رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل الخامس عشر
المكان: كوكب الأرض.
جلس ليوناردو مقابل ألبرت في مقعد سيارته. استقبله ألبرت فور وصوله بالمركبة حيث كان يقف في مكان قريب وبعدئذٍ اصطحبه مشيًا حتى وصلا إلى السيارة ومع هذا لم ينطقا بشيء. أدار ألبرت محرك السيارة ثم داس على فراملها وانطلق نحو مدينته. كان ليوناردو ينظر من النافذة وهو يطالع المكان حوله محاولًا إيجاد شيء مميز عما هو عليه في كوكب كيبلر وجليزا ولكن حتى الآن لم يرَ شيئًا سوى طريقٍ ممتدٍ عبر الغابة التي حجبت أشجارها الطويلة أشعة الشمس ليصبح المكان شبه مظلم. كان الشيء الوحيد الذي جذب انتباهه حتى الآن هو ضوء الشمس الأصفر والسماء الزرقاء الصافية كان لونها يجذب نظره كثيرًا، كان المنظر مريحًا للعينين جدًا حتى شعر لحظةً أنه لن يتحمل احمرار الشمس في كوكب كيبلر بعد الآن. مرت ساعة وهم يعبرون عبر الغابة المظلمة حتى خرجوا منها وظهر أمامه البحر والأشجار. لم تكن هذه المرة الأولى التي يرى بها البحر ولكنها كانت المرة الأولى التي يراه بلونه الأزرق الطبيعي فلقد كان يبدو برتقالي اللون على كوكب كيبلر إثر انعكاس أشعة الشمس على سطح المياه وهذا ما جعله يوقن بأنه في كوكب آخر «كوكب الأرض».
رمق ألبرت ليوناردو المسترسل في مراقبة المناظر من نافذة السيارة الزجاجية، كان واضحًا له بأنه شابٌ لا يبادر بالكلام فربما إذا بقي صامتًا فلن يتكلم أبدًا. قال بينما كان يطالع طريق الاسفلت أمامه: «يبدو أن المكان يعجبك».
التفت ليوناردو ليطالع الجالس بجانبه ولم يتوقع محادثته طوال رحلتهم في السيارة ثم قال غير مكترث بنبرة هادئة: «ليس مختلفًا كثيرًا عن كوكب كيبلر أو جليزا، الشيء الوحيد الذي يختلف كثيرًا هو لون الشمس وكل ما يتأثر بها».
حول ألبرت نظره نحو ليوناردو دقائق ثم قال وابتسامةٌ بسيطة جذابة تعلو ثغره: «لم تر شيئًا بعد ستلاحظ الاختلاف لاحقًا ولكن حتى الآن إجابتك صحيحة».
هز رأسه كنوعٍ من الرد على كلامه ليس لأنه لا يرغب بالحديث ولكنه حقًا لا يجيد ذلك خاصة مع شخص غريب لا يعرفه ينتمي إلى مكان يجهله ويجهل أناسه.
«يبدو أن فيكتوريا قد غفلت عن شيء مهم باختيار الشخص المناسب لمهمتها». قال ألبرت وهو يطالع الجانب الأيمن من الطريق ويحرك المقود منعطفًا إلى اليمين.
التفت ليوناردو نحوه وهو يرمقه بشيءٍ من الاستنكار ولكنه قال دون إظهار أي رد فعلٍ عدوانية: «عن ماذا غفلت؟».
لاحظ ألبرت بأنه شخصٌ قادر على التصرف برزانةٍ إلى أبعد الحدود.
«لا أقصد إهانة شخصك أبدًا ولكن حتى تنجح بالمهمة وتستدرج الفتاة دون أن تثير الشكوك يجب أن تتعلم كيف تتعامل مع الناس وخصوصًا في المكان الذي ستقيم فيه وحتى يتحقق هذا الشيء حاول التدرب على فتح محادثات معي على الأقل».
أعاد نظره نحو الطريق بعد أن أنهى ألبرت كلامه ثم عاد ليهز رأسه دون إجابة.
«واضحٌ حقًا بأنك سمعت كلماتي أو أعرتها أي انتباه قلت لك افتح محادثاتٍ يا فتى وليس أن تهز رأسك وتشيح بنظرك بعيدًا». قال ممازحًا ثم أتبع وهو يبتسم: «ماذا أرسلت لي يا فيكتوريا؟».
ابتسم ليوناردو وهو يستمع إلى مزاح ألبرت بينما أردف ألبرت وهو يرى ابتسامته: «لأكن صريحًا لقد أحرزت تقدمًا فلم أتوقع الحصول على ابتسامة بهذه السرعة أو هذا يعني بأنني أحسن التعامل». أتبع يصك على أسنانه: «أو أنك تجاملني».
«حتى الآن وأنا أسرد الأحاديث معك لم أعرف ما اسمك». قال ألبرت.
«ليوناردو».
«ليوناردو!». قالها وهو يطيل بلفظ كل حرف ثم قال مبتسمًا: «لماذا تختارون أسماء طويلة ثقيلة؟ ظننت أنني لن أقابل غير اسم فيكتوريا ولكن بما أنها استهجنت مناداتي لها بعزيزتي فلم أضرب الضربة القاضية ولم أجرؤ على مناداتها فيكي ولكن لا تكن مثلها ودعني أناديك ليو».
ضحك ليوناردو وهو يتخيل أن يقوم أحدٌ بمناداة فيكتوريا فيكي فعندئذٍ ستخسر كل كبريائها.
«هذا لقبي في كوكب كيبلر على أي حال».
«إذًا لست وحدي من يجد اسمك طويلًا». قال مبتسمًا ثم أردف «بالمناسبة اسمي ألبرت، اسمٌ قصير لا يحتاج لاختصارات».
«هذا جيد ربما من سماك توقع عقدتك المستقبلية». قال ليوناردو بعد أن ارتاح لمحادثة ألبرت.
«تمامًا». أجابه ألبرت مبتسمًا.
جاءها صوت طرقات عدة على باب غرفتها بينما كانت تجلس أمام حاسبها على المكتب. عبرت عن رغبتها بعدم استقبال أحدٍ في غرفتها وقد باتت مكانها الوحيد لأسبوع كامل حيث رفضت الذهاب إلى الجامعة. كانت بحاجة لجمع شتات نفسها بعد أن بعثرت تمامًا ومرت بحالة اكتئاب أيامًا؛ حيث أمضت وقتها بالبكاء والتحسر على ما حصل في ذلك اليوم المشؤوم ولكن ربما من يراها قبل يومين لن يصدق أنها هي نفسها الفتاة التي كانت تنتحب بطريقة مبالغة فهي قد اجتازت تلك المرحلة وأقنعت نفسها بأن ما حصل لم يكن بإرادتها ولا بسبب منها، الأمر فقط مجهولٌ بالنسبة لها ولا تحتاج لمعرفته أبدًا. عاد الباب ليطرق مجددًا ثم جاءها صوتٌ يقول:.
«فيوليت افتحي الباب».
أدارت كرسيها المتحرك قليلًا ونظرت نحو الباب لتزفر بضجر ثم أشاحت بنظرها وهي تعود إلى وضعيتها وتقول:
«لا أرغب باستقبال أحد».
«فيوليت افتحي وإلا حطمت الباب لا مجال للرفض». قال الطارق وهو يستمر بالطرق على الباب دون توقف. نهضت فيوليت من مكانها وهي تتمتم بعبارات غاضبة ثم توجهت نحو الباب لتفتح قفله على مضد ولكنها لم تنتظر لتستقبل الزائر حتى حيث سارعت بالعودة إلى مكانها.
«أما زلت بملابس النوم؟ يا لك من كسولة وتسردين على المواعظ في كل مرة متخذةً دور الشقيقة الكبرى». قال فور لمحه لها وعلى وجهه تعابيرٌ ساخرة أقرب إلى المازحة ولكنها تجاهلت محاولته باستدراجها للحديث فعادت كأنها لم تدخل أحدًا إلى غرفتها.
تقدم بخطوات بطيئة نحوها ثم قال وهو يقف إلى جانبها:
«نعم صحيح أنت تكبرينني بأكثر من سنة تقريبًا ولكن هذا لا يعني أن تستقبلي شقيقك المسكين بهذه الطريقة».
لم يلق أي تجاوب منها وهي تتجاهله منشغلةً بالحاسب أمامها ولكن عندما ساد الصمت فترة طويلة وهو يحدق بها ينتظر ردًا أردفت باستياءٍ واضح وعلامات القهر باديةٌ على وجهها:
«هل ستستمر بالتحديق بي دون فائدة؟ بينما تنتظر حصول أي شيء حتى تصدر تقريرًا بعنوان (ماذا تفعل فيوليت؟ ) لتقدمه لوالدنا العزيز أو أن تنقل مدى انكساري وحزني».
نظر نحوها باستنكار وهي تسرد قائمة ظنونها الباطلة نحوه، كانت عيناها تعكس مدى استهجانها وغضبها أو ربما إذا أمعن النظر نحوهما أكثر فسيرى انكسارها الشديد وحزنها حتى وجهها كان باهت اللون وقد بدى الإرهاق واضحًا على ملامحها الجذابة.
«في الحقيقة أنا من سيستاء الآن، ما الذي يجعلك تقولين هذه التراهات؟ أنت تدركين تمامًا طبيعة علاقتنا والتي تنص على الثقة والمصداقية التامة».
«في الحقيقة لم أعد أدرك أي شيء». قالت بهدوء ثم وقفت متجهةً نحو سريرها المجاور للمكتب لتجلس عليه وما كان منه إلا أن تبعها وجلس بجوارها.
«أتفهم شعورك ولكن يجب أن تثقي بي دومًا». قال وهو يضع يده فوق يدها.
«المشكلة أن أصابع الاتهام كلها تشير نحوك فمن عساه يعرف ما دار بيننا من حديث بالجامعة ويخبر أبي به غيرك دانيل». قالت وهي تسحب يدها عاقدةً حاجبيها باستياء.
«لن أبرر لك يا فيوليت ولكن سأكتفي بقول أنني لم أفعل أبدًا ولم يحدث أيُّ شيء يجعلني أتحدث به أمام والدنا». قال ثم ساد الصمت وهو يحدق بتعابير وجهها التي لم تتغير مع جملته الأخيرة فأردف وهو ينهض ويهم بالرحيل: «آسف فيوليت ولكن لا أحتمل أن أكون متهمًا في نظرك أكثر من هذا».
«لا ترحل دانيل». قالت من فورها قبل أن يخرج من الغرفة فاستدار ينظر إليها وأردفت: «أحتاج للحديث مع أحد وأنت أفضل من يستمع إليه».
ارتخت تعابير وجهه المنزعجة وعاد مستسلمًا لكلماتها البسيطة تلك فهو يتفهم مشاعرها وتسليط غضبها عليه واتهامه فالأمر مريبٌ حقًا.
«أصبح الأمر لا يحتمل دانيل هناك أشياءُ كثيرة أجهلها ولا أفهمها أبدًا مهما حاولت». قالت بينما كانت تعبث بخصلات شعرها المتموجة نتيجة عدم تسريحها له أيامًا.
«الأمر اعتيادي فيوليت ولكن والدي يبالغ في رغبته بجعلك واعية وراشدة تمامًا كونك أكبر أبنائه» قال محاولًا تبديد شكوكها تلك ولكنها قالت مستنكرةً كلامه:
«هذه حجةٌ واهمة اضطررت لخداع نفسي بها سنوات، ألا ترى بأن هناك الكثير من الأمور غير المفهومة؟».
«ماذا تقصدين؟». قال وهو ينظر نحوها بفضول وارتياب.
«أنت تدرك تمامًا طبيعة علاقة والدتك بوالدنا، صحيح؟». قالت بتردد فهي لا تحب أن تذكره بعلاقة والدته بوالده والتي لم تكن ناجحة إلى أبعد الحدود.
«نعم، أسوأ علاقة في التاريخ». قال مبتسمًا فلم يكن الأمر يشكل قضيةً بالنسبة له هو تفهم نوع العلاقة بين والديه واعتاد عليها ولم يكن الأمر حساسًا له.
«لا أقصد أنها الأسوأ ولكنها علاقةٌ سطحية جدًا مقارنةً بعلاقة أمي بوالدنا أعني أن علاقة والدتك بوالدنا علاقةٌ هادئة تنص على مصلحة متبادلة».
«نعم وهذا ما يجعلني أتقبل نوع علاقتهما حيث أن كلا الطرفين راضٍ».
«تمامًا ولكن ألم تفكر يومًا بالسبب الذي جعل والدي يتزوج بوالدتك؟». قالت وهي تحدق به منتظرةً أي رد فعل متفاجئة ولكنه رفع كلا كتفيه بلامبالاة وقال:
«وما أدراني، ربما حتى تحصلي على شقيقٍ مميزٍ مثلي».
ابتسمت فيوليت وهي تستمع إلى مزاجه المعتاد ثم قالت معاتبة:
«أنا جادة دانيل، لماذا يتزوج والدتك طالما يحب والدتي وقد استطاعا إنجابي؟ ما المشكلة التي تجعله يلجأ للزواج بواحدة أخرى؟».
«على رسلك فيوليت هذه تحليلات بلا أي دلائل ربما كان هناك شيءٌ لا تعرفينه أنت».
«وهذا ما أقصده وبوضوح أكبر أنا أعتقد بأنني ابنة ساندرا ولست ابنة ألفريد».
حدق دانيل بها بصدمة وهو يطالع تعابير وجهها الجادة تمامًا ثم قال باستنكار:
«أنت مجنونة فيوليت ما الذي تقولينه؟ أقسم بأنني أوشك على الضحك بهستيرية».
«مضحكٌ بالنسبة لك وليس لي، هل تظن بأنني أقنعت نفسي بهذا الشيء بسهولة؟ أبدًا لقد كان صراعًا حادًا بيني وبين نفسي ولكنني لا أجد سوى تلك الحقيقة». قالت بحنق شديد وهي تستنكر عدم تعامله بجدية مع كلامها.
«فيوليت أنت تتصرفين كفتاةٍ صغيرةٍ تشاجرت مع عائلتها ثم أقنعت نفسها بطريقة أو بأخرى بأنها لقيطة ثم عادت لتقول بطريقة درامية مبالغ فيها أنتم لستم عائلتي». قال باندفاع بعدما أغضبه حديثها ذاك وتسرعها بالحكم.
أشاحت بنظرها بعيدًا عنه ثم قالت بغضبٍ شديد:
«لا تعاملني كطفلةٍ صغيرة وطائشة دانيل، أنت لا تتعامل مع الأمر بجدية».
اتسعت عيناه وهو يحدق بها بعينيه الزرقاوين ثم قال بتحدٍ:
«بل أنت من يتعامل مع الأمر بطيش مطلق، ما الذي يجعلك تقولين هذا الكلام؟ إنه كلامٌ كارثي وليس شيئًا ينطق بتلك البساطة».
«سأتجاهل إهاناتك المتتالية وأجيب على سؤالك الأخير». قالت بصوتٍ مهشم ثم أردفت بحنق: «ما الذي يجعلني أقول هذا الكلام؟ سؤالٌ وجيهٌ جدًا والإجابة لأن والدك للأسف الشديد طبيعته لم تخدمه بالتعامل معي فكراهيته واضحة كوضوح الشمس ولا يستطيع كبح غيظه أبدًا، ذلك الغيظ الخارج من أنفاسه والذي يلفحني حد الاحتراق والشيء الأوضح هو النظرات التي يتبادلها مع والدتي والتي تقول شيئًا واحدًا (الفريد انتبه لنظراتك وأسلوبك)».
استمر دانيل بالتحديق نحوها دون أن ينطق بشيء ربما منطقية كلماتها وتحليلاتها كانت كافية لإسكاته ولكنه أردف وهو يشيح بنظره عنها:
«لقد قلت بنفسك هذا طبعه وهو يتعامل معنا جميعًا بالطبع نفسه ربما لو كنت تعيشين معنا لما كان الأمر بهذا السوء لأنك كنت ستعرفين كيف يتعامل معنا جميعًا بهذا الأسلوب».
«كنت لأصدق كلامك حقًا لو كنت بلا مشاعر ولا أستشعر الفرق بين معاملته معي أنا كفتاة ومعاملته مع جوليا».
عاد لينظر إليها ثم قال مواسيًا:
«صدقيني فيوليت والدنا يحبك كثيرًا وستدركين ذلك لاحقًا».
حاولت أن تقنع نفسها بكلامه ذاك حتى تتخلص من ذلك الشعور الذي يجعلها تختنق بشدة.
استقرت سيارة ألبرت أمام منزلٍ صغير. كان المكان عبارة عن مجمع من المنازل الصغيرة والتي امتلكت حديقةٍ أمامية صغيرة. كانت المنازل جميعها تتشابه في الشكل والمساحة، التصميم نفسه تمامًا ما عدا اختلاف الألوان. ترجل ألبرت من السيارة وتقدم وهو يخرج مفاتيحه من جيب بنطاله الأسود بينما تبعه ليوناردو وهو يصعد الدرجات القليلة. تقدم ألبرت نحو الباب الذي يقبع على الجانب الأيمن وأدخل المفتاح وفتحه. ظهر أمامه مساحةٌ فارغة حيث خلع ألبرت حذاءه عند عتبة الباب ثم فعل ليوناردو مثله. اتجه ألبرت يسارًا حيث الباب المؤدي إلى بقية المنزل. راقب ليوناردو المكان بدهشة وضياع فقد كان يختلف تمامًا عن مكان إقامته في كوكب كيبلر، في الحقيقة هو لم يعش في بيتٍ حتى فقد كان يقيم في مكان التدريبات الخاص. لاحظ ألبرت تجمده المفاجئ فبادر بتعريفه على منزله فقال وهو يشير إلى يمين الممر الضيق والقصير:.
«هذا المطبخ حيث أعد طعامي».
طالع ليوناردو حيث يشير ألبرت لقد كان هناك خزائن خشبية في الأسفل ثم فوقها طبقة من حجر الرخام وفي المنتصف يقبع حوضٌ ومغسلة وأمامه نافذة مستطيلة صغيرة وفوقها يوجد خزائن خشبية كالتي بالأسفل.
تقدم ألبرت خطواتٍ قليلة حتى وصل إلى مكانٍ أوسع، كان يبدو كغرفة الجلوس يحتوي على أريكة واحدة باللون الكحلي وعلى الجانب الأيمن يوجد طاولة خشبية يحيطها ستة كراسٍ خشبية ولكن رغم بساطتها وقلة الأثاث الذي لا يكفي المساحة كانت أشعة الشمس التي تخترق زجاج الباب والواجهة الزجاجية الأمامية يعطي شعورًا مريحًا جدًا.
«هذه غرفة المعيشة» قال ألبرت وهو يشير إلى المكان ثم أتبع: «هناك غرفتا نوم صغيرتان أيضًا».
«يعجبني منزلك». قال ليوناردو ليخرج عن صمته هذه المرة دون أن يطلب منه ألبرت.
ابتسم ألبرت لإطرائه ثم قال وهو يجلس على الأريكة:
«منزلي بسيطٌ جدًا للأمانة أنا لا أهتم للأثاث ولا للتفاصيل ذلك بالإضافة إلى أنني عدت لتوي منذ أسبوع لقد أصبح كل شيءٍ قديمًا».
«على الأقل تملك منزلًا مستقلًا». قال ليوناردو وهو ينظر عبر النافذة الزجاجية.
طالعه ألبرت بصمتٍ ثم قال باستياء:
«تعرف أنني لتوي أدرك بأننا جميعًا نعاني من الداء نفسه والمشكلة حقًا أننا ننظر إلى بعضنا كأننا نرى الدواء».
شعر ليوناردو أن جملته ربما أحدثت شعورًا سيئا لدى ألبرت فأردف قائلًا:
«لم أقصد شيئًا من كلامي».
هز ألبرت رأسه بالرفض ثم قال مصححًا وجهة نظره:.
«لم أقصد ما فهمت، كنت أقصد بكلامي كوكب الأرض وكوكب جليزا وبما أن كوكب كيبلر يعتبر مستقلًا برغبات حاكمه بعدم العودة إلى كوكب الأرض أو التفكير في ذلك ولكن سكان كوكب جليزا يعتقدون بأن المجيء إلى هنا هو النجاة والسعادة بينما نحن سكان الأرض نعيش في الجحيم. ليس الفكرة أن يعودوا إلى موطنهم الأصلية القضية الحقيقية هي التخلص من الاضطهاد، من التفرقة والعنصرية التي تغذي أرواحنا».
لم يكن كلام ألبرت سهل الفهم لليوناردو فهو لا يعرف عن أي رغبات ولم يقحم نفسه في مرة في الخوض بتلك الأحاديث لقد كان يكرس حياته لشيء واحد فقط والذي جعله يقحم نفسه هنا.
ابتسم ألبرت بعد أن لاحظ صمت ليوناردو والذي بدى له كإجابة واحدة منه على أنه لا يعرف أي شيء ثم قال:
«يبدو أن حالكم حال سكان الأرض».
مرة أخرى اختار ليوناردو الصمت لأن كلمات ألبرت كانت أكبر من استيعابه للأمور الحاصلة.
اقترب ليوناردو من النافذة وطالع البيوت التي تقبع حول هذا المنزل، كان المكان يشبه الصحراء هدوءٌ تام بلا أصوات. نظر نحو المنزل المقابل وشاهد شخصين يجلسان على الأريكة ويطالعان شاشةً تعرض صورًا متحركة لقد رأى شيئًا مشابهًا في الآونة الأخيرة عندما كان في كوكب جليزا.
«في كوكب كيبلر يعج المكان بالضجة والحركة». قال بينما بقيت عيناه معلقتان على المنزل المجاور.
«ماذا تنتظر من شعبٍ حكومته تدس نسبة من المهدئات في الماء والأطعمة الغذائية المتناولة؟».
اتسعت عينا ليوناردو وهو يستمع إلى كلمات ألبرت الساخرة فنظر نحوه نظرات صدمة ثم قال:
«ماذا تعني؟».
ابتسم ألبرت وهو يحني ظهره مسندًا ذراعيه على ركبتيه ثم قال بينما ينظر إلى ليوناردو:
«أعني ما أعنيه شعب كوكب الأرض يعيش في سكينة تامة وعقلهم لا يتسع سوى لأداء أعمالهم وواجباتهم. إنهم ببساطة كالآلات».
كان ذلك مروعًا بالنسبة لليوناردو، هذا جرمٌ حقيقي! يخدرون عقولهم حتى لا يستطيعوا التذمر أو الكلام ربما لو كانت تلك المهدئات متاحةً في كوكب كيبلر لما تردد جوزيف عن فعل ما يفعلوه هنا ولكن فكر لحظةً بأن جوزيف لن يحتاج لتلك العقارات فهو يفرض سيطرته على أي حال.
«وبما لو كانت رد فعل كل من في كوكب جليزا كرد فعلك لما عادوا ينظرون لكوكب الأرض على أنه جنة ولكانوا أحرقوا فيكتوريا على كل ما بنته في مخيلتهم».
«ولكن ماذا عنك؟ أعني لماذا لا تتأثر؟».
نظر نحوه بعينين حزينتين ثم قال وهو يستعيد شيئًا من الماضي عندما كان بعمر ليوناردو تقريبًا:
«ومن قال لك أنني لم أتأثر؟ كانت تؤثر بي قبل أن، ».
طالع في نقطة وهمية ثم أعاد نظراته نحو ليونادو وأردف بعد أن حاول كبح ذلك الشعور المؤلم الذي سيطر عليه: «حدث أول مرة عندما تم اعتقالي في سجونهم في أنفاقٍ منعزلة، كان مكانًا مخصصًا لتلك الأمور تعذيب، تحقيق، ضربٌ، إهانة، كان عليهم أن يقطعوا الأغذية والشراب عني إلا بكميات محدودة تبقيني على قيد الحياة وتقلل من حدة تصرفاتي وتعاملي معهم ولكن تأثير مهدئاتهم يعمل بدرجات متفاوتة على كل شخص فكانت تلك الكمية التي أتناولها لا تؤثر بشيء. لم ألاحظ حينئذٍ التغيير الذي طرأ على وجعل مني مندفعًا حتى أثرت الضجة والمشاكل مع أحد أكبر الوزراء وحتى يضمنوا سكوتي عن أسرارهم فترة قصيرة ريثما يرتبون لقتلي كان يجب أن أكون بكامل وعيي ولم يكن هذا لصالحهم كثيرًا ولكن بعد أن خرجت من المعتقل عدت لحياتي الطبيعية ولم أبالي بما حدث، كنت أنوي أن أعيد حياتي كالسابق وألا أكترث لما حدث فقد كنت تحت تأثير مهدئاتهم ولكنهم أغبى مما تصورت لقد أشعلوا داخلي ما لم يجدر به أن يشتعل».
بقيت عينا ليوناردو معلقتان على وجه ألبرت لم يكن يستوعب كثيرًا ما يقوله ولكن ربما هو الآن يفهم أكثر عبارته السابقة فكلهم يعانون من اضطهاد الحكومات والسلطات ولكن هنا يعتمدون مبدأ خبيثًا جدًا وهو إغماض أعين كل السكان عما يحصل، كل شيءٍ يحدث في الخفاء دون أن يعلموا عنه بينما ما يحصل في كوكب كيبلر كله مكشوفٌ تمامًا.
«إذًا كيف استطعت اكتشاف هذا الشيء؟».
صمت ألبرت قليلًا ثم قام بإخراج علبة سجائر من جيب بنطاله ووضع واحدةً بين شفتيه وأشعلها ليردف بشيء من الاختناق:
«لقد تم ترتيب حادثٍ يودي بحياتي، سيارة مفخخة فقط ما احتاجوه ولكن تلك السيارةُ لم تكن ملكي وحدي». نفث دخان السيجارة من فمه ثم أتبع: «كانت السيارة شراكةً بيني وبين عائلة شقيقتي وفي ذلك اليوم هم من ركبوا السيارة وهم من».
صمت دون أن يكمل عبارته ولكن كان ذلك كافيًا جدًا ليفهمه ليوناردو، كان يفهم جيدًا أن الأمر صعبٌ جدًا بالنسبة لألبرت أصعب مما يستطيع أن يتخيل حتى. كان يعرف أن السيجارة التي في فمه ليست إلا أداةً للتنفيس عما يشعر به من ضيقٍ قاتل.
نهض ألبرت من مكانه واتجه نحو خزائن المطبخ الخشبية وأخرج صحنًا زجاجيًا ووضع به ما تفتت من السيجارة ثم عاد ليجلس في مكانه ربما كانت هذه فرصة له حتى يبعد وجهه عن أنظار ليوناردو أو عساه يستعيد بعضًا من رباطة جأشه. ضغط على ما تبقى من السيجارة في الصحن ثم أخرج واحدة أخرى وأشعلها ليضعها بين شفتيه ويكمل محاولًا كبح بحة صوته:.
«بعد وفاة شقيقتي مع زوجها وطفلهما اختفيت أنا عن الأنظار مستغلًا عدم وجود أي جثث كاملة وواضحة لم يبق سوى أشلاء مبعثرة. دخلت في حالة نفسية صعبة لم أكن آكلُ إلا قليلًا وحتى ما كنت أكله أو أشربه كانت أطعمة من الطبيعة كالفاكهة والخضراوات لأنني ابتعدت حيث كوخ الصيد الخاص بي وبزوج شقيقتي في مكان شبه منفي». شعر بالاختناق يقبض أنفاسه وهو ينفث دخان السيجارة، لم يعرف عندئذٍ، هل تخدر؟ أم تلاشت قوته بالتحكم في مشاعره ودموعه التي تجمعت في عينيه دون أن يشعر؟ لم يكن يومًا من نوع الأشخاص الذين يحبسون مشاعرهم، كان لا يجد القدرة حتى وهو شاب بالغ على التحكم بدموعه ولكن هو لم يبك منذ فترةٍ طويلة جدًا. عندما علم بوفاة أخته وشاهد ما حصل تحجرت الدموع في مقلتيه أيامًا عديدة ولكنه انفجر مرةً واحد بالبكاء بطريقة مبالغة ومنذ ذلك الحين لم يبك إلا مرات قليلة.
«كنت أرغب بالانتحار لم يكن لدي أي دافع لأعيش لقد». صمت قليلًا وهو يحاول بلع الغصة التي كادت تخنقه ثم زفر بعمق وأتبع: «لقد قتلوا كل شيءٍ داخلي، لم يكن تدميرهم لمشاعرنا وحياتنا كافيًا أبدًا. أرادوا أن يقتلوني ولكنهم فعلوا بي ما هو أسوأ بكثير لقد تركوني أحيا جسدًا بلا روح ولكن عندما كنت في أوج معاناتي وآلامي شيءٌ اشتعل شيء داخلي وولد في ظل ما كان يحتضر داخلي. لقد ولد الانتقام والحقد مشاعرٌ سوداء لم أتصور أن أحملها ولكنني حملتها وانتهى الأمر وأنا في طريقي للقضاء عليهم للأبد».
شعر ليوناردو بالانكسار وهو يشاهد انكسار ألبرت وحزنه ما يوضح تمامًا بأنه يعاني كثيرًا بكل ما تعنيه الكلمة. كان واضحًا بأنه شخصٌ حولته المآسي إلى شخصٍ لا يرغب بأن يكونه أبدًا.
«سيندمون كثيرًا وهم يرون تحطم كل شيءٍ حولهم على يدي أنا وبسببي سيدفعون الثمن أغلى مما توقعوا وعندئذٍ سأقتلهم جميعًا بنفسي وسأحمل لقب السفاح كوسام على صدري لأنني كتبت نهايتهم». قال ألبرت وهو يصك على أسنانه بغضب وغيظ شديدين.
كان واضحًا لليوناردو بأنه سيفعل إن سمحت له الفرصة دون تردد ولكنه أردف محاولًا أن يبعد تلك المشاعر السوداوية عن ألبرت لحظات:
«لقد أخفتني».
ابتسم ألبرت وهو يشعل السيجارة الثالثة على التوالي ثم قال بجدية:
«لست من النوع الذي يعمم انتقامه كفيكتوريا، هم خلقوا ذلك الوحش داخلي وهم فقط سيتحملون العواقب الوخيمة».
«لم أكن أقصد التطفل على خصوصياتك وفتح جراحك ولكن أنت أيضًا ستتحمل عواقب حثي على الكلام». قال محاولًا تلطيف الجو فقد شعر بالذنب لأنه أجبر ألبرت على الحديث بما لا تطيقه نفسه.
عادت الابتسامة لتزين ملامح وجهه الجذاب ولكن احمرار عينيه لم يجعل ابتسامته تبدو مرحةً بالقدر الكافي. نفث ما تبقى من السيجارة ثم قال:.
«وبما كان البوح بمشاعري مفيدًا فقد شعرت ببعض الراحة كوني لم أبح بشيءٍ منذ الحادثة حفاظًا على سرية الأمر ولكن الآن فأنا لا أهتم لقد قضيت عليهم وهم لا يعلمون. حاليًا أمارس بعض الألعاب معهم وأحرق أعصابهم وحتى لو قتلوني سيكون هذا مبهجًا بالنسبة لي سيخلصوني من عذابي ومن عقدة الزمن والانتقام».
فكر ليوناردو بأن ما يعانيه ألبرت هي مرحلة متأخرة من اليأس عندما يعتبر الموت مبهجًا وخلاصًا من كل شيء، هذا يعني بأنه لا يملك أي شيءٍ ليعيش من أجله.
«يجب عليك في الفترة القصيرة القادمة أن تتعلم كل الأساسيات عن هذا المكان حتى تستطيع التوغل في ضجيج عالمهم، يجب أن تنجح في مهمتك فهي قضية أكبر حجمًا مما تتصور».
التعليقات