رواية هيبة الفصل الأول 1 بقلم مريم محمد غريب
رواية هيبة الجزء الأول
رواية هيبة البارت الأول
رواية هيبة الحلقة الأولى
ذكرى ميلادها الثامن عشر، إنها الأسوأ على الإطلاق، لم تراه طيلة الليلة. ظنّت بأنه عندما قال لن يحضر حفلها إنما فقط قالها نكايةً بها كما يفعل عادةً.
لكنه فعلها، حقًا فعلها و لم يحضر، ولماذا؟
لأجل زلّة وقع بها، خطأ أقترفه بحقها، لكنها سامحته، تقسم بأنها سامحته.
إلا إنه لم يسامح نفسه على ما يبدو. لهذا لم تراه منذ تلك الليلة، ولم تسمع عنه، من يُعاقب يا ترى؟
يعاقب نفسه أم يعاقبها هي!؟
ما ذنبها؟
لقد ألقى ثقلًا على قلبها لم تحتمله، لقد عرفت في لحظتها، لكنّها كذبت على نفسها.
منذ اللحظة الأولى، منذ أن قال لها إنه لن يحضر حفلها، كانت تعرف أنّ الأمر ليس مجرد مكيدة عابرة منه لإغاظتها كما اعتاد، بل عقاب. عقاب لها.. وعقاب له. لكنه لم يدرك أنّ الغياب عقاب أقسى مما يتصوّر.
كيف استطاع أن يبتعد بعد ما حدث؟ كيف استطاع أن يُقصيها، وهي التي لم تعرف الحياة إلا من خلاله؟
لقد كانت صغيرة جدًا حين بدأ قلبها ينبض باسمه. وهو، كان كبيرًا، ربما يكبرها بعدة سنوات، عشرة أو أكثر، كان “نديم”.. ابن عمّها الكبير، اليتيم، القاسِ بالفطرة، الذي يملك كل شيء حتى هذا المنزل.
إنه كلّ عالمها. لم ترَ فيه أبدًا صورة الأب الثاني فحسب، بل الرجل الأول والأخير، الرجل الذي تعلّقت به دون أن تدرك أنّ في تعلّقها خطيئة لم تنتبه إليها إلا بعدما أيقظها بنفسه.
لكن بأيّ صورة أيقظها؟
لم يكن يجب أن يحدث ذلك. لم يكن يجب أن يخطئ بحقها، ولا أن تفهم هي—أخيرًا—أن ما شعرت به نحوه لم يكن مجرد إعجاب طفلة بظلٍّ قويّ تحتمي به. كان شيئًا أكبر، أعمق، وأخطر.. شيء لم تسعَ إليه يومًا، ولم تتوقعه، لكنه سكنها على أيّ حال، حتى قبل أن يحدث ما حدث.
قبل ثلاث ليالٍ. كعادتها بقيت ساهرة بجوار النافذة حتى مطلع الفجر، كانت قلقة عليه للغاية، وتتساءل أين قد يكون حتى الآن؟
ليست المرة الأولى التي يتأخر على أيّة حال، لكن موطن قلقها يكمن بحالته هذه الفترة، لم يكن بخير، تشعر بذلك، كثير العصبية فوق عادته، سريع الغضب، حتى إنه تشاجر مع شقيقها البارحة لسببٍ تافهٍ جدًا متسببًا بقطع أبيها سُبُل الترفيه كلها عنه.
لعلها كانت نعسة قبل سويعاتٍ، لكن كلّما مرّ الوقت دون عودته يُصيبها أرق أشدّ، حتى لاح لها من بعيدٍ، أخيرًا، عاد!
تنفست “ليلى” الصعداء وهي تراقب مرور سيارته بالممر المعبّد بالحجارة وصولًا إلى باحة المنزل، رأته يترجل من السيارة ملقيًا سترة بذلته فوق كتفه، لم يغلقها حتى وسار متجهًا صوب باب المنزل.
استدارت مسرعة نحو خزانتها، سحبت روبًا وارتدته فوق قميص نومها القطنيّ، ثم هرولت خارجة من غرفتها، متوجهة نحو جناحه بالطابق العلوي.
كان هناك، بالكاد خرج من المصعد بينما استخدمت هي الدرج، مشيت نحوه وقد عبر عتبة جناحه راكلًا الباب خلفه بقدمه، إلا إنها اعترضته دافعة إيّاه ثانيةً قبل أن يُقفل تمامًا.
انتبه لحركتها من خلفه، ليلتفت نحوها مترنّحًا، بدا متفاجئًا لرؤيتها وقال بصوتٍ مشوّبًا بآثار الثمالة:
-ليلى! عايزة إيه؟ وإيه إللي جايبك هنا الساعة دي؟
ازدردت ريقها بتوترٍ، وقفت أمامه مباشرة متمتمة:
-جيت أطمن عليك. ماجاليش نوم لحد ما شفتك رجعت.. انت كويس؟
رفع رأسه ببطءٍ. التقت عيناه بعينيها، وسرت في جسدها قشعريرة لم تفهمها.
لم يكن يشبه نفسه. عيناه كانتا مثقلتين، باردتين، مشوّشتين، لكن هناك شيء في نظراته جعلها تشعر بالخطر، كأنّها أمام شخصٌ آخر، شخص لم تعرفه من قبل.
مرر يده في شعره بعصبية، ثم ضحك بصوتٍ خافت، لكن ضحكته كانت فارغة، مريرة ..
-إيه اللي جابك هنا يا ليلى؟.. كرر بصوتٍ أجشّ، ثقيل، كأنه خرج بصعوبة من بين شفتيه.
-أنا!.. ترددت. لم تعرف بماذا تجيبه، لكنها تشبّثت بذريعة قلقها:
-قلقت عليك.
ارتفع حاجبه بسخرية، وكأن كلامها استفزه:
-قلقتي عليا؟.. ضحك مجددًا، وهز رأسه مكملًا:
-ليه بقى؟ بقيتي ماما وأنا ماعرفش!؟
زادت نبضاتها. لم تكن معتادة على هذه اللهجة منه. كان دائمًا ما يغيظها، يسخر منها، لكنه لم يكن قاسيًا معها بهذا الشكل من قبل.
-طبعًا خايفة عليك!.. عقدت ذراعيها بقلق، وتساءلت:
-انت كنت فين طول اليوم؟ محدش كان عارف عنك حاجة!
رفع نظره إليها بحدة. صوته انخفض، لكنه صار أشد خطورة:
-وانتي مالك؟
ارتبكت: أنا.. أنا بس كنت عايزة أطمن عليك.
حدّق بها طويلًا. طويـــــلًا. نظرة لم تستطع فكّ شيفرتها، لكنها جعلت الدماء تتجمّد في عروقها.
ثم، فجأة، ارتدت خطوة للوراء لا إراديًا حين بدأ يتقرّب إليها، لم يتوقف، اقترب منها حتى صارت بينهما مسافة ضئيلة جدًا، وحتى شعرت بحرارة جسده أمامها، برائحته التي اختلطت برائحة الخمور التي فاحت منه.
لم تستطع التنفس لوهلةٍ. بينما يقول بصوتٍ خافت:
-ليه مهتمة بيا أوي كده يا ليلى؟
-لأنك مهم بالنسبة لي فعلًا!.. قالتها بتلعثمٍ.
نظر إليها بتمعن. ظلّت عيناه تبحثان عن شيء في وجهها، ثم ابتسم بسخرية.. ابتسامة جعلت معدتها تنقبض بخوف.
-ويا ترى اهتمامك بيا ده.. بريئ؟
عقدت حاجبيها: انت بتقول إيه؟
ردد بصوته القاسِ:
-فاكراني مش شايف؟ فاكرة نفسك لسا عيّلة صغيرة.. ومش عارفة إللي جواكي؟
ابتلعت ريقها بصعوبة. هناك شيء في كلماته نكأ جرحًا لم يكن يجب لمسه، حقيقة حاولت إنكارها طوال السنوات القليلة الماضية، لكنه الآن يُلقي بها في وجهها بكل وقاحة.
تراجعت خطوة أخرى للوراء قائلة بصوتٍ مرتعش:
-نديم.. انت مش في وعيك.. بليز لازم ترتاح.
وجاءت لتنسلّ من أمامه هاربة، لكنه مدّ يده فجأة، وأمسك برسغها. لم يشدّها إليه، لم يقبض عليها بقوة، لكن لمسته كانت كفيلة بأن تجعل أنفاسها تتسارع ..
-أقفي هنا. أنا لسا ماخلّصتش!!
شهقت، وحاولت سحب يدها، لكنه شدّها نحوه بخفة، جعلها تتعثّر بخطواتها حتى كادت تصطدم بصدره.
شعرت باضطراب غريب في داخلها، برغبة جامحة في الهروب، لكنها لم تستطع التحرّك.
ثم رفع يده الأخرى، ووضعها برفقٍ على وجنتها هامسًا:
-بقالك سنين بتبصيلي بطريقة مش بريئة. بتعامليني بأسلوب جديد. وفكراني مش فاهم.. مش كده؟
اتسعت عيناها برعب، وأخيرًا، شعرت بأنها تختنق.
-سيبني يا نديم!.. همست بصوتٍ مرتجف، لكنه لم يتحرّك.
نظر إليها للحظاتٍ بدت كالأبد، ثم خفّض رأسه قليلًا حتى اقترب وجهه منها أكثر، كأنه يختبر صبرها، كأنه يستمتع برؤيتها تنهار.
وفجأة، حنى رأسه وقبّلها.
قبلة عميقة، متطلّبة، خاطفة للأنفاس. لم تمنحه الإذن، لم تتوقعها، لكنّها حدثت.
أنّت باعتراضٍ وهي تشعر بجسده يضغطها إليه أكثر، بيديه تمسكان بوجهها، بأنفاسه الحارّة تذيب مقاومتها. كان طعم الخمر في فمه مُرًا، لكنه لم يكن أكثر مرارة من إحساسها بالعجز.
أرادت أن تدفعه، أن تصرخ، لكن كل ما فعلته هو أن تصلّبت في مكانها، متجمّدة بين ذراعيه، بين شفتيه.
ثم، حين كاد الأمر يتحوّل إلى شيء لا يمكن إصلاحه، حين شعرت بأن حدودها تُسحق تحت سطوته.. استيقظت.
تمكنت من رفع يدها أخيرًا، وصفعته.
صوت الصفعة شقّ الهواء كالسيف، والصدمة جمّدته في مكانه.
ظلّ واقفًا، ينظر إليها بعينين متسعتين، كأنه استعاد وعيه فجأة. كأنه رأى نفسه في المرآة لأول مرة.
أما هي، فتراجعت بسرعة، وضعت يدها على فمها والدموع ملء عينيها، اندفعت خارج الغرفة قبل أن يجرؤ أيٌّ منهما على نطق كلمة أخرى.
ركضت إلى غرفتها، أغلقت الباب خلفها، وسقطت على الأرض تبكي.
ظلت تبكي حتى جفّت دموعها، حتى تحجّرت بداخلها. لم تكن تبكي خوفًا، ولا حتى صدمة، بل وجعًا.. وجعًا مغمورًا بخيبة لم تفهمها تمامًا. كانت ترتجف، تتلمّس عنقها الذي امتدت إليه يده، وجسدها الذي كاد يضيع تحت ظلّه الثقيل.
لكن الأسوأ لم يكن ما فعله.
الأسوأ كان أنها، للحظة، شعرت بشيء آخر.. شيء حاولت قتله فورًا، شيء أرعبها أن يكون موجودًا.
حين استيقظت في الصباح بعد ليلة مليئة بالقلق والأحلام المزعجة، تحضّرت للذهاب إلى مدرستها، نزلت إلى الأسفل ظانّة بأنها سوف تراه على مائدة الفطور، لكنها لم تجده. كأنّه اختفى مع كوابيس ليلتها، كأنّ وجوده نفسه صار وهمًا. بحثت عنه بعينيها في كل زوايا البيت، رغم أنها لم تكن تجرؤ على أن تنطق باسمه أمام الآخرين.
تخطّت ما حدث بالليلة الماضية، وهاتفته ما إن صارت خارج المنزل، ولدهشتها رد على اتصالها. فسألته إن كان بخير بعد ليلة الأمس.
لم يرد سوى بلهجته الجافة المعتادة، كأنّ شيئًا لم يحدث.
لكنه حدث، وهي تعرف، إلا إنها لم تشأ تذكيره بحدث سخيف لعله نسيه اًصلًا.
وحين حلّ الليل، حين مرّت ساعات ليلة ميلادها باردة، فارغة، دون أن يأتي.. عرفت الحقيقة.
كان في وعيه إذن. كان يعرف ما يفعل. وكان يعرف بأن غيابه سيفضح ذلك أمامها أكثر ممّا قد تفضحه الكلمات.
تساقطت دموعها ببطءٍ، كما لو كانت تستسلم أخيرًا للحقيقة التي حاولت الهروب منها منذ وقت طويل. “نديم”.. إنها تحبّه.
ولكن ماذا عنه هو؟
ألقت نظرة أخيرة عبر نافذتها، بحثًا عنه في العدم، لقد بزغ الفجر فعلًا ولم يعد، والأحرى أنه لن يفعل مثل البارحة والليلة التي قبلها أيضًا.
تنهدت بحرارةٍ، ثم استدارت إلى سريرها، استلقت محتضنة وسادتها، وهمست باسمه:
-نديم!
____________
استيقظت “ليلى” على صوت أختها الكبرى “لُقى” قائلة بحماسة:
-ليلى. قومي بسرعة!
فتحت عينيها ببطء متمتمة:
-إيه يا لقى في إيه بتصحيني كده ليه؟
-قومي يابنتي نديم جامعنا تحت ومعاه مفاجأة.. باعتني أصحيكي مخصوص يلا قوووومي.
طار النعاس ما إن سمعت أسمه، نهضت من سريرها بينما كلمات أختها تتردد في رأسها. “نديم” عاد؟
شعرت بقلبها يقفز داخل صدرها، ودفعة من الحماس تجتاحها. أخيرًا عاد!
ابتسمت كأنها لم تكن مغمورة في بحرٍ من الحزن ليلة أمس. هرعت إلى الحمام، فتحت صنبور المياه، وغسلت وجهها سريعًا بالماء البارد، علّه يزيل آثار الدموع التي جفّت على وجنتيها طوال الليل. نظرت إلى انعكاسها في المرآة، عينيها متورّمتين قليلًا، لكنها لم تهتم.. المهم أنه هنا، وأنه بعث في طلبها، ترى ما هي المفاجأة؟
فرشت أسنانها على عجل، ثم خرجت تبحث عن شيء مناسب لترتديه. اختارت فستانًا رقيقًا بلون الخوخ الناعم، قماشه الخفيف ينساب على جسدها النحيل بانسيابيةٍ رقيقة، أكمامه قصيرة، وفتحة عنقه تُبرز عظمتيّ الترقوة برقة.
مشّطت شعرها البني الطويل، وتركته ينسدل على ظهرها، تموّجاته الطبيعية تزيده جاذبية. وضعت لمسة خفيفة من أحمر الشفاه الوردي، ثم استدارت تغادر الغرفة، وقلبها يخفق بقوة.
تذكر نفسها لحظةً بلحظة.. “نديم” ينتظرها بالأسفل.
نزلت الدرج بخفة، وكل خطوة تأخذها تزيد من تسارع أنفاسها. دخلت إلى غرفة الطعام أخيرًا، وقفت للحظة عند العتبة، تتأمل المشهد أمامها.
رأته. “نديم” يجلس على رأس الطاولة كالمعتاد، وسيمًا كعادته، بهيبتــــه المألوفة، لكن.. لم يكن وحده.
كانت بجواره “راندا”.. “راندا فؤاد منصور”.
ابنة رجل من أكبر رجال الأعمال، والشريك الأهم لابن عمّها بشتّى أعماله.
الابتسامة التي كانت تتراقص على شفتيها تلاشت، وكأن أحدهم أطفأ نورًا بداخلها فجأة. لم تكن تعرف لماذا، لكنها شعرت بغصّة ثقيلة تسكن صدرها.
ثم التقت عيناها بعينيه.
لمحت في نظراته شيئًا لم تفهمه، أو ربما لم ترد أن تفهمه. كان هناك شيء غريب، لكن قبل أن تستطيع فك رموزه، قطع صوته أفكارها:
-تعالي يا ليلى.. تعالي اقعدي.
هزّت رأسها ببطءٍ، وتحركت لتجلس.. إلا إن مقعدها المعتاد بجواره كان مشغولًا.
كانت “راندا” تشغله جالسةً بجوار رجل العائلة وكبيرها مقامًا.
ترددت للحظة، ثم اتخذت كرسيًا بعيدًا، جلست عليه بهدوءٍ، بينما عيناها تراقبان تلك الفتاة.
لطالما كانت “راندا” مشهورة بين الطبقة العليا. جذّابة.. بطريقة لم تستطع إنكارها.
بشرتها برونزية متألقة، عيناها سوداوين، واسعتان، تضجّان بأنوثةٍ طاغية، شعرها الأسود ينسدل بسلاسةٍ على كتفيها، وملامحها تشعّ سحرًا خفيًا. كانت ترتدي فستانًا زهري بسيطًا لكنه يبرز جسدها بكل إغراء ممكن. حركتها، ضحكتها، حتى طريقة جلوسها، كلها كانت تشير إلى امرأة تعرف جيدًا كيف تجذب الأنظار إليها.
شعرت “ليلى” بشيءٍ مزعج يتسلل إلى قلبها.. شيء أشبه بوخزة غيرة.
لكنها تجاهلت إحساسها، وأجبرت نفسها على التركيز فيما يحدث أمامها.
يلتفت “نديم” إلى عمه الآن، ويتحدث بنبرةٍ هادئة، لكنها محمّلة بالمشاعر:
-عمي.. أنا حبيت أشكرك قدام الكل. قدام مشيرة. قدام ولادك. إللي هما اخواتي.. على كل حاجة عملتها عشاني انت ومشيرة. من يوم ما أبويا وأمي ماتوا. وأنا عمري ما حسّيت إني وحيد وانت موجود.. انت كنت دايمًا الأب التاني ليا. ومشيرة كانت أم. ولادك مش بس أخواتي انا بحس انهم ولادي كمان.. والبيت ده قبل ما يكون بيتي هو بيتكوا. وماينفعش يتفتح إلا بيكوا.
ابتسم “مهران” بحنانٍ، ونظر إليه بعينين مليئتين بالفخر:
-انت مش محتاج تشكرني يا نديم. انت ابني.. مش بس ابن أخويا. أنا عمري ما شفتك غير كده.
ساد الصمت للحظاتٍ، قبل أن يفاجئهم جميعًا بما لم تتوقعه “ليلى” أبدًا.
أمسك بيد “راندا” وضغط عليها برفقٍ، ثم نظر إليها نظرةً خاصة.. نظرة لم ترَها في عينيه من قبل ..
-عشان كده.. أنا حبيت يكون الخبر ده لأول أشاركوا معاكوا.. مع عيلتي.
ابتلعت “ليلى” ريقها، والقشعريرة تتسلل إلى أطرافها بينما تسمعه يعلن بصوته القوي:
-أنا وراندا.. اتخطبنا إنهاردة. وفرحنا هايكون آخر الأسبوع.
كلماته سقطت كالصاعقة عليها. بينما ضجّ المكان بهتافات السعادة والمباركات، شعرت “ليلى” بالأرض تميد تحت قدميها، والهواء يختفي من حولها.
تبتسم “راندا” بخجلٍ وهي تتلقّى القبلات من السيدة مشيرة وابنتها الكبرى “لُقى”.. بينما “نديم” قد وقف ليعانق عمّه وابن عمه الأصغر ..
-أخيرًا عملتها يا دونجوان!.. قالها “ليث” مشاكسًا.
ضحك “نديم” بخشونة معانقًا إيّاه عناق أخوي رجولي، وسمح لنفسه بتسديد نظرة حادة صوب ابنة عمّه الصغيرة، نظرة ملؤها المعاني المبهمة.
ولأول مرة لا ترى “ليلى” الدفء بعينيه الخضرواين اللتين لطالما عشقتهما، بل العكس، كانت بالكاد تستطيع التنفس.
حدّقت إليه بشحوبٍ، وشعرت بحرقة تلتهم صدرها. بينما يرتد قليلًا هاتفًا وهو يخاطبها مباشرةً:
-إيه لولّا! مافيش مبروك؟
أجفلت متمتمة على الفور بصوتٍ مهزوز:
-مبروك!
هز رأسه قائلًا بهدوئه المعهود:
-لأ. مبروك حاف كده ماتنفعش.. تعالي في حضني. ولا بقيتي تتكسفي منّي؟
تدخل “مهران” ضاحكًا بموّدة:
-تتكسف منك؟ ده انت إللي مربيها. ده أنا فاكر أول ما جينا نعيش معاك كان عندها 3 سنين. وماكانتش بتنام غير في حضنك.. قومي يا ليلى احضني نديم وباركيله. ده أخوكي الكبير.
أجفلت للمرة الثانية، وكأن الكلمات أصابتها في مقتل، كأن وقعها على أذنيها أشدّ قسوة من كل ما سبق. للحظة، شعرت أنها غير قادرة على الحراك، قدماها تثقلتا فجأة، وقلبها يخفق كطائرٍ مذعور. لكن نظرات العائلة، المنتظرة، لم تترك لها خيارًا.
أجبرت نفسها على النهوض، ارتباكها يفضحها، خطواتها نحو “نديم” كانت مترددة، ثقيلة، وكأنها تسير على جمرٍ لا يُرى. كان هو ثابتًا في مكانه، لم يتحرك، فقط راقب اقترابها بصمتٍ مريب، كأنه ينتظر أن تصل إليه بنفسها.
وعندما وقفت أمامه مباشرةً، رفعت عينيها إليه، للحظةٍ تلاقت النظرات، فاشتعل شيءٌ ما في قلبها، إحساسٌ غامض، مجهول المصدر، لكنه خانق. لم تمنح نفسها وقتًا لتحلّل ما يحدث بداخلها، فقط مدّت ذراعيها ببطءٍ، وشبّت على أطراف أصابعها، تحيط عنقه بذراعيها في عناقٍ بدا وكأنه محاولة يائسة للامتثال لما يُطلب منها، أكثر من كونه فعلًا نابعًا من قلبها.
إلا إن الكلمات التي خرجت من بين شفتيها.. كانت الأثقل على روحها، الأشد إيلامًا:
-مبروك يا أخويا.
وما إن نطقتها، حتى شعرت بذراعيه تلتفّان حولها فجأة، بقوةٍ لم تتوقعها، كأنهما قيدٌ أحكم إغلاقه عليها، كأنهما يرفضانهما معًا، هذا اللقب الذي منحته إيّاه وبادلها ذاته بدوره.
جاء صوته منخفضًا، لكنّه نفذ إلى أعمق نقطةٍ في روحها، محملًا بشيءٍ لم تستطع تفسيره:
-الله يبارك فيكي.. يا أختي.
ذلك الرد، كان بمثابة الضربة القاضية لأيّ مشاعر أحسّتها تجاهه.. انتهى كل شيء.. حتى قبل أن يبدأ!
يتبع…..
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية هيبة)
التعليقات