رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الرابع
لا مناص من عواصف الحُب.
هذه كانت أول جُملة كتبتها بدفتر يومياتها قبل أن تعلن حُبها وشغفها المتوقد للكتابة، جملة عفوية كُتبت بسن قلم فتاة مراهقة واجهت أول خلاف مع حبيبها بسبب فستانها القصير الذي لم يرق له، كانت الكارثة كلها في شُحه بكلمات المغازلة عند إقبالها إليه بلهفة. صفعها بندبة النقد وأنه لا يليق بحبيبته أن ترتدي فستانا مثل هذا وأعلن الخصام بينهما إثر عنادها وتمسكها برأيها وعزتها التي تمنعها من الرضوخ لأوامر بشر انها ابنة المعلم قنديل المصري.
وبعد ثلاثة أيام من وقتها و بما تشمله من ساعات جمح الشوق والحزن بقلبها الذي هُجر ولم تجد وسيلة لإرضاء كبريائها و للتعبير عن تلك النيران الحارقة بفؤادها إلا بالكتابة. ولقد كان. باتت تعاني من نفس الألم مع اختلاف الموقف!
عودة للوقت الحالي.
تسير بالشوارع بأعينها الضبابية التي لا ترى إلا الخذلان والهزيمة. لقد كسرت عواصف الحُب جناحي الفراشة التي ظلت طويلًا تحافظ عليهما، حلقة مفرغة من مزيج أحداث الماضي والحاضر للحد الذي تمنت فيه لو لم تكبر أبدًا وظلت سجينة ذلك الفستان القصير وملازمة الشُرفة لتلصص النظر من حبيبها السري.
أصابها دوار الانكسار فجلست على أقرب مقعد عام قابلها وأخرجت هاتفها كمحاولة أخيرة لإنقاذ حُبها. تفقدت قائمة الأسماء حتى عثرت على مبتغاها. صوت رنين الاتصال كان يتناسب طرديًا مع دقات قلبها حتى ردت متلهفة:
-حنان! معاكي حياة المصري فاكراني! كنتِ متابعة حالتي من 6 شهور.
عقدت الممرضة حاجبيها محاولة منها للتذكر:
-مدام حياة! مش حضرتك مراة عاصي بيه صديق الدكتور فكري!
ردت ملهوفة: -ايوة أنا. الحمدلله إنك افتكرتي.
جاملتها الممرضة قائلة: -أحنا مانقدرش ننسى الناس الحلوة زي حضرتك. أومري.
صمتت لبرهة وكأنها تريد أن تغتال صوت القلق بداخلها: -قوليلي ؛ أنتوا الطبيعي في المستشفى عندكم بعد عملية الإجهاض، الدكتور بيعلق وسيلة منع حمل للمريضة عشان، عشان صحتها وكده لحد ما تسترد عافيتها الأول.
ثم زاحت خصلات شعرها عن وجهها بارتباك ملحوظ: -كنت سمعت حاجة زي كده!
قلبت الممرضة في سجل المرضى اللاتي تابعت حالتهن حتى عثرت على التقارير الخاصة بحالة حياة، أخذت تتطلع عليها بأعينها الصامتة ثم قالت بتلقائية:
-لا يافندم، المستشفى متقدرش تعمل حاجة زي كده بدون رغبة المريضة.
تأرجحت أعينها المسابحة في الدموع: -كنت لسه عند دكتورة النسا واتفاجأت بالموضوع ده، عشان كده بسألك ؛ ممكن تكون حاجة طبيعية او سيستم المستشفى.
قلبت الممرضة حنان الصفحة التاليه على الشاشة الالكترونية أمامها: -هو هنا في إقرار وإخلاء مسئولية من المستشفى بوسيلة منع حمل والإقرار ماضي عليه عاصي بيه. يعني المستشفى ملهاش دخل.
طحن خنجر الحقيقة بقلبها وبتر أرجل أملها الأخير، سالت العبرات المختبأة بمقلتيها لتحفر وديانًا على وجنتيها وانساب الحزن الجارف بجوفها، ردت بخفوت:
-تمام، تمام يا حنان. مرسيي.
تفوهت حنان وكأنها تذكرت شيء ما: -افتكرت حاجة كمان، أصل أنا كنت مستغربة الإقرار ده، بس لما دكتور فكري أكد علينا محدش يجيب لك سيرة، قولت عشان كدا، وو مدام حياة!
سقط الهاتف من يدها المرتعشة وهي تنحب بصمت، فكانت الهزيمة ساحقة حتى صوتها هُزم وفقدتها بجملة خساراتها، دفنت ملامحها بين راحتي يدها غارقة في بحر الاسئلة العقيمة التي لا تنجب جوابًا واحدًا يصلح الأمر.
تمر الأيام وتتوالى الصدمات ونظن أن كل شيء قد مضى معها ولكن ها هي جذور الحزن دومًا ما تنجو من جميع التقلبات المناخية ولكننا لم ننج من ألمها أبدًا، فهي راسخة ثابتة بقلوبنا لاتزول.
ليتني لم أحبك، حبك الذي ظننته عوضًا تحول لعقابٍ.
ليتني لم ألقاك حتى ولو صدفة لأنه حتمًا كُنت سأقع ببئرك رغمًا عني.
ليتني لم أتعثر بتلك الأعين الماكرة التي راوغت حارس قلبي ليفتح لهما ألف باب وباب.
ياليتني لم استرجع ذاكرتي أبداً واتمنى ولو افقدها كل يوم وكل ساعة كنت فيها جارك.
ليتني لم أتذوق ملاذ قُربك الذي رفع سقف طموح الحب بقلبي حتى بات لن يرضيه سواك. ليتني لم أعيش لحظات سعادتي المحدودة معك فقد تحول كل شيء لوجع دائم لا ينتهي.
ياليت الليت يكن فيرحمني من قسوة كل ما هو آتٍ بدونك.
تفاقمت الآلام بها حتى ملأت أرض وسماء روحها، وباتت عبراتها ما هي إلا قطرات من مطر على أرض قاحلة لا تُجدي نفعًا وأن تسرب النهر كله إليها. تقبلت فكرة هزيمتها الأبدية للحب، وأنه لم يُخلق لها وعليها أن تتقبل الأمر بكامل الرضا كي تصمد. ولكن توقفت على شفا القرار متسائلة كيف ستبدأ من جديد! كيف ستبدأ من جديد بدونه!
لم ينته التساؤل حتى ملأ اسمه شاشة هاتفها المرمى جار قدمها ذو الأصبع المتكورة، بنظرة وداع أخيرة هزمت جيوش قلبها تناولت الهاتف وبزر القفل أسودت الشاشة التي تعلن باتصاله كما أسودت حياتها بأنانيته، أغمضت جفونها متوعدة وعائدة من ساحة الهزيمة للتو: -خلصت خلاص يا عاصي.
عجبًا لأمر الحب، تارة يخلق لنا أجنحة لم تسعها براح العالم، وطورًا ما يجعلنا نخطو الأيام زحفًا كي تمضي!
تقدمت سيارة تميم لداخل دهليز قصر دويدار وخلفه سيارة سوداء تحمل بعض الرجال الذين أخصهم عاصي بحراسة أخيه وعائلته. رمقته شمس بأخر نظراتها الرافضة للأمر وقالت: -مش حاسة إنه صح! بس عشان خاطري حاول تكون هادي. تمام!
تدخلت نوران بحماس وهي تربت على كتفه: -سيبك من شمس دي خوافة، أنا في ضهرك متقلقش.
دارت شمس لأختها التي تجلس بالمقعد الخلفى: -أنتِ بالذات مالكيش دعوة بحد، إحنا مش عارفين الناس اللي جوه دول طبعهم أيه ولا ناويين لنا على أيه.
عارضتها نوران بإصرارٍ: -أنا جاية هنا بتوصية من القيادة العليا، يعني اللي يقف قدامي مش هسمي عليه.
تأففت شمس بتهكم وهي تطالع تميم: -قابل بقا، مش هنخلص.
رد تميم ممازحًا: -وتوصية مني كمان، يعني خدي راحتك يا نور.
-أنتَ كمان يا تميم!
انقطع الحديث الدائر بينهم إثر الصخب الناشئ خلفهم، إذا برجال شاهين يتشاجرون مع رجال عاصي ويمنعونهم من الدخول، هبط تميم من سيارته مسرعًا وهو يصيح معترضًا: -في ايه هنا؟
تحدث أحد الرجال التابعين لعاصٍ: -مش راضيين يدخلونا يا تميم باشا.
جهر تميم بصيغة آمرة: -وسع يا بني وافتح البوابة دي.
اعترض أحد الحرس التابعين لشاهين: -الاوامر كده يا باشا، ودي أوامر شاهين بيه، سمح بدخولك لكن دخول الحرس لا.
هز رأسه كابحًا غضيه الذي انتشر بوجهه كحمرة قانية: -وأنا هنا صاحب البيت وبقولك افتح البوابة.
طأطأ الحارس وجهه لأسفل كأعتراض ضمني على أوامر تميم الذي انفجر بداخله ترمومتر الغضب وشد السلاح من خصر أحد الحرس صارخًا:
-أنا هعلمك أزاي تعصى أوامري.
بنفس الصرخة الرجولية اندلعت صرختها الأنثوية باسمه وكأنها تتراجاه ألا يفعل ذلك: -تميم لا…
حلقة من الاسلحة المصوبة من الفريقين كل منهما محاولًا تأمين الجانب الأخر، تجاهل نداء رجائها وهو يشد أجزاء السلاح بيده: -تحب تشوف نتيجة اللي يكسر كلامي!
تبادلت النظرات الحائرة بين أوامر شاهين وتهديد تميم الواقع لا محالة. في تلك الاثناء خرجوا جميع من بالقصر إثر تلك الضجة التي ختمها شاهين بمجيئه من الخلف وهو يقول ساخرًا عند هبوطه من سيارته:.
-الله، الله، الله! السلاح يطول يا أبن أخويا وأنتَ لسه في عز شبابك!
انتقلت فوهة السلاح لرأس شاهين بدلًا من رأس الحارس: -طيب وكده!
ثم أخذ نفسًا طويلًا وأكمل: -أنا جاي هنا وبايع الدنيا كلها، ولو الرصاصة اللي هنا هتريح الكُل مش هتردد للحظة، قولت أيه!
تقف شمس ونوران بمحاذاة السيارة البارقة تحت أشعة الشمس، القلق جعلها تفقد صوابها حتى انتفضت مذعورة وهي تعود للسيارة متحدثة مع نفسها: -عاصي لازم يلحق المصيبة دي! أدي اللي كنت عاملة حسابه.
جاءت سميرة وابنتيها يركضن من بعيدٍ عند رؤيتهن لفوهة السلاح المسددة صوب رأس زوجها. لوح شاهين لرجالته أن يخفضون أسلحتهم وبالتالي انحنت أسلحة الطرف الأخر فجهر قائلًا بسخرية:.
-أوامر ابن أخويا تمشي في البيت ده زيها زيي بالظبط.
ثم أمسك بيده سلاح تميم بجراءة محدقًا النظر به وأكمل: -ده بردو ضيفنا!
رفع تميم حاجبه وهو يترك السلاح من يده ويرمقه بنفس ذات النظرة الحادة: -لا أنا هنا صاحب بيت، الضيوف عارفين نفسهم كويس أوي.
جاءت شهد تعنفه من الخلف: -أنت مجنون! بتتهجم على الناس في بيتهم، أنت فاكر البلد مفيهاش قانون!
-القانون ده لو دخلناه ما بينا محدش هيزعل غيركم.
دار تميم صوب مصدر الصوت ليتفاجئ بهوية نفس الفتاة التي التقى بها على الطريق، ابتلع ما بقي من كلماته قائلًا بذهول:
-أنتِ؟
تدخلت سميرة لتكمل حديث ابنتها وهي تقف أمام زوجها وتنهر تميم: -أنت كمان ليك عين تيجي تاني! رجعت ليه. خلاص مبقاش ليكم حاجة هنا.
ركضت شمس إليها بعد ما انهت حوارها مع عاصي متمسكة بيد تميم برعب يتقاذف من مقلتيها: -تميم سيبك منهم، تعالى ندخل جوه.
انفجرت سميرة بوجهه موبخة: -جوة فين يا حلوة! أنتوا تاخد بعضكم كده وتورونا جمال خطوتكم.
عض تميم على شفته السفلية وهي يأكلها بعينيه التي يتقاذف منها الشر، فأشار بسبابته محذرًا لشاهين: -أنا ومراتي هندخل جوه، بيتنا وبيت أبونا وأنتوا هنا ضيوف مضطرين نستحملهم لحد ما تمشوا ولو مكنش بالذوق هيبقى بالعافية.
ثم أحكم قبضته على كف الشمس المثلج وسحبها بقوة عاتية لا يمكن هزيمتها. ما كاد أن يخطو خطوة فتراجع ليُشير لأحد رجاله: -نزلوا الشُنط من العربية. يالا يا شمس.
لصقت شيرين بأختها شهد متهامسة: -أنا قولت مجيتنا هنا هتعمل مشاكل كتير.
شردت شهد بأعين الانتقام: -لا مشاكل ولا غيرو، دا أحنا هنتسلى أوي.
بمجموعة دويدار
– تروح تتكلم مع أختك يا رشيد وتخليها تتراجع عن اللي في دماغها مفهوم، أنا مش ناقص مشاكل.
هب عاصي بصحيفة أوامره بصوته الرخيم وهو يستقل مصعد الشركة متحدثا مع أخيها بالهاتف إثر فشله للوصول إليها. زفر رشيد باختناق وقال:
-وأنت مضايق ليه سيبها تلعب، رسيل مش خطر ولا عدو لينا يا عاصي!
جهر قائلًا وهو يضغط على رقم المصعد: -العيار اللي مايصبش يدوش، رسيل عارفة مفاتيحنا يا رشيد وهتحاربنا بيها، بالإضافة هتعمل بلبلة في السوق وألف واحد هيستغل الفرصة دي. ومش بعد التعب ده كله اقع بسبب مراتي!
صعد رشيد سيارته: -طيب ممكن تهدا، أنا هتكلم معاها وخليها تتراجع، خلص أنت شغلك وارجعلنا.
فُتح الباب عند وصوله الطابق الأرضي وقال: -راجع، ساعتين وهركب الطيارة. أعمل اللي قولت لك عليه يارشيد.
-منورين يا معلمين؟
أردفت رسيل جُملتها بثبات مستمد من جبال الألم وهي تقتحم طاولة اجتماعات كبار معلمين السوق متوسدة مقعد أبيها وأكملت:
-مش هطول عليكم، كلمتين أبرك من عشرة.
هتف أحد الرجال: -فين أيامك يا بتي وأيام أبوكي المعلم قنديل. كانت أيام كلها سعد وخير.
قطعته بيقين: -والأيام دي هترجع من تاني. أنا هنا عشان ارجع أيام المعلم قنديل.
هتف الآخر معترضًا: -ازاي يابنتي وأنتِ عارفة أن أغلبنا قعد في بيته وبطل يشتغل بس ظهور عاصي بيه، محدش بقا محتاج للمعلمين اللي زينا.
ردت وكأن المذكور عدوًا لها: -وجيه الوقت أن بيوتكم ترجع تتفتح تاني يا معلم. عاصي احتكر السوق استراد وتصدير، بس أنا أوعدكم لو وقفتوا معايا خلال 6 شهور شغلنا هيستولى على جميع محافظات مصر مش الغردقة وبس!
رد الاخر بنبرة خائفة: -ازاي وإحنا ماضيين على شروط جزائية مع عاصي بيه! وبأمانة الراجل مقصرش ومهيتنا بتوصلنا كل أول شهر؟
ألقت نظرة صقرية على صورة أبيها المُعلقة ثم عادت إليه متحدثة بنفس قوة أبيها:.
-اللي راضي بمهيته اللي بتوصله كل أول شهر من عاصي بيه في ظل المكاسب اللي بيحققها من وراكم يبقى الاجتماع ده مايلزمهوش. أما اللي فارق معاه محلاته ومراكبه وعايز يرجع يشغل وكالاته من جديد هو بس اللي يستاهل أحط أيدي في ايده!
تتقاذف الحيرة من الأعين الجالسة حول الطاولة حتى تفوه أحدهم: -الشغل والبحر وحشنا، أحنا زي السمك لو طلعنا منه هنموت، بس هنعمل أيه حكم المضطر.
ردت بثقة مبطنة بالانتقام: -محدش مضطر من بعد النهاردة، أنا بالنسبة لي هضمنكم عدم المساءلة القانونية. وأنتوا عليكم تستردوا مراكبكم من ادارة مارو جروب التابعة لعاصي عشان نبدا شهر من الاسبوع الجاي.
ثم وثبت قائمة بجبروت المراة التي لا يمكن هزيمتها من اليوم: -عم حسين بلغت إدارة مجموعات مارو بطلباتنا.
رد العم حسين صديق والدها اللدود: -بعتلهم يا رسيل، بس مفيش اي رد لحد دلوقتي.
هزت رأسها متفهمة ومتأكدة: -هيردوا.
عودة إلى القصر
-استنوا هنا أنتوا رايحين على فين! دي أوضتي وفيها حاجتي.
هتفت شهد التي قطعت درجات السلم ركضت بنبرتها الاعتراضية على عودة شمس لغُرفتها، توقفت خطواتها إثر صوت ثرثرتها، ف دارت لها شمس معترضة:
-اوضتك أزاي! دي أوضتنا أنا وتميم!
تقدمت لها شهد بأعين تنتوي الشر وقالت: -وأنا هعرف أزاي أنها أوضتكم؟
جزت على فكيها من شدة الغضب الذي تواري خلف ابتسامتها الساخرة: -عشان بسهولة أنتوا لو دخلتوا البيوت من بابها كُنتوا هتعرفوا أن الأوضة دي ليها صحاب.
ثم دنت منها أكثر وأكملت: -لكن أنتوا دخلتو من الشباك للأسف.
عقدت شهد ذراعيها أمام صدرها بتوعد وهي تشير على الغرفة: -ماليش فيه، الأوضة اللي جوه دي عجبتني وفيها حاجتي. وبما أننا ضيوف هنا يبقى احترامنا واجب على حسب كلامكم، تقدروا تشوفولكم أوضة غيرها.
ضحكة ساخرة اندلعت من قعر القهر: -بجد ما شوفتش بجاحة كده؟
ثم احتدت نبرتها وأكملت: -بقولك أوضتي أنا وجوزي، أيه مفيش دم خالص!
هزت شهد رأسها وقالت بسخرية: -اااه خدت بالي، بس ده قبل ما أنضفها، بالمناسبة حاجتك كلها هتلاقيها في كرتونة في الجنينة تحت، أنا كنت ناوية أطلعهم للفقرا بس طالما صحبتهم جات هي أولى بيهم.
تكورت قبضة يد شمس محاولة السيطرة على انفعالها من وقاحة شهد، بعد تنهيدة طويلة قالت: -على فكرة أنا ولا أعرفك ولا أنتِ تعرفيني عشان تكلميني بالأسلوب ده، أنا هنا جاية عشان أنهي العداوة، مش أعمل عداوات جديد. فلو سمحتي اتفضلي لمي حاجتك من جوه.
عاندتها شهد معلنة الحرب عليها: -كلامك جميل ومقنع، بس مش عليا الشويتين دول.
ثم أخفضت نبرتها بتحدٍ: -وأنا مش هسيب أوضتي!
ما كادت شهد لتتقدم خطوة نحو الغرفة التي استولت عليها عنوة، ففوجئت بنوران تخرج من بابها حاملة بين يديها أغراضها الخاصة متأففة وهي تلقيهم أمام الغُرفة أرضًا وتقول بعفوية: -شمس نادي حد يجي يرمي الزبالة دي بره، لسه في زيهم كتير جوة…
بالأسفل.
يقف تميم مع رجاله يفكرون في كيفية تأمين القصر من جديد في تلك الأثناء وصل عاصي إليهم ودلف من سيارته بهيبته المروعة ووجهه الذي يشاجر الهواء. أقبل عليه تميم فسبقه الحديث:
-شاهين لسه جوه!
رد تميم متأففًا: -دخل جوه، بس مظنش أنهم هيعدوها!
انصرف عاصي من أمامه بخطواته الواسعة التي لم تر إلا الشر قصاده، حتى تميم فشل أن يواكبه سيرًا فأتبعه ركضًا حتى أوقفه نداء أحد الحرس فأجبر على العودة، أثناء اقتحامه من باب القصر ودخوله الأشبه برياح الخماسين ليصطدم كليًا بشيرين التي تحمل مائدة العصير والأدوية الخاصة بأبيها. كان المشهد أشبه بالتقاء قطارين. هب صوته المرعد وهو ينثر العصير من فوق قميصه الأبيض:
-أنتِ غبية! مش تحاسبي!
التقت الأعين الهائمة بحبيبها المسافر طويلًا، غمغمت بشفتيها همسًا وهي تبتلعه كليًا بأعينها: -عاصي!
لم يتكفل النظر إليها بل كان مشغولًا بنظيف ملابسه. ركضت إليه بدون أدراك وتناولت طرف وشاحها المعلق على كتفيها وشرعت في تجفيفه معتذرة، استقبل قربها بالنفور وقال ساخطًا وهو يدفها عنه:
-وسعي كده! الارف ده؟
مازالت أعينها راسية على شواطئه، فقالت: -أنا ممكن أغسله حالًا.
ما رفع أنظاره لعندها فانعقد حاجبيه مندهشًا: -أنتِ شيرين؟
اتسعت ابتسامتها بفرحة طفل: -أيوه، أنت فاكرني مش كده!
ثم أقلبت إليه: -ممكن تديني القميص، دقيقة بس وهيبقى زي الفل.
قرأتها عيناه الصقرية وقرأ لهفتها المبالغة عليه، ردت بجفاء: -أبوكي فين!
أشارت ناحية أحد الغُرفة التي سار تجاهها على الفور، فغمغمت: -القميص طيب!
اقتحم عاصي غُرفة المعيشة التي كان الثنائي بها، فزع شاهين من مكانه وسميرة التي هبت معارضة: -أحنا مش هنخلص منكم! طلعت لنا منين أنتَ كمان!
تجاهل حديثها واقترب من عمه المرتعد لرؤيته، شرع عاصي في تفجر طاقة شره المدفونة وهو يدفع الطاولة الصغيرة بقدمه كي يقف أمامه:.
-اسمعني عشان الوضع ده لو طال محدش هيتأذى غيرك. أنا هديكم فرصة 48 ساعة تلموا فيها حاجاتكم وترجعوا بلدكم. لو عدوا اليومين وأنتوا لسه هنا، صدقني هحرق القصر باللي فيه.
تدخلت سميرة لتعنفه: -حيلك حيلك. أيه مالك طايح في الكل كده. طيب الأول أعرف اللي ليك واللي عليك، أنت لو ناسي أصلك افكرك.
كبح غضبه كي لايفرغه بإمراة: -انا عشان عارف الأصول كويس مش هرميكم برة القصر ده. عيب تطلعوا من بيت شهاب دويدار بفضيحة. عشان كده هديكم مُهلة.
ثم عادت لعمه وأكمل بنفس النبرة: -مهلة ترجعوا فيها عن اللي في دماغكم. وخلال الفترة دي أنتوا هنا ضيوف في بيتنا وتميم هو صاحب البيت يعني كلمته اللي تمشي. اتمنى قبل ال48 ساعة تكونوا اختفيتوا من القاهرة كلها…
تقف شيرين على أعتاب الباب تراقب الشجار القائم بينهم، رد شاهين على ابن أخيه بسخرية: -خلاص زمنك انتهى يا عاصي، لازم تفهم إن كل ساعة هتعدي عليك وأنت بتعدينا هتكون نهايتك فيها بتقرب.
استقبل حديثه بسخرية وتغاضي الرد عنها، فأكمل محذرًا: -سمعت 48 ساعة. دقيقة زيادة هنقرأ اسماءكم في صفحة الوفيات.
صوت صرخات انثوية تستغيث انتشر في جميع ارجاء القصر، هتفت شيرين خائفة: -ماما ده صوت شهد!
ركضت شيرين لترى ما حل بأختها، لحقت بها سميرة مهرولة: -الحقي أختك يا شيرين، ليكونوا عملوا فيها حاجة الحرامية دول…
رمق عاصي عمه بآخر نظراته الانتقامية ثم قال: -اقصروا شري، أنا لسه معملتش حاجة.
بالأعلى.
برحاية الحرب الدائرة بين نوران وشهد اللاتي أشد عليهما المعركة، فنفذ صبر نوران التي خرجت عن السيطرة واشتبكت معها بالأيدي. حاولت شمس أن تفض اشتباكهم ولكنها فشلت حتى جاءن أمها وأختها، صرخت سميرة عند رؤية تلك الفتاة تلف شعر ابنتها حول مرفقها وكلهن يتشاجران كالاطفال، تدخلت شيرين لتنقذ أختها من شر نوران:
-أنتِ مجنونة! بقولك سبيها.
جهرت نوران بعنفوان: -لما تتعلم الأدب الأول عشان تعرف هي بتتكلم مع مين.
صرخت شمس بأختها بجزع: -خلاص بقا يا نوران كفاية كده!
-ارتاحي يا عالية، أنتِ منمتيش من إمبارح.
ساعد زوجته في التمدد على فراشها بعد ليلة طويلة قضاها الجميع في جهد وإرهاق. ثم شد الغطاء فوقها وطبع قُبلة خفيف على جبينها، تنهدت كمن روي من ماء النهر، وكأن قلبها كان بحاجة للمسة حنونة منه لتزول آثار الأمس. أمسكت عالية بيده:
-وأنت مش هترتاح شوية؟
أجابها بفتور: -نامي أنتِ وأنا هنزل أعملك حاجة تاكليها.
-وتتعب ليه! ممكن نطلب أكل من بره!
مسح على شعرها المتدلى على ملامحها وقال: -مش صح عشان صحتك أنتِ والبيبي. وبعدين أنا عايز أعملكم أكل بنفسي.
ثم نصب قامته وتفقد المُبرد: -شايف الجو حلو! تحبي أقفله؟
-لا مش بعرف أنام من غيره.
أومئ بالايجاب: -طيب يالا ارتاحي.
قفل إضاءة الغرفة وهبط لأسفل متحيرًا بأمر تلك الرسالة التهديدية التي قلبت حياته رأسًا على عقب. بخطوات متمهلة توجه ناحية المطبخ ليعد وجبة الغداء لزوجته وصغيرها وقف متحيرًا أمام الثلاجة ماذا سيفعل. فجأة فقد رغبته في كل شيء، قفل باب الثلاجة وأخرج هاتفه قائلًا: -أيوة يا بني، عايز أعمل أوردر…
انتهى مراد من طلب الطعام ثم اتجه إلى المرحاض ليزيل بقايا التفكير من فوق كتفيه. مرت قرابة الساعة حتى وصل الطعام الذي طلبه، فتح الباب وأخذ الحقائب من الرجل ومنحه بعض النقود الورقية. تحرك ناحية المطبخ وشرع برص الأطباق ولكنه فوجئ بورقة تحمل نفس الخط الذي يراوده وهو يحذره بسخرية:
-صحة على قلبك وقلب المدام، بس حبيت احذرك ؛ مش هنستى كتير…
زأر بعصبية طاحت بكل الاطباق في سلة القمامة وهو يلعنهم جهرًا: -ااااه يا ولاد ال
مساءً
يتربع على عرش أحد المقاعد بساحة منزله، منتظرًا قدومها على أحر من جمر مشتعل، ألقى نظرة أخيرة على ساعة يده ليجدها في تمام الحادية عشر مساءً. جلس رشيد بجواره قائلًا بضيق:
-عاصي، أنت ورسيل أختي في خلاف بينكم يخليها تتصرف كدا. أصل بالعقل دي أكتر واحدة وقفت جمبك ازاي هتهد كل ده في يوم وليلة!
رد بإيجاز كإنه أراد أن يوفر طاقته في الحوار لوحدها: -تيجي ونفهم منها.
بالخارج تحت سماء حُبلى بالضباب لا يختلف كثيرًا عن الأجواء المشحونة بالداخل، هبطت رسيل من سيارتها ثم تركت المفتاح لأحد رجاله كي يصفها مكانها. شدت ذراعيها للأمام حركة حماسية واستعدادية لمواجهة التيار. فتحت الباب ودخلت بثبات غير مكترثة لوجود أحد حتى عاصي التي باتت ليلتها تنتظره على مراجل من نار أمس تحول بركانها لجبل جليدي. تركت المفاتيح وحقيبة يدها على أحدى الطاولات ونزعت معهما ثوب الحزن وممارسة دور الضحية ثم سارت تجاه الثلاجة وأخرجت منها دورق العصير وصبت لنفسها كوبًا، جميعها حركات مبتكرة لتؤخر المواجهة بينهم.
امتدت أنظارها لأعين رشيد المتسلطة عليها فقالت ببرود: -تشرب؟
تأرجحت عينيه بذهول من عندها لعاصي قائلًا بتوجس: -أيه الروقان ده كله؟ تعالي تعالي يا رسيل عشان نفهم بس!
فارقت بار المطبخ واتجهت نحوهم متجاهلة النظر إليه عمدًا وهي تجلس على أحد ذراعي الاريكة وبيدها كأس العصير: -طبعا رايقة عشان كل حاجة في الشغل ماشية زي ما أنا عايزة.
لم تفارقها أعين النمر المتسلطة عليها بنظراته الحارقة، تدلت ساقه من فوق الأخرى رافعًا حاجبه بهدوء مفتعل يتوارى خلفه عواصف من نار:
-الشغل! احكي لي بقا ناوية على أيه في الشغل ده. على الأقل عشان مسمعش أخبار مراتي من بره.
بنظرة شخص توقفت رغبته عن كل شيء بالحياة بما فيها هو، أجابت دون أن تناظره: -عادي، شغل بابا ولازم ارجعه. دي حاجة تزعلك!
ثم أطلقت ضحكة متفجرة من قاع الاسى وقالت بسخرية: -ولا أنت خايف أنافسك، ويبقى ليك أعداء في السوق!
رد بجفاء: -بتعصي التُجار عليا يا رسيل وعايزة تهدي كل تعبي على الأرض!
وضعت ساق فوق الأخرى بجبروت معلنة عدم خوفها منه وقالت بنبرة استفزازية:
-اسمها تجارة وشطارة، غريبة متوقعتش إنك هتخاف من وجودي في السوق.
ثم أطلقت ضحكة ساخرة: -أنت من الرجالة اللي بتخاف من نجاح مراتتهم! مش معقولة!
عض على شفته السُفلية: -أنتِ عارفة مش أنا ده، وقولت لك بدل المرة ألف تعالى انزلي اشتغلي معايا.
ردت بنبرة استفزازية: -متعودتش يكونلي رئيس في الشغل بعد المعلم قنديل.
تدخل رشيد موضحًا: -رسيل التجار دول لو سحبوا محلاتهم ومراكبهم أحنا مش هتقوملنا قومة في السوق! أنتِ بتحاربي أهل بيتك وده مش عقل.
-مكنتش متخيلة أن نزولي السوق هيخوفكم أوي كده. عمومًا سيبوني أجرب مش يمكن أخسر ووقتها هنسحب من الساحة كلها!
رد رشيد بيقين: -أنا وأنتِ عارفين كويس أوي يا رسيل. مش أنتِ بالذات اللي هتقبلي الهزيمة.
أشار عاصي بيده لرشيد كي يصمت، وأتبع: -واشمعنا دلوقتِ اللي عايزة ترجعي الشغل! أيه اللي جد!
احتدت نبرتها التي سيطرت عليها روح الانتقام منه: -والله لقيت شغل ستان البيوت ده مش طموحي، حسيت أن جيه الوقت اللي ارجع فيه لشغلي وحياتي ولا أنت فاكر إني هعيش اخدمك أنت وبناتك العمر كله يا عاصي بيه!
ختمت جملتها بوضع النار في حقل الغار، بسرعة حبة فِشار فارق مقعده منقضًا على ذراعها بهيئته المروعة التي خرحت عن سيطرته، تهشم كوب العصير من يدها محدثًا صوتًا لم يختلف كثيرًا عن صوت قلبها، انفجرت الكلمات من شدقه:
-واضح أنها هربت منك على الأخر! ومش واعية لكلامك
ثم صرخ بوجه أخيها بوبخًا: -أختك طايحة في الكل ومحدش هاممها.
ثم عاد ليعتصر ذراعها الذي طُبعت فيه أثار أصبعه: -شكلي دلعتك، كلمتين ملهمش تالت يا رسيل عايزة تقولي راجل رجعي متخلف هسبهالك مفتوحة. واسمعي مفيش شغل ومفيش نزول الوكالة، وهتقعدي في بيتك وهجيبلك أسطول خدم، حتى البنات هعفيكي من مسئوليتهم.
خنجر جديد من الألم سببه الندم الذي رسخ بقلبها إثر شكواها التي لم تقصدها. سرعان ما أدركت أن ما بينهم حرب ولا يصح أن نتهزم في أول جولة، رفعت أعينها الانتقاميه بعينيه ووبخته بحرقة مبطنة بالسخرية:
-ااه يعني اقعد مستنية معاليك لحد ما تفتكر أن ليك ست وبيت عشان تحن عليها اخر اليوم وترجع لها!
بنبرة كالرعد عنفها: -بالظبط، تقعدي تستنيني لحد ما ارجع. ومتشتكيش، واللي عايزو وبس هو اللي هيحصل.
احتد الحوار بينهم وتفاقم غضبها منه ؛ فعارضته: -الكلام ده لما تكون مشتريني من سوق الجواري، أنا رسيل المصري يا عاصي. وواضح أن دور الحنية والطبطبة خلاك متاخدش بالك إن ورا الطيبة دي كلها بنت بمليون راجل متخلقش اللي يمشي كلمته عليها حد لو كنت أنتَ.
-مش كده يا عاصي وانتي يا رسيل إهدي. كله بالعقل
تدخل رشيد بينهم محاولًا تخليص أخته من قبضته ولكن دفعه عاصي بدون وعي وعاد إليها ولشجارهم قائلًا:.
-بلاش نجرح بعض أكتر من كده يا رسيل عشان شكلك مش في وعيك. الصبح اسمع قرارك، يا أنا يا الشغل ده؟
فشلت في إخفاء دموعها أكثر مش ذلك وهي تلقي نظرة أخيرة على قبضته التي تعتصر ذراعها ثم عادت لعينيه التي مازالت تحمل الحُب رغم فوضي الغضب وردت بثبات: -مفيش داعي تستنى للصبح.
ثم قطعت بقدميها أخر خطوة تفصل بين جسدهما وأعلنت الحرب عليها قائلة: -أنا مش هسيب شغل الوكالة، وأنت بقا اللي عليك تختار. يا إما تقبلني زي ما أنا، يا كل واحد فينا من طريق!
يقال أن الكيمياء اكتشفت كل شيء إلا أنها لم تتوصل لحقيقة كون انسان بعد ما يحترق يتجمد، اختبار جديد وقاسي لحبهما واجهه الثنائي، سيفان من الكبرياء من ياترى سيرضخ أمامه، الأكثر حُبًا أم الأكثر عنادًا! وهنا تفرض التساؤلات نفسها في ساحة العتاب بين أعينهم المتعلقة ببعض، كيف لقلبين امتزجا بماء الحب يمكن أن يفترقا؟
تتلاعب برأسه شياطين ابن دويدار الذي يدمر كل من يقف بطريقه ولكن كان الحُب هو الفرامل الذي أوقف كل شيء، دفعها برفق على الأريكة وتبدلت نظرته للحدة وهو يقول: -اللي عندي قولته.
تسلطت أسهم العتاب من عيني أخيها وهو يتمتم: -ليه كده يا رسيل؟
عودة للقصر
-البنت نوران دي مجرمة، كلمة في التانية جابت البنت من شعرها.
أردفت شمس جملتها الأخيرة وهي تمد له سترته، نزع تميم المنشفة التي كان يرتديها بعد ما فرغ من حمامه الدافئ. شرع في قفل أزازها وقال:
-بتجيب من الأخر، على البنت شهد دي شكلها بتاعت مشاكل. أنا شوفتها قبل كده ووو
تبدلت ملامحها في الحال وتلبست الغيرة بنبرتها: -نعم نعم، وأنتَ شوفتها فين قبل كده يا تميم. ها اتفضل ساكت ليه ماترد!
لم يكبح ضحكاته العالية المندلع إثر غيرتها وقال: -طيب اسكتي عشان أرد!
-سكتت أهو اتفضل جاوب. يالا بتبصلي كده ليه؟
بإعجاب شديد امتدت يداه تحت شعرها وقال بحنو: -عشان دي أول مرة أشوف الغيرة في عيونك.
بإيماءة كبرياء تخفي ابتسامتها وتقول ساخرة: -لا يا شيخ! طيب وأيه، متاخدنيش في دوكة.
-ماشي يا ستي هريحك، يوم نتيجة نوران كنت ماشي على الطريق عادي، ولقيتها ماسكة راجل على الطريق ولامة عليه الناس ومصممة أنه غلط. وأنا اضطريت ادخل عشان افض الليلة دي، وبصراحة أكتر الراجل صعب عليا.
أسبلت عينيها بعدم تصديق: -أممم وبس كده!
دنى منها خطوة: -وبس كده، وبعدين أنا مبسوط أوي!
رفعت حاجبها متعجبة: -وسط النار اللي إحنا فيها دي ومبسوط! أنتَ الانبساط بيجي معاك عكسي.
ألتف ذراعه حول خصرها وجذبها إليه قائلًا بحنان: -ما أنتِ لو تديني فرصة بس اكمل كلامي! هتعرفي أن أول ما دخلت الأوضة افتكرت ذكرياتنا فيها سوا، وافتكرت حاجات كتير أوي اخرهم أول ليلة كنتِ ملكي فيها.
لُطخت الحُمرة ملامحها واطرقت أعينها أرضًا: -تميم أنت في أيه ولا أيه!
مرر أنفه فوق جدائل شعرها المسدول ورد هائمًا: -سيبك من أيه وخلينا في أيه تانية خالص!
طالعته بتردد: -أنتَ مش قولت نازل لعمك تحت تتفاوض معاه!
مازال تحت سطو سكره بقربها: -تلاقيه مات. الصبح أبقى نشوف كل المواضيع دي!
انفجر ضاحكة متناسية أمر أهل القصر ولكنها فوجئت بيده تسد ثغرها الضاحك: -هتفضحينا. وطي صوتك.
أغرورقت عبرات الضحك المدفون من عينيها فطالعها معاتبًا: -أنتِ شكلك مش هتستري أبدا!
فرغت من غيبوبة ضحكتها وشرعت في عناقه متدللة بوجهه براق من كثرة الضحك: -خلاص سكتت أهو، كنت بتقول أيه بقا!
-أهو ده المهم. بصي يا ستي…
ما كاد ليظفر بمراده فباغته انقطاع الكهرباء المفاجئ. تباعد الاثنان عن بعضهما وكل منهم يتساءل: -هو في أيه؟
تناول تميم هاتفه وأضاء كشافه: -هطلع اشوف في ايه خليكي!
فتح تميم باب الغرفة وكان الغريب بوجود الأنوار مشتعلة في بقية القصر، في تلك الاثناء خرجت نوران من غرفتها متسائلة: -تميم الكهربا قطعت؟
سألها: -شايف أنها موجودة اشمعنا الاوضتين دول بس!
اقتربت منه نوران: -فعلا حاجة غريبة! الجو حر أوي جوه وأنا مش هعرف أنام كده!
ارتدت شمس وشاحهها وخرجت لهم: -في أيه؟
في تلك اللحظة جاءت شهد من الخارج بخطوات النصر تتقاذف منها بعد ما قفلت الكهرباء عن غرفهم. سألها تميم بجفاء: -هي كهربة الاوضتين فيهم مشكله!
نزعت السماعات عن أذنها وقالت ببرود: -بتكلمني!
زفر تميم بضيق: -الكهربا قاطعة عندنا، في مشكلة في الكهربا!
ألقت شهد على نوران نظرة انتقامية وقالت بكيد: -وأنا هعرف منين!
عقدت نوران ساعديها بغل بعد ما قرأت نوايا الانتقام بأعينها: -شوف ازاي!
تجاهلت شهد تخابث نوران عليها وعادت لوضع السماعات بأذنيها، تفهم تميم الأمر سريعا: -تمام تمام، أنا هنزل اشوف سكينة الكهربا. استنوني جوه أنتوا.
هبت نوران باندفاع: -على فكرة البنت الصفرا دي هي اللي لعبت في الكهربا.
مرت الساعة على صمتها القاتل، لا تري ولا تسمع إلا صوت رأسها الصاخب بالغضب والكلمات المؤلمة. بصرخة متقنة الإخفاء في مكان خالٍ ارتمت على السرير مستسلمة للألم ففوجئت بتاليا وداليا يتخذن من ذراعيها مخبئًا لرؤوسهن. ضمتهم إلى صدرها بحنان أم وهتفت بحرقة ودموع جارفة:
-أنا بحبكم أوي، بحبكم أكتر من أي حاجة في الدنيا كلها.
فصفعتها تلك الصغيرة بسؤالها البريء: -أكتر من بابي؟
طبعت قُبلة خفيفة على جبينها ورت بأسى: -أكتر من بابي.
تفوهت تاليا: -مامي أنتِ مخاصمة بابي مش كده.
اعتصرت عينيها بماء الوجع وبعدم اقتناع: -هو زعلني شوية، بس هيرجع تاني ويصالحني.
-طيب أحنا كمان هنخاصمه زيك لحد ما يجي ويصالحك.
وثبت قائمة كالملدوغة: -لا أنتوا ملكمش حق عشان ده باباكم وأكتر حد بيحبكم في الدنيا.
ردت الأخرى باصرار: -بس هو زعلك، وإحنا كمان زعلانين عشان زعلك.
قبل أن تجيبها سمعت لصوت سيارته تفارق المنزل، ركضت للشرفه لتتأكد ثم عادت إليهن:
-باباكم خرج. أنا هرجع أوضتي عشان أجيب حاجاتي وأرجع لكم. تمام!
هتفت تاليا: -وهتحكي لنا حدوته!
تأملتها حياة بنظرات الأمومة المليئة بالحب وقبلت رأسها بلطف تطفى به نار قلبها المتقدة بسبب أبيهم: -اللي أنتوا عايزينه. هروح بقا قبل بابي ما يرجع.
غادرت غرفتهم وهي تتشبث بقلبها الدامي متجهة نحو غرفتهما التي شهدت على أجمل لحظاتهم معًا، قفلت الباب خلفها وظلت تتأمل كل ركن به يحمل عطر الذكريات ولحظاتٍ ظنت أنها ملكت فيها الكون من غمر السعادة. تراقصت أنفاسها متهيأة للبكاء وهي تتساءل نفسها: -ليه كده يا عاصي ليه! بأي حق تقرر تمنعني أبقى أم؟ ليه تعمل فينا كدا!
ضبت حقائب الذكريات المتكدسة بالسعادة، وفتحت الباب لضيف الحزن الثقيل ليقيم بقلبها إقامة شاملة. اتجهت نحو المرآة وهي تسال نفسها عما ستفعله معه؟ اتحاربه بشغله؟ أم تطلب الانفصال عنه؟ أم تواجهه؟ أي حل منهما قادر على أن يطفىء نيران قلبها الثائرة؟ كيف لقلب إمراة مثلها يحمل هذا الكم الهائل من الألم؟
غسلت وجهها بالماء البارد ثم أمسك بالمرطب الخاص بها وفي الوقت الذي خرجت فيه من المرحاض صُدمت بعودته! توقفت عقارب الساعة حينها كل منهما يطالع الأخر بعيني الحب والعتاب. ركل عاصي الباب خلفه بفتور متجاهلًا وجودها تماما. ولم يختلف الحال عنها انغمست هي الأخرى في البحث عن ملابسها. ضبابة من الألم تحوم فوق رأسي الثنائي الذي كاد أن ينفجران من تفكيرهم المستمر ببعضهم.
يقف أمام خزنته يطالع بعض الأوراق وتقف أمام خزانتها تطالع التفكير به محاولة التماس عذر واحد يشفع له. تناولت ملابسها بفوضوية وما كادت أن تخطو خطوة ولكنها تراجعت، تركت الملابس من يدها وذهبت لعنده بتردد:
-أنا اسفة.
لم يتكفل بالنظر إليها، ولكنها تجاهلت تجاهله وأكملت: -لما كنا نتكلم تحت، أنا مكنش قصدي أبدا اشتكي من البنات، بالعكس دول مصبريني على حاجات كتير.
صمتت للحظات منتظرة رده ولكنه خيب ظنها، ختمت كلامها وقالت: -حبيت بس أوضح سوء الفهم اللي حصل.
قفل الملف المفتوح بيده، ورماه بملل بالخزنة ودار نحوها فتراجعت خطوة للوراء، سدد أنظاره إليها: -بس أنتِ محتاجة تعتذري عن حاجات تانية كتير غير دي؟
ردت بجفاء وهي تقاوم ألا نتاظره: -لا مفتكرش أني غلطت في حاجة تانية استاهل الاعتذار غير دي. بعد إذنك.
ختم جملتها بصياح عاق خُطاها وانتفض إثره قلبها: -استني هنا!
ثم اقترب منها أكثر في أكثر عاقدًا حاجبيه مستفهمًا: -مالك، متغيرة ليه!
ردت بذعر مبطن بالخوف: -انا قولت ال عندي، مستحيل اسيب الشغل.
انفجر بوجهها بنيرة قفلت جفونها من شدتها: -ما يولع الشغل ولا يروح في ستين داهية. أنا عايز أعرف مراتي فيها أيه؟
ثم سحبها من معصمها ليضعها بين فيكين متخذًا من الحائط مسندًا لظهرها وعينيها أسيرة له. كرر السؤال بصيغة مختلفة: -فهميني. أيه شقلب حالك كده.
أغرورقت عينيها بسحب الحزن لتسأله بشفاة مرتعشه وصوت هامس: -ليه!
حاول أن يقرأ عينيها الغارقة في بحر الحزن: -هو أيه اللي ليه؟
ابتلعت جمر عتابها رغم أنه كان صعبًا أمام عينين تعشقهما. حاولت الفرار من تحت قبضته ولكنه أفشل مخططها بأصرار وهو يسألها: -أيه اللي ليه؟ جاوبيني!
انخرطت عبراتها التي حفرت حمم بركانيه بقلبه فزادت عصبيته: -متعيطيش وجاوبيني. انا مش معترض على شغلك، ولا خايف منك ولا من نجاحك. بس ليه ننزل سوق ونحارب بعض! ليه يا حياة ليه؟ عايز افهم؟
خرجت عن صمتها: -وأنا ليه اعيش مستنية رضاك عني، انا لما قررت أنزل الشغل، نزلت عشان لقيتك مش مالي حياتي، نزلت من الزهق والتعب وكل ليلة وانا مستنياك. ومستنية أشوف لهفتك عليا اللي قربت انساها. قررت أن لازم يكون عندي حياة بعيد عنك.
انطفىء القلب من وحشة الغياب البارد، ظل طويلًا يتأمل ملامحها الذابلة المحطمة التي أهمها صاحب البستان، تنهد بقوة ثم قال: -طيب كده عرفنا سبب المشكلة، ممكن نهدا ونحلها بالعقل!
بقلب معطوب بأحجار الخزى: -أنا خدت قراري خلاص.
دنى منها أكثر وأكثر متعمدًا خنقها بعطره الذي يسكرها محاولًا إرضائها وكمحاولة جديدة لاقناعها بانتشال فكرة الشغل من رأسها، ذاب بعينيها متكئًا على عكاز حبها له:
-يعني كل الدوشة دي عشان بوحشك!
تحاشت النظر إليه: -عاصي لو سمحت، أنا خلصت كلامي.
أمسك بذراعيها الاثنين والتصقت أنفاسه الحارة بجدار عنقها مع صوت أنفاسه موضحًا: -أنا الدنيا كلها مقلوبة عليا، مش عايزك أنتِ كمان تتقلي الحِمل.
ثم اعتصر خصرها بقبضة ذراعه الذي التف حولها كما تلتف الافعى حول جذع الشجر، فاندلعت منها صرخة مدوية بدموعٍ فياضة وأكمل: -تيجي نهرب من كل ده وننسى كل اللي فات ونبدأ حياة جديدة. مش كنتِ عايزانا نخلف! وأنا موافق. من بكرة هحجزلك عند دكتور ونتابع معاه سوا. حياة أرجوكي متبقيش أنتِ والأيام عليا.
ختم جملتها بسيل من القُبلات المكتومة التي كانت من نصيب ملامحها وشعرها. قبلات اعتصرت الدمع من عينيها الاتي سبحن على كتفيه، امتزج الشوق مع الحزن بدون صوت ولكن كانت ملامحهما واضحة جدًا. تحولت هزيمتها من الحب لمناحة وضعف، لا تمتلك القوة لرفضه ولا تمتلك الحب الكافي لمجاراته. ما بين النار والجليد عصر كفها ذراعه المُلتف حولها وتخشب جسدها يعكس عدم رغبته بالمزيد. فارقتها أنفاسه عنوة حتى أطالت النظر بعينيه وألقت قذيفة اعترافها قبل أن تفارقه:.
-بس أنا مبقتش عايزة أخلف منك يا عاصي.
التعليقات