التخطي إلى المحتوى

رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل السابع عشر

توقفت سيارة ألبرت في موقف سيارات صغير في مكانٍ شبه مهجور. تقدم ألبرت وتبعه ليوناردو نحو سورٍ حديدي ممتد على مد النظر. أخرج من جيب بنطاله الأسود بطاقةً خضراء ثم وضعها أمام كاشفٍ بجانب بابٍ حديدي. راحت أشعة الضوء تتحرك إلى الأعلى والأسفل متفحصةً البطاقة، وما هي إلا دقائق حتى سُمع صوت فتح الباب ولكن لم يظهر أمامهم سوى باب بارز. خطا ألبرت عتبة الباب، فأضاء إشعاع راح يتفحص ألبرت كما حصل مع البطاقة، ثم فتح الباب الآخر وظهرت أمامهم ساحة خضراء واسعة. تجاوز ألبرت الباب ثم التفت نحو ليوناردو وقال: «افعل كما فعلت».

تقدم ليوناردو بتردد ووقف عند عتبة الباب حتى خرج الإشعاع نفسه، وراح يتحرك بسرعة إلى الأعلى والأسفل حتى ظهر ضوء أخضر يؤكد سلامة الأمور.

تخطى ليوناردو الباب وتبع ألبرت الذي سار في ممر حجري في الساحة التي فرشت بالعشب الأخضر على الطرفين والأشجار الخضراء التي صممت كسورٍ يحجب ما وراءها وامتدت على طرفي المكان. تابعَا المشي مسافة لا بأس بها، لقد كان المكان كأنه قطعة من عالمٍ مهجور، لا توجد أصوات أو أي حركة، لا وجود للحياة. أحب ليوناردو فكرة التزام الصمت وهو يراقب ملامح ألبرت الجامدة تارةً والأزهار والنباتات التي فرشت على بساط العشب على الجانبين تارةً أخرى. مع تقدم خطواتهما واقترابهما لاحت أمام ليوناردو نهاية هذا الممر الطويل وما يخفيه. وصلا إلى مكانٍ واسع بأرضية حجرية، وأول ما كان أمامهما على بعد خطوات قطار لم يكن طويلًا جدًا كالذي رآه منذ بضع ساعات. قال ألبرت وهو يتقدم نحو القطار:.

«هذا قطار كالذي رأيته وسألتني عنه ونحن في طريقنا إلى هنا. »
لم يكن لديهم على كوكب كيبلر وسائل تنقل حديثة، ولم يكن التنقل شيئًا منتشرًا كثيرًا كما هو هنا؛ فأعدادهم لا تقارن بأعداد سكان الأرض. وسيلةُ التنقل لديهم كانت عبر العربات أو بعض الآلات الحديثة التي ترسلها فيكتوريا أحيانًا، ولكن جوزيف لم يكن يهتم كثيرًا لتطوير أي شيء فباتوا يعيشون في تأخرٍ كبير مقارنةً بكوكب جليزا.

وضع ألبرت البطاقة مجددًا أمام الكاشف ولكن هذه المرة عبر وضعها على شاشة إلكترونية مقابل باب القطار. ظهر ضوء أخضر ثم فتح الباب تلقائيًا. كانت المقاعد مصفوفةً على طول الجانبين وبجانبها تقبع عدة نوافذ زجاجية.

اتخذ ألبرت من أحد المقاعد مجلسًا له ثم سحب الحزام الذي يقبع بجانب المقعد ووضعه فوق سترته الرمادية وصولًا إلى الجانب الآخر من المقعد. جلس ليوناردو على المقعد المجاور له ثم وضع الحزام كما فعل ألبرت، وصدع صوت في أرجاء القطار بعد دقائق قليلة:
«الرجاء الجلوس وربط الأحزمة، سينطلق القطار بعد خمس دقائق. »
«من المتكلم؟». سأل ليوناردو وهو ينظر إلى ألبرت.

ابتسم ألبرت وهو يقول: «لا أحد، إنه صوت مسجل. ».

صمت ليوناردو برهة وهو يفكر في كم أن هذا العالم موحش هنا، لا شيء حقيقي ولا وجود للحياة حقًا، ورغم أن ظروف الحياة قاسية على كوكب كيبلر إلا أنه يجده أرحم من كوكب الأرض.
«هل تعني بأنه لا أحد هنا غيرنا؟».

«نعم». أجابه ألبرت ثم أخرج علبة سجائره ليبدأ التدخين كعادته، سحب سيجارةً ووضعها بين شفتيه ثم أشعلها. نظر ليوناردو إلى النافذة ثم قال لألبرت: «هل أستطيع الحصول على علبة سجائرك؟».

«هل تريد التدخين؟». قال مبتسمًا وهو ينفث دخان السيجارة.
أجابه ليوناردو إيجابًا، وفور ذلك قدم له ألبرت علبة السجائر بشيءٍ من التردد؛ فرغم أنه تحداه بأن يصبح مدمن سجائر إلا أنه لا يتمنى له أن يصبح مثله. سحب ليوناردو علبة السجائر من يد ألبرت دون أن يثير شكوكه بشيء وما هي إلا عدة ثواني حتى امتدت يده إلى النافذة وقام برمي العلبة خارجًا دون تردد.

تجمد ألبرت وهو لا يستوعب ما حدث توًّا، وحدق بليوناردو الذي حاول أ? يبدي أية انفعالات أمام نظراته التي بدت له حادة وقاتلة. هو لم يتصور ما سيكون عليه رد فعله ولكنه فعلها على أية حال.

كان ألبرت لا يشعر بشيءٍ في الحقيقة، لم يكن غاضبًا مما فعله ليوناردو ولم يكن ينوي أن يبدي رد فعل حاد، شعر بشعور غريب. شخص يهتم له ويخاف على صحته، هذا ما قفز إلى عقله فجأة. تخيله ابن أخته فعلًا؛ فلو كان على قيد الحياة لكان شابًا مثله ولربما رمى علبة سجائره بهذه الجرأة دون تفكير مطول.

«في الحقيقة، ستقضي أقسى ساعةٍ في حياتك حتى نصل». قال ألبرت وهو يضغط على السيجارة في علبة مخصصة داخل يد المقعد.
توقع ليوناردو منه رد فعلٍ أقوى وأقسى، لكنه الآن يعرف تمامًا أن الشخص الذي أمامه لا يستطيع إيذاء أحدٍ بسهولة.

مضت الساعة ووصل القطار إلى المحطة. قضى ألبرت تلك الساعة وهو يتأفف ويحدق بالسيجارة اليتيمة التي أنهى تدخينها، ويتوعد ليوناردو بالانتقام منه من أجل ما سببه له من عذاب؛ فهو لا يستطيع الجلوس دون فعل أي شيء ويسلي نفسه عادة بالتدخين. نزل ليوناردو بصحبة ألبرت من القطار وحال وصولهما قابلهما رجلان يرتديان بدلة رمادية أنيقة. قال أحدهما بملامح حادة:
«هل من الممكن أن أعرف من أنت؟».

نظر ألبرت نحوه ببرود ثم قال بسخرية واضحة:
«شكرًا للاستقبال المحترم، كما أنك تستطيع سؤال السيد برنالد عن هويتي، يؤسفني أنه لم يعلمكما بوصولي الموقر، لم يكن هذا حسنًا منه».
رمقه الرجل الآخر بنظرات حادة ثم قال بحنقٍ وهو يتقدم ليقف مقابل رفيقه:
«لسنا نتسامر معك يا هذا، عرف عن نفسك وإلا، ». وقبل أن يكمل تهديده قاطعه ألبرت وهو يقول بتحدٍ:
«وإلا ماذا؟».

اشتعل غضب الرجل وتضاعف حنقه، في الحقيقة لم يكن هناك شيء يجبره على الصبر فأمسك بياقة قميص ألبرت وقال بنبرةٍ أعلى من سابقتها:
«وإلا اضطررت لتكسير كل عظمةٍ في، ».

ولكن جملته لم تكتمل لأن لكمة قوية جاءته بغتةً لتطرحه أرضًا. لم يتردد ليوناردو بالتدخل لحماية ألبرت ولكن رفيقه سارع بإخراج المسدس ووجه فوهته نحو رأس ليوناردو وقال وهو يبتسم بسخرية:.

«ستدفع ثمن هذا غاليًا جدًّا». وضع سبابته على زناد المسدس بينما استمر ليوناردو بالتحديق به دون أن يستوعب ما سيحدث بهذه السرعة، وحالما أدرك أنه سيموت حتى قبل أن يبدأ خطته التي ستوصله إلى والدته، اشتعل شيء في قلبه يفزع من فكرة الموت بسهولة في عالم غريب قبل أن يحقق آماله. وقبل أن يتهور الرجل ويضغط على الزناد بأريحية تامة ودون تردد كأنه يقتل حشرة صغيرة، وقف ألبرت في وجهه وقال بشيء من الفزع وقد وجه البطاقة الخضراء نحو الرجل:.

«أنا هنا بإذنٍ رسمي من السيد برنالد، وهذه بطاقة إثبات».

ارتخت أعصاب كلٍ من ليوناردو وألبرت وهما يشاهدان يد الرجل التي انخفضت رويدًا رويدًا حتى تلاشى الخطر وأُبعد المسدس.

جلس ليوناردو مقابل ألبرت على كرسيٍّ في غرفة مغلقة في محطة القطار المزدحمة. لقد مر ما يقارب نصف الساعة على تلك الحادثة، ومنذ وصولهما وهما يراقبان الجهة الأخرى من الغرفة التي فصلت عن مكان جلوسهما بحائط وواجهة زجاجية تظهر لهما ما يحدث داخلها. كان هناك عدة رجال ببدل رمادية متطابقة، يتهامسون ويجرون عدة اتصالات للتحقق من هوية ألبرت وذلك التصريح الذي استطاع به الدخول في مكانهم الخاص.

كان ألبرت يشعر بالاستياء الشديد لأنه اضطر إلى الخضوع لهم بطريقة أو بأخرى، ولكن الأمر لم يكن يتعلق به؛ فقد كان أحدهم مستعدًّا لقتل ليوناردو. قال وعيناه ما زالتا معلقتين على الواجهة الزجاجية يراقب تحركاتهم و نظراتهم:
«لا تفعلها مرةً أخرى. ».

نظر ليوناردو نحو ألبرت باستغراب فهو لم يفهم ما يقصده تمامًا، فقال:
«ماذا تقصد؟».

أخذ نفسًا عميقًا محاولًا التخلص من الضيق الذي يشعر به من الانتظار تحت رحمتهم، وقد لاحت أمامه تلك الذكرى المقيتة وذلك الانتظار المميت نفسه. قال محاولًا عدم الكشف عن توتره:
«أعني التدخل بيني وبينهم، أنا أعرف كيف أتعامل معهم جيدًا فأنا لا أبالي بما سيفعلونه بي، ولكنك لست مضطرًا لاتخاذ الطريق نفسه. ».

«في الحقيقة، هذا لا يتعلق بما تفعله أنت، بل يتعلق بأنني لا أستطيع الوقوف دون أن أحرك ساكنًا. ».

«حاول عدم التهور الآن. ».

«يمكنكم الخروج، هناك سيارة خاصة بانتظاركما». قال أحد الضباط مقاطعًا حديث ألبرت بدخوله المفاجئ.

لم ينتظر ألبرت كثيرًا فهمّ بالوقوف من فوره وخرج من تلك الحجرة المقيتة، ومن ثم تبعه ليوناردو، لكنه استطاع بسهولة ملاحظة النظرات الحادة الموجهة له تحديدًا وعلى وجه الخصوص.

خرج ليوناردو ليلتقي تلك المحطة المزدحمة التي عجت بالناس. كان هذا أول مكانٍ حي يذهب إليه منذ أن وصل إلى كوكب الأرض، مكان يعج بالناس والضجة والضحكات والحركة. رجال ببذلات أنيقة ونساء بصيحات أثواب مختلفة، كانت المرة الأولى التي يرى بها تنوعًا في الأثواب هكذا. شعر وكأنه في عالم آخر لم يسبق له أن تخيله، شعور بالدوار داهمه فجأة بسبب الزحمة الكبيرة في المكان، لم يكن واقفًا في مكانٍ واحد فشعر أثناء سيره في هذا المكان أنه كالمتاهة تمامًا. كان كل من يمر بجانبهم يحدقون به بنظرات غريبة؛ نظرات استهجان، ما جعل شعور عدم الانتماء يتضخم داخله، لم يكن يرتدي شيئًا من الثياب التي جلبها معه، بل ارتدى من ثياب ألبرت الذي سخر منه عندما كان ينوي ارتداء شيء من ملابسه غير آبه بهذا الاختلاف، ولكنه رغم ذلك لم يكن يبدو بمستواهم الاجتماعي نفسه، كان مختلفًا؛ فلقد اعتاد أن يكون في مكان لا ينتمي إليه، اعتاد أن يكون غريبًا، كيف لا وقد كان غريبًا في مسقط رأسه حتى؟

لم يكن ركوب السيارة أقل غرابةً مما سبق، استرسل في مراقبة المدينة كيوم وصوله تمامًا لكنه الآن يدرك عبارات ألبرت السابقة؛ فهذا العالم حقًا مختلف تمامًا. كانت عيناه لا تلتقطان قمة الأبنية لأنها كانت شاهقة الارتفاع، أما الأرصفة فمزدحمة بأناس بشتى الهيئات. الطريق مزدحم بالسيارات وإلى جانبه يوجد طريق ضيق عبرت خلاله مجموعة دراجات يقودها أشخاص بزي موحد. جذب نظره مجموعة من الأطفال يلعبون في الحديقة والضحكات تعلو ثغرهم. شعر بأنه يحسدهم لحصولهم على طفولة مليئة بالمرح؛ فهو لم يحصل على مثلها حتى في أحلامه لأنه اضطر إلى النضوج مبكرًا جدًّا. أيقظه من شروده تأفف ألبرت الذي يجلس بجانبه، التفت ينظر إليه فوجده يدلك جبينه باستمرار والعبوس واضح على وجهه.

«لقد أسديت لي خدمةً لن أنساها في حياتي ليو». قال ألبرت بسخرية وهو يستمر بما يفعل.

نظر ليوناردو نحوه باستنكار وهو يحاول فهم ما يقصده ألبرت بالضبط، وقد نسي ما قام بفعله في القطار، فقال:
– ماذا تقصد؟

– لقد رميت علبة سجائري وأنا الآن أعاني من صداع قاتل، أنت تستحق حكم الإعدام لبقائي بلا تدخين ثلاث ساعات متواصلة.

ابتسم ليوناردو وهو يرمق ألبرت ثم قال:
«لقد رحمت رئتك من خمس إلى عشر سجائر».

التفت ألبرت ليواجه ليوناردو ثم قال بسخرية وهو يحدق به بعينيه الحمراوين:
«سأحرق رئتي إن كانت قد شكت لك مشاكلها؛ فلقد أوقعتني معك. ».

قال ليوناردو بهدوء وتحدٍ:
«إذًا ضع فكرة الإقلاع عن التدخين نصب عينيك».

«في أحلامك». أجابه ألبرت بالنبرة نفسها.

وقبل أن يكملا ذلك النقاش الذي لا ينتهي، توقفت السيارة أمام مبنى رمادي شاهق الارتفاع، اصطفت الواجهات الزجاجية حول جميع طوابقه عاكسةً أناقة المكان في الداخل. نزل ليوناردو وألبرت من السيارة يتبعان الضابط الذي رافقهما من المحطة حتى هنا. مشى الضابط نحو بوابة البناء بعد أن حيّى الحارسين اللذين يقفان على جانبي البوابة كأنه يعرفهما جيدًا ثم تقدم نحو البوابة التي أطلقت أشعةً مُررت عبر جسده، ففتح الباب الزجاجي بعدئذ. وقف ليوناردو بعد أن عبر البوابة يمرر أنظاره حول ذلك المكان الضخم يتفحص تفاصيل أناقته بدايةً من البلاط الفخم الذي فرش الأرضية والزهور التي وزعت على كل المكاتب حيث يجلس العاملون أمام أجهزة الحاسوب. كان المكان يفتقد إلى الهدوء بسبب زحمة المكان والأحاديث الكثيرة التي عمت الأجواء. بينما كان الضابط بجانبه منشغلًا بمحادثة المرأة التي تقف هناك، أشار ألبرت الذي كان يقف عند طرف المكان لليوناردو. نظر ليوناردو وهو يتقدم نحو ألبرت إلى اللافتة التي علقت هناك وقد كتب «الاستقبال».

«السيد برنالد بانتظاركم في مكتبه الخاص». قالت موظفة الاستقبال للضباط وهي تعيد سماعة الهاتف مبتسمة ثم أتبعت: «ستحضر إحدى الموظفات لترشدهما إلى مكان المكتب، يمكنك الرحيل».

أومأ الضابط لها ثم رحل دون أن يلقي نظرة أخيرة عليهما حتى حضرت الموظفة بعد دقائق، كانت ترتدي بنطالا أسود وقميصًا أبيض فوقه سترة سوداء، وكانت قد رفعت شعرها الأشقر على شكل كعكة بطريقة فوضوية. نظرت إليها موظفة الاستقبال ثم قالت: «أرشديهما إلى مكتب السيد برنالد».

أومأت لها ثم نظرت نحو ألبرت وليوناردو وقالت مبتسمة:
«تفضلا. ».

استقلوا المصعد وصولًا إلى الطابق الأول الذي كان يطوق الطابق الأرضي. كان الممر يحوي أبوابا لحجرات كثيرة. كان المكان هادئًا جدًا عكس الطابق السفلي الذي يعمّ بالفوضى والضجة. توقفت الموظفة عند أحد الأبواب ثم فتحته ودخلت، ظهر أمامهما مكتب صغير جلست عليه موظفة أخرى وكانت منشغلة ببعض الأوراق أمامها.

ألقت الموظفة التحية على زميلتها ثم قالت مشيرةً إلى ألبرت وليوناردو:
«هذان السيدان لديهما موعد مع السيد برنالد. ».

لم يطل وجودها كثيرًا، فما لبثت أن قالت جملتها حتى رحلت دون انتظار أي إجابة.

هزت الأخرى رأسها ثم قالت وهي تنظر إليهما:
«السيد ألبرت لديه موعد فعلًا، لكن الشخص الآخر برفقته لا يوجد اسمه لدي هنا. ».

نظر ألبرت نحوها باستنكار ثم قال:
«السيد برنالد يعرف أمر اصطحابي إياه معي، لكنني لم أخبره بأمر وصوله، ثم إنني في عجلة من أمري ولقد أضعتم من وقتي الكثير، أريد الدخول حالًا. ».

تجاهلت الموظفة كلامه وعادت تكمل عملها ثم قالت بلا مبالاة:
«آسفة، ولكن إما أن تدخل وحدك أو تأخذ موعدًا آخر وسنرسل موعده لك لاحقًا. ».

بقي ألبرت يحدق نحوها بغضب دقائق ثم قال وهو يتقدم نحوها:
«أدخليني الآن وإلا سأحطم مكتبك هذا. ».

ابتسمت الموظفة بسخرية ثم قالت بنبرة مهددة:
«أنت في مكتب السيد برنالد نفسه فلا تنسى هذا. ».

لم يستطع ألبرت التحكم بأعصابه أو رد فعله، فأمسك بمعصمها ليمنعها من إكمال عملها دون أن تبالي لأمره:
«وأنت تتحدثين معي فلا تنسي نفسك. ».

بدأت تحاول سحب معصمها بقوة من بين يديه وقالت بنبرة صوت أعلى مما سبق:
«أبعد يدك عني. ».

أحكم قبضته أكثر من ذي قبل وهو يشل حركة يدها.

«ليس قبل أن تفتحي هذا الباب. ».

«لا أستطيع، والآن دعني وشأني وإلا طلبت لك الشرطة حالًا. ».

دفع ألبرت جهاز الحاسوب الذي يقبع على مكتب الموظفة فسقط على الأرض محطمًا، ثم بدأ يرمي ما تقع عليه يده، ولم يكن باستطاعة الموظفة سوى الصراخ. فتح برنالد باب مكتبه على إثر تلك الضجة وقبل أن يعي سببها صرخ قائلًا:
«ما الذي يحدث هنا؟».

حرر ألبرت معصم الموظفة وما زال الغضب يسيطر عليه، ربما كان امتناعه عن التدخين هو سبب ذلك الجنون الذي أصابه. نهضت الموظفة من مكانها وجسدها يرتجف بسبب ما حصل ثم قالت وما زالت نبرة صوتها عالية:
«سيدي يريد أن يدخل رفيقه دون موعد وعندما رفضت ثار كالثور وحطم مكتبي وقيد معصمي. إنه مجنون. ».

نظر برنالد نحو ألبرت وهو بالكاد يكبح غضبه ورغبته بقتله، ولكن عوضًا من هذا صب جام غضبه على سكرتيرة مكتبه فصرخ بها:
«لا أعرف لماذا تتصرفون بغباء دون إعلامي، لماذا لم تخبريني بذلك وقررتي التصرف بحماقة؟».

كانت الموظفة تنتظر منه أن يطردهما لا أن يصرخ في وجهها فقالت:
«ولكن سيدي، ».

قطع جملتها قائلًا بغضب:
«لا أريد سماع المزيد، استدعي عامل النظافة حتى ينظف هذه الفوضى ولا تدخلي أحدًا إلى مكتبي. ».

فور إنهاء جملته نظر إلى ألبرت وليوناردو ثم قال بامتعاض:
«ادخلا. ».

دخل ألبرت في مكتب برنالد وهو يمرر نظراته الغاضبة على كل ما حوله، كان كل ما حصل اليوم يزيد شعوره بالاستياء ويضفي المزيد على حقده الدفين لهم. سارع برنالد بإغلاق باب المكتب وهو يراقب خطوات ألبرت و ليوناردو نحو مكتبه.

«لم يكن هذا اتفاقنا سيد ألبرت». قال برنالد معاتبًا وهو يقترب نحو مكتبه.

تعلقت عينا ألبرت الحمراوان على برنالد عندما كان يرمقه بغيظ، ثم قال بنبرة جاهد في جعلها هادئة قدر الإمكان:
«وماذا كان اتفاقنا برنالد؟».

شدد ألبرت على نطق اسمه بطريقة ساخرة استفزت برنالد كثيرًا وجعلته في صراع داخلي مع نفسه حتى يكبح غضبه الشديد. لم يكن من السهل على شخص مثله تقبل أن يكون مستعبدًا من قبل شخصٍ ما؛ فلطالما عهد أن يكون الجميع عبيد رغباته وإشارته، والآن شخص من العامة يكسر كبرياءه بسهولة. كان على برنالد التصرف بحكمة دون إقحام مشاعره في تصرفاته، ولأنه يعرف أن ألبرت يتعمد إغاظته أجابه بهدوء وهو يحتل مقعد مكتبه:.

«ألّا تثير الفوضى؛ فهذا يعني إخلال بنود اتفاقنا. ».

ابتسم ألبرت ابتسامة ساخرة ثم أجاب:
«إنه لمن الحمق سيدي الفاضل ألا تتعلم من أخطائك، هذا مشينُ حقًا فلقد حذرتك من عدم العبث معي، هل تعتقد أنك تستطيع التخلص مني بسهولة؟».

انتفض جسد برنالد وهو يستمع إلى كلمات ألبرت التي أصابت وتره الحساس وجعلت قدرته على التحامل تتلاشى، كان يرمق ذلك الذي يجلس مواجهًا ألبرت من تارةٍ إلى أخرى مستثقلًا فكرة وجود شخص جديد يشهد إهانته. ارتفعت نبرة صوته وهو يقول:.

«اسمع يا هذا، لقد اكتفيت من أسلوبك الفظ، انتبه لألفاظك معي جيدًا». عقد حاجبيه ثم أتبع بنبرة أكثر حدةً من ذي قبل: «ثم ماذا تقصد بالعبث؟ لا تستعمل طريقة الألغاز معي».

ارتخت تعابير وجه ألبرت وهو يجيبه:
«سمعًا وطاعة سيد برنالد، لن أستعمل الألغاز معك فهذه طريقةُ لا تناسب شخصي حتى، أنت محق ولكن دعني أقول لك سرًّا صغيرًّا». قرب وجهه قليلًا وعيناه ما زالتا معلقتين على تعابير الصدمة التي رسمت على وجه برنالد ثم أخفض صوته وهو يتابع: «ما تبحثون عنه ليس في منزلي فأنا لم أفقد عقلي بعد حتى أتصرف بسذاجة».

ازدرد برنالد ريقه وهو يكاد لا يصدق دهاء ألبرت، لم يتوقع أبدًا أنه سيعلم بأمر الرجال الذين أرسلهم للبحث في منزله أثناء غيابه، لكن ألبرت قد قام بتنصيب كاميرات مراقبة في منزله فهو يعرف ألاعيبهم.

ضرب ألبرت الطاولة أمامه ليوقظ برنالد من شروده ثم قال:
«حذرتكم كثيرًا من العبث معي لكنكم تصرون كثيرًا، فلا تلوموني عندما أقرر دخول ساحة المعركة للقضاء عليكم. ».

«لم أكن أصدق كلامك». أجابه برنالد من فوره ثم أتبع وهو يحاول السيطرة على هدوئه: «كنت أعتقد أنك تستغلنا، بمعنى أصح، تخدعنا بكذبة لا وجود لها، فقمت بإرسال رجالي للتنقيب عما تخفيه وعندما لم يجدوا شيئًا أقررت بأنك مجرد مخادع. ».

لم يكن من ألبرت سوى أن ابتسم ساخرًا ثم أردف رافعًا حاجبيه:
– وهل تتنظر مني أن أخفي ما أخفيه في أماكن مكشوفة وأنا على علم بمكائدكم؟ والآن ماذا تريد؟ أنت متأكد أنني مخادع فلماذا لا تقتلني؟

– لأن ثقتك تخيفني، ولذلك أنا مجبر على التعامل معك وتنفيذ ما طلبته على أن تبتعد عن طريقي.

لم يكن ألبرت يريد أكثر من هذا، كما أنه الآن يستطيع الشعور بالأمان أكثر حيال مكائدهم فيبدو أنه استسلم لرغباته، لكنه لا يستطيع الوثوق بهم تمامًا.

«جيد إذًا، بإمكاني الآن فقط الاطمئنان على ابن أختي». قال ألبرت وهو يرمق ليوناردو.

لم يستوعب ليوناردو حقيقة ذلك الحوار المسرحي الذي حصل أمامه منذ دقائق، حتى أنه لم يستطع التعرف على شخص ألبرت الذي تغير تمامًا عما اعتاد عليه، ولكنه يدرك شيئًا واحدًا فقط: أن رحلته المجهولة بدأت توًّا.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *