رواية عذرا لكبريائي للكاتبة أنستازيا الفصل الحادي والخمسون
ضغطتْ على الفرامل بقوة عندما لمحت المطعم الذي تناولنا عشاءنا فيه بالأمس، مطعم السيد إدوارد.
ارتد جسدي للأمام ولولا حزام الأمان لطرت واصطدمت بزجاج السيارة، تنفست بذعر ورجوتها: جينيفر أرجوكِ أحسني إلى قليلاً!
ولكنها أشارت إلى المطعم وقالت متنهدة: كنا هنا في الأمس. جيد لن نضطر للبحث عن مكان آخر، لننزل.
أومأت برعب فوراً ونزعت الحزام لأنزل دون تفكير خشية أن تغير رأيها وتبحث عن مكان آخر، ما ان استقرت قدماي على أرض الشارع حتى تنفست براحة أسند يداي على ركبتي وأحني ظهري: حمد لله على سلامتي.
ثوانِ قليلة حتى اعتدلت ونظرت إليها لتتقدم بدورها وسبقتني بصمت.
أتساءل عما فعله رين!
تبعتها لنجلس في الداخل، لنختار طاولة شاغرة في زاوية المطعم، يا الهي. كنت قبل قليل فقط أخطط لمجيء إلى هنا وسؤال إدوارد بشأن كريس. من كان يصدق أنني سأتراجع عن الأمر وأتي إلى هنا مع جينيفر لنتحدث في أمر مختلف تماماً.!
نظرت إلى طبق المقبلات الصغير الذي يحوي رقائق البطاطا المقلية والرفيعة، أخذت واحدة لألهي نفسها بها محدقة إلى جينيفر التي تنظر إلى هاتفها بإهتمام، أتى النادل ليسأل عما نريده لنطلب منه إحضار كوبين من الشراب الساخن.
اسندت مرفقاي على الطاولة أحملق فيها لتتنهد وقد رسمت على ملامحها تعبير هادئ غريب!
ارتفع حاجباي: الا تنوين التحدث؟ بدأت أشعر بالقلق!
أخفضت نظرها قليلا قبل ان ترمقني بعينها الزرقاء وأمسكت خصلة من شعرها الأسود تلفها حول إصبعها متمتمة بصوت منخفض: لقد كذبت عليكِ.
هاه؟
لسنا هنا لأجل الحديث عن رين. هو لم يقم بأي أمر سيء كما تعتقدين، ولكن ما قلته بشأنه في تلك الرسائل حقيقة.
إذاً هو ليس مهتماً بأي فتاة ولا يواعد إحداهن، هذا جيد حقاً! يبدو أنه كان قلقاً عليكِ بالفعل من والدته وأوليفيا ويحاول إبعادك عنه فقط!
أضفت بإستيعاب: ولكن. ما الذي أردتِ التحدث عنه إذاً؟!
أسندت وجنتها على كف يدها وقد مدت نحوي هاتفها لتدفعه على الطاولة، أبعدت يدها ببطء في حين طرفت بعيني باستغراب ونظرت إلى شاشة هاتفها بفضول وإهتمام.
عنوان؟
عقدت حاجباي بحيرة: ما هذا؟
أعقبت أكتم ضحكتي: عنوان الفتاة التي تحاول التقرب إليه، هل تحاولين الظفر بها؟ ولكن. ألم تقولي أن لا أحد في حياته!
ظلت تنظر إلى بهدوء تام غريب عن عادتها! تلاشت ابتسامتي وقد بدأ هاجس غريب يسيطر علي! زمت شفتيها وأخذت نفساً لترجع ظهرها تسنده على الكرسي متكتفة: مكان كريس.
مكان. كريس؟
نظرت إلى الشاشة بعدم استيعاب قبل ان تتسع عيناي وأشهق منتفضة بذهول: ماذا؟!
حصلت على عنوانه بطريقتي الخاصة، قبل أكثر من نصف ساعة قد وصلني العنوان وتأكدت أنه هناك بالفعل. لم أذهب للقائه حتى الآن وشعرت أنكِ أول المستحقين في رؤيته.
هل ما أسمعه ضرب من خيال؟
كلمات جينيفر.
لا يمكن أنها واقع!
ربما لا زلت نائمة على السرير وظننت أنني استيقظت وارتديت ملابسي وخرجت! ربما أريد عودته إلى درجة خوضي في حلم بعيد المدى إلى هذه الدرجة، أنا أشتاق إليه إلى درجة تصوير هذا الحلم بكل تفاصيله التي تبدو واقعية.
أنا. في المنزل بلا شك!
أو ربما إحدى دعاباتها المعتادة! نعم. هذا معقول أكثر.
وبالرغم من محاولتي لتهدئة أعصابي إلا أنني شعرت بالتشتت ومررت كلتا يداي في شعري بضياع ودهشة حتى همست لي بنبرة جادة: استوعبي الأمر بسرعة يا شارلوت.
فغرت فاهي أحملق فيها وقد ارتجفت شفتاي قبل أن أقول بصوت عالي دون أن أشعر: أنتِ لا تمزحين! هل هذا حقاً عنوان كريس؟
أومأتْ بأعصاب هادئة عكس الأعاصير في جوفي: لا أظنكِ ترغبين في إهدار دقيقة واحدة.
أردفت تنظر بعيداً: استغرقت وقت طويل في البحث عنه، ولكن لا تستهيني بي. عملت في مجال الصحافة لوقت طويل ولدي طرقي الخاصة. المهم الآن. أنصت إلى جيداً لنتحدث بجدية، ولكن قبل ذلك، هل استوعبت الأمر الآن؟
طرفت بعيني التي أدركت أنهما تدمعان بعدم تصديق عندما تكونت غشاوة تمنعني من رؤية ملامحها بوضوح!
أخفضت رأسي بسرعة وأغمضت عيناي بقوة أعض على شفتاي!
لا اصدق.
أنا حقاً لا أصدق ما أسمعه، لماذا لا يزال يبدو وكأنه حلم سعيد!
لماذا يبدو مجرد وهم؟!
سألتقي بكريس أخيراً؟ هل سأراه حقاً؟ سأعيده معي ليذهب إلى جيمي؟ سأوفي بعهدي؟!
هل هذه نهاية المشقة أخيراً؟!
سيطرت على نفسي وقلت بصوت أجش ومبحوح لأقف فوراً: ما الذي تنتظرينه! لنذهب.
قلتها أتحرك بضع خطى أحثها على الإسراع ولكنها راقبتني بعين مريبة لمعت ببريق تحذير وهي تشير لي أن أجلس مجدداً.!
سرت القشعريرة في جسدي ووقفت في مكاني بتردد!
لماذا هذه النظرة؟!
إن كان ما تقوله حقيقة. لماذا لا تبدو سعيدة؟! لا يمكن. هل ستنفجر الآن ضاحكة وتقول كعادتها انطلت الحيلة عليك ؟
وجدت نفسي أجلس ببطء وقد هاجمتني عشرات الإحتمالات ورسمت خيالاً لما قد تقوله!
إن كانت الجدية لا تزال تتربع على عرش ملامحها فلا يمكن أنها ستخبرني أن كريس. قد ارتكب خطأ في حق نفسه مثلاً؟ أضرب عن الطعام ووقع طريحاً في الفراش؟ حاول إيذاء نفسه؟! مستحيل! هو ليس بهذا الضعف ليتصرف بهذه الطريقة.
يا الهي. لا أريد سماع أمر مماثل!
أطبقت شفتاي بقوة وحاولت الدفاع عن نفسي من كل هذه التشاؤمات التي هاجمتني على حين غرة ودون شفقة وقلت بصوت مرتجف متسائلة بنفاذ صبر: ما الأمر؟! انتظرنا كثيراً فلماذا لا نذهب بسرعة! ما الذي ننتظره الآن؟
نعم انتظرنا كثيراً ولكن إليكِ بالنتيجة التي لن تودي سماعها، أنا لم أتيك بعنوانه فقط. استفسرت بشأنه ويبدو أنكِ لن تحبي ما آلت إليه الأمور.
عقدت حاجباي بعدم فهم: لماذا تتحدثين هكذا يا جينيفر؟! لست أفهم! لماذا تقولين هذا؟! أرجوكِ لنذهب بسرعة لا أريد تضييع ثانية واحدة.!
إن كنت مفعمة بالحيوية إلى هذه الدرجة فأنا أسفة لقولها بهذه الطريقة. كريس لن يود لقائك.
م. ما الذي.
كريس لم يعد الشخص الذي تعرفينه، أنا لن أراوغك واتحدث بالألغاز لذا أنصتِ إلى جيداً، إنه يعبث يا شارلوت وليس منطوياً على نفسه ومكتئباً كما ظننتِ، هو في صحة جيدة ويأكل وجباته بإنتظام. ولكنه لم يعد ذلك الشخص الذي تظنينه.
نفيت برأسي بضياع: ما كل هذا؟ لماذا تقولين هذه الأمور، أصابته صدمة لما حدث فمن الطبيعي أن لا يعجبني وضعه، اليس هذا منطقي كفاية؟!
حتى لو كان يقضي وقته في الحانات ليثمل لأوقات متأخرة ويعود مع النساء بشكل شبه يومي؟
تجمد الزمان والمكان.
لم يعد في المكان أي صوت سوى خفقات قلبي! ولم يعد هناك أي كيان سوى الجالسة أمامي بعد ان فجرت حروف كلماتها تلك!
شعرت بالدوار ونظرت للأرض فوراً!
تلك النبرة الجادة. حملت أسوأ الكلمات التي قد أسمعها!
هذا لم يعد حلماً.
وإنما كابوس!
ما هذا؟! كيف أشعر بتسارع خفقات قلبي إلى درجة شعوري بعجز الدماء وتشتتها في سائر جسدي؟!
عقدت حاجباي أتمسك بأمل وأنا أبتسم بتهكم متنفسة بصعوبة: يا لهزلك الثقيل. ألم تجدي طرفة أفضل من هذه؟!
ولكنها ظلت تحدق إلى بعين جادة!
لا أرى أي إشارة تدل على مزاحها، لا ارى سوى زرقتيها الحازمتان وفمها الذي تحرك دون أن يرحمني لتقول بهدوء: شارلوت. لا فائدة من مجاملتك، سألت عنه بالفعل واتضح أنه بالكاد يستخدم عقله، وكأنه يتصرف كرجل عازب يعيش وحده بالفعل! وكأن لا وجود لأفراد عائلته في رأسه. كنت أعلم أنه سيقوم ببرمجة عقله ولكن. ظننت أنه سيعود بشخصيته الجافة تلك، لم أكن أتخيل لجوئه إلى حذف تفاصيل كثيرة من عقله!
شبكت يديها أسفل ذقنها وعقدت حاجبيها وقد ظهر الضيق في صوتها: الطرف الذي أوصل المعلومات بي مصدر موثوق ولن أُكذب حرف مما وصلني، بطريقة ما. لم أستبعد أن يفعل كريس هذا ولكنني لا أصدق أنه اختار هذا الطريق أيضاً.
ما هذه الرجفة المزعجة في جسدي؟ في شفتاي وفي جفناي اللذان يرتخيان بطريقة غريبة!
كريس. يعبث مع النساء؟
يذهب إلى الحانات ويثمل ببساطة.؟
أشعر بأن الدماء هربت من جسدي. وكأنني أعاني من جفاف مريب!
هاه؟
ما الذي يحصل لي؟
أشعر بألم غريب، أشعر بيدين تعبث في عضلة قلبي وتقلّبها لتنتزعها من مكانها دون أي رحمة!
كنت خائفة حتى الموت. كنت قلقة حد الجنون! ظننته سيضرب عن طعامه، سيلجأ إلى طريقة أو أخرى يؤذي فيها نفسه. حاولت الوقوف على قدماي لأجله! حاولت التمسك بكل ما أوتيت من كل مقدار للطاقة في روحي. عملت جاهدة على الصمود أمام مخاوفي وعدم التشاؤم بالرغم من وجود ذلك الشيء المظلم الذي يحاول الهجوم على كل ليلة!
وفي النهاية.
يعبث؟!
ليرحمني أحد. ويخبرني أن هذا كذب! ليخبرني أي أحد أن ما سمعته هراء!
نفيت برأسي وهمست بتلعثم: شهر ونصف. جيمي ينتظره شهر ونصف، وفي المقابل.
تلعثمت بالخيبة وتعثرت بالإحباط والإنكسار وأكملت كمن يعجز فمها عن التوقف: ألا يعني هذا أنه لم يفكر في العودة؟ هل كان يقضي وقتاً ممتعاً؟ ولكن. لقد وعدته! وعدته أن أعيده. هل سأحطمه واعود إليه خائبة؟ إنه في انتظاره يا جينيفر! ث. ثم أنني. شعرت بالفراغ دونه. شعرت بالشوق إليه وكنت قلقة! هل هذا ما قلتِ عنه برمجة عقل؟ هل كانت برمجة أم فقدان ذاكرة! ما الذي. على فعله؟! كيف أتصرف!
خانتني الكلمات وقد هربت.
توقف لساني عن الحركة وأنا أنظر إليها بعين لا تنكف ترجوها أن تنتشلني من ظلام يكاد يأكلني!
كيف تكون الكلمات التي تخرج من جوفي لا شيء مقارنة بما أشعر به؟
كيف تكون عاجزة عن التعبير عن شيء يكاد يخنقني؟!
عندما وقفت متجهة إلى و ربتت بيدها على كتفي بلطف تسمرت في مكاني بخيبة لا تُقارن بأي خيبة قد شعرت فيها طيلة حياتي.
لماذا؟
لماذا يلجأ إلى تلك الطريقة من بين كل الطرق! ألم يعد لجيمي مكان في عقله؟
ماذا عن قلبه؟!
كنت أنتظر عودته في أي وقت! كنت أتخيل أن يفتح الباب ويدخل في أي لحظة! لقد رسمت أملاً أن اتلقى اتصالاً على الأقل يخبرني فيه أنه بحاجة إلى إستيعاب ما حدث! على الأقل كلمة واحدة يثبت فيها وجوده معنا. حرف واحد يجعلنا نتمسك بأمل صادق!
لست أفهم! لست أفهم أي شيء. لماذا أبدو كما لو كنت زائرة انضمت إلى كل هذه الأحداث فجأة وقد فاتها الكثير! كيف أشعر أنني كنت في الخلف تماما. كنت بعيدة بينما يوجد الكثير أمامي بعيداً عن متناول يدي وبعيداً عن إمكانية إبصاري!
هل هذا هو جزائي؟ هل هذه هي مكافأتي؟ أمتنع عن البكاء وأمتنع عن المطالبة بحق تفريغ خوفي وقلقي كما يفعل الجميع وأجازى بسماع خبر كهذا بعد طول إنتظار؟
يا له من جزاء قاسي. يا للقسوة.
أي قسوة قد مدت نفذوها إليه لتجعله يتجاهل كل شيء وكأن شيئاً لم يكن؟ أي لعنة أصابته وأطاحت به لينسى أمر ابنه وينسى كل من لا يزالون يفكرون بشأنه بكل قلق وكل خلية من أجسادهم تفكر فيه؟ أي عُزلة هذه التي اختارها وجعلته يتغذى بالعبث هنا وهناك!
هل هذا يعني. أنني لم أعد أعني له أي شيء؟!
الحب الذي كنت سعيدة أنه صار متبادلاً بيننا، الحب الذي شعرت به ينمو ويكاد يصل إلى مرحلة سامية تخطف ما تبقى من عقل وحواس لكلينا! الحب الذي كنت أرجوه ليتفوه به. لم يعد موجوداً؟
هل من السهل العبث مع النساء في حين أنتظره؟ في حين كنت أخشى عليه من التوغل في عتمة الإكتئاب؟ في حين كنت قلقة أن يهمل صحته ويأخذ بنفسه إلى الهاوية؟
اليس من المؤلم ان يدوس بقدميه على مشاعري في اللحظة التي كنت مهزوزة من الداخل وأتظاهر أمام الجميع بأنني فتاة شجاعة وقوية متفائلة!
ما الذي يحدث! كيف آلت الأمور إلى هذه المنحنى!
أنا.
ما الذي كنت أنتظره تحديداً؟!
أعطِني العنوان.
همستُ بشرود وصوت لا أدري كيف خرج من بين حبالي الصوتي المرتخية إلى أقصى حد وكأن لا طاقة لها في العمل.
حدقت إلى بهدوء قبل أن تنفي: ما تفكرين به كالذهاب وحدك أمر غير مقبول و.
أعطني إياه.
عاودت أقولها ولكن هذه المرة رفعت عيناي إليها بوجه جامد لا حياة فيه!
بملامح لا تظهر سوى نفاذ صبر وحنق مكبوت.
غيظ من الصعب التحكم فيه!
خيبة لا يمكن وصفها ولو بعشرات الجُمل!
طرفت بزرقتيها بإستياء وتردد واضح واتجهت لتجلس على كرسيها مجدداً، أعقبت بدوري: من فضلكِ. أريد العنوان، على مقابلته.
فتحت فاهها لتعترض بضيق ولكنني قلت لأقف بهدوء: وحدي.
ولكن! ربما من الأفضل أن نذهب معاً يا شارلوت، أعلم أنكِ غاضبة ومستاءة ولكن كريس لم يعد الشخص الذي تعرفينه صدقيني! الأمر لا يقتصر على ما قلته ولكن ما وصلني أسوأ! إنه يعامل الآخرين بإحتقار ودونية أنا لا أبالغ في كلماتي لذا تعقلي ولنفكر قليلا ل.
جينيفر. اذهبي للقائه متى شئتِ، ولكنني بحاجة إلى لقائه الآن وحدي. لدي الكثير لأقوله، الكثير.
عضت على شفتيها وقد عقدت حاجبيها لتعيد شعرها الأسود خلف أذنها بيد مرتجفة متوترة! بدت ردة فعلها هذه للحظة كنقطة سوداء في قائمة الشؤم خاصتي وشعرت بتردد كبير.
ولكنني.
سأموت إن امتنعت عن تفريغ الكلمات التي تتزاحم في جوفي، سأموت حتماً إن مرت ساعة أخرى وأنا أكبح رغبتي في التخفيف عن نفسي قليلاً. أنا بحاجة لرؤيته الآن وحالاً.
لن أصبر أكثر!
كنت أحدق من خلال نافذة السيارة بعين تائهة وضالة، بوجه لا ينم سوى على البؤس وقدر هائل من الكآبة المميتة.
هكذا إذاً يا كريس.
لجأتَ إلى هذه الطريقة من بين كل الطُرق المحتملة.
علي التصفيق له بكل حرارة أهنئه على ما لجأ إليه ليهرب من حقيقة ما حدث.
سأختصر الأمر ببضع كلمات ثم أصفق وأغادر. لا يوجد ما يُدعى إجبار. لا يوجد من علينا إجباره ليزور ابنه طريح الفراش.
هذا يكفي.
هذا حقاً يكفي.
سأخبرهم أن نجري العملية لجيمي عندما يقرر الطبيب الموعد الملائم، وعندما يُجريها سأذهب لأداء الإختبارات التي فاتتني بسبب انشغالنا بما حدث.
وعندما أتخرج سأبدأ بالعمل مباشرة، ولكنني لن أخذل جيمي أو أتركه.
سأبقى إلى جانبه.
سأحاول تعويضه قدر الإمكان.
لست مجبرة أو مرغمة، لست أشفق عليه وأرغب في الظهور كالعطوفة الحنونة.
أحب جيمي. تعلقت به، أكن له الكثير ورؤيته بهذا الشكل بعد الحادثة أكدت لي أنه بات جزءً من حياتي من الصعب الإستغناء عنه.
علي تحقيق ما أخطط إليه الآن، على أن أطبق كل هذا.
ولكنني سأغلق هذه الصفحة بعد ان أصفي حسابي مع ذلك الجبان الميؤوس منه.
المغرور المتغطرس الذي يخفي ضعفه وعجزه رافضاً تقبل الحقائق.
الخائن الغادر الذي لم يراعي مشاعري ولو قليلاً.
المتخاذل الذي رحل ببساطة ويحاول استمداد القوة المزيفة من اهدار الوقت في أي شيء ومعاملة الناس بإحتقار وتعجرف.
كم هذا مؤلم.
كم هذا مخيب للأمل الذي بهُت بالفعل.
أشعر بعينيها تلقيان نحوي النظرات المضطربة المتقطعة في كل حين، كما أعلم أنها ستحاول إقناعي بأن ترافقني وتقابله معي ولكنني لا زلت أريد لقاؤه بمفردي.
حيث أنا وهو والكلمات فقط.
هذا غريب.
ينتابني إحساس كمن لو كنت سجينة تجر قدميها نحو ساحة الإعدام وكأنني أدرك جيداً أنني قد أرى أو أسمع ما سيحطمني إلى قطع صغيرة!
بدأ الخوف يجتاحني.
ولا سيما عندما وصلنا حيث العنوان، أوقفت سيارتها أمام منزل بسيط مشابه لتصميم المنزل الذي يجاوره والذي استقرت أمامه حديقة صغيرة متواضعة.
نظرت من خلال النافذة بهدوء: هل هذا هو المنزل؟
أومأت بإنزعاج: لماذا تتصرفين هكذا! توقفي عن عنادك علينا أن ننزل معاً، لا تقلقي في حال قال أي كلمة سيئة فسأرد له الصاع صاعين وأنسى أنه صديق طفولة أحمق كان عزيزاً ذات يوم.
أردفت ترفع يدها كشرطي يلقي قسم الوفاء للوطن: أتعهد لكِ يا شارلوت، لن أنطق بكلمة ولن أقاطعكما. حسنا لا أدري كيف أقول هذا ولكنني. كنت قلقة عليه أيضاً كما تعلمين!
بذلت مجهوداً كبيراً في رسم ابتسامة هادئة مطمئنة: سأتصل بكِ عندما أنتهي، وإن لم أتصل فربما سأعود بنفسي إلى المنزل بسيارة أجرة، او قد أتجه مباشرة إلى جيمي.
ماذا! لا تريدينني أن أنتظرك في السيارة حتى؟! ما هذا فجأة.!
ألقت على سيلاً من التذمر والإعتراضات ولكنني بطريقة ما نجحت في النزول لأترجل من السيارة وعندما مررت بجانب نافذتها عاودت أبتسم بهدوء: توقفي عن القلق إلى هذه الدرجة المبالغ فيها، سأقابل كريس يا جينيفر. كريس فقط ولا لقب يلحق بإسمه. ليس وكأنني سأذهب لمقابلة مجرم هارب، هاتفي بحوزتي ولم أنساه في المنزل، إن احتجت أي شيء فلن أتردد في الإتصال بكِ أو حتى بستيف.
بدأت أرى الإقتناع أخيراً على وجهها وقد فكرت قليلاً قبل أن تأخذ نفسها وتزفره متمتمة: حسناً إذاً أستسلم، ولكن دعيني أخبركِ بهذا الآن. أنا أعتمد عليكِ بمحاولة إعادته إلى رشده. الجميع بحاجته يا شارلوت لا تنسي. والأهم من هذا، قد يكون هو أيضاً بحاجة إلى شخص ما ينقذه من الهراء الذي يقوم به.
أخفضت رأسي لمَهية قبل أن أميء بصمت وأستدير مبتعدة عن سيارتها.
ثوانِ فقط حتى حركت سيارتها لتغادر هي أيضاً.
ها أنا ذا.
بضع خطوات تفصلني عنه بعد طول إنتظار.
تحركت بقدم مرتجفة، وكأن إحداهما ترفض التقدم والأخرى ترجوني للإسراع! ما هذا التشتت الغريب الذي يعتريني؟!
تقدمت محاولة تمالك نفسي وسرت بخطى هادئة تسخر منها الأعاصير الهائجة في داخلي.
صعدت الدرجات القليلة ووقفت أمام الباب.
أنا.
متوترة!
لا يمكنني التخطيط أو التفكير حتى، لا أدري كيف أتصرف معه ولا أعلم ماذا أفعل وكيف أعامله.
أنا فقط بحاجة إلى تفريغ ما أشعر به من حنق وسخط عليه وأجبره على العودة إلى جيمي، وإن رفض فأنا لم أكن أمزح حين قلت بأنني سأحاول تعويضه واخبر الجميع بأن نجري العملية له ونتوقف عن إنتظار كريس. ولكنني لا زلت أرجو أن الأمر سيكون أسهل مما أظن.
وأقل تعقيداً.
أغمضت عيناي ووقفت في مكاني أستعيد هدوء أعصابي فأنا في أمس حاجة إليها الآن.
أسمع أطفال الحي يلعبون ويصرخون، صوت السيارات وبعض شاحنات النقل، مزاح فتيات صغيرات وصوت كرة يتم تمريرها ودفعها نحو السلة لترطم بالأرض وهتاف البعض بسعادة.
كل هذه الضجة والأصوات أعادت إلى هدوئي وسكينتي، فتحت عيناي ببطء ورفعت يدي لتستقر سبابتي على الجرس.
أسرعت أنزل يدي أزدرد ريقي منتظرة فتحه للباب في أي لحظة.
ولكن لحظات قد مرت ولم يحدث شيء!
عاودت أرفع سبابتي نحو زر الجرس وانتظرت قليلاً حتى بدأت أسمع صوت خُطى تقترب من الباب.
ارتجفت في مكاني ونظرت من حولي بتوتر وأنا أرتب شعري لأخفف من ارتباكي.
إنه قادم.
أسمع خطاه تقترب.
يا الهي.
فُتح الباب!
تحرك جسدي من تلقاء نفسه لأقفز وأرمي بنفسي إليه لأعانقه بقوة وأدفن وجهي في صدره بقوة! أنا لم أمهل نفسي فرصة النظر إلى وجهه حتى! ما الذي. أفعله؟!
يداي تطوقانه بقوة، أنا أتشبث به وكأنه سيختفي خلال ثواني! ما هذا السخف! قلت بأنني سأعاتبه ولكنني الآن.
أنا.
أنا متعبة من نفسي ومشاعري حقاً!
أغمضت عيناي وأطبقت شفتاي بقوة محاولة التعقل، وقد أدركت من أقف أمامه الآن عندما لم يبادلني العناق.
نعم. كريس الذي بات شخص على إقناعه بالعودة.
سأبتعد وأوقف هذا العناق.
ولكن قبل ذلك على أن أحظى ولو بقليل من دفئه والشعور المميز الذي لا ينتابني إلا في أحضانه وإن كان لا يبادلني العناق أو حتى قد تفوه بحرف واحد حتى الآن.
أريد فقط أن أستنشق عبق رائحته الرجولية المميزة التي تقتلني ببطء في أرجاء المنزل حيث لا أستطيع النوم أو الراحة! الأمر ليس بيدي. الشوق الذي أشعر به يكاد يتغلب على أي إحساس آخر.
هذا يكفي يا شارلوت ابتعدي.
ابتعدي.
أحسنتِ.
نعم هكذا.
ابتعدت ببطء أخفض رأسي.
وداعاً لفقرة الشوق والحب، وأهلاً بفقرة العتاب والعذل الذي يستحقه.
رفعت رأسي أخيراً لأنظر إليه، وكما قالت جينيفر بالفعل. لم يبدو عليه أي إجهاد، تعب، إرهاق، كآبة أو شحوب! كما هو. وجهه كما هو ولكن.
يوجد شيء مريب.
أمر خاطئ! ما خطب عينيه؟!
إنه ينظر إلى بهدوء تام، لا ليس هدوءً. جمود؟ جفاء؟ أمر أقوى!
أجبرتني هذه النظرات على ابتلاع ريقي ولكن حتى هذا خذلني عندما دُهشت بجفاء حلقي فزاد توتري!
لماذا. يحدق إلى بهذه الطريقة؟
هيا يا شارلوت ما الذي تنتظرينه؟ فلتكسري هذا الصمت حالاً!
تشجعت وعزمت أمري لأفتح فاهي وأتحدث ولكنه سبقني القول متمتماً بنبرة لا مبالية: كما توقعت، الثرثاران الحكيمان لن يلزما الصمت، أسرعي وقولي ما لديك بإختصار وإيجاز ثم غادري. سأحرص على البحث عن مكان آخر اليوم.
الثرثاران؟
عقدت حاجباي بعدم فهم ونظرت إليه وهو يمد يده بجانبي ليغلق الباب خلفي واستدار ليبتعد!
هاه؟!
فغرت فاهي قليلاً ألاحقه بعيناي وأنا أقف بمكاني لأراه ينعطف يساراً وقد اختفى.
أين ذهب!
هل كان يستحم؟
شعره رطب قليلاً لذا أظنه كان يستحم بالفعل.
الأهم من هذا.
ما هذا اللقاء كما لو كنا شخصان غريبان لا يعرفان بعضهما البعض؟!
حسنا هذا سيء. بدأت أشعر بالضيق يعتريني ورغبة في سؤاله عن سبب معاملته الجافة بدلاً من معاتبته! أفيقي أيتها المغفلة العاشقة كمراهقة بائسة، أنت هنا لتعيدي إليه رشده وحسب.
بللت شفتاي بتوتر وقد سمعت صوت بدى كأطباق وأكياس وما شابه، ترددت بعض الشيء قبل أن اتحرك.
وحينها وقفت في مكاني بعدم استيعاب، أحدق إلى القوارير الخضراء والحمراء حول الأرائك وفوق الطاولة وأسفل التلفاز في كل مكان!
اتسعت عيناي مقتربة من هذه القوارير وكما توقعت.
زجاجات نبيذ! ما هذا الكم الهائل بحق خالق السماء؟
لا يمكن أنه أنهى كل هذا النبيذ، الزجاجات فارغة بالفعل! أمسكت إحداها أنظر إليها بتوجس قبل أن أشعر بوجوده خلفي فاستدرت بسرعة تاركة ما بيدي وقد أمسكت بجانب بنطالي أحاول إخفاء إضطرابي وقلقي، كان يقف أمام الباب الذي اتجه إليه قبل ثواني يحدق إلى بصمت قبل أن يرفع يده يسندها على الحائط بجانبه متمتماً: لقد فرغ النبيذ للأسف، لدي زجاجة واحدة لا أنوي مشاركتك إياها.
م. من قال بأنني هنا لأحتسي هذا الهراء معك!
قلتها بتلعثم ونظرت للمكان من جديد، يا لها من فوضى. زجاجات هنا وهناك وملابسه على الأريكة والأرض والطاولة، قوائم طعام كثيرة لمطاعم مختلفة!
زميت شفتاي ونظرت إليه ليرمقني ببرود واستدار مجدداً ليدخل إلى المكان الذي بدأت أراهن أنه مطبخ.
كنت محقة! فلقد تبعته لأجده قد وضع كيساً على الطاولة وعليه شعار أحد المطاعم وجلس على الكرسي ليسند مرفقه على الطاولة ثم مرر يده على جبينه يعقد حاجبيه بألم للحظة قبل ان يزمجر فجأة: ما الذي تنتظرينه!
انتفضت في مكاني لنبرته العالية وصوته الأجش!
تقدمت دون شعور بغضب وضربت الطاولة بيدي: أي برود هذا؟!
ولكنه بدلاً من ذلك ضيّق عينيه وأغمضهما قليلاً، ثم فتحهما ليطرف بتثاقل!
ما خطبه تحديداً؟!
رفع إبهامه وسبابته يمررهما على عينيه وظل يفعل هذا وهو يقول بحزم ولا يزال يغمضهما: كنت مخطئاً في إدخالك، واضح ما سيؤول إليه الوضع منذ البداية، غادري. هذا أفضل لكلانا.
هل هذا ما لديك فقط؟ غادري؟ لا كلمة أخرى؟
أردفت بعدم استيعاب وصوت عالي عجزت عن كبح غضبي فيه: شهر ونصف يا كريس. وهذا ما يكون عليه لقاؤنا؟
زفر بضجر وقد نظر إلى بعسليتيه اللتان تميلان إلى الصفرة بملامح منزعجة بشدة! وقف وتفاجأت به يمسك بيدي يجرني خلفه وهمس بحدة وصوت محذر: اخرجي ولا تريني وجهك.
لا! أنا لن أخرج ببساطة كما يظن! لن أخرج حتى انتزع منه كلمات سترفع الأقلام عن هذه القضية المفتوحة!
حاولت انتزاع يدي بصعوبة وقد صرخت بألم: دعني!
ولكننا وصلنا إلى باب المنزل بالفعل، وهذا ما دفعني لأنحني قليلاً وأعض يده بقوة فابعدها عن يدي التي تُركت عليها الأثار الحمراء بسرعة اثر ضغطه عليها!
أمسكت يدي بالأخرى أمررها عليها متأوهة قبل أن أرفع عيناي نحوه بغضب: أنا لست هنا لأسمح لك بالإمساك بدفة الحديث، ثم لماذا سمحت لي بالدخول وأنت تعلم مسبقاً ما أنا لأجله هنا؟ لماذا أدخلتني وقررت طردي الآن هاه؟
ظهرت تقطيبة صغيرة بين حاجبيه دلت على نفاذ صبره، أخذ نفساً قبل أن يقول بهدوء: أخرجي يا هذه قبل أن أجبرك.
ي. يا هذه؟!
هاه!
م. ما هذا؟!
ارتخت ملامحي بعدم تصديق وصدى كلمته تلك يتردد في عقلي!
قال هذا بالفعل!
استوعبت الأمر لأهمس بعدم تصديق: من تراني بربك؟ من أنا؟ ماذا أكون تحديداً في نظرك! أنا اسمي شارلوت يا كريس وليس من الصعب التفوه به إلى هذه الدرجة! إلى أي مدى قد تماديت في أفكارك؟ طردتني من عقلك؟ نسيتني مثلاً؟ ارتج عقلك وفقدت ذاكرك!
اكملت بصراخ: هذا لا يُغتفر حقاً!
بدلاَ من مجاراة غضبي ليسمح لي بالتفريغ من حنقي تفاجأت به يرسم ابتسامة عابثة زادتني دهشة!
لم تكن ابتسامة عابثة وحسب، بل ظهر بريق ماكر في عسليتيه اللتان احتدتا وهمس بصوت غريب: يبدو أن هذا قد ضايقك كثيراً، بماذا أناديكِ قبل أن تخرجي؟
ما الذي. تقوله!
أعقبت أنفي برأسي بلا استيعاب: لماذا تتحدث هكذا؟ ولماذا تنظر إلى بهذه الطريقة!
فرقع بإصبعه وقال مفكراً: هكذا إذاً. أتيت لإمضاء القليل من الوقت معي؟ إن كان الأمر هكذا فأنا مستعد لمشاركتك النبيذ المتبقي قبل أن أخرج واشتري غيره.
هذا كثير!
هذا واللعنة كثير جداً.!
عضيت على شفتي بقوة وبقهر فاتسعت ابتسامته وكم كانت شيطانية حينها!
وقفت في مكاني وتسمرت بارتياب عندما تحرك نحوي بخطى واثقة تراجعت على إثرها للوراء أنظر إليه بحدة وحذر: ماذا؟! لا تحاول التهرب من الموضوع. علينا أن نتحدث بشأن جيمي! أنا هنا لأجله وحسب.
ظل مستمراً في التقدم نحوي واستمريت في التراجع بجسد مرتجف حتى تفاجأت بالحائط اللعين خلفي! عندما أبعدت نظري عن الحائط وجدته يقف أمامي مباشرة وقد دب الرعب في قلبي عندما دنى نحو وجهي ليهمس: كنت أشعر بالملل.
عقدت حاجباي باستنكار في حين اقترب أكثر ولم أشعر بأي مسافة تفصلنا!
لم أكن أعلم ما على الشعور به تحديداً! الغضب. السخط. الخجل؟!
طرفت بعيني مئات المرات هامسة بحزم: هل تظنني خائفة؟!
ولكنه بدلاً من النظر إلى عيناي انزلق نظره نحو ثغري وقد رفع يده يمررها على وجنتي هامساً بنبرة قد استنكرتها: لا يهمني ما تشعرين به.
ارتجفت بدهشة وإحراج عندما مرر إبهامه على شفتي! ولكنني سرعان ما تعثرت بشعور الريبة والتوجس عندما ظهر ذلك البريق الشيطاني في عينيه التي ظهر فيها بريق أصفر جعل القشعريرة تسري في جسدي وقد همس بنبرة بالكاد تُسمع: أتذكر أنني كنت أستمتع بتقبيل هاتين الشفتين. ماذا عنكِ؟ كيف كنتِ تشعرين؟
أنا.
في أصعب موقف!
أنا في خطر حقيقي!
ماذا أفعل؟ كيف أتصرف! كيف أعامله؟
كيف يجرؤ على قول كلمات جريئة كهذه في وقت حرج مثل هذا؟!
هذا الأحمق المتخاذل عليه أن يفكر بأمر ابنه قليلاً!
منعت نفسي من التهور بلكمه، فأنا لا أعلم ما قد تكون عليه ردة فعله لو تصرفت معه بتلك الطريقة العدائية، نظرت إلى عينيه بحزم يميل إلى الجدية: ابتعد. الآن.
ارتفع حاجبيه قليلاً: لماذا!
أضاف متسائلاً بصوت متهكم هازئ وعينيه لا تزال تحدقان إلى ثغري: بصفتكِ من أتيت إلي؟
اسأل نفسك! ربما بصفتي زوجتك! ألا يذكرك هذا بشيء؟
هذا لا يعنني أنني أتجاوز حدودي! لماذا تبدين متحفظة إذاً؟
أنت في الحقيقة تتجاوزها لأن ما تفعله ليس في وقته المناسب! ابنك بحاجتك. لا ينكف يسأل عنك وقلق من أنك تركته، يظل يلوم نفسه على أنه السبب في إصابته و.
تريدين أن نتشارك الغداء؟ وصل الطعام قبل نصف ساعة تقريباً.
إنه يتهرب من الموضوع بالفعل! وكأنني لم أكن أتحدث عن جيمي!
عقدت حاجباي معترضة: توقف عن هذا!
عن ماذا؟
يا الهي! ما الذي يجول في عقلك تحديداً؟! فلننهي هذا الهراء وغير ملابسك بسرعة لنذهب إلى المشفى. من فضلك أسرع!
بدت كلماتي وكأنها من قاموس للغة غريبة لا يتقنها! فهو لا يتوقف عن التحديق إلى باستغراب!
هذا. يغضبني كثيراً! يستفزني ويضايقني إلى أبعد حد!
إنه يتجنب الحديث عن جيمي تماماً. ما الذي على فعله؟
أجفلت بدهشة عندما غرقت في افكاري بينما اخترق مخيلتي وقد شعرت بشفتيه على عنقي! قفزت في مكاني كمن تعرضت لمس كهربائي ودفعته بقوة ليبتعد! رفعت يدي المرتجفة نحو عنقي وقد بدأت أظن أنني سأتعرق من شدة التوتر والإضطراب والألم الذي أشعر به في معدتي! هذا. الأحمق المستغل المنحرف!
ما الأمر؟ قلتِ أنكِ زوجتي!
نعم قلت هذا! ولكن. ما الذي تظن نفسك فاعل ونحن في صدد الحديث عن ابنك؟! أنا هنا لأجل جيمي يا كريس، أنا أرجوك لتزوره ولو مجاملةَ! لماذا تفعل هذا؟! ألا تدرك كم سيخيب ظن الجميع بك لو علموا ما كنت تقضي وقتك فيه! أنا بالكاد أتجاوز أمر خيانتك وغدرك بي. أنا ألقي بكل شيء خلف ظهري مؤقتا لأجل ذلك الطفل المسكين الذي ينتظرك! ما الذي فعله ليستحق كل هذا التجاهل منك؟! أنت أباه! أتعلم ما يعنيه هذا؟! إنه ابنك أيها الأحمق ابنك!
قلب عينيه بملل ثم تنهد بلا حيلة وضجر، أحكمت قبضة يدي مردفة: كنت أنتظرك شهر ونصف يا كريس، كنت قلقة بشأنك ولا اتوقف عن التفكير في أمور سيئة ولكنني واصلت التظاهر لأجل الجميع! لأمنحهم بعض القوة في الوقت الذي كنت أحتاج فيه من يواسيني. وفي النهاية أًصدم بأنك في أفضل حال تقضي وقت ممتع بالعبث مع النساء! ما الذي فعلته لك لأستحق هذا العقاب القاسي؟! ما الذي ارتكبته في حقك لتذيقني طعم الخيانة؟!
طرف ببطء ينظر إلى بوجه بلا تعبير ثم زفر: حسناً. أنا الآن جاد معك، استديري واخرجي من هنا ولا تعودي مجدداً، وحتى لو فعلتِ هذا فأنا أنوي الذهاب من هنا لأريح رأسي لذا لا تتعبي نفسك بالعودة.
أنت تتجاهل مجرد ذكر اسم جيمي! حتى اسمي لم أسمعه منك إلى الآن! ما الذي يحدث لك أنا لا أفهم! ما الذي قررته في الفترة التي غبت فيها؟ ما الذي توصلت إليه تحديداً؟! أخبرني! تحدث أرجوك!
ابتسم بملل: ما الذي قررته؟ لم أكن من قرر ذلك حقاً.
تحرك مبتعداً وقد اتجه إلى المطبخ فتبعته فوراً، ليضيف بنبرته تلك: أنا الآن مجرد عازب لا يوجد من ينتظرهم ولا يوجد من ينتظروه، لا أحد يقف خلفه ولا أحد أمامه، كما لا مجال في العودة وعليكِ تقبل هذا سواء أعجبك أو لا، بالمناسبة هذا الطعام لذيذ حقاً.
قالها بكل بساطة وهو يجلس ويتناول من طبق الطعام الإيطالي فوقفت أحدق إليه بعين غير مصدقة!
هكذا فقط؟ يقولها بكل برود؟ لا أحد ينتظره!؟ أي جنون هذا!
عضيت على شفتي وانا أراه يأكل بلا مبالاة وكأن لا وجود لي، وكأنني لم أذكر اسم جيمي وأذكره بشأن إصابته وحاجته إليه.! لم يجرؤ على أن ينفي أمر خيانته لي! كل شيء عادي في نظره!
ما الذي وصل إليه بالضبط! إلى ماذا قد تحول؟!
اقتربت بخطى ساخطة وانتزعت الطعام من أمامه بحنق واتجهت إلى سلة المهملات والقيت فيها كل شيء أتنفس بصعوبة وبغضب.
نظر إلى باستغراب قبل ان يزفر بأسى وانزعاج: يا للهدر.
نظرت من حولي إلى المطبخ الذي استوعبت أنه مليء كذلك بقوارير الشراب في كل مكان. وتساءلت حينها!
من الذي أتحدث إليه تحديداً! من الذي يجلس أمامي؟!
لمحته يعاود يمرر يده على عينيه عاقداً حاجبيه بألم بواضح! وقفت في مكاني بصمت أراقبه حتى نظر إلى مبتسماً بملل: أحسنتِ صنعاً بمشهد رمي الطعام، والآن. تعلمين أين باب الخروج فالمنزل ليس بكبير كما ترين.
لا أنصحك بإستفزازي بالتصرف بهذه الطريقة.
يا لها من نبرة!
قالها بإعجاب وقد وقف مصفقاً بسخرية: هيا يا فتاة، هيا يا جميلتي اخرجي لأنني بدأت أنزعج من سماع هذه الأسطوانة المسجلة والجدال معي قد يكون فكرة سيئة!
يا فتاة.؟
هذا مؤلم.
هذا حقاَ يضايقني!
بدأت تجتاحني رغبة ملحة في البكاء الذي امتنعت عنه طيلة الفترة الماضية! بدأت أرغب في تفجير طاقتي فيه!
كريس. ما الذي أعنيه لك؟ مجرد فتاة مزعجة أتت لتحاول إقناعك بالعودة فقط؟ أو مجرد فتاة تتظاهر في رأيك بحب جيمي وتزيف مودتها له؟ ما الذي أعنيه لك تحديداً! هل أنا تلك الحمقاء التي كانت مصرة على سماع اعتراف واضح وصريح منك؟ أو تلك الفتاة التي التقيتها في طفولتك وقد تركت ولو أثراً صغيراً عليك. من أنا!
كم أنتِ ملحة.
قالها بتبرم يميل إلى الإقتضاب وقد اقترب ليجرني من يدي وفي نيته إخراجي من المنزل!
هل حقاً. لم أعد أعني له أي شيء؟! ليس وكأنه ينظر إلى كفتاة غريبة فقط ولكنه. ينظر إلى بطريقة مريبة تبدي لي كم يرغب في مغادرتي بأقرب فرصة، فتاة مزعجة ثرثارة أتت لتلقي عليه بعض الحكم الفارغة في رأيه.!
أنا لم أعد.
لم أعد ماذا!
لا أدري.
لا أستطيع التفكير حقاً! أنا أتألم. أنا أرغب في البكاء! في عيني غيم كثير يكاد يمطر وإن حدث هذا أمامه فلن أسامح نفسي، أتيت قوية وعلى ان أرحل قوية ولكن. كيف عساني أفعل هذا أمامه.!
جبان.
همست بها عندما وصلنا غرفة الجلوس بالقرب من باب الخروج، وقف في مكانه للحظة فوجدت نفسي أكمل هامسة بشرود وخيبة: جبان، ضعيف ومنكسر. لجأت إلى التجاهل والنسيان كما لو كانا سيكونان تميمة حظ بالنسبة لك لتنعم من خلالهما بحياة سعيدة. مغفل وساذج إلى أقصى درجة.! أنت حقاً. أجبن شخص عرفته طيلة حياتي! لم ألتقي بشخص هيوب إلى هذه الدرجة! يهاب مواجهة المشاكل. يهاب تقبل الواقع ويخشى الإعتراف بضرورة إظهار ضعفه ولو لمرة واحدة ليتنفس قليلاً! هل هذا ما تحاول فعله؟ التظاهر بالقوة عن طريق النسيان؟
ضغط على يدي بقوة فأطرقت برأسي بإنزعاج محاولة إخفاء لمعة دموع كادت تظهر نفسها في مقلتاي: حتى وإن واصلت فعلت هذا. كل ما تفعله لين يغير حقيقة وفاة والدك وإصابة ابنك، لن يغير أنك هربت وتركت خلفك الجميع محاولاً الت.
واللعنة على هذا اللسان المهذار! إلى أي مدى تحبين الثرثرة!
قالها بغضب مفزع ودون سابق إنذار! بل وشد على يدي بقوة وصرخ بحزم: وفري كل هذه الحكم والعظات لنفسك، لست بحاجة إلى سماع أي شيء، لست أنتظر أي شخص ولا أريد من أي أحد إنتظاري أو وضع أمله بي.
ما ذنب جيمي؟! ما ذنب ابنك الذي ستكون ردة فعله محطمة للقلوب عندما يجري عمليته ويبصر مجدداً وانت بعيد عنه؟! ما ردة فعله عندما يواصل انتظارك ظناً منه أنك ستدخل في أي لحظة عليه! أكذب عليه كل يوم واواصل إختلاق حجج لا تعد ولا تحصى. والدك في العمل. والدلك في رحلة مهمة بغرض المهام الوظيفية، والدك متعب ويقيم في أحد الفنادق في مدينة أخرى لأجل فرع بعيد للشركة، والدك أي شيء عدى أنه هرب وتركك خلفه!
رص على أسنانه يحدق إلى بسخط بات أوضح بكثير، في حين ارتخت ملامحي بتعب شديد وأكملت بلا حيلة: ما الذي أعنيه لك؟ انا لا اعرف حقا ما اعنيه لك. لا اعرف ما تكنه لي تماما ولكنني اتمسك ببضع خيوط اظنها ترشدني الى حقيقة انك تبادلني الشعور. ولكنني. لم أعد أفهم حقاً إن كان ما شعرت به حقيقة، أو انني كنت أتمنى أن تبادلني مشاعري وحسب. ما ذنبي أنا؟ ما ذنب نفسي المتعلقة بك؟ ما ذنبي وقد أحببتك بصدق!
تغيرت نبرتي في كلماتي الأخيرة إلى صوت اجش مرتجف، في حين أغمض عينيه وترك يدي ليشير للباب بهدوء جامد وغريب: غادري. إن أردتِ ألا تغيير مشاعرك إلى كره عميق لا يخمده أي شيء فغادري وحسب. أنتِ لا تقفين أمام شخص تعرفينه ولو بسطحية. لذا إياك والتحدث وكأنكِ تفهمين أي شيء. ارحلي حالاً!
هل هذا ما تريده حقاً؟ ستبيع إهتمام الجميع نحوك وقلقهم عليك مجاناً لأجل شراء راحة نفسك المؤقتة!
آه. اعتزلت الإهتمام منذ مدة.
هذا الجنون بعينه. أنت لست ضعيفا جباناً فقط، بل مثير للشفقة و أناني يفكر في نفسه ويعجز عن منح من يكادون يموتون خوفاً عليه القليل من المعروف تجاه قلقهم، القليل من رد الجميل تجاه صبرهم! هذا حقاً مثير للشفقة.
أكملت وقد صرخت لتهتز أوصالي: هل تعرف ما الجُرم الذي ارتكبته قبل هذا الجنون؟ استلقاؤك في وسط المعركة التي كان الجميع يخوضها معاً، استلقاؤك في وسط معركة كنت طرفاً مهماً فيها! هذا الخطأ الفادح أوصلك إلى هذا الجنون! أوصلك إلى القاء كل شيء خلف ظهرك! تعتقد أنكَ لن تندم؟ تعتقد أنك ستواصل العيش مرتاح الضمير! أفق أيها الجبان المغفل. ستعض على أصابعك ندماً وحينها ستبكي كأحمق لا يجد أحداً من حوله.
أطبقِ فمك واللعنة!
قالها بغضب يدفع كتفاي يجبرني على التحرك ولكنني ابعدت نفسي وقد انفجرت كمستودع القيت فيه المتفجرات على حين غرة ونفيت برأسي بقوة ليخرج صوتي المتقطع المبحوح: هل أغضبك نعتك بالجبان؟ أو ربما الأناني؟ لا تحزن فهذه حقيقتك المرة التي تحاول تزييفها!
أضفت اعقد حاجباي وأتساءل بعدم تصديق: لا تخبرني الآن أنك محوت كل ذكرياتك التعيسة أيضاً منذ طفولتك ونعومة أظافرك ظناً منك أنك أخذت دور الشاب السعيد الذي عاش حياة وردية خالية من الشوائب، إن كان هذا ما تحاول فعله فأنت الأكثر سُخفاً! دعني أذكرك إذاً بطفل صبر على أذى والدته وتعذيبها الشبه يومي له وجنونها المثير للريبة، دعني أيضاً أذكرك بأحمق تظاهر بحبها ليحمي نفسه من أذاها وفي المقابل بنى سداً هائلاً بينه وبين والده الذي توفي بقلب ضعيف عجز عن تحمل قسوة هذه الحياة الظالمة، آه نعم. وطفل عاني من الوحدة والعزلة طوال طفولته والمراحل الدراسية ليغلق على نفسه عشرات الأبواب رافضا الصداقة والحب وأي مبدأ إيجابي ليقرر العيش في التعاسة والبؤس. ربما لأنه اعتاد على تأدية دور البطل المظلوم المسكين ولا يريد تغيير هذا الواقع لأنه خائف من الخذلان! اليس كذلك؟
صرخت بسؤالي لأقابل زوج من العيون العسلية المتسعة بإستنكار وتحابق شديد!
إن كانت كلماتي استفزته فهذا أفضل!
هذا أفضل بكثير من التبلد الذي يكاد يخنقني! أفضل من برودة ردود أفعاله وجموده!
فليغضب ليشعر!
أكملت أرسم ابتسامة هازئة بشفتي المرتجفة: عذرا نسيت أمر مهم أيضاً. الشخص ذاته قد أخذ من ماضيه علامة جودة مشرفة، ندوب شوهت ظهره وتركت علامة لن يمحيها الوقت مهما حدث، وكذلك يأس ترك في داخله قطع محطمة غير قابلة للترميم. قطعة محطمة تدعى ثقة بالنفس، وأخرى تدعى قوة. وكذلك صبر، هذا مؤسف. لم تعد واثقاً من نفسك ولا أظنك كنت كذلك يوماً، لم تكن قوياً وإنما تستمر في الهرب. وقد انتهت صلاحية صبرك وها أنت ذا. بائس يستحق أن أؤلف عنه كتاباً أحصد من خلاله آلاف العملات النقدية.
عض على شفتيه بقوة وعينيه متسمرتان على بتحذير وكأنه يلقي على تهديداً صريحاً بعدم القاء حرف واحد زيادة! بدى وكأنه يتنفس بصعوبة وقد تحركت شفتيه ليقول شيئاً لولا أن سبقته متمتمة بإستخفاف: أعتذر للمرة الثانية، نسيت أن هذا الشخص كان مضطراً للهرب من مختلة شقراء تلاحقه أينما يذهب فلجأ إلى التهور بطيش مع امرأة لاهثة خلف ماله فقط، حملت بطفله وتمكنت من الزواج به لتربط اسمها بإسمه وتحقق ما تطمع به، خمن ماذا؟! تلك المرأة خدعته ببساطة. كان مجرد مغفل وأظنه لا زال كذلك، سرقت أموالاً وتركت رضيعاً وهربت حيث تتزوج رجل آخر وتمضي وقتها في عد النقود. أرجو أنني لم أنسى شيئاً مهماً أخر وإلا سأكون مضطرة للإعتذار ومقاطعتك لأكمل! يا تُرى. هل تذكرت هذا الشخص الآن؟
عليكِ اللعنة.
همس بها دون أن ينظر إلى وكم كانت نبرته مريبة!
نبرة تحمل في طياتها وعيداً غريباً!
اهتزت أوصالي عندما نظر بعسليتيه إلى مباشرة، وليته لم يفعل!
لا أرى غضب. لا أرى تعاسة وحزن!
أنا أرى. نظرة شيطانية خبيثة غريبة! ازدردت ريقي بصعوبة بالغة وعقدت حاجباي أطرف بحذر وتوجس رغماً عني، ولا سيما عندما اقترب هامساً بصوت يحمل شيئاً من السخرية: جزيل الشكر لكِ يا عزيزتي. بالطبع تذكرته! كان شخص أعرفه فيما سبق.
زميت شفتي بغيظ شديد وعجزت عن كبح إنزعاجي لأزمجر: هل تعلم ما مشكلتك تحديداً يا كريس؟ لقد حمّلت الطفل الذي كنت عليه يوماً ما فوق طاقته وانتزعت منه رغبته في انتظار يد العون ظناً منك أنك ستكون القادر على تجاوز كل شيء وحدك!، ثم ماذا؟ ثم جعلته ينضج قبل أوانه وأثقلت كاهله بالعتمة! جعلته ينضج ولا يمانع حبس نفسه بين جدران الخلوة!، فيما تكمن المشكلة الأخرى؟ في كونك الآن تهرب من الطفل الذي في داخلك يتوسل إليك ألا تكتب عليه هذا العذاب! وأي عذاب يا ترى؟ العزلة فقط؟ أنت مخطئ إن كان هذا كُل ما مر أمامك. فأنا على الأقل قادرة على رؤية ما قد تكون عليه يوماً لو استمر الحال على هذه الطريقة البائسة. لن تقتلك الوحدة التي تفضلها الآن. بل سيقتلك الشعور بالذنب ليلاحقك في كل مكان، عندما تغمض عينيك لتنام هرباً منه سيجدك في أحلامك، حتى عندما تبتسم متجاهلاً مرارة فعلتك ستجده كالطعم الغير مستساغ في فمك.
أضفت أقترب منه بإستياء غلب غضبي: بل وعندما تقرر البكاء قليلاً لتخفيف أوجاعك ستجده يمنع دموعك من الخروج ليسلبك طريقك الوحيد لشعشعة ذنبك، لأنك لن تعرف علاما ستبكي تحديداً! على تخليك عن ابنك الذي ذنبه الوحيد هو تعلقه بك رغم السد الهائل الذي يحيل بينكما! أو تبكي لتعض أصابعك ندماً على تخليك عن العائلة التي تحتويك! العائلة التي قد ينظر إليها شخص ما بشرود وتأمل متمنياً لو يحظى بها يوماً! العائلة التي يحسدك الكثيرون عليها يا كريس!
استرسلت أمسك بيده بلطف وقد نفيت بعدم تصديق وبرجاء: لا تحاول إقناعي أنك لن تفتقد عائلتك يوماً بعد قرارك المضحك. مائدة الطعام التي يجتمع عليها الجميع واللحظة التي يضحكون فيها في الوقت آنه ليطغى صوتهم على أي صوت دخيل آخر! اللحظة التي ينحني ظهر كل منهم بهموم الآخر! لا تحاول بكل ما أوتيت أن تقنعني أنك لن تشتاق إلى اللحظة التي تعود فيها من عملك ويستقبلك صوت عمتك كلوديا أو مزاح ستيف الذي يرى فيك الأخ الأكبر أو حتى نقاش جوش بشأن عمل العائلة وتذمره من تصرفات ستيف. لا تخبرني أنك لن تفتقد ضحكات جيمي ورجائه منك ليخرج بصحبة شارلي ليلهو ويلعب، ماذا عن تأنيبه وعتابه عند وقوعه في الخطأ! م. ماذا عني؟! كريس. ألن تفتقد اللحظات اللطيفة التي ننزعج من مقاطعة أي شخص لها؟ حتى الشجار والجدال الذي نخوضه معاً. أي شيء! أي شيء في أي وقت وأي مكان. الن يكون ذو قيمة تشتاق إليها حقاً؟
لمحت ارتجاف شفتيه ويده التي أمسك بها! أخفض عينيه فوراً وقد ظهرت عروق عنقه تدل على كتمانه لأمر أثقل مما يستطيع حمله في جوفه! أرى صدره يعلو ويهبط بسرعة!
رأيت أملاً وقد همست بإسمه بلطف وحبور أعقد حاجباي بقلق.
هل التمس الواقع أخيراً؟ هل شعر بالذنب والمسؤولية! هل عاد صوابه إليه؟!
بللت شفتاي بتوتر وقد بدأت أدعو سماع كلمة تبشر بالخير الآن.
رفع يده وقد انتزعها مني ليمررها في شعره، ولا تزال يده ترتجف حتى عندما مررها على جبينه وقطب جبينه وأغمض عينيه بشيء من الألم!
ظل يمررها على جبينه وعينيه وزمجر فجأة بصوت غريب عالي: لا تتفوهي بحرف واحد! ارحلي.
تحرك مترنحاً قليلاً فرفعت يدي نحو صدري بخوف وتوجس!
ما خطبه فجأة!؟
ابتعد بخطى متثاقلة فلاحقته بعيناي، هل هذه غرفة النوم؟ كان باباً بجانب باب المطبخ!
تحركت قدماي وقد تبعته دون تفكير، وكما توقعت. إنها غرفة النوم!
رأيته يدخل الحمام وسمعت صوت صنبور المياه، اقتربت أكثر لأجده يغسل وجهه بخشونة وعنف وبتحركات غاضبة!
هل.
هل أشعر بالقلق أو الراحة؟ هل أخاف أو أطمئن؟! سيغضب أم يهدأ؟!
لا أدري.
لا أعلم حقاً ما سيحدث!
هل كانت كلماتي كفيلة بتحريك شيء ما في داخله أخيراً؟
هل يغسل وجهه مثلاً ليستعيد رشده؟! هل سيساعده هذا؟
ترددت في التقدم نحوه أو البقاء في مكاني ولكنني في النهاية فضلت الخيار الثاني.
اغلق الصنبور واسند يديه على طرف المغسلة يتنفس بصعوبة، تبعثر شعره العسلي الرطب حول وجهه وقد بدأ يقطر الماء على عنقه وقميصه.
نظرت من حولي بإستياء حتى وقعت عيناي على منشفة بيضاء صغيرة أسرعت لأخذها وأتجه إليه، وقفت أمدها نحوه بيد مرتجفة.
نظر إلى بطرف عينه وحينها.
بدى وكأن الزمان والمكان قد توقفا تماماً.
حتى المنشفة قد انزلقت من يدي ببطء.
هذه النظرة.
ليست وعيداً لشخص عاقل، بل بدت عيناه مستعارة من مجنون في عينيه حقد غريب! غضب شديد وغيظ واضح!
أحكمت قبضة يدي بتوتر رغماً عني وعجزت عن إبعاد عيناي كما لو كان قد سيطر على بالفعل!
همست بإسمه بقلق وحذر عندما بدأت ابتسامة عابثة ترتسم على ثغره ليبعد شعره عن وجهه بيده اليمنى ثم أراحها على جنبه بمكر: يا للحظ السيء. أنتِ فتاة لطيفة بالفعل. ولكن مع الأسف كلمات الحكم الرائعة تلك ليست مناسبة، ليست سوى حكراً على العقلاء.!
حكراً على. العقلاء؟!
أضفت بعدم استيعاب وإنزعاج: ماذا الآن؟! ستعترف أنك شخص مجنون؟ ليس وكأنه أمر جديد.!
بدى وكأنه يفكر متمتماً: مجنون؟ لا أدري حقاً. دعينا نستخدم شيطان فهي تبدو أقوى. هل من الخطأ أن أشعر بوجود شيطان بداخلي؟! اعتبريها مصارحة بيننا.
ليس من الخطأ. أنا جادة الآن ولا أجاملك! ليس من الخطأ ان تشعر بذلك. يوجد في كل إنسان شيطان في لحظات الضعف والقهر يا كريس!
نفي بسخرية وتحرك ليخرج من الحمام متنهداً بملل: لا أقصد هذا السخف. لن تفهمي، أنتِ لن تفهمي أي شيء وإن شرحت. كما لا أريد أن أوضح أي شيء لكِ، ولكنني لا أريدكِ أن ترحلي الآن كذلك.
ارتخت ملامحي بعدم فهم: لا تريدني أن أرحل؟!
كان الجواب اقترابه وامساكه بكتفاي فجأة ليطبق بشفتيه على شفتاي بقوة! م. ما الذي.
ما الذي يفكر به هذا المجنون!
حاولت إبعاده عني بغضب ولكنه أبى ذلك، بل أنني دُهشت به يجبرني على التحرك وحينها اتسعت عيناي بخوف وتوتر ما أن دفعني على السرير خلفي.
كان لا يزال واقفاً وعلى ثغره تلك الإبتسامة المتهكمة قبل أن ينظر إلى بخبث مريب وقد انحنى فوقي فصرخت بحزم: م. ماذا! توقف عن هذا الهراء حالاً!
أرجوكِ لا تفسدي الأجواء اللطيفة! ألم تقولي أنكِ زوجتي؟
تسألني هذا السؤال للمرة الثانية وكأنني خرجت من العدم فجأة وقلت بأنني زوجتك! أخبرني حالاً إن كان لا يزال عقلك يعمل بصورة طبيعية لأفكر بروية ما إن كان على أن أتخلى عن محاولة إعادتك إلى صوابك!
دعي الصواب بعيداً.
قالها بصوت هامس ثم مرر يده اليمنى في شعري مردفاً وكلتا عينيه تتفرسان في وجهي: لسبب ما. أنا حقاً أرغب بكِ.
شهقت بذهول مُزج بالخجل والخوف وقد أبعدت وجهي بسرعة: ابتعد عني بسرعة، أنا مغادرة واللعنة! ألم يكن هذا ما تريده؟! سأخرج إذاً وأريحك!
هذا لم يعد مرغوباً. أريدكِ أن تبقي.
شعرت بيده التي لا تزال تداعب شعري حتى انزلقت نحو عنقي فضربت صدره بغضب ونفاذ صبر: هذا يكفي، ابتعد عني أنا لم أعد أحتمل جنونك هذا!
حاولت دفع صدره ولكنه أبى التحرك ولو لإنش واحد!
هذا خطير.
هذا حقاً خطير! بدأت أشعر بكل أنواع الألم في معدتي وصدري!
أنا. خائفة. مُحرجة وقلقة إلى أقصى حد!
بدأت أسمع صوت خفقات قلبي في أذني بكل وضوح!
همست بغيظ محاولة التخفيف عن ضعف وقهر يجتاحني: لا تلمسني يا كريس، لا تلمسني أيها الخائن الوغد!
ولكنه تجاهلني مقرباً وجهه من وجهي فنظرت بعيداً وانا ارفع كلتا يداي ادفع صدره بقوة، ولكنني تفاجأت به يمسك بكلتا يداي بجانبي وتمتم ببرود: توقفي. أعترف أنكِ تبدين أجمل بشراستك ولكنني لست مزاج جيد.
اللعنة على مزاجك ما الذي تحاول فعله تحديداً أيها الأحمق! قلت لك ابتعد، أنا حقاً سأصرخ بأعلى صوتي.
رسم ابتسامة متململة وقد دنى نحو ثغري ولم يكد يقبلني حتى رفعت رأسي بأقوى ما لدي لأضرب رأسه وتحديداً جبينه! كانت نطحة قوية إلى درجة أن دوار مؤقت قد انتابني وتردد صدى صوت الضربة في أذني للحظات قبل أن أسمعه يرص على أسنانه بغضب: سحقاً لكِ. أيتها اللعينة الصغيرة.
تنفست بغضب وزمجرت بسخط: اتركني حالاً! لا أريد من غادر خائن يعبث مع النساء أن يلمسني، لا اريد من أناني ترك ابنه خلفه أن يلمسني. ابتعد وإلا.
ولكنني بترت كلماتي عندما شعرت بشفتيه على عنقي فما كان مني إلا رفع ركبتي اليمنى لأركل معدته بقوة وقد نجحت في إبعاده أخيراً!
اعتدلت وبالكاد التقطت أنفاسي وأنا أبتعد عن السرير في حين كان يغمض عينيه بقوة متأوهاً للحظة قبل أن ينظر إلى بنفاذ صبر، شهقت بذعر عندما عاود يمسك بي وهذه المرة رص على اسنانه بحنق: ستدفعين الثمن.
انحنى فوقي وقد ظننت أنه سيحاول تقبيلي مجدداً ولكن.
دمعت عيناي أسمع صوت تمزق قميصي! شعرت بحرارة الدموع على وجنتاي ولم يعد هناك ما أحدق إليه فالنظر لم يعد ممكنناً مع هذه الصورة المشوشة أمامي. الدموع التي شعرت بها لم تكن تتهاوى على وجنتي فقط. بل شعرت بحرارتها في مكاني آخر بين أضلعي. في تلك العضلة التي لا تنكف تخفق بشكل جنوني وكأنها تحاول الركض بأسرع ما لديها حتى تنقطع أنفساها وتنهي كل هذا بنفسها.
أردت أن أصرخ عليه ولكنني استوعبت أمر تقبيله لي فزادت دموعي وأغمضت عيناي بقوة ويداي لا تتوقف عن محاولة إبعاده! هذا جنون. هذا الشخص لم يعد كريس. لم يعد كريس الذي أعرفه!
لربما كان محقاً عندما قال بأنه شيطان!
لا يمكن أن يكون له قلب يسيره لفعل هذا بي وقد أتيت بنية إرجاعه فقط. هذا كثير، تكاد طاقتي تنفد! أكاد أغمض عيناي وأختار النوم للأبد بدلاً من مواجهة هذا الواقع المرير.
أنا حتى أتألم من حرارة دموعي وقد زادت من ألمي أضعافاً مضاعفة.
يوجد ألم في عنقي جراء شيء يصعد في جوفي ببطء، يوجد وخزة مؤلمة إلى حد الموت في صدري!
ما الذي يحدث له! ما الذي يجول في عقله بالضبط لست أفهم! ما الذي يشعر به إلى درجة التجرد من العقلانية؟!
أنا أعلم.
أعلم أنه تألم كثيراً منذ طفولته، أعلم أنه افتقر إلى حنان الأم والطمأنينة، تمنى الحياة الهادئة المسالمة ولم يجدها يوماً. ولكنني. ولكنني خائفة!
خائفة منه. وفي الوقت آنه عليه! لست أفهم ضياعي وتشتتي! ولكن هذا جعلني أبكي منفجرة مما أجبره على الإبتعاد ببطء.
بكيت كطفلة مذعورة لأول مرة! بكيت بتعب وإنهاك كبحته في نفسي طيلة الفترة الماضية.
بكيت كما لو كنت لم أبكي من قبل! بصوت عالي ودموع لا تتوقف عن الهرب من مقلتاي التي أشعر بحرقة فيها الآن!
ارتجفت شفتاي وقد همست من بين بكائي بضعف وبصوت مرتجف: أنا لستُ بهذه القوة. لستُ بالشجاعة المرجوة لأواجه كل هذا وحدي. ربما أنا أيضا أتظاهر بالقوة وقد نفدت كل طاقتي. لم أعد أحتمل. هذا كثير، بينما تفعل كل هذا لي أشعر بأنني لئيمة عندما أدرك أنني خائفة منك. لا أستطيع السيطرة على نفسي. في اللحظة التي ينبغي على مساعدتك فيها أجد نفسي أتراجع بسبب خوفي. لا أدري كيف أتصرف. لا اعلم ما الذي على فعله وما الذي ينبغي ألا أفعله! اريد ان اغضب عليك ولكنني خائفة.
شعرت به يبتعد ولكنني لا زلت أغمض عيني وقد تكورت على نفسي أدفن وجهي في غطاء السرير ببكاء: لا أدري ما الذي على قوله لجيمي. ولا أدري كيف أسعده. أخشى عليه من نفسي. أخشى أن أخذله واحطمه! أخاف أن أكون سبباً في حزنه دون أن أشعر. أخاف أن أتركك وشأنك وأتجاهل أمرك ثم أندم على هذا! أخاف من التقرب إليك ومحاولة فهمك لأنني قد أضيع في منتصف الطريق واتصرف بطريقة قد تزيد الأمر سوءاً. لم أعد أفهم ما هو دوري في هذه القضية! لم أعد أدرك ما أنا مطالبة به! أخشى أن أظهر ضعفي للجميع فأكون المُلامة على احباطهم! وأخشى أن أستمر في التظاهر بالقوة فأدفن شيئاً مهماً في داخلي كما فعلت أنت. لا أريد الوصول إلى نتيجتك ذاتها. لا أريد أن أبدو قوية واًتصرف بتبلد! لا أريد.
أنا عاجزة عن التوقف عن البكاء!
عاجزة عن إخماد الحريق في داخلي!
منهكة ومرهقة ولا تزال رغبة النوم الأبدي تجتاحني.
أنا أرتجف!
أنا أتحطم إلى قطع ضئيلة!
تنافست الكلمات مجدداً لتخرج من فاهي والبكاء يعلو أكثر: أنا أقر بأنني لن أحتمل ما احتملته منذ طفولتك، أقر على أن حياتي كانت هادئة مسالمة. ولكنني لم أعد أستطيع الصبر أكثر! أردت مساعدتك ولكنني أضعف مما ظننت! لست خائفة وحسب بل مترددة. أتيت لأقنعك لأجل العودة إلى جيمي. وعدته بأنك ستكون متواجداً في غضون خمسة أيام فقط. خفت أن أبدو كاذبة ومخادعة وأسرعت إلى هنا. ولكنني الآن أشك في مصداقيتي، أشك بأنني سأكون عوناً حقيقياً له، أن أكون الكتف الذي يستند عليه!
أعقبت أدفن وجهي في الغطاء أكثر: ظننت أنك بادلتني مشاعري قبل الحادثة. ظننت أننا سنتعمق في هذه المشاعر ويعلّم كل منا الآخر لأشياء يفتقر إليها، ولكنني بدأت أسأل نفسي ما كانت عليه علاقتنا حقاً طيلة الفترة الماضية! بدأت أشعر أن مكانتي في حياتك كانت مجرد حدث مؤقت وسيزول قريباً، وجود فانِ وسأختفي تماماً! لن أكون جزءً مهما بعد الآن. لن أكون شيئاً يذكر وربما مجرد ذكرى عابرة. تعلقت بك وبجيمي وبالجميع وأخاف أن أكون مضطرة للإبتعاد والرحيل. أخاف أن أكتشف أنني كنت دخيلة منذ البداية وعلى استيعاب مكانتي. كنت شاكرة للقدر الذي جعل من والدينا أصدقاء، والقدر الذي جعلني ألتقي بكِ في طفولتي وإن كنت لا أتذكر ذلك. كنت شاكرة للقدرة الذي جعلني أرى فيك الجانب اللطيف المختلف ومبادرتك الجاهدة للتغير. ولكنني الآن خائفة! خائفة ولا يمكنني التحكم والسيطرة على هذا الشعور. أرغب أن أركض وأندس بعيداً عنك، أشعر بأنني أريد الهرب والإختباء تحت أي كومة يصعب فيها إيجادي. وكل هذا يؤلمني أكثر عندما أفكر أنني قد أكون لئيمة بالتفكير بهذه الطريقة!
تبخرت الكلمات من حلقي وقد جف لساني واكملت بكائي بتعب واستسلام.
يا لها من لحظة غريبة.
لأول مرة في حياتي أبكي بطريقة متواصلة وأرفض التوقف بل وأحاول زيادة بكائي هذا وكأنني أدرك أنني أحاول في قرارة نفسي غسل روحي من أشياء عالقة فيها تحاول جري إلى الظلام. وكأنني أريد التخلص من شيء ما يزعجني ويضيّق صدري.
هذا أصعب شعور قد مر علي.
شعور موحش. أن أبكي وأنا نادمة على البكاء.
إحساس مزعج. أن أتي بكل قوتي وأقع في منتصف الطريق بضعف وإستسلام مثير للشفقة!
أردت سماع حرف واحد منه. أردت أن أسمع كلمة تعيد لي بصيص أمل ولكنني لم أسمع إلا صوت بكائي.
والصمت.
لا أدري كم مر من الوقت وأنا على هذا الحال. ولكنني ابعدت وجهي عن الغطاء الذي بللته بدموعي ومررت يدي على صدري أهدئ نفسي وأستشعر خفقات قلبي السريعة.
نظرت من حولي لأكتشف أنني في المكان وحدي!
لا اراه!
تحركت معتدلة أضم قميصي بيداي لأستر جسدي وأمشي وقد سيطر صداع جبار على رأسي إثر البكاء العالي!
كما كانت شهقات خافتة تصدر من فمي بتواصل بسبب تقطع أنفاسي تاركة علامة وبصمة تؤكد بكائي بكل قوتي.
ليس في الحمام.
ولا في غرفة الجلوس أو المطبخ.
ولكنني أرى باب مغلق.
اقتربت لأفتحه ولكنه كان موصداً!
تواصلت شهقاتي الخافتة وقد أدركت يقيناً أنه في الداخل وقد تكون غرفة أخرى.
اسندت ظهري على باب الغرفة لعلي أسمع شيئاً ولكنني لم أكن أسمع سوى صوت شهقاتي المزعجة المتقطعة!
كم هذا مثير للشفقة. أتيت لأعيده وانتهى الأمر بي أبكي. هذا أكثر من محطم للآمال!
طرقت الباب أنتظر صوته ولكنني لم اسمع أي شيء.
لا أدري ما الذي يفعله بإغلاق الباب على نفسه ولكنني. لا اشعر بطاقة تأذن لي بمناداته حتى.
شعرت بقلق مُزج بالأسى وأنا أنظر إلى الأرض. تحديداً نحو قدماي قبل أن أعاود الطرق مرة أخرى وهذه المرة سمعت صوتا ًخافتاً: دعيني وشأني.
لم أكن قادرة على تحديد نبرة صوته فهي خافتة.!
ولكنه لم يكن غاضباً.
لم يكن منفعلاً ولا يهزئ بي.
تعلقت يدي في الهواء بتردد حتى انزلتها وعقدت حاجباي بأسى. هل على تركه حقاً؟ هل أرحل عنه؟
أنا لم أنتبه حقاً لخروجه من الغرفة وقد توغلت في البكاء وتمسكت بالفرصة لأفرغ طاقتي!
اسندت ظهري على باب الغرفة أتنهد وقد خرجت التنهيدة بشكل متقطع كذلك فأغمضت عيناي محاولة تهدئة نفسي، شعرت بهزة في جيبي لم يمن مصدرها سوى هاتفي الذي وضعته على تلك الوضعية فأسرعت أخرجه لأرى اسم جينيفر على الشاشة.
تريد الإطمئنان بلا شك. ولكنني لن أجيبها بصوتي هذا، قد تقلق وتأتي بسرعة ومن يعلم أيضا كيف ستتصرف!
انتظرت توقف الهاتف عن الرنين حتى ارسلت لها رسالة أوضحت فيها أنني لازلت أتحدث مع كريس والأمور بخير.
حسنا أنا مضطرة للكذب حتى لا اتصل بها واتحدث وتكتشف ان بي خطب ما.
ابعدت ظهري عن الباب وترددت كثيراً متسائلة بما على فعله الآن.
هل أناديه؟
ولكن.
قال دعيني وشأني وأخشى أن ينفعل ويتصرف بطريقة سيئة مرة أخرى، هل أرحل حقاً؟
ليس وكأنني لن أعود مجدداً ولكنني لا أدري إن كان على تركه وشأنه الآن.!
في النهاية قررت الخروج وتركه، إلا أنني وقفت امام باب المنزل قبل ان اخرج انظر إلى قميصي الممزق بإضطراب، كيف سأخرج الآن!
شعري كذلك في حالة يرثى لها، وجهي متورد. عيناي وأنفي وأيضاً وجنتاي!
من الصعب أن أخرج بمظهري المريع هذا!
ولكنني في نهاية الأمر خرجت بإستسلام، وما أن فعلت حتى نظر إلى طفلان صغيران كانا يلعبان بدراجة و يجلسان عليها كلاهما، انتبها لي فازدردت ريقي بصعوبة.
حينها أشار الذي يقود الدراجة نحوي وقد أوقفها ليصرخ بدهشة: انظر، هذه الفتاة كانت مُختطفة!
أومأ الآخر وقال برعب: لنبتعد بسرعة قد يتبعها الخاطف ويقتلنا، لنخبر أمي وأبي.
قاد الأول الدراجة وصرخ لي بتوتر: سنساعدك يا آنسة.
رحلا فوقفت في مكاني ابتسم بأسى متمتمة: مُختطفة؟! كان ذلك زوجي أيها الأحمقان.
ربما من الصعب أن أخرج بمظهري هذا، استدرت لأفتح الباب مجدداً ولكنني استنكرت عدم فتحه! ما هذا؟ لا يمكنه أنه ذلك النوع من الأبواب. يُفتح من الداخل فقط؟ هل هذا ممكن؟! لا بالطبع لا. هل أغلقه خلفي ما ان خرجت؟
عقدت حاجباي وقربت أذني من الباب وكما توقعت. يمكنني سماع صوت خطوات تبتعد.
هذا ما كان ينقصني الآن!
نظرت من حولي بتوتر لأجد امرأة تمسك بأكياس التبضع وتنظر إلى بريبة وتسرع في خطاها.
سحقاَ هذا محرج بالفعل.
لم أجد سوى حل واحد.
نزلت الدرج وقمت بالتحرك نحو الزاوية لأقف في زقاق ضيق يفصل بين هذا المنزل والمنزل المجاور كما أن حديقة المنزل المجاور الصغيرة كفيلة بإخفائي قليلاً عن الأنظار.
أظن أنه لا حيلة أخرى أمامي وسأتصل بجينيفر.
هذا ما قررت وقد جلست القرفصاء أضم قدماي إلى ونظرت إلى الهاتف ولكن.
شيئاً في داخلي.
هاجساً غريباً أرغمني على النظر للأمام وفي الأعلى قليلاً، حينها تسمرت في مكاني أطرف ببطء.
ي. يا للإحراج!
إنها امرأة عجوز تطل على من النافذة وتعقد حاجبيها بارتياب وتوجس وتتمعن النظر إلي!
أبعدت ناظري بسرعة وكدت أقف لولا أن قالت بقلق: يا الهي. هل أنتِ بخير؟! ما الذي تفعلينه هنا. ومن فعل هذا بكِ؟!
أضافت تشهق بدهشة وتنحني بجسدها خارج النافذة قليلاً: هل كنتِ في منزل هذا الشاب؟! هل هو من فعل هذا؟! لا يمكن. هل أتيتِ معه من الحانة؟
التعليقات