رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل الثالث عشر
المكان: كوكب كيبلر.
كان ليوناردو لا يستوعب أنه يقضي ساعاته الأخيرة على كوكب كيبلر مكان مولده الأصلي حيث نشأ وترعرع ورغم أنه لم يحمل ذكرياتٍ جيدة تجعله يحزن على المغادرة إلا أن ذلك الشعور الذي يجعلك تتألم لمغادرة مكان اعتدت عليه لم يجد صعوبةً بالوصول إلى أعماق مشاعره الجريحة. تنهد وهو يراقب الطبيب الذي كان يفحص قدمه بعناية وكأنه شخصٌ مهم جدًا، لقد عهد ألا يهتم أحد لأمره على الإطلاق فلا هو يملك عائلة ولا حتى أصدقاء، فكيف انقلب الحال في ساعات معدودة؟ كيف كان اقتحامه السجون السرية يعني وصوله إلى هنا؟
«إن قدمك في أحسن الحال والفضل يعود إلى الإسعافات الأولية التي تلقيتها، ستعود قدمك كما كانت في غضون أيام». قال الطبيب قاطعًا شروده.
لقد كاد ينسى تلك الفتاة مجهولة الهوية والتي استحوذت على جزءٍ كبير من تفكيره، لم يكن يرى الفتيات كثيرًا سوى في الأسواق أحيانًا وغالبًا عند وصول المراكب التي تحمل القادمات من كوكب جليزا. كم يتمنى حقًا أن يلمحها فقط، من هي تلك القوية التي تجرأت على مساعدته رغمًا عن جوزيف؟ من هي تلك التي تحدت جوزيف بثبات وقوة دون تردد في إنقاذه؟ إنها أشجع وأقوى من رجال كثر قابلهم.
دخلت الملكة فيكتوريا إلى العيادة الصغيرة وهي تتفحص قدم ليوناردو ثم التفتت نحو الطبيب وقالت:
«هل الأمور بخير؟».
«نعم لا خطر يذكر، مجرد جرح عادي وتم التعامل معه جيدًا منذ البداية».
ابتسمت فيكتوريا بارتياح ثم قالت لليوناردو: «سنغادر بعد فترة قصيرة، استعد».
نظرت إرورا نحو جموع الرجال وأحاديثهم الخافتة ثم نكزت توماس الذي يقف بجانبها يحدق نحو إحدى أسراب الطيور فأيقظته من شروده والتفت لينظر إليها ثم قال بلامبالاة:
«ماذا هناك؟»
أشارت إرورا إلى الجموع الغفيرة التي تطوق مساحة القلعة ذات الحجار الرمادية القديمة ثم قالت:
«انظر إلى تلك التجمعات».
«ويحك يا إرورا كأنك ترين هذا المنظر لأول مرة هذا طبيعي فالملكة فيكتوريا بنفسها هنا». أجابها ببرودٍ بعد أن أشاح بنظره بعيدًا.
«إذًا هيا لنلقي نظرة نحن أيضًا فأنا لم أر الملكة فيكتوريا أبدًا». قالت بحماسٍ طفولي وهي تجر توماس من ذراعه.
«حسنًا ولكن لترحمي ذراعي». قال مبتسمًا من أفعالها تلك فهي تارةً ما تكون طفوليةً جدًا وتارةً ما تكون غير مكترثة وعاقلة فما بالها ترغب باللحاق بتلك التجمعات.
حررت ذراعه من قبضتها ثم عقدت حاجبيها بغضب واستياء ثم صرخت به: «أنت باردٌ جدًا وممل فلتبق هنا تراقب الطيور كالأبله».
مشت بخطوات سريعة وغاضبة بينما تمتم توماس لنفسه: «ها هي إرورا الشرسة تعود من جديد».
ركض وراءها يتبعها بعد أن وصلت هناك. طالعت الملكة فيكتوريا وهي تخرج من باب القلعة الخشبي وتعبر الطريق الحجري الممتد، راقبت جمالها الساحر وإطلالتها الأنيقة بفستانٍ وردي جميل مرصع بخرز فضيٍّ لامع. هي لم ترتد فستانًا في حياتها ولا تخفي رغبتها الدفينة في ذلك، رمقت ملابسها سريعًا وكأنها لم تنتبه مسبقًا لما تردي، بذلةٌ سوداء تغطي كامل جسدها ومع كل هذا هي تلفت أنظارهم إليها. حولت نظرها بعيدًا بعد أن أبدت إعجابها الدفين بأناقة فيكتوريا، نظرت بعيدًا عنها فاتسعت عيناه بصدمة، إنه ليوناردو ولكن كيف؟ وماذا يفعل هنا؟ ما سبب هذا الاهتمام؟ فقد كان محاطًا بحراس فيكتوريا كأنه شخصٌ مهم جدًا. اقترب توماس منها يطالع حوله ما يحدث وهو يراقب عينا إرورا اللتان علقتا على شيءٍ وما إن أدار وجهه حيث تنظر ارورا حتى أصابته الصدمة هو الآخر. رؤية ليوناردو حرًا طليقًا جعله يصاب بالصدمة، فمن ذاك الذي ينجو من سخط جوزيف ببساطة؟ التقطت أذناه بعض الأحاديث الجانبية القريبة.
«لا بد بأن يكون لفيكتوريا مصلحة خاصة مع ذلك الشاب حتى تصطحبه هكذا».
ولكن ما هي تلك المصلحة مع شابٍ لا يمتاز بشيءٍ سوى التجرد من العائلة والتمرد. تأففت إرورا بضجر وهي تشاهدهم يصعدون مركبتهم الخاصة والضخمة بنية المغادرة. استدارت وابتعدت دون أن تبدي أي اهتمام بتوماس الواقف إلى جانبها والذي يشاركها الصدمة نفسها. تبعها مبتعدًا عن تلك الجموع فلا شيء يهمه لا أمر تلك الاستعراضات الملكية الباذخة ولا أمر ليوناردو حتى فلقد اعتاد أن يكون أنانيًا في هذا المجتمع الأناني ولكن إرورا كانت مختلفة، كانت تكترث لأمر الجميع وتتأثر بأي شيء وهذا ما يجعله قلقا عليها حقًا. في هذا المجتمع يجب أن يستغني الشخص عن كل حواسه ومشاعره، يجب أن يخضع لا غير أن يكون مبرمجًا لتلقي الأوامر فقط ببساطة كل شخص بحاجة للاستغناء عن إنسانيته. مشى وراء خطواتها السريعة محاولًا الوصول إليها فاسرع نحوها وما إن وصل حتى أمسك بذراعها التي كانت ترتجف ثم قال:.
«إلى أين إرورا؟ لماذا غادرتِ هكذا؟».
نظرت إليه بعينيها المغلفتين بطبقة شفافة من الدموع ثم قالت:
«أريد أن أبتعد قليلًا توماس».
طالع عينيها العشبيتين مستشعرًا حزنها الخفي والذي يعترف بأنه فشل بمعرفته حقًا، هما فعلًا قريبان جدًا ولكنه دائمًا يفشل بفهمها وفهم ما يدور في ذهنها ربما لأنه لم يعتد على معاشرة الفتيات كثيرًا حتى والدته توفيت عندما كان في سنٍ صغير. استطاع تذكر والدته في فتراتها الأخيرة، كانت متعبة ربما ليس جسديًا بقدر ما كان نفسيًا حتمًا يتذكر بكاءها المستمر، كانت كمن أصابته لعنة. حقيقةً لم تكن والدته هي من عانت من هذه الحالة فقط فالكثير من النساء يعانون المعاناة نفسها، لقد شهدوا حوادث انتحار كثيرة وأمراضٍ عديدة لم تعالج بكفاءة. كان يجزم حقًا بأن سبب هذا هي العنصرية القاتلة لسكان كيبلر حصرًا فهو يتذكر رغم صغر سنه كم مرةً ردد والده على مسامع والدته بأنها قادمة من كوكب جليزا كنوع من الإهانة أو عندما يغضب كان يقول بأنهن مجرد عبيد تم استبدالهم برجالهم الأقوياء، لم يكن حقًا يستوعب كلامه عندما كان صغيرًا ولكنه كان يهاب الاقتراب من والدته بسبب بعض الحالات المرضية التي تصيب النساء وتجعلهن يقتلن أبنائهن كنوع من الانتقام أو العنصرية المعدية وهذه القصص كان يسمعها كثيرًا.
«لنذهب إلى مكان الشلالات، ما رأيك؟». قال محاولًا التخلص من دوامة الذكريات التي دخلها عنوةً.
أومأت له موافقة ثم أكملت طريقها بصحبته نحو المكان المفضل لديها.
راقبت إرور الهضاب التي تتدفق منها المياه على شكل شلال عذب بينما عزف صوت المياه المتدفقة سمفونية مميزة جدًا. اصطفت أشجار الأرز على طول ضفاف المياه بطريقة عشوائية جميلة كما برزت بعض النباتات المختلفة على ظهر مياه النهر. جلست إرورا على ضفة النهر وهي تحدق بالطبيعة بشرود ولكن صوت توماس أيقظها وهو يقول:.
«ما بالكِ إرورا؟ أأنتِ غاضبة من ليوناردو؟ لا تبالي أبدًا، لا أحد يستحق أن تضحي من أجله وتخاطري، أنتِ طيبة ولكن ليس الجميع كذلك».
ابتسمت إرورا بعفوية بسبب تحليل توماس المتسرع ذاك ولكنه على الأقل يهتم لأمرها.
«لماذا أنت صامتة؟ تكلمي ألم نتحدث دومًا عن مشاكلنا ومشاعرنا معًا».
تنهدت إرورا بضيق وهي ترغب هذه المرة حقًا بعدم البوح بما تشعر به فهو يبدو لها غريبًا وسيبدو كذلك لتوماس ولكنها قالت باستسلام بعد أن استمر توماس بالتحديق بها:.
«توماس، أنا أشعر بالضيق، لم أعد أحتمل أن أكون مستعبدة أكثر، لن أتحمل أن أكون مضطهدة هكذا فترةً أطول. ربما ستسخر مني لأنه يجدر بي أن أكون قد اعتدت الآن بعد أن عشت هنا تسعة عشر عامًا ولكن، ». نظرت له بعينيها الدامعتين ثم أردفت بصوت مبحوح: «الأمر خارجٌ عن إرادتي أنا أشعر بعدم الانتماء، أشعر بالاختناق أنا كالسمكة التي غادرت المياه وبدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة».
ارتجفت حدقتا توماس الزرقاوان وهو يطالع دموعها التي انهمرت بهدوء، لم يكن يعرف ما يجدر به قوله الآن ليجعلها تستعيد بعض الأمل والقوة ولكنه وجد نفسه يشاركها التحديق في نقطة وهمية. تنهد بحسرة ثم قال:.
«لطالما أطلقت على لقب الجبان بسبب تجنبي للتدخل بأي شيءٍ كان أو اقحام نفسي في أي مشكلة لقد تعمدت أن أكون سلميًا ليس لأنني أناني ولكنني أخشى الاختناق، أخشاه بشدة لدرجة تدفعني لأكون أصمًا وأبكمًا وأعمى ولكن قلبي ينبض ومشاعري تصارع داخلي لتبقى ساكنة ربما لذلك أنا جبانٌ فعلًا».
«حاولي التجاهل فكري بنفسك فقط تعلمي لعب دور الأنانية وصدقيني يومًا ما سيتغير كل شيء وسنتحرر من كل تلك القيود ولكن حتى تشهدي ذلك اليوم جربي أن تتنازلي قليلًا».
كانت لتستنكر كلام توماس الذي بدا لها ضعفًا كبيرًا ولكنها تعرف في قرارة نفسها أن تلك الطريقة وحدها تجعله يتجنب أي مشاعر سلبية عميقة.
التعليقات