التخطي إلى المحتوى

رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل الحادي عشر

المكان: كوكب جليزا.

كانت تلك الفاتنة التي كادت أن تبلغ العقد السادس من عمرها دون أن يؤثر سنها على قوامها الممشوق و جاذبيتها تقف في حديقة قصرها الفخم حيث الجوري الأحمر الذي تناسق مع لون فستانها الخمري الجميل و قد زاد من جماله الساتان الأسود على أكمامه. قطفت إحدى تلك الزهور المتفتحة و وضعتها على شعرها الأشقر المائل إلى الحمرة و رغم أن الشيب قد غزى بضع خصلات قليلة من شعرها إلا أنها بدت جميلة. قطع وقوف الحارس أمامها أجوائها و خلوتها الخاصة قائلاً: سيدة فيكتوريا، الرجل الذي جاء منذ بضع أيامٍ طالباً موعداً مناسباً للحديث معك ينتظرك خارجاً.

استدارت الملكة فيكتوريا لتنظر نحو الحارس الذي كان ينتظر أوامرها ثم قالت مستسلمة: دعه يدخل.

أومأ لها الحارس ثم استأذنها منسحباً و ما هي إلا دقائق معدودة حتى دخل رجلٌ ذو قامةٍ طويلة و شعر أسود و عينان زرقاوان، قال بلباقة مبتسماً: آسف على قطع خلوتك الخاصة و لكنني جئتك بموضوع مهم.

حدق بها متأملاً انسجامها مع الورود الجورية متجاهلةً وجوده. اقتلعت هي وردةً أخرى من جذورها ثم اشتمت رائحتها الرائعة، كانت في عالم آخر حتى كادت أن تنسى وجود ذلك الرجل.
استدارت لترى صاحب ذلك الصوت و الأسلوب اللبق فأردفت قائلة ببرود ينافي لباقته:
هل تحب أن نتحدث هنا؟
أحبذ أن نتحدث داخل القصر فالموضوع سري و ليس من الجيد أن نتحدث به هنا.

تنهدت فيكتوريا بغيظ ثم قالت ناظرةً نحوه ببرود: ما هذا الموضوع المهم الذي تريد أن تتحدث به مع ملكة كوكب جليزا بنفسها؟

ابتسم الرجل بسخرية ثم قال: دعي عنك تلك الرسميات سيدتي فعندما تعرفين من أنا ستندمين كثيراً على هذا السؤال.

رمقته بنظرات مستنكرة ممزوجة بشيء من السخرية ثم أجابته: حقيقةً أول ما تحتاج أن تعرفه عني هو أنني أكره المقدمات و الموشحات التي لا تجدي نفعاً، لذلك أحثك على التحدث بسرعة.

تعجبينني سيدتي و لكنني أخاف عليك من الصدمة فلابد من التمهيد لك قليلاً قال و ما زالت الابتسامة نفسها تعلو شفتيه.
نظرت نحوه بنفاذ صبر فهي تكره تضيع وقتها سدى دون أي فائدة و ما إن همت بتوبيخه حتى قاطعها قائلاً:
أنا هو أول شخصٍ اطلع على المركبة التي حطت على الأرض قادمةً من كوكبكم منذ تسعة عشر عاماً.

اتسعت عيناها و دون أدنى إرادة منها سقطت تلك الوردة الجورية التي كانت بين يديها أرضاً و هي تحدق بالواقف أمامها غير مصدقة.

صفت جنيفر ورود الأقحوان الملونة في المزهرية الموضوعة على القبرين. جلست على ركبتيها كالعادة أمام قبر ابنتيها، كانت تبدو أكبر من والدتها بالسن فلقد قتل الحزن صباها و اقتلع زهرة شبابها من جذورها. مسحت على تراب القبر بألم كأنها تلامس صغيرها. كانت ترتدي فستاناً أبيضاً بسيط التفاصيل فهي لا تريد اختيار ألوان قاتمة و هي تزور صغيرتيها لأنهما لا يستحقان منها أقل من لونٍ نقي كاللون الأبيض. لقد مرت، مرت السنوات و مضت معها تسعة عشر عاماً على رحيل روحها من جسدها ليسكن الحزن بدلاً عنها. طالعت السهول البعيدة و هي تتخيل صغيرتاها تسابقان الريح و خصلاتهما ترقص مع نسمات الهواء، ضحكات غير موجودة سمعتها و اخترقت أذناها و لكنهما رحلا، رحلا إلى الأبد. صرخ قلبها الجريح مردداً السؤال نفسه لسنوات لماذا فعلت يا إدوارد؟ و مع دموعها التي حلقت مع نسمات الهواء تذكرت تلك الذكريات التي أجادت التحليق بعيداً هي الأخرى، ذكرياتها حيث حب حياتها و سعادتها ذلك الرجل الذي جعلها تذوق كل أصناف السعادة و البهجة عندما ظنت للحظة بأن حبهما سيخلد إلى الأبد. هل يعقل أن ذلك الرجل الذي أعطاها كل شيء قد أخذ روحها بالمقابل؟ و بينما كانت منغمسةً في عالم الأحلام الخاص بها شعرت بيد توضع على كتفها تخفف عنها بعضاً من معاناتها. التفتت مبتلة الوجنتين و عيناها ما زالتا تبكيان تلك الذكرى. رفعت رأسها تنظر إلى قوامه كان شاباً بالسابعة عشر من عمره ذا قامةٍ طويلة و عينان زرقاوان ساحرتان.

أمي لماذا لا ترحمين نفسك قليلاً؟ قال لها ناظراً نحوها بحزن و ألم على حالها.
كانت تلك الجملة كفيلةً بجعلها تدخل بنوبة بكاء مؤلمة كأنه فتح جراحها عوضاً عن لفت نظرها إلى ضرورة رحم نفسها المتعبة من عذاب الذكريات.

جلس القرفصاء أمامها يمسح على شعرها الكستنائي و يمسح دموعها، عانقها محاولاً التخفيف عنها قدر الإمكان و قلبه يعتصر ألماً على حالها.
هيا جميلتي هذا يكفي لليوم قال مبتسماً لها عساه يعطيها بعض الأمل.

عانقته بحب ثم قالت بصوت مصحوبٍ ببكائها: لا أعرف كيف كنت لأعيش من غيرك، أنت أملي الوحيد، أنت كل شيء في حياتي، لو ظللت على عنادي و لم أتزوج مع أنه كان زواجاً فاشلاً إلا أنه أثمر بقدومك إلى هذه الدنيا.

ابتسم بمرح ثم قال: أمي لقد حفظت هذا الكلام ألن تغيري قليلاً.

ضحكت ضحكةً ممزوجة ببقية بكائها، كان هو وحده يجعلها تبتسم.
هيا جميلتي لندخل إلى القصر أو نذهب بنزهةٍ قصيرة.

على أن أغير ثيابي هذه أولاً قالت مشيرةً إلى ثوبها الأبيض الذي اتسخ بالطين نتيجة جلوسها على الأرض.
هيا إذاً تغيرين ملابسك ثم نذهب، إذا رأتك جدتي هكذا فستغضب قال مبتسماً و قد تذكر غضب جدته و معاتبتها الدائمة لوالدته بسبب إهمال نفسها إضافةً إلى عدم تصرفها برزانة كأميرة.

استقام ثم سحب ذراعها ليساعدها على الوقوف.

فتحت الملكة فيكتوريا باب غرفتها مفسحةً لذلك الغريب مجالاً للدخول. طالع هو فرش غرفتها الملكي الجميل، أثاثٌ باللون البيج الجميل و الذهبي اللامع. كانت غرفةً رائعة الجمال، كانت تناسب ملكةً كفيكتوريا. أفاق من شروده على صوتها و هي تطلب منه الجلوس على الأريكة حيث المجلس الصغير في غرفة النوم.

جلس على الأريكة و عيناه ما زالتا تتفحصان تفاصيل تلك الغرفة.

هل ستحدثني عن تفاصيل أكثر؟ قالت بعد أن جلست على الأريكة مسترخية.

كل ما تريدين معرفته قال مبتسماً.

كل شيء قالت و عيناها تتوهجان دلالةً على فضولها الكبير.

عاد ليبتسم نحوها مجدداً ثم قال:
مرةً أخرى سأبدي إعجابي بك سيدتي الفاضلة، يبدو أنك متشوقة جداً.

نظرت نحوه مستنكرةً ثرثرته الكثيرة فأردفت قائلة بابتسامة مصطنعة:
يبدو أنك تحب الابتسام كثيراً.

كانت رغبته بحرق أعصابها كبيرةً جداً لذا حبذ التعامل ببرود مع اضطرابها و توترها.

حسناً، حسناً تذكرت أنك لا تحبين المقدمات قال ساخراً ثم أردف نحن نتشارك هدفاً واحداً عزيزتي، علينا أن نتفق أن كلانا يسعى للانتقام.

رفعت حاجبيها باستغراب ثم قالت:
و من مَن تريد الانتقام بالضبط؟

إنحنى بظهره إلى الأمام مقرباً المسافة بينه و بينهما ثم قال بنبرة ملؤها الحقد و الكره:
من حكومات كوكب الأرض، نحن كشعب نقف مكتوفي الأيدي فهم يتلاعبون بنا دون أن نستطيع النطق بحرف واحد.

و ما مكاني من مخططاتك الخاصة؟ قالت ناظرةً نحوه ببرود فلم تبدو مهتمةً بما يقوله.

الموضوع بحاجة لقوة خارجية للقضاء على أولئك الحثالة من الوحوش قال ثم عاد لوضعيته السابقة لقد حاولت أن أقلب الموازين عبر تحريض الناس على خوض حرب جديدة و لكن الأمر كان مستحيلاً فلقد بات السلام وحده ما يحتاجونه في المقام الأول.

حتى هذه اللحظة أنا لا أفهم دوري في هذه اللعبة.

دورك عزيزتي بأن تحققي هدفك بالعودة إلى كوكب الأرض ببساطة قال مبتسماً ثم اردف مكملاً و لكن هناك شرطٌ واحد إن لم توافقي عليه فانسي كل شيء سأحدثك عنه.

أحست بالغيظ من تلاعبه بها فأجابت بنفاذ صبر و هي ترمقه بنظرات استخفاف:
ما هو؟

تنهد ثم قال بنبرة محتدة:
أحذرك من إيذاء أي من سكان كوكب الأرض.

رفعت حاجبيها باستنكار ثم قالت:
و هل تسمى هذا انتقاماً إذاً.

انتقامك سيكون من الحكومة و ليس من الشعب عزيزتي لا تخلطي الأمور.

شعرت بالحنق من أسلوبه الذي استفزها فأردفت بنبرة حادة بعد أن فقدت صبرها:
لا تقل لي عزيزتي لقد قابلتك منذ قليل يا هذا.

ابتسم ابتسامة ساخرة ثم رد عليها قائلاً:
تعلمي سيدتي أن تكسري كبريائك قليلاً حتى تحققي أهدافك و إلا عشت و مت و أنت تركضين بلا فائدة.

رمقته بنظرات مشمئزة ثم قالت:
احترم نفسك، هل نسيت أنك في حضرتي.

نعم نسيت سيدتي لذلك سأرحل و أتركك تحققين أهدافك بنفسك فأنت لست بحاجةٍ لأمثالي قال ثم نهض راحلاً.

كاد قلبها أن يتوقف عندما هم بالرحيل فهي لم تعلم حتى الآن ماذا حدث لتلك المركبة فبدونها كل ذلك الحديث بلا فائدة فقاطعت رحيله قائلة:
حسناً أوافق هيا حدثني عن ما أريد معرفته.

زفر بضجر ثم عاد ليجلس على الأريكة قائلاً.

هكذا يمكننا التحدث بالمهم.

تجاهلت تصرفاته ثم سألته:
ماذا حدث مع المركبة؟

لقد كان على متنها فتاةٌ شابة و طفلة، الفتاة مع الأسف توفيت و لكن الطفلة ما زالت حية.

توهجت عيناها الزرقاوان عند سماعها لهذا الخبر المفرح، لقد حصل أخيراً حصل و عادت لتحقق هدفها.

اسمع، . توقفت لأنها تجهل اسمه، كيف لم تعرف ما اسمه حتى الآن.

ابتسم ثم قال ألبرت، اسمي ألبرت.

اسمع يا ألبرت إذ لم أحصل على هذه الفتاة فهذا يعني فشل كل مخططاتي.

عقد حاجبيه باستغراب ثم قال:
ماذا تريدين منها؟

هذه الفتاة هي مفتاح عودتنا إلى كوكب الأرض بها نستطيع اختراق غشاء كوكب الأرض و الدخول بمراكبنا.

هز رأسه بعد أن فهم ما قصدته و لكن حال ما قفز سؤال واحدٌ إلى عقله:
لماذا هذه الفتاة بالذات؟

قصة طويلة و لكنها هي فقط تستطيع مساعدتنا.

كيف ستعيدها إلى كوكب جليزا إذاً؟

هل تسألني أنا، ألا تستطيع فعل هذا؟

لا طبعاً فسيكشف أمري حتماً، هم ينتظرون غلظةً واحدةً مني فقط فكر قليلاً ثم أردف الحل الوحيد أن ترسلي أحداً من كوكبك مؤهلٌ لمهمة كهذه و أنا سأساعده على الوصول إليها بتسهيل أمور إقامته.

زفرت ثم قالت:
ليس لدي أحدٌ مؤهلٌ لهذه المهمة، و لكن على كل حال لا أحد يستطيع اختراق ذلك الغشاء.

عندما دخلت تلك المركبة منذ تسعة عشر عاماً نشأ هناك ثقبٌ صغير على هذا الغشاء، تستطيع مركبة صغيرة جداً براكب واحد الدخول منها.

ألا نستطيع الدخول منها دون فعل كل هذا.

هذا مستحيل إلا إن قضيتي عشرات من السنين الأخرى لبناء مئات من المراكب الصغيرة قال مبتسماً.

زفرت مستسلمة ثم قالت:
إذن لا نملك سوى ذلك الحل، على الاستعانة بحاكم كوكب كيبلر تنهدت ثم أردفت مكملة و حتى ذلك الوقت انتظرني.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *