رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل العشرون
المكان: كوكب الأرض.
لقد مضى أسبوعٌ على تلك المشاجرة وقد انتهى الأمر عند تلك النقطة. جلس ليوناردو في مقهى الجامعة وأمامه كتاب قد استعاره من مكتبة الجامعة، لا يعرف حقًّا بماذا كان يفكر عندما استعاره، هو يمضي وقته الشاغر يتسكع في المكتبة ربما لشعوره بالفراغ أو لرغبته بإيجاده شيء يبحث عنه في عنوان الكتاب. كان الكتاب يتحدث عن كيفية الوصول إلى الأحلام وتحقيقها، وبالفعل كان كل ما يدور في رأسه في تلك اللحظة هو هدفه وكيف سيسلك الطريق لتحقيقه، فرغم مرور أسبوع كامل لم يقطع حتى خطوة واحدة، ربما كان عليه أن يعرف منذ البداية أنه شخص انطوائي يستحيل عليه الاندماج في أي بيئة كانت خاصةً إن كانت بذاك التعقيد، فمَ عساه يفعل؟ إضافةً إلى كل هذا، هناك إزعاج فيكتوريا إياه عبر إرسال رسائل ومقاطع صوتية عبر الجهاز الذي أعطته إياه، تود بها معرفة ما استطاع إنجازه حتى الآن خصوصًا بعد مرور ثلاثة أسابيع على وصوله إلى كوكب الأرض، لكنه كان في كل مرة يخبرها أنه ينتظر الفرصة المناسبة ولكن فيكتوريا لن تتقبل ذلك العذر طويلًا، خصوصًا أنها هددته بوالدته في المرة الأخيرة وقد بدأ شعوره بالاضطراب والتوتر يزدادان. لم يكن حقيقة يقرأ شيئًا من الكتاب الذي فتحه أمامه، بل كان يتخذه سبيلًا للابتعاد عن أنظار من حوله أو الدخول في حالة من الشرود دون أن يلفت إليه الأنظار. كان بحاجة لأن يجد حلًا، لكن كيف يفعل ذلك وهو لا يستطيع بدء علاقة مع أي شخص هنا؟ إنه لأمر صعبٌ جدًّا أكثر مما تخيل وخصوصًا بعد أن عرف من هي فيوليت بسماعه من يناديها، وقد سبق أن عرف أنها شقيقة دانيل. لمح مجموعة دانيل يشقون طريقهم إلى إحدى الطاولات وقد فصلتهم طاولة واحدة فقط عنه.
«أخيرًا قد نُسّقت تلك الرحلة بعد طول انتظار!».
سمع صوت إحدى الفتيات وهي تقول جملتها قبل أن يسمع صوت كراسي الطاولة تتحرك وقد حملت نبرة صوتها شيئًا من الحماس. لقد سمع اليوم عن موضوع الرحلة تلك التي نسقتها الجامعة للأسبوع القادم، وسمع أيضًا أنهم سيتجهون إلى أكبر مدينة ترفيهية قد انتهى بناؤها مؤخّرًا بطلب من طلاب الجامعة أنفسهم، كان الكل متحمسًا لقدوم موعد الرحلة الجامعية. تبعد وجهتهم عن الجامعة حوالي ستين كيلومترًا وقد بدأ جميع من معه في المحاضرة بالتخطيط لما سيفعلونه يومئذ، ورغم عدم معرفته لشيء عن مدينة الترفيه إلا أنه استطاع الفهم من خلال أحاديثهم الكثيرة أنه مكان للهو واللعب. استغرب حماسهم الشديد وهم في هذا العمر، فهو يعرف أن الألعاب للأطفال ولم يسبق له رؤية شباب في هذا العمر يرغبون باللعب، ولعل سكان سكان الأرض يقضون أوقاتهم يلعبون ويلهون حينما كان يقضي معظم أوقاته في التدريب، وكان بعض زملائه يلهون بالمبارزات وتحديات الصيد وأقواس الرماية، لكنه لم يكن يشعر بوجود نفسه في هذا العالم وكأنه في اللاوجود، حيث لا يكون هناك سوى بقايا الماضي. لا يعرف حقًّا ما الذي جعله يعيش في الماضي متناسيًا حاضره معتكفًا دومًا وممتنعًا عن الاستمتاع بوقته، ربما شعوره بالذنب تجاه والدته واعتقاده أنه من العار عليه الاستمتاع ووالدته تعاني؛ كان يشعر بالمسؤولية اتجاهها. لم يكن يستمع إلى ما يقولونه وما يسردونه من أحاديث مهمة؛ فقد عاد ليغرق في أفكاره من جديد. وقعت عيناه على ساعة يده ليكتشف أن موعد المحاضرة قد اقترب وبأن عليه مغادرة المقهى حالًا.
وقفت آنجل في ساحة الجامعة حيث العشب الرطب والأشجار العارية التي فقدت أبناءها عند حلول فصل الخريف وانتهى الحال بها دون أوراق أو ثمار. كان المكان خاليًا تقريبًا خصوصًا أن الجو بارد والأمطار قد تساقطت توًّا، كانت السماء مكدسة بالغيوم الداكنة والتي تنذر أن الأمطار ستعود لتتساقط من جديد. نظرت إلى ساعتها التي تشير إلى الثانية عشر ظهرًا، هي تعرف أن محاضرات ليوناردو في هذا اليوم تنتهي الآن، فقد اطلعت على جدول زميلها الخاص بمواعيد المحاضرات وتعرف أيضًا أنه يخرج كل يوم قبل الجميع؛ فباقي زملائه يبقون في المقهى بعض الوقت قبل أن يغادروا عائدين إلى بيوتهم، لكنها تخشى أن يبقى اليوم وقتًا أطول بسبب حالة الطقس. سمعت صوت أقدام تخطو على برك الماء الناتجة عن الأمطار الغزيرة فعادت تراقب البوابة منتظرةً ظهوره، وما هي إلا بضع دقائق حتى شاهدته يتقدم بخطواته متجاوزًا البوابة الضخمة دون أن يلتفت حتى. كان يرتدي معطفًا جلديًا أسود اللون وبنطالًا أسود كذلك، لاحظت أنه يتشح بالسواد دومًا ما جعله شخصًا غريب الأطوار حقًّا. عوضًا من مناداته بقيت آنجل تحدق به، شعره البني المبعثر نسبيًّا وبشرته السمراء وعيناه اللتان تراقبان خطواته فقط لا أكثر.
لا تفهم كيف قبلوا بدخوله مدينتهم بهذه السهولة، فاختلافه واضحٌ جدًّا وقد بدا عليه أنه من طبقة أقل من الطبقة المتوسطة، بل حتى أقل من عامة الشعب. حاولت استدراج والدها للحديث لكنه لم يخبرها سوى بحججٍ واهية لم تصدقها. مشت وراءه لتتجاوز بوابة الجامعة وتتجه إلى يمين الرصيف، وقد لاحظت أن خطواته واسعة فلقد ابتعد بشكل ملحوظ. لم يكن من السهل عليها المشي بخطوات واسعة للحاق به بجزمتها الجلدية ذات الكعب العالي وفي هذا المطر، شعرت بالضيق وقد استسخفت أفكارها المجنونة لحظة، ولكن رغبتها بالتخلص من فيوليت أكبر من أي شيء. لم يعد يفصلهما مسافة كبيرة فنادته من مكانها بعد أن شعرت بألم في قدميها وقد شعرت بالراحة لأن الشوارع شبه خالية في هذا الوقت فالجميع في عمله أو مدارسه إلا القليل. توقف ليوناردو عندما سمع من يناديه ثم استدار ليرى آنجل التي كانت ترتدي معطفًا جلديًّا ذا فرو على عنقه وأكمامه يصل إلى ركبتيها مع جزمة طويلة. طالع معالم وجهها المنزعجة وخصلات شعرها الشقراء المبللة التي انسدلت على كتفيها. كان وجهها أحمر اللون وعليه بعض قطرات ماء، فرغم توقف المطر حاليًّا إلا أن بعض قطرات الماء كانت تتساقط من أغصان الأشجار المبللة. لم يكن واثقًا تمامًا أنها قد نادته فعلًا، فوقف مكانه يحدق بها دون أن يقول شيئًا.
زفرت أنزعاج ثم قالت بعد أن ابتسمت ابتسامة جانبية ساخرة:
«لا تقل لي أنك ستستمر بالتحديق بي دون أن تجيبني، هل أنت أبكم؟ لم أسمعك تتكلم من قبل. »
رفع حاجبيه قليلًا مستغربًا من سبب رغبة فتاة مغرورة مثلها بالحديث إليه ثم قال:
«لا، لست أبكمَ، ولكن اعتقدت أن أذني قد أخطأت السمع فلم أكن أعتقد أن فتاة مثلك ترغب بالحديث إلي. ».
رمقته آنجل أنزعاج، فلم تتوقع أن حديثه سيحمل شيئًا من الغرور كما توحي هيئته، إلا أنه يبدو وكأنه قد استنسخ أسلوبها بالحديث معه. اقتربت بضع خطوات فلقد كانت تفصلهما مسافةٌ لا بأس بها، ثم قالت بعد أن أخذت نفسًا عميقًا محاولة التعامل معه بأريحية تامة بدل حرب النظرات تلك:
«كنت أتساءل فقط إن كنت ستخرج معنا في رحلة الأسبوع القادم. ».
لم يكن يعرف حقًّا هدف سؤالها إياه، خاصةً أنه لا صلة تجمعهما على الإطلاق، ولم يتحدث إليها من قبل، فما الذي يجعلها تسأله الآن مثل هذا السؤال؟ وما غرضها منه؟ هو حقًّا لم يفكر ما إن كان سينضم لهم أم لا فهذا آخر ما يشغل باله.
«لا أعرف، لم أفكر بالأمر. ».
ابتسمت فجأة ثم قالت:
«لدي صديقة قد طلبت مني أن أسألك، فهي ترجو حضورك معنا». صمتت قليلًا ثم أردفت بحماس وقد اتسعت ابتسامتها الخبيثة: «لقد دافعت عنك عندما أزعجك الشابان منذ فترة».
عقد حاجبيه باستغراب دون أن يفهم ما ترمي إليه ومن تقصد بالضبط فقال متلعثمًا:
«لا أفهم ماذا، ». لكنها بترت جملته تلك لتقول بمكر:
«حسنًا، لن أحرجك على أي حال، لكن لا تنسى أن عليك القدوم. ».
قالت جملتها تلك ثم استدارت عائدةً من حيث جاءت، وقد استمر ليوناردو يحدق بها دون أن يفهم شيئًا مما حدث توًّا، ولم يخطر في باله حينئذ سوى أنهم يدبرون له مكيدة ما لينتقموا منه.
جلس ليوناردو يحدق بشاشة الجهاز أمامه وقد تجمعت الدموع في عينيه، كان يبدو طفلًا صغيرًا في السادسة من عمره تحديدًا، وقد عادت ذاكرته تسترجع تلك اللحظات العصيبة وصوت صراخ والدته يتعالى على مسامعه وهي تصرخ باسمه ودموعها تتسابق بالسقوط على خديها. كانت تحاول التحرر من قبضة الحراس وما تلبث أن تتحرر منهم حتى يعودوا ليقيدوها من جديد. كان هو يصرخ أيضًا ويبكي؛ فلم يكن بمقدور طفل صغير في السادسة من عمره سوى الصراخ والبكاء عسى أن يسمعه أحد، لكنه نسي أن جميع من حوله صمٌّ لا يسمعون بل لا يكترثون. شعر بمرارة تلك اللحظة وكم كان منكسرًا عندئذ، ليته كان شابًّا قويًّا، ربما كان ذلك ليغير شيئًا حينئذ. لقد افتقدها وهو يحبها جدًّا، يحب كلماتها الجميلة له وما زالت كلمة «صغيري» تتردد على مسامعه كأنه يسمعها الآن. حكايات ما قبل النوم وابتسامة عذبة تبتسمها له متناسيةً كل أحزانها، رائحة عطرها التي ما زال يذكرها. كانت تستلقي إلى جانبه ليلًا عندما يشعر بالخوف وتمسح على شعره بحنان، كانت تشعره بالأمان وكأن العالم كله مشرق يعانقه بحب. لم يفهم حقًّا مدى حبها له، ذلك الحب الذي جعلها تبتسم من أجله وتحب الحياة من أجله رغم كل شيء. ذلك الحب الذي جعلها تمسح دموعها وتخفي جروحها حتى تقابله بابتسامة لتصنع له طفولة جميلة.
تذكر فقط أنها في الفترة الأخيرة بدأت تتأزم جدًّا، فرغم محاولتها إخفاء حزنها وألمها كان يسمع صوت بكائها عندما كان يقف وراء باب غرفتها ويضع أذنه على الباب ليتأكد إن كان هذا صوت بكائها أم لا، لكنها كانت تبكي حقًّا. قالت له ذات مرة أنها ترى فيه مستقبلًا مشرقًا سيغير الكثير مما يجب أن يتغير في هذا العالم، وقد طلبت منه أن يكون شجاعًا. ربما معرفتها أنه سيبتعد عنها في كل الأحوال بعد ثلاث سنوات ليلتحق بالتدريب جعلها تجازف المجازفة الأكبر. كانت تفقد الأمل رويدًا رويدًا حتى جاء الدافع الأكبر، وبدأ ذلك الشخص -الذي كان يُظن أنه والده- بإبعاده عنها ومنعها من قضاء وقت طويل معه. كان يشعر أنه حجر وليس بشرًا، كان قاسيًا جدًّا بالتعامل وكان يضرب والدته كثيرًا بسبب أو دونه، حتى جاء ذلك اليوم وقد نظرت إلى زوجها نظرات حادة قد رآها أول مرة في عينيها. وقفت أمامه وصرخت أمامه بكلمات لاذعة حتى أنه تجمد في مكانه ولم يصدق، بل لم يتوقع رد فعل من تلك الضعيفة الخاضعة التي تصمت مهما حدث، تبكي بصمت وتحزن بصمت. استمر زوجها متجمدًّا أمامها حتى ألقت بالقنبلة التي دمرت كل شيء عندما نفت أبوة زوجها، وانتهى كل شيء عند تلك اللحظة.
سقطت دمعةٌ من عينيه وهو يعود إلى الواقع ويرى الصورة أمامه من جديد، صورة والدته ذات الوجه الشاحب التي أوشكت على الموت كما كتبت فيكتوريا برسالتها له. شهق باكيًا كطفل وهو يتأمل تجاعيد وجهها، لقد كبرت وذبلت روحها وهو بعيدٌ عنها، وهو ما زال يحلم بابتسامتها، ما زال يحلم بمعانقتها وهنا سيوقف الزمن لتستمر تلك اللحظة إلى الأبد، ولكنها الآن على وشك الموت وهو مكبل اليدين لا يستطيع فعل شيء. كتبت له فيكتوريا عن حالة والدته وطلبت منه الإسراع بالمهمة وإلا توفيت والدته قبل أن يستطيع رؤيتها، كما أنها أكدت أنها لن تقدم لها أي علاج طبي دون أن ينفذ ما طلبته منه.
كل شيء ضده والجميع يرغب باستحكامه وتهديده، الجميع يعرف نقطة ضعفه والجميع يرغبون باستعباد الضعفاء. لن تفيده عضلاته ولا سنوات التدريب الطويلة، لن تفيده جرأته أو حتى كيانه الذي أرعب الكثيرين، فهو ليس سوى دمية يتحكم بها الجميع.
وضع جبينه فوق ذراعه التي وضعها على الطاولة، حاول أن يأخذ نفسًا عميقًا عساه يتخلص من بعض الضيق، لكن عقله لا يتوقف عن التفكير وقلبه يؤلمه ويضيق عليه. أغلق عينيه لحظات حيث حاول تصفية ذهنه من الأفكار السلبية ومحاولة التفكير بما سيستطيع فعله لينفذ تلك المهمة. حقيقة أن والدته ستموت قبل أن يراها كانت تجعله في حالة أسوأ وقد كان ما يتخيله أشبه بكابوس مرعب جدًّا، ماذا سيفعل إن فشل؟ هل ستستمر حياته حقًّا ويبقى على قيد الحياة؟
وبينما كان عقله يصور له الكثير من السيناريوهات والكوابيس المرعبة، بدأت كلمات آنجل تتردد على مسامعه من جديد وقد تذكر أمر تلك الرحلة التي ستكون بعد عدة أيام. إنها فرصة ذهبية لا يمكن أن يضيعها، عليه أن يكون موجودًا ويجب أن ينشئ صداقات معهم ويأخذ مكانًا له بينهم. سيفعل أي شيء حتى يستطيع تنفيذ هذه المهمة، سينسى قلبه تمامًا ويتصرف بعقلانية حتى يصل إلى هدفه وينقذ والدته من الموت، عليه أن يفعل ذلك وإلا سيندم حتى بقية حياته.
جالت عينا فيوليت الخضراوان المكان بحماس شديد، كان كل شيء خياليًّا ورائعًا. المكان مغلق بسقف زجاجي لا يمنعهم من رؤية السماء، لقد كانت فيوليت متشوقة جدًّا لهذا اليوم كما أنها ترغب بالاستمتاع به إلى آخر رمق. تحب اللعب مع أصدقائها جدًّا؛ فداخلها طفلة تحب اللعب والمغامرة. وقفت أمام دكان صغير يعرض على الواجهة الخلفية في الأعلى مجموعة من الدمى والدبب الصغيرة والكبيرة. إنها إحدى الألعاب حيث يمكنك الحصول على أي لعبة ترغب إن حصلت على النقاط الكافية عبر رمي أسهم نحو دائرة النقاط. كانت فيوليت تعشق تلك اللعبة منذ الصغر؛ فهي تحدٍ وهي تحب التحديات وتحب الدمى أيضًا.
نظرت إلى زملائها الذين انسجموا بالأحاديث والضحك ثم قالت بحماس مشيرةً إلى المكان:
«أريد أن ألعب تلك اللعبة أولًا!».
نظرت إليها جاكلين بخيبة أمل ثم قالت معاتبة:
«فيوليت، لا تقولي لي أنك ستضيعين وقتك هنا وعلى هذه اللعبة؟».
«وما المشكلة في هذا؟ تعرفين أنها لعبتي المفضلة. ».
قال جاك مبتسمًا بعد أن قرر التدخل:
«فيوليت، صحيح أننا نذهب إلى المدينة الترفيهية كل فترة ونصبح كالأطفال المجانين، ولكن علينا المجازفة قليلًا واختيار ألعاب الناضجين. ».
رفعت فيوليت حاجبيها باستياء ثم قالت أنزعاج بعد أن عقدت ذراعيها أمام صدرها:
«حسنًا أيها الناضجون، اذهبوا أنتم وسألعب أنا هنا ثم نلتقي عند لعبة القطار. ».
ابتسم زملاؤها بعد أن سمعوا كلماتها الساخرة، لكنهم تابعوا مسيرهم ليتركوها وحدها، وقبل أن يتبعهم دانيل قال لها مبتسمًا:
«حسنًا، نلتقي لاحقًا. ».
أومأت له بامتعاض ثم شاهدته وهو يستدير ليتبع زملاءه، وما إن ابتعدوا حتى اقتربت من الدكان الصغير وأخبرت الرجل الذي يقف هناك أنها ترغب باللعب وطلبت منه أن يعطيها الأسهم. وما هي إلا دقائق عدة حتى وضع أمامها ثلاثة أسهم متوسطة الحجم ذات رأس حديدي حاد. كان عليها أن تجمع مئة نقطة حتى تحصل على أصغر دمية دب موجودة. حملت أول سهم بين أصابعها ثم بدأت تحاول التركيز على المنتصف حيث يمكنها الحصول على مئتي نقطة في مرة واحدة، كم سيكون ذلك رائعًا إن استطاعت إصابة الهدف!
رمت السهم بعد دقائق عدة متمنيةً أن يصيب الهدف، ولكنه انحدر إلى الأسفل قبل أن يصل، كان هذا مخيبًا للأمل ولكن ما زالت أمامها محاولتان. حاولت هذه المرة ألا تركز على أي هدف عساه يصيبه بالصدفة، وأصاب السهم اللوحة فعلًا هذه المرة ولكنها لم تحصد سوى عشر نقاط. تنهدت أنزعاج عندما شعرت بخيبة الأمل واستمرت تحدق باللوحة أمامه، ربما ستصيب الهدف هذه المرة وسيحالفها الحظ، ما إن نظرت إلى مكان السهم الأخير تفاجأت عندما لم تجده، فبدأت تنظر حولها باستغراب حتى لاحظت ذلك الشاب الذي وقف إلى جانبها يحمل السهم بين أصابع يديه وهو ينظر إلى اللوحة محاولًا التسديد. لقد أخذها الحال إلى درجة أنها لم تلاحظ وجوده، لكن ماذا عساه يفعل؟ ولماذا يضيع فرصتها الأخيرة ليجرب هو؟ ما هذه الجرأة التي جعلته يتصرف دون أن يستأذنها؟ ولكن أفكارها تلك لم تدم طويلًا فقد شاهدت السهم الذي انطلق ليصيب نقطة المنتصف بكل سهولة. لقد حصد 200 نقطة من المرة الأولى، لم يكن من فيوليت سوى أن وقفت تحدق باللوحة بصدمة وعدم تصديق لكن صوته قد قطع حالتها تلك وهو يقول:.
«ماذا ستختارين؟».
نظرت إليه عاقدة حاجبيها دون أن تستوعب وقد أصابها الجمود، فلقد كان الأمر سريعًا وهو الآن يحدثها وكأنه يعرفها منذ زمن، كأنه لم يأتِ من اللامكان.
«يمكنك اختيار ما تشائين» قال لها الرجل الذي يقف في الدكان.
استيقظت من غفلتها ثم قالت وهي تنظر إلى الدمى:
«أريد دمية الدب الكبيرة تلك. ».
أشارت إلى إحدى أكبر الدمى الموجودة، لقد كانت دبًّا بنيًّا كبير الحجم.
التقط الرجل الدمية من الأعلى ثم ناولها إياها وهو يقول مبتسمًا:
«تفضلي جائزتك، أنت محظوظة. ».
أخذت فيوليت دمية الدب ثم استوعبت أنها -وأخيرًا، بل أول مرة- استطاعت أن تحصل على هدية من هذه اللعبة، نظرت إلى الدمية ثم ابتسمت وقالت بحماس وهي تنظر إلى ليوناردو بامتنان:
«شكرًا لك. ».
شعر ليوناردو ببعض الارتباك وقد كان خائفًا من عواقب اندفاعه وتدخله المفاجئ، لكنه وعد أن يجازف ويحاول، نظر إلى فيوليت ثم قال:
«عفوًا. ».
«إنه لمن الغريب أن أسألك عن اسمك الآن بعد مرور أكثر من أسبوعين على تواجدك في الجامعة، ولكن في الحقيقة، ». صمتت قليلًا ثم أردفت بارتباك وهي تبتسم «لقد كنت مخيفًا في ذلك اليوم».
كانت المرة الأولى التي يتخيل فيها ليوناردو أنه شخص مخيف، ربما لأنه يفقد السيطرة عند الغضب ولا يستطيع استيعاب تصرفاته أو حتى ملاحظتها، لطالما كان عدد كبير من زملائه في التدريب يهابونه بسبب حادثة تشبه تلك التي حدثت معه في الجامعة ولكن لم يستطع أحد منهم معرفة ما يكمن وراء ذلك الشاب المخيف وتلك التعابير الجامدة والعابسة. لم يعرف أحدٌ من قبل أنه ليس جبارًا أبدًا، بل داخله يختبئ طفل صغير يبحث عن طفولته الضائعة وقد أجبرته الظروف على أن يتشكل في قالب الشخص المخيف واللئيم، فالأمر معقدٌ جدًّا لا يستطيع من حوله تفهمه أبدًا.
بقي صامتًا لحظات ما جعل فيوليت ترتبك أكثر بسبب خوفها من أنها قالت شيئًا لا يصح قوله، ما كان عليها أن تذكره بتلك الحادثة. نظر إليها دون أن تتغير تعابير وجهه ثم قال:
«اسمي ليوناردو». صمت قليلًا وهو يفكر بما عليه قوله ثم أتبع قائلًا بعد أن استوعب أن عليه أن يسأل عن اسمها هو أيضًا -رغم أنه يعرفه حقًّا-: «اسمك فيوليت، صحيح؟».
نظرت نحوه باستغراب ثم قالت:
«كيف عرفت؟».
كان يجب عليه أن يتوقع مثل هذا السؤال منذ البداية ولكنه كالعادة لا يتقن فن الحديث مع الآخرين.
«ماذا تتوقعين من شخص كان يجلس طوال الفترة الماضية في مقهى الجامعة يحدق بالجميع؟».
ابتسمت فيوليت لما قاله وهي تتذكر رؤيتها إياه طوال الفترة السابقة وهو يجلس وحده دون أن يحادث أحدا، وما إن ينظر إلى أحدهم حتى يظن أنه يتوعد له بالشر. كان الأمر مضحكًا أكثر مع تلك الأفكار التي قفزت إلى رأس فيوليت فقالت وهي ترفع حاجبيها بمكر:
«يبدو أن هذا الشاب الانطوائي الصامت يعرف الكثير. ».
حدق بنظراتها الماكرة ولكنه لم يفكر برد على ما قالته بل أردف فجأة: .
«هل تحبين أزهار البنفسج؟».
صمتت مستغربة من قفزه المفاجئ، إنه غريب الأطوار حقًّا، يبدو أنه مشتت الفكر وكأنه لم يحادث أحدًا من قبل، لاحظت أنه لا يجيد التفاعل حتى مع الأحاديث أو لم يجرب مجاملة أحد من قبل كما تفعل هي وجميع من تعرفهم، ليس بداعي النفاق ولكنه شيءٌ يتعلق بالذوق عامةً.
– نعم، أحبها فوالدتي تزين جميع أرجاء منزلنا بالورود الأرجوانية منذ أن كنت طفلة، حتى أنها أسمتني فيوليت بسبب حبها هذا الصنف من الزهور.
– لقد مررت ذات مرة بحديقة مليئة بأزهار البنفسج، كانت ساحرة جدًّا.
– في مدينة الأحلام؟
– لا، ليس هنا، بل حيث أعيش.
تذكر ليوناردو جولته ذات مرة في أرجاء الحي حيث منزل ألبرت، وقد أعجب جدًّا بجمال أزهار البنفسج عندما كان يتجول في إحدى الحدائق. كانت ساحرة جدًّا وقد لمع ميسمها الأصفر تحت أشعة الشمس، جذبه لونها الأرجواني القاتم جدًّا.
شعرت فيوليت بالحماس عندما تطرق إلى الحديث عن مكان عيشه؛ فهي تعرف أنه ينتمي إلى عامة الشعب ويعيش في العالم الخارجي الذي لطالما أصابها الفضول لاكتشافه ومعرفة ما يخبئه ذلك العالم الذي يمنع عليهم زيارته. قالت محاولةً إخفاء حماسها ولهفتها:
«ربما ستأخذني هناك لأزور ذلك المكان، فأنا أحب أي مكان تتواجد فيه أزهار البنفسج. ».
كان ليوناردو يرغب باصطحابها حالًا خارج مدينة الأحلام وأن ينهي تلك المهمة بأسرع ما يمكن، لكن الأمر لن يتم بتلك السهولة ويجب عليه التروي قليلًا؛ فلا يمكن أن تثق به بهذه السرعة.
وقبل أن يجيبها بأي شيء سمع صوت أحد ينادي باسمها، وقد بدأت هي تلوح بيدها مبتسمة فاستدار ينظر إلى مصدر الصوت فوجد أنها صديقة فيوليت التي غالبًا ما تكون برفقتها في الجامعة. امتعضت ملامح جاكلين وهي تنظر إلى وجه الواقف برفقة فيوليت؛ فلقد عرفت أنه ذلك الشاب الذي ضرب دانيل وجاك. بدأت تنظر إلى فيوليت بارتباك وهي تقترب منها بتردد، قالت وهي ترمق ليوناردو باستياء:.
«نحن ننتظرك منذ مدة فيوليت، لماذا تأخرتِ؟».
ابتسمت فيوليت وهي ترفع دمية الدب أمام جاكلين ثم قالت بحماس:
«لقد فزت أول مرة، والفضل يعود إلى مهارة ليوناردو برمي الأسهم وتسديد الهدف من المرة الأولى. ».
وبينما كانت ابتسامة فيوليت تتسع مع كل كلمة كانت ملامح جاكلين تزداد ارتباكًا واستياءً، هي تعرف أن فيوليت مجنونة وهذا ما يجعلها تتحدث مع هذا الشاب بعد أن شاهدت وحشيته، فما كان منها إلا أن تجاهلت ما قالته صديقتها وقالت بامتعاض:
«نحن ننتظرك حيث اتفقنا. ».
لاحظت فيوليت انزعاج جاكلين من وقوفها برفقة لوي، وهذا ما كان متوقعًا بعدما حصل؛ فالجميع يكنّ الحقد الدفين له. تجاهلت فيوليت كل ما خطر في بالها وهي تقول:
«ربما سيسعد ليوناردو بمشاركتنا أيضًا. ».
كانت تارةً ترمق تعابير وجه صديقتها المستنكرة وتارة ما ترمق ملامح ليوناردو التي ظهر عليها علامات الارتباك، ولكن قبل أن تجيب جاكلين بما لا ترغب به قال ليوناردو:
«لا أحب تلك الألعاب لذلك من الأفضل ألا أشارككم. ».
فكرت فيوليت أنه ربما كان عليها أن لا تسبب له الإحراج، فقد بدا واضحًا أنه لاحظ امتعاض جاكلين وفضل ألا ينضم إليهم، أما جاكلين فشعرت بالراحة عندما رفض هذا بنفسه، فهي تعرف عناد فيوليت.
بعد عدة ثوانٍ اقترب دانيل منهم وهو ينظر إلى فيوليت نظرة فهمت مغزاها جيدًا، فقد استنكر وقوفها برفقة ليوناردو كما استنكرت جاكلين ذلك، وما كان منه إلا أن بقي يحدق بها ويرمق ليوناردو بنظراته من تارة إلى أخرى.
كان ليوناردو يفهم نظراتهم تلك جيدًا، فلقد كانت تعابير وجههم فاضحة للغاية ولم يكلفوا نفسهم عناء محاولة كبح استنكارهم وامتعاضهم. كان يرغب بالانسحاب بشدة فوجوده غير مرغوب فيه، ولكن فيوليت فاجأته عندما قالت وهي تقترب من شقيقها وقد كانت وحدها التي تبذل طاقة حتى تحاول جاهدة بث الألفة بينهم:
«دانيل، ربما سيسعدك التعرف على ليوناردو. ».
نظر دانيل نحو فيوليت باستنكار؛ فهي تعرف تمامًا أن هذا لن يسعده أبدًا، ورغم وقوفها معه بعد الذي حصل بينهم تريد أيضًا أن تجبره على التعرف عليه. حاول التزام الصمت عساها تتراجع عما قالت أو أن تصلح الموقف، لكن ودون أن يتوقع هذا مد ليوناردو ذراعه بغية مصافحته. حدق دانيل به تارةً وبكفه الممدود أمامه تارةً أخرى، واستمر الوضع هكذا عدة ثوانٍ حتى وكزنه فيوليت بكوعها وهي تبتسم وهي تعبّر بنظراتها عن استيائها من تأخر رد فعله. امتعضت ملامحه ثم حاول أن يتصرف بطريقة طبيعية وهو يمد يده ليصافه.
«ربما علينا أن ننسى -أو نتناسى حتى على الأقل- ما حدث. » قال ليوناردو دون أن يفكر كثيرًا بمدى صحة اختياره كلماته، خاصة في ظل المشاحنات التي حدثت.
وقبل أن يجيب دانيل بأي شيء بعد أن انزعج من ذكر تلك الحادثة من جديد، (خاصةً وأنها انتهت بهزيمته يومئذ) قاطعته فيوليت وهي تقول:
«نعم، أعتقد ذلك، لقد كان سوء تفاهم فقط وانتهى، ربما علينا أن ننسى فعلًا. ».
كان جاكلين ودانيل شاهدين على مسرحية تحدث بين ليوناردو وفيوليت، تحاول فيها فيوليت إصلاح صورة ليوناردو أمامها. لم يكن هذا يثير استحسان دانيل أبدًا وقد رغب أن يمسكها ويبعدها بعيدًا ويمنعها نهائيًا بخلق أي علاقة مع ليوناردو؛ فهو لا يرغب أن يضطر إلى التعامل معه والأمر بيده ليس حقًّا، هو فقط لا يستطيع نسيان ما حدث حتى لو كان يعرف أنه المخطئ.
زاد الأمر سوءًا عندما انضمت آنجل إليهم، نظرت إلى فيوليت ثم إلى ليوناردو ثم قالت وهي تبتسم ابتسامة صفراء خبيثة:
«ها قد تقابلتما. ».
نظر الجميع نحوها باستغراب، فقد كانت تتكلم وكأنها تتنظر مثل هذا اللقاء أو أنها قد تنبأت بحدوثه. قالت فيوليت لها مبتسمة بعد أن أضحكها دخولها المفاجئ وعبارتها تلك:
«وهل كنت تنتظرين أن نتقابل؟».
ارتبكت آنجل قليلًا بسبب حماقة ما تفوهت به ثم عادت لتصحح عبارتها بطريقة تخدمها:
«لا، بل أعني أنك فضولية جدًّا ولا تحبين أن يبقى أحدهم مجهولًا بالنسبة إليك. ».
رفعت فيوليت حاجبيها ثم ابتسمت وهي تقول:
«ربما. ».
لاحظت آنجل توتر الأجواء فقالت متجاهلة كل شيء:
«هل ستبقون هكذا حتى ينتهي الوقت دون أن نستمتع بوقتنا؟».
بقيت جاكلين ودانيل صامتين كأنهما لا يستطيعان الانسحاب بسهولة من وسط تلك الأجواء حتى قالت فيوليت بمرح:
«لا بالطبع، لن نضيع وقتنا هكذا، يجب أن نستمتع!».
زال توتر الأجواء قليلًا، شعر دانيل بالراحة وقد فتحت له الفرصة بالانسحاب والسماح له بالمغادرة بعد أن وقف هنا رغمًا عنه، ولكن فيوليت فاجأته عندما أردفت:
«ربما سيحب ليوناردو فكرة الانضمام إلينا. ».
وما إن أنهت جملتها تلك حتى بدأ كل من جاكلين ودانيل بالنظر نحوها باستياء من اقتراحها رغم معرفتها أنهما لا يرغبان بهذا، ولكنها تصر على إحراجهما اليوم.
طالع ليوناردو نظرات الاستنكار حوله وقد تأكد أنه شخص غير مرغوب فيه، ولكنه حقًّا لا يهتم بالتواجد معهم بقدر ما يهتم لفيوليت، وقد حقق مبتغاه وهو ليس بحاجة للتواجد بين أشخاص يرفضونه ولا يتقبلون وجوده فأجاب من فوره:
«لا، فأنا لا أحب اللعب، جئت لألقي نظرة على المكان فقط، شكرًا لدعوتك. ».
زفر دانيل بعد أن شعر بالراحة بمبادرة ليوناردو بالرفض من نفسه، وقد شعرت فيوليت بالاستياء بسبب فشلها بمحاولة إصلاح الأمور بينهم قليلًا، لكنها اكتفت بالقول لليوناردو قبل أن تغادر مع زملائها:
«ربما سأراك لاحقًا. ».
التعليقات