التخطي إلى المحتوى

رواية مقبرة الحب الأول للكاتبة جيهان عيد الفصل الأول

جلست سيدة سمراء نحيفة أمام فرن بلدى، تلقف كور العجين التي توضع لها على هذا اللوح المستدير المخصص لصنع الخبز، وفي ثوان معدودة تقوم بفردها وقذفها في الفرن، ومد اللوح لالتقاط كرة عجين جديدة، يخيل لمن يرها أنها آلة من شدة سرعتها، وبراعتها في جعل كل الارغفة التي تخبزها بنفس الاستدارة والشكل.

السيدة يبدو عليها الأنهاك الشديد، وجهها يكسوه العرق الغزير الممزوج بآثار الدقيق مع هباب الفرن.
ومن أن لآخر تمسك بقطعة قماش وتمسح بها وجهها، حتى أصبح وجهها كلوحة اختلطت ألوانها، بعد أن تلوثت قطعة القماش من العجين وهباب الفرن، رغم محاولاتها في كل مرة البحث في قطعة القماش عن مكان نظيف.

وفى الشارع جلست طفلة صغيرة في الخامسة من عمرها، نحيلة الجسم، مربوطة الرأس، ترتدى ملابس بالية، لكنها نظيفة، جلست على مصطبة أحد البيوت وحيدة، في حين توجد مجموعة من الفتيات والصبيان في نفس عمرها أو أقل قليلا لو أكبر يهلون ويلعبون.

مر بائع الأيس كريم بعربته الخشبية وزمارته المميزة، تجمع حوله الأطفال، أعطوه النقود الفضية التي بحوزتهم فاعطاهم الأيس كريم فارتسمت على وجوههم السعادة، فانقضوا على ما في أيديهم بنهم.

نظرت الطفلة من بعيد إلى الأطفال وإلى ما يحملون ثم عاودت النظر للأرض بانكسار، اقترب منها صبى في الخامسة عشر من عمره تقريبا، نظر لها ثم تركها واندفع نحو عربة الأيس كريم التي غادر صاحبها المكان إلى مكان آخر بحثا عن زبائن جدد، جرى الصبى بكل قوته نحو العربة حتى لحق بها وعاد بعد قليل وهو يلهث وفي يده واحدة من الآيس كريم، قدمها للطفلة التي ترددت في أخذها، ثم اخذتها منه.

انصرف الصبى فبدأت الطفلة في التهام الآيس كريم، كانت جائعة وظمآنة، ورغم أن الايس كريم لن يسد جوعها لكنه على الأقل سيروى ظمأها.
فى أحد عنابر العمل بإحدى شركات الأدوية جلست سميرة مع زميلات العمل يتحدثن كثيرا أثناء العمل كعادة معظم موظفى الحكومة ويعملن قليلا.
منى بحيرة: مش عارفة أعمل إيه أوافق على العريس اللى جاى لى؟ وإلا أفضل استنى عادل؟ أهلى عمالين يلحوا عليا وبيقولوا المرة دى العريس ما فيهوش عيب.

سميرة: زى ما قلت لك خليكى مع اللى قلبك مرتاح له وبتحبيه، الفلوس مع الوقت بتيجى، وكل حاجة بتيجى لكن الحب ما بيتعوضش.
زميلة 1: سيبك منها، قلة القرش هتخليكى مش طايقة نفسك، ولا طايقة اللى قدامك، الحب ما بيأكلش عيش، ما بيدفعش روشتة دكتور، ولا بيجيب لابنك اللى نفسه فيه.
منى: انتوا حيرتونى أكتر، كل وا حدة برأى، مش عارفة أخد برأى مين.
سميرة: اوعى تعملى زيي، هتعيشى عمرك كله تندمى.

منى: بس عادل لسة قدامه أكتر من تلات سنين.
سميرة: تلات سنين وتعيشي في سعادة، وإلا تفضلى طول عمرك تعيسة؟
زميلة 1: مين قال لك أنها هتعيش معاه سعيدة؟ معظم اللى اتجوزوا عن حب فشلوا، المهم يكونوا فاهمين بعض، وهي بتقول ان المتقدم لها محترم وابن ناس ومتعلم.
سميرة: والله حتى لو هتاكلها بملح طالما بتحب جوزها هيبقى على قلبها زى العسل، لكن لو مش بتحبه الشهد هيبقى سم.
زميلة 2: يا ستى الحب بيجى بعد الجواز بالعشرة.

سميرة: كدب ما أنا بقالى اكتر من عشر سنين متجوزة أهو و عمرى ما حسيت إنى باحبه، وياريتها جات على كدة أنا بأكرهه.
زميلة 1: ليه حرام عليكي؟

فى مكان آخر وفي نفس التوقيت جلس عمر بمكتبه بأحدى شركات القطاع الخاص منهمك في عمله، وعلى المكتب المقابل له جلس حسن زميله.
نظر له عمر وقال: مالك يا ابنى؟ انت لسة متخاصم انت ومراتك؟
حسن: أيوه، وحلفت ما أنا رايح لها تانى.
عمر: بقى في حد يتجوز عن حب ويزعل من حبيبته؟ نسيت حبك لها؟ وأنك كنت هتموت عشان تتجوزها.
حسن: هو عشان بأحبها استحمل غباوتها وتصرفاتها المستفزة؟

عمر: أيوه، ولو اتحطيت في النار تستحمل، يا ريتنى أنا كنت أتجوزت حبيبتى وأنا كنت عمرى ما زعلتها ولا زعلت منها، حتى لو عملت إيه.
حسن: أنت عايش في الأوهام، وبتقول كدة عشان ما شوفتش اللى أنا شوفته.

عمر: أقول لك على حاجة، أنا مراتى محترمة وعمرها ما ضايقتنى، بس عمرى ما حسيت إنى سعيد معاها، حاسس إنى بأدي وظيفة روتينية، وظيفتى إنى أكون زوج ليها وأب لولادى، مقابل إنها بتخدمنى، تغسل لى وتتطبخ لى، وظيفة مملة بأديها من غير روح ولا مشاعر.
حسن: حرام عليك هي ذنبها إيه؟ واتجوزتها ليه؟
عمر: هي اللى قبلت بظروفى.

حسن: الست وقفت معاك اتجوزتك بلا إمكانيات، لا شبكة ولا عفش عدل، استحملت سفرك وصانتك، وقت ما غيرها أتخلى عنك، بلاش الظلم.
عمر: غصب عنى، قلبى مش بايدى، أنا عمرى ما حسستها بحاجة، أنا دايما بأظهر لها إنى أسعد واحد في الدنيا، وانى بأحبها، هي كمان ما قصرتش معايا، بس مهما عملت قلبى مش ملكى.
حسن: أنسي بقى وعيش.

عمر: والله حاولت أخرج سميرة من قلبى، من يوم ما اتمدت في حضن راجل غيرى، بس ما قدرتش، وما قدرتش أحب عزة حاولت كتير وما قدرتش.
حسن: على فكرة الست بتحس، وعندها مقدرة تعرف مشاعرك حقيقية وإلا مزيفة، وفي ستات عندها مقدرة رهيبة أنها ما تبينش.
عمر: ما اظنش عزة منهم، هي شايفانى زوج مثالى، وبتحسد نفسها على حبى ليها.

عمر شاهين، مهندس مدنى وسيم إلى حد كبير، أحب سميرة زميلته بالجامعة، منذ أن التقى بها في عامها الأول بالكلية، قبل ما يقرب من خمسة عشر عاما، كان يسبقها بعام، هو بكلية الهندسة في حين كانت هي في كلية التجارة، لكنهما التقيا مصادفة في إحدى رحلات الجامعة، هي أيضا أحبته أو أوهمته بذلك، وفور انتهاء دراسته ذهب لخطبتها قبل حتى أداء خدمته العسكرية، قوبل طلبه بالرفض من أسرتها بسبب قلة امكانياته، حاولت سميرة أن تدافع عنه، لكن محاولاتها قوبلت بالرفض من والدها الذي اشترط عليه توفير شقة وأثاث لا يقل عن أثاث قريناتها من بنات العائلة، وشبكة قيمة كل هذا في اقل من عام.

فى نفس الوقت تقدم لها عبد الرحمن الذي اعتبرته أسرتها فرصة لن تتكرر، حيث كان عائدا للتو من إعارة عمل طويلة بإحدى الدول العربية، كما كان يمتلك وظيفة حكومية ثابتة وشقة واسعة بها معظم الأجهزة الكهربائية التي أحضرها من الخارج.

فى النهاية استسلمت سميرة لرغبة والدها، حسبتها بالعقل، انتظار حبيبها سيكلفها اربع سنوات على الأقل، ولن يضمن لها أن تعيش في نفس المستوى الذي سيوفره لها عبد الرحمن، الذي يكبرها بعشر سنوات، فعمر لا يملك شيئا سوى شهادته وحبه الجنونى لها.

ارتبطت سميرة بعبد الرحمن بعد رفض والدها لعمر بأقل من شهر، رغم وعودها الكثيرة له بإنتظاره طول العمر، لم تصمد طويلا أمام عرض عبد الرحمن الذي تكفل بكل نفقات الزواج ولم يكلف والدها مليما، لم تفكر كثيرا وحسمت أمرها، تخلت عن حبيبها بمستقبله المجهول، كآلاف الخريجين الذين تلقى بهم الكليات كل عام.
فرحتها بهدايا عبد الرحمن الكثيرة التي أحضرها من الخارج والشبكة الكبيرة أنستها كل شئ.

وبعد قليل ذهبت السكرة وجاءت الفكرة كما يقولون، عندما تعاملت مع عبد الرحمن عن قرب، كان عبد الرحمن من عالم مختلف عن عالمها، ملتزم، هادئ، خجول، لم يسمعها ما كانت تود سماعه من كلمات الغزل، يحرص على الا يختلى بها، يجلس دائما معها وسط أسرتها، حتى عندما وفرت له فرصة الاختلاء بها لم يطل اللقاء وانصرف مسرعا، طلب منها أن تلتزم بالزى الشرعى، رفض اختلاطها وتحدثها مع شباب العائلة أو أى شاب عموما، رفض الخروج معها منفردين، لم يحاول ابدا أن يسلم عليها باليد قبل عقد القران،.

أشياء بديهية كان يجب أن تفعلها من نفسها، لكن هذا لم يعجبها فحاولت التمرد، حاولت إفساد هذه الزيجة بكل الطرق لكنها فشلت، ولم تجد الا التوبيخ واللوم من أسرتها التي رأته رجلا محترما وليس فقط عريس لقطة، الأسوأ أنها التقت بعمر، ذرفت دموع التماسيح وأقسمت أنها أجبرت عليه، وأنها ستفعل ما في وسعها حتى تتخلص منه، فوعدها عمر بانتظارها مهما كلفه هذا من وقت، والحق أنها فعلت ما وعدته به، لكن انتهت كل محاولاتها بالفشل من جديد، وتزوجت عبد الرحمن وهي كارهة له، ترى حياتها معه ستكون جحيما، كانت تراه معقدا كئيبا، في حين انه كان ملتزما بتعاليم دينه، الذي لم يحرم ما حرمه على الفتاة الا لعفتها وللحفاظ عليها، تزوجته وقلبها معلقا بغيره، الاقسى أنها خططت لإنهاء زواجها منه بأسرع وقت والعودة لحبيبها، عندها لن ترفضه أسرتها بعد أن تحمل لقب مطلقة، لكن فشلت كل خططها بسبب حكمة عبد الرحمن وحبه الشديد لها، مرت السنوات وانتهت قصة عمر وسميرة على أرض الواقع لكنها ظلت تحيا في خيال كل منهما، يغذيها الحرمان والبعد والشيطان قبل كل شئ، كما حدث في كثير من قصص العاشقين الشهيرة، فمن يدرى ماذا كان سيحدث لو تزوجا، ربما فشل زواجهما وانتهت قصة حبهما في المحاكم.

سميرة: عمرى ما هانسى انه اتفرض عليا.
زميلة 2: بس انتى كنتى موافقة في الأول وكنتى فرحانة، أنا فاكرة.

سميرة: اتفرض عليا من ابويا، اضطريت أوافق بعد ما لقيت ارتباطى بعمر مستحيل، كان هيجيب منين اللى ابويا طلبه منه، كنت فاكراه هيعوضنى على الأقل فرق السن اللى بينا، طلع معقد وكل حاجة عنده حرام، الكلمة بحساب والضحكة بحساب، اتمنعت أدخل بيوت أى حد في العيلة من غيره، وكل ما نروح سوى في مكان نطلع منه بخناقة، كلمتى فلان، ضحكتى مع فلان، عمره ما ودانى سينما، ويوم ما نخرج نروح الحسين، عمره ما قال لى كلمة حب.

زميلة 3، مش لازم يقول بالكلام، بس أكيد بيحبك.
سميرة: عارفة إنه بيحبنى وبيموت في التراب اللى بامشى عليه، بس أنا ست ومحتاجة اسمع منه الكلام ده، يمكن كان قلبى اتحرك من ناحيته.
زميلة 3: عمرك ما كنتى هتحبيه يا سميرة، عشان انتى ما طلعتيش عمر من قلبك.
سميرة: غصب عنى، حاولت كتير وما قدرتش.
زميلة: بس ده حرام.
سميرة: أنا ما عملتش حاجة غلط، قلوبنا في ايد ربنا هو اللى بيحركها.
زميلة: مجرد التفكير في عمر حرام.

سميرة: نفسى أعرف أبطل أفكر فيه.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *