرًا بثًا مُباشرًا لإحدى السيدات التي ما أن قالت اسمها حتى خفق قلبه بعُنف وبدأ ينظر إلى ملامحها بتمعن ويُقارنها بتلك الملامح الذابلة والبريئة ليهرع إلى والده في الحال ويسأله بمشاعرٍ مُضطربة إن كانت هذه أمه أم تشابه أسماء وتشابه ملامح؟!! ليفاجئه “حافظ” بتأكيد ظنونه وهو يومىء برأسه إيجابًا ويردد:
-هي نجلا أمك.
•~•~•~•~•~•~•~•
“بعد مرور أسبوع”.
انفتحت بوابة المستشفى الرئيسية ليخرج منها الأشقاء معًا، سارت “سكون” للخارج وهي تدفع أمامها مقعد شقيقها الذي قضى أسبوعًا كاملًا يتعافى من الحادث وتبعات عودة ذاكرته أيضًا، سارت “شروق” بجوارها بينما يمسك زوجها بكفها يتحركون صوب سيارة صديق سكون الذي ظهر فجأة ودون سابق إنذار إلى حياتهم، خرج “زين” من سيارته ثم توجه إلى الباب الخلفي من السيارة يفتحه فورًا استعدادًا لوضعٍ “عُمر” داخلها وما أن وصل “عُمر” إليه حتى أردف بلهجة حادة:
-أنا مش هركب العربية دي.
تنهدت “سكون” تنهيدة ممدودة بعُمقٍ وبعد ذلك وَجدت سيارة “كاسب” تتوقف بجوار تلك السيارة في الحال ثم ترجل منها مُسرعًا صوب “عُمر” وبنبرة جامدة قال:
-يلا بينا يا عُمر!!
أومأ “عُمر” ليجذب “كاسب” المقعد ثم يدفعه إلى سيارته، فتح بابها ثم مال إلى عمر حتى حمله بين ذراعيه وأسرع بوضعه على المقعد المجاور لمقعد القيادة قبل أن يلتفت إلى “عمران” ويقول بثباتٍ:
-مش يلا بينا ولا أيه يا عِمران؟!
توجه “عِمران” بنظراته إلى “كاسب” ثم انصاع مستجيبًا لدعوته فسحب زوجته معه متجهًا إلى السيارة لتلتفت “شروق” إلى شقيقتها وتقول بصوت خافتٍ:
-يلا يا سكون.. تعالي معانا في عربية كاسب!!
أومأت “سكون” سلبًا وداخلها يشتعل من شدة الغضب والضيق لكن خارجها بقى هادئًا للغاية لتتفوه بكلمات ثابتة:
-جاية وراكم بعربية زين.
رماها “كاسب” بنظرات حانقة وعينان تقدحان بالشرر قبل أن يستقر داخل سيارته وينطلق بها على الفور إلى القصر، كانت عينا “كاسب” غائرتين من قلة النوم وكثرة التفكير بها وهالة سوداء غيمت حول عينيه، بدا وجهه مكفهرًا بشدة وكان ذلك ملحوظًا من قِبل الجميع، وجعه كان مكشوفًا مهما حاول أن يداريه يظهر من زاوية ما، كيف بهذه السهولة ورغم كافة محاولاته لاستردادها أن تبيع ما بينهما في لحظةٍ وتستبدله برجل آخر، من أين جاء فجأة وكيف تسلمه مقاليد حياتها وتمنحه أملًا لبناء حياة معها وقلبها مِلكًا لرجل آخر!!
شعر “عُمر” بحُزنه الذي بدا جليًّا في سواقته المضطربة وغير المدروسة واندفاع سرعة سيارته التي تتناسب مع ما يشعر قلبه به، لقد علم “عُمر” أن الأخير هو خاله وكان ذلك حينما استيقظ “عُمر” وأخبرهم بعودة ذاكرته إليه وأن معرفته بالحقيقة لم تكن قبل أيام بل قبل عامين وكانت هذه الحقيقة هي السبب الرئيسي في الحادث وفقدان قدرته على السير.
استيقظ بانهيارٍ كبيرٍ ومشاعر مُتخبطةٍ ليقرر “كاسب” وقتها أن يصارحه بحقيقة كينونته وأنه أكثر شخصًا سعى عمره كله للوصول إليه، ثارت “سكون” من إصرار “كاسب” على فعل ذلك في أضعف أوقات شقيقها الصحية ولكنهم تفاجأوا بقبول ومرونة من “عُمر” تجاه هذه الحقيقة وكأنه كان يشعر بقلب “كاسب” وكان ينتظر اعترافه منذ زمن، تعلق “عُمر” بعُنق “كاسب” الذي ضمه باشتياقٍ كبيرٍ يختلف مذاقه عن كل اللحظات المريرة السابقة.
مدَّ “عُمر” كفه يمسك بكف الأخير الممسك بعجلة القيادة يواسيه بمشاعرٍ رقيقةٍ ألا يحزن فيبتسم “كاسب” ابتسامة باهتة ويتابع سواقته في صمتٍ وهدوءٍ لتنقضي المسافة ويصف “كاسب” السيارة أمام بوابة القصر، كانت “رويدا” تنتظره بلهفةٍ أمام البوابة وما أن وقفت السيارة حتى هرولت صوبه ورددت بصوت سعيدٍ:
-حمد لله على سلامتك يا عُمر.
قابل “عُمر” سعادتها بابتسامة عذبة قبل أن يخرج “كاسب” من سيارته ثم يهرع إلى الباب الذي يجلس “عمر” بجواره، قامت “رويدا” بفتح الباب وأسرع “عِمران” بالتقاط الكرسي ثم وضعه بالأرض فورًا ليقوم “كاسب” بحمل الأخير ووضعه على المقعد بينما تابعت “رويدا” بقلبٍ يرفرف من فرط الحماس وهي تدفع المقعد أمامها لداخل القصر:
-ممكن تسيبوني أنا وخطيبي على انفراد!!
افتر ثغر “كاسب” عن ضحكة عريضة وتابع:
-حقكم، اذيبوا الشوق بس براحة على قلبي المنحور لحد ما نشوف نهايته!
قال عبارته الأخيرة وهو ينظر بعينين حادتين إلى السيارة التي توقفت توًا خلف سيارته، ترجلت “سكون” بهدوءٍ وترجل هو بعدها قبل أن يتجه نحوها ثم يقول وهو يلتقط كفيها بين كفيه:
-أنا موجود طول الوقت جنبك.. لو احتاجتي حاجة تليفوني أربعة وعشرين ساعة مفتوح لك.
ضغط “كاسب” على أنيابه وهمَّ أن يندفع بعصبيةٍ كتمها طويلًا نحو الأخير إلا أن “عِمران” تشبث بخصره يحجم من انفعالاته ويحثه على التروي وما أن رأت “سكون” ذلك ولمحت الشرر المتقد من حدقتيه حتى رددت بتلعثمٍ وحسمٍ:
-أكيد يا زين.. لو احتاجت لك هكلمك.. من فضلك امشي دلوقتي!!
سحبت كفيها بسرعةً حقنًا للدماء وتجنبًا لثورة الأخير الذي مازال ينظر إلى عينيها بنظرات مُحذرة وغاضبة، أومأ “زين” ثم ركب سيارته وغادر فورًا لتلتفت “سكون” إليهم فتجده يصيح مُنفعلًا بلهجة نارية:
-أنا هصبر عليكِ كتير!!
أخذت “سكون” نفسًا عميقًا قبل أن ترمقه بنظرات حانقة ثم تتجاوزه إلى داخل القصر دون أن تنبس ببنت شفةٍ فاندفع خلفها بغيظٍ أكبرٍ حتى قبض بشراسة على ذراعها وأدارها إليه مرددًا بلهجة نارية:
-سألتك سؤال من شوية قبل ما تعملي نفسك مش شايفاني وتدخلي؟! أنا صبري عليكِ ابتدا ينفد يا سكون.
نزلت بعينيها إلى قبضته القاسية على ذراعها ورددت باختناقٍ:
-وأنا مش ذنبي إنك مش قادر تستوعب إن مفيش رجوع بيني وبينك تاني.
صاح محتدًا بالغضب:
-وأيه يمنع رجوعنا؟! بالعكس كل حاجة بقيت على نور ومبقاش في حقايق مستخبية، إنتِ ليه مُصرة تعقدي الوضع؟!!
تدخل “عِمران” الذي قبض على ذراع “كاسب” وقال بلهجة لينة:
-كاسب.. تعالى خلينا نتكلم شوية!!!
تنهد “كاسب” بثباتٍ قبل أن يرخي قبضته عن ذراعها ويتجه بعيدًا مع الأخير، نظرت “شروق” إلى شقيقتها بعينين تتلألأن بالدموع ورددت بنبرة متحشرجة:
-ليه بتعملي كدا؟! ليه بتحاسبيه على أخطاء بابا؟! اوعي يا سكون تكوني بتحميله مسؤولية اللي وصلنا له دلوقتي، كاسب بيحبك ولو خسرتيه هتندمي عليه عمرك كله.. كفاية توجعي قلبك وقلبه وكفاية اللي إحنا فيه.
نظرت “شروق” حولها قبل أن تردد باختناقٍ:
-شوفتي إن القصور عُمرها ما بتشتري راحة البال؟! القصور اللي عاش عثمان السروجي يبنيها والفلوس اللي عاش يجمعها محاربتش وحدتنا وأوجاعنا.
-سكون!!
التفتت الفتاتان إلى مصدر الصوت بينما لوَّحت لهما “نجلا” بابتسامة هادئة أثناء تقدمها منهما لتتكلم “شروق” نبرة خافتة يغمرها الحسرة:
-ولازم تحمدي ربنا على ظهور أمك الحقيقية.. نجلا تستاهل حبكم.. تسامحي وسامحي يا قلب أختك وادي لقلبك فرصة يعيش الحياة اللي هو عايزها.
تقدمت “نجلا” منهما ثم تابعت وهو تستقر بعينيها على ملامح ابنتها وتقول بهدوءٍ:
-مبسوطة إن عمر خرج بالسلامة ورجع لحضنكم.
همَّت “سكون” أن ترد ولكنه سبقها وهو يتقدم صوبهم ويقول بلهجة ثابتة:
-كويس إنك جيتي يا نجلا علشان عندي كلمتين مالهمش تالت.
زوت “نجلا” ما بين عينيها قبل أن يقف “كاسب” أمام “سكون” ثم يرميها بنظرات حادة ويتابع:
-نجلا.. أنا عايزك تعقلي بنتك علشان باين عليها ضايعة خالص.. اقعدي معاها ووعيها تبعد البغل اللي سايقاه معاها في كل حتة حقنًا للدماء.. لأن قسمًا بالله فاضل لصبري تَكة.. وبعد التَكة محدش يلومني في اللي هعمله.
صرخت فيه “سكون” بغضبٍ وتحدٍ:
-هتعمل أيه يعني؟!!
أسرع بالقبض على ياقتها ثم دفعها بقوةٍ إلى “نجلا” التي التقطتها فورًا ثم ضمتها بين أحضانها ليتابع هو بغيظٍ منفجرٍ:
-أنا مش هقول هعمل أيه.. إنتِ بعينك هتشوفي.
رفع أحد حاجبيه ثم نظر داخل عيني “نجلا” واستكمل بنظرات نارية:
-وَعي بنتك.. ماشي!!
أومأت “نجلا” إيجابًا فلانت ملامحه قليلًا قبل أن يتابع بلهجة ثابتة:
-أنا خلاص لقيت بيت وهعيش فيه أنا وعُمر.
كانت تدفن وجهها في صدر والدتها ولكنها ابتعدت مغتاظة فور تشدقه بعباراته التي استفزتها وهي تصيح بغيظٍ:
-إنتَ كمان عايز تاخد أخويا من حُضني وتبعده عني؟!!
رمقها بنظرات جامدة قبل أن يردد بحنقٍ:
-عُمر مش عيل صغير.. اللي يختاره أنا معاه فيه.. بس عمر كاره القصر هنا.
قاطعهم مجيئه وهو يقول بلهجة حاسمة:
-أنا هكون موجود في نفس المكان اللي موجود فيه خالي وأتمنى إن نفس المكان دا تكوني موجودة فيه يا سكون، قلوبنا الموجوعة من حقها تفرح!!!
•~•~•~•~•~•~•
توقفت السيارة أمام البناية التي يعيش بها الأخير، نظرت بعينيها عاليًا حيث الطابق الذي يقطن فيه زوجها وكانت نوافذه مفتوحة والإضاءة تنبعث دليلًا على وجوده بالداخل، ابتلعت ريقها في توترٍ بالغٍ وفركت كفيها بارتباكٍ وهي تنزل بعينيها إلى الجالس بجوارها تتوسل إليه بعينين تلمعان بالدموع قبل أن يتنهد “نوح” تنهيدة ممدودة بعُمقٍ ثم يتابع بلهجة ثابتة:
-وَميض إنتِ غلطتي وإنتِ عارفة دا كويس أوي وعارفة إن مفيش راجل هيغفر لأي واحدة في وضع زيّ دا لأن الموضوع حساس وأكبر مما تتخيلي بالنسبة لنا كرجالة.
أومأت عدة إيماءات متتالية توضح دعمها لكلامه قبل أن تتابع بأنفاسٍ مضطربةٍ ونبرة متلعثمة:
-عنيد.. عنيد ومش عارفة أوصل له علشان نتكلم يا نوح.. أسبوع بحاول أشوفه أو أكلمه وهو بيصدني وبيقفل في وشي كل الطرق اللي ممكن توصلني بيه!!
رفع “نوح” نظراته إلى النافذة ثم ردد بهدوءٍ:
-حقه.. حقه يعبر عن حزنه ويطفي نار وجعه بالطريقة اللي تريحه وإنتِ لازم تستحملي تبعات أخطائك.. وَميض.. تليد مسافر بكرا.. وأنا علشان شايف وجعك في بُعده ووجعه في بُعدك فبقول لك دي فرصتك الوحيدة علشان يفضل جنبك وما يسافرش.. استغليها صح!!!
وَميض بنبرة مترددة مخنوقة:
-ولو كسر خاطري.. ولو رفض يسمعني يا نوح وطردني؟!.. ولو أصر يسافر أنا هعمل أيه من غيره؟!
نوح وهو يخفف من حدةٍ قلقها ويحفزها بكلمات داعمةً:
-الست الشاطرة هي اللي تحافظ على وجود جوزها جنبها وطوبة طوبة ترجع تبني بيتها لو الظروف هدته.. اوعي تسمحي للأيام والناس يهدوا بيتك ولا تسمحي لحبك يكون أسير للماضي.
صمت لوهلة ثم تنحنح بخشونةٍ قبل أن يردد مازحًا:
-أنا ليه حاسس إني بقيت شبه الأمهات.. ما تنزلي يا ستي تشوفي جوزك ولا هنقضيها لوك لوك وسهاري!!
افتر ثغرها عن ابتسامة هادئة قبل أن تردف مُمتنةً:
-شُكرًا على وقفتك جنبي يا نوح.
أومأ في صمتٍ فترجلت من السيارة مُسرعةً إلى بوابة البناية قبل أن تشرع في صعود درجاتها بتردد كبيرٍ، شعرت وكأن المسافة التي استغرقتها في الصعود تشبه رفة العين وأنها كانت بحاجة للقليل من اللحظات حتى تستجمع قواها للوقوف أمامه ولكنها تعاهدت داخل خبيئة نفسها أن تصبر على حُزنه وتتحمل طرق تعبيره عن غضبه حتى وأن أصاب قلبها أو جسدها بآلامٍ جسيمة وثقيلة، لابد أن تتحمل كي تسترد حلاوة الشعور باستقرارها داخل قلبه ومِلكية نبضاته التي تنبض على قيد حبها.
وصلت أمام الباب فانتظرت للحظات تأخذ نفسًا عميقًا وتطرد مخاوفها بعيدًا عنها، كورت قبضتها وطرقت بتروٍ على الباب فأخذ صدرها يعلو ويهبط بعُنفٍ حينما وصل إلى سمعها وقع خطوات حذاءه تقترب من الباب، لحظات وانفتح الباب وظهر أمامها بملامحٍ ثابتةٍ فتجمد جسدها تمامًا بينما جالت عيناها على ملامحه بلهفةٍ وشغفٍ يعبران عن اشتياقهما لغياب هذا الوجه عنهما لمدة أسبوع كامل، تجهمت ملامحه فور رؤيتها ثم ردد بلهجة شديدة:
-بتعملي أيه هنا؟!
أظهرت في هذه اللحظة شجاعةً وإصرارًا لا مثيل لهما وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها وتقول بعبوسٍ:
-جاية أشوف جوزي!!
لم تمهله الرد على عبارتها حينما أنزلت ذراعيها ثم قبضت على كفيه ورددت بصوت متحشرج حزين:
-مش كفاية عليا عقاب لحد كدا يا تليد؟! أنا راضية بأي عقاب منك إلا البُعد، إنتَ صلحت فيَّا حاجات كتير أوي، حولتني لواحدة مكنتش أتخيل في يوم أوصل لها، إنتَ خليتني أسلمك قلبي وقناعاتي علشان تفلترهم وبين يوم وليلة تخلق مني شخصية جديدة، شخصية بتحبك وعندها إيمان بيك، تليد أنا سلمتك قلبي متكسرهوش ولا ترجعه ليا، أنا عايزاه يفضل معاك!!
أخذ نفسًا طويلًا قبل أن يردد بثبات كبيرٍ:
-وَميض.. أنا مضيت عقد ومسافر بكرا.. قولت لك كسرة قلبك اللي حبني في شهور تتداوى أسرع من كسرة قلبي اللي عاش يحبك سنين عمري كله، لو في حد فينا هيتعذب من القرار دا يبقى أنا مش إنتِ.. كل واحد هيتوجع بنفس المدة اللي حب فيها التاني.. يعني كلها شهر أو اتنين وترجعي لحياتك بتاعة زمان وأكون أنا من ماضيكِ.. إنما أنا ربنا يعينني وتقدر السنين تشفيني منك.
تقدمت مندفعةً إليه قبل أن تتلفت حولها ثم ترد وهي تخترق المسافة الضئيلة وتتقدم داخل الشقة متجاوزةً بنيانه الراسخ وما أن دخلت هي استدارت نحوه وهي تقول بنبرة متراخية مهزومة:
-وليه تكون دي نهايتنا؟! ليه بتفرض عليَّا بُعد إجباري، هو إنتَ عُمرك ما غلطت ولقيت اللي يغفر لك ويسامحك يا تليد! إنتَ معصوم من الخطأ؟!
استدار بوجهٍ صلبٍ بعد أن صفق الباب ليتواجه بجسده وعينيه معها وبابتسامة تبدو ساخرةً للغاية صرَّح:
-مفيش مخلوق على وجه الأرض معصوم من الخطأ، ولكن لمَّا يتوجه لك تحذيرات وإشارات كتير علشان متقعيش في الغلط دا وتقعي فيه يبقى إنتِ مسؤولة ولوحدك تمامًا عن نتايجه.
حدقت فيه بقوةٍ وتابعت بإصرارٍ وغيظٍ:
-بس أنا عرفتك بتسامح.. حبيتك علشان بتسامح.. اتجوزتك علشان إنتَ شخص بيسامح بطبعه.. ليه أنا بالذات مش عايز تسامحني؟!!
صاح محتدًا بالغضب وهو ينظر إلى عينيها في حدةٍ:
-علشان محدش فيهم كان معاه اللي معاكِ ولا حد في كل اللي سامحتهم وجعني قدك.. إنتِ خدتي مني كل مشاعري وقوتي.. خدتي كل حاجة وحتى مسبتليش طاقة ألملم بيها شتات نفسي.
تحرك من جديد نحو باب الشقة ثم فتحه وهو يقول بلهجة آمرة حادةٍ:
-وَميض.. إحنا مفيش بينا حاجة دلوقتي ووجودك هنا مبقاش يصح ولا ينفع.. لو سمحتي عندي سفر بدري وعايز أنام!!
تجمعت الدموع في عينيها قبل أن تزم شفتيها بامتعاضٍ وتطيل نظراتها المتمردة والعنيدة إليه لتندفع فجأة صوب الباب، ظن استسلامها للمغادرة ولكنه وجدها تنتشل الباب منه ثم تصفقه بقوةٍ وتردد بتحدٍ كبيرٍ:
-مش ماشية يا تليد.. إنتَ بتكذب عليَّا.. بابا سليمان قال لي إن الطلاق وقت الغضب لا يقع أحيانًا وحتى لو كان طلاق صحيح فإنتَ تقدر تردني حالًا بكلمة منك.
انهت كلامها ثم بدأت تتلفت حولها في غيظٍ وحُزنٍ كبيرين قبل أن تبرح مكانها ثم تهرع إلى غرفة النوم لتجد حقيبة السفر مُستقرةً على الفراش، اندفعت إليها بهياجٍ ثم فتحت سحابها وطفقت تفرغ ما بها من مستلزماته وثيابه الخاصة ليتقدم “تليد منها ثم يتابع بصوت أجشٍ غاضبٍ:
-وقفي الهبل اللي بتعمليه دا دلوقتي!!.. اخلصي يا وَميض.
أومأت سلبًا وأصرت مُستمرةً على تفريغها بالكامل ليقوم “تليد” بالقبض على كفيها كي يدفعهما بعيدًا عن الحقيبة وهو يضيف بغيظٍ:
-قولت لك كفاية.
صرخت باكيةً في وجهه تنهار أعصابها تمامًا وترتجف أطرافها:
-إنتَ اللي كفاية يا تليد.. كفاية وجع فيَّا وكأنك بتنتقم لقلبك مني!!.. أنا موجعتكش وأنا قاصدة دا.. فبلاش تكسر ضهري وإنتَ قاصد!!!
ضغط أسنانه بغيظٍ مكتومٍ أوشك أن يفجره في وجهها وهي يصيح بلهجة شديدة بعد أن قبض بشراسة على ذراعها:
-أنا أحلامي معاكِ خِلصت هنا.. استوعبي بسرعة دا لمصلحتك.
بدأ يهزها بقوةٍ وانفعالٍ متأججٍ ينبعث من حمم بركان قلبه النابض المستعر فانهمرت دموعها تنجرف كفرعيٍ نهر جار على خديها، كانت تُطالع عينيه بنظرات مصدومة قبل أن يوجه سبابته إلى جانب رأسها فيخبط عليه عدة مرات ويقول بلهجة صارمة:
-استوعبي لأن قلبي لقلبك مبقاش سكن.. أنا رايح في طريق مفيش راجعة منه.. من اللحظة دي بحررك من قيودي وتطرفي الفكري.. بفك قيودك من سجن ارهابي زيّي.. حد يقول للحُرية لأ!
أسرعت برد الباقي من كلماته لتبقى داخله وهي تضع أطراف أصابعها على شفتيه قبل أن تردد بنبرة تتقطع من شدة البكاء:
-بحبك.. بحبك والله العظيم.. قوة الحُب مش بالسنين صدقني.. اللي جوايا ليك محتاج معجزة علشان يخرج مني.
زمت شفتيها بضعفٍ تجلى في اضطراب صوتها المخنوق وعبراتها التي تتساقط بوفرةٍ؛ فبدت كطفلةٍ بريئةٍ ارتكبت كارثةً مفجعةً ولكنها لا تُدرك ما فعلت فتنظر إليكَ بوداعةٍ ورغمًا عنك تغفر وتمرر من فرط الحُب والبراءة، صرَّحت بلوعةٍ قبل أن تسرع بالارتماء بين ذراعيه ومُعانقته بشغف لا ينطفأ له، تعلقت بعُنقه لا ترغب في الافتراق عنه وصاحت بترجٍ وارتجافٍ:
-احضني يا تليد.. احضني علشان من يوم ما غيبت عن عيني وهي مش بتنام.. احضني لو سمحت!!
كان ذراعاه مرتخيين تمامًا لا يتفاعل مع إظهارها الحب له على الإطلاق، فوجعه منها يحول بين شعوره بقلبها الذي ينبض مناديًا عليه، شدَّت على عُنقه بلهفةٍ اخترقت ثنايا قلبه فقام على الفور بضم ذراعيه على جسدها وكانت هذه بداية شرارة إيقاظ قلبه الخامل الذي خفق بقوةٍ رهيبة بين ضلعيه وكأنه ينذره بقدوم سيدته ومالكته إليه مرة أخرى، تتشبث بعنقه أكثر فيضم ذراعيه أكثر فأكثر؛ بقيا هكذا للحظات قبل أن يهمس بنبرة خافتة من بين اضطراب قلبه واشتعال أنفاسه:
-وبعدين معاكِ؟!!
همست فورًا وهي تدفن وجهها في عظمة عنقه:
-خليك!!
تنهد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن يشرد للحظات ثم يقبض على وجهها بين قبضتيه ويجبرها على الثبات أمامه والنظر داخل عينيه مُباشرة، ابتلع ريقه على مهلٍ وهو يتفحص معالم وجهها الفاتن الذي تغنى بجاذبيته وشدا مرتلًا وترنم في حُسن إشراقه، عيناها كنافذتين تطلان على فضاء مُبهرٍ وأكثر ما يلمع به هما حدقتيها، أمعن التحديق فيها كوداعٍ أخيرٍ مُصرًا على أن تكون صورتها هي آخر ما يرى وذكريات هذه اللحظة هي أعمق وأقرب ذكرياته، سُرق قلبه منه كلما دقق في إبداع الخالق لأنوثة وجهها، ثمة ضيّ يشبه نقاء سماء الخامسة صباحًا وبراءة طفل يتعلم الحَبو حديثًا فيتشبث بكفيك لنجدته من السقوط، كانت لحظات النظر داخل عينيها مهيبة بينما التطلع إلى شفتيها أكثر هيبةً كعشقٍ مغوار لسيفه الأصيل اللامع، لم يستطع التحمل أكثر من ذلك وهو يجدها تتوسل إليه بنظرات تخطف قلبه وتقتلعه بلا رحمة ويروقه هذا للغاية، تلقائيًا اشتعل جسده من قربها وتوهجت أنفاسه رغبةً فيها ليمد يده إلى حجابها ويبدأ في فكه كالمسحورٍ ينساق خلف غمرة مشاعره العاتية التي اجتاحته دون سابق إنذار، نزع الحجاب فانفرد شعرها مسترسلًا على كتفيها ليلتقط بعضًا من أطرافه بين أصابعه ثم يقربهم بهدوءٍ إلى أنفه كي تغمر رائحة شعرها أنفه فتزيد من سُكره وذهاب عقله الرصين الذي يصمد كجبل شاهقٍ أمام كل المغريات إلاها!!
انساق خلف غريزة اتصاله الجسدي بها يسترجع لحظاته الحميمية معها تلك الليلة، فأعلن بداخله نيته الكاملة في ردها إلى ذمته وقبولها زوجة له حتى يُلبي رغبة قلبه المُلحة فيها، فطفق يقبلها منجذبًا للمزيد معها ليذوبا معًا في عالمٍ يخصهما وحدهما كزوجٍ وزوجه.
دقت الساعة الرابعة فجرًا فكانت تنام هي على صدره منذ ساعات طويلة ولم يمل لحظة من بقائها هكذا بالقُرب من نبضات قلبه، جافى النوم عينيه فبقى ساهرًا مستيقظًا يُفكر مَليًا في كل شيءٍ، انهارت صلابته مجرد استنشاق عبير شعرها ليجد نفسه بين لحظة والأخرى قد ردها إلى عصمته وأقام علاقة ودودة معها؟! لقد سلبت لُبه وجعلته يخنع بكامل إرادته للحظات خاصة معها، ماذا سيفعل الآن فلَم يتبقى سوى ساعة واحدة على اقلاع الطائرة وما زال ينام في فراشه وتتوسد حبيبته صدره، يشعر برغبة جامحة في البقاء ولكن حُزنه منها يخبره أنها تحتاج إلى المزيد من الدروس الحياتية حتى تُقدر وتُدرك قيمة الأشياء الثمينة التي وهبها الله لها، عليها أن تُعاقب بحرمان قلبها من قربه حتى تتفنن بعد ذلك في كيفية الحفاظ على كل جميلٍ يمر عبر حياتها القادمة، سيغادر مُجبرًا رغم تمرد قلبه على السفر وحاجته لتنفس قربها ولكن جُرحه منها لم ينضب بعد ولا يعرف متى سيغيب عن ذاكرته صوت ارتطام قلبه أسفل قدميّ ذلك الحقير الذي مر وعبر على شظاياه بانتصار وكل ذلك بفضلها، تنهد باختناقٍ فالحياة بينهما صارت مُحالة؛ والآن سيبتعد ليتواجه مع حقيقتين؛ إما تخمد نيران قلبه الغاضب تجاهها فيهدأ ويشتاق أو يبقى الألم مصاحبًا أبد الدهر لعلاقته بها فيستمر مفارقًا!!
حك جبينه الذي أُصيب بألم شديدٍ من قلة النوم وفرط التفكير، حسم الأمر باللحاق بالطائرة فبدأ يسحب جسده بهدوءٍ من أسفل رأسها ثم توجه للحمام حريصًا على أخذ دُشًا سريعًا قبل أن يعيد الأشياء مرة أخرى إلى الحقيبة، أغلقها بهدوءٍ حرصًا منه على ألا يوقظها، ارتدى بذلته الرسمية قبل أن يجر حقيبته صوب الباب ولكنه توقف لوهلة ثم استدار يمعن النظر في ملامحها الساكنة ليجد نفسه يندفع نحوها بلهفةٍ ثم يميل على جبينها يقبله بعشقٍ لا يجد نهاية له، لمعت دموعه في عينيه ولكنه تماسك بصلابةٍ قبل أن يدون رسالة في ورقة ويضعها بجوارها:
-“كُنت عايز أديكِ حُريتك بس إنتِ أصريتي تفضلي على ذمة تليد السروجي حتى في غيابه، أنا مش أناني بس إنتِ اللي أجبرتيني أردك لعصمتي ومستعد في أي لحظة تحبي تنفصلي فيها عني ألبي لك رغبتك، قلبي زعلان أنه بيودعك، أيوة بحبك وفراقك مش هين بس للأسف وجعي منك الحب مش نافعه، الحب مش بيداويه”.
ترك الورقة بجوار رأسها وغادر على الفور للحاق بالطائرة دون تراجع عن قرارٍ اتخذه بعقلانيةٍ واقتناعٍ، وصل في النهاية إلى المطار وصعد على متن الطائرة لتحلق به حيث يرغب أن تكون غُربته عن أحبابه.
•~•~•~•~•~•~•
“بعد مرور شهرين”.
صدر حُكم المحكمة بعد عدة جلسات بسجن “وِسَام” لمدة ثلاث سنوات لمحاولة تعديه على امرأة متزوجة وتصوير جريمته كدليل حاسمٍ ضده ونالت “سهير” جزاءها نتيجة تحريضه على فعل شنيعٍ وتسريبها تسجيلًا مضللًا لتشويه سمعة رجل معروف وقد حُكم عليها بالسجن لمدة عام كامل وبعد عدة مشاورات في قضية “عثمان السروجي” وزوجته فقد حُكم على “نبيلة” السروجي بالسجن المشدد لمدة عشر سنوات بتهمة التستر على جرائم زوجها وتزوير في أوراق رسمية نتيجة نسب أطفالًا لم تُنجبهم باسمها بينما حظى “عثمان السروجي” على عقابٍ استحقه بقوةٍ كردٍ قويٍ على ما فعله طيلة حياته ليكون المؤبد هو النهاية له ليعيش ويفنى داخل أروقة السجن ولم تحميه ثرواته التي عاش يجمعها من نهاية ذليلة كهذه.
كانت ليلة النطق بالحكم سعيدة على البعض وقاسية على البعض الآخر، أرادت “شروق” أن يخبرها والدها عن أمها ولكنه أقسم بعدم معرفته بمكانها وإن كانت لا تزال على قيد الحياة في الأصل، بكت حُرقةً على تشتت العائلة ودمارها وبكت “سكون” بكاءً مريرًا على حياة تدمرت في لمح البصر ورجل أغرته الدنيا وظن أنه أكبر من العقاب وطغى دون حدود، تجده الآن يقف ذليلًا خلف القضبان ينادي أسمائهم كي يسامحوه، كان “عِمران” يحتضن زوجته بينما ضمت “نجلا” ابنتها بين ذراعيها تحنو عليها وتمسح على ظهرها برفقٍ وتهمس بالقرب من أذنها:
-كل يلقى جزاء ما عملت يداه.. وفري دموعك للغلابة اللي جه عليهم ودمر حياتهم يا بنتي.
•~•~•~•~•~•~•~•~•
شهقت بقوةٍ وهي تهب من نومتها جالسةً تتسارع أنفاسها بقوةٍ والعرق يتصبب عن جبينها، ابتلعت ريقها على مهلٍ وبدأت تجوب الغرفة بعينيها قبل أن تجد الباب يُفتح وتطل “مُهرة” من خلفه وهي تقول بابتسامة ناعمة:
-صباح الفل يا وَميض.. يلا الفطاغ جاهز والشيخ سليمان مش غاضي ياكل إلا وإنتِ معاه.
تدبرت ابتسامة واهية لم تصل إلى عينيها ثم أومأت وهي تمسح برفقٍ على موضعٍ قلبها الذي آلمها بشدةٍ من هذا الكابوس، أنزلت قدميها بهدوءٍ على الأرض ثم مالت تلتقط هاتفها قبل أن تضع كلمة المرور الخاصة بها وتهرول إلى المحادثة التي تجمعها به تتفقدها بخيبة أملٍ تغمرها في كل ليلة ترسل الرسائل إليه ولا يقرأها حتى، كان حزنها منه وانطفاء تعابيرها يتجليان في صوتها الذي غابت الحيوية والحماس منه، حاولت التواصل معه على مدار هذين الشهرين وحتى الآن لم يصلها رسالة واحدة منه حتى وكأنه لم يتذكر أنه ترك امرأة تحبه بجنون خلفه، أخذت نفسًا عميقًا وأخرجت زفيرًا ثقيلًا يملأه القهر وهي تغلق شاشة الهاتف وترميه مرة ثانية على الفراش.
هبَّت واقفةً في مكانها ليضرب الدوار رأسها فجأة فتدور الأشياء من حولها وتتشوش الرؤية قليلًا ولكنها تسرع بالاستناد على التسريحة ثم تغلق عينيها للحظات حتى تستعيد اتزانها؛ فهذه الحالة تتردد عليها كثيرًا منذ رحيله حتى باتت تتكيف معها وتتوقع حضورها كل صباحٍ، فتحت عينيها وبدأت الرؤية تتضح أمامها فنظرت بتمعن إلى صورتها المعكوسة في المرآة تتفحص ملامحها الباهتة في إعياء يتخفى الحُزن والألم أسفله، شعرت بوخزة تداهم قلبها وتجمعت الدموع في عينيها دون سابق إنذار وهي تفتح الدرج ثم تلتقط منه ورقة مطوية جيدًا، أطبقت عليها بقوةٍ قبل أن تضرب صورتها بالمرآة برفقٍ ثم تبسط كفها قبل أن تفتح الورقة وتقرأ الذِكر المدون بداخلها.
توجهت بعد ذلك إلى الحمام فأخذت دُشًا وارتدت ملابسها وغطت شعرها ثم نزلت إلى الطابق الذي يعيش الشيخ به برفقة نوح، بينما تقضي يومها كله معهم وعند النوم ترافقها كلًا من “مهرة” و “سكون” بالتناوب، كان الباب مفتوحًا وما أن ظهرت أمام الشيخ حتى تابع بابتسامة ودودة:
-صباح الخيرات ووَميض الصبح المشرق يا بنتي.
افتر ثغرها عن ابتسامة عريضة وهي تمضي إليه ثم تميل مقبلةً ظاهر كفه وهي تردد بنبرة هادئة:
-صباح الخير يا حبيبي.
مسح على رأسها قبل أن يتساءل باهتمامٍ:
-نمتي كويس بعد ما رقيتك إمبارح؟!!!
أومأت في هدوءٍ قبل أن يتابع وهو ينهض في مكانه:
-يلا تعالي.. الفطار جاهز في المجلس وأنا أصريت استناكِ.
تحرك للأمام خطوتين قبل أن يلتفت إليها ويقول ببشاشة وحنان بالغٍ:
-صحيح قبل ما أنسى.. التحلية بتاعة كل يوم في التلاجة.. جبتها لك الصبح وأنا راجع من الصلاة.
وَميض وهي تتابع بهدوءٍ لا يفارق ملامحها منذ غيابه:
-ربنا يبارك لي فيك يا بابا.
أشار بذراعه تجاه المطبخ وردد:
-يلا هاتيها وتعالي علشان تحلي بعد ما تفطري.
أومأت بتقديرٍ لحمايه الكبير بغرض بث السعادة إلى قلبها، سارت في الممر المؤدي إلى المطبخ والذي يضم غرفة “نوح” أيضًا وأثناء مرورها من أمام الغرفة سمعته يصيح غاضبًا:
-أبوك مش هيرد عليك يا تليد.. ريح دماغك.. زيّ ما إنتَ بالظبط مش بترد على مراتك وسايبها هنا بتموت من غيرك.
خفق قلبها بعنف وكاد أن يخرج من بين ضلعيها وهي تستند بجسدها على الحائط المجاور للباب، سكت “نوح” للحظات قبل أن يتابع بنفس الحدة:
-أيوة أنتَ غلطت.. مراتك لا بتاكل ولا بتشرب.
سكت هنيهة وأضاف بسخريةٍ:
-بكرا تنساك؟!! عدا شهرين يا تليد، ليه ما نسيتش؟!.. يا بني إنتَ بتحبها وقلبك هيموت عليها.. ليه العذاب دا كله.. العمر فيه أد أيه علشان تفضل مُصر على رأيك؟؟.. أرجع يا تليد واعقل وما تقوليش برنامج وزفت.. إحنا مقاطعين التليفزيون بسبب برنامجك لأنها كل ما بتشوفك بتنهار وحالتها بتسوء.. وبعدين لما هي مش فارقة لك كل يوم بتسأل عنها ليه؟؟
ساد صمته للحظات ثم استكمل بغيظٍ:
-أبوك مش عايز يرد عليك علشان تحس نفس احساسها وإنت مش بترد عليها.. إنتَ كنت صح لحد ما قررت تمشي وما تبصش وراك وقتها خسرت صاحبك وأبوك ومراتك.
أجهشت باكيةً وهي تضع كفيها على فمها ثم سمعت الشيخ يناديها مستعجلًا إياها، أسرعت تكفكف دموعها ثم هرعت إليه مرة أخرى ليتساءل بقلقٍ:
-مالك يا وَميض.. وشك أصفر كدا ليه؟!
أجابته مسرعة بنبرة متحشرجة:
-حاسة إني مرهقة شوية يا بابا.. يلا علشان مأخركش أكتر من كدا على الفطار.
مدَّ ذراعه إليها فتمسكت بكفه بابتسامة هادئة ليتحركا معًا خارج الشقة، قبل أن يتنحنح الشيخ بخشونةٍ ويُضيف ببعض التردد:
– هقول لك على حاجة يا بنتي ومش عايزك تزعلي مني!!!
أومأت “وَميض” في صمتٍ فاستكمل الشيخ بهدوءٍ ورصانةٍ:
-أمك يا بنتي نفسها تشوفك.. لمَّا عرفت إنك تعبانة قلقت عليكِ واستأذنت تيجي تشوفك مع أختك!!
تنهدت “وَميض” بقوةٍ دون أن ببنت شفةٍ قبل أن يتابع هو بودٍ صادقٍ:
-سامحيها علشان اللي في قلبك يسامحك.
اغرورقت عيناها بالدموع وسارت معه حتى دخلت المجلس ليجدا الطعام في انتظارهما، همَّ الجميع على البدء ولكنها ما أن غمست قطعة الخبز في الطبق حتى داهمها الغثيان لتترك اللقمة قم تنهض مسرعةً مبتعدةً عن الطبلية وسط نظرات الشيخ المصلبةً نحوها ونظرات “رابعة” المتوحشة والتي رددت بنبرة خافتة:
-مش عارفة ليه حاسة إن وَميض حامل يا شيخ، على المنظر دا بقالها أسبوع!!!
نكس “سليمان” وجهه بالأرض قبل أن يتنهد بحزن ويقول:
-يارب تكون القطرة اللي ترجع الميه لمجاريها.
هرعت “مهرة” إليها وتبعتها “رابعة” بينما حاولت “وَميض” تقيؤ ما في جوفها ولكنه فارغًا بالفعل وكانت نفسها اللحظة التي عبرت “سكون” بصحبة “نجلا” من بوابة المزرعة واللاتين ما أن رأتا ما يحدث حتى هرعتا إليها، أسرعت “سكون” بضمها إلى صدرها وهي تقول بلهفةٍ:
-كلت أيه يا مهرة؟!!
مهرة وهي تردف بقلقٍ:
-ولا أي حاجة.. دي من إمبارح مداقتش الأكل.
فركت “نجلا” جبينها بوجلٍ كبيرٍ قبل أن تفرد “سكون” ذراع “وَميض” حول عنقها ثم تسير بها إلى شقة الشيخ سليمان الذي تحرك خلفهن في قلقٍ بينما قررت “نجلا” مغادرة المزرعة لدقائق بعد أن استبد بها الشك حول احتمالية حمل ابنتها التي تتعرض منذ أسبوع لأعراض حمل مؤكد، وضعتها “سكون” على الأريكة وطلبت منها أن تتسطح ثم ألقت “مهرة” غطاءً على جسدها وجلس الشيخ بجوار رأسها يقرأ لها بعض آيات القرآن حتى عادت “نجلا” من جديد ووضعت الاختبار المنزلي أمام وجوههم ورددت بحسمٍ:
-لازم تعمل الاختبار دا حالًا.
أسرعت “سكون” بالتقاطه منها ثم عاونتها على النهوض وتوجهت معها إلى الحمام، طلبت منها “وَميض” الانتظار أمام الباب حتى تنتهي من أخذ العينة وما أن انتهت حتى دخلت “سكون” إليها أسرعت تسكب العينة داخل فتحة الاختبار وظلت تحدق بقوةٍ فيه تنتظر النتيجة بشغفٍ كبيرٍ؛ فهذه النتيجة مسألة حياة أو موت بالنسبة لها؛ فحياة شقيقتها الزوجية تتوقف على هذه النتيجة، انفتح فمها على وسعه وصرخت صرخة عالية فأسرعت “وَميض” تنظر إلى الاختبار بقلبٍ خافقٍ وبسرعة كبيرة أصبحن جميعهن داخل الحمام يتحشرن بجوار بعضهن البعض في تكدسٍ وأعينهن تكاد تخترق الاختبار وهم يصرخن في نفس واحدٍ:
-حاااااااااااامل!!!
التعليقات