التخطي إلى المحتوى

رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الحادي والسبعون

لا أريد مزيدًا من الملائكية، لقد سأمت منها، ونعم أنا ملاك حتى ولو أقسم كل من على الأرض بأنني الشيطان الأوحد، دعهم لمثاليتهم وأعطني خنجرًا، أعتقد بأنني سأقدم لهم أهم معروف في حياتهم، سأخلصهم من أرواحهم هذه حتى تنتهي معاناتهم مع شيطنة من هم مثلي، ولولا رقة قلبي، وعذوبة مشاعري لما فعلت هذا أبدا، ولا تسألني ماذا عنها هي؟

بالتأكيد لن يشملها لطفي هذا، ستبقى هي، لن يمسها خنجري، ورقة قلبي، ودهاء عقلي، وأنا كلي أمامها هي نتبخر، تحت سحر عينيها نصبح لا شيء، فقط تبقى هي.

إن أبغض ما قد يمر به إنسان في هذه الحياة هو أن تُسرق أنفاسه، ولكنه يشعر الآن وكأنها عادت له من جديد، أحس عيسى بذلك وهو يرى صديقه الممدد على فراشه في منزله، لا يصدق أنه غادر المشفى، لا يصدق أنه بالفعل كُتِبت له النجاة من هذه الحادثة، بعد أن كانت الليلة التي لمحه فيها غارقًا في الدماء تؤرقه كل لحظة، جلس على المقعد المجاور للفراش، وقد أتى والده برفقته هذه المرة، ونطق وهو يربت على كتف بشير: الدكتور قال إنك بقيت عال، بس معلش هتستحمل الراحة وحبسة البيت شوية، والحمد لله إنها جت على قد كده يا بني.

تنهد بشير قبل أن يهز رأسه مستجيبًا لما قيل، ثم طالع صديقه طالبًا: عايز أروح لعلا.

بان الضجر على وجه عيسى الذي همس بتأفف: مش هنخلص بقى.

حاول الثبات وألا ينشب أي جدال بينهما وهو يرد على طلبه بقول: بشير أنت لسه تعبان، ومتقلقش أنا بروح كل يوم المستشفى اطمن عليها، ياريت تفكر في نفسك شوية لو ممكن يعني.

ورد عليه بضجر: عيسى دي مراتي.

وبالطريقة ذاتها علق صديقه مستنكرًا: وأنا كنت قولت إنها خطيبتك، كل اللي قولته تهدى، مرواحك ليها مش هيعمل حاجة، أنا كل يوم هناك وصدقني لو فيه جديد هبلغك.

طالع بشير والد صديقه متذمرًا مما يحدث، فأشار نصران لابنه بالخروج طالبًا: روح يا عيسى هات الغدا لبشير.

مش عايز.

هكذا رد وقد فقد رغبته في كل شيء مما جعل نصران يطالعه بانزعاج هاتفًا: أنا قولت كلمة، وكلمتي مبتتراجعش يا بشير.

كان عيسى مازال واقفًا مما جعل والده يعنفه هو الآخر: وأنت لسه واقف عندك ليه؟

ضحك عيسى قبل أن يشير لصديقه هاتفًا: شوفت عملت إيه، طلعتلنا النسخة الأسوء من الحاج نصران، عموما أنا هروح أجيبلك الأكل، إياك تطمر بس الخدمة الخمس نجوم دي.

ورغم عنه ابتسم على مشاغبة صديقه، والذي ما إن خرج، حتى سأله نصران بلين: احكيلي اللي حصل ليلتها، أنا عايز اسمع منك.

تنفس بشير بعمق، من جديد أخذته ذاكرته إلى تلك النقطة، تذكر كم كانت خائفة حين وصل لها، في البداية هاتفته، طالبته أن يأتي لها إلى حيث أرسلت له، والدتها مريضة وبشدة وهي لا تعلم ماذا تفعل، علم منها أن أمها هاتفتها وطلبت منها الحضور، والآن هي تراها وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة وهي جوارها عاجزة عن فعل أي شيء، كان يسابق الزمن حتى يصل إلى الموقع الذي أرسلته له، وصل وما إن دق الباب حتى وجد أحدهم يسحبه نحو الداخل، والدتها بخير، ولكنها هي ليست بخير، مكبلة لا تستطيع حتى النظر إليه، تبكي بمرارة، وهي تسمع صوت محسن يقول: أهلا بالعريس.

كان ثابتًا، طالع المكان من حوله، والثلاثة الذين يرافقون محسن وقدا بدا الإجرام على أوجههم، وأخيرًا نطق: كنت عايز اسألك خير، بس أنا مش شايف أي خير بصراحة.

ابتسم محسن وهو يقترب منه ويعطيه الجواب: ما هو مش خير فعلا

كانت نظراته عليهما وتابع وهو يشير ناحية علا: أخوها سأل مرة قبل كده ليه مرات صاحبك عرفت تختاره وتختار أخوه، ومقبلتش بيه هو؟

وأنا بقى جايبها هنا علشان أعرف، أصله طلع فعلا سؤال يستحق، حاربتي بإيدك وسنانك ليه يا علا علشان متجوزينيش

وطالع بشير باستهزاء وأكمل: وفي الاخر اتجوزتي عادي اهو.

نبهه بشير بقول: خليك معايا أنا راجل لراجل، وملكش دعوة بيها، وبعدين يا سيدي اعتبر اخوها مجنون، هتبقى مجنون زيه؟

اه ما هو اللي علمني، وهي كملت الدرس، أنا كنت مستعد أعمل أي حاجة علشانها، بس هي ×××× ولا تستاهل.

لم يتحمل بشير سماعه ينعتها بهذا الوصف، لكمه ونتيجة لذلك اجتمع حوله الثلاثة المرافقين له يقيدوا حركته، ولم يتألم محسن، لذة هذا المشهد تغلبت على أي ألم، اقترب من هذه التي تبكي بقهر، وهي تطالع بشير، ثم استدارت إلى محسن وهي تطالبه بخوف: أبوس إيدك يا محسن ما تعمله حاجة.

علا.

قالها بشير بغضب، ولم تتراجع هي تمكن قهرها منها، تخشى عليه وبشدة، لولا أن هذا الحقير هددها بأنه سيقضي على والدتها لما نفذت رغبته وهاتفت بشير أبدا، والدتها التي حاولت من جديد مع الواقف أمامها وقد فقد كل ذرة تعقل لديه: يا بني العشرة مبتهونش إلا على ولاد الحرام، بحق العيش والملح اللي كلته في بيتنا سيبنا.

وقف محسن في الوسط بين بشير وزوجته قبل أن يطالبه مشيرًا له بعينيه عليها: طلقها.

وهدده بلا خوف: يا تطلقها، يإما هتشوف روحك وهي بتطلع دلوقتي، هتطلقها هسيبك تمشي، وهضمنلك إن هي وأمها مش هيحصلهم حاجة.

طالعها بشير، البكاء فتك بعينيها، كانت تهز له رأسها بأن يوافق، أن يفعلها وينجو بنفسه، وبلوعة نادته: طلقني يا بشير، طلقني وامشي، أنت تستاهل أحسن واحدة في الدنيا، علشان خاطري اسمع الكلام.

يحاول بكل قوته التملص من أولئك الذين يشلون حركته، ولكنه لا يستطيع، ورغم ذلك نطق غير آبها بأي تهديد: لما ابقى ×××× زيك ساعتها ممكن أقبل اطلقها.

وأمام هذا القول اقترب محسن منها وعلى حين غرة غرز نصل سلاحه الأبيض في معدتها، كان يطالعها ببغض شديد قبل أن يشير لمن معه بالتعامل مع هذا الذي مجرد ما رأى المشهد صرخ باسمها، مشهد زوجته ووالدته راكعة جوارها لا تصدق ما حدث، لا تصدق أنها ترى دماء ابنتها، كان اخر ما شاهده.

لم تسعفه الكلمات حتى ينطق بالمزيد، سرد على والد صديقه قدر ما استطاع، نصران الذي منذ لحظة علمه بما حدث له وكل شيء يؤرقه، مجرد تخيل أن فخ مثل هذا ربما يتم نصبه لابنه وزوجته يفتك به، عاد عيسى ووضع الحامل المعدني على الطاولة، وهو يقول: مالكم سكتوا كده ليه؟ ولا هو إذا حضرت الشياطين!

ولم يكد ينهي جملته حتى سمع صوت الباب، توجه ليفتحه فوجده باسم، بدا التأفف على وجه عيسى وهو يسمع قوله: مفيش اتفضل ولا إيه، أنا حتى جاي اعمل واجب.

فعلق الواقف أمامه متهكمًا: لا في حاجة اسمها بتصل استأذن قبل ما ازور حد، تعرفها دي؟

ضحك باسم ولم يعلق فأفسح له الطريق للدخول، ورافقه حتى غرفة صديقه، رأى باسم والد عيسى أولا، ثم بشير فألقى السلام وتابع: سلامتك يا بشير.

الله يسلمك.

أتى رده مختصرًا، وهو يتابع باسم الذي جلس على أحد المقاعد وانتبه لسؤال نصران: تشرب إيه يا بني؟

ولم يرد هو ذلك فرفض بأدب: لا ملوش لزوم، أنا ماشي علطول.

ورد عيسى بابتسامة صفراء: مفيش حد يعمله حاجة أصلا.

وأمام هذا الرد طلب باسم بالأسلوب نفسه: يبقى شاي.

ولا شاي، ولا قهوة يا بابا، يا بخت من زار وخفف.

علق نصران بعد رد ابنه، وقد سأم من مناوشاتهم هذه: والله العيال الصغيرة تستحي من عمايلكم دي.

توقف الاثنان احترامًا له، وبعد صمت لم يطل سأل باسم: إيه اللي حصل، دي حادثة ولا…

قاطعه نصران منهيًا الحديث في هذا الحوار قبل أن يبدأ: نصيب.

حاولوا يا جماعة تداروا إنكم مش مرحبين بيا شوية عن كده.

حين قال هذا لمح ضحكة عيسى، ثم نصران الذي هتف: مين قال كده، ده أنت منورنا.

غمز عيسى لبشير، وسريعا ما عاد ينتبه لباسم حين وجده يقول: كانت قسمت قالت.

لم يكمل بسبب عيسى التي تبدل مزاجه كليًا وقاطعه عند ذكر اسمها: ياريت تبلغها إني مش عايز أسمع عنها حاجة تاني، وإن أي شغل كنت معاها فيه تعتبرني براه.

وحاول باسم التبرير لها معللا فعلتها: عيسى قسمت كانت جيالك عادي، مراتك اللي استفزتها هي حكتلي اللي حصل.

ولم يهتم عيسى بما قيل بل كرر رغبته ناطقًا: هو أنت مش روحت من فترة لبشير وقولتله يبلغني أقطع علاقتي بيها، بلغها أنت بقى متحاولش تتكلم معايا تاني ولا مع ملك علشان لو ملك استفزتها أنا بقى ه.

وقبل أن يكمل قاطعه والده طالبا منه التريث: خلاص يا عيسى، فضيناها، وأنت يا بني طالما قريبتك ويخصك أمرها يبقى منك ليها بعيد عننا.

ولم يعلم باسم ماذا يقول ولكنه في النهاية هتف: أنا كنت فاكرك في المعرض يا عيسى علشان لاقيت عربيتك هناك، وكان معايا قسمت فهي هناك المفروض.

طالعه عيسى باستنكار غير مصدقًا ما تفوه به، بينما في معرض السيارات الخاص به تحدثت ميرت إلى ملك التي جلست تطالع شيء ما على هاتفها بتركيز: يعني مش عيب منروحش لبشير، جوزك سابنا هنا ونزل راح مع أبوه.

يا طنط عيسى قال بلاش دلوقتي، وإن بشير لسه مش كويس كفاية يقابل ناس، ممكن حضرتك تزوريه بعدين.

وعلقت ميرت على قول ملك متهكمة: مش كويس كفاية يقابلني، بس كويس يقابل نصران.

ودافعت ملك بعدما تركت هاتفها جانبًا: عيسى مكانش راضي برضو عمو يروح، بس أنتِ شوفتي قاله إيه، لو مكنش وداه كان هيروح لوحده، علشان كده نزل معاه يوديه، كان ممكن حضرتك تصري شوية بس أنتِ سمعتي كلام عيسى.

ضحكت ميرت قبل أن تعلق على تبريراتها هذه: دافعي عنه أوي، طبعا ما هو حبيب القلب، على أساس مسمعتيهوش وهو نازل عمال يقول لا متسيبيش ملك لوحدها، كنت المفروض أصر وأسيبك، إيه هيجرالك يعني، مقعدني أسليكي الأستاذ.

وقبل أن تستمع إلى رد هذه التي علت ضحكاتها، وجدا من تدخل دون استئذان، بمجرد أن رأتها ملك تبدلت حالتها كليًا، خاصة وهي تسمع: الموظف تحت قالي إن عيسى شوية وجاي، أنا هستناه، ولو سمحتي يا ملك بالذوق مش عايزة أي كلام بيني وبينك لحد ما يجي

استغربت ميرت من طريقتها هذه، وسألتها: خير يا قسمت.

لاحظتها قسمت فاقتربت منها، مالت تقبلها وهي تقول بابتسامة: ميرت عاملة إيه، وحشتيني.

ردت عليها ميرت بارتباك، وهي ترى نظرات ملك: أنتِ كمان واحشاني، مبسوطة إني شوفتك، وألف مبروك على العملية، عيسى كان قالي.

أنا كمان مبسوطة أوي، بس ألف مبروك حاف دي مش عجباني، احنا لازم نحتفل وتعمليلي ورق عنب من اللي كلته مره عندك.

إعصار، أدق وصف لحالة ملك في هذه اللحظة أنها إعصار، تكور قبضتها، وتتذكر جلستها مع شقيقتيها حين أخبرتهم عما دار بينها وبين قسمت، تسمع صوت شقيقتها شهد الآن وهي تعترض: لا يا ملك، رد فعلك ده مش عاجبني، أنتِ لما تشوفي البت دي تاني، قبل ما تفتح بوقها حتى تكوني جيباها من شعرها اللي قولتيلي إنها فرحانة بيه ده، وتخلي اللي ما يشتري يتفرج عليها.

ورفضت مريم الاقتراح قائلة: غلط يا شهد العنف مش حل، وكده هي ممكن تعمل فيها المظلومة البريئة، أو تردها لملك، ويشتبكوا مع بعض، وده مش في صالحنا، لإن هيبين إن ملك مهتمة، وأنتِ يا ملك لازم تباني مش مهتمة، علشان كده أفضل حل التجاهل.

ولم ترض شهد عن أقوالها بل علقت باستنكار: تجاهل إيه ده، واحدة ماشية ورايا أنا وجوزي في كل حتة، وتقوليلي تجاهل، اسمعي يا ملك لو مش هتعملي مع البت دي حاجة، سيبيني أعمل أنا، أنتِ متعرفيش حماسي للخناقات عامل ازاي، بقالي كتير متخانقتش خناقة بجد.

طالعتها ملك بانزعاج، وقبل أن تستفسر وضحت لها مريم: هي يا عيني لما الخناقات بتوحشها بتنكد على طاهر، بتعتبر دي خناقة كده وكده، بس اسمعيني يا ملك العنف مش حل.

لا مع الناس اللي زي قسمت دي حل.

وأصرت شهد على رأيها بقولها هذا، وظل يتشاجرا حتى صرخت ملك فيهما: بس خلاص كفاية

طالعت شهد أولا بحدة تكرر حديثها: عرفت إن الخناق الحل.

وبعد ذلك مريم وتعيد أيضا حديثها: وعرفت يا مريم إن التجاهل الحل، ممكن تسيبوني بقى أنتم الاتنين وتخرجوا برا علشان أنام.

شملتها نظراتهم المتهكمة وقول شهد وهو تترك الفراش: ادي اخر خدمة الغز.

وتلتها مريم التي اتفقت هذه المرة معها قائلة: عندك حق يا شهد، نقعد هنا نديها خبراتنا في الحياة من غير حساب، وفي الاخر تطردنا، ملناش إلا بعض أنا وأنتِ يا شوشو.

كادت أن تقذفهما بما يجاورها، وهي تضحك على أفعالهما، هذه اللحظات التي تذكرتها قطعها الآن أنها فاقت من شرودها، تطالع قسمت التي جلست تتبادل أطراف الحديث مع ميرت بأريحية شديدة، متجاهلة وجودها عن عمد، لم تحتمل ملك أكثر فعلقت: ميرت أنا هنزل أجيب حاجة من تحت.

وحين أتت لتغادر قطعت عليها قسمت الطريق متحدثة بضيق: هتنزلي تجيبي حاجة، ولا تتصلي بيه علشان تخليه ميجيش، أنا عايزة أعرف أنتِ خايفة من إيه، أنت…

قاطعتها ملك وقد طفح كيلها منها: أنا لو عايزة اتصل بيه هتصل قدامك هنا مش هخاف ولا اتكسف منك، وأنا مش خايفة منك، ولا من وجودك، أنتِ بالنسبالي ولا حاجة.

أدركت ميرت أن هناك حرب طاحنة دائرة بينهما فاستقامت واقفة في محاولة لفضها، وهي تقول: في إيه بس، اهدوا طيب.

فردت قسمت ضاحكة بسخرية: لا ونهدى ليه، خلي ملك تكمل كلامها، أنا حابة اسمعها جدا، ده لو هي مش حابة تطردني من هنا كمان.

والله لو عايزة اطردك هعمل ده، أنا بس لآخر لحظة بحاول احترمك، وبما إن أنتِ اللي جبتي السيرة فوجودك فعلا مش مرحب بيه، ياريت تمشي.

أقول متلاحقة ألقتها ملك على مسامعها، وجعلت ميرت تلومها بعينيها قبل أن تنتبه إلى الأخرى التي علا صوتها وهي تهتف بإصرار: أنا مش هخرج من هنا غير لو عيسى قالي برا.

جملة واثقة، خرجت من فمها وهي على يقين من أن عيسى لن يفعلها، لن ينطقها.

وكانت التوقعات خاطئة حيث دخل عيسى برفقة والده على قولها هذا، لمحت باسم وقد أتى خلفه، ولكنها لم تهتم سوى بهذا الذي بدا في نظراته ضيقه الشديد منها، ونطق بلا ذرة تردد واحدة: أنا عيسى وبقولك مع السلامة.

لم ينطقها هذا ما أخذت تؤكده لنفسها واهمة، يمر أمام عينيها سنوات صداقته التي تنفي أنه قد يفعل ذلك، ولكنها فاقت على صدمة قول عيسى التالي: يلا برا.

وحاول والده ردعه بقول: مش كده يا عيسى، قدرني حتى.

أنت على دماغي يا حاج.

قال هذا وهو يطالع والده، ثم تابع دون تراجع ونظراته تشملها هي و باسم: وعلشان أنت على دماغي، أنا مش حابب أشوف حد بالأدب اهو.

وافق والده على مطلبه، وطالب الحاضرين جميعا بالخروج، محاولا التخفيف من حدة الأمر، بأن الطرد ليس لها فقط، أشفق على قسمت حين رأى الدموع في عينيها وقد أبت النزول وهي تطالع ابنه غاضبة لا تصدق، تحركت ملك قبل أي أحد، ولم يستوقفها سوى صوت عيسى الذي قال: ملك متخرجش.

وحتى محاولة والده في تحسين الصورة ضاعت الآن، اتسعت ابتسامة ملك، وظلت مكانها، وهي تطالع بشماتة خروج الحضور واحدًا تلو الآخر، وتركيزها منصب تحديدا عليها وهي ترى باسم يطالبها بالرحيل معه من هنا، ولكنها لم تتزحزح، لم تعد ترى أمامها، هامت الأرض بها، وبغتة سقطت بين يدي باسم، في لحظة واحدة زال الجمود المرسوم على وجهه، رأت ملك هذا، اقترب عيسى وهو يرى باسم يحاول إفاقتها، أعطته ميرت العطر وقد أخرجته من حقيبتها، اقتربت ملك من نصران، أمسك بذراعها، وهو يرى هذه التي بدأت تسترد وعيها تدريجيًا، بمجرد ما فاقت وصل لأذنها صوت باسم يتأكد من كونها بخير، لمحت نظرات ذلك الواقف على بعد منهما، رأت القلق في عينيه، استندت على باسم لترحل من هنا ولا يسيطر على نظراتها سوى اللوم.

هكذا ينتهي الأمر، خذلها ولامته في نفس الثانية التي نبذها بها، ثم رحلت من هنا برفقة باسم ولا تجر سوى أذيال الخيبة.

كفانا نفاق…

فما نفعه كل هذا العناق؟

ونحن انتهينا، وكل الحكايا التي قد حكينا

نفاق…

نفاق.

أبيات قالها نزار قباني عبرت ببراعة عن حالتها، عبرت عن الكابوس الذي تعيشه، وأن حياتها كلها كانت أكذوبة، كانت بيريهان تجلس شاردة في عيادة نور، الذي نبهها حين دق على المكتب أمامه: بيريهان.

ها.

فاقت من شرودها على صوته، طالع وجهها، بعد انهيارها الكبير يراها الذي نتج عما فعله بها شاكر، لا شيء الآن سوى الخواء، في أغلب الأوقات شاردة، ولا يظهر عليها أي شيء، حاول نور دفعها للحديث حين قال: اتكلمي.

تنهدت قبل أن تغمض عينيها، وتفتحهما بإرهاق، ثم تلقي ما لديها بهدوء وكأنها تعلن عن أحوال الطقس: أنا حامل.

كان نور يتابعها بصمت، يعلم أنها ستفرع كل ما لديها، وبالفعل رأى الضحكة الساخرة على وجهها وهي تطالعه أخيرًا ناطقة: تخيل حامل، لا واللي يضحك أكتر كمان إن دي ممكن تكون أخر فرصة ليا علشان أبقى أم.

رأى رجفتها وهي تصرح بما يؤلمها: مش عارفة اسأل ليه، مش عارفة حتى افكر، تفتكر لما أعيش بعذاب الحرمان من إن يبقى عندي طفل أهون ولا عذاب إن يبقى عندي بس طول الوقت هيفكرني بأكبر وجع في حياتي؟

رد عليها نور بما جعلها تنصت له: أكيد اللي مريتي بيه مش سهل، وفاهم إنك شايفة نفسك دلوقتي بين نارين، بس ليه مفكرتيش إن الطفل ده مثلا فرصة بداية جديدة ليكي بعيد عن كل حاجة، أنتِ كتير كلمتيني عن إنك حابة تحسي بشعور الأمومة، مش يمكن ده تعويض عن كل اللي حصلك.

وانفعلت وكادت أن تبكي وهي تهز رأسها بعنف رافضة ما يقال: لا يا نور لا، أنا هجيبه للدنيا ظالماه، هيكبر كارهني، أنا اللي اختارت أبوه، اخترتله أب حتى أنا هونت عليه، تفتكر أنا كمان هكرهه علشان هيفكرني باللي حصلي؟

مش ده السؤال اللي المفروض يتسأل، بس هجاوبك عليه بأكتر شيء محتمل وهو إنك عمرك ما هتكرهيه لو حطيتي في دماغك إن ده كان فرصتك الوحيدة في تحقيق أمنية اتمنتيها وهي إنك تبقي أم.

وأمام جوابه هذا سألته عما يؤرقها، والذي لا مفر منه: لو نفرض كلامك صح، وإني هحبه، هتغلب ازاي على شعور إني ظالماه، هتغلب ازاي على إن شاكر كان اختياري، وإن وجعه ليا أنا كنت سبب فيه؟

ويقدم لها من جديد حلول في محاولة لسحبها من هذا النفق المظلم: جايز لو قدرتي تعوضي ابنك وتحبيه وتكوني جنبه فرحتك بالإنجاز ده تتغلب على شعورك بالذنب إنك ظلمتيه، مفيش حد بيهرب من قدره يا بيريهان ومفيش حد طول الوقت بيختار صح، وارد نختار غلط، ونقع ونتوجع، لكن احنا لسه بنتنفس، لسه عايشين، وقادرين يكون عندنا فرصة نتحمل الخساير حتى لو أثر الوجع هيفضل ملازمنا، بس في فرصة نبتدي من جديد.

لسه هبتدي من جديد؟

همست بها مقهورة، ونصحها هو: لو استسلمتي للاكتئاب وكل الأفكار اللي موجودة في عقلك، مش هيحصل أي حاجة غير إنك هتقابلي الأسوء، طب ما تفكري مش جايز في حياة أحسن مستنياكي وتستاهل تتعاش؟

غصة مريرة في حلقها، لا تعلم كيف ابتلعتها وهي تخبره بضياع: مش هقدر اعيش حياة جديدة، طول ما أنا مسمعتش منه رد على سؤال واحد بس، عايزة أعرف ليه؟ عايزاه يفهمني ليه.

نبهها نور للشيء الذي لا تنتبه له: بعد ما تعرفي ليه صدقيني مش هترتاحي، هتفضلي في دوامة، هتخرجي من ليه تروحي لسؤال ازاي مشوفتش الإجابة لوحدي، وهتطلعي من ده على إن طاقة الغضب اللي جواكي عايزة تفرغيها في اللي وجعك حتى لو هتأذي في سبيل ده نفسك، اوعي يا بيريهان تستسلمي لده، متخليش الوجع اللي جواكي يوصلنا لسكك أصعب من اللي وصلنالها.

أنا عايزة أقابل ملك، أرجوك ساعدني.

وبمجرد أن أنهى جملته وجد من يقتحم الغرفة والممرضة من الخلف تحاول ردعه: يا فندم قولتلك مينفعش.

لقد كان والدها، طالع ثروت ابنته بحدة، وجه سهام نظراته لها ولطبيبها الذي تنحنح قبل أن يهتف: أهلا يا معالي الوزير.

وكان الرد هو محادثة ابنته بانفعال متجاهلا ترحيبه: هو أنا مش قولت مفيش جلسات عند الحيوان ده تاني، أنا عايز أعرف عايزة توصلي لإيه تاني، مشيك ورا دماغك ودانا في داهية.

نور الدكتور بتاعي، وأنا مش هغيره، وافتكر يا بابا إنه كان ترشيحك.

هكذا واجهته ورد هو: ودلوقتي بقول عليه لا

واستدار له يحذره: أنا مش مصبرني عليك غيرها، لو عايز هنهيك، فضايحك كلها معايا.

بدا الضيق على وجه نور قبل أن يرد على محدثه هاتفًا: أنا فعلا غلطان علشان سربتلك قبل كده أخبار حد بيتعالج عندي، خونت مهنتي بسبب ابتزازك ليا، بس أنا مش هكرر الغلطة تاني علشان تكون راضي عني، والدك يا بيريهان عايز دكتور متفصل، أو جاسوس بمعنى تاني، كل كلمة تقوليها في السيشن توصله، وأنا مش الدكتور ده، ولو كنته قبل كده مش هبقاه تاني، ولو حضرتك عايز تنهي مستقبلي اتفضل تقدر تعمل ده.

اقتربت بيريهان من والدها وقبل أن ينطق قالت هي بإصرار: نور الدكتور بتاعي، مش هغيره مهما حصل، وأنا عارفة الحاجة اللي حضرتك بتبتزه بيها، الفيديوهات اللي ليه مع البنت اللي زقتها عليه، أنا سمعتك وأنت بتهدده، وصدقني يا بابا لو حاجة واحدة بس من الحاجات دي طلعت هتبقى بتخسرني للأبد.

وبلا رحمة صفعها والده بكلماته: هتفضلي لحد امتى تختاري غلط، وتثقي في ناس ميستحقوش، هتفضلي غبية يا بيري، اقولك تبعدي عن شاكر، تروحي من ورايا ليه، واديكي شوفتي اللي حصل، اقولك بلاش نور، بتقفي دلوقتي قصادي علشانه.

رأى الدموع في عينيها، ندم على ما قال، ولكنها تماسكت، ولا تعلم كيف ردت عليه تواجهه: لولا دكتور نور مكانش زماني واقفة قدامك دلوقتي بكلمك، على الأقل هو بيساعدني، بعرف هنا أقول أنا غلطت ومتعايرش، زي ما أنت عملت دلوقتي يا بابا، أنا مش هكمل علاج غير مع نور حتى لو حضرتك مش موافق.

اهدي يا بيريهان

هكذا طالبها نور وهو يتلقى نظرات التوعد من والدها، الذي جذب مرفقها طالبا: يلا هنمشي.

حاولت إبعاد يده ولكن حثها نور: امشي يا بيريهان مع والدك أفضل دلوقتي.

طالعته فطالبها بنظراته أن تستجيب، وبالفعل تحركت مع والدها الذي لا يعلم حتى الآن بأمر حملها، تسير معه وكأنها آلة، وبمجرد مغادرتهم ضرب نور على الطاولة أمامه، خطأه يطارده في كل لحظة، لم يتوقع لحظة أن يصبح في خانة الطبيب الذي سرب أسرار مريضه، خطأه مع عيسى يجلده، والخوف من الفضيحة التي من الممكن أن يتسبب له ثروت فيها يقضي عليه، وبين هذا وذاك يتأرجح.

طلب من والده أن يبقى عند ميرت حتى يعود، سيذهب للاطمئنان على تلك القابعة في المشفى والتي لا يكف بشير عن طلب ذهابه إليها ويعود، لم يتحدث مع ملك بعد ما حدث، كانت صامتة، انتظر أن تقول أي شيء ولكنها لم تفعل فغادر، تأخر ولا يجيب على هاتفه هذا ما جعل القلق يصيب والده فتحدث: رني عليه تاني يا ملك.

فخرجت ميرت تخبره: هو بعت قالي إنه هيتأخر، تعالوا نتغدى احنا.

تفاقم غضب ملك من أفعاله، جلست جوار والد زوجها والذي سألها بابتسامة: أنتِ كويسة؟

حاولت إخفاء ضيقها وهزت رأسها بتأكيد، وحينها تذكر هو فسأل: الواد ده كان قايلي إن هيقولنا حاجة على الغدا، متعرفيش كان هيقول إيه؟

كان السؤال سببًا في مضاعفة ضيقها، وكأنها تسمع صوتها الآن وهي تخبره: هنقولهم لما نرجع، أنا لحد دلوقتي مقولتش لحد.

ولكنه اعترض قائلا: الحاج جاي علشان يشوف بشير، يتغدا معانا عند ميرت ونقوله هو الأول.

ولكنه يخبر ميرت أنه لن يستطيع القدوم الآن، انتبهت على نصران الذي ينتظر جوابها، وهزت رأسها بأنها لا تعلم، قضت الوقت بصمت تام، نبهتها ميرت بأنها ستغفو قليلا، ونزل والد زوجها لصلاة العشاء، جلست أمام التلفاز وعاد هو أخيرًا، تحرك ليجلس على الأريكة جوارها ولكنها قامت، توجهت إلى الغرفة فتحرك خلفها، مسح على وجهه بإرهاق يسألها: هو الحاج فين؟

نزل من شوية يصلي.

جاوبته باقتضاب، ورد هو بسؤال اخر: اتغديتوا؟

فعلقت على سؤاله ساخرة: المفروض كنا نستناك للفجر؟

دلك عنقه قبل أن يستفسر: هو في إيه يا ملك؟

ولم تتحمل أكثر، توجهت ناحيته تسأله بانفعال: أنت كنت فين يا عيسى؟

جاوبها بما أخبر به خالته: كنت في المستشفى بشوف علا.

رفعت حاجبيها متسائلة بتعجب: بجد؟ لحد دلوقتي؟

اقتربت منه، هذه الرائحة لا تخطأها أبدا، بان على وجهه القلق، خاصة حين رفعت عينيها تنظر له وتقول: دي ريحتها.

ابتلع ريقه بتوتر وهو يسأل: ريحة مين؟

كنت فين يا عيسى؟

كررت سؤالها وهذه المرة بنظرات متوعدة، حاول صدها هو بقول: هفهمك، أنا أصل لما نزلت من المستشفى لقيت باسم، هو كان قايل إنه عايزنا في حاجة تبع الشغل، وطلب مني أروح معاه معرضه، وبعدين خدني ولقيته…

قاطعته تكمل هي: خدرك يا حبيبي، وخدك عند اللي ريحتها مغرقة هدومك؟

وكل محاولاته في قتل ثورتها والشرح لها فشلت، حيث انطلقت كالسهم، تخرج كل ما في جعبتها، وتهتف: أنا كان المفروض اتوقع إيه غير كده بعد ما كانت عينك هتنط منك أول ما وقعت من طولها، وعمال أقول تلاقيكي ظالماه، تلاقيه هنا ولا هنا، بس أنا إحساسي مبيكدبش.

حاول أن يمسك بها وهو يطالبها بالهدوء حتى يكمل تفسير الأمر لها: طب اسمعي بس يا ملك.

وردت على هذا تحذره بعينيها قبل قولها: شيل ايدك.

ولم يفلتها بل كرر طلبه: طب اسمعيني.

وكررت هي أيضا حديثها غير آبهة بأي شيء: بقولك شيل ايدك.

قرر ألا يستجب، يريدها أن تسمع مهما كلفه الأمر، ولكنه توقف مجبرًا وهو يرى يدها التي تحل أزرار قميصه، طالعها بذهول، وما إن انتهت مما تفعله حتى طالبته: هات القميص.

خلعه لها تحت نظراتها، وهو يسألها ضاحكًا بتسلية: دي حلوه أوي البداية دي.

أخذته منه، ثم وجدها تتوجه به ناحية النافذة وقذفته دون ذرة تردد واحدة، استمعت له يقول من خلفها بصدمة: أنتِ رميتيه؟

هزت رأسها تؤكد له بابتسامة صفراء، ثم توجهت ناحية الباب واستدارت تخبره: أنا رايحة أنام عند ميرت، لو حاولت تتكلم معايا النهارده، صدقني هتحصله.

وقطع هو عليها الطريق يسألها: هحصله ازاي؟

وسع من سكتي.

قالت هذا وهي تتحاشى النظر إليه، حتى نبرته التي يدعي فيها البراءة هذه ترغب في ألا تسمعها حتى لا يتأثر قرارها: أنا عايز أعرف بس هحصله ازاي.

قتله اللوم في عينيها وهي تقول: ابقى اسأل اللي كنت عندهم.

ثم فلتت منه وخرجت وقد أخذت قرارها بتحاشيه تماما هذه الليلة.

عاد عز إلى منزله، كان كل طلبه قسطًا من الراحة، وصل ولم يجد والدته، أثار هذا استغرابه فلقد لمحها قبل قليل تدخل إلى المنزل، أين ذهبت، تمدد على الأريكة في انتظارها، وقد ظن أنها ربما ذهبت لتبتاع بعض الأشياء، سمع رنين هاتفه، كان المتصل هذه التي تؤرقه حتى بعد أن أقسم أن ينساها، كانت رفيدة، قرر ألا يرد، ولكنها أرسلت له مقطعًا صوتيا على تطبيق الرسائل، فتحه ليسمعها تطالبه: ممكن ترد عليا يا عز.

وحين لم يستجب أعادت هي الإرسال، ولم يستطع هذه المرة منع ضحكته وهو يسمعها تحذره: لو مردتش عليا هتلاقيني في الورشة عندك وهقول إنك بوظت العربية بتاعة حسن، وهعملك سمعة وحشة.

ولم يرد أيضا، وواصلت هي الإرسال: يا عز لو مردتش دلوقتي أنت الخسران.

ظنها لن ترسل مرة ثانية بعد هذه حيث انقطع إرسالها لمدة ثلاث دقائق، ولكن خابت ظنونه حين وجدها قد كتبت: علشان خاطري طيب رد.

وتنفيذًا لنصائح شهد ظلت ترسل له بلا توقف مما جعل هاتفه لا يعمل بالشكل الصحيح، كان سيرد عليها قبل أن تدخل والدته، اعتدل في جلسته سائلا: إيه ياما روحتي فين؟

وضعت ما بيدها على الطاولة، ثم حلت عقدة حجابها، وقبل أن ترد كان يقبض هو على المفتاح الذي وضعته على الطاولة سائلا بقلق: المفتاح ده كان معاكي ليه، كنتي فين؟

وجلست هي أمامه بهدوء، تملي عليه أوامرها بحدة: ملكش دعوة بحاجة متخصكش يا عز، أنا مش هفرح بشبابك لما تروح مني.

وانفعل وهو يخبرها: اللي حصل مع رفيدة وامها يا اما ملوش دعوة باللي بيني وبين الحاج وعياله.

صرخت والدته فيه محاربة تعنته هذا: وأنا مش عايزة يبقى ليك دعوة بيهم خالص، مالك أنت باللي بينهم وبين شاكر، هو خلص على ابوهم وهما خلصوا على أبوه، وانفضت خلاص.

أدرك للتو الكارثة التي حلت على رأسه فندق بغير تصديق وهو يطالع المفتاح: خلصوا على مين، ما أنا قايلك إن الكلام ده كدب، أنتِ روحتي عند شاكر!

أيوه روحت المطرح اللي أنت حابس فيه شاكر وفتحتله، ملناش دعوة، يبقى في مطرح تبعنا ليه واحد فاقد زي ده، شوية حي وشوية ده راح للي خلقه، اخر مرة هقولهالك ملكش دعوة يا عز، الحاج نصران مش هينفعني لما تضيع مني، وكفاية أوي اللي راح زمان.

كان مذهولا، وكأنها تصب عليه الآن مياه باردة لا تتوقف، صرخ فيها وغضبه وصل للذروة: أنا مش مصدق اللي أنتِ عملتيه ياما، أقول لطاهر والحاج إيه دلوقتي.

وقاطعته تصيح بنفس انفعاله: قولهم امي اللي خرجته وقالتلي مليش فيه، دول حتى بنتهم استخسروها فيك، مش عايز أمك تستخسر فيهم روحك يا عز، ولا هي روحك أرخص من بنتهم، الحاج نصران على عيني وراسي، ولو عملي جميلة فأبوك الله يرحمه دافع حسابها مقدم، إنما مشاكله ومشاكل عياله ملناش دعوة بيها.

حرام عليكي، أقسم بالله حرام عليكي.

كاد صوته أن يصم أذنيها وهو يقول هذا، ثم تركها وخرج ولم يستجب للنداء الذي لا يتوقف.

أخيرًا عند والدتها، بين شقيقتيها حين الأمان الأكبر، علمت ملك من أمها أن عيسى قد استأذنها في أن يحضر الجميع إلى هنا، عزيمة كبيرة ولكن أرادها هنا عند أمها، صار العمل على قدم وساق، قسمن المهام بينهن، وأتت تيسير أيضا لتساعد، كانت في الأسفل تحضر بعض الحاجات من محل والدتها، حين أتى هو ونطق: مساء الخير يا ملك.

لم ترد، فدخل وجذب أحد المقاعد معيدًا باستفاضة وهو يطالع ساعته: مساء الخير يا ملك ياللي بقالك يومين وتلات ساعات مقموصة ومش مدياني فرصة اتكلم.

استقام واقفًا وقبل أن يقترب ألقت عليه نظرة تحذره، فاستعطفها هاتفًا: أنا ملحقتش أفرح بخبر حملك طيب، هتفضلي مقاطعاني كده كتير؟

كانت تطالع هذه المرة الحقيبة التي يحملها في يده وقد راق لها أناقتها، رأى نظراتها المهتمة وحين نظرت له هز رأسه وهو يؤكد بابتسامة غامزًا: بتاعتك اه.

قدمها لها وكأنه صغير يهادي والدته بالورود حتى تعفو عنه، أخذتها منه وفتحتها لتجد أولا العقد، هذا الذي فقدته على يد قسمت، مطابق له تماما، اتسعت ابتسامتها، وأعادت وضعه في الحقيبة ثم أخرجت الشيء الأخر، كان وكأنه إحدى كتب الأساطير القديمة، بدا ساحرًا، نُقِش عليه من الخارج صورة لإحدى الفتيات بدت وكأنها هاربة للتو من العصر الفيكتوري تحاوطها الزهور من كل جانب، أتت لتفتح الكتاب هذا برفق، فوجدت بداخله زجاجة أنيقة من العطر زينتها من الأعلى أنشوطة ناعمة، ودُوِن في الأسفل اسم ياسمين الأميرة التي اشتهر بها فيلم الكارتون الشهير علاء الدين، رفعت عينيها تطالعه وشرح لها وهو يتناول زجاجة العطر: البرفيوم ده مستوحى من ياسمين، أكتر حاجة حسيتها رقيقة شبهك في الموجود، ريحة العنبر والفانيليا اللي فيه أنتِ أكتر حد يليقوا بيه يا ملك.

اتسعت ابتسامتها، وقرب هو الزجاجة من أنفها، يعدها: مش هتشمي في هدومي غير الريحة دي بعد كده.

وعلى الرغم من أنه سحرها ولكنها حتى تحت تأثير سحره سألته: هتحكيلي اللي حصل بالتفصيل؟

هز رأسه مؤكدا أنه سيفعل ذلك، وقبل أن يحتضنها هرولت هي حين علا نداء والدتها، فمط شفتيه بانزعاج وهمس: طالعالي في البخت ست هادية.

مر النهار سريعًا، وحضر الجميع بناءًا على طلبه، كل فرد في منزلهم هنا حتى يزيد، التف الجميع حول الطاولة ورحبت بهم هادية قائلة: والله نورتونا يا جماعة، يارب الأكل يعجبكم.

جلس عيسى جوار ملك ونبه الجميع حين قال: قبل الأكل بس عندي ليكم خبر يا جماعة.

طالع نظراتهم الشغوفة بمعرفة ما سيقول وأرضى هو فضولهم حين نطق بابتسامة: ملك حامل.

سعلت زوجة والده، ظلت سهام تسعل حتى ظن أنها ستموت الآن، أما عن والدة زوجته فلم تصدق ما يقول، أكدت لها ابنتها أن هذا لن يتم قبل عامين، وبناءا على هذا نطقت بغير تصديق: حامل ازاي يعني.

استدار عيسى ينظر لملك التي بان التوتر على وجهها ونطق بنبرة عالية: لا واضح يا ملك إننا محبوبين أوي.

واتسعت ضحكته وأكمل: الله يبارك فيكم يا جماعة على مبروك اللي هتقولوها دلوقتي.

في التوقيت ذاته وصله اتصال جعله ينسحب من هنا، علم أخيرا بموقعه، يتأهب لهذه اللحظة منذ رأى صديقه والدماء تحاوطه، وصل عيسى إلى حيث أرسل له أحدهم الموقع، دق الباب وحين فتح محسن ووجده أمامه أسرع يحاول إغلاق الباب ولكن الطرف الاخر كان الأقوى وهو يدخل ويهتف: أنت بقى تلاقيك قولت احي استخبى في بيتي، أكيد مش هيفكر إني هاجي هنا.

وببغض نطق محسن وهو يحاول تفاديه: وأنت مالك أنت، حواري مش معاك.

وحينها ضرب عيسى على وجه الواقف أمامه بعد أن اقترب منه وهو يهتف: وهو أنت يا ×××× متعرفش إن بشير يخصني ولا إيه، عموما أنا مش هعمل فيك حاجة، أنا توبت خلاص.

تسارعت أنفاس محسن وهو يطالعه غير مصدقًا هذا، وتيقن ظنه حين أكمل عيسى: أنت بس هتاكل علقة حلوه، وبعدها هسلمك.

ثم باغته بضربة تأوه على إثرها محسن ولكنه لم يستسلم بل صاح: يبقى تسلم نفسك معايا، ولا أنا هبقى أقولهم لما تسلمني إن شاكر عندك.

لم يفهم عيسى ما قيل فكرر خلفه باستنكار: شاكر مين اللي عندي يالا.

كاد أن يضربه للمرة الثانية ولكن توقف حين سمعه يقول: اسأل أبوك الحاج نصران، وأخوك طاهر.

هل قال للتو والده و طاهر، وكأنه يحتاج إلى سماع الجملة هذه مرة ثانية حتى يتيقن من كونها قيلت حقًا.

لِتَعلَمَ مِصرُ وَمَن بِالعِراقِ

وَمَن بِالعَواصِمِ أَنّي الفَتى

وَأَنّي وَفَيتُ وَأَنّي أَبَيتُ

وَأَنّي عَتَوتُ عَلى مَن عَتا

وكأن أبيات المتنبي هذه أفضل ما يصفه الآن، أخيرًا وبعد عناء يقابل بيريهان التي تحاول لقياه منذ مدة، كان مازال تحت وطأة ما سمعه في مشواره السابق، ولكنه وجدها أمامه، أوقف سيارته، وبلا ذرة تردد واحدة ركبت هي، لم يطالعها حتى فقالت هي أولا: ازيك يا عيسى.

بخير جدا الحمد لله.

رد عليها باقتضاب ولا حظ نظراتها تجاه تلك الرموز التي علقها في سيارته

أكدت هي ملاحظته حين هتفت: دي رموز هيروغليفي.

تنهد قبل أن ينطق: بيقولوا.

ابتسمت وعلقت: أكيد ده اسمك، ما أنا عارفاك من زمان مهووس بيه.

طالعها أخيرا، رأت في نظراته أنه انتصر، كل حرف قاله في السابق صحيح، هي خُدِعت والآن تأتي إليه، بعد أن كانت تصرخ عليه في السابق وتلقي الاتهامات، لتعلم مصر ومن بالعراق أنه الفتى حقا، وبعد صمت علق على قولها: افتكر إنه لو هوس فهو هوس صحي، أنا استاهل والاسم يستاهل.

وردت تؤكد بما لا يرتبط بحديثهم: أنت طلعت صح يا عيسى، الظاهر إن كل كلمة قولتها كانت صح.

مش الظاهر ده أكيد.

هكذا علق على قولها فضحكت هي وهي تهز رأسها قائلة: جايز عندك حق.

ورغم أنه لا يحب المماطلة ولكنه مستمتع للغاية الآن، يسمعها تقول: شاكر أذى أخوك وأذى ملك، وكسرني.

شملها بنظراته قبل أن يخبرها: مليش دعوة بيكِ.

بس ليك مصلحة معايا.

تحدته بنظراتها وهي تقول هذا، وأكملت تحت سطوة حضوره في هذه اللحظة: أنا عايزة اقابل ملك، عايزة اسمع منها حاجة.

وبسخرية لا تناسب جديتها تماما رفع رأسه ضاحكًا وعلق: الله عليكِ يا ست، ملك بقت بتغني ولا إيه؟

وبالرغم من أعصابها التالفة تقبلت هي هذا، تقبلته وأكملت: اعتبرها كده، حفلة private هسمع فيها اللي نفسي فيه.

ولما تتسلطني؟

كان هذا سؤاله، الذي جاوبت عليه ونظراتهم متحدة: مش هيبقى في شاكر تاني.

ورغم أن ما تقوله خطير للغاية ولكنه هتف: بايخة دي، معجبتنيش ومش مصدقها.

يستنزف صبرها وكأنه يطبق فعليا أبيات: وَأَنّي وَفَيتُ وَأَنّي أَبَيتُ

وَأَنّي عَتَوتُ عَلى مَن عَتا

ولكنها أصرت وفي هذه المرة حقا جذبت انتباهه: هخليه يلف حوالين نفسه، هديله الأمان واسحبه منه زي ما عمل فيا.

لأول مرة يرى بغضها هذا حقا، ولهذا نظر لها وهي تكمل: هسلمك رقبة أبو ابني، بس تقف معايا.

والبيعة تراها هي رابحة للغاية، أما هو فلا تعلم، بماذا يفكر، أي الخطط في رأسه الآن، ملك المفاجأة شملها بالصمت وليس عليها سوى الانتظار.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *