رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل الرابع عشر
المكان: كوكب جليزا.
فتح ليوناردو عينيه على ورق جدران سقف الغرفة ذات اللون المرجاني ولكنه لم يكن يعي تمامًا أين هو فكان شعوره حينئذٍ كمن نام واستيقظ عصرًا معتقدًا أنه يبدأ يومًا جديدًا توًا. تقلب في السرير وهو يشعر بجسده المنهك، كان قد نسي أمر قدمه المصابة فأيقظه الألم ليعود إلى وضعيته الأولى. التفت ينظر حوله يطالع جمال الغرفة وأناقتها، تسريحةٌ بمرآةٍ كبيرة باللون المرجاني والزخارف الذهبية الفاخرة، كل شيء كان كالحلم بالنسبة له حتى الفراش الذي يستلقي عليه كان مريحًا جدًا. تذكر أنه فور عودته من تلك الرحلة المتعبة من كوكب كيبلر بالمركبة الفضائية قد طلب أن يأخذ قسطًا من الراحة وعندئذٍ قادته الخادمة إلى هذه الغرفة، لم يكن يكترث إلى المكان بسبب الإرهاق الذي فتك بجسده وجعله يستلقي من فوره على الفراش وغط في نومٍ عميق. لا يستطيع إخفاء مشاعره بالقلق حيال معاملة فيكتوريا، إنها خبيثة جدًا وهو يدرك هذا حتمًا ولكنه لا يملك أي حلٍ آخر سوى المجازفة وهو لا يعرف نوع المهمة التي ستقحمه بها مع هذا هو مستعدٌ للتضحية فقط من أجل والدته. نهض ببطء من الفراش ثم اتجه نحو حمام الغرفة حينئذٍ قرر أن يأخذ حمامًا بعد هذه الرحلة المتعبة. أخرج من حقيبة ملابسه الصغيرة سروالًا طويلًا أسود وقميصًا قصير الأكمام باللونٍ القرمزي القاتم وارتدى فوقه سترةً باللون نفسه. كان هذا اللباس يعتبر لباسًا موحدًا تقريبًا لسكان كوكب كيبلر. فتح خزانة الغرفة بغية الإطلاع على ما تخفيه من ملابس فوجد عدة أطقم أنيقة ورسمية تختلف عما يرتديه كثيرًا، سروال بني قصير مع قميص عاجي اللون وفوقه سترةٌ طويلة تصل إلى طول السروال. أغلق الخزانة دون أن تجذب تلك الأطقم انتباهه فهو لا يكترث للملابس حقًا. اقترب من النافذة ثم أزاح الستارة الذهبية عنها ليطالع المنظر خارجًا، كانت الشمس على وشك المغيب لقد كانت تبدو أكبر مما هي عليه على كوكب كيبلر حتى الإضاءة كانت أكثر احمرارًا. كان يعتقد بأن كوكب كيبلر أجمل من كوكب جليزا ولكن الفارق أن الملكة فيكتوريا تهتم للمظاهر فكان المكان هنا أكثر ترتيبًا وتنظيمًا حتى القصر كان أجمل من قلعة جوزيف القديمة والتي لم تملك الكثير من التفاصيل المثيرة للاهتمام مجرد قلعة عادية. طالع الحديقة التي تطل على المكان، كانت مليئة بالأزهار الجميلة والمتفتحة والأشجار الجميلة وقد تم توزيع بعض المقاعد الخشبية الأنيقة. نظر إلى البلاط الممتد من بوابة القصر إلى البوابة الحديدية الخارجية وكم كان مصفوفًا بأناقة وعناية فائقة.
خطر في باله الخروج قليلًا ليطلع على المكان عن قرب قبل أن تغيب الشمسُ تمامًا. خرج من غرفته وعبر الممر الذي كانت أبواب الغرف تصطف على جانبه الأيمن والنوافذ الزجاجية على جانبه الأيسر. وصل إلى الدرج الذي يقبع في المنتصف بين الممرين فنزل بهدوء ليصل إلى القاعة الكبيرة التي انقسمت إلى قسمين، قسم استقبال بأرائك أنيقة وقسم احتوى مكتبة كتب ضخمة. اتجه نحو الباب وفتحه ليخرج. كان مكان القصر فسيحًا جدًا أما الحديقة فأخذت الحيز الأكبر من المكان. بدأ يتجول بين الأشجار حتى تعمق داخل المكان. كان يكمل مشيه بضجر فكان يبحث عن شيء مميز فكل تلك الطبيعة والأشجار والزهور كانت عادية بالنسبة له فقد رأى ما هو أجمل على كوكب كيبلر وبينما كان يجر نفسه متابعًا جولته سمع همسات قريبة، أحدٌ ينادي. بدأ يقترب من مصدر الصوت حتى وصل إلى سور القصر الحديدي وبين شجرتين من الأشجار المصطفة على طول السور شاهد وجه إمرأة تبدو كبيرةً بالسن كانت هي من تنادي. اقترب بخطوات مترددة إلى تلك العجوز التي كانت تبدو بالعقد السادس من عمرها وقد غزت التجاعيد وجهها الجميل وتخلل الشيب شعرها البني.
«هل أنت القادم من كوكب كيبلر؟». قالت له من فورها دون أي مقدمات.
حدق بها فترةً محاولًا استيعاب الهدف من سؤالها ذاك أو بالأحرى السبب وراءه ولكنه أومأ لها بسبب تحديقها المستمر نحوه.
مدت يدها نحو جيب فستانها الأسود الطويل وأخرجت صورةً منه ثم وضعتها أمام عينيه. حدق بها ثوانٍ ثم اتسعت عيناه بصدمة، تجمدت الدماء في عروقه وتضاعفت نبضات قلبه حتى شعر ببعض الألم في قفصه الصدري.
حدقت بعلامات الصدمة والذهول التي ظهرت على ملامح وجهه الحادة ثم قالت بلهفة: «هل تعرفها؟ أرجوك أخبرني».
حدق بعينيها العسليتين الدامعتين والحزينتين كذلك ثم قال متلعثمًا: «لا، لا أعرفها. لماذا تسألين عنها؟».
لاحظت العجوز تلعثمه ثم قالت بنبرة مبحوحة قريبة إلى البكاء: «أرجوك يا بني إن كنت تعرف شيئًا عنها فطمئن قلب أم انفطر حزنًا لقد سألت كل شخصٍ جاء إلى كوكب جليزا عنها وجميعهم أنكروا معرفتها ما زلت أحمل الأمل، انظر إلى الصورة جيدًا».
عادت لترفع الصورة أمام عينيه ولكنها لا تعرف حقًا بأنه لا يحتاج ليحدق بها أطول فهو يعرفها، يعرفها جيدًا. إنها الشخص الوحيد الذي رعاه في طفولته، الشخص الوحيد الذي كان يرغمه على الابتسام دومًا، إنها تلك التي كانت تروي له القصص الجميلة قبل أن تستسلم جفونه للنوم، إنها التي فقد كل شيءٍ بعد أن ابتعدت، إنها التي أبكت قلبه قبل عينيه.
«أنا أسأل عنها منذ أكثر من عشرين عامًا منذ أن غادرت بعيدًا ولكنهم يسكتوني بإرسال صورٍ قديمة، لا يعرفون أنني لست غبية لهذه الدرجة، أرجوك يا بني تكلم لا شك بأنك تعرفها».
«إنها بخير». قال بعينين دامعتين ثم ابتسم للعجوز وأتبع «أعدك أنها ستكون بخير وسترينها قريبًا».
ابتسمت جوانا وسط دموعها بسبب كلماته الصادقة ثم قالت:
«سأكون ممتنة لك جدًا حتى لو طلبت أغلى ما لدي فسأقدمه لك مقابل هذه الخدمة».
«سأطلب منك طلبًا واحدًا فقط».
«أي شيء». أجابته دون أن تتردد لحظة.
«فقط أريد الاحتفاظ بهذه الصورة رجاءً».
كانت رغبته بالاحتفاظ بصورة والدته أقوى من أي شيءٍ آخر حتى أنه لم يكترث إن كان سيثير شكوك جدته حول هذا الأمر، فقط أراد أن يتمتع بالنظر إلى صورتها في كل الأوقات.
استغربت جوانا طلبه ذاك ولكنها بررت لنفسها بأنه يريد البحث عنها أو تذكرها ربما.
«كنت لأرفض لو أنها الصورة الوحيدة لها ولكن لا بأس». قالت ثم مدت يدها عبر إحدى فتحات السور لتناوله الصورة. التقط الصورة ثم أمسك يدها وقبلها، لم يكن باستطاعته أن يعانقها أو حتى يقبل رأسها بسبب السور الذي يفصل بينهما ما دفعه لتقبيل يدها دون تفكير. إنها تحمل ريحها، ريح والدته الذي يفتقده بشدة فهو أخيرًا وجد من يشاركه ألمه وربما جدته تحمل ألمًا أكبر في قلبها. كان يود بكل ما يملك بأن يدفع بعض الأمل إلى قلبها الحزين فهي تنتظر ابنتها منذ أكثر من عشرين عامًا بالصبر نفسه الذي يجعله ينتظرها منذ تسعة عشر عامًا. نظرت جوان نحوه بحب مع أنها استغربت تصرفه ذاك ولكن سعادةٌ غريبة غمرت قلبها بطريقة مبالغة، بررت ذلك بأنها وجدت من يساندها أخيرًا.
المكان: كوكب الأرض.
دخلت سكرتيرة المكتب الخاص ببرنالد مكتبه بعد أن تلقت الإذن. بقي برنالد يقلب الأوراق بين يديه دون أن ينظر إليها.
«سيدي هناك رجلٌ يريد مقابلتك؟».
«من هو؟». أجابها دون أن يكترث كثيرًا.
«لا أعرف حقًا ولكنه قال بأن الأمر مهم وبأنك تعرفه جيدًا».
تأفف برنالد بغضب ثم بعثر الأوراق بغيظ ونظر نحو الواقفة أمامه ثم أردف بامتعاض:
«وهل نحن نلعب ونلقي الأحجيات هنا؟».
أبعدت نظراتها عن وجهه مخفية ارتباكها من غضبه ولكنه زفر بضيق ثم قال:
«دعيه يدخل الآن ولكن في المرة القادمة لا تدخلي أحدًا دون اسم».
أومأت له ثم استدارت تغادر المكتب وما هي إلا دقائق حتى سمع طرقات على الباب. قال بعد أن عاد يتفحص الأوراق أمامه:
«تفضل».
«في الحقيقة أنت محقٌ تمامًا فهذا ليس مكانًا للعب والأحجيات. هنا فقط تقام ألعاب الموت والاحتيال».
تلك الكلمات جعلت برنالد ينتفض تلقائيًا فخلع نظارة القراءة بعصبية ثم رفع نظره نحو المتكلم ليواجه ابتسامته المستفزة. تجمد برنالد وهو يطالع الواقف أمامه وقلبه ينبض بخوف، شعر وكأن دماءه قد تجمدت في عروقه وجسده أصبح كتلة جليدية، لم يكن يتمنى رؤية هذا الشخص حتى في أسوأ كوابيسه. فتح فمه بصدمة وهو يتفحص ملامح ذلك الشخص الساخرة ولكنه لم ينطق بشيء.
«بالتأكيد ليس شبحا» تمتم لنفسه.
«للأسف لم أتوقع هذا الاستقبال الجاف منك ولكن لا بأس أعرف أنك لا تصدق تواجدي أمامك بعد كل هذا الوقت صراحة أعذرك فربما الفرحة قضت على تحكمك بتعابيرك». قال مبتسمًا وهو يجلس على المقعد الفخم على الجانب الأيمن من مكتب برنالد. تعجب برنالد من جرأته فإلى جانب صدمته تلك برؤيته من جديد إلا أن كلامه وابتسامته تلك هما أكثر ما أثار غضبه وتسبب بغليان غيظه.
«أين كنت كل تلك المدة؟». سأله بجفاء وكأنه يراه لتوه.
رفع ألبرت حاجبيه باستنكار ثم قال بنبرةٍ ملؤها السخرية:
«في الحقيقة سؤال مهم جدًا، طبعًا من حققك أن تسأل فقد أرهقتكم بالبحث عني سبعة عشر عامًا ولكنني أشك في ذلك فلست شخصًا بتلك الأهمية».
«تكلم قبل أن ترى مني ما لا يسرك يا هذا». قال برنالد مهددًا بعد أن نفد صبره تمامًا.
أطلق ألبرت ضحكة عالية وهو يستمع إلى كلمات برنالد ثم تغيرت تعابير وجهه إلى الجدية ونظر نحو برنالد باستحقار وقال:.
«كنت شخصًا غير مهم فهل تظن أنني ما زلت كذلك بعد كل هذه السنوات؟ عزيزي لقد عدت هنا لأعيش حياتي كما يروق لي تمامًا ولست هنا لتفتح معي تقريرًا مفصلًا أو تسجيل حضور. ألبرت السابق لم يعد ألبرت نفسه الذي أمامك فأنا الآن شخصٌ يستطيع أن يقلب طاولة لعبكم بلمسة واحدة لقد زرعت لنفسي جذورًا قوية إن حاولتم اقتلاعها فسوف تحل الفوضى عليكم وتنتهون».
اتسعت عينا برنالد البنيتان وشعر بأنه تجمد تمامًا لا بد بأنه كابوسٌ مزعج فلا يمكن أبدًا لشخص كهذا أن يقوم بتهديده هكذا.
«صدقني لن تخرج حيًا من هنا». قال له برنالد وعيناه تشتعلان بلهيب الغضب وأسنانه تصدر صريرًا مزعجًا وما لبثت أن ارتسمت ابتسامة أخرى على ثغر ألبرت ثم قال:.
«لو كنت أحمل نسبة واحد بالمئة بأنك ستستطيع قتلي لما رأيتني أمامك الآن فنحن لا نتسلى هنا ولا نلقي الأحجيات بل نحن ندخل لعبة الموت بذاتها فما بالك بدخولها دون سلاح يحميني أو دعني أجعلها ذات معنى أقرب فسلاح لا يكفي بل مدافع ومتفجرات تضمن لكم مصيرًا معلقًا بمصيري بلا شك». صمت قليلًا ثم أردف تحت صدمة برنالد: «وتلك العبارات التهديدية لم تعد تنفع، سأدفنك هنا ولن تخرج حيًا كلها عباراتٌ بلا معنى سيدي ففي السابق كنتم مضطرين لمسايرتي قليلًا أما الآن فأنتم مضطرون لمسايرتي على أكمل وجه».
ما لبثت تعابير برنالد المصدومة أن تحولت إلى تعابيرٍ ساخرة فقد فكر لحظة بأن الجالس أمامه يمارس إحدى ألاعيبه وما زال ذلك الكبرياء الذي يجعله يعتقد بأنهم صنعوا نظامهم الذي لا يخرق بسهولة يعزز موقفه في تلك اللحظة فقال وحاجباه يرتفعان بسخرية مطلقة:
«وما الذي لديك ضدنا حتى تتحدث بهذه الثقة؟».
ابتسم ألبرت وهو يستمع إلى كلمات برنالد الواثقة، هو حقًا يعجز عن معرفة مصدر ثقتهم العمياء بأنفسهم إلى هذا الحد فرغم أن ألاعيبهم مكشوفة إلا أنهم يستمرون بالمراوغة دون استسلام. حول نظره نحو وجه برنالد ثم قال بثقة تشبه ثقته:
«تقصد ما الذي لا أملكه ضدكم؟ ولكن بماذا تحب أن نبدأ؟».
نظر برنالد نحوه بحنق شديد وهو يكاد يطبق على أنفاسه ويتخلص من صوته ذاك الذي بات كابوسًا حقيقيًا داخل رأسه ولكنه اختار الصمت فقتله ليس من صالحه أبدًا وبما أنه يتحدث بهذه الثقة فهذا يعني شيئًا واحدًا، هو أنهم يشهدون النهاية.
تكلم ألبرت بعد أن لاحظ صمت برنالد التام وهو يحاول تجاهله لحظات ولكن رغبة ألبرت بإثارة غضبه أكثر وأكثر جعلته لا يحرم نفسه تلك المتعة بالانتظار حتى أتبع قائلًا:
«حسنًا سأبدأ من رأس المصائب وهو منفاكم الخاص كوكب كيبلر وكوكب جليزا أليس كذلك؟».
انتفض برنالد من مكانه وجسده يرتجف، كان ذكره للكوكبين كفيلًا جدًا بجعله يصاب بالجنون ففتح درج مكتبه وأخرج منه مسدسًا ليوجه فوهته نحو رأس ألبرت ويداه ما زالتا ترتجفان بينما لم يحرك الجالس على الكرسي ساكنًا واكتفى بالنظر نحو برنالد ببرود ثم قال:.
«إن قتلتني الآن فسيفضح أمركم فأنا وثقت جرائمكم بعناية إلى جانب أنني تركت من أعتمد عليه لانقلاب جاد عليكم لن تستطيعوا مواجهته». حول ألبرت نظراته نحو برنالد وهو يراقب وجهه الشاحب وملامحه المقتضبة بشدة ولكن مع هذا كان الضعف باديًا عليه تمامًا وهو يستمع لكلماته ويده التي تحمل المسدس تنخفض رويدًا رويدًا.
«ما الذي تريده بالضبط؟». قال برنالد وهو يحاول تنظيم أنفاسه بينما أنزل ذراعه التي تحمل المسدس ليعلن استسلامه.
«هكذا بإمكاننا التحدث جيدًا». قال ألبرت وهو يعيد بصره نحو وجه برنالد الذي اصطبغ باللون الأحمر من شدة الغضب بعد أن اكتست معالم الحنق ملامحه ثم أتبع «لقد عدت أنا وابن أختي بعد أن خرجنا سالمين من الحادث والآن عدت وأريد أن أسكن منزلي من جديد وأريد أن يحصل ابن أختي على بطاقة شخصية وأن يبدأ دراسته الجامعية في مدينتكم الخاصة وستوفرون له مسكنًا مناسبًا».
كاد برنالد يفقد صوابه وهو يستمع لطلبات ألبرت الجريئة خصوصًا إقحام ابن أخته ذاك داخل مدينتهم الخاصة فلن يكون عليه الصمت فقط والرضوخ بل يجب عليه أيضًا الاستماع إلى رفض بقية المسؤولين واستنكارهم وستقام عليه حروبٌ من الثرثرة واتهامات بالجنون.
«طلبك الأول مقبول أما الثاني فمستحيل فالأمر ليس بيدي أنا بل بيد جميع المسؤولين بالإضافة إلى وجود جامعات جيدة في منطقة سكنك والمناطق القريبة من مدينتنا وسأتكفل بنفسي بجميع المصاريف دون أن يضطر ابن أختك للعمل فترة طويلة بعد التخرج للتسديد».
نظر ألبرت نحوه باستنكار ثم استطرد باندفاع:.
«وبما أخطأت سيد برنالد ولكن هذه ليست طلبات بل أوامر ستنفذونها دون أي اعتراض وسيكون هذا ثمن سكوتي عن أفعالكم الشنيعة وتصريحي بكل ما أعرفه بكل بساطة وعندئذٍ يمكنكم تحمل لهيب النار التي سأشعلها كما تشاؤون». صمت قليلًا وهو يطالع تعابير وجه برنالد الغاضبة ثم أتبع حديثه بنبرة حملت الكثير من المشاعر ولم يكن ليستطيع كبح ارتجاف نبرته حال ما قفزت إلى ذاكرته ذكرى مأساوية: «هذا أقل ما تستطيعون فعله لتعويضي عن خسارة شقيقتي وزوجها وأطفالهما في حادثة مخططة من قبلك للتخلص مني».
حدق برنالد بعدم تصديق فلم يتوقع أن تكون خططهم مكشوفة لهذه الدرجة بينما كان قلب ألبرت يحترق مع هذه الذكرى فقد لام نفسه سنوات طويلة وعاش أصناف الندم وفكرة واحدة قد زرعت في رأسه حينئذٍ بأنه وحده المسؤول عما حدث لعائلة شقيقته ولكنهم هم من أقحموه في مشاكل لم يكن ليقحم نفسه بها عندما صدف أن تصرف بطريقة طبيعية وقام بتبليغهم بوجود مركبة محطمة هو لا يعرف عنها شيئًا. هم من أرادوا قتله بعد أن اتهموه ظلمًا ولكن لعبتهم تلك لم تصبه هو بل أصابت شقيقته مع زوجها عندما قرروا أن يستقلوا سيارته الخاصة والتي كانوا قد عبثوا بها ليقضوا على حياته ولكن الأمر زاد سوءًا إذ إنه الآن يشكل خطرًا كبيرًا عليهم بعد أن قرر كتابة نهايتهم بنفسه. لم يحاول برنالد الإنكار فهذا حمقٌ كبير في هذه اللحظة وهو يدرك تمامًا أن أوراقهم باتت مكشوفةً جدًا لألبرت فالتزم الصمت حتى قطعه ألبرت وهو يستمر بإلقاء اتهاماته ليستحكمهم حتى آخر رمق:.
«هل أصبح أمر نفيكم للكثير من الناس على كوكب جليزا وكيبلر أمرًا مكشوفًا حتى لجئتم للقتل مباشرةً؟».
كانت هذه الضربة القاضية لبرنالد فقد كان يفقد توازنه ووعيه من كل تلك الأمور التي كشفت والتي ستقضي عليهم حتمًا إن تم كشفها والأسوأ أن الأمر لم يعد يحل بمجرد إعطاء جرعةٍ لفقدان الذاكرة ثم النفي إلى إحدى الكوكبين أو حتى تدبير طريقة للقتل فعندئذٍ ستزداد الأمور سوءًا كما حدث الآن وسابقًا. عندئذٍ اكتفى برنالد الذي كان شاردًا يحدق بألبرت بقول:.
«سأدبر لك ما تريد على أن يكون ثمن سكوتك إلى الأبد».
المكان: كوكب جليزا.
لم يكن التواجد برفقة فيكتوريا يريح ليوناردو كثيرًا ولكن هو يعرف حتمًا أن ذلك ليس شيئًا اختياريًا بالنسبة له بل هو مجبر على هذا ومع أنه لا يدخل بأحاديثٍ معها ولا يضطر حقًا لسماع صوتها حتى، إذ إنه كان بقرب إحدى العاملات على المراكب الفضائية بينما اكتفت فيكتوريا بالمراقبة. كانت قاعةً كبيرة خارج القصر صممت خصيصًا للتجارب الخاصة بالمراكب حيث احتوت على عشرات المراكب بمختلف الأشكال مع وجود لوحاتٍ كبيرة لتصميماتٍ عدة. اكتفى ليوناردو بهز رأسه وهو يؤكد لتلك التي تقف بجانبه أمام المركبة وهي تعيد الشرح لعاشر مرةٍ ربما. كان يستوجب عليه معرفةُ كل شيءٍ يخص المراكب بلا استثناء، آلية العمل واستخدام لوحة المفاتيح، الانطلاق، كيفية التعامل مع كل عوامل فقدان الجاذبية في الفضاء باختصار كان عليه فهم كل تفصيلٍ يخص تلك الرحلة التي سينطلق بها وحده بعد أيامٍ إلى كوكب الأرض.
«حسنًا هذا يكفي لهذا اليوم وغدًا سنراجع كل المعلومات لآخر مرة، رحلة موفقة». قالت الفتاة التي كانت ترافقه في رحلة التعلم تلك منذ البداية.
استأذنت الملكة فيكتوريا بالانصراف بعد إنهائها عملها فأومأت لها موافقة وما إن رحلت حتى حولت نظرها نحو ليوناردو ثم قالت:
«سيستقبلك أحدهم حال وصولك إلى كوكب الأرض وأريدك أن تنتبه لتعليماته فلا أريد أي أخطاء وإلا أنت تعرف ما أستطيع فعله».
نظر نحوها بغيظٍ مكتوم فربما هذه المرة الألف التي تحذره بها من أي خطأ، كان ذلك يثير حنقه. كان يعلم منذ البداية أنها لن تكون أرحم من جوزيف أبدًا بل هي أسوأ فهو لا يعرف ما تخبئه وراء هدوئها هذا ولكنه على الأقل يواجه جوزيف الذي لا يزيف نواياه وإن كانت سيئة. لم يكن يرى فيكتوريا سوى أنها أفعى ماكرة ولكن رغبته في تحقيق ما يسعى إليه تجعله يتحدى كل شيء خصوصًا بعد أن زادت ثقته بما يفعله منذ أن قابل جدته وقد بات سقف أحلامه وآماله يرتفع أكثر. لا يهمه حقًا تلك التي يتعامل معها ولكن كل ما يهمه هو تحقيق ما يريد.
كانت فيكتوريا تشعر بالغيظ من صمته ونظراته المتمردة دومًا ولكن هي تعرف أن صمته هذا يعني بأنه بالكاد يكبح نفسهُ عن الدخول في شجارٍ حادٍ معها ومع أن هذا لم يكن يثير استحسانها ولكن على الأقل هو يحاول التصرف بأدب معها بطريقةٍ أو بأخرى.
«هناك رحلةٌ أخيرة ضرورية يجب عليك خوضها». قالت له وهي تعيد نظراتها الحادة نحوه.
«ما هي؟».
نهضت من مكانها دون أن تجيب ثم أشارت له كي يتبعها. تبعها بهدوء دون أن يكرر سؤاله على مسامعها مجددًا، ندم على سؤالها منذ البداية فهي لا تعيره أي انتباه وتعتقد أنه مجرد آلة تلقي عليها الأوامر ولكن هذا ليس أمرًا جديدًا عليه حقًا لأنهم استمروا بمعاملته هكذا منذ أن كان طفلًا. هذا لم يجعله يصبح عبدًا لهم ولا أن يعتاد على معاملتهم تلك بل كان يزيد من حنقه وغضبه أكثر وهو يستنكر معاملتهم تلك لكن غالبًا ما تجبره الظروف والسبب واحدٌ بلا شك وهو يستحق. مشى يتبعها في ممرٍ طويل وصل بهم إلى غرفةٍ كبيرة ذات نوافذ زجاجية. كانت تشبه المستوصف إلى أبعد الحدود، معداتٌ طبية وأسرةٌ مرتفعة وإبرٌ كثيرة. كان يوجد فتاةٌ وشاب يرتديان معطفًا أبيض، رائحة المعقمات تملأ أرجاء المكان ما جعله يصاب بالدوار لبرهة. تقدمت الفتاة نحوه ثم قالت وهي تشير إلى السرير المرتفع:.
«استلق على السرير رجاءً».
حدق بها دون أن يستجيب لطلبها أو يجيب ثم حول نظراته نحو فيكتوريا التي كانت تنتظر تنفيذه للأوامر ولكن ليس هذه المرة فهو لن يكون فأر تجارب لهم فقد تجاوزوا الحدود ولكنه لم يجب ولن يستجيب لطلبها.
لاحظت فيكتوريا بأنه يرفض الاستجابة فقالت له:
«لقد طلبت منك الاستلقاء؟ ألم تسمعها؟».
نظر نحوها بحدة ثم أردف:
«ولكنك لم تجيبي على سؤالي سيدة فيكتوريا».
زفرت بضيق ثم نظرت نحوه عاقدةً حاجبيها باستنكار:
«ولكنني لست مضطرة للإجابة أبدًا».
«بل مضطرة لأن الأمر يخصني».
نظرت نحوه بحنق شديد فلم تتوقع حقًا أن تحتك به أو أن تدخل في شجار معه فهي تدرك منذ البداية بأنها لم تختر شخصًا خاضعًا وعليها أن تدفع الضريبة فأردفت بنبرة أقل حدة:
«الأمر يخص المهمة التي سأكلفك بها».
طالعها بنظراتٍ مستنكرة ثم قال بتحدٍ:
«ولكنه يتعلق بجسدي أنا لهذا لا مكان للمهمة هنا ولن أخضع جسدي لأي شيء دون أن أعرف عنه كل شيء».
شعرت بالغضب الشديد داخلها ولكنها حاولت كبحه وهي تجيبه بهدوء:
«حسنًا هذه جرعةٌ ستساعد جسدك على التأقلم مع أجواء كوكب الأرض وإلا لن تستطيع العيش هناك ولكن حالما تدخل جسدك حتى يرتخي وتغيب عن الوعي فترة بسيطة».
استطاعت كذبة فيكتوريا أن تنطلي على ليوناردو بسهولة لأن معلوماته حول هذه الأمور منعدمة تمامًا فما كان منه إلا أن يستلقي على السرير باستسلام. شرعت الفتاتان بتحضير الأبرة وملئها بسائل يجهله ثم اقتربت منه إحداهن وقالت:
«استرخ تمامًا ولا داعي للتشنج سيكون الأمر بسيطًا وسريعًا».
كان منظر الإبرة لليوناردو يحدث في قلبه رعشة ولكنه حاول الاسترخاء كما طلبت منه وعدم النظر. لم يشعر سوى بوخزةٍ بسيطة وهي تخرج الإبرة من ذراعه وفعلًا ما هي سوى دقائق بسيطة حتى أثقلت جفونه وبدأ يغلقها دون إرادة منه حتى عجز عن فتحها مرة أخرى.
التعليقات