رواية عذرا لكبريائي للكاتبة أنستازيا الفصل التاسع والأربعون
التفت كلانا لجهة اليسار عند سماع صوت خافت من بعيد، بدى كصوت ضحكة نسائية أو شيء من هذا القبيل.
تجاهلت الأمر ولكن سام ظل يحدق في تلك الجهة حتى تمتم بحيرة: إنهما شخصين. بطريقة ما ظلهما يترنح وكأنهما ليسا بوعيهما. أنظر.
نظرت بلا حيلة وقد اقترب الصوت، اتضح الكيان أكثر لأرى امرأة تقترب من بعيد ولم تكن واضحة بسبب الظلام، ولكنني رأيت بجانبها شخص أطول قامة منها وبدى جسدهما ملتصق ببعضهما، بل ويدفعان بعضهما دون قصد.
وعندما اقتربا أكثر كان من الواضح أنها تسنده ليمشي بإعتدال.
اعتدلت في جلستي أحدق فيهما جيداً حتى همس سام عاقداً حاجبيه بتركيز: ستيف. تلك الهيئة مألوفة جداً.
اتسعت عيناي وقد اقتحم التوتر هالتي الخاصة عندما ترجم عقلي تلك الهيئة!
م. محق!
هذا الشخص هناك.
يبدو وكأنه كريس!
أردت بأي طريقة أن أنكر ما تراه عيناي، أردت أن أشيح بوجهي بعيداً عما أراه ولكن دهشتي وعجزي كانا أكبر وقد أُلجمت في مكاني متسمراً عاجزاً عن انتشال نفسي من التحديق إليهما. إلى كريس الذي يترنح وبالكاد يمشي متوازناً.!
إلى يد هذه المرأة الرخيصة التي تحيط خصره بذراعها لتسنده، وإلى ملابسها العارية أسفل المعطف الطويل الشتوي الذي ترتديه تاركة أزراره المفتوحة لتكشف أكثر مما قد تستر.
انتابتني غصة شديدة كانت المحرك الوحيد لي لتنقذني وأشيح بوجهي بعيداً.
من الصعب المشاهدة أكثر. من الصعب الوقوف هكذا والتحديق إلى الشخص الذي كنا قلقين عليه طوال الفترة الماضية وقد كان يمضي وقته في اللهو هنا وهناك.
عندما علت خطواتهما نظرت نحوهما بطرف عيني محاولاً ألا أطيل النظر، لأرى المرأة ترمقني أنا وسام باستغراب دون أن تعلق بكلمة، أما هو.
فبالكاد رفع عينيه لينظر إلينا.
بالكاد كانت عيناه العسليتان تركزان علينا!
ها أنا ذا أنتظر.
قد يغضب لوجودنا الآن. وقد يطردنا حالاً ولن يمانع اللجوء إلى أسوأ الأساليب. لم أعد أستبعد أي شيء.
هل هذا ما يلجأ إليه هرباً مما حدث؟
كيف يكون بهذا الجُبن بحق الإله.
كيف يكون غير مكترث هكذا!
ارتجفت شفتاي إثر أعصابي المشدودة، ظل يحدق إلى أنا وسام حتى تفاجأت بابتسامة تشق طريقها نحو ثغره.
انفرجت زاوية فمه بشيء دمج التهكم ب. بأمر أخر!
بأمر أصابني بالقشعريرة رغماً عني.
عيناه لا تبتسمان إطلاقاً.
إنهما تعكسان بريقاً مريباً وقد اتسعت ابتسامته هامساً بصوت غير متزن: يبدو أن ذلك الكهل قد ثرثر بشأن العنوان.
نظرت المرأة إليه باستغراب وتساءلت ترسم ابتسامة لعوبة على شفتيها الممتلئتان والمزينتان بأحمر الشفاه: من يكونان يا كريستوبال؟
كريستوبال. هو حتى لم يمانع إخبار إمرأة رخيصة كهذه بإسمه كاملاً.
أحكمت قبضة يدي بقوة وقد اجتاحني الغضب والتوتر الشديد، بل وارتجفت يدي من شدة احكام قبضتي، ومع أنني كنت متأهباً لإندلاع حرب بنتائج وخيمة إلا أن صوت سام ذو النبرة الباردة قد اخترق خوالجي المشتعلة والخائبة ليقول واضعا يديه في جيبه يحدق إلى كريس ببرود: ألن تخبرها؟
أومأ كريس بابتسامته تلك بل واستقام مبعداً المرأة عنه بخشونة وهو يدفعها، كادت تفقد توازنها لولا أنها استعادته في آخر لحظة ورمقته بدورها بنظرة حانقة منزعجة، ولكنها تكتفت مترقبة ليقول وعيناه على سام: إنه شقيق فتاتي.
شقيق فتاتي.
أنا أغرق في خيبتي أكثر.
كان من الأجدر به أن يقول زوجتي.
زوجتي التي تنتظرني وتبيت مع ابني في المشفى يومياً وتجبر نفسها على الضحك في كل وقت لئلا يشعر بالحزن، زوجتي المضطرة للتستر على غيابي بحجج لا تعد ولا تحصى حتى ضاق الحال بها وقطعت وعداً لا تدري إن كانت قادرة على تحقيقه أو لا.
التقت عيناه بعيناي ولم يُخفى على البريق الماكر. ولن أبالغ لو قلت أن كريس في هذه اللحظة لم يكن الشخص الذي أعرفه.
وكأنني مجرد شخص مكروه في عيناه في هذه اللحظة. شخص لا داعي لوجوده، شخص نكرة أو مجرد عقبة.
هذا ما انتابني.
وقد تمنيت أن أغوص في هذا الشعور المُحبط والتعيس عوضا عن سماع جملته التي أنزلت صاعقة الذهول على رأسي: وهذا. واقع في حب فتاتي.
عقلي لم يختلق كلمات من فراغ. ولم يتأثر بنظراته تلك ويعرض لي سيناريو مزيف.
قال ذلك بالفعل.
اتساع عيناي اللتان باتتا تحرقانني، التفات سام نحوي باستنكار، وضحكات المرأة الساخرة. كل هذا أثبت لي واقع ما سمعته.
قالها دون إكتراث وكأنه يلقي التحية!
بل ويحدق إلى بخبث وإربة ليتقدم نحوي ويقف أمامي مباشرة، تكهرب الهواء المحيط بي إثر هالته الغريبة التي تستولي على نظراته وتحركاته وهو يقترب ولا أزال أنظر إليه بعدم تصديق: كيف تقول هذا بكل بساطة بربك يا كريس!
رفع حاجبه الأيسر وقد ضاقت مقلتيه سامحة لخط بريق عينيه أن يصبح أكثر حدة وهو يهمس لي بصوت لا يسمعه سواي وبلهجة ظافرة: هل تخلصت من عناء الاحتفاظ بهذا الأمر لنفسك؟
أردف متنهداً بأسى هازئ مربتاً على كتفي: لا بأس لا داعي للحزن. تلك الساذجة طيبة القلب و سهلة الوقوع في حب من يحسن إليها. لديك فرصة ذهبية كما تعلم، لا تخبرني أنكَ لم تستغل غيابي!
بحق خالق السماء! ما الذي أسمعه تحديداً؟!
أنا حتى لم أعد قادر على التقاط أنفاسي.
تمنيت أن أقف تحت مدفع عسكري أثناء طلق النار وأفقد حاسة السمع لئلا أنصت إلى ما سمعته تواً! ليتني كنت قادراً على إيقاف سمعي أثناء تلفظه بتلك الكلمات.
استولت على حالة مريرة ملوثة بالتشتت والذهول.!
خرج صوتي وبالكاد بات مسموعاً: كيف تتحدث بهذه الطريقة عن زوجتك؟!
طرف بعينه بشيء من الإستنكار متمتماً بهمس: وليكن؟ لقد وقعتَ في حبها بينما هي زوجتي! هذا ما أتذكره إن لم تخني ذاكرتي.
لا يمكن. لا يمكن أن يكون في كامل قواه العقلية!
كيف يقول هذا عن شارلوت! رأيت في عينيه تجاهها نظرات الحب والإهتمام مراراً وتكراراً فكيف يتفوه بكلمات مسمومة كهذه الآن! كيف تكون هذه نبرته وهذه نظرته بينما يتحدث عنها!
يوجد أمر خاطئ.
هناك عيب كبير في تشكيلة هذا الحوار. في كل شيء! نبرته، صوته، نظراته وحتى طريقته الغريبة في انتقاء الكلمات!
وكأن هذا الحوار قد تاه واختار الأطراف المعنية خطأً!
ضاقت عيناي رافضا كل هذا وقلت محاولا الإتزان قدر الإمكان ومغيراً دفة الحديث: كريس. جيمي كان ولا يزال في انتظارك. تيا قلقة بشأنك كثيراً! هل حقاً تنوي الإطالة هنا بينما الجميع ي.
ولكنني تلعثمت في الحديث وأجبرت نفسي على التزام الصمت وأنا أراه يمرر يده على جبينه وكأنه منزعج بشدة! بل وزفر ليقول معترضاً: كان على الحذر في اختيار المكان الذي سأستقر فيه.
لماذا.
لماذا الحوار الذي يدور بيني وبين كريس آل إلى هذا الوضع المريب والجامد.
شعرت بالضياع! عجزت عن إختيار كلمة مناسبة أكمل فيها الحوار البائس! قدماي لم تعودا تقفان معي وإنما تريدان الهرب بعيداً من هنا. بدى الشارع فجأة ضيق وموحش، كل شيء من حولي كبُر حجمه وبدوت كصعلوك حُشر في زاوية عاجز عن الخروج منها، شعرت بأنني أنكمش وأنخنق بسبب عيناه التي لا تنكف تلاحقني!
أشحت بوجهي في اللحظة التي اقترب فيها سام فجأة وقد تفاجأت به يمسك كريس من ياقة معطفه بحزم، إلا أنه حافظ على هدوئه وهو يقول: أنت الأفضل عندما يتعلق الأمر بالهرب، ألا فكرة لديك كم هذا مخيب للجميع؟
رمقه كريس بضجر وملل: من الأفضل أن ترحلا حالاً. لا يوجد لدي نية ولو ضئيلة في خوض حوار معكما.
أُتراك تعتقد بأنني قطعت هذه المسافة لأنتظر قبولك أو رفضك؟ لو كنت أعلم أنني سأواجه منظراً مقرفاً كالذي رأيته قبل قليل لما فكرت في المجيء. لو كنت أعلم أن ظنوني البائسة بشأنك ستكون يقيناً لفضلت العودة إلى منزلي واستلقيت على سريري! ما الذي تظن نفسك فاعل مع هذه العاهرة الآن؟
تنهدت المرأة وقالت مقتربة منهما: على رسلك أيها الشاب الوسيم لدي قلب مرهف من السهل كسره! إن كنت غاضباً لرؤيته برفقتي فلا أمانع قضاء ليلة معك. وإن كان ذلك مجاناً.
قالتها لتغمز محملقة به فأغمضت عيناي بإشمئزاز وغضب في حين رمقها سام بطرف عينه وترك ياقة كريس ليشير إلى اليمين بجمود: غادري.
ارتفع حاجبيها وقد مررت يدها في شعرها الداكن متمتمة بتهكم: يا لك من رجل صعب. لست من نوعي المفضل!
تدخلت بحزم: من فضلك ارحلي! هذا الأحمق متزوج ولديه ابن في الخامسة لذا اغربي عن وجهي قبل أن أفرغ غضبي بكِ!
ابتسم كريس ينظر إلى بسخرية وبدى بأنه يريد أن يعلق لولا أنه ترنح قليلاً وأسرع يتقدم نحو الدرج ليجلس عليه ممرراً يده على رأسه متألماً من صداع وما شابه.
زفرت المرأة بملل والقت نظرة عليه لتستدير منزعجة: يا لك من سافل. في كل مرة تطلب مني مرافقتك وما أن نصل إلى هنا حتى تحدث المعجزات وأعود أدراجي.
أضافت وهي تلقي علينا نظرة خاطفة وتبصق على الأرض بغضب: لست خائفة منكما أيها اللعينان ولكنني أفضل العودة عوضا عن إهدار وقتي، وأنت أيها المتكبر المنحط تجرأ على طلب مرافقتي مجدداً. سحقاً، لا أصدق كيف أهدرت كل دقيقة من حياتي على مجنون غريب أطوار مثلك.
تجاهلها سام تماماً في حين شعرت بالغيض يتملكني، أنا غاضب لرؤية انحداره الشديد ليرافق امرأة كهذه!
يا الهي يا شارلوت. أنا واثق بأن رؤية مشهد كهذا سيحطمك.
نظرت إليه وهو لا يزال يمرر يده على رأسه في اللحظة التي اقترب فيها سام منه وأجبره على الوقوف ممسكاً بياقته مجدداً وقال بجفاء: اذهب واغسل وجهك وأستعد رشدك لتعود معنا، لا أريد تضييع وقتي في سماع هرائك.
أومأت مؤيداً بالرغم من شعور بالتعاسة التي أطاحت بي بشدة، إلا أنني استنكرت دفعه ليد سام وهو يبتسم بإستخفاف قبل أن يضحك بخفوت: تعجبني ثقتك بنفسك.
رفع يده ليرفع شعره الذي تبعثر وقال بابتسامة ساخرة: أليس هذا واضحاً؟ أنا لم أعد أنتمي إلى أي مكان أو إلى أي عائلة، لذا أرح نفسك وعد من حيث أتيت. لقد خرجتُ من العدم. من الهواء وحسب! أنا لا أنتظر أحداً ولا أحد ينتظرني. هل تفهم هذا؟
أضاف يرمقني وبدى وكأنه يكتم ضحكة انتابته: هيا. عد أنت أيضاً واستغل الفرصة.
كانت النظرة الخبيثة في عسليتيه ضربة قاضية وأخيرة جعلتني أطرق برأسي بصمت.
أنظر إلى الأرض بهدوء تام.
أتجاهل ردة فعل سام الذي لكمه وأطاحه أرضاً.
وأتجاهل الشتيمة القوية والملجمة التي ألقاها كريس عليه.
بل أنني رفعت رأسي أنظر إلى السماء باحثاً بضياع عما على فعله أو ما على تجنبه حتى.
ماذا أفعل؟
ماذا أفعل مع شخص يتصرف كمجنون لا يعقل؟ كمن تعرض لحادث وتظاهر أنه فاقد للذاكرة.!
هل أذكره بابنه الذي يتجاهله؟
أذكره بالسيدة أولين؟ بصديقته؟ بزوجته؟! بماذا!
كنت غارقا في أفكاري عندما اشتد الغضب بسام الذي اندفع نحوه ليلكمه بعد أن استفزه الآخر بكلماته.
وجدت نفسي أتقدم بهدوء وأبعده عنه بصعوبة ليقول سام بسخط محاولا إبعادي: أيها الوغد الجبان، هل أنت سعيد؟ مسرور بغيابك وهروبك من المشاكل؟ مرتاح الضمير وابنك في المشفى؟ سحقا لك ماذا عن أختي؟ ألا تعلم كم هي قلقة بشأنك وخائفة وتجبر نفسها على الضحك في كل وقت لأجل ابنك؟!
مسح كريس الدماء عن شفته ببطء وذهلت بملامحه التي تحمل تعبيراً عادياً جداً بالنسبة لشخص يتم تأنيبه وضربه!
كنت أحاول منع سام بصعوبة وهذا الآخر قد اعتدل ليقف متنهداً لينظر إليه: لا أعلم ما تتحدث عنه. إن كنت قد أنهيت ثرثرتك فغادر.
أعقب بملل وتبرم: ولا ترني وجهك مجدداً. الأمر سيان بالنسبة لك.
قالها ملقياً على نظرة بل وتحرك مبتعداً ليصعد الدرج فخرج صوتي المرتجف: هل هذا كل شيء؟ هل هذا هو قرارك؟ ستنسى جيمي وشارلوت؟ ستتركهما خلفك؟!
أكملت بحزم وصرامة: أنت حتى لم تزر قبر والدك منذ وفاته! هل أنت مقتنع بصحة قرارك؟ ألا تشعر بوجود خلل ما!
ظل واقفاً في مكانه دون أن يستدير نحونا، لا أدري كم مر من الوقت حتى رمقني باستغراب: إلى هذه الدرجة تعارض قراري؟
عقد سام حاجبيه باستنكار وقد نظرت إليه أيضا بعدم تصديق!
نزل الدرج متجها إلينا وقال بنبرته تلك وقد مالت إلى البرود: يوجد أسماء لم يعد لها موقع في رأسي، لا أنوي تجديدها أو تذكرها. لذا ليس وكأنني سأسمح لكما بإفساد ما حققته، حسناً؟
تغير صوته إلى عمق غريب وهو يستدير مشيراً بلا اكتراث: لآخر مرة أقولها. غادرا.
عض سام على شفتيه بحنق شديد وابعدني عنه ليقول بجمود: لقد خيبت أملي حقاً! لم أتصور أنك بهذا الضعف المثير للشفقة! فخور جداً بقرارك هاه؟ أرجو أن تظل فخوراً إذاً. ولكنني أبشرك بأنك ستندم أشد الندم على هذا عاجلاً أو آجلاً. ستعض أصابعك بلا جدوى وتتمنى العودة بالزمن لترضي ابنك المسكين الذي ينتظرك وأختي التي تحمل آمالاً بائسة.
أيدته بصوت أوضح القليل من إضطرابي وتوتر أعصابي: إنه محق يا كريس. ستندم على هذا صدقني! لا تتصرف كفخور بنفسه اتخذ قرار صائب وحكيم في حين يقتل آمال من هم في انتظاره! اللعنة لا أدري أين تركت عقلك.!
عندما لم يستجب لنا وظل يكمل طريقه ووصل إلى الباب ليخرج المفتاح لا أدري كيف تحركت قدماي نحوه.
لم أكن قلقاً خائفاً أو راجياً وإنما سيطر على الحنق وقد صعدت الدرجات القليلة لأقف خلفه وأجبره على الالتفاف لأدفعه بقوة على الباب وأصرخ بأعصاب قد غادرت مع هبوب الرياح: إن كنت بحاجة إلى من يذكرك بما حدث فأبشر بهذا، ابنك فقد بصره وأصيب جسده في حين توفي والدك يا كريس لافظاً أنفاسه الأخيرة وحيداً أثناء انشغالنا بما وقع لابنك، توفي وهو يأمل أن تتحسن علاقتكما وتعاملان بعضكما كأي أب وابنه! ولكن خالي رحل ولم يعد بيننا. رحل وقد أغمض عينيه متأملاً الفراغ من حوله بدلاً من وجودنا حوله! اللعنة عليك لقد خرج من المشفى لأجلك. أراد أن يستغل كل لحظة معك قد أذيته فيها وجرحته بكلماتك القاسية! وما ذنب شارلوت أيضاً؟ شارلوت التي تمسكت بعلاقتها بك للبقاء إلى جانبك! شارلوت التي تنتظر عودتك في حين تلهو مع النساء لوقت متأخر. شارلوت التي أيقظت شيئاً في داخلك يا ابن خالي. شيئاً كان في سبات عميق، لذا حتى وإن أخبرتني أن أسماء معينة لم يعد لها مكان في عقلك فأنا أؤكد لك أنها لن تخرج من داخلك حتى لو ودعتك بنفسها. حتى لو أرادت الرحيل عنك وفعلت ذلك عمداً. فجزء منها سيظل في داخلك وأنت الوحيد من سيتجرع الندم حينها لأنك لن تقبل بوداعها لك! بربك عد إلى رشدك الجميع بحاجة إلى الإطمئنان عليك!
الكلمات التي فجرتها خرجت من حنجرتي المتعبة التي لا زالت تريد التفوه بالمزيد بالرغم من شعوري بإنهاك غريب، ارتخت يداي على معطفه راجياً ومحاولاً تمالك نفسي: ألا تريد تلقيني درساً على الوقوع في حبها؟ سيسرني هذا يا كريس. أقسم لك أنه سيسرني ويسعدني أكثر من صمتك! فقط عد وتصرف كما يحلو لك. عد إلى رشدك وعوض جيمي عن الفترة التي كان ينتظرك فيها!
لا أدري كم مر من الوقت ونحن نحدق إلى بعضنا، ولكنني أدرك أن خطباً مريباً يحدث.
فهو لم يبدي ولو القليل من التأثر!
لم يبدي لي ندماً أو حتى حزناً توقعته.
بل أنه نظر إلى سام بنظرة سريعة وعاود يرمقني ليقول وقد طرف بعينه بهدوء: أرجو أنك قلت كل ما في جعبتك. والآن ارحلا أنا بحاجة إلى الإسترخاء. وأخبراني فقط إن كنتما تنويان العودة حتى أتصرف وأغير مكاني وأريح رأسي.
أردت أن أصرخ ولكنني أيقنت أن صوتي سيخذلني ويخرج من حنجرتي متقطعاً.
رغبت في رفع قبضتي نحو وجهه ولكن هذا لن يشفي غليلي.
لقد كدت أنهار بسبب ما قلته وفجرته في حين يقف ككائن بلا مشاعر ويطلب منا الرحيل ببساطة.
أي قسوة غريبة هذه!
أي جمود مرعب ومفزع هذا، وأي تبلد مريب يكون بحق خالق الجحيم؟!
كيف يكون الوضع تعيساً إلى هذه الدرجة؟!
ارخيت يدي أكثر أحدق إليه بعدم استيعاب بينما زفر براحة، أتى صوت سام بجفاء: لنرحل، ربما سيجدر بي الذهاب إلى جيمي واعتذر له أن شخص مثلك يكون والده، أما أختي. فهي أثمن وأرق من الإرتباط بشخص مثلك، أنت لا تستحقها. كم هذا مخيب للآمال حقاً. من المؤسف قول هذا ولكنك لم تعد إنساناً. من الصعب نعتك بالكائن البشري. هذا صعب بالفعل.
نفيت برأسي بعدم تصديق: أنا حقاً لا أصدق. لا أصدق أنك الشخص ذاته الذي كان ينوي تحسين علاقته بابنه. لا أصدق أنك الشخص نفسه! لا يزال هناك متسع من الوقت. أخبرني أنها مزحة ثقيلة! لا أريد العودة تاركاً نفسي التي أقبلت إلى هذا العنوان بفحاوه وحماس! ظننت بأنني سأبشر الجميع ولكنني أخشى الإعتذار لهم بعد هذا!
كنت لا أزال أنتظر بصيص أمل، كنت أنتظر ردة فعل تفتح لي باب يبشرني ولكنني شعرت بإحباط مؤلم جداً عندما رأيته يعاود إخراج المفتاح من جيبه ويفتح الباب متمتماً بصوت خافت: ألم أكن ثملاً قبل قليل؟ كيف استعدت وعي بسرعة هكذا! أم تراني لم أكن ثملاً تماماً؟
تعلقت عيناي به وقد فتح الباب ولكنه سرعان ما استدار نحونا باستغراب وبدى مفكراً بأمر ما.
ليقول بحيرة يجوبها عدم اكتراث: لم تجيبانني بعد! هل تنويان العودة؟ أنا بحاجة للبحث عن مكان آخر!
نزلت الدرج بخطى متثاقلة أمشي بشرود ذهن ملوث تماماً. ملوث بأحداث رسمتها وتخيلت حدوثها وأحداث حدثت ووقعت مشوهة الخيال الذي رسمته، يا له من تضارب عنيف في عقلي.
يا له من ألم غريب في صدري! يبدو كضيق تنفس.
كشعور شخص انتظر عودة أخيه من السفر وتلقى اتصالاً يبلغه فيه ألا ينتظر عودته. ثم يلي الإتصال تشفير تام لكل أمل ونظرة مستقبلية سعيدة.
لم أشعر بأي شيء، ولم أعد أجيد النطق بأي كلمة، سمعته يقول بإنزعاج وإستياء ساخر: على الأقل أخبراني لا زلت أنتظر الإجابة، اللعنة عليكما.
أدركت أن سام تبعني وقد قال بجفاء ينظر إليه بغيض وإزدراء: انتظر في الجحيم.
كل شيء هراء.
الحوار الذي دار بيننا، النظرات التي كانت تصدر من عينيه، عدم مبالاته، كل شيء هراء.
هراء أو كابوس. كلاهما واحد.
حتى أسلوبي في التفكير.
أشعر بأنه. بات بطيئاً، كما لو أصبح غير فعال.
لا أريد التفكير، أريد العودة إلى المنزل والنوم.
ولكنني أدركت أنني وصلت إلى ذروة الحال المثير للشفقة عندما تعثرت بالرصيف وسقطت تحت عمود الإنارة.
لم أحاول حماية نفسي وإنما ارتخي جسدي تماماً وأنا أسقط كمن تعرض لطلقة نار غادرة هدلت جسده وقضت على مصدر الدعم الذي يحتاجه.
شعرت بيد سام الذي يحاول مساعدتي على الوقوف ولكنني دفعت يده بعيداً هامساً بهدوء ارص على أسناني: دعني وشأني.
سمعته يتنهد وقد تحرك بضع خطوات ليتكئ على العمود خلفه، اعتدلت بنفسي ولكنني بقيت أجلس على الأرض بيأس.
الأمر ليس بيدي، ما قاله كان يغضبني كثيراً وأردت تفجير غضبي. ولكن دهشتي كانت أقوى بكثير!
أشعر برغبة عارمة في العودة وأخوض معه شجار عنيف. يوجد الكثير لأقوله له!
جلوسنا تحت عمود الإنارة وخلو المكان تماماً، ألا يبدو الوضع وكأن الضوء يسلط علينا ويختلق لنا مسرحاً خاصاً؟
قالها بنبرة هادئة تميل إلى الإنزعاج، هو محق.
مسرح هزلي مثير للشفقة.
مسرح بطله كريس الذي مزق العقد وخرج من الساحة الفنية على غفلة منا.
متى أحببت شارلوت.
سؤاله أجفلني بشدة واستوعبت للتو أمر سماعه لما قاله ذلك المتهور الغير مكترث.
يا الهي! هذا ما ينقصني الآن.
إنه على علم بحقيقة مشاعري وأنا الأحمق سألته قبل مجيء كريس عن أمور تخص الحب السخيف وبعض الهراء الذي ما كان على التفوه به.
أنا غاضب من نفسي حقاً. ومتحابق على ثرثرة كريس التي لم كن في محلها.
رمقته بطرف عيني، وجدته متكتفاً ويحدق إلى بتمعن، لا يزال ينتظر الإجابة.
ليس وكأنني سأكذب فلا يوجد ما يدفعني للتزييف أكثر، سمع ما قاله كريس ولا مهرب لدي الآن.
وقفت مستقيماً وقلت بصوت منخفض: لا أدري. صارحت شارلوت بهذا الأمر مسبقاً.
نفي برأسه مبتسماً بشيء من السخرية قبل أن يضحك بخفوت، استنكرت ذلك كثيراً حتى علت ضحكاته وقال بعدم تصديق: يا الهي. أنا أتفاجئ بإستمرار. هذا حقاً كثير جداً! يوجد الكثير من عدم الإنتظام في طريقة سير الأمور، من الصعب ترتيب أفكاري!
غريب.
ما الغريب.
ردة فعلك غير متوقعة، بطريقة ما ظننتك ستغضب!
لماذا أغضب!
ارتفع حاجبيه بحيرة في حين قطبت جبيني مردداً: لماذا تغضب؟ لأنني أحب شقيقتك المتزوجة من ابن خالي مثلاً؟
وما شأني أنا! ليس وكأنني سأجبرك على التوقف عن حبها! ادرك جيداً أن الأمر ليس بيدك، من سيعاتب شخص فعل امر دون عمد؟
الأمر مختلف هنا!
ليس مختلف. أحب النظر الأمور بنظرة الاستصغار وعدم منحها أكثر من قيمتها، سيكون ما أقوله الآن قاسياً ولكنني لا أستطيع مجاملتك. غالبا ما يوجد طرف ثالث في الحب وهذا الطرف هو أنت. في العادة يبتعد الطرف الثالث تدريجياً لأنه يشعر بكونه دخيلاً ويدرك ذلك جيداً، أو يتوغل في الأمر ويبعد الطرف الثاني عن موقعه. وأنت لن تلجأ إلى الخيار الثاني.
أردف بهدوء: لست الشخص الذي سيلجأ الى الخيار الثاني يا ستيف. ذلك الوغد يعني لك الكثير.
ابتسمت بمرارة مشيحاً بوجهي بعيداً: ما الذي تعرفه أنت لتطربني بهذه الفلسفة، أنا لم أعد أعلم ما أريده حقاً.
توقف عن تعقيد الأمور أكثر مما ينبغي، ما تريده هو عودته. إياك وأن تكذب على نفسك.
ثم اقترب وضرب كتفي بقوة: سأتظاهر بأنني لم أسمع شيئاً، تصرف بما تراه ملائماً بحق، ليس وكأنني سأتدخل في الأمر. الأهم من هذا، تصرف على سجيتك في المنزل. ألم تسمع ما قالته شارلوت؟ ستعود إلى المنزل غداً ولا يجب أن تشعرها بأي خطب غريب، نحن لم نلتقي بكريس مفهوم؟
وكيف سألمح بهذا حتى. ما رأيته مخجل ومن الصعب التفوه بما قاله أو فعله.
أعقبت بجدية: ولكن علينا العودة للتفاهم معه.
عد وحدك. إن قابلته مجدداً فأنا واثق بأن الأمر سينتهي بشجار لا تحمد عقباه.
كما تشاء. سأعود حتماً، عليه أن يتعقل ويعود إلى رشده، لا يجب أن أتركه في حالته هذه!
حسناً أيها الشهم لنتحرك، هل نتصوع هنا كل منا في طريقه؟
ما الذي تقصده! الوقت متأخر ومن الأفضل أن تبيت في منزلنا.
بدى سيعترض فقلت بتبرم: أسرع ولا تزعجني أكثر، لن تجد سيارة أجرة ولو انتظرت ساعة كاملة، أمي كانت مصرة على ذلك أيضاً.
شارلوت:.
أسرعت أخذ منديلا من العلبة وأنظف بقايا الطعام الذي أفسد ملابسه متذمرة بإحباط: أرأيت؟ أخبرتك بأنه حار ولن تستطيع إبتلاعه يا جيمي.
حرك يده ليحصل على مصدر الهواء وهو يحاول تبريد فمه وقد دمعت عيناه متألماً: أمي إنه ساخن جداً! لا يمكنني تحريك لساني!
بالطبع يمكنك تحريكه. كيف تتحدث الآن إذاً؟
ظهر الألم والإمتعاض على وجهه في حين أكملت تنظيف ملابسه ثم ابتسمت بانتصار: هذا ما تجنيه عندما لا تستمع إلي. أخبرتك أن تتريث ولكنك منصاع لجوعك اليوم إلى درجة الاندفاع المريب.
نظرت إلى الساعة حول معصمي، إنها تشير إلى السابعة والنصف.
السيدة أولين لازالت تستحم، إنها مصرة على عودتي إلى المنزل لأخذ قسط من الراحة اليوم فقط.
لا أنكر أنني بحاجة إلى الإستلقاء على السرير في المنزل والتخلص من الطاقة السلبية التي تحيط بي، كما أنني متعبة منذ الأمس بسبب التفكير المتواصل بشأن ذلك الوعد الذي قطعته لهذا المسكين.
تنهدت بعمق واتجهت إلى الستارة التي أسدلها الهواء وحجبت أشعة الشمس، رفعت الستارة أنظر إلى حديقة المشفى للحظة قبل أن أعود إلى جيمي وأكمل إطعامه. ولكنني ولثانية شعرت بكوني قد لمحت شخص مألوف يتجه نحو المدخل. وعلى الأغلب قد يكون رين.
أظنها ستكون زيارته الثانية أو الثالثة.
ومع أنه لا يفعل شيئاً أو يفتح موضوعا مع جيمي إلا أنه أتى مسبقاً لإلقاء نظرة عليه.
حسنا هذا كافِ جداً.
مقارنة بوالده الذي لا أدري في أي عالم تحديداً قد اختفى.
بالرغم من تفاعلي مع جيمي بحماس، إلا أن الإستمرار في التحديق إليه ليس بيدي. لا يمكنني إبعاد عيناي عنه وأنا أرى عسليتيه تجوبان الفراغ بلا وجهة. متسائلة أحيانا إن كان قادرا على رؤيتي حقاً وأن كل هذا مجرد مزاح سخيف سينتهي قريباً جداً.
هذا لم يعد يؤلمني فقط. بل يخنقني! لا أستطيع التأقلم مع وضعه، لا أستطيع رؤيته هكذا دون فعل شيء!
يمكنه إجراء عملية لإستعادة بصره ولكن ليس الآن. إنه بحاجة إلى الراحة التامة والتعافي من كسر ساقه وكاحله أولاً.
الجميع مسرورون بذلك ولكن.
من منا يريد إجراء العلمية له في حين كريس لا يزال مختفي! إن حان موعد عمليته وهو ليس برفقته. إن أجرى عمليته ووالده ليس بجانبه. سيكون هذا قاسيا عليه كثيراً.
عندما بدى يبحث بفمه عن الملعقة أفقت من شرودي مقربة إياها من ثغره مبتسمة: ها هي الملعقة ذا.
مضغ الطعام بسرعة وبدى جائع أكثر من كل مرة، حسنا هذا جيد.
فطعامه في الفترة الماضية كان قليل جداً وبالكاد يتناول شيئاً مفيداً.
تمتم باستغراب: أمي. شارلي لم يأتي اليوم!
أومأت بحيرة: صحيح. إنه يأتي عادة قبل موعد فطورك، لا بأس قد يكون في طريقه إليك برفقة جينيفر أو ستيف.
لحظات قد مرت خرجت فيها السيدة أولين وبدى الإنتعاش على وجهها، نظرت إليه ثم إلى وقالت براحة: الإستحمام صباحاً كالنعيم بالنسبة لي.
أيدتها بلطف: صحيح. بالمناسبة سيدة أولين، أنت تخسرين وزنك بإستمرار، أنظري إليكِ لم تعودي امرأة جذابة!
قلتها مشاكسة فابتسمت لي بلا حيلة: كفاكِ سخرية.
اقتربت لتجلس مقابلنا على الكرسي وتحرك رأسها ممررة يدها على عنقها بإسترخاء، مرت فترة قصيرة كان الباب فيها قد طُرق وبالطبع لم يكن سوى رين.
دخل بوجه هادئ ينظر إلينا: مرحباً.
ابتسمت بسخرية: أنظروا من بات يلقي التحية هنا!
تجاهلني مغلقا الباب خلفه في حين وقفت أولين فوراً وبدت مسرورة بوجوده، حتى قالت بلطف: صباح الخير يا رين.
رمقها بنظرة سريعة وقال على مضض: صباح الخير.
اقترب ليقف أمامنا واضعا يديه في جيب معطفه بصمت، . ظل واقفاً على هذا الحال حتى تبادلت النظرات مع أولين وقد احترنا وقوفه هكذا وكل ما يفعله هو التحديق إلى جيمي.
ولكن هذا الصمت لم يدم طويلاً إذا قال جيمي بحيرة محملقاً في الفراغ: عمي رين.
طرف الأخير ببطء ثم تساءل بهدوء: هل تشعر بالتحسن؟
أومأ جيمي باسماً: نعم أنا بخير.
بعثرتُ شعره محمسة إياه ليخوص حديث أطول: أخبره بما قاله الطبيب لك فور إستيقاظك.
أجاب بسرعة وقد أخذت السعادة موقعها على ملامحه الطفولية: أخبرني بأنني سأستطيع الخروج خلال بضعة أيام وأعود إلى المنزل، يمكنني إستخدام العكازات بدلاً من الكرسي المتحرك.
شجعته ليكمل: ومتى ستنزع الجبيرة؟
قال الطبيب على أن أصبر خمسة أشهر على الأقل. مرّ شهر ونصف وبقي.
بدى يفكر قليلا يعقد حاجبيه بجدية محاولا تذكر كلمات الطبيب، رسم رين ابتسامة هادئة: ثلاثة أشهر ونصف تقريباً.
أومأ فوراً: نعم ثلاثة أشهر ونصف.
ضحكتُ بخفوت أضرب جبينه بخفة: لا يجب أن تنسى هذا الرقم أبداً، كما عليك أن تحسب الأيام يا جيمي فهذا خبر مفرح، ستكون بعدها قادر على التحرك واللعب مع شارلي، ومع كيفن وهنري كذلك.
أومأ بجدية: سأسجل هذا كل يوم في المفكرة، أمي ستعودين اليوم إلى المنزل صحيح؟ أرجوكِ أحضري المفكرة معكِ عندما تأتي إلى هنا غداً.
ابتسمت بلطف أمرر يدي على وجنته.
نسجل الأيام في المفكرة؟ هل ستكون قادر على هذا يا جيمي؟
نجوت من هالة سوداء كادت تسيطر على بأعجوبة، نظرت إلى رين الذي يرمقني بنظرة ذات مغزى.
بدى وكأنه يريد التحدث معي على إنفراد، فما كان مني سوى أن أقول لجيمي: هل تريد شرب أي شيء يا عزيزي؟
زم شفتيه متمتماً: أريد حليب شوكولا ساخن.
أغمضت عيناي بلا حيلة: ألم أخبرك أنه لا يجدر بك المبالغة في شرب حليب الشوكولا؟ ليس وكأنه مفيد لك يا جيمي!
ظهر العبوس على ملامحه فأسرعت أضيف واقفة: سأشتري علبة حليب شوكولا باردة صغيرة، أنت لن تكتفي من الشراب الساخن لو لم يوقفك أحد.
لن أشرب العلبة الباردة.
قالها بإعتراض وهو يتكتف مقطبا جبينه بغضب، ضاقت عيناي هامسة بتحذير: حقاً يا جيمي؟ تجرؤ على معارضتي؟
قلتها مقتربة منه مصدرة صوت مخيف حتى هجمت عليه مدغدغة إياه فانفجر ضاحكاً يرجوني بالإبتعاد عنه.
ضحكت مبتعدة فوراً: لتتعلم درسك جيداً، المرة القادمة سأستمر في الدغدغة ليوم كامل بلا رحمة، سنرى من ينجدك مني.
ظل يضحك يمرر يده على معدته في حين ابتعدت وخرجت لأسبق رين وأقف في الممر منتظرة إياه.
اسندت ظهري على الحائط خلفي، وقد اختفى كل أثر للمرح عن وجهي دون أي تدرج، اكتفيت بالوقوف متكتفة ولم أجهد عقلي بالتفكير بما يريد رين التحدث بشأنه.
لم أعد أريد التفكير أو التخمين، أريد أن أخوض شجار عنيف مع شخص ما سيء الحظ وأفجر فيه قلقي وغضبي.
رأيته يخرج مغلقاً الباب خلفه، نظر إلى وقد تحرك فتحركت خلفه.
وقفنا أمام المصعد للحظات حتى ولجنا إليه، عندما أغلق باب المصعد التفت نحوه بصمت ليبادر قائلاً: لست هنا لهدف معين، أردت رؤية ذلك الصغير وحسب. وسؤالك عما ترينه مناسباً للتصرف مع ذلك المدلل الجبان.
أخفضت رأسي بلا حيلة: لا تسألني. لا شيء جديد عنه حتى الآن، لم نعد نعلم أين نبحث عنه أو أين عساه سيكون.
أعقبت بصوت مرتجف دون شعور: لو أعلم فقط أنه بخير وعلى ما يرام فلن أسأل عن أي شيء أخر. أريد الإطمئنان بشأنه وحسب، لن أطمع بالمزيد.
شهر ونصف. غاب هذه الفترة دون أن يظهر نفسه ويقف إلى جانب ابنه، في المقابل تقولين بأنك لا تريدين سوى الإطمئنان عليه؟ اليس من الواضح أنه لا ينوي العودة أصلاً؟
أرجوك لا تبدأ.
فُتح باب المصعد فخرجنا متجهين إلى مطعم المشفى، كان يمشي بمحاذاتي وعلى وجهه الإنزعاج، لحظات حتى كسر الصمت وقال بحزم: لنقل أنه بخير. هذا مطمئن بالنسبة لكِ اليس كذلك؟ ثم ماذا؟
زميت شفتاي بقوة أمنع نفسي من الرد على سؤاله الذي لا أدري ما جوابه حتى.
وكأنني أعرف.
وكأنني أعرف ما سأفعله إن أدركت ان حال كريس بخير.
هذا سيكون ملجماً بالنسبة لي.
لا يمكنني تخيل ذلك أصلاً، أن يكون على ما يرام ويعيش حياته ببساطة مقابل الزوبعة الفوضوية التي نعيش فيها.
لهذا لا أريد التخمين أو تخيل ما ستدور حوله الأحداث. لست قادرة على هذا.
تمتمت متنهدة: رين. لا يوجد ما أقوله، أنا منهكة حقاً ولا طاقة لي لأخوض حوار مثل هذا.
التعليقات