رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل السابع والستون
عشرون عاما فوق درب الهوى
و لا يزال الدرب مجهولا
فمرة كنت أنا قاتلا
و أكثر المراتِ مقتولا
عشرون عاما يا كتاب الهوى
و لم أزل في الصفحة الأولى
— نزار قباني.
أسفل إحدى السيارات تمدد عز يمارس عمله، محاولا الانخراط في كل ما يشغله عله ينسى، ولكن ما يحاول أن ينساه أتى إليه الآن، خرجت والدة عز وقد أحضرت له كوب من الشاي، استوقفتها رفيدة التي قدمت للتو إلى هنا بقول: ازيك يا طنط.
وأتاها الرد بجفاء: بخير.
سريعا ما خرج من أسفل السيارة قبل أن تنطق والدته بأي شيء، ولكنه لم يلحق حيث سمعها تقول: على فكرة يا رفيدة، أنا ابني يستاهل أحسن واح…
فقاطعها هاتفا باعتراض: بس ياما.
لا مش بس، عايزني اسيبهم بيلعبوا بيك الكورة، الحاج نصران يديك كلمة ويقولك إنها لو وافقت هيوافق، وأمها تقولك لا، وتبعتلي تيسير لحد هنا تقولي ابعده عنك، قولي للست سهام إنها عيب تكسر كلمة راجلها من وراه، وأنا لولا ابني منعني كنت قولتلها، وجيت للحاج نصران بنفسي.
لم تسمح له بمقاطعتها، ولو في حرف واحد، طالعها بانزعاج شديد، وهتف بضجر: ادخلي جوا ياما.
أتت لتتحدث فنطق بغضب: ما قولنا كفاية ياما، أنا مش عيل على اللي بتعمليه ده.
لم تنطق رفيدة من صدمتها، لم تصدق أن والدتها فعلت هذا، وتلقت المزيد من والدة عز التي ترفض تنفيذ طلب ابنها: أنا ابني مش قليل، وأنا لو عليا من الصبح هجوزه، بس هو اللي مش راضي و.
أدرك أن والدته لن تصمت فسحب رفيدة من مرفقها، يتحرك بها بعيدا عن هنا، وتوعدته والدته من الخلف وقد اشتعل غضبها: ماشي يا عز، ده جزائي يعني، يحرق اللي يتشددلك، لما ترجعلي بس.
كان قد ابتعد قدرا كافيا عنها، لم يعلم ماذا يقول، وحاول تبرير الموقف بقول: صدقيني أنا متكلمتش مع أمي في أي حاجة، بس لما تيسير جاتلها ووصلتلها كلام الست سهام، كانت عايزة تجيلكم وأنا منعتها تيجي، وقولتلها إن نفس الكلام والدتك قالتهولي بنفسها، فملوش لازمة تروح، يمكن كان يبقى ليه لزمة أنا اتكلم وأدافع لو كنتي خدتي قرار يا رفيدة.
طالعته رفيدة بحزن، وعلى الرغم من كل شيء دافعت عن والدتها بقول: زي ما والدتك خايفة على مشاعرك وزعلانة علشانك، أنا كمان ماما كانت خايفة على مصلحتي، وقلقانة عليا.
تضغط عليه ويضطره هذا لأن يتفوه بما لم يرد، وبان هذا في قول: وأنا معاتبتكيش، بس هو أنتِ كمان شايفة إن وجودك معايا هيبقى فيه خوف وقلق على مصلحتك؟
ونتيجة لغضبها من طريقة والدته معها، نطقت: معرفش يا عز.
أصلا!
كان هذا قوله، وأكمل وهو يطالعها بلا ذرة تردد: طيب تمام يا رفيدة، افتكر إني استنيت وقت كفاية علشان تعرفي، وأنتِ مبتعرفيش، فخلاص انسي أي حاجة.
يعني إيه يا عز؟
سألته ورد: يعني نورتي وياريت ترجعي على بيتكم، علشان وقفتنا دي متصحش.
كانت على وشك البكاء، ولكنها ثبتت، قررت المغادرة، ولم تنطق بأي حرف، فقط تشعر بالخيبة أما عنه فشعور الخذلان لا يوصف.
حتى هذه اللحظة، لا يصدق عيسى أنها أتت إليه بإرادتها، أخبرته بقرارها، برغبتها في البقاء معه، وماذا عن والدتها، هل سحرت لها، إنها كانت على وشك الفتك به حين التقيا في منزلها، لم يتوقع قدومها، كان من المفترض أنها لن تأتي، وغفل عن هاتفه الذي أغلقه تماما، فلم يصله أي مكالمات من والده، حلت الكارثة متجسدة في والدة زوجته على رأسه، بعد ليلته التي قضاها مع ابنتها في المنزل ها هنا، كانت ملك بالفعل مستيقظة من قبل حضور والدتها، وصل لأذنيها شجاره مع بيريهان و كوثر، كانت أعصابها تالفة بالقدر الذي لا يجعلها تخرج، وتنخرط في جدال كهذا، ولكنها بعد حين قررت الخروج، كانت ترتدي ملابسها حتى سمعت ما تفوه به زوجها من ألفاظ نابية، فبقت مكانها، أقصى ما كانت تخشاه الآن حضور والدتها، وبمجرد رحيل بيريهان، خرجت فسألها: صاحية من امتى؟
من أول الصوت علشان ملك نايمة.
هكذا ردت، فابتسم، وعلق: من ورا قلبي على فكرة، أنا كنت عايزك تصحي علشان أقولك حاجة قبل ما انزل.
لم تهتم في هذه اللحظة تحديدا بأن تسأله عن شيء أكثر من: أنا كنت هخرج على فكرة، بس لما سمعت اللي قولته مخرجتش، أنت لسانك طول كده امتى؟
هو علطول طويل، وهما الاتنين يستاهلوا الصراحة.
لم يعجبها رده فأخبرته: مش حاجة حلوه دي، قصر لسانك شوية، و…
قاطع حديثها والدتها التي فتحت الباب، بهت وجهها، وسريعا ما طالعته وكأنها تستغيث، ولم تكن حالته بأقل منها، أدرك فداحة خطأه حين أغلق الهاتف، حين سمع سؤال هادية التي طالعتهما باستنكار: انت هنا ليه؟
كانت بمفردها، تركت ابنتيها مع طاهر وقد اصطحبهما برفقة ابنه، وعادت إلى هنا لتجد عيسى برفقة ابنتها، وكزته ملك ليتحدث، فهمس لها: خايف اعك بتبصلي كإنها عارفة إني بايت هنا من إمبارح.
رأى نظرات هادية العدائية تتضاعف تجاهه، فابتلع ريقه ونطق: وخايف منها.
هل قال خائف؟ كانت تحاول استيعاب هذا، ولكنه منع ذلك حين جذب انتباهها وهو يُحدث والدتها: كان في حادثة على الطريق من شوية، وروحت مع الناس نساعد أصحابها، وهدومي اتبهدلت وكان عليها دم، مكنتش حابب أدخل البيت بهدومي كده علشان الحاج ميتخضش، فطلبت من حسن يجبلي هدوم، وملك كتر خيرها رضيت إني أطلع أغير هنا.
لا والله؟
كان هذا سؤال هادية الاستنكاري، قبل أن تكمل: عبيطة أنا بقى أصدق الكلام ده، ما كنت تقدر تروح وتغير في المرسم بتاع أخوك.
وأسرع هو يبرر: َما هو أنا كنت هروح، بس رجالة الحاج على البوابة من برا لو كانوا شافوني بالمنظر ده كانوا هيبلغوه، وأنتِ عارفه هو بيقلق ازاي، فمكنتش هعرف ادخل قدامهم.
كانت تطالع ابنتها، ترى الارتباك في عينيها، وسألتها بحدة: كلامه ده اللي حصل يا ملك؟
كانت كالصنم، فضربها بخفة فانتبهت، وأسرعت تهز رأسها بنعم، فاعترضت والدتها: أنا مش مصدقة، وحتى لو ده اللي حصل، ازاي يبقى هنا في غيابي.
أنا جوزها والله لحد دلوقتي، هي قالتلك إني رديتها وأنا كمان قولتلك، فوجودي هنا مش غلط ولا عيب.
ولم ترض بقوله المدافع هذا بل أوقفته ناطقة: مليش فيه الكلام ده، أنا اخر كلامي معاك إنك اعتذرت، وقولت هتسيبها تاخد وقتها وقرارها.
أشار على نفسه سائلا وقد تسرب إليه الانزعاج: وأنا عملت إيه عكس كده؟
واجهته بأن وقفت أمامه وتحدثت بغلظة: متلفش وتدور، أنت قولت محدش فينا يحاول يأثر على قرارها، إيه كنت بتبعدني أنا، علشان تأثر على قرارها براحتك، لو أنا كدابة، احلف بالله إن حكاية الدم دي هي اللي حصلت.
وضعته في المأزق، وقبل أن ينطق، ذهبت ملك إلى الغرفة، في حين كان هو يمسح على عنقه بتعب مرددا: أنا مش مصدقك والله، الله يكون في عونهم بناتك يا ست هادية، وأنا هسكت ومش هرد على اتهماتك ليا، علشان مترجعيش تقولي إني مبحترمش الكبير، ومبعملش مش عارف إيه.
وقبل أن ترد عليه خرجت ملك بقميصه من الغرفة، وضعته أمام نظرات والدتها لترى ما عليه من دماء وتحدثت للمرة الأولى منذ قدوم والدتها: كفاية يا ماما لو سمحتي، قميصه أهو.
رمقت هادية قميصه الذي تلوث بالدماء، بقت صامتة، تلقي نظراتها عليهما، حتى همس عيسى لملك التي عادت تقف جواره: هي هتاكلنا ولا إيه؟
اسكت.
هكذا بادلته الهمس، فاعترض وأكمل: ما نقولها الحقيقة أسهل.
ضربته بكوعها ليصمت، ولم يستطع هو منع ضحكته، التي تلاشت فور قول هادية الذي ضاعفت به الضغط على ابنتها: يعني أبوه يعزمنا على الغدا امبارح، وتقولي مش هتقدري تيجي وأقول معلش يمكن مش عايزة تقابليه، وبعدها يصر علينا نبات، ويحلف، ومن صباحية ربنا كل ما احاول اجيب اخواتك واجي، يقولي لا، لازم تستنوا نفطر والفطار يجر غدا وابقى ولا المحبوسة هناك، وارجع بعد كل ده الاقيه هنا وعايزاني اصدق إنه الحكاية كلها اللي هو قالها، لا هي ناقصة يا ملك، وهو يتكل على الله بقى، وأنتِ هتكمليهالي.
سأم من ضغطها فتحرك ليقف أمامها، وتحدث بجسارة: فعلا هي ناقصة، أنا وهي كنا متخانقين علشان كده مرضيتش تروح معاكوا تتغدى عندنا، اتخانقت معايا علشان قولتلها إني مليش علاقة بقرارها سواء هتختار نرجع أو لا، بس تخلي حضرتك كمان ملكيش علاقة، وده مش كلام جديد، أنا قولته لحضرتك قبل كده، وخدي بالك من حضرتك دي، يارب تكون مبينة الاحترام.
ابتسمت ملك وأكمل هو بثبات سرد الجزء الصادق من القصة: جتلها هنا علشان أراضيها، لإنها زعلت لما اتكلمت عن زي ما إنها مش عايزاني اضغط عليها علشان قرار بعينه، لازم حضرتك كمان تعملي ده.
تنهد قبل أن يأتى إلى الجزء الذي يكذب فيه تحت نظرات هادية التي تحاوطه، ولكنه نطق بثبات: وطلبت منها اغير القميص هنا، بعد ما راضيتها، أنا لسه جاي من شوية على فكرة، مش بايت في حضنها من امبارح.
ضربته ملك الواقفة خلفه بقدمها في ساقه خلسة، واستدار يطالعها متوعدًا وهو يلقي تهديده: هقولها.
طالعته بضجر، وأخيرا نطقت هادية: روح.
لا دي بتاعتي دي.
هكذا أخبرها بابتسامة فكررت على مسامعه: بقولك روح يا محترم.
هز رأسه بنفس ابتسامته وهو يرد: حاضر حضرتك.
سيقضي عليها ببروده، وطريقته هذه، وهي ستفتك به، قرر المغادرة وهو يعلم أنها ستستمر في ضغطها على ابنتها، لذا تشبث بمرفق ملك وهو يقول: تعالي وصليني لحد تحت، سلمكم صعب أوي، وأنا صحتي على قدي.
تحركت بتردد تحت نظرات والدتها، والتي كان ستجذبها ولكنه استوقفها مدعيا البراءة: بقولك صحتي على قدي، حرام عليكي، اعتبريني ابنك.
عاملته بطريقته وهي تقول بتوعد: سيبني اعتبرك ابني وشوف هعمل معاك إيه؟
تراجع قائلا: لا خلاص متعتبريش، أنا كده ومش ملاحق.
خرج برفقة ملك وما إن ابتعدا قليلا، استوقفها على الدرج طالبا: لو ضغطت عليكي متغيريش الكلام اللي اتقال، مهما حصل، لإن مهما حاولت معاها مش هتفهم الموضوع غير إنه عناد فيها.
هزت ملك رأسها وأكمل هو: أنا كنت ممكن أقولها إني هنا من امبارح عادي، بس مرضتش، علشان كانت هتبقى ليلة وهتخلص عند ابويا وامك بتقوله ابنك مبيحترمش حد يا حاج.
وهو أنت مش كده فعلا؟
سألته ورد بغيظ: بعد كل حضرتك اللي قولتها دي، معلش أنا الغلطان.
تحرك ليرحل حين سمع نداء هادية من الأعلى، وحثها على الصعود لها، وقبل أن تغادر استوقفها قائلا: ياريت تبلغيني بردك بسرعة لو كان موافقة، وأي رد تاني متبلغينيش بيه، فكري فيه تاني.
وقفت أمامه تصارحه بلا ذرة تردد: مهما كان الرد هبلغك بيه، لما اوصل لقرار مش هفكر تاني، أنت قولت اللي يريحك، وأنت هتقبل مهما كان الرد.
هز رأسه مؤكدا: قولت هقبل اه، بس قولت إني مش هبقى مرتاح، ياريت تفتكري ده برضو، ولو بتعتبري ده ضغط من اللي بمنع الست هادية منه اعتبريه، أنا هعترف بكل رضا إني أناني لو وجودك معايا أنانية.
حين كررت والدتها النداء، أشار لها ناحية الأعلى، وعلق: يلا قبل ما تنزل، ويلاقونا أشلاء، أنا أمك دي تعبت منها خلاص، دي حتى كوابيسي بتطلعلي فيها.
رفضت طريقته وكانت في طريقها لتوبيخه فرفع كفيه ناطقًا ببراءة: قوليلها عيسى بيقولك هتوحشيه لحد ما يشوفك تاني.
خرج من البوابة ولم تستطع إلا أن تضحك هي، فتفجأت به يطل عليها قائلا: بتضحكي ها؟
استدارت تصعد للأعلى بابتسامة متجاهلة سؤاله، كانت بانتظارها والدتها، وكان اخر ما توقعته أن تسألها مباشرة: من غير لف ولا دوران عايزة ترجعيله؟
لم تعرف بماذا ترد، هرب الجواب، وردت والدتها بدلا عنها: ارجعيله بس مترجعيش تشتكي.
وتحدثت مع والدتها محاولة استدعاء كامل الهدوء: لا يا ماما هشتكي عادي لو حصل حاجة، علشان هي دي الحياة، وأنتِ هتقفي جنبي حتى لو قولتي عكس كده دلوقتي علشان محدش هيحبني قدك.
يعني عايزة ترجعي يا ملك.
كان هذا قول والدتها والذي ردت عليه قائلة بحزن: مش عارفة اخد قرار، خايفة، ومحتاجة اطمن، محتاجة حد يقولي اعمل إيه غيره، محتاجة حد يسمعني لما اقوله إني بحبه أوي، بس خايفة اتوجع، أنا كان أول مرة اطمن بعد ما سافر يا ماما، يوم ما شوفته عند ميرت، قلبي اتخطف لما شوفته، كان خاسس وباين إنه مش كويس، بقى نفسي أروح اخده في حضني، أول ليلة أنامها مرتاحة من فترة، هي الليلة اللي نمتها في حضنه عنده، في شقتنا، اللي عمل كل حتة فيها علشاني.
نزلت دموعها، وطالبت أمها برجاء: قوليلي أنتِ اعمل إيه طيب؟ بلاش تقوليلي، طمنيني على الأقل.
احتضنتها هادية، مسحت على خصلاتها ونطقت برفق: محدش هيعرف يقولك تعملي إيه غير نفسك، والله العظيم ما حد عايزك مرتاحة قدي، ومش هقولك ترجعي ولا مترجعيش، بس بعد لهفتك عليه دي، قرري بنفسك هتعملي إيه، بس فكري في كل حاجة، واختاري، ولو اختارتيه، وشايفة إن دي راحتك، أنا هفضل معاكي لاخر لحظة في عمري.
تشبثت بوالدتها وهي تدعي: ربنا يحفظك ليا، والله يا ماما عيسى كويس وبيحبك، طب عارفة قالي تحت إنك بتوحشيه.
طالعتها هادية بتهكم وهي تكرر خلفها: قالك بوحشه، قوليله ميوحشكش غالي، فرق السما والأرض بينه وبين طاهر المؤدب المحترم، هو في زي طاهر.
كررت على ابنتها بإصرار: فكري كويس يا ملك، علشان خاطري تفكري كويس.
هزت رأسها موافقة بابتسامة، وتركتها والدتها، دخلت هي إلى غرفتها، حضوره طاغي، حتى برحيله كل ركن ينطق باسمه، تذكرت ليلة أمس، حين اعتدل على الفراش وأشار بعينيه ناحية أحد الصناديق: إيه ده؟
كانت تشك به، فصرحت لترى ردة فعله: هدية اتبعتتلي.
وفتحتيها؟
كان هذا سؤاله، وهزت هي رأسها نافية، وقالت: لا مفتحتش العلبة، ولا بصيت فيها.
تراوغه، وهو يعلم، ويحب هذا، استدار لها يسألها: ومفتحتيهاش ليه؟
ردت عليه مصارحة بما لديها: علشان توقعت إنها منك، وأنا وقتها مكنتش طايقة أبص في وشك، وعلشان يوم ما جتلي كان نفس يوم ما قابلت شاكر، كنت مصدومة من إني شوفته، وخايفة، ومتوترة، و عندي غضب ناحية الدنيا كلها، بالذات أنت.
يستمع لها بإنصات تام، وما إن انتهت حتى طالبها برفق: ممكن تفتحيها؟
لما تمشي هفتحها.
ورفضت رفض تام رغبته في فتحها، والآن بعد رحيله، حان وقت أن تطل على محتويات الصندوق هذا، جلست على الفراش ووضعته أمامها، فتحته لتجد في البداية ورقة بيضا دُوِن عليها بخط أنيق اسمها، وتحته كتب: ده أول شغل أشارك فيه وأنا بعيد عنك، ورغم البعد، كل حاجة فيها روحك يا ملك.
جملة مختصرة أسرتها، تناولت أول ما وقعت عيناها عليه، دفتر أحمر قاتم، طغى عليه الفخامة، وفي الوقت ذاته كان برقة الفراشة، كهذه التي توسطته، وطغى اللون الذهبي على حوافها، وزُيِن الدفتر من الأسفل بشريط انتصفه فراشة صغيرة، ونُقِش على جانبه الأيمن بخط أنيق كلمة انجليزية، وعلى جانب الشريط الأيسر نُقِش اسمها، ابتسمت بتأثر وهي تقرأ: Beautiful Malak.
كان هذا نفسه هو المدون على الأكياس التي حوت باقي الأشياء، تعلم أنه عمل مع قسمت، شاركها في مكانها في شرم الشيخ، والآن تعلم أيضا، أن أول ما نتج عن عمله معها يحمل اسمها، تناولت ما أسفل الدفتر، كان عقد حباته بيضاء لامعة، توسطته زهرة زُيِنت ورقاتها بنفس الحبات، ووُضِع مع العقد الورقة التي حوته، كان مُدون عليها: كل قطعة قصة، وكل قصة تبدأ من هنا، تبدأ من ملاك وتنتهي بها.
INVITE YOU TO COLLECT THESE STORIES.
لمعت عيناها بحب خالص، له هو فقط ولا لأحد غيره، وكعادته في وصفها بالقطة، يحضر لها كوب على شكل قطة كرتونية شهيرة، دُوِن عليه من الأسفل اسمها أيضا بنفس طريقة الدفتر، الآن أدركت لما رغب أن تفتحها، خط إنتاجه الأول مع قسمت كان خاص بها، كما قال هو يحمل روحها، لم تستطع التحمل أكثر، أقصت التأرجح، وأخذت قرارها، ستعود له مهما حدث، ضحكت وهي ترى مجسمات العرائس الصغيرة التي وُضِعت في أسفل الصندوق، كل شيء ينطق باسمها، وبحبه.
ونتيجة هذا هي الآن معه في غرفته، بعدما أخبرته قرارها، برغبتها في البقاء معه، ولكن بشروطها، الشروط التي لم يسمعها حتى الآن، ولا حتى سبب
أخذها هذا القرار، وبعد تمنع شديد منها، قرر أن يحصل على الرد وسأل: عايز أعرف أي حاجة طيب يا ملك، اتكلمي، من ساعة ما جيتي و…
بتر عبارته حين رأى ما يزين عنقها، وكأنها هي من تزين حبات اللؤلؤ هذه التي تراصت على عنقها وليست الحبات التي تزينها، وتلك الزهرة، اختياره الرقيق لهذه القطعة، التي منذ أول لحظة لمحها، وهو لا يراها إلا عليها هي، إنه العقد، سُلِبت نظراته ناحية جيدها، ورفعها بإرادته لتسرقه عيناها وهي تقول بابتسامة: أنا شوفت الهدية يا عيسى.
مسحورًا بها، هذا أدق وصف لحالته الآن، وصف تجسد أمامها وهي تراه يميل على عنقها واضعًا قبلة رقيقة، دفن بعدها رأسه فيه، ومسحت هي على خصلاته، وهي تشعر وكأنها تحلق الآن، تحررت للتو من سجنها، ومن حررها وأعطاها جناحين كان هو، الاختيار الأول، والاختيار الأخير، وحبيبها الذي على يده تعلمت أن كل الهوى مر وبالأخص هواه، ولكنها وبإرادتها قررت الوقوع به، عاشت معه في وقت قصير، ما تشعر وكأنها عاشته في عشرين عام، بصمته في حياتها واضحة، ورغم ذلك تعلم أن مازال هناك أكثر، يصفها الآن وبشدة قول نزار قباني: عشرون عاما يا كتاب الهوى.
و لم أزل في الصفحة الأولى.
وبكل رضا لا ترفض أن تبقى في الصفحة الأولى للأبد طالما الرفقة، رفقته هو.
كان اخر لقاء جمع بيريهان بطبيبها النفسي نور، منذ أسبوع، تتذكر جلستهما هذه بالتحديد، خاصة حين صارحته: بابا قالي أشوف دكتور غيرك.
لم تكن تعرف أي شيء عن خلافه هو ووالدها، ولا بأخبار عيسى التي سربها طبيبها لوالدها بالإجبار، لذلك سألها نور: مقالكيش ليه؟
قالي علشان أنت عيسى كان بيتعالج عندك، هو قايلي من زمان على فكرة.
ورد نور على هذا بقول: ومسبتينيش ليه؟
مطت شفتيها دلالة على عدم معرفتها، وقالت ما ربما يكون السبب: ممكن علشان الكلام معاك في السيشن بيريحني.
تنهد بهدوء قبل أن يقول: فعلا عيسى كان بيتعالج عندي، و ملك كمان.
لمعت عيناها، ونظرت له تسأله بدهاء: مش احنا صحاب؟
أدرك غرضها، فخلع نظارته قائلا بابتسامة: لا أنا دكتورك، وأنتِ الحالة بتاعتي، مينفعش العلاقة تكون أي حاجة تانية غير كده، ومينفعش أقولك اللي ملك كانت بتقوله في السيشن، زي ما بالظبط مبقولش لمعالي الوزير أي حاجة بتحصل هنا، مع إنه كان بيسأل باستمرار.
تأففت بضجر، وسألها هو محاولا تلطيف الأجواء: إيه أخر الأخبار، بقالك فترة مش منتظمة.
وبحزن شديد نطقت: أنت قولتلي إني عيانة بشاكر، وأنا عملت اللي قولتلي عليه، خدت موقف، وقولتله إنه مفيش بيننا حاجة، لحد ما يسلم نفسه، وإنه لو عمل ده أنا هساعده، واختفيت تماما، بس مش مرتاحة، هو وحشني أوي، ازاي أنا سايباه لوحده كده وأنا عارفة إنه محتاجني، كإني اتخليت عنه.
طب انتِ ليه مثلا مبتجربيش تحطي احتمال إن كلام الأطراف التانية عنه صح؟
ودافعت باستماتة: لا مش صح، كل حاجة بيعملها شاكر بتقول إنه صادق، هو بيحكيلي كل حرف من أول ما عرفته، هعتبرهم هما الصح بناء على إيه؟
ووضح هو يرشدها: تصرفات مثلا شوفتيها منه، ساعات حبنا لأشخاص، ممكن يعمينا عن حقيقة ظاهرة قدامنا، ممكن أصلا عقلنا يبقى مستوعب الحقيقة دي بس قلبنا مكدبها، يعني مثلا والدك دلوقتي قالك تسيبيني علشان خايف عليكي لإني نفس الشخص اللي كان عيسى بيتعالج عنده، أنتِ خدتي قرار إنه لا، علشان محصلش مني شيء وحش، ومرتاحة، وجربتي دلوقتي تحاولي تاخدي مني أسرار حد تاني ومعرفتيش، لكن أنا من قصتك مع شاكر شايف أكتر من موقف، كانوا يستدعوا تعيدي التفكير في كل حاجة.
انتبهت له، وعدد هو لها: مواقف كلها بتقول إنك كان لازم تاخدي وقفة، وده محصلش، حتى وأنتِ بتحكيهالي، كنت بتبرريهاله، بنت عمك مثلا أقرب حد ليكي، سبب الجفاء في علاقتكم كان شاكر هو اتهمها وهي اتهمته، صدقتيه وكدبتيها ليه؟
علشان كلامه كان منطقي أكتر، و علشان قولتلك إنها عندها أسباب تقف ضده وتكرهه زي إنها بتحب عيسى.
وأمام مبررها ذكر موقف اخر: طب بلاش بنت عمك، لما مد إيده عليكي، تفتكري إن في أي سبب في الدنيا يستدعي إنه يعمل ده؟ في واحد متشخص IED لما قولتله إنه ممكن يضرب مراته في واحدة من النوبات، بعد ما كان رافض العلاج وافق فورا لما عرف إنه ممكن يأذيها، هل الحب الكبير بينك وبين شاكر السليم ميخليهوش يتجنب تماما يعمل ده.
بهت وجهها، وابتلعت ريقها بصعوبة وهي تخبره: هو كان متعصب أوي، علشان أنا روحت ساعتها عند ملك، كان زعلان إني مكدباه، كان لحظة غضب، وهو اعتذرلي كتير على فكرة، ووعدني، أيوه وعدني عمره ما يكررها تاني و…
توقفت وهي تراه مبتسم، فسألته باستغراب: مبتسم ليه؟
علشان مش واخدة بالك إن كل كلامك مبررات، وإنه حبه ليكي، وحبك ليه، مينفعش يخليكي بتدوري على مبررات لموقف اتعرضتي فيه للأذى.
تستمع الآن تحديدًا لجمل نور في أذنيها وهو ينبهها: ساعات يا بيري بيبقى في سكك الرجوع منها صعب، لكن بشوية عقل بنقدر نرجع، المهم إننا منوصلش لنقطة يبقى الرجوع فيها عن اختياراتنا مستحيل، نقطة نفتكر عندها إننا لازم نعيد حساباتنا في كل حاجة، بس بيكون خلاص مينفعش نعيد الحسابات دي، عند النقطة دي بنخسر بس.
يتكرر هذا الحديث في أذنيها، وهي أسيرة لدى من وهبته فؤادها، وعقلها وكل شيء، أسيرة لديه، وقد وصلت إلى النقطة التي حذرها منها نور، نقطة عندها نتمنى الرجوع ولكن نخسر، تتدرك هذا وهي تتعرض لأبشع ما يمكن أن يتعرض له شخص على يد من أحب، تتعرض لسلب الأمان على يده، ممددة على فراش في غرفته، وهو بيدهِ سكين، يتجول به بحرية تامة، ومساره عنقها، وحتى الصرخات يمنعها منعها بإشارة محذرة، وهو يقول بنبرة أرعبتها ويده تتجول على وجهها: صوتك يا ملك.
حالة من الصدمة والإنكار، بالتأكيد سبب كل هذا أنه ثمل، نعم بالتأكيد، هذا أفضل بكثير من أن يكون السبب هو أنها مخطئة في تصديقه في كل ثانية، أفضل من أن تكون هذه النقطة التي حذرها منها نور، نقطة اللارجعة، ولا ينتظهرها سوى الهاوية. سوى درب مجهول وصفه نزار قباني أيضا: عشرون عاما فوق درب الهوى، ولا يزال الدرب مجهولا
ولكن دربها المجهول هذا في هذه اللحظات بالتحديد تخشاه وبشدة، ولا توقع سوى أنه هلاكها!
التعليقات