التخطي إلى المحتوى

رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الثامن والستون

إن الأصعب من فقد روحك، وأنت على قيد الحياة، أن تفقدها على يد من تحب، سيظل دائما الأفظع من الألم أن يكون سببه هو من أحببنا بصدق.

ضاقت بها الدنيا، حبيسة غرفتها هكذا، لا تريد رفيدة من أحد اختراق عزلتها، ولكن الصغير لا يتركها، جلس على الفراش يتابع أحد الأفلام الكارتونية، ولم يقطع اندماجه سوى صوت رفيدة: وطي شوية يا يزيد.
فرد وقد أغاظه طلبها الذي تكرره للمرة الثالثة: أنا وطيت قبل كده مرتين علشانك.

وبغضب غير مبرر، انفعلت وحدثت الصغير بطريقة لم يعتدها منها: هو أنا مش بقولك توطي شوية، أنت مبقتش تسمع الكلام ليه؟ أنا هقول لطاهر على فكرة، وقوم يلا روح على أوضتك.
بان الضيق والحزن على وجه يزيد الذي انتفض واقفًا، وقرر مغادرة غرفتها وهو يهتف: أنا زعلان منك، وأنا اللي هقول لبابا إنك بتزعقيلي.

قطع حوارهما هذا دخول عيسى الذي لم يلحق بالصغير بسبب هرولته، فتوجه لشقيقته يسألها باستغراب: أنتِ بتزعقيله ليه يا رفيدة، أنا سامع صوتك من برا.
مسحت على وجهها بتعب، وحاولت التبرير بقول: مفيش حاجة يا عيسى أنا بس مش كويسة، شوية وهروح أصالحه.
مالك؟
كان هذا سؤاله، وكان جوابها حزينا حيث قالت: لو قولتلك هتغلط ماما، بس المشكلة إن أنا فاهماها وفاهمة خوفها عليا، وفي نفس الوقت زعلانة.

جلس على الفراش، وهو يطالبها بالجلوس: لا ده الموضوع كبير، اقعدي وقولي في ايه
لم تعلم من أين تبدأ، وحتى الفرصة لم تسنح لها، حيث أتت والدتها، وقالت: تعالي يا رفيدة عايزاكي.
وهو أنتِ مش شايفاها بتتكلم معايا؟
كان هذا تعليق عيسى على تصرف زوجة والده والتي لم تهتم بل قالت: معلش تتكلم معاك في وقت تاني، عايزاها في حاجة أهم.

أثارت غضبه، هي من أوائل القادرين على إخراج أسوء ما فيه، استقام واقفا، واعترض الطريق أمام شقيقته وهو يقول بإصرار: وأنا بقى مش هتكلم معاها غير دلوقتي.
يعلم أن سهام في أسوء حالاتها منذ أن علمت بعودة ملك، وقبل أن يسترسل في الحديث، وحدها ترد عليه بنفس إصراره: لا أنت تستنى، أمها عايزاها، لكن أنت مين؟

وقبل ما تقولي أنا أخوها، الأخ بيخاف على مصلحة أخته، إنما أنت هاجرنا قرب السنة، وجاي دلوقتي تدخل في دماغها أوهام علشان توافق على الكحيان صاحبك.
فمال عليها يصحح لها: الكحيان ده هو اللي وقف جنبها، لما قريبك اللي مش كحيان يا مدام كان موديها لسكه أنا وأنتِ عارفين اخرها كويس.
ولم تتراجع عن حرف مما قالته بل أضافت تعليقًا على حديثه: حتى لو، وقف جنبنا نساعده، مش اديله بنتي.

أخرجته عن طور تعقله فعلا صوته وهو يسأل باستنكار: وهي بنتك دي عروسة لعبة مبتعرفش تختار علشان تدخلي في اختياراتها، وبعدين من امتى وحد فينا ليه قرار من غير رجوع للحاج نصران؟
نصران مش هيحاسبني علشان خايفة على مصلحة بنتي.
ورد عليها بحدة: بنته عايزة عز، وهو مش ممانع، مفيش حاجة معطلة الدنيا غير كلامك اللي عمالة تملي بيه دماغها.

وقبل أن يكمل استدار يطالع شقيقته بضيق واسترسل: وهي غلطانة علشان ماشية ورا كلام مش بتاعها.
هنا فقط ارتفعت نبرة سهام، وللمرة الأولى تصرخ به: ملكش دعوة يا عيسى، البيت ده بيتي أنا اللي بمشيه على مزاجي، رفيدة وطاهر وحسن دول عيالي يسمعوا كلامي غصب عن أي حد، واللي مش عاجبه ياخد اللي ليه ويمشي.

تدخلت ابنتها، في محاولة لتهدئة الأوضاع، للمرة الأولى ترى والدتها هكذا في حديثها مع شقيقها، لا تعلم ما أصابها، وحتى السعي في إنهاء هذا بقول: ماما اهدي، محصلش حاجة لكل ده، أنتِ بتقولي إيه بس.
باءت بالفشل حين أكملت سهام على نفس الوتيرة تحت نظراته التي توشك على الفتك بها: بقول اللي سمعه، واللي لازم يعرفه كويس أوي قبل ما يفكر يتكلم معايا، أو ينظر على تعاملي مع عيالي، سمعتني يابن غالية؟

كان في حرب طاحنة بينه وبين نفسه، بذل كل ما يستطيع حتى لا يستسلم إلى إحدى النوبات، حتى لا يهشم رأسها لحظة فقده لكل ذرة تعقل لديه، خشته سهام وبشدة الآن وخاصة حين رأت ردة فعله الهادئة، وهو يقول بابتسامة: عندك حق، أنا فعلا غلطان إني بعلق على طريقة تعاملك مع عيالك.
لم تصدق أنه هو نفسه، هل تم استبداله، وأكمل يضاعف من ذهولها: محدش هيخاف على مصلحتك قد أمك يا رفيدة.
عيسى ماما متقصدش.

ظنت رفيدة أنها ستصلح الوضع بقولها، ولكن استئذنها شقيقها وقاطعها مطالبًا: مش محتاجة تبرري يا رفيدة، هي أم وخايفة على ولادها، بس في حاجة صغيرة.

تناول الكوب الزجاجي الموضوع على الطاولة، ظنته شقيقته أنه سيشرب، ولكنها وجدته على حين غرة يقذفه ليمر من جوار والدتها تماما ويصطدم بالحائط فيتهشم، صرخت سهام بذعر، كان على وشك أن يقذفها هي به، الآن ترى ما اعتادت عليه منه، دخل حسن في هذه اللحظة، وسمع عيسى يقول: شايفة الكوباية دي لما حدفناها جامد، بقت حتت ازاي يا مدام سهام؟

لم تكن تفهم منه شيء، وأكمل هو تحت أنظار الجميع: الأهالي ساعات بيعملوا كده بالظبط مع ولادهم، الحدفة دي هي ضغطهم عليهم جامد، لحد ما بيبقوا مشتتين ومش عارفين عايزين إيه، كذا جزء ما بين رغباتهم ورغبات أهاليهم وكل حاجة حواليهم.

وابتسم مجسدًا ببراعة البراءة وهو يسترسل: فأنا كان غرضي أقولك متضغطيش على اختي، ومحدش طبعا هيقدر يتدخل في طريقة تعاملك مع ولادك، لكن برضو محدش هيسمحلك تدخلي في قرارتهم وتمشيهم على دماغك، تاني حاجة بقى أنتِ قولتيلي تقريبا إن اللي مش عاجبه ياخد اللي ليه ويمشي، بس نسيتي قبل ما تقولي الجملة دي واللي هي تلميح عليا وأنا وأنتِ عارفين كده، تفتكري إن اللي ليا في البيت هنا أبويا الحاج نصران، واخواتي، وأنا ميرضينيش اخدهم وامشي علشان متتجننيش وتقعدي لوحدك تكلمي الحيطان.

سأله حسن بانزعاج من جملته الأخيرة لوالدته: في إيه يا عيسى؟

طالعت رفيدة شقيقها، بينما تجاهل عيسى قوله تماما، حتى مع رؤيته لطاهر الذي دخل للتو، أتى ليتحدث مع رفيدة، بعدما أصر عليه ابنه، ولكن صدمه الأجواء المبعثرة هذه، بقى عيسى على نفس نبرته الهادئة وابتسامته، تجاهل كل شيء حوله، وكأن لا يوجد بالغرفة أمامه سواها، وأكمل: تالت حاجة بقى أنا مبسوط أوي إنك قولتي اسم أمي، كنت في قمة ساعدتي حقيقي وأنا ودني لاقطة جملة سامعني يابن غالية، أصلك متعرفيش أمي دي غالية عليا ازاي، حلو أوي إنك قدرتي تقولي اسمها وعينك في عيني كده، أصل أكتر مرة فاكرها وأنا بسمع منك الاسم ده، مكانتش عيني في عينك، كنت صغير أوي.

شحب وجهها، على الرغم من وضعها احتمال أنه سيفضح كل شيء أمام ابنها وابنتها، ولكنها لم تأب، تدمرت بالشكل الكافي حين هجرها نصران، وعلم طاهر سرها، ليكمل ما يريده ويخبر الجميع، ستواجهه وتصرح أنه ليس ذنبها، لن يخسرها حسن ورفيدة كما لم يخسرها طاهر من قبل، سيحزنا قليلا، وبعدها سيلتزما الحياد من أجلها، وتتخلص هي من أسر خوفها منه، وإن استطاعت ستقصيه بعيدًا عن أسرتها، ولكن الآن وعلى الرغم من ظنها بأنها مستعدة لشيء كذلك، خافت وبشدة، خاصة مع نبرته الهادئة هذه، حتى قذفه للكوب أتبعه بعبارات جعلت الأمر يبدو أشبه بالدرس، وليس بمحاولة لإخافتها، لم تظن أبدا أنها ستخشاه في سكونه أكثر من خشيتها له في ثورته، سيكمل الآن ويسرد كيف تورطت في إخفاء أمر قتل والدته.

كان سيسرد كيف سمع اسم والدته منها وهو صغير يستدعي النوم، بينما هناك شجار مشتعل بينها وبين شقيقها الذي تلطخت يداه بدماء أمه، ولكن ولوهلة طالع طاهر، الأقرب له بين الواقفين، ابن عمه وشقيقه رغم أنف أمه، هذا الذي حلف له أنه سامح والدته حتى لا يحزن، يرى الحزن في نظراته الآن، يرى شعوره بالخزي من حقيقة مرة كلاهما يعلمها، حقيقة أن والدته متورطة، وأن عيسى الذي طالبه من قبل بنسيان كل شيء، وعدم إحزان والدته، لم ينس، وسيفصح الآن ليعلم الجميع، ولكنه لم يستطع فعلها وعينه في عين طاهر، لم يستطع عيسى أن يخذله على الرغم من أنه لم يطلب منه الصمت، لم يطلب منه إخفاء الحقيقة، ابتلع عيسى غصة مريرة في حلقه وعاد لمطالعة سهام ونطق بما ليس له علاقة بالذي كان ينوي قوله: فكرتيني بالذكريات الحلوة دلوقتي، لما سمعتيني اسمها منك وأنا كبير، بس متعمليهاش تاني، أحسن أنا حتى لو الذكريات حلوة بتقفل يومي.

كانت جامدة كالصنم، فقط تنظر له وهي لا تدري إلى ماذا يريد أن يصل، ماذا يفعل أساسا، أين ثورته التي توقعتها، وفاقت من شروده عليه يناديها: مدام سهام.
نعم.
قالت هذا، ورد هو: بقالي ساعة بقولك متنسيش تبقي تقرأي الفاتحة لأمك سعدية، وأنتِ بتقريها لغالية، بس الظاهر مكنتيش سامعة، سمعتيني
ومال عليها هامسًا بنبرة خفيضة: يا بنت سعدية اللي معرفتش تربي؟

عاد لاستقامته، فحدثه حسن بنبرة متحفزة للشجار: كنت بتقولها إيه يا عيسى ووطيت صوتك؟
استدار له ونطق: كنت بقولها إن اسم سعدية أحسن من اسم سهام بالنسبالي، بس لو هتزعل خلاص اسم سهام أحلى.
ثم ضحك وسأله: وبعدين مالك بنكلمني كده ليه يا حسن، عايز تتخانق معايا ولا إيه، عموما حتى لو أنت عايز
غمز له وختم: أنا لا.

قال هذا وغادر تماما من الغرفة، كانت واقفة تشعر وكأنه أغرقها في مياه باردة، صدمها وقطع أنفاسها، ولم يتحقق مرادها في أن يصرح وسط ثورة عارمة تستطيع فيها جذب ابنها وابنتها ناحيتها، بل فعل ما أراد وظلت تحت حصار أنها مدينة له، لا ينقصها الآن أن يتفاقم وضعها سوءا مع طاهر الذي سأل: إيه حصل يا رفيدة؟

لم تخف عليها نظرات الاتهام في عين ابنها، وزاد سخطه حين قالت رفيدة: عيسي كان بيتكلم معايا، ماما جت وكانت عايزانى أقوم، وهو قالها إنه بيتكلم معايا دلوقتي وإنها مينفعش تعمل كده، واتكلموا في موضوع عز وماما انفعلت أوي، وقالتله إنها حرة، ولمحت إن لو مش عاجبه يمشي، هو كمان كان هينفعل أوي بعد كلام ماما ولما قالت اسم طنط الله يرحمها وكسر كوباية، بس هو هدي وقال لماما إنه غلطان فعلا طالما هي شايفة ده، وشدوا في كلام كتير، بس مكانش ينفع يا ماما تكلميه كده.

عاتبتها متابعة: أنتِ حسستيه إنه ملوش يتكلم معايا أصلا، ومكانش ينفع تقولي
قبل أن تكمل صرخت بها والدتها بانفعال: بت أنتِ، مفكرة هتربيني وتقوليلي هينفع ومينفعش.

وبانفعال مماثل رد عليها حسن: متزعقيش ليها يا ماما، هي مش صغيرة، هي شافت حاجة وبتقولها، أنا نفسي مكنتش فاهم إيه اللي بيحصل وكنت هتخانق معاه علشانك، ويعني إيه تقوليله لو مش عاجبه يمشي معلش، ده غير إن كلنا عارفين هو حساس من ناحية أمه ازاي، إيه جاب سيرتها؟
أنا مشتمتش أمه، ومتدخلش أنت وأختك قولت.
طالعها حسن بغير تصديق، وعلق: أنا بجد مش فاهمك.
نادى شقيقته وحثها: تعالي يا رفيدة نروح لعيسى.

تحركت معه ولم يبق سواها هي وطاهر، كانت صامتة تنتظر قوله، وحين لم ينطق سألته: مش عايز تقول حاجة.
حرك رأسه مؤكدا: لا عايز أقول.
أنصتت له، وتحدث هو بثبات: عايزة أقول إن عيسى لو كان قال كل حاجة من شوية مكنتش هلومه، بعد اللي سمعته من رفيدة، بس هو مقدرش يقول حاجة عنك ولا يجيب سيرة وهو عينه في عيني، إنما أنتِ يا ماما فكرتيه بيها وعينك في عينه.
طاهر افهم…

قاطعها مكملا: أنا مش بس مكنتش هلومه، أنا كمان كنت هاخد صفه، هاخد صف أخويا اللي قالي قبل كده في عز ما هو ليه حق أنا مسامح يا طاهر، أنا مش هخسر عيسى مهما حصل.
سألته باستنكار طغى عليه حزنها: هتاخد صفه على حساب أمك!
علي حساب أي حد.
هكذا أخبرها وقد حسم أمره، أنهى قوله وغادر الغرفة تماما، بينما هوت والدته على الفراش وهي تشعر بالتيه، قول ابنها الآن يجعلها تشعر وكأنها خسرت، خسرت كل شيء.

عاد والده من الصلاة للتو، وجده في الخارج، توجه عيسى إلى الحديقة، وجلس على المقعد المجاور له بصمت، انتبه له نصران فقال: خير؟
ملك قالتلي إنك جبتها امبارح لما قالتلك إنها موافقة ترجع، وأصريت عليها تيجي معاك، ومرضتش تستنى للصبح.
هز نصران رأسه، وتساءل: وقالتلك شروطها؟
لاحظ عبوس وجه ابنه فاستفسر: مالك كده، حاسك فيك حاجة.

هل يخبره بما صنعته سهام، أغمض عينيه بتعب، قبل أن يصارح والده: غلطة عمرك جوازك من سهام، وقعة الشاطر بألف والله.
إيه اللي حصل؟
لم يرد عيسى الجواب، فقط نبه والده: عز جدع، أنت اللي مربيه، ورفيدة عايزاه، اتدخل وابعد سهام منها، علشان هتخربها ده لو مكانتش اتخربت اساسا.
أشار له على الموضوع الأهم، وقرر تركه والصعود لغرفته، ولكن استوقفه والده بقول: هو ده بس اللي عايز تقوله، حاسس إن عندك تاني يتقال.

مش قادر أقول حاجة دلوقتي تاني.
أخبره عيسى وهو يغادر نحو الداخل، لحق به نصران استوقفه، وهتف بما ثبته: أنا عايز ارتاح يا عيسى، وأنا مش هرتاح إلا لما أشوفك مرتاح، عايز أشوفلك عيل.
وأكمل يخبر ابنه: لما يبقى عندك عيل هتخاف عليه، ولما تخاف عليه هتخاف على نفسك علشانه.
ضحك وسأله: بما إنك عارف شروط ملك فأكيد وصلك إن من ضمنها إننا منفكرش في الموضوع ده قبل سنتين؟

ملك لو حست إنك عايز منها عيل بجد، مش هتستنى سنتين ولا تلاتة يا عيسى، ملك بتحبك ومش عايزة من الدنيا غيرك، ملكش دعوة بحاجة علشان خاطري غير حياتك، ارجع شوف شغلك، وحقق اللي كان نفسك فيه، علشان الخسارة مش جاية عليك بس، جاية عليك وعلى صاحبك اللي مشاركك، اهتم بحياتك وافرح مع ملك، أنا مش متطمن عليك.
مال يقبل رأس والده، وهو يقول بتأثر: وأنا لو هسيب كل حاجة علشان اطمنك هعملها، يا أحسن وأحن راجل في الدنيا.

ثم مازحه قائلا: بس هيفضل برضو ذوقك وحش في سهام، حتى الواد طاهر تشوفه تقول مفيهوش عيب، تعرف إنها أمه نفسك تتسد.
ضحك نصران على قوله، وقطع حديثهما قدوم حسن برفقة رفيدة، ولم ينتظر عيسى أكثر، استأذن من والده وغادر شقيقه الذي طلب: عايزين نتكلم معاك يا عيسى.
مش دلوقتي علشان عايز ارتاح.

أخبرهم بهذا وتركهم، يدرك أن معجزة قد حدثت حين استطاع التغلب على نوبته أمام سهام، وفي الوقت ذاته يدرك كم هو حزين وبشدة، حادث طارق طلب منه تحديد موعد، قبل أن يذهب إلى غرفته، جلس على الأريكة، وأراح رأسه للخلف، لا يعلم كم المدة التي ظل فيها هكذا، ولم ينتبه حتى حين خرجت ملك للتو من المرحاض، كانت تجفف خصلاتها، ولمحته يجلس هكذا، فسألته باستغراب: عيسى أنت كويس؟

لم يرد، اقتربت منه، فرأت عبراته على وجهه، جالس هكذا مغمض العينين، ويبكي!
جلست جواره مسرعة، وهزته تنبهه: عيسى؟
فتح عيناه، ومسح وجهه وهو يسألها: في إيه؟
في إيه أنت، مالك؟
لم تتلق رد، فمسحت على خصلاته مطالبة: احكيلي طيب.
ابتسم وهو يسألها: مش المفروض إننا على الحياد لحد ما أقول موافق على شروطك.
كانت حزينة لحالته حقا، تناست كل شيء وطلبت منه برفق: بس أنا عايزة أعرف مالك.

أراح رأسه عليها، هو الذي لا يتقن البوح، يجد نفسه أمام عينيها بارعًا في قص كل شيء، هي علاجه، ودواء داء لم تتسبب به.

أنصتت حين تحدث، بعينين أنهكتهما الرؤية فأغلقهما: قالت اسمها، مخافتش، قالتلي خد اللي ليك وامشي، ساعات كنت بحس بالذنب إني مش قادر أسامحها، لكن النهاردة أي شعور بالذنب راح، هي نفسها محستش بالذنب وهي بتقول اسم اللي خدت مكانها، أنا فاهم هي بتعمل إيه، كانت عايزاني اتكلم، كانت عايزاني أقول كل حاجة، وأكسر واتخانق، علشان حتى لما كله يبقى مكشوف، ولادها ياخدوا صفها، يخافوا عليها، عايزاها حرب وفيها جهتين، علشان تعرف تمشيني، أنا العقدة اللي ملازماها، والخوف من إنها متفضلش مالكة لكل حاجة.

توقعت ملك أن الحديث عن سهام، وتحول التوقع يقين حين سمعته يقص بألم: أنا حتى لما كبرت ولقيت فريد بيحبها، حاولت أديها فرصة، جربت أسامح وأقول مكانش ليها ذنب، بس كانت كل مرة تثبتلي إنها ميهمهاش غير نفسها ومصلحتها وبس، أنا مشوفتش ولا مرة إحساس الذنب في عينيها، كل اللي بشوفه خوف على نفسها، خوف إن كل حاجة تتهد، وحتى ده راح، هي بقت عايزة كله يتهد، علشان تعرف تلعب على المكشوف، أنا بكره سهام.

من جديد تشعر بدموعه، وبغضبه، وسخطه على من يتحدث عنها وهو يقول: ولولا أخواتي، مكنتش صبرت لحظة على وجودها هنا، لولا طاهر النهاردة، أنا كنت ممكن ارتكب جناية، كان هيبقى يا أنا يا هي النهاردة في البيت ده.

شريط أفعالها يمر أمام عينيه فيتضاعف انهياره: سهام شاركت في اللي حصل لأمي بسكوتها على أخوها، عمرها ما حبتني، كان يوم عيد عندها لما مشيت، كنت بشوف إنها متضايقة كل مرة أبويا بيحاول يجبني ويغصب إني اقعد هنا، كرهت عيل صغير علشان عارف سرها، كرهته علشان بيحب أمه، واتقهر عليها، كرهته علشان منسيش وعاش في ضلها زي فريد، لكن فريد مكانش يعرف، إنما أنا كنت عارف، ابتلع غصة مريرة في حلقه وهو يكمل: كنت عارف إن أخوها خلص على أمي، وهي سكتت، كنت عارف إني مش قادر أعيش من غير أمي، مش عارف أنام علشان متعود أنام في حضنها، بيت ميرفت كان قبر رغم إنها ادتني كل حنانها، وبيت أبويا كان أصعب منه علشان فيه سهام.

يحرقه كل شيء الآن، وتضاعف حزنها وغضبها على كل من تسبب في حالته هذه وهي تسمعه يقول: حتى ميرت رغم كل حاجة معرفتش تختارني مرة واحدة بس، لا هينفع أبقى عند أبويا، ولا هينفع أكمل عند واحدة بحبها بس هتختار اللي بيأذيني وتفضله عليا، كان لازم أكون لوحدي، بس دلوقتي مبقاش ينفع، مقدرش أسيب أبويا، مقدرش أبعد عن اخواتي
فتح عينيه أخيرا وطالعها قائلا ما أسرها: مقدرتش ومش هقدر أسيبك.

مسحت على وجهه، تطمأنه وهي تعلم أنه خرج للتو من حرب طاحنة بينه وبين نفسه: وأنا مش هسيبك، انسى كل حاجة، أنت مينفعش تفتكر كل الأذى ده، ولو وجود سهام هيخليك تفتكره، تعالى نطلع شقتنا، لو عايز تروح أي حتة هروح معاك، أنا بحبك يا عيسى.

طلب منها للمرة الأولى، في هذه اللحظة تحديدا، والتي شعر فيها بأن علاجه سيكون في هذا: أنا مش هقدر استنى سنتين علشان تخلفي يا ملك، ممكن نتفاوض في باقي الشروط، إلا الشرط ده، أنا أول مرة اطلبها منك، بس تعالي ندي نفسنا فرصة.

رأى التردد في عينيها، رأى خوفها، ورأى عدم جوابها، احتل الصمت الأجواء، وقطعه هو حين مسح على الزهرة البيضاء في القلادة التي صُنِعت خصيصا على اسمها، وتزين عنقها الآن، ابتسم مرددا تلك العبارة المدونة على العلبة الخاصة بها: كل سلسلة من دول حكاية، وكل حكاية بتبدأ بملك، بتبتدي بكلمة بتقولها ملك، أو نظرة بتبصها ملك، أو خوف بتطرده ملك، أو أنا بحبك يا عيسى بتقولها ملك.

نزلت دموعها وهي تصارحه بمخاوفها: أنا خايفة أخلف يا عيسى، خايفة نظلمه، وكان مصبرني إني حساك مش ميال أوي للموضوع، بس أنت أول مرة تطلبها مني، خايفة أقولك لا تزعل، وأنا مش عايزاك تزعل دلوقتي
عفويتها في الحديث هذه، تأخذه إلى عالمها حيث لا خداع، لا تزييف، حيث لا شيء سوى الصدق، وسعى لطمأنتها بقول: وأنا مش هزعل، بس تعالي نحاول، يعني بلاش سنتين، خليها سنة.

أخبرته بأفعاله والدموع عالقة في أهدابها: وبعد سنة تقولي خليها كام شهر، وبعد كام شهر تقولي الشهور دي مش هتفرق ما دلوقتي، بس أنا مش هقدر أنا عايزة اتطمن الأول، يعني هو أنت مشكلتك الوحيدة مع الشرط ده؟
ده أصعبهم، لو شيلتيه هعملك كل اللي أنتِ عايزاه، ولو مشيلتيهوش مش هقدر أقولك إني مش موافق يا ملك.
النبرة الحانية في حديثه جعلتها تطلب منه: طيب سيبني افكر، ينفع؟

هز رأسه مؤكدًا موافقته، واحتضنته هي، حدثته تحاول طمأنته: أنا مش عايزاك تفتكر أي وحش، انسى دلوقتي أي حاجة، خليك فاكر إننا مع بعض بس، أنت عفيت وأنت قادر، أجرك كبير أوي عند ربنا، قولي إيه يخليك كويس دلوقتي وأنا اعملهولك.
تفضلي جنبي.

فقط هكذا، تبقى جواره وكل شيء سيكون عنده بخير، رغبتها في احتواء ألمه، وحزنها الشديد وصله، وكأنها ترغب في مقاسمته عبء لا يقدر عليه، ينذرها بعاقبة العبء على من يحمله، وترضى بكل حب إن كان هذا سيخفف عنه، ولأجل ذلك هي دائما بداية كل حكاية عنده هو، دائما وأبدا ستبقى بطلة لكل الحكايات التي يعيشها، لأن بدونها تنعدم حكايته، ويفنى هو.

تنويه: المشهد ربما يكون مؤذي نفسيا للبعض.
تعيش بيريهان الآن أسوء كوابيسها، تتيقن في هذه اللحظة من كلام نور، يتردد في أنها صوته وهو يخبرها: في لحظات يا بيريهان بنتمنى فيها نرجع، بس بيبقى صعب، ساعات في حقايق بنهرب من الاعتراف بيها علشان خايفين نتكسر، بنصدق الوهم بشيء، بس لما الشيء ده بيختفي، ويظهر عكسه، بتكون أصعب لحظة في حياتنا.

تدرك أنها اللحظة الأصعب وهي ممددة على فراش في غرفة من أحبته، وأعطته كل شيء، بيدهِ سكين، يتجول به بحرية تامة، ومساره عنقها، وحتى الصرخات يمنعها منعها بإشارة محذرة، وهو يقول بنبرة أرعبتها ويده تتجول على وجهها: صوتك يا ملك.
تحاول تنبيهه، إفاقته، تأن وتخبره بذعر: أنا بيري يا شاكر.
وضع سبابته على شفتيها، يمنعها من الحديث، وهو يسبها: متجيبيش اسمها على لسانك يا ×××××.

ابتلعت ريقها بصعوبة، وصرخت به وهي تحاول القيام ودفعه عنها: بقولك أنا بيريهان فوق.
أعادها لمكانها، اخترق أذنيه اسمها، وتنبه، وقال: أنتِ كمان اختارتي تتخلي عني يا بيري، بتخيريني علشان تبقي معايا، بس أنا محدش يخيرني، حتى لو حبيتك.
جذبها من خصلاتها، فعلت صرخاتها وهي تطالبه: يا شاكر لا
فين أبوكي دلوقتي، فين الباشا اللي مشيتي وراه يلحقك.

كانت نبرته متشفية، لا تعرف كيف تخلصت من قبضته، هرولت ناحية باب الغرفة، ولكنه تمكن منها، قبل أن تكمل، وجدته يقبض على خصرها، يعيدها إلى الفراش، كانت تصيح وبشدة، ترفض ما تتعرض له، ومع صياحها تتلقى تعنيفه، تتلقى الضرب على يده، وترغب لو حدثت معجزة وتم إنقاذها الآن، رأته يسحب أحد الأغطية على الفراش يقيد يديها به، فصرخت مقهورة: يا حيوان، أنا بابي مش هيسيبك، بتعمل فيا كده بعد كل اللي عملته معا…

لطمها بقوة، كانت صفعة أسكتتها وهو يحذرها وقد أنهى ما تجرعه على كل ذرة تعقل لديه: مش عايز اسمع صوتك، تخرسي خالص.
تستطيع رؤية الدماء بجانب شفتيها، تبكي وتستعطفه، ترجوه بكل ما أوتيت من قوة أن يشفق عليها: يا شاكر متعملش فيا كده، فوق علشان خاطري، أنا بيري حبيبتك.
تلقت ضربته التالية وهو يخبرها: حبيبة أبوكي، مش حبيبتي أنا.
طب أنا هعملك كل اللي انت عايزه بس سيبني امشي، متضربنيش تاني.

توسلته ودموعها تتحدث عن حالتها، تضاعف ذعرها وهي تراه يزحف فوقها، يهمس مؤكدًا: أنتِ ليا يا بيري، ليا ومش هتبعدي عني، اللي حصل قبل كده مش هيتكرر تاني، مفيش حاجة تبقى ليا وتتاخد مني، مفيش حاجة تبقى ليا وتقول لا وتمشي بمزاجها
كان يقبض على فكها بقوة وهو يتابع سائلا: سامعة يا بنت ال ×××××.

لم تستطع من خوفها الدفاع عن أهلها ضد سبه، الدفاع عن نفسها حتى، لم تستطع وهي تسمعه يقول: الليلة دي علشان تفضلي فاكرة طول عمرك إن لا متتقالش تاني.
لم تكن حتى تستطيع النظر إليه، تكاد تموت ذعرًا الآن، وكان الإجبار هو طريقته، حيث ضرب على وجنتها عدة مرات يجبرها على النظر إليه بقول: بصيلي، أنا مش عايزك تنسي أي حاجة يا ملك.
لم تعد تدري هو يراها من، نطقت بأمل ضعيف عله يرحم: أنا بيري.

ولم يتغير شيء بل نطق بإصرار: اوعي تنسي اللي هيحصل هنا يا بيري، علشان تفتكري إن حتى أبوكي مش هيقدر يمنع حاجة تخصني عني.
صرخت بقهر، وهي تراه يشرع في انتهاكها، لا تتلقى منه إلا كل عنف، يعاملها وكأنها إحدى بائعات الهوى، ستتقبل منه كل شيء، بكل ما امتلكت من قوة صاحت: ابعد عني.

وحتى الصراخ حرمها منه، حين دس في فمها قطعة من القماش، ما من مغيث الآن، ترى وجه له لم تره قط منه، هذا اختيارها، ولكنها على يقين من أنها لا تستحق ما تجنيه في هذه اللحظة، تأمل أن ينتشلها أحد من قتلها حية على يده هو خصيصا، هو الذي لطالما أحبته، ولكن لا أحد.

استمر في انتهاكها، في نعتها بكل ما لم تسمعه في حياتها أبدا، ابتعد أخيرا عنها بعد أن قضى عليها تماما وماتت روحها هي على يقين حتى صراخها خفت، وأنفاسها صارت أبطأ، كل إنش فيها يأن، زاغت نظراتها، ولم تعد تهتم وهي تسمع دقات على باب الغربة، تبعها دخول والدة زوجها، والتي رأت ابنها يرتدي ملابسه، أما بيريهان فحالتها لا تنبأ بخير فنطقت بذهول: يخربيتك يا شاكر عملت إيه في البت.

هرولت ناحيتها لتجدها بلا حراك، لطمت كوثر على صدرها، وبدأت في وصلة سب لابنها، الذي بدأ أثر المشروب يزول عنه، اقترب منها فوجدها تتنفس، ولكن أنفاس بطيئة، وجد الدموع تعرف طريقها على وجنتيها، التقت عيناه بعينيها، خذلان العالم بأكمله في نظراتها، يراها هكذا هامدة أمامه، تطالعه وكأنها تقول لم أتوقعها منك، يدرك الآن فقط فداحة فعله، يقترب منها، يمسد على خصلاتها بحنان معاكس لعنفه في جذب هذه الخصلات قبل قليل، يطالبها: بيريهان كلميني يا حبيبتي، أنا بحبك يا بيري، أنا بس كنت…

قطع كل هذا دقات عالية على الباب الخارجي، أول ما خافت أمه منه أن تكون الشرطة، وكان حدسها صحيح، فمن في الخارج هم رجال الشرطة، تريد التيقن من كونه حي، حتى لو فر الآن، حتى لو سامح نفسه على إزهاق روح فريد، ولكن بالنسبة له سيكون ما فعله ببيريهان الليلة هو ذنبه الأكبر، حتى ولو كان له مبرراته.
ومهما كانت مبرراته فإن عذاب روحها الآن لا يصف بلاغته سوى: يبكي وكأن العالم بأسره هزمه، ولم ينصفه أحد.

حتى الحبيب لم ينصفها، الحبيب كان أول من هزمها.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *