رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الثاني والسبعون
الثانية عشر -منتصف الليل-
إن الهوى وهم، وفؤادي لا يهوى العيش في الأوهام.
الثانية -صباحًا-
ولقد رأيت الهوى في ليلة هوجاء
ولم أكن أتوهم، ولم يكن سراب.
الثالثة -صباحاً-
حماقته أعيته وظنه يهوى
وتحت سحر عينيها تجده يهوى.
الخامسة -فجرًا-
إني عرفت الدار بعد توهمٍ
وعرفت أن حقيقتي في هواكِ.
= أولم يكن وهمًا؟
وحتى وإن كان، قد صرت أصبو للعيش في الأوهام.
لِتَعلَمَ مِصرُ وَمَن بِالعِراقِ
وَمَن بِالعَواصِمِ أَنّي الفَتى
وَأَنّي وَفَيتُ وَأَنّي أَبَيتُ
وَأَنّي عَتَوتُ عَلى مَن عَتا
وكأن أبيات المتنبي هذه أفضل ما يصفه الآن، أخيرًا وبعد عناء يقابل بيريهان التي تحاول لقياه منذ مدة، كان مازال تحت وطأة ما سمعه في مشواره السابق، ولكنه وجدها أمامه، أوقف سيارته، وبلا ذرة تردد واحدة ركبت هي، لم يطالعها حتى فقالت هي أولا:
ازيك يا عيسى.
بخير جدا الحمد لله.
رد عليها باقتضاب ولا حظ نظراتها تجاه تلك الرموز التي علقها في سيارته
أكدت هي ملاحظته حين هتفت:
دي رموز هيروغليفي.
تنهد قبل أن ينطق:
بيقولوا.
ابتسمت وعلقت:
أكيد ده اسمك، ما أنا عارفاك من زمان مهووس بيه.
طالعها أخيرا، رأت في نظراته أنه انتصر، كل حرف قاله في السابق صحيح، هي خُدِعت والآن تأتي إليه، بعد أن كانت تصرخ عليه في السابق وتلقي الاتهامات، لتعلم مصر ومن بالعراق أنه الفتى حقا، وبعد صمت علق على قولها:.
افتكر إنه لو هوس فهو هوس صحي، أنا استاهل والاسم يستاهل.
وردت تؤكد بما لا يرتبط بحديثهم:
أنت طلعت صح يا عيسى، الظاهر إن كل كلمة قولتها كانت صح.
مش الظاهر ده أكيد.
هكذا علق على قولها فضحكت هي وهي تهز رأسها قائلة:
جايز عندك حق.
ورغم أنه لا يحب المماطلة ولكنه مستمتع للغاية الآن، يسمعها تقول:
شاكر أذى أخوك وأذى ملك، وكسرني.
شملها بنظراته قبل أن يخبرها:
مليش دعوة بيكِ.
بس ليك مصلحة معايا.
تحدته بنظراتها وهي تقول هذا، وأكملت تحت سطوة حضوره في هذه اللحظة:
أنا عايزة اقابل ملك، عايزة اسمع منها حاجة.
وبسخرية لا تناسب جديتها تماما رفع رأسه ضاحكًا وعلق:
الله عليكِ يا ست، ملك بقت بتغني ولا إيه؟
وبالرغم من أعصابها التالفة تقبلت هي هذا، تقبلته وأكملت:
اعتبرها كده، حفلة private هسمع فيها اللي نفسي فيه.
ولما تتسلطني؟
كان هذا سؤاله، الذي جاوبت عليه ونظراتهم متحدة:
مش هيبقى في شاكر تاني.
ورغم أن ما تقوله خطير للغاية ولكنه هتف:
بايخة دي، معجبتنيش ومش مصدقها.
يستنزف صبرها وكأنه يطبق فعليا أبيات:
وَأَنّي وَفَيتُ وَأَنّي أَبَيتُ
وَأَنّي عَتَوتُ عَلى مَن عَتا
ولكنها أصرت وفي هذه المرة حقا جذبت انتباهه:
هخليه يلف حوالين نفسه، هديله الأمان واسحبه منه زي ما عمل فيا.
لأول مرة يرى بغضها هذا حقا، ولهذا نظر لها وهي تكمل:
هسلمك رقبة أبو ابني، بس تقف معايا.
والبيعة تراها هي رابحة للغاية، أما هو فلا تعلم، بماذا يفكر، أي الخطط في رأسه الآن، ملك المفاجأة شملها بالصمت وليس عليها سوى الانتظار.
دلك عنقه بإرهاق قبل أن يفاجأها برد:
لا ألف مبروك، بس مين قال إني عايز رقبة أبو ابنك؟
عيسى أنا مش حمل لف ودوران، هتساعدني ولا لا؟
قالت قولها هذا بحدة، ورمقها هو بتهكم قبل أن يجاوب:
أنا لا بلف، ولا بدور، مفيش حاجة تقدميها علشان اساعدك.
وعلقت هي تخبره بما تقدر عليه:.
تفتكر إني مقدرش أحقق اللي أنا عايزاه بمساعدة بابا؟
والله مش عارف، هو معالي الوزير مسافر ولا إيه؟
وأمام سؤاله هذا ضربت بكفها على سيارته فنبهها محذرًا:
ايدك.
بانفعال تام صارحته:
أنا مش عايزة بابا يتدخل في الموضوع ده نهائي، أنا اللي اتأذيت من شاكر مش بابا، والمفروض إنك اتأذيت برضو منه، و ملك كمان…
بتر عبارتها حين قال وقد طفح كيله:.
ملكيش دعوة بملك، وأنا مش مضطر أصدقك، قبل كده ملك قالتلك كتير ومصدقتيهاش، وأنا قولتلك ورميتي الكلام ورا ضهرك، أنا معنديش حاجة أقدمهالك يا بيريهان، ونهاية الكلام ده كله متحاوليش تقابلي ملك ولا حتى تتصلي بيها، وابقي بلغي بنت عمك اللي عمالة تتصل بيا إني قابلتك، علشان كان محسساني إن مقابلتي ليكي أكبر عمل خيري ممكن أعمله في الحياة علشان نفسيتك وهي أكيد متعرفش إنك عايزة تقابليني علشان تتفقي معايا أساعدك تخلصي على شاكر، وحتى لو عارفة ميهمنيش، اللي بيني أنا ومراتي وبين شاكر ملوش دعوة باللي بينك وبينه، وأنا حتى مش عايز أعرف أنتِ قلبتي عليه ليه.
ابتلعت غصة مريرة في حلقها قبل أن تهتف:
بلاش تساعدني، بس عايزة أشوف ملك.
ولا حتى تشوفي ملك، أنا وعدت نفسي إني مش هسمح لحاجة تأذيها ولا تفكرها باللي فات، وافتكر إن مقابلتها معاكي هتأذيها وتفكرها.
لم يرفق بدموعها، يرى عدم اتزانها في عينيها، مضطربة تريد أن تفعل أي شيء، تريد الثأر، وفي بعض الأحيان لا تعلم ما تريد، جرب هذه الحالة مرات ومرات، ولكنه الآن قرر التنحي، فتحت باب سيارته حتى تنزل دون أن تنطق بكلمة واحدة، فقط ألقت نظرة عليه ورحلت متجهة لسيارتها، ولا تعلم كيف سارت إلى هناك ولم تسقط، فقط استقرت على مقعد القيادة وانخرطت في نوبة بكاء عميق.
لا تصدق حتى هذه اللحظة ما حدث، للمرة الألف تفكر ندى هل أخطأت، ولكن ماذا كان عليها أن تفعل، تتذكر الآن حين تجرعت الألم من كل شيء، رغبت في المساعدة، تتذكر حين هاتفت باسم بعد أن وعدت نفسها ألف مرة عقب مواجهتهما الأخيرة أنها لن تلتلقي بها أبدا، وتتذكر أنه جاء على الرغم من أنها على يقين بأنه وعد نفسه بالشيء نفسه الذي قررته، طلبه المتهور بأن يحضر الشيخ ويزوجهما الآن، وعدم تصديقها لما يقول، تتكر في أذنها الآن نبرته الحاذمة وهو يقول:.
لو عايزاني اصدق إنك فعلا بتحبيني، وإنك صادقة في اللي قولتيه، يبقى نكتب الكتاب دلوقتي، وتمشي معايا.
ونجت من الفخ بأعجوبة، حيث أنه دخل لوالدها وقرر طلبه أمامه ولكن بصورة غير التي حدثها بها، تركها مذهولة، وتحرك إلى الداخل، استقبله والدها بترحيب وبعد صمت نطق باسم:
أنا كلمت ندى واتفقنا وهي معندهاش مشكلة حاليا لو اتجوزنا، حتى لو هنكتب الكتاب دلوقتي.
ولم يصدقه والدها، أحضرها إلى عندهم وسألها، وتحت نظرات هذا الذي ألقى قراره كالقنبلة في وجهها قبل قليل، وجدت نفسها تصرح:
أنا موافقة يا بابا.
هكذا كل شيء ببساطة، أخيرا ينال ما أراد، طالبه والده بالتريث على الأقل شهر لترتيب كل شيء ولأن الأوضاع بالنسبة لإبنة أخيه ليست الأفضل، ووافق، انقطعت اتصالاته طوال المدة التي حددها والدها، كانت تعلم بكل شيء من أبيها، وبغتة وجدت الشيخ يتمم العقد في تجمع عائلي بسيط، كانت في أبهى طلة رغم أنها لم تبذل أي مجهود، لا يسيطر عليها سوى أنها لا تصدق ما يحدث.
لم تنتقل إلى بيته فورا، طلبت منه عدة أيام تبقى فيها جوار ابنة عمها، شرحت له كم أن حالتها تستدعي ذلك وأنها لن تستطيع تركها الآن، ووافق أيضًا، موافقاته الكثيرة هذه أصابتها بالخوف لدرجة جعلتها تفكر هل يخطط للخلاص منها بمجرد أن تحضر لمنزله لذلك يدعي الحلم الآن، ربما يرتب لجريمته.
والآن هي في منزله، حين أتى ليصطحبها كانت ستبرر مكوثها بابنة عمها من جديد، ولكن هذه المرة طالبتها ابنة عمها أمامه بأن تذهب معه، وضعتها في المأزق.
كانت ندى تحاول أن تتقبل حقيقة أنها الآن في منزله، في هذا المكان الذي لطالما قالت له عنه أنه تقريبًا شبه معزول عن البشر، هل سترافقه في وحدته من بعد الآن، انتفضت على صوته وهو يقول أثناء خروجه من الغرفة:
إيه لسه قاعدة مكانك ليه؟
قالت وهي تقبض على الطاولة أمامها مستدعية ثباتها الذي تبخر:
عادي يعني، برتاح بس من المشوار.
ثم أشارت ناحية إحدى الغرف سائلة:
هي الأوضة دي مقفولة ليه؟
أنا اللي قافلها.
هكذا يخبرها بكل بساطة وهذا دفعها لقول:
طب ياريت تفتحها.
جلس على أحد المقاعد وهو يسألها متصنعًا عدم الفهم:
خير، هو في ضيوف جاية.
طالعته أخيرا، هي التي تجنبت النظر لعينيه منذ بداية اليوم، تطالبه الآن:
لا مش ضيوف، أنا اللي هقعد فيها.
ضحك بسخرية جعلتها تلقي عليها نظراتها المنزعجة قبل أن يخبرها مشيرا ناحية إحدى الغرف:
احنا اوضتنا اهي، سلامة النظر مش لسه شايفاني خارج منها؟
وبحدة أخبرته:
بس أنا محتاجة وقت، على الأقل حتى اتعود على الوضع الجديد.
كانت يغير بين محطات التلفاز أمامه وهو يلقي عليها قراره بكل بساطة وكأنه يلقي أخبار الطقس:
لا مفيش كده، لما نبقى اخوات وقت تاني إن شاء الله ابقى اعملك الكلام ده.
خلاص هنام على الكنبة.
صرحت بها متجاهلة نظراته التي صوبها تجاهها، ورفع حاجبيه باندهاش حين تبدلت حالتها تمامًا حيث اتسعت ضحكتها وهي تطالع التلفاز وهتفت:
خلي الفيلم ده أنا بحبه.
تركه لها ثم وضع جهاز التحكم على الطاولة، واستقام ليتحرك ناحية غرفته فسألته ومازالت متشبثة بالتلفاز:
داخل تنام.
اه.
وبعد جوابه نطقت بتسلية:
طب تصبح على خير.
بمجرد أن غادرها تأففت بضيق، هي لا تحب هذا الفيلم، لم ترغب في المشاهدة، ودت لو احتضنت الفراش الآن، لا تعلم لما طلبت منه أن تبقى في غرفة بمفردها، الحقيقة الوحيدة أنها رغم كل شيء حتى الآن تخشى باسم، تريد أن تطمأن.
استقامت واقفة بعد مرور ساعة تقريبًا، دلكت عنقها بتعب، لم تبدل ملابس الخروج هذه حتى، طالعتهم بغير رضا، قبل أن تتجول في أنحاء منزله، دخلت إلى المطبخ فوجدت أنه قد أحضر طعامها المفضل، البيتزا الغارقة في الجبن، كل تفاصيلها لا يغفل عنها، طالعت بحزن العلبة الأخرى، أدركت أنه نام دون أن يأكل.
أصابها الضيق، وأرادت أن تستنشق بعض الهواء، غادرت المطبخ وتوجهت ناحية الباب فتحته ببطء، ثم خرجت، لم تكد تتحرك عدة خطوات تتجول هنا أمام منزله حتى وجدته يقبض على مرفقها، استدارت مفزوعة ولكن حين رأت أنه هو اطمأنت، كان قد طفح كيله من أفعالها فسألها بانفعال:
أنتِ راحة فين؟
أنا حسيت إني مخنوقة، فخرجت اتمشى شوية قدام البيت.
تخرج للتجول وفي مثل هذا التوقيت، جذبها عائدًا بها إلى الداخل، وما إن أغلق الباب حتى هتف بضجر:
أنا عايز أعرف أنتِ عايزة إيه بالظبط، هو حد كان غصبك.
هزت رأسها نافية توضح له:
لا محدش غصبني، بس أنت ضغطتني، وكل حاجة جت بسرعة، مفيش حاجة مشيت طبيعي، وأنا مش حابة أحس إني مضايقاك.
وبنفس انفعاله كرر:
مش فاهم برضو عايزة إيه دلوقتي يا ندى، عايزة ترجعي بيتك؟ ولا…
قاطعت ثورته هذه حين وضعت سبابتها على فمه، فجأة سكنت ثورته، تبخر انفعاله، وتاهت عيناه فيها، وأخبرته هي بابتسامة:
عايزة ناكل علشان جعانة أوي.
تركته مكانه وتحركت إلى المطبخ تجلب ما أحضره، وضعت الطعام على الطاولة ثم أشارت له:
يلا تعالى.
تقدم بالفعل، جلس وفتح علبته يتناول منها وهو يراقبها، كانت تأكل بتلذذ وأثناء ذلك نطقت:
يا سلام لو العالم كله يبقى بيتزا مشكل جبن.
لم يستطع منع ابتسامته وهو يسمع قولها هذا، عاد لتناول طعامه وما إن انتهى وقرر القيام سألته:
مش هتفتحلي الأوضة برضو؟
قولي إنك عاملة كل ده علشان كده، وأنا أقول برضو من امتى الحنية دي.
أسرعت تهز رأسها نافية وهي تدافع عن نفسها:
لا والله، أنا عملت كده علشان اضايقت إنك نايم من غير ما تاكل، اليوم كان طويل، وأنت أكيد تعبت.
وبابتسامة شكرها:
طب يا ستي شكرا.
ظنته سيستجيب لمطلبها ولكنه فاجأها وهو يقول بنفس ابتسامته:.
بس أنا مش هفتح الأوضة برضو.
تركها وذهب ليغسل يديه وهي تكاد تقتله بعينيها، عاد إلى غرفته، ومن جديد بقت هي مكانها، ولكنها في النهاية حسمت قرارها ستواجه، توجهت ناحية غرفته، دخلت فوجدته متمددا على فراشه، فطالبته:
باسم قوم معلش عايزة نتكلم.
اعتدل على الفراش وهو يسأل بضجر:
خير، هو أنتِ مقررة تقلي راحتي الليلة دي.
ذهبت وجلست أمامه، طالعته ثم سألته:
هو أنت طلبت نتجوز ليه؟
لم يصدق أنها تسأل سؤال كهذا، وبدا اضطرابها واضحًا وهي تكمل:
اوعى تكون عايز تنتقم لنفسك، علشان الكلام اللي قولتهولي قبل كده، إني طول الوقت كنت بختار حد غيرك و…
ملهوش لزمة الكلام ده يا ندى.
وبعد قوله هذا رأى الدموع في عينيها وهي تتناول كفه وتسأله:
هو أنت بطلت تحبني؟
ولم تعطه وقت للرد بل أكملت:.
ليه اختارت جابر لما كان ممكن اختارك، وأنا عارفة إنك بتحبني ومتمسك بيا، وطلبت فرصة واحدة بس، وكده كده مكنتش مختارة جابر علشان بحبه، وكانت جوازة علشان مصالح الأهل، أكيد بتسأل نفسك السؤال ده، بس معقول مش عارف تسامحني على حاجة مش بتكون بإيد حد، عادي إني أقول لا، وعادي إني اخد قرارات غلط علشان احنا بشر، بس اللي مكانش عادي إني حتى بعد ما لجأتلك علشان تحميني من جابر أخليك تفضل حاسس إنك استبن في حياتي، وإني عايزاك موجود لمصلحتي وبس، أنا أسفة لو ده اللي وصلك، بس ده مكانش قصدي.
تنهد قبل أن يخبرها:.
لو مكنتش سامحتك على الأولى مكنتش ساعدتك تطلقي من جابر، اه كان غضبي عاميني، وكنت بسأل كتير لما كده كده هتتجوزي أي حد والسلام، ليه مفكرتيش لحظة تدي فرصة للي اشتراكي وطلب منك بدل المرة ألف، بس بعدين استوعبت إن كلنا من حقنا نقول لا، كلنا بناخد قرارات غلط، ونستحق غيرنا يدينا فرصة، بس اللي أنا مش قادر فعلا أنساه هو الإحساس اللي أنتِ لسه متكلمة عنه، رجعتي تدخلي حياتي وخلتيني أحس إني هنا علشان لو محتاجاني وبس، وأنا مش مضحي أوي علشان ابقى الشخص ده.
صرحت بألمها وهي تلقي على مسامعه:.
أنت كمان وجعتني لما قولتلي إنك تتجوزني عرفي، حسستني إني من الشارع، بس الحاجة الوحيدة اللي خلتني اسامحك إني عارفة إن ممكن أكون بالغلط وصلتلك إحساس إني مخلياك في حياتي بس لوقت احتاجك فيه، لو مكنتش سامحتك مكنتش طلبتك وقولتلك إني عايزاك جنبي في وقت صعب، لو مكنتش سامحتك مكنتش وافقت اتجوزك، حتى لو كنت بحبك، بس أنا والله مكانش قصدي إن يوصلك اللي وصلك ده، حتى لو ده كان صح، فده كان أول ما اتطلقت، لكن أنا فعلا حبيتك.
مسحت عبراتها وهي تقول بحزن:
بس الظاهر إن ده جه متأخر، بعد ما أنت بطلت تحبني، اتجوزتني بس علشان تحقق هدف طول عمرك كنت عايز توصله وخلاص، مش صح؟
هز رأسه نافيًا، فسألته ودموعها تأبى أن تفارقها:
يعني أنت لسه بتحبني.
زي أول مرة شوفتك فيها.
وكان قوله ساحرًا، نظراته ساحرة، حتى طريقة نطقه لهذه الكلمات، كل شيء الآن دفعها أن تتشبث به، ولا تعلم كيف فعلت هذا، ولكنها اقتربت منه وبادرت باحتضانه، تركت كل إنش بها يعبر عن أسفها، وجعلته هو مسحورًا تحت سطوة أفعالها، حضورها، وحتى أنفاسه سرقتها.
لا يزال الحديث محفورًا في رأسه، لم ينس عيسى كلمات محسن وهو يخبره أن والده و طاهر قاما باحتجاز شاكر، وصل أخيرا إلى المنزل بعد اللقاء مع بيريهان، أوقف سيارته ونزل توجه إلى غرفة مكتب والده، توقف وهو يرى تيسير تتوجه بالمشروبات ناحية الغرفة، وحاول أخذهم منها هاتفًا:
هدخلهم أنا.
بدا التوتر على وجهها وتمسكت بما في يديها قائلة:
لا، أدخلهم أنا، الحاج مبيحبش حد يدخل بالحاجة غيري.
طالعها عيسى رافعًا حاجبه الأيسر، ومد يديه
مساء الخير.
طالعوه بتوتر عدا والده الذي راقبه وهو يضع الحامل المعدني على الطاولة ثم توجه إلى الأريكة، جلس عليها وهو يستمع إلى قول طاهر:
كنت فين كده يا عيسى؟
ابتسم، ثم توجه ناحية البراد في غرفة والده أخذ منه زجاجة بداخلها مشروبه المفضل، عاد مكانه وهو يفتحها، وقبل أن يشرب منها نطق نصران بانزعاج:
ما ترد على أخوك.
طالعه عيسى مليًا قبل أن يوجه حديثه إلى طاهر:.
هو أنا مش سألتك بدل المرة اتنين، أنت والحاج بتعملوا حاجة من ورايا وقولت لا؟
فضل طاهر الصمت حتى حثه عيسى على الرد قائلا:
ما ترد.
أرد أقول إيه؟
كان هذا سؤال طاهر الذي جاوب عليه عيسى وهو يشملهم بنظراته:
تقول إن شاكر معاكم مثلا؟، ولا إيه يا عز؟
وقبل أن يرد عليه عز تحدث نصران بدلا عنه مواجهًا ابنه:
اه كان معانا يا عيسى، وأنا اللي قايل لطاهر وعز ميجيبوش سيرة، خلي كلامك معايا أنا.
لم يقل عيسى أي شيء بسبب تيسير التي دقت على الباب ثم دخلت بعد أن سمح لها والده، شعرت بتوتر الأجواء ولكنها قالت مضطرة:
حضرة الظابط مستني برا يا حاج، اجيبه على هنا؟
علت ضحكة عيسى وهو يهتف ناظرًا إلى والده:
ده في ظابط كمان.
حاول طاهر أن يوضح له الوضع حتى لا يتأزم الأمر بينه وبين والده، تحرك ناحيته وهو يقول:.
عيسى صدقني الحاج مكانش عايزك تدخل في أي حاجة من دي علشان كان شايف إن ظروفك مش أحسن حاجة، موضوع بشير، وقبلها مشكلتك مع ملك اللي لسه يا دوب بتفوق منها، أنا كنت مخلي واحد عينه على بيريهان ولقتها بتروح شقة كده، وعرفت بعدين إنه هناك فيها، و عز بعت واحد معرفة علشان يتأكد من الموضوع، ولما راح مفيش يومين ولقيناه بيكلمنا،.
وبيقول إنه لقاه هناك وبلغ والحكومة جت بس ميعرفش هرب ازاي، وقعد يحلف إنه مغفلش عنه لحظة بس احنا مصدقناهوش علشان محدش فينا قاله يعمل كده احنا بعتناه يتأكد بس إنه هناك، دورت ورا الموضوع عرفت إنه في ناس فعلا راحوا، بس فضلنا شاكين لحد ما الحاج سأل وعرف إن مفيش بلاغ ولا حاجة فجبنا الواد وطلع بيكدب، وكأن المشهد يعاد الآن هذا الذي عينه للمراقبة يقسم له:.
والله أمه شافتني، أنا مكنتش أعرف إنها خدت بالها، لحد ما لقيته في وشي، هددني لحد ما عرف الليلة وهو اللي قالي أقولكم إني بلغت، واداني فلوس أنا لسه مصرفتش منها مليم، بس أقسم بالله في ناس فعلا جم وسألت قالوا حكومة.
كان عيسى يستمع لما قيل بإنصات، وأكمل عز بدلا عن طاهر:.
كان عايز يكسب وقت ويضمن انه يخرج من غير ما نحط عينينا عليه، اتفق مش شوية من ال بتوعه وجم وعملوا المسلسل ده وهو خرج عادي، وفين وفين على ما نسأل بقى ونعرف ان مفيش حد بلغ اصلا ولا حد تبع البوليس راح، يكون هو اختفى في حتة جديدة.
لم يسأل كيف أتوا به، كان يستمع فقط وبين الحين والآخر يلقي النظرات على والده ولكن هذا لم يمنع طاهر من قول:.
احنا معرفناش نطوله غير بعد حادثة بشير بمدة، كنت متأكد إنه هيظهر علشان أخته، عز كان علطول هناك وشك في واحد إنه هو، كان بيحوم حوالين المستشفى، فضلنا وراه لحد ما عرفنا نوصله ونجيبه، مكانش هينفع نقولك كل ده يا عيسى وأنت لسه بتحاول تظبط دنيتك.
وللمرة الأولى منذ أن قصا عليه ما حدث يعلق هو:
ويا ترى اقدر أعرف ناويين على إيه ولا مش هيتقالي برضو؟
نطق عز بخيبة أمل متذكرًا فعلة والده:.
الحاج كان ناوي ينصبله كمين وكان هيسلمه بس يتأكد إن كل حاجة هتمشي مظبوط، بس أمي بقى الله يسامحها.
لم يدرك عيسى ما حدث وانتبه على صوت والده الذي قال:
في راجل مستنيني برا يا عيسى، تحب ندخله ولا نكمل مسايرة.
لا أحب امشي من هنا جدا.
عقب جملته استقام واقفًا، لم يستفسر عن البقية، قرر الانفراد بطاهر لاحقا، ولكن حين مر جوار والده مسك نصران بمرفقه، بان الرجاء في عينيه وهو يطالبه:.
لو أبوك ليه خاطر عندك ملكش دعوة باللي بيحصل، وأنا هعوزك وهقولك، بس هتعمل اللي أنا أقوله يا عيسى مش اللي دماغك رايداه، أنا من يوم الحادثة الغبرة دي مبقتش أعرف أنام، علشان خاطري يا بني.
أراد نصران جواب يريحه، ولكن قطع ذلك قدوم ابنته برفقة والدة عز، بدا التوتر على وجه رفيد وهي ترى اقتضابها، أسرع عز ناحية والدته التي أوقفته مكانه حين قالت:.
عز ملوش دعوة بأي حاجة تخص شاكر يا حاج نصران، أنا اللي مشيته، وأنا برضو اللي جاية وبطلب منك تبعد ابني عن أي حاجة تخص موضوعكم معاه، أنا مش مستغنية عن ابني.
وأنا يعني اللي مستغني عنه يا حاجة؟
هكذا لامها نصران وأكمل عتابه بقول:
مكانش عشمي فيكي تعملي اللي عملتيه.
بررت فعلتها بحزن لم يقدر حزمها على وأده:.
ولا أنا كان عشمي يتكسر قلبه، والست سهام تقولي أبعده عن بنتكم علشان مينفعهاش، ولا هو عز في الحزن مدعي وفي الفرح منسي.
حاول عز إيقاف والدته عن استرسال حديثها قائلا:
بس يا…
ولكن أسكته نصران بإشارة من يده وأكملت هي تقص الماضي على الحاضرين:.
أبوك زمان يا عز فدا الحاج نصران بروحه، وهو يقولك، والشهادة لله من بعد ما راح للي خلقه الحاج نصران مقصرش، بس أنا ابني غالي عندي يا حاج وأنا عارفة إنك هتعذرني علشان خايفة عليه.
أرادت رفيدة معرفة كيف قدم والده روحه لوالدها، ولكن السيدة لم توضح أي شيء أكثر، ولم تكمل بسبب تدخل عيسى الذي هتف:.
عز راجل وأبوه الله يرحمه راجل، وأي حاجة بتحصل كانت بين عز والحاج، حتى موضوع رفيدة الحاج نفسه وعد إنها لو وافقت هيجوزهم، الاتفاق مكانش مع الست سهام يا أم عز، وعموما الحاج عمره ما اعتبر عز حاجة غير ابنه فهو مش غالي عندك لوحدك، ويقدر عز يمشي معاكي طالما قررتي إنه ملوش دعوة باللي يخص الحاج.
أنا مش همشي يا عيسى، واللي يخصكم يخصني، افتكر إني كبير كفاية علشان احدد أنا عايز إيه، وأنا رقبتي ليك يا حاج نصران.
وقبل أن تنطق والدته أكمل هو وقد تشبثت عيناه برفيدة التي كانت تطالعه بحزن ولم تخرج من الغرفة حتى الآن، تعلم أنها تسببت في جرحه في اللقاء الأخير بينهما، استنكر أفعال والدتها وطلب منها استنكارها ولكنها خذلته، مترددة وتخشى كل شيء، تخشى البقاء معه، ويصيبها الذعر لمجرد فكرة أنها ليست معه، تارة تعطيه الأمل، وتارة تسحبه منه فيهوى صريعًا، لذلك وبلا ذرة تردد واحدة أخبر والدها:.
وبالنسبة لموضوع أنسة رفيدة اعتبره اتقفل يا حاج، ومهما كان اللي ردها واللي هيتقال منها أنا خلاص الحكاية دي بالنسبالي انتهت.
ورغم ثباته ولكن داهمه الحزن والألم وهو يرى الدموع في عينيها ونظراتها لوالدها وكأنها تستغيث، رأت حزن شقيقيها عليها، وعدم رضا والدها بسبب ما وصلت إليه الأوضاع ولكن لقد أخذ عز قراره، كانت ستعارضه، ستصرخ مدافعة عما بداخلها ولكن كان الأمر أصعب من أي شيء قابلته، فقط قررت الخروج من الغرفة وهي تجاهد لقول:
عن إذنكم.
كانت تصارع حتى لا تخذلها دموعها، ولكنها خذلتها وانتهى الأمر، وبالنسبة له كانت أمنيته أن تثور، أن تتمسك به وتعارض قراره حتى ولو لثانية واحدة ولكن الصمت ضاعف ألم جرحه وأنهاه هو وداخله يعاتبها بألم:
ياريتك اتكلمتي.
ساد صمت ثقيل بين الحاضرين، وكأنها أخذت معها كل الكلام الذي لم يُقال، صمت لا يقطعه سوى صدى خافت تركته خطواتها في الغرفة، وكأنها تودع كل ما كان يربطها بعز.
وقفت بدلا من والدتها في دكانهم ولكن شعرت مريم بالتعب، قررت غلق المحل والصعود إلى منزلهم ولكن منعها من ذلك تواجده، وفجأة أثناء غلقها للبوابة رأته أمامها هي التي تجنبت بكل الأشكال رؤيته الفترة السابقة، تحركت من مكانها متجاهلة وجوده ولكنه لحق بها، دخل خلفها مدخل منزلهم وهو يناديها طالبا بإصرار أن تسمعه:
مريم، ممكن نتكلم.
أشارت له ناحية البوابة وهي تجاهد حتى لا تفقد ثباتها وهي تقول:.
أنا افتكرتك زهقت حقيقي يا حسن من تصرفاتك دي، عموما ياريت تمشي.
ولم يستطع هو، تمسك بذراعها فطالعته بحدة ولكنه لم يعبأ بها، كان لديه إصرار على قول كل ما يريده وبالفعل نطقت عيناه قبل فمهِ:
اديني فرصة بس يا مريم، فرصة واحدة بس، أنتِ بقالك أكتر من سنة بعيدة، مقدرتيش تسامحي.
قادر على جعلها تقف على حافة الجنون وبان هذا في انفعالها وهي ترد:.
أسامحك على إيه؟، على إنك كنت بتضحك عليا، ولا على اللي كنت بتعرفهم كل يوم، أنت محبتنيش يا حسن، …
ولم يجعلها تكمل، قاطعها هو يقسم لها بكل ذرة فيه أنه أحبها:
لا، مريم أنا حبيتك، وعارف إني مكنتش استاهلك، بس أنا بطلت كل حاجة عارف إنها كانت بتأذيكي، أنتِ مش حاسة إني اتغيرت، مش حاسة إني استاهل تديني فرصة واحدة بس.
رأى الدموع في عينيها تأبى النزول رافقت إصرارها وهي تخبره:.
لا مش حاسة إن ينفع يكون لينا فرصة تانية حتى لو أنت اتغيرت للأحسن علشان أنا بقى اتغيرت للأوحش، أنا مبقتش أثق في أي حد يقولي كلمة حلوة، بقيت طول الوقت أقول لنفسي ليه ميكونش الكلام ده كذب، ليه ميكونش مجاملة، أنا مش هقدر أثق فيك تاني، ياريت تفضل بعيد لإننا مضطرين نكون في حياة بعض بسبب أخواتنا فعلشان نقدر نحترم بعض مش عايزاك تتكلم تاني في الموضوع ده نهائي.
وكأنها تسحب روحه بكلماتها الآن، بان هذا على وجهه، أنفاسه المتسارعة، وعدم تقبله لفكرة أنها لن تكون معه وحديثه في هذه اللحظة ونظراته تحتضنها:
أنا مش هقدر يا مريم، أنا لما سمعت إنك هتتخطبي كنت هتجنن، مكنتش بنام، ولا جالي نوم إلا لما عرفت إنكم رفضتوه.
حاولت سحب يدها والهروب إلى الأعلى ولكنه لم يعطها الفرصة، كان لديه من التصميم ما يكفي ليكمل حديثه:.
مش هقدر أشوفك مع حد غيري، مش هستحمل فكرة إن حد تاني يبقى في حياتك بدالي، أنا كده مش هرتاح طول عمري يا مريم…
ابتلع غصة مريرة في حلقه، ورأت هي أيضا الدموع في عينيه وهو يقول ما لم ينهه:
أنا مش هرتاح غير معاكي،
أرجوكي يا مريم حاولي.
مش هقدر
همست بها وأخيرًا تحررت، في لحظتها هرولت إلى الأعلى تركته مكانه يطالع أثرها بخيبة، بقى لثوان قبل أن يتنهد ويمسح دموعه.
أتت شهد في هذا التوقيت، دخلت للتو مدخل منزلهم فوجدته أمامها، طالعته باستغراب قبل أن تقول بشك:
خير يا حسن، واقف هنا ليه؟
رد عليها باقتضاب قبل أن يخرج:
مفيش حاجة.
قطعت طريقه تسأله باستهجان:
هو إيه اللي مفيش، واقف هنا ليه؟، مستني مين؟
مش مستني، ووسعي من سكتي يا شهد.
هكذا قال بضجر، وردت هي غير عابئة بطريقته:
طب اسمع ياريت متقفش هنا تاني من غير لزوم، وياريت برضو توسع أنت من سكة مريم.
كان في أوج غضبه فعلق على قولها مقررا الشجار:
وأنتِ مالك حد كان عينك ولية أمرها.
نجح في إثارة استفزازها وبان هذا في قولها:
اه عينوني، وتاني مرة هروح اشتكيك للحاج، وهو بقى يبقى يتصرف معاك، مش هو ولي أمرك برضو.
ضرب على البوابة الحديدية وهو ينطق بضجر:
ده أنتِ مستفزة.
قالها وخرج وهو يسمعها تردد من خلفه:
عيب يا حسن تكلم مرات أخوك كده.
أشاح بذراعه وهو يسمعها تكمل متوعدة:
والله العظيم لأكون قايلة لطاهر.
ثم تحركت ناحية الدرج لتصعد إلى الأعلى وهي تدندن:
ده الحب عذاب وحيرة صحيح.
وفي داخلها قررت الانفراد بشقيقتها لمعرفة سبب مجيئه إلى هنا.
كانت ملك مسترخية في غرفتها، لم يقطع راحتها سوى الدق على الباب، ظنتها تيسير فسمحت لها بالدخول ولكنها تفاجأت بسهام، اعتدلت تطالعها منتظرة معرفة ما أتت لأجله حتى سمعتها تقول:
مبروك يا ملك، معرفتش أقولهالك لما سمعت الخبر من عيسى يوم ما جمعنا.
ابتسمت بهدوء وهي ترد مباركتها قائلة:
الله يبارك فيكي.
ولم تكد تنهي جملتها حتى وجدت عيسى قد أتى، طالعته ملك أولا، وسأل هو بعينيه عن سبب تواجد زوجة والده فقالت:.
كنت جاية أبارك لملك.
تركتهما ملك لتجاوب على هاتفها الذي علا رنينه، وبقى هو، إن أكثر ما يبغضه أنه يرى الكذب في عين زوجة والده، كل محاولاتها هذه تصيبه بالاشمئزاز، وصل إلى أذنيها سؤاله الذي لا علاقة له بتاتا بمباركتها وهو يطالعها بابتسامة:
تعرفي عنتره؟
ها؟
سألته بعدم فهم فرد عليها بنفس ابتسامته:
إن الأفاعي وإن لانت ملامسُها، عند التقلب في أنيابها العطبُ.
ألقى عليها قول عنترة بابتسامة ثم أكمل:.
الحاج غالبا عايزك، أصله عرف باللي قولتيه لأم عز، أنا قولتلك أهو قبل ما يندهلك، جهزي الدموع بقى وأول ما ينده هلحقك بالمناديل علطول.
طالعته بانزعاج وألقت على مسامعه قبل خروجها:
هيفضل اللي فيك فيك.
ابتسم بتسلية، وجلس في انتظار أن تنهي ملك مكالمتها، حتى يذهبا للطبيب سويًا، من جديد سمع دق على الباب فعلا صوته سائلا:
أنتِ لحقتي، أجيب المناديل ولا إيه؟
أنا يزيد.
استقام واقفا بمجرد أن سمع صوته، فتح له الباب ومال ليصل إلى مستواه وهو يسأله بابتسامة:
نعم؟، وحشتك؟
هو الصغير رأسه مؤكدا مما جعل ابتسامة عيسى تتسم، أجلسه جواره ثم سمعه يقول:
بابا قال إن أنت كمان هتبقى بابا، أنت هتحب ابنك أكتر؟
لم يعتد على مثل هذه الأسئلة، نظر إلى الصغير وحاول معرفة ما يدور في عقله بسؤال:
يزيد باشا يحب إيه؟
تحبني أنا أكتر.
كان هذا جواب الصغير فطالبه عيسى وكأنه يستجديه:.
طب ينفع نحبه هو كمان حبة صغيرين؟، حرام يا يزيد.
هز يزيد رأسه موافقًا، واستكمل عيسى:
أنا مش عارف هي بنت ولا ولد، بس في أي حالة أنت هتبقى الأخ الكبير، يعني المفروض بقى هتحب اللي جاي ده، و تخاف عليه أوي، ولما يدخل معاك المدرسة لو حد زعله هتجيلي و نزعل اللي زعله مع بعض، مش كده؟
أيوه، وأنا هعمله كل حاجة، ممكن يبقى يبات معايا في الأوضة بتاعتي كمان.
أخبره يزيد بحماس عن تطلعاته، ومال هو على رأسه يقبلها بابتسامة، سبب أساسي في رغبته أن يشعر بالأبوة كان يزيد، يحبه ويحب الطريقة التي يعامل بها طاهر ابنه، ويتمنى لو كان مثل طاهر، يتمنى أن يصبح في يوم أبا رائعا مثله.
في الأونة الأخيرة تحسنت حالة منصور بعد متابعة الطبيب الذي أحضره ابنه، لم تعد رزان تفهم زوجها، تارة ناقم على منصور يود لو أحرقه ويتسبب في اتهامه بالجنون، وتارة يشفق عليه ويستدعي له الطبيب، دخلت بالطعام إلى منصور الذي سألها:
جابر فين؟
بيشوف أشغالكم يا حاج.
أخبرته بهذا ثم استمعت له يقول:
وأنا هفضل محبوس هنا؟
ابتسمت له وهي تلقي على مسامعه قول:
ابقى اسأل جابر.
طالعها باشمئزاز وكيل لها التهم:.
من يوم ما دخلتي البيت ده وأنتِ خربتيه، قلبتي ابني عليا، خلتيه ي…
قاطعته صائحة باستنكار:
جرا إيه يا حاج، هو اللي فيها تجيبه فيك ولا إيه؟، أنا مالي باللي بينك وبين ابنك، وبعدين مش لما يبقى ابنك أصلا.
ابني غصب عن أي حد.
قالها بإصرار، أما هي فلمعت فكرة في رأسها وبغتة أخبرته بابتسامة:
لا مش ابنك، هو عرف مين أبوه على فكرة، عرف الحقيقة كاملة من عند الست كوثر أم شاكر.
بمجرد أن قالت هذا جن جنونه، صاح رافضًا ما قالته كوثر من قبل أن يعرفه:
لا، كدابة، كل اللي قالته كدب.
وعلقت رزان على قوله هاتفة:
الله يا حاج وهو أنت كنت عرفت اللي قالته، بس عموما جابر مصدقها على الآخر.
تابعت انهياره وهو يؤكد كذب كوثر، خشت عليه فلقد أخبرهم الطبيب أن حالته لم تستقر تماما بعد إثر العقاقير التي كان يجعله ابنه يتناولها طوال الفترة الماضية، حاولت أن تجعله يهدأ ولكن أكمل بإصرار:.
مش ابنه هو، هي عايزة توقع بيننا، تلاقيها عايزاه يلحقها فبتكدب عليه، ده ابني أنا هي كدابة، هي كدابة
سعت رزان لإبعاده عن هذه الحالة ولكنه وصل لذروة ثورته، يؤكد بلا توقف:
كدابة.
أمسك برأسه إثر الألم وتابع بضياع:
ابني أنا مش ابن جوزها.
هنا سقطت الصدمة على رأس رزان، طالعته بإنكار، لا تصدق ما تفوه به للتو، إن ما يقوله خطير للغاية، من الأفضل أن يكون هذا الحديث محض خرافة، الخرافة أفضل بكثير من معرفة زوجها بأنه شقيق شاكر مهدي، بالتأكيد الخرافة أفضل من كل هذا.
سعادتها لا توصف وهي تستمع لتعليمات الطبيبة من أجل الاعتناء بطفلها القادم، وهو يجاورها، لا يتركها لحظة، يتابع بشغف كل كلمة تتفوه لها الطبيبة واستمر في أسئلته عن حالة زوجته، وعما يجب عليه فعله، لا يترك تفصيلة واحدة مما جعلها تعلق مخاطبة ملك:
شكله بيحبك أوي.
ابتسمت لها ملك، غادرا سويًا من عيادتها بعد انتهاء الفحص، وما إن ركبت السيارة جواره حتى سألته:
مبسوط؟
تناول كفها قبل باطنه وهو يصرح:.
أسعد واحد في الدنيا.
طب أنا عايزة اقعد على البحر شوية، ينفع؟
سألته وهز هو رأسه مؤكدا بابتسامة:
أنتِ تؤمري.
حقق لها مرادها، وصل بها إلى حيث طلبت، أمام البحر، جلست على أحد المقاعد الخشبية وجاورها هو، لم يكن يعلم ماذا يقول، ولكنه يعلم أنه سعيد وبشدة، وبان هذا في تعليقها:
شكلك حلو وأنت فرحان، شكلك حلو علطول أصلا.
ضحك على قولها، وحذرها:
هتغر كده.
أنت لسه هتتغر، هتعمل فينا إيه تاني؟
قالت هذا ضاحكة هي الأخرى، وانتبهت أنه يطالع هاتفه، رسالة من والده يخبره فيها أنه يحتاجه في أمر هام ويسأله عن مكان تواجده، تنهد بعد أن قرأها ثم طلب منها:
تعالي نتصور.
حاوطها بذراع وأمسك الهاتف بالأخر حتى يلتقط الصورة، اتسعت ابتسامتها وهي تنظر له بعد أن التقط الصورة الأولى، فالتقط الثانية وهي تطالعه هكذا، أرسل الصورتين لوالده الذي سعد ما إن طالعهما، سعادته لا توصف براحة ابنه أخيرًا جوارها، انتبه عيسى على صوت ملك التي طالبته:
عيسى هو احنا ممكن نروح لماما شوية، يوم ما اتجمعنا كده احنا مشينا علطول علشانك، وهي حتى اتخضت من…
قاطعها سائلا بغيظ:
اتخضت إنك حامل؟
طب أعمل إيه؟، أروح أقولها أنا أسف إن بنتك حامل مني.
أبدت اعتراضها على حديثه قائلة:
لا طبعا أنا مقولتش تقول كده، بس هي اتخضت علشان كانت عارفة ان الدنيا لسه مش مستقرة، وأنا كنت قايلالها إني مأجلة الموضوع، فاتصدمت، وبعدين يا عيسى بطل تعامل ماما الند بالند، أنا بتضايق جدا.
ظنته سيعترض ولكن على عكس توقعاتها هتف:.
أمك دي حبيبتي، هنروحلها حاضر، وهشوفها لو مش راضية عني، ولو طلعت مش راضية، هرمي نفسي قصاد أول عربية تقابلني.
رأى الضيق في عينيها فقال بابتسامة:
بهزر يا ستي، هيبقى أنتِ وهي، عموما شوفي عايزة نروح امتى وأنا معاكي.
وأخيرا رضت هي، ثم عادت للأسئلة من جديد:
هو أنت في حاجة مضايقاك، حسيتك النهاردة مش كويس بس معرفتش اسألك.
غمز لها قائلا:
متشغليش بالك.
بس أنا عايزة أعرف.
ورد هو بما يتمناه:.
وأنا عايز أفصل معاكي، وعايزك تطمني.
ذهب إلى حوار أخر يسألها بشغف ممازحًا:
قوليلي صحيح، نفسك مش رايحة لأي حاجة، اطلبي واتمني.
اتسعت ضحكتها وهي ترد:
اه قصدك وحم يعني؟
هز رأسه مؤكدا، وأكملت هي بنفس الضحكة:
عارف الطوب الأحمر الكبير ده.
طالعها باستغراب وأكملت هي:
بيبقى ليه ريحة كده، أنا بقى من كتر ما حابة ريحته نفسي أكل واحدة.
واحدة إيه، ده أنا اللي هفتح دماغك بقالب طوب دلوقتي، أنا قاري على النت، مش ده اللي بيتوحموا عليه.
هكذا علق على طلبها، وأبدت هي اعتراضها قائلة:
أعمل إيه يعني، ما هو غصب عني.
ثم أتى في رأسها شيء آخر فأسرعت تخبره:
طب بص أنا نفسي في مسقعة بس أنت اللي تعملهالي.
ولم يرض هو عن ذلك:
أنا مبعرفش أعملها، ومباكلش أي حاجة البتنجان داخل فيها، وتاني حاجة ممكن تيسير تعملها.
أنت اللي تعملها، يا كده يا بلاش، وعلى فكرة لو معملتهاش ابنك ولا بنتك هيطلعلهم مسقعة.
وأمام ما أخبرته به علق هو باستنكار:
يطلعلهم مسقعة ازاي يعني، أنتِ قاعدة تألفي وخلاص، وعلى فكرة بقى حكاية إن اللي مبتاكلش اللي نفسها فيه بتطلع علامة للعيل دي خرافة.
حذرته مما قاله هاتفة:
إياك تقول كده تاني، دي مش خرافات، أنا ماما اتوحمت فيا على تفاح، ومأكلتهوش طلعلي علامة على شكله.
ولم تتوقع هي أن تسمعه يسأل بابتسامة:.
فين العلامة دي؟ أنا مشوفتهاش.
كانت ستجيب ولكنها أدركت من نظراته أن نيته ليست صافية فجاوبته بابتسامة صفراء:
في كوعي.
بدت خيبة الأمل على وجهه وهو يكرر خلفها:
كوعك!، لا ربنا يخليهالك.
ضحكت على هيئته، ثم وجدته بغتة يميل عليها محاصرًا إياها بسؤاله:
في كوعك بجد؟
أبعدته وهي تحاول التوقف عن الضحك حتى لا ينتبه لهما أحد وأصر هو عليها حتى تصدقه القول:
احلفي إنها في كوعك.
قطعت ضحكاتها وهي تهز رأسها نافية وتخاطبه:.
لا مش هحلف، واسكت بقى.
طب اعرف هي فين، وهعمل المسقعة، علشان أصدق بس في موضوع الوحم ده، يرضيكي أفضل فاكره خرافة.
وأمام مساومته هذه هتفت:
ده أنت بتساومني بقى، طب عموما أنا مش عايزاك تصدق، وهتعمل المسقعة غصب عنك، لازم تبقى أب مضحي، علشان ابنك أو بنتك يفتخروا بيك.
طالعها بضجر سائلا:
وهي المسقعة اللي هتخليهم يفتخروا بيا؟
حركت رأسها مؤكدة ذلك، واستقامت واقفة وهي تحثه:
يلا علشان نشتري البتنجان.
ولم يقم هو بل أبدى رفضه بقول:
يعنى هترسى على بتنجان ومسقعة في الأخر، طب خليكي في التفاح زي الست هادية وهجبلك كل التفاح اللي في السوق.
أصرت على طلبها فرضخ في النهاية لها هاتفًا:
أمري لله.
تحرك معها ناحية سيارته وهو يقول بتسلية:
بس أنا على فكرة مش هسكت غير لما أعرف فين.
هو إيه ده؟
سألته بنظرة محذرة ورد هو ببراءة برع في تمثيلها:
البتنجان علشان أعمل المسقعة.
ضحكت وهي تحرك رأسها بمعنى ألا فائدة منه، أحضر في طريقه ما أراد، وحين ذهبا إلى المنزل طلب منها:
تعالي نطلع شقتنا أحسن.
وافقت، وغمز لها هو بابتسامة رافعًا حقيبة المشتريات:
هفتتحلك المطبخ.
ضحكت وهي تتعلق بذراعه، صعدت معه، تطالع كل شيء بحب، هنا حيث قال أنه صنع كل إنش خصيصًا لأجلها، مسح هو على عنقه بإرهاق وهو يقترح:
أنا بقول ننام وابقى اعملها بكرا.
رمقته بنظرات محذرة، فرفع يديه باستسلام راضيًا:.
خلاص هدخل اعملها، ولا كإني قولت حاجة، ينفع أغير هدومي الأول طيب ولا مش مسموح برضو؟
صمتت وكأنها تقيم الأمر ثم أعطته التصريح:
لا ممكن تغيرها وتبدأ بعدها.
ده إيه كرم الأخلاق ده كله، هتعوديني على الدلع كده.
قال هذا بسخرية وهو يتحرك إلى الغرفة من أجل تبديل ملابسه، لم يستغرق الأمر الكثير حتى يقف في المطبخ من أجل إعداد ما أرادت، فتح هاتفه وبدأ البحث، وصل إلى أحد الفيديوهات وبعد أن استمع لدقيقة ونصف منه علق:.
أنتِ عمالة تعكي، شوية قطعوا البتنجان حلقات وشوية خلوه صوابع، مش ناقصين تردد يا ستي.
أغلق الفيديو وحاول إيجاد غيره، وصل بالفعل إلى وصفة ترضيه، اتبع الخطوات بدقة ووصل إلى نتيجة مرضية بعد ساعة تقريبًا، ابتسم برضا، ووضع في طبق من أجلها، وقرر الذهاب به إلى غرفتهما، وما إن دخل حتى وجدها نائمة، فاعترض:
لا ما هو مش بعد كل التعب ده متدوقيهاش وتنامي.
جلس جوارها على الفراش، حاول إيقاظها ولكنها لم تفق كليًا وهي تسمعه:
قومي عملتلك المسقعة.
وبصعوبة نطقت:
بكرا.
بانت خيبة الأمل على وجهه ولكنها اختفت تماما حين طالبته بالتمدد جوارها، نفذ رغبتها فاحتضنته، كانت بين النوم واليقظة، سمعها تقول وهي تدفن وجهها في عنقه:
بحبك أوي.
مسح على خصلاتها بحنان، وأكملت هي تناديه:
عيسى.
طالعها، رأى عينيها مغلقتين وتسأل رغم نومها:
ريحة قسمت جت في هدومك ليه؟
وتبع السؤال سؤال:.
مين أكتر حد بتحبه في حياتك؟
ضحك على أفعالها هذه وحثها:
نامي يا ملك، ده أنتِ ضايعة خالص.
أنا ولا ميرڤت؟
حتى خالته في هذه اللحظة أصبحت خصم لها، وتابعت:
أنت لو جت بنت، هتحب مين فينا أكتر؟
وشدت من احتضانه أكثر وهي تطالبه:
رد على أي سؤال منهم.
وأتتها الإجابة التي جعلتها تبتسم راضية:
بحبك أنتِ، أنا بحب عيسى كمان أوي على فكرة، بس من فترة اكتشفت اكتشاف خطير.
مسحت على وجهه سائلة:
هو إيه؟
افتحي عينك وأنا هقولك.
كان هذا طلبه، وبالفعل فتحت هي عينيها الناعسنين، بهما سحر لا يفشل أبدا في أسره، لا يفشل في جعله يهوى في هواها هو الذي حارب يوما الهوى وظنه وهمًا، وتحت سطوة عينيها همس:
اكتشفت إني بحبك أكتر منه، مفيش عيسى من غيرك، هيبقى نسخة باهتة من أصل عندك أنتِ وبس.
ابتسمت بحنان وهي تخبره:
كلامك جميل، وأنت جميل، أنت روحي يا عيسى.
وغفت على كتفه، يصل إلى أذنيها دقات فؤاده، وبدون أن ينطق كانت هذه الدقات كافية لإعلان كم يهواها، وعنده كل الهوى مر إلا هواها هي.
كانت نائمة وللدقة إنها كانت تتصنع النوم حتى دخلت شهد إلى الغرفة ونادتها:
مريم.
هربت ولم ترد فنبهتها شقيقتها:
أنا عارفة إنك صاحية.
اعتدلت على الفراش تطالع شهد بصمت حتى استمعت إلى سؤالها:
حسن كان تحت ليه؟، مش كنا قفلناه الموضوع ده و…
لم تكمل كلماتها بسبب رؤيتها دموع شقيقتها، هرولت ناحيتها تحتضنها طالبة منها الهدوء:
بس، بس، بتعيطي على إيه يا خايبة؟
ولم تهدأ فطالبتها شهد برجاء:.
طب خلاص متفكريش في أي حاجة، مش مهم.
وأخيرًا سكنت تماما، سألتها شهد بحيرة:
هو طلب منك ترجعوا؟، أنتِ عايزة تديه فرصة؟
سرحت مريم في ذكرى تحفظها عن ظهر قلب، المرسم الخاص به، صورتها هناك، مرر حلاوة ما تذكرته أكاذيبه التي اكتشفتها، كيف غدر بها، يؤلمها فؤادها، لا تستطيع مسامحته، أخيرا انتبهت لشقيقتها ولسؤالها الذي كررته فهزت رأسها نافية وهي تجاوب:.
لا يا شهد الموضوع ده خلاص اتقفل بالنسبالي، ومن زمان مش من دلوقتي، وحتى لو أنا مجروحة بسببه شوية وهفوق.
تنهدت عقب قولها هذا، وحاولت الاسترخاء في حضن شقيقتها، حتى علا صوت هاتف شهد برقم طاهر، طالبها بأن تنزل له، استأذنت والدتها، ونزلت، قلقت بشدة وهي ترى الإرهاق البادي على وجهه فسألته:
أنت تعبان؟
تعالي نقعد في أي حتة.
طالبها برجاء، ووافقت هي، ذهبت معه إلى حيث كان دائما يفضل المكوث معها، هذا السور كانا يجلسا عليه سويًا، ولكن المكان له معها ذكرى سيئة يوم أن اتهمها بخطف ابنه، شعر بالتغير البادي على تعابيرها، فمسح على كفها معترفًا بخطأه للمرة الألف:
أنا حمار.
هزت رأسها مؤكدة وأكملت وهي تطالعه بحزن:
ومكانش عندك نظر، بس بحبك وهقبلك على عيبك وخلاص.
ضحك على قولها، ثم رفعها لتجلس على السور كما اعتادت وجلس جوارها، هنا فقط طالبته بأن يخبرها ما حدث ويسبب حالته هذه، تحدث بخيبة:.
كنت بعمل حاجة كبيرة هتريحنا كلنا، وبسببها مبنامش، وبعد ترتيب كتير فجأة ضاعت، حاسس إني مش مستحمل أي حاجة، طول الوقت بفكر لما دماغي هتقف، أنا بقيت بعذر عيسى، ده الله يكون في عونه على كمية الحاجات اللي كانت في دماغه، أنا مبقدرش أنام من القلق، امبارح روحت أوضة يزيد قولت جايز لما احضنه اتطمن وأبطل تفكير، بس معرفتش.
صرح بأوجاعه، وتأثرت هي حقا، اقتربت منه أكثر طالبة بابتسامة:
نام على كتفي.
أراح رأسه على كتفها وكأنه كان ينتظر قولها، وبدأت هي في المسح على خصلاته قائلة بمزاح:
طاهر نمت؟
أنا لحقت؟
سألها ضاحكًا فعلقت هي:
طب يلا نام يا كابتن.
في نفس التوقيت وفي بيت دلت هيئته على الفخامة، استرخى شاكر داخل إحدى الغرف بإعياء شديد، ما مر به في الأيام السابقة ليس بهين، صورة بيريهان لا تفارقه، لا يدري كيف حالها الآن، يعلم أنه سبب لها جرح لن تنساه أبدًا، قطع خلوته دخول أحدهم، اعتدل ما إن القادم، وسأل بتعب:
خير يا باشا، مش اتفقنا هتسيبني ارتاح شوية.
أنا عايز اعرف أنت جايلي ليه، وبعدين هو أنت ازاي موجود، أنا معزي حماك فيك.
هكذا سأله الجالس أمامه وعند هذه النقطة بالتحديد تحدث شاكر وهو يدلك عنقه بألم:
ياه عزيته بنفسك، سبحان الله مع إنك تطيق العمى ولا تطيقه.
انفعل الرجل وهدده:
خلص وقول عايز إيه، وإلا هطردك دلوقتي.
تسفرني برا، مش عايز أكتر من كده.
أخبره شاكر بمطالبه ببساطة وكأنه يتحدث عن أحوال الطقس، مما أثار غضب الرجل وقبل أن تثور ثورته أكمل شاكر:.
تساعدني في كده، هساعدك تطير حمايا العزيز من الوزارة، وأنا إنك عشمان في مكانه ومستني فرصة يقع.
وأمام عرضه المغري هذا صمت، فابتسم شاكر وهو يعاود التمدد على فراشه.
تمر الأيام ومع مرورها تسرق من الجميع لحظات غالية
أحيانًا نسعد، وأخرى نتألم ولكن هناك آلام تفتك بنا، تتسبب في ضياعنا، وتسحب أنفاسنا، واحد من هذ الآلام تعايشه ملك وهي ترى ما تمنت ألا تراه مرة ثانية أبدًا، ترى شاكر، وترى الخطر المحيط بها، وفوق آلامها هناك ألم أخر ضاعف خوفها، ألم من حيث يكمن جنينها، وكليلة سابقة تعيش الآن شعور لا تنساه أبدًا، ترى فقدان روحها ورغم ذلك مازالت على قيد الحياة.
التعليقات