التخطي إلى المحتوى

رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل العاشر

المكان: كوكب كيبلر.

ثبتت عيناها الخضراوان اللتان تناسقتا مع ألوان العشب و الأشجار حولها على الطائر الذي كان ينقر فتات الطعام بمنقاره. سحبت السهم إلى الوراء آخذةً وضعية الاستعداد للتصويب و ما إن تأكدت من توجه السهم حتى حررته لينطلق بسرعة البرق و يصيب الطائر حيث الهدف. رفعت إحدى حاجبيها بتحدي و هي تنظر إلى الشاب الواقف إلى جانبها و الذي امتاز ببشرة سمراء اكتسبها من الفترات الطويلة التي قضاها تحت أشعة الشمس و شعر كستنائي فاتح. ظهرت ابتسامة ساخرةٌ على ثغرها و قبل أن تبدأ بالتفاخر بقدراتها. الممتازة في التصويب و الانتقاص من مهارات الشاب قال هو مبتسماً بعد أن أعلن استسلامه لمهاراتها.

لقد أصبحتي أفضل مني
. في المرة القادمة لا تستخف بقدراتي و إلا أصبت رأسك بدل ذلك الطائر قالت له باستياء مهددة.

سيكون من الصعب أن أجد من يزعجني إن تم اختياري للرحيل إلى كوكب جليزا قال لها و ما زالت الابتسامة نفسها تعلو وجهه لكن نبرته الحزينة كذبت تلك الابتسامة.
لو لم تعلم حينها باستياءه و هو ينطق تلك الكلمات بوصفها بشخص مزعج لكانت وبخته حتماً و لكن لم يكن منها سوى أن أجابته بمرح محاولةً عدم منحه فرصةً بطرح أفكاره السلبية:
لا تخف ربما يتم اختياري أنا أيضاً و أستمر بإزعاجك إلى الأبد.

ابتسم بسخريةٍ هذه المرة ثم قال:
أنت تحلمين، هل تعتقدين بأن جوزيف سيقوم بإرسال فتاة إلى كوكب جليزا و هو يستبدلنا بالنساء
لا تقل هذا تومس، أنا لست كبقية الفتيات انظر إلى قالت مشيرةً إلى نفسها مستنكرةً ما قاله للتو.

نعم تقصين شعرك كالفتيان و ترتدين ملابس كالفتيان و حتى أنك أقوى من الكثير منهم و لكن دعينا نكون واقعين إرورا أنت فتاة في النهاية قال بجدية فهو يعرف تماماً شخص جوزيف و ما لديه من نواية و مخططات خاصة أو ربما الجميع يعرف.
لا تقل هذا تومس هذا الكلام يزعجني قالت عاقدةً حاجبيها بانزعاج مستنكرةً كل ما قاله.

صحيح أنك لم تتربي كبقية الفتيات و لكن صدقيني هذا لا يغيير الواقع أبداً
تتكلم و كأن جوزيف هو عدو لي، إنه كوالدي توماس قالت منزعجة ثم جلست على جذر الشجرة المقطوع المقابل لها.

انتبهي جيداً منه و لا تأخذك المظاهر بعيداً عن الحقيقة قال بنبرة محذرة جعلت أفكارها تضطرب.
حسناً لا تقل كلاماً سخيفاً يا توماس قالت مبتسمة محاولةً تحويل الموضوع إلى دعابة كعادتها و في نفس الوقت لم تكن تريد لتلك الأفكار التوغل في رأسها.

و بينما كانت تحاول شغل نفسها بالنظر حول الغابة لمحت أحداً على الجهة الأخرى من الغابة بعيداً، كان شاباً طويل القامة ذو شعر بنيٍّ فاتح و عينان بنفس اللون هي قد رأته من قبل و لكنه لا تعرفه جيداً. سألت توماس مشيرةً نحوه من ذلك الشاب؟
حول نظره نحو ما أشارت إليه إرورا ثم أجابها بعد أن حاول التدقيق بملامحه و لم يستغرق وقتاً طويلاً حتى أدرك هويته فقال:.

أظن أنه ليوناردو كان معي في إحدى مجموعات التدريب. أنه غريب الأطوار و انطوائي جداً صمت قليلاً ينظر إليه ثم أتبع قائلاً إنه لا يظهر كثيراً و الجميع يتجنبه عامةً
طالعت إرورا سهمه الذي انطلق ليصيب الطائر بسرعة البرق و لم يمضي وقتٌ طويل حتى أصاب الطائر التالي.

انظر كيف أصاب طائرين في فترة قصيرة أنه أقوى مني حتى
اطلق توماس ضحكة مفعمةً بالمرح ثم قال ساخراً من نفسه و من إرورا.

هل تظنين أن جميع الرجال ضعيفون مثلي و أنك الأقوى على الأطلاق؟
عقدت حاجبيها بغيظ ثم أجابت أنت لست ضعيفاً و لكنني أقوى منك و أتتحداني أن أهزمه؟ قالت رفعةً كلا حاجبيها ثم همت بالوقوف متجهةً نحوه و لكن توماس أوقفها ممسكاً بذراعها ثم قال انتظري.

هل تهاب أن أكسب التحدي و اهزمه؟ تكفي هزيمة واحدة في اليوم صحيح؟
ضحك توماس ثم أجابها أنا واثقٌ أن باستطاعته تكسير كل عظام جسدك، لا تثقي بنفسك إلى هذه الدرجة فهو قويٌّ جداً.

و ما أدراك أنت أنه قويٌّ لهذه الدرجة؟ قالت بغيظ مكتوم بينما عقدت ذراعيها أمام صدرها و زفرت بانزعاج فهي تحب أن تبقى الأفضل بالتصويب على الأقل أمام توماس.

قلت لك أنه كان معي في إحدى مجموعات التدريب و أذكر تلك المشاجرة التي حدثت بينه و بين إحدى أقوى الرجال في دفعتنا. لقد حاول ذلك الرجل استفزازه ثم قام بضربه حتى كاد أن يكسر عظام جسده كلها. دهشنا جميعاً وقتها و منذ ذلك الحين و الجميع يهابه و يتجنبه أكثر من السابق.

لماذا هو على هذا الحال؟ لابد بأن يكون هناك سبب ما لمثل هذه التصرفات.

حدث ذلك منذ سنوات طويلة جداً منذ تسعة عشر عاماً أعتقد. كان يبلغ من العمر 6 سنوات فقط عندما انتشر الخبر بأن والدته جلبت العار للجميع و حدث ذلك بعد أن اعترفت مؤكدةً لزوجها بأن ابنها ليس ابنه الحقيقي و منذ ذلك الوقت و هو مشردٌ هكذا يبحث عن طريقةٍ واحدةٍ ليرى والدته مجدداً نظرت إرورا نحوه باهتمام منتظرةً منه إكمال بقية الحكاية فأردف قائلاً و لكن يقال أن والدته قد سجنت في أكثر السجون بعداً عن أنظار الناس و يقال أيضاً بأنها ماتت منذ زمن و لكنه ما زال مستعداً لأن يضحي بأي شيءٍ ليجدها.

عادت إرورا تنظر نحوه و شيءٌ من الحزن تسلل إلى قلبها، لابد بأنه يعاني كثيراً و هو منبوذٌ من الجميع هكذا و قد أجبرته الظروف على أن يكون هكذا.

أراه يأتي إلى هنا كثيراً و يتدرب وحده قال توماس قاطعاً شرود إرورا.

لماذا لا يتركونه يرى والدته لمرة؟ قال فور أن قفز ذلك التسائل إلى عقلها.

عليك حقاً أن تسألي جوزيف قال مبتسماً و هو يرمقها ساخراً من أفكارها.

أحست إرورا بالضيق فهي تنزعج من سخرية توماس منها بخصوص علاقتها مع جوزيف فهو يحاول تشويه صورته أمامها دوماً. هي لم تلقى منه سوى الرعاية و محاولة تأمين شؤونها لقد كان يطلب من المسؤولين عن مراكز التدريب منحها معاملة خاصة و تحذيرهم من عدم إذائها أو التعرض لها. كانت تعرف بأنها لقيطة جاءت من حيث لا يدري أحد و مع هذا جعلها تترعرع و تنشأ على كوكب كيبلر.

وقفت بغضب بعد أن عادت تنظر إلى نظرات توماس الساخرة فوجدت نفسها تسدد لكمةً قوية نحوه و ما كان منه سوى أن اعترت معالم وجهه الذهول من ردة فعلها المجنونة.

أقسم أنني سأسدد لك مثل هذه اللكمة كل ما حولت السخرية مني، أكرهك توماس أكرهك صرخت في وجهه بانزعاج.

لم يستطع هو أن يوقف نفسه عن الضحك فلا يدري حقاً ما الذي أصابه فجأة بسبب ردة فعلها غير المتوقعة تلك و كلماتها التي وجهتها له بغيظ ما جعل إرورا تشتعل غضباً من بروده المميت.

مشت بعيداً و تركته خلفها يضحك كالأبله و لكنه سرعان ما هم بلحاقها قائلاً انتظري يا مجنونة.

أمسكها من ذراعها ثم قال بعد أن جاهد بكبح ابتسامته و داخله تندفع رغبةٌ كبيرةٌ في مواصلة الضحك:
أنا آسف لن أمازحك بهذا الخصوص مرةً أخرى، هذا وعد.

نظرت نحوه بعد أن شعرت بأن الثلوج قد انهالت على غضبها المشتعل، لقد كانت سريعة الرضى و لم تكن تحتاج أكثر من اعتذار جاد من أي شخص يزعجها.

حسناً لا تكررها مرةً أخرى.

عاد توماس ليبتسم بطريقة طفولية ثم قال:
يا فتاة أقسم أن يدك فولاذية، لقد حطمتي فكي.

ابتسمت هي الأخرى كأن شيئاً لم يكن ثم قالت محاولةً اصطناع نبرة ممتعضة و جادة:
في المرة القادمة أحذر و تحكم بتصرفاتك و انفعالاتك جيداً و أنت معي.

نعم هذا أسلم لي حتماً.

كانت إليزا تقف في شرفة غرفتها التي تطل على مكان قريب من فسحة خضراء واسعة و عيناها تراقبان تلك الجميلة الشابة ذات الشعر الكستنائي القصير، كانت تحدق بحدقتيها اللامعتين بلون العشب الجميل تحت أشعة الشمس و ابتسامتها الرائعة تجعلها تشعر بأن الحياة بأكملها قد ابتسمت لها. تستمتع كل يوم في مراقبتها تمرح أو تدرب برفقة توماس، إنها نسخةٌ عن شقيقها إدوارد ترى هل هي حقاً ابنته كما تتوقع؟ و لكنها لم تحصل على أي إثبات ملموس سوى ذلك الشبه الكبير بينهما. ابتسمت عندما وصلت قهقهة إرورا إلى مسامعها و هي تتذكر شقيقها في شبابه، لقد كان مرحاً مثلها كان مفعماً بالحياة و لكن حالما شعرت بشيء يطعن قلبها عندما تذكرت نهايته المأساوية و قد تلألأت الدموع في عينيها. لقد كان شاباً رائعاً و لكن لم يكن يوماً ليخضع لأي أحد و هذا ما جعله يشكل خطراً على الحكومة في كوكب الأرض و بدأ يبني أحلامه على المغادرة إلى كوكب آخر حيث يلقى حريته. منذ نشأته و هو يعمل على مشروع المركبة السري حتى جاء ذلك اليوم و استطاع التحليق بها، كانت هي جزءاً من ذلك المشروع فلقد عملت معه حتى استطاعا بناء مركبة فضائية بسيطة و برفقته و برفقة جون غادروا الأرض إلى كوكب جليزا. الفاجعة الكبرى كانت بعيداً عن الحسبان فلقد اتضح لهم بأن الكوكب مسكون و لم يكن عالماً جديداً سيصنعونه كما تخيلوا بل كان سجناً جديداً دخلوه بمحض إرادتهم و لا يوجد أي مجال للعودة و هكذا أمضوا سنوات سويةً. لم تستطع هي عندها تحمل تلك الحياة و عند أقرب فرصة غادرت إلى كوكب كيبلر عساها تجد عالماً أفضل و لكنه كان جحيماً من نوع آخر. وقع جوزيف في حبها منذ أن رأها فاستغلت ذلك الحب عساها تصنع حياةً جديدةً لنفسها و لكنها كانت مخطئة عندما غادرت كوكب جليزا و فارقت توأمها إدوارد إنه أيضاً توأم روحها التي غادرتها منذ أن غادر الحياة. بينما كانت عيناها ما زالتا مثبتتان على إرورا وضع أحدهم يداه فوق عينيها ليحجب رؤيتها.

وضعت يديها محاولةً إبعاد كفي ذلك الشخص المجهول و لكنه كان محكماً إغلاق عينيها فقالت متسائلة بانزعاج.

من أنت؟

قابض روحك قال ساخراً و ما إن اشتمت ريحه و ميزت صوته حتى عرفت أنه جوزيف.

جوزيف عرفتك.

إنه لمشينٌ حقاً أن لا تعرفي زوجك من حضوره أو حتى أن تلاحظي دخوله قال بعد أن أبعد كفيه عن عينيها.

اقترب منها قبل أن تتضح الرؤية أمامها فقال ألن تكفي عن مراقبة تلك الفتاة لقد سئمت منك.

فقط إنها صمتت قليلاً ثم أتبعت متلعثمة و الحزن بادٍ على ملامحها إنها تذكرني به.

رفع حاجبيه ثم قال تذكرك بذلك الشاب الذي قتلته منذ تسعة عشر عاماً.

ما الذي تقوله جوزيف؟ قلت لك ألف مرة أن لا تذكره أمامي من جديد قالت عاقدةً حاجبيها بغضب.

انحنى واضعاً ذراعيه على سور الشرفة ثم قال متجاهلاً غضب إليزا ألا تعتقدين أن إرورا تبالغ كثيراً بجلوسها الدائم مع هذا الشاب؟

راقبها بعينيه و هي تضحك و تمرح مع توماس و كأنه على وشك التهامها بنظراته.

إنه صديق طفولتها و ليس لديها سواه من المعارف الأنقياء.

ماذا تقصدين؟ قال بعد أن أشاح بنظره نحوها بعد أن استشعر تلميحاتها.

أقصد أن جميع الرجال في البلدة يكادون يلتهمونها بنظراتهم لأنها فتاة رغم أنها تخفي أنوثتها دائماً و لكن لا فائدة و توماس هو الوحيد الذي يحترمها و يعاملها على أنها صديقة أو شقيقة.

لو لم تكوني ناكرةً للجميل بطبعك لذكرتي فضلي على تلك الفتاة، لولا وجودي و حمايتي لها لما كنت ترين تلك الابتسامة على وجهها قال و عيناه تشتعل غيظاً و غضباً من انكارها مكانته.

لا أذكر أنني نفيت فضلك.

على كل حال وفري بعضاً من وقتك لتنظري إلى المرآة، هل كلفت نفسك عناء الالتفات لما آل إليه حالك؟ انظري إلى شكلك تبدين كعجوز بعمر السبعين.

نظرت نحوه بذهول بينما تساءلت هل حقاً أصبحت عجوزاً فهي فعلاً أهملت نفسها لسنوات و هي تقضي كثيراً من وقتها تراقب إرورا دون أن تستطيع الاقتراب منها أو الحديث معها فلقد كان جوزيف يمنعها و يحذرها من الاقتراب منها. تحت ذهولها و شرودها سحبها جوزيف من معصمها متجهاً نحو المرآة.

أنظري إلى تلك التجاعيد التي غزت وجهك و الهالات السوداء التي رُسمت تحت عينيك، بحقك ألا تبدين كعجوز بلغت السبعين؟ قال ناظراً إليها باشمئزاز مستفز.

عقدت حاجبيها بانزعاج و هي تطالع وجهها في المرآة، أين ذهب جمالها؟ لقد كان ضحية إهمالها و حزنها لسنوات طويلة.

لقد كنت جميلةً في السابق أما الآن فلقد غادرك ذلك الجمال الفاتن.

لا تبالغ جوزيف، ويحك ليس لهذه الدرجة.

لقد سئمت منك، سنوات و أنا أعيش مع حزنك. لقد دفنتني حياً في زهرة شبابي.

لقد وصلت لذروتك في المبالغة و هل أوقفت حياتك عندي؟ لقد تزوجت غيري و كنت تفقد واحدةً تلو الأخرى فما ذنبي أنا؟

نظر نحوها بعينيه المشتعلتين غضباً و قد ضربت جملتها الأخيرة على وتره الحساس و لكنه اكتفى بإجابتها و هو يصك على أسنانه بغيظ يجب أن تشكريني على إبقائك هنا و أنت كالمومياء الحية.

فتحت فمها لترد عليه و لكن الطرقات التي انهالت على باب الغرفة قطعت أفكارها.

ادخل قال من فوره بعد أن أفزعته تلك الطرقات المفاجئة على باب غرفة نومه.

دفع أحد الحراس باب الغرفة ثم قال و هو يلهث.

أعتذر سيدي عن مقاطعتك و لكن أمراً مهماً قد حدث.

ماذا هناك تكلم أجابه بضجر.

لقد تم اقتحام السجن السري من قبل شاب من شبان البلدة و تم القبض عليه و الآن نحن بانتظار محاكمتك سيدي.

حسناً أنا قادم قال ثم التفت نحو الحارس مشيراً له بالرحيل.

سأعود إليك، و لا تنسِ أن تهتمي بنفسك قليلاً قال جملته الأخيرة ثم اتجه نحو الباب راحلاً و ابتسامة مستفزة تعلو وجهه.

نظرت إرورا نحو تجمعات الناس باستغراب و قد عمت الفوضةُ فجأة في تلك البلدة الصغيرة. أشاحت بنظرها نحو توماس لتبادله نظرات الاستغراب و قبل أن تطلب منه الاستفسار عن ما حدث توجه نحو مجموعة من الشبان. راقبته و هو يقترب منهم و يتوغل في الحديث معهم متابعةً انفعالاته و تعابير وجهه، اتساع عينيه و نظراته المستنكرة تثير فضولها أكثر و هي في صدد محاولةٍ فاشلة لقراءة شفاههم. عاد توماس متجهاً نحوها بعد أن أنهى حديثه معهم.

زفر بضيق ثم سارع بإشباع فضول إرورا قبل أن تسأله عن ما جرى.

لقد تم اقتحام السجون السرية من قبل أحدهم قال و تعابير القلق باديةٌ على وجهه.

ماذا يعني هذا؟ سألته متأثرة بفزعه و قلقه.

يعني ذلك بأنه قد تم العبث مع جوزيف بنفسه و تجاوز خط أحمر عريض و هذا لا يبشر بالخير أبداً قال بتعابير يائسة.

من قام بفعل هذا؟

لن تصدقي، ليو من قام بفعل ذلك اتسعت عيناها بصدمة فأردف توماس مكملاً لقد قبضوا عليه و هو الآن بين يدي جوزيف.

صمتت إرورا تفكر بمصير ذلك الشاب المجهول ربما كان من حق توماس أن يصاب بالذهول و الصدمة و أن يشعر بهذا القلق فهو يعرف ذلك الشاب أكثر منها و لكن هي عرفته لتوها و مع هذا تأثرت لأنه عانى مثلها في وقت من الأوقات عندما كانت بحاجة لأم و أب حقيقين يعتنيان بها و لكنها قضت معظم أوقاتها مع منظمات التدريبية للأطفال و كانت غريبةً بينهم حتى التقت توماس الذي أخرجها من هذه الوحدة أنه صديق طفولتها الحقيقي.

ابتسم توماس ساخراً ثم قال:
لم أكن أتوقع أن الأمر سيحدث بهذه السرعة، لقد كان يخطط طوال الفترة الماضية و لكن الموضوع فشل بسرعة.

ماذا سيحصل له برأيك؟ قالت ثم نظرت نحوه بتعابير عبرت عن قلقها فلم تكن تريد ئان يكون ما يدور في عقلها صحيحاً.

لا نستطيع الجزم.

سأرى بنفسي قالت ثم اتجهت نحو الطريق المؤدي إلى القلعة.

انتظري إرورا، ماذا ستفعلين؟ قال و هو واقفٌ مكانه و حالما أدرك أن إرورا تخطو بعيداً عنه بسرعة جنونية حتى ركض يتبعها.

وقف أمامها معرقلاً طريقها ثم عاد ليسألها السؤال نفسه.

سأذهب إلى القصر و أرى ماذا سيفعلون به قالت بضجر.

إرورا ستقحمين نفسك في مشاكل أنت بغنى عنها لا أحد يقدم على الوقوف في وجه جوزيف، أنت تتبعين قلبك و عواطفك و لكن هنا لا وجود لكل هذا قال بجدية ثم أتبع هذا ما يجعلك فتاةً في أعينهم، فتاةٌ مكانها بين أربع جدران لا حقوق لها و لا مطالب فقط يحتاجونها لأن لا ينقرضوا إلى الأبد.

نظرت إرورا نحوه بحدقتيها المرتجفتين و هي تحدق بعينيه الزمرديان اللتان بدتا ساحرتين تحت ضوء الشمس. شعرت إرورا بالإحباط أيجب أن تبقى عبدةً لمتطلبات المجتمع و مقاييسه؟ أليست قوية بما فيه الكفاية حتى تتصرف بما تريد؟ و لكن عنوان واحداً كتب على جبينها أمامهم فتاة.

أنا أؤمن أننا بحاجة لتلك العواطف الصادقة لتضفي ألواناً على حياتنا الكئيبة، نحن بحاجة إلى فتيات أقوياء يحملون قلباً كبيراً مثلك قال توماس محاولاً ابتلاع أفكارها و أحزانها.

حقيقةً لقد أنرت المكان يا فتى قال جوزيف و على ثغره ابتسامةٌ ساخرة فور دخوله إلى جناح عرشه.

تنهد ثم فرش ردائه الطويل على عرشه و جلس، نظر نحو ذلك الشاب الذي تجرأ على اقتحام السجون السرية و حال معرفته لهويته ابتسم ابتسامة عريضة كانت لتشعر الماكث أمامه بأن جوزيف يرحب بوجوده.

يا فتى كنت انتظر زيارتك منذ زمن لقد تأخرت كثيراً قال دون أن يسمح لتعابير الصدمة و الغضب بأن تظهر على وجهه.

حدق به ليوناردو دون أن يصدق مدى البرود الذي يغلف ملامحه و تلك الابتسامة التي تعلو وجهه كأنه يستقبل أعز معارفه.

ضرب جوزيف جبينه ثم قال متأسفاً بطريقة مصطنعة:
كيف نسيت؟ لا تُأخذنا لم نعد شيئاً يليق بمقامك و لكن أنت السبب لم تخبرنا بأنك ستشرف البلاط الملكي و تحل ضيفاً موقراً علينا تنهد جوزيف ثم اتبع لقد أخذت عادة والدتك السيئة يا فتى قال ثم ضحك بهستيرية حتى كاد ليوناردو أن ينفجر من غيظه و غضبه و قد تعالت حمم غضبه.

و لكننا قمنا بالواجب حقيقةً مع والدتك أسألها بنفسك ستقول لك كل شيء، لقد أحضرت لها والدك هنا حتى يستقبلها، لقد جاء والدك بنفسه إلى هنا و تعرف ربَّ صدفةٍ خير من ألف ميعاد راقب ليوناردو الذي كان يشتعل غضباً ثم أردف لقد كان لقاءً يفتقد وجودك لنجمع شمل العائلة الكريمة، لقد جئت متأخراً يا صغيري.

تابع ضحكه الهستيري ثم قال هنا حيث تقف كان اللقاء الأعظم.

كاد ليوناردو أن يحطم القصر فوق رأس جوزيف و هو يراقب ضحكته المستفزة و التي اشعلت نيراناً داخله.

توقف جوزيف فجأة عن الضحك لتعود التعابير الباردة إلى وجهه فقال له بجدية و بنبرة ملؤها الغيظ و الغضب لقد أورثتك والدتك الوقاحة أيضاً، أهذا جزائي لأنني أبقيتك حياً يا هذا؟

أحذرك من الحديث عن والدتي هل فهمت؟ قال ليوناردو و الشر يتطاير من عينيه.

اتسعت عينا جوزيف و ابتسم بسخرية ثم قال:
لقد كبرت يا فتى و أصبحت تهدد أسيادك، لقد قتلت والدك و سجنت والدتك لكي أتخلص من أشباههم و لكنهم لم يحرموني من شيء و تركوا ابنهم ليكمل تلك السلالة، وجودكم عارٌ بحد ذاته خلصت البشرية منه.

شعر ليوناردو بالحنق و الضيق فكم يتمنى أن يتخلص من قيود هذين الحارسين حتى يريه كيف كبر ذلك الصغير و كيف أصبح بعد تسعة عشر عاماً.

ما كان اسمك يا هذا؟ فلا أملك ذاكرةً لأحفظ أسماء أمثالك.

سكت ليوناردو و لم يجبه و قد قام بتجاهله تماماً و دون أن يشعر نهض جوزيف ليقف أمامه و يسدد له لكمة قوية طرحته أرضاً ثم قال بعد أن تحرر ذلك الشيطان داخله عندما أسألك تجيب، ألم تعلمك والدتك القليل من الأدب؟ و لكن كيف أنسى فاقد الشيء لا يعطيه.

نهض ليو بسرعة راغباً برد تلك اللكمة و لكن قبل أن يتمكن من ذلك أمسكه الحراس ليبعدوه عن جوزيف.

لن أضيع وقتي على أمثالك كما أضعته على والديك و لكنني سأجعلك تندم كثيراً قال ضاغطاً على أسنانه بغضب.

خذوه و أروه كرم ضيافتنا قال آمراً الحراس.

خرجوا به إلى الخارج و أثناء محاولة الحراس بسحبه بعيداً عن جناح العرش وقع نظر إرورا التي كانت تعبر الممر المقابل برفقة توماس إلى جناح عرش جوزيف على ليوناردو. تراجعت و هي ترى الدماء على وجهه من أثر تلك اللكمة.

توماس، أنظر بهذه السرعة قاموا بضربه قالت بفزع و صدمة.

هذه فقط البداية عزيزتي، أنت لا تعرفين شيئاً.

هل ستدخل برفقتي؟

نعم سأدخل معك مع أنني ضد أن تقحمي نفسك بمثل هذه المشاكل.

لا توماس أرجوك لا تدخل معي، أنا أستطيع التعامل معه و مهما بلغت الأمور فلن يصيبني مكروه أما أنت فستكون في خطر.

أومأ توماس موافقاً فقد كان يفكر بأن يبقى خارج الموضوع تحسباً لحصول شيء فعندها سيستطيع مساعدتها.

مشت إرورا نحو الغرفة برفقة توماس و ما إن وصلت حتى أخبرت الحراس برغبتها برؤية جوزيف.

طرق أحد الحراس الباب و دخل فور أن جاءه الإذن بذلك.

سيدي، إرورا تقف خارجاً و تطلب أذنك بالدخول.

دعها تدخل أجابه من فوره و ما هي سوى دقائق حتى دخلت إرورا.

سيدي أريد الحديث معك بأمر قالت بنبرة هادئة.

في أي وقت يمكنك الحديث في ما تشائين قال لها من فوره مبتسماً.

ابتسمت له بالمقابل بامتنان ثم قالت أرجوك سيدي أعفو عن ذلك الشاب.

تغيرت تعابير وجهه فور تفوهها بطلبها الذي بدى له سخيفاً فقال محاولاً عدم إزعاجها:
عزيزتي لا تفكري بمثل هذه الأمور فهي لا تستحق منك أن تشغلي عقلك بها.

سيدي أرجوك ذلك الشاب لا يستحق منك العقاب.

ذلك الشاب وقحٌ إلى درجة لا تتصوريها.

أرجوك سيدي قالت متجاهلةً كلامه.

شعر بالغيظ من الحاحها الممل فأردف قائلاً:
لا تدخلي في شؤوني الخاصة إرورا، أنا أعرف كيف أتصرف مع المتمردين.

و لكنه ليس متمرداً لقد أقدم على ذلك لأنه يشتاق لوالدته و أنت حرمته منها منذ الصغر قالت باندفاع دون أن تفكر بعواقب كلامها.

اشتاط جوزيف غضباً فنظر إليها و عيناه تشتعلان بلهيب الغضب ثم قال:
و هل ترينني شيطاناً أمامك.

أنا لم أقل شيئاً كهذا أجابته من فورها بشيءٍ من الانفعال.

و أنا أمرك أن لا تدخلي في أموري الخاصة، إعطائي لك تلك الحرية في الطلب و السؤال لا يعني أن تتمادي أبداً.

لن أتمادى و لكن سأطلب منك أن توقظ ضميرك قليلاً قالت عاقدةً حاجبيها باستنكار و غضب في آن واحد.

حدق بها مصدوماً من جرأتها هي ليست كباقي النساء اللواتي قابلهن هي مميزة، لا تخضع بل تسعى وراء إثبات وجودها. كان ذلك يغيظه و يجذبه في آن واحد و قبل أن يفكر بالطريقة التي سيرد بها عليها قال ببرود و عيناه مازالتا تشتعلان غضباً أخرجي قبل أن تري غضبي.

نظرت نحوه ببرود و خيبة ثم استدارت مغادرة و ما إن فتحت الباب حتى وقعت عيناه على ذلك الواقف خارجاً، إنه نفس الشاب الذي كان معها اليوم أيضاً ما كان اسمه؟ فرك رأسه محاولاً تذكر اسمه و بعد برهة من التفكير قفز اسمه إلى ذاكرته الضعيفة، نعم توماس.

صرخ بالحارس الواقف خارجاً و عقله ما زال غير مدركٍ لردة فعل إرورا فتمتم قائلاً من ستشبهين غير عمتك المزعجة و ما إن دخل الحارس معلناً ولائه لسيده حتى قال له و ابتسامة خبث تعلو وجهه:
ضع اسم توماس على رأس قائمة المغادرين إلى كوكب جليزا.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *