رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل التاسع
بعد مرور ثلاثة أشهر
ركل شاكر الطاولة الصغيرة التي تتوسط الحجرة جاهرًا بإغتياظ وغضب يتقاذف هنا وهناك: -دول ما بيحضروش ولا جلسة، ولا حتى المحامي بتاعهم! ده غير أنه مقضيها مؤتمرات وسفر ومحدش فيكم قادر يعملوا حاجة! ابن دويدار بيحرق دمنا كأن مفيش غيره ف الساحة.
ثم أشار لاهثًا للموجودين وهو يشير بسبابته: -اسمعوا، أنتوا وعدتوني تقفوا جمبي لحد ما نجيبه الأرض، فين ده أنا مش شايف! كل مصيبة ندبرها بيطلع منها زي الشعرة من العجين.
تابع بتسديد الضربات على سطح الطاولة الكبيرة كأنه يفرغ كبته بها: -معقول عاصي ده ملاك نازل من السما! محدش عارف يمسك عليه غلطة توديه في ستين داهية؟
لُطخت وجوه الجميع بحمرة الغضب والانتقام، تدخل مراد معللًا: -شاكر بيه، الجلسة الجاية بعد يومين. ودي اللي هيصدر فيها حكم مبدئي. حضرتك متعصب ليه! خلاص هانت. يومين وهتتمكنوا على الأقل من البيت.
أيده عزمي مردفًا: -بالظبط زي ما مراد بيتكلم. نشوف حكم المحكمة وبعدها المصايب مش هيلاحق عليها! دلوقتي مش قُدامنا غير الصبر.
عدة اتصالات متكررة تصل لمراد يستقبلها بالرفض. حتى تدخل معتذرًا وهو يتأهب للذهاب: -بيكلموني من الشغل. أنا لازم اتحرك. وأي جديد هبلغكم.
انصرف مراد على عجل بينما أكمل مثلث الشر أفكارهم الانتقامية، حيث وجه شاكر سؤاله لعادل الشيمي:
-أنت ساكت ليه؟
وضع الأخير ساق فوق الأرض وقال بنظرات غير مُبشرة: -نقطة ضعف عاصي دويدار الوحيدة مراته وبناته! أحنا لو عرفنا نوصل لدول. هتبقى روحه في إيدنا. هنشكله زي ما أحنا عايزين.
أقبل شاكر إليه باهتمام واعتدل عزمي في جلسته بأعينه الحائرة: -قصدك أيه؟ نخطف مراته. بس ده مش شغلنا وو
قاطعه عادل قائلًا: -مع واحد زي عاصي لازم يبقى شُغلنا. هي دي الطريقة الوحيدة اللي هتخليه يركع قُدامنا.
سيل من النظرات التي تحمل العديد من الأسئلة يتبادل بين ثلاثي الشر. وصل مراد لسيارته وهو يتجول بعينه في كافية الاتجاهات خشية من أن يراه أحد، جلس بسيارته مجيبًا على هاتفه: -أيوة يا عاصي، حبايبك فوق مولعين نار. بالذات بعد أخر حملة عملتها وانطلاق المجموعة الجديدة. ضربة معلم في مجال المجوهرات والعقارات.
رد عاصي بهدوء وهو يشد مقعده الفخم ويجلس فوقه: -كان لازم شغل شهاب دويدار يتحرك زي الأول ويكسر الدنيا من تاني. المهم.
قاطعه مُراد بنبرة مختنقة: -المهم اللي بجد. عالية يا عاصي عاملة ايه. أنا مراتي وحشتني يا أخى وشلة الحرامية اللي فوق دول مش باين لهم آخر.
اتكئ على مقعده بتباهٍ: -لا اتقل كده، عالية زي الفل وأنا بحاول أحسن صورتك الزبالة دي على أد ما أقدر يمكن تحن، وكمان أخدت على الحياة هنا وبقيت مش عايزة ترجع القاهرة ولا بتجيب سيرتك أصلًا. نركز في شغلنا بقا وخف نحنحة!
هب مراد معارضًا لحديثه: -المفروض افرح يعني أنها مش جايبة سيرتي! وبعدين أيه ريحة الشماتة اللي وصلاني دي؟ لا بقولك أيه احنا اتفقنا على شهرين وبس. أنا مجنون وممكن تلاقيني عندك حالًا.
ابتسم بخفوت ثم أردف بتلك النبرة المتجمدة التي لا تقبل النقاش: -تنور، أعملها وتعالى وتبقى وفرت عليا وكده كده أنت مطلوب عندي حي او ميت. وقتها مش هسمي عليك.
اعتصر مقود سيارته بغلٍ وجهر بندمٍ: -أه أنا وقعت مع اللي مش بيرحم. طيب يا عاصي أما اشوف اخرتها معاكم يا ولاد دويدار…
#فلاش باك…
اتسعت ابتسامتها مجاملة: -هنفطر ونتغدى كمان، بس مش النهاردة. خليك معايا وأنا هخليك من أغنى رجال الأعمال في البلد دي.
-أنا كده كده معاكي خلاص!
كاد أن يُبادرها الحب الزائف ولكنه تراجع إير رنين هاتفه، فهربت روفان من بين يده متحججة: -موبايلك بيرن.
انتظر حتى ذهبت للحمام ف رد هامسًا: -خير يا عاصي البنت لسه هنا. عايز ايه!
جاءه صوته الرخيم والذي يحمل التوعد والتهديد: -عايزك تتلم وافكرك أنك من متجوز أختي، يعني لو فكرت تخونها هاجي اطير دماغك.
-تصدق أنا غلطان إني رديت عليك.
ثم التفت للوراء وأكمل: -كل الفايلات اللي عن عزمي وعادل هتلاقيها عندك على الميل.
#بااااك…
دخلت ريم في تلك اللحظة لتنهي مكالمتهم، فاختصر عاصي الحديث مع مراد قائلًا: -هكلمك بعدين. اقفل أنت.
ثم اعتدل في جلسته: -خير يا ريم!
تركت بعض الملفات على مكتبه وقالت برسمية: -عاصي بيه دول محتاجين يتمضوا. وكمان المزاد النهاردة رسي على مدام رسيل زي ما حضرتك كنت عايز بالظبط.
كست السعادة ملامحه وهو يتمتم: -عظيم. عظيم.
تأرجحت عيني ريم بغرابة: -أنا عارفة أن حضرتك كنت محتاج الأرض دي أوي، وانها ترسى على مدام رسيل ده مش في صالحنا!
رد على الفور قائلًا ممازحًا: -تقدري تقولي بشتري النكد من اليوم…
ثم غير نبرة صوته قائلًا: -تبعتي بوكيه ورد كبير وتهنئة خاصة مني.
أومأت ريم بطاعة: -تمام. اعتبره حصل.
ثم غيرت مجرى الحديث قائلة: -في واحدة اسمها شيرين بره عايز تقابلك.
عقد حاجبيه متعجبًا: -شيرين! طيب شوية كده ودخليها. هعمل مكالمة بس.
انصرفت ريم على الفور، فتناول هاتفه متصلًا بحياة التي ردت بسعادة بالغة: -عاصي بيه بنفسه بيكلمني! نقول هاردلك المرة القادمة يا باشا.
ابتسامة عريضة ارتسمت على محياه وهو يفارق مقعده واضعًا كفه بجيب بنطاله متحركًا ناحية النافذة وقال: -لا نقول مبروك لأشطر بزنس وومن قابلتها في حياتي.
أعطت إشارة قابل أن تكسر يسارًا وقالت بسخرية يغمرها السعادة: -ده أيه الروح الرياضية دي! عمومًا نقطة لصالحك تحترم.
-مبسوطة؟
هتفت بسعادة بالغة تتقاذف من شدقها: -أوي أوي يا عاصي. متتصورش مبسوطة أد أيه. وآخيرًا!
تبدلت نبرته مفتعلًا تلك النبرة الخائبة: -أفرحي أنت وانبسطي، وأنا أروح أعوض خسارتي اللي بسببك يا هانم.
ضحك منها ملء الفم وقالت بلطفٍ: -خلي بالك هتشوف من ده كتير. قابل بقا.
-متحمس جدًا، المهم هشوفك بالليل؟
برقت عينيها بسعادة وقالت بنبرة متوقة بالحنين: -آكيد هكون مستنياك. متتأخرش عليا!
أردف ممازحًا: -طيب مينفعش دلوقتي؟
-عاصي! قلت بالليل، ويالا بقى عشان عندي شغل كتير وأنت معطلني…
انتهت المكالمة بالضحك بينهم وببريق الحماس. صفت سيارتها جنبًا وفتحت حقيبتها وأخرجت تلك الكبسولة الصغيرة التي دومًا ما تتناسها. فرغت قرصًا على كفها وتناولتها بالقليل من المياه لتحتفظ بالوعد الذي سبق وقطعته معه بتأجيل الأمر لفترة محددة. ب تلك اللحظة التي شردت فيها لتستريح من جُملة أفكارها أصابها الدوار والشعور بالغثيان للمرة الثانية في نفس اليوم، فهبطت من السيارة ركضًا لتتقيأ ماء جوفها بأحد أصص الزرع العامة. جلست جنبًا لتهدأ لتأخذ أنفاسها بهدوء وتدق الحيرة رأسها.
فارقت مكانها عائدة إلى سيارتها مرة آخرى. فتحت تطبيق صحة على هاتفها بكفها المرتعش لتتطلع على آخر موعد لفترة عذرها الشهري وكانت الصدمة أنها تجاوزت الستين يومًا! خفق قلبها برتابة وهي تلوم نفسها كيف تغاضت عن الأمر! كيف انغمست بالعمل حتى تناست ذلك؟
أخذت تقطم في شفتيها بتردد وتتصبب الخوف عرقًا. سقطت أنظارها على صيدلية بالجهة الثانية من الطريق، تحركت بسيارتها بسرعة متجهة إليها وهي تردد مع نفسها:.
-ان شاء الله مفيش حاجة. أهدى يا حياة موترة نفسك ليه! ممكن تكون أعراض الحباية دي.
دخلت الصيدلية وتحدثت مع الطبية ثم استأذنت منها بدخول الحمام. خرجت بعد فترة وجيزة وعادت لسيارتها. وضعت المختبر أمامها وجلست تترقب النتيجة بأعين مضطربة حائرة يحاوطها العجز والضعف والحماس في آنٍ واحد…
بمكتب عاصي.
-اتفضلي يا شيرين! خير؟
تجلس على مراجل من التوتر ينعكس بملامحها ونظراتها المُشتتة، لوح بكفه أمام عينيها المهزوزة وقال:
-شيرين أنتِ كويسة!
أومأت بخفوت ثم طلبت منه وهي تشير إلى الأريكة: -ممكن نقعد هنا، بدل قعدة المكتب، حاسة أنها موتراني.
وثب قائمًا بفظاظة متحركًا نحو ما اشارت إليه: -لو هتكوني مرتاحة كده مفيش مانع. بس يا رب يكون خير.
تابعت خُطاه وجلست بجواره وهي تفرك كفيها بقلق: -العداوة بينك وبين بابا وعمو هتنتهي أمتى؟ مش كفاية كده!
أجابها بهدوء: -شوفي يا شيرين محدش بيروح للساكت ويجر شكله! أنتوا كنتوا عايشين ملوك و الارباح بتوصلكم سنوية. هما بقا الطمع عماهم وجايين يفتروا.
ثم زفر باختناق: -وأنا مش هسكت لحد اشترى عداوتي. وعايز يخسرني ويكسر اسمي.
خيم على قلبها شعور الخواء، ألا يوجد شيء ممكن أن يأمنك ويأمن ضجيج قلبك. هبت معترضة بحزن يحمل عدد أيام صبرها على عداد العمر: -وأخرتها!
رد بإيجاز: -خراب على دماغهم.
تحولت أحلامها التي تجمعهم وحكاياتها الوردية في الحب معه لكومة رماد، بيدها المرتعشة تمسكت بكفه وقررت أن تخرج عن صمتها لما فاض الحب من صدرها وقالت بنبرة مهزوزة:
-عاصي. أنا بحبك.
خلا فمه من الكلمات ولكن لم تخل عينيه من تلك النظرات المتكلمة. بللت حلقها وسالت الدموع من عينيها وأكملت:
-متستغربش. بس أنا فعلا بحبك ومن زمان، أنا اطلقت بسبب إني مش عارفة أنساك، كل يوم حُبي بيزيد أكتر وأكتر. والمشاكل والعداوة بتقفل طريق الأمل قدامي. انا وافقت أجي بس مع بابا وعمو عشان أكون قريبة منك.
ثم اجهشت بالبكاء: -أنا عمري ما خططت للحب ده، بس اتورطت اتورطت ومش عارفة أخرج. أنا جاية لك هنا مخصوص عشان نشوف حل في الحب ده. أنا قلبي بيتحرق كل يوم.
آخر شيء كان يتوقعه هو الإفصاح عن مشاعر بهذا الكم الهائل من الجراءة والضعف. سحب كفه بهدوء وقدم لها بعض المناديل الورقية كي تُجفف دموعها بصمت يحاول أن ينتقي به أبسط الكلمات كي لا يسبب لها أذى من نوع آخر. أخذ نفسًا طويلًا وقال:.
-بس أنتِ عارفة إني متجوز يا شيرين، وبحب مراتي.
ردت بصوت يملأه البكاء: -عارفة والله وأنا مش جاية أخرب عليك حياتك، أنا جاية هنا عشان نشوف حل، أنا بقيت مش عارفة أعيش ولا شايفة حد قدامي غيرك…
طأطأ رأسه بالأرض وهو يتنفس ببطء متحاشيًا النظر لعينيها وقال بصوت خافت:.
-عارفة لو أخدتي الخطوة دي قبل ما أقابل حياة. صدقيني كنتِ هتكرهي حاجة اسمها عاصي دويدار. أنتِ جاية في الوقت اللي أنا حاسس فيه بكل كلمة بتقوليها لدرجة أني بفكر أزاي اساعدك مش عارف.
فرك كفيه ببعضهما ثم أكمل: -لما قابلت مها وحبيتها افتكرت أن ده الحب، ودي أعلى درجاته واكتفيت بذكريات مها لسنين وأنا حالف ما هحب ست تانية بعدها. لحد ما قابلت حياة، أنا سميتها حياة لانها حياتي الجديدة ال بدأت على أيديها.
ألتفت إليه باهتمام وسألته بحزن وخيم: -حسيت بأيه؟
امتد ثغره بنص ابتسامة ساحرة وقال بشرود: -كلنا بنسمع عن الجنة وجمالها. لكن عمرك اتخيلتي يعني أيه شباك تبصي منه تشوفي الجنة! دي بالظبط النظرة الواحدة في عيون حياة.
ثم نظر إليها: -على فكرة انا بغبائي كنت هضيعها في فترة من الفترات، غروري كان مانعني اعترف بأني حبيتها. كنت بسعى عشان أوصل لنقطة معينة معاها ترضي كبريائي وبعدها هقولها بالسلامة. مكنتش أعرف أن النقطة دي هي نقطة التحول في حياتي كلها.
قفلت جفونها بقلة حيلة وأدركت أن حالها لا يختلف كثيرًا عمن يجمع الحطب من غابة لا خشب بها. ربت على كتفها بخفوت ثم أكمل:.
-مش بحكي لك عشان تعيطي. بس كلامك خلاني أواجه نفسي بالكلام ده اللي عمري ما قولت له بين وبين نفسي. بحكي لك عشان تعرفي قصة الشخص اللي أنتِ متعلقة بيه.
ثم تنهد قائلًا: -هقولك على حاجة كمان محدش يعرفها خالص حتى حياة.
صمت لبرهة حتى قطعت صمته متسائلة: -حاجة أيه؟
-اضطريت أمنعها من الخِلفة من خوفي عليها من غير ما تعرف. مش عايزها تتوجع ولا تتأذى عشان تجيب طفل ممكن أخسرها بسببه. أنا مش عايز أشوفها بتتوجع لأي سبب من الأسباب. تفتكري واحد بيحب واحدة للدرجة دي ممكن يأذيها ويجرحها بواحدة تانية…
بررت موقفها موضحة: -لا، أنا عمري ما هقول لك سيب مراتك عشاني.
-فاهم يا شيرين، بس أخرة الحب اللي مفيهوش لقاء ده أيه غير العذاب؟ صدقيني الحب لما يكون متبادل أحساسه مايتوصفش.
حفرت دموعها وادٍ جديد من الأحزان على وجنتيها، فأردف مواسيًا: -لا العياط مش الحل. الموقف ده يعلمك حاجة واحدة وبس، شيرين أنتِ بنت عمي ولولا الظروف كان ممكن نكون لبعض. بس ده نصيب، بس درس من أخ كبير اوعي تصرحي بمشاعرك بعد كده لأي حد مش متأكدة من مشاعره مهما كان حبك له! فاهمة؟
لكل منا صراع مع القلب يجعل الصمت بداخلنا صراع أبدي. جففت عبراتها متفهمة الأمر وقالت بصوت متهدج: -فاهمة وأوعدك أنها مش هتحصل تاني، ومن الساعة دي أنتَ أخ كبير ليا وبس، أنا مش أنانية عشان أفرق بين اتنين بيحبوا بعض، بس ليا طلبين.
رد بامتنان: -تحت أمرك…
-أنا محتاجة اشتغل واطلع من البيت والمشاكل. ممكن تشوف لي أي شغل هنا؟ على الأقل أكون جمبك واتعلم منك.
هز رأسه متفهمًا: -مسألة الشغل سهلة. بس مش هنا ومش جمبي، وده أحسن ليكي. الطلب التاني؟
ابتلعت خطيئة قلبها بمرارة وقالت: -قلت أن حياة متعرفش بحوار منع الحمل. بس دي أنانية يا عاصي ولو مراتك عرفت هتهد الثقة ما بينكم. الست لما بتحب بتكون عايز تخلف دستة من الراجل اللي بتحبه. نصحية من أختك الصغيرة بقا حاول تصارحها واتفقوا على الأقل الموضوع يبقى برضاها.
هز رأسه مؤيدًا: -معاكي حق، فكرت كتير أقولها. بس لسه محاش الوقت المناسب.
-لازم يجي قبل ما تعرف من بره.
ثم تنهدت كمن ينفض غبار الحب من قلبه وقالت: -أسفة عطلتك. استأذن أنا!
-استنى اكلم السواق يوصلك. ماينفعش ترجعي لوحدك…
بعيادة طبيبة النساء والولادة
-خير يا دكتور! مفيش حمل والتيست كان بيكذب؟
تمرر الطبية السونار على بطنها الممتلئة قليلًا بثغر مبتسم عكس الحالة المروعة التي انهالت على قلب حياة. طللعتها الطبية بفرحة عارمة:
-مبروك، أنتِ حامل.
ركضت على ارصفة الهذيان بصدمة: -نعم! أزاي؟ أنا كنت باخد الأقراص وو
قاطعتها الطبية بيقين: -حبيبتي الأقراص دي مفعولة مش 100، بالعكس. أنتِ لو نسيتيها يوم متوقع يحصل حمل.
تمتمت بشرود: -أنا كنت بنساها كتير بس كنا. قصدي كنت ببقى مشغولة فالشغل ومش في البيت. فقلت عادي يعني لو متاخدتش.
نزلت الطبيبة جوارب يدها وقالت: -اللي حصل حصل. دلوقتي أفرحي وانبسطي وخلي بالك من حركتك عشانهم.
اعتدلت من نومتها محاولة استيعاب ما أردفته الطبيبة: -عشان مين؟ البيبي.؟
التقطت الطبيبة بعض الصور الضوئية لجنينيها وقالت: -ما هو ده الخبر التاني، هما توأم مش واحد.
صفعات الحياة مدت مخالبها لعقلها فلقنتها درسًا لا يمكن نسيانه. لا نعلم من تعاقب ومن تُعاند؟ هل الحياة تتحدى عاصى لتعلمه ألا يواجه القدر مرة ثانية! أم تعاقبها هي لأنها ساعدته في جريمته! أو جاءت تلك المرة تحنو على قبل تلك الفتاة التي طال صبرها ومنحتها بدل العوض عوضين؟
اعتدلت من نومتها ولقد تهفهف خصرُها وكأنه غصنٌ يُشابه رقة الريحان بما يحوي بداخله من لحظات حبهم التي لا تُنسى، مزيج من دموع الفرح والحيرة والدهشة سالت من عينيها محاولة استيعاب الأمر المفاجئ. عادت للطبيبة وسألتها برتابة:
-دكتور. المفروض أعمل أيه دلوقتي؟
انتهت الطبيبة من طباعة الروشتة وقالت بسعادة: -ولا أي حاجة، تاخدي الفيتامينات دي. ومنتحركش كتير. ومشى حياتك عادي خالص، الحمل مستقر ومفيش أي داعي للقلق ولا الخوف.
-تمام. مرسي يا دكتور.
الدموع ما هي إلا خطة الذي يريد أن يتحدث ولكنه يخشى. يخشى كل شيء، لم تكن تلك الفتاة المرتبة كما يُشاع عنها والتي تهتم بأبسط التفاصيل، وإنما كان لديها همًا خاصًا ويائسًا لتبدو هكذا، إنها فقط تخفي فوضاها وحيرتها ببراعة. غادرت العيادة وهي تحمل ذلك الخير الذي انتظرته لمدة عام. وتحمل معه كيفية المواجهة وتخمين كيف سيكون رد الفعل عنه؟
القاهرة.
-كده يا ستي كل حاجة تمام، قدمنا الملف في كلية الهندسة زي ما شمس قالت بالحرف.
أردف كريم جملته وهو يفتح لها باب السيارة بسعادة بالغة عكسها بعد ما قدم لها الأوراق في نفس الجامعة الخاصة التي كان ينتمى إليها، دار من أمام السيارة ليجلس على مقعده الخاص بالقيادة وقال:
-طيب وبعدين في البوز ده؟ ممكن افهم مكشرة ليه؟
انفجرت بوجهه معبرة عن غضبها: -أنا لا بحب الهندسة ولا المهندسين ولا حابة اكون منهم.
أحس بالإحراج المصطنع وقال بمزاح: -ماشي يا ستي شكرًا على ذوقك. وبعدين مش مهم تحبيبهم، كفاية هما بيحبوكي.
دارت إليه كمحاولة اخيره للإقناع: -كريم أنت مش بتحبني وعايزني اسامحك ونرجع زي الأول؟
تأفف بضيق: -أنا سبت الدنيا كلها وجيت جمبك أهو مستني الفرج.
تحمست قائلة: -طيب أنا عندي ميعاد النهاردة في مكتب كاستينج. ممكن نجي نجرب ومش هنخسر حاجة. كريم بليز اقف جمبي وتعالى نجرب ولو الحال مش عجبك صدقني هنسى موضوع التمثيل ده خالص.
فكر للحظات ثم قال على مضضٍ: -تمام يا نوران موافق. ومش عشان أنتِ صح، لا عشان متأكد لو رفضت هتروحي هناك لوحدك.
ثم زفر باختناق: -فين مكانه الزفت ده!
-تميم، أنا بكلم نوران وكريم محدش فيهم بيرد. وقلقانة أوي. بجد أنا ندمت إني وافقت يروحوا سوا.
ترك تميم الاجتماع ووقف بأحد زوايا الغرفة وتكلم همسًا: -حبيبتي ممكن تريحي نفسك، أنا لو مش واثق في كريم مش هسيب نوران معاه. ممكن تستريحي.
جلست على مقعد مكتبها الخاص بالمشفى بكلل حيث وضعت كفها على بطنها المنتفخة كالبالون الصغيرة يعلن بهلال الشهر الخامس: -أنتَ بتكلمني كده ليه! أنا غلطانة إني كلمتك يا تميم.
أحس بآهات التعب بصوتها: -شمس أنتي كويسه؟
انفجرت باكية وهي تشكو له: -لا. البيبي بيتحرك جامد وعندي شغل كتير مش عارفه أخلص، ورجليا وجعاني ونفسيتي وحشة. وأنت بتزعق فيا! أنا والله تعبت من كل حاجة.
عض على شفته محاولًا تمالك أعصابه وهو يتكلم خلف فكيه المنطبقين: -مليون مرة قولتلك ارتاحي يا شمس، ارتاحي وبلاش شغل مش معقول عنادك ده! والمفروض اسيب كل الشغل اللي هنا وأجي اقنعك للمرة الألف.
اختصرت الحديث معه: -خلاص يا تميم، مش عايزة حاجة. روح شوف شغلك الأهم مني ومن ابنك.
-ماشي يا شمس. هبعتلك السواق يروحك ويولع الشغل، تروحي ترتاحي وأنا هخلص وأجيلك.
ردت بعناد وهي تتشدق بقناعات لا تريدها: -مش عايزة حاجة خالص، وملكش دعوة بيا.
وصل كريم برفقة نوران لذلك المكتب الذي على موعد معه. جلست على الأريكة بجواره منتظرة ميعاد دخولها بحماس. طافت عيني كريم بشك فأردف هامسًا:
-هو المكتب ده محدش جاي يقدم فيه غيرك؟
ردت بفتور كي تطمئنه: -لا طبعا تلقى كل الناس خلصت ومشيت، ده عشان حضرتك جايبنا متأخر ساعة.
تعربد بكلمات تشير لعدم موافقته للأمر: -أنتِ تحمدي ربنا أني جبتك أصلا.
أجابته بعناد تشير فيه باستغنائها عن خدمته: -كنت هاجي لوحدي على فكرة.
رد بغلٍ: -طيب اسكتي بدل ما اخدك ونمشي.
-ولا تقدر.
جاءت السكرتيرة ونادت باسمها: -آنسة نوران اتفضلي.
وثب الاثنان متأهبين للدخول ولكن أوقفته المساعدة قائلة: -سوري يا فندم. الآنسة لوحدها.
عارضها بحدة: -يعني أيه؟
هزت كتفيها بجهل: -هي الشروط كده يا فندم.
دارت له كي يمر اليوم بسلام مستخدمة اساليبها الناعمة كي لا يحدث شيء: -معلش يا كيمو. لو اتاخرت عن 5 دقايق بس جوه ابقى تعالي خدني وانا مش هتأخر. هي دي الشروط بقى، عشان خاطري طول بالك.
قدرت نوران أن تقنعه في دخولها بمفردها ذلك المكتب المجهول. تقدمت بخطوات مترددة على سقطت عينيها على ذلك الرجل الأسمر اللون ذو النظرات الغامضة. اقتربت نوران منه وسمح لها بالجلوس بتلك الأعين الثعلبية طلب منها أن تؤدي مشهدًا سينمائياً تفضل.
وقفت نوران متحمسة لأداء مشهدها المفضل من أحد الأفلام القديمة متجاهلة نظرات ذلك الرجل الخبيثة. في تلك اللحظة كتب عنوانا بورقة وفارق مقعده ودار حولها كدبور يطوف حلو الزهور قبل أن يغدر بها. لمعت عيني الذئب بعثوره على ضحية جديدة ومد لها الورقة:
-ده عنوان الشقة بتاعتي بالليل في حفلة صغيرة فيها كبار المخرجين والمنتجين هستناكي أعرفك عليهم.
شدت الورقة من يده بفرحة عارفة وهي تقفز كالأطفال: -بجد يعني تمثيلي عجبك!
تطاولت يد الرجل لخصلات شعرها المتدلية بمزيج من اللمسات والنظرات المقززة وهو يقترب منها ويقول بوقاحة: -بس أنتِ رفيعة أوي، أنت مش بتاكلي؟
في تلك لحظة اندلعت ثورة الغضب برأس كريم وأخذ يوبخ نفسه كيف طاوعها على ذلك الفصل من الجنون، حسمت خطواته الأمر وبدون ما يهتم لأحد اقتحم المكتب ليتفاجأ بتلك النظرات واللمسات المخلة من ذلك الرجل. لم يتمالك نفسه إلا بعد ما انهال على وجهه ببعض اللكمات صارخًا بوجهه:
-أنتَ مجنون! ازاي تستجرى تحط أيدك عليها كده!
لم يمهل الرجل فرصة ليدافع عن نفسه، بل اكتفي بسقوطه أرضًا وصرخ بوجهه: -انا هقفلهولك المكتب الزبالة ده!
ثم شد نوران من يدها عنوة وسحبها خلفه كما تجر الأغنام متجاهلًا ندائها عليه وصوت تمردها المتزايد…
ببسمة ترتسم رغم كل الآلام والحطام الساكن بقلبها، تبتسم لكل بوجه ثمرتي الحب المُقبلين للحياة بعد القليل من الأشهر، تركت العناء فوق دواسة بابها وسارت حاملة تلك المضغتين برحمها، ليس لأنها لا تعانى بل لأنها لاتريد أن تزيد الحمل على عاتقها، تريد أن تفرح مرة واحدة دون أنا تطولها مخالب الحياة القاسية. وصلت لغرفتها لوقت متأخر بعد ما قضت نصف يومها مع البحر تستكمل له تلك القصة التي حدفها موجه لعندها. عادت في تمام الساعة الحادية عشر في ظل هدوء تام بالمنزل رغم ازدحامه.
وصلت إلى غرفتها ونزعت جاكتها الأزرق. اقتربت من المرآة ببنطالها الأبيض وتلك السترة البيضاء ذات الحمالات الرفيعة. رفعتها لتكشف عن بطنها التي تحمل حياة جديدة لطفلين رغم انتظارها لواحد فقط…
أخذت تربت على تلك البطن التي لا توحي إلا بعشاء دسم لا أكثر. مع مزيج من العبرات والضحكات ونبض قلب الأمومة بقلبها ظلت تحاورهم كالمجنونة.
ظننت أن الحب عقد بين قلبين ولكن الحمل أيضًا أسمى عقد بين روحين جمعهما سحر الحب، كل منهما يكمل بعضه بعضا إن زال شرطًا يبطله كما يبطل قلبي كل يوم عند شحنه بالمزيد من الأوهام نحو حقيقة حبك لي! يا ترى كيف ستتقبل حقيقة ذلك العقد الأبدي الذي ربط أرواحنا ليوم القيامة.
بخطوات متمهلة وصل عاصي لمنزله. قطع خطاوي السُلم بهدوء ووقف في آخره، ايتبع مسار اليمين أم اليسار؟ حسمت أرجله الموقف وتحرك ناحية اليسار وبالأخص إلى الغرفة التي تقطن بها عالية.
دق الباب بتردد حتى أتاها صوتها الخافت وسمحت له بالدخول، فتح الباب فوجدتها تزيل آثر الدموع عن وجهها. جلس على طرف مخدعها ومسح عبراتها بدلًا منها وقال عندما لاحظ إضاءة هاتفها:
-كنتِ بتكلمي مين؟
ردت بصوت باكي: -دي مامي، بتحاول تقنعي أرجع. وأنا مش حابة.
رد مقترحًا: -قوليلها تيجي تقعد معاكي. وبعدين هو ده السبب اللي مخليكي بتعيطي كده؟
علقت غصة حبها بحلقها وقالت: -مفيش خبر عن مراد!
ضرب كف على كف متسلحًا بالغضب: -بس اجيبه، الأرض انشقت وبلعته ابن جيهان. لكن على مين؟ وعد مني هجيبهولك لحد عندك راكع كمان.
-لالا أنا مش عايزة حتى اسمع صوته. ولا طايقة اشوفه، ده حتى مفكرش يكلمني.
هز رأسه مؤكدًا: -ده من بيت المحلاوي! مستنية منه أيه يعني. كبري دماغك منه وركزي بس مع البيبي…
ثم تنهد وكأنه أراد أن ينزع قناع الكذب عن وجهه وأشار على بطنها المنتفخة: -الهانم الصغيرة دي هتشرفنا أمتى؟
مررت كفها الصغير فوق بطنها وقالت: -هبدأ في التامن بكرة…
أخرج علبة قطنية سوداء من جيب سترته وهو يقول: -بكرة تنزلي أنتِ وحياة وتجيبي كل اللي ناقصك. وكل حاجة محتاجاها.
ربتت على كتفه: -حبيبي ربنا مايحرمني منك.
كادت أن تقول شيء عن ماضيهما سويا ولكنها تراجعت متوصلة للجواب، أنها لعنة الحب السحرية التي فجرت من الحجر الصخري ينبوعًا من الماء العذب. فتح العلبة الصغيرة وأخرج منها انسيالًا من رقيقًا من الماس ولفه حول معصم يدها ثم رفعه لمستوى ثغره ليقبله، فسألته بحيرة:
-ايه ده يا عاصي؟
-دي من ضمن المجموعة الجديدة اللي نزلها تميم امبارح. وحسيت أنه يشبهلك أوي ومحدش ينفع يلبسه غيرك. اشتريته.
أخذت تتأمل تلك التحفة الفنية المعلقة بمعصمها بابنهار: -ياحبيبي تحفة. طول عمري بقول محدش ينفع يشتغل في المجوهرات دي غيرك. ده تصميمك صح! أنا عارفة شغلك كويس أوي.
-عجبك.؟
-تحفه بجد.
لم تمنع نفسها من معانقته وهي تشكره: -بجد مش عارفة أقول لك أيه. متتصورش أنت فرحتني أد أيه. ربنا يخليكم ليا يا رب.
قبل جبين أخته ثم تأهب مغادرًا: -هروح ألحق حياة قبل ما تنام!
ثم تراجع متسائلًا: -البنات ناموا!
-اااه الناني الجديدة بتنيمهم من 9. بلاش تصحيهم عندهم مدرسة الصبح.
-تمام. يلا تصبحي على خير. نامي ومتفكريش في حاجة.
غادر غرفة أخته بعد ما أدخل وميض من السعادة على قلبها، تحرك بخطوات ثابته إلى غُرفته، طرق الباب بهدوء ثم دخل قبل أن تسمح له. أخفضت السترة البيضاء كي تداري بطنها النابضة بروح عشقهما. اقترب منها مبتسمًا وطوقها من الخلف وضمها لصدرها وبات الثنائي يشاهدان صورتهما المنعكسة بالمراة. بللت حلقها الذي جف من هول مجيئة وسألته:
-متأخرتش يعني!
رست كفوفه على بطنها حيث ما تنتمى وقال: -أنا كنت بسابق الوقت عشان أرجع. وكويس عرفت أهرب من الشغل. عشان أجيلك.
أحست بنبض غريب وجديد بجوفها فوضعت كفوفها فوق كفيه وقالت بخفوت: -كل ده ليه؟
غمز لها بالمراة غمزة تفصح عن حقيقة رؤيتها التي تزيل غبار حزن الساعات بدونها. تعلق ببريق عينيها المنعكسة وقال:
-وحشتيني يا ستي. وبعدين أحنا مش في بينا اتفاق.
ردت بصوت هدر: -اتفاق أيه،؟
فرت أنفاسه لمخابئها لتطبع تلك القُبلات الصغيرة على أغصانها. تمتم قائلًا: -هتخسريني في الشغل. هرجع أعوض خسارتي…
ابتسمت بفتور وهي تذوب بين يديه لم تستطع إيقافه ولن يكون لديها القدرة الكافية لتبتعد عن تلك المشاعر التي تعيشها معه. أغمضت تلك الجفون المرهقة متمتمة باسمه فقط كي يتوقف عما يفعله بقلبه الغارق بحبه حتى الموت.
ابتعد عنها عنوة كي يخرج لها عقدًا مرصعًا بالماس ولفه حول عنقه بعد ما سقاه بماء الورد. فتحت عينيها ببطء شديد وهي تتحسسه وتفحصه بالمرآه:
-ده ليا بمناسبة أيه؟
-هو لازم يكون في مناسبة؟ وبعدين ياستي اعتبريها احتفال بسيط عشان مزاد النهاردة.
رفعت عينيها معترفة: -بس أنت بعت ورد.
عاد ليضمها إليه مرة آخرى ليراقب العقد عليها ذلك الذي توهج جمال عندما لمس رقبتها. أقر بحب: -قادرة تخلي الجماد ينطق. أي حاجة بتلمسها بتدبي فيها الحياة. زي ما عملتِ بقلبي بالظبط…
ثم سند ذقنه على كتفها وقال: -العقد ده الوجهة الإعلامية بتاعت المجموعة. وأكترعقد جيه عليه الطلب. بس محدش ينفع يلبسه غيرك. المهم، حابة نسهر هنا ولا تيجي ننزل البحر ونبات الليلة دي على اليخت.
ردت بملل يملأه الخوف: -اللي تشوفه معاك فيه. عاصي عايزين نتكلم شوية ممكن.
-بصراحة وأنا كمان. في حاجة كُنت مخبيها عليك لازم تعرفيها. جيه وقتها يعني.
خفق قلبها حول ذلك السر وقالت: -وأنا كمان محتاجة اتكلم معاك في حاجة مهمة.
مط شفته بتفكير: -الحاجة دي ينفع تتأجل لبكرة طيب؟
هزت رأسها بالنفي وقالت: -لا مش هينفع تتأجل.
-طيب أخد شاور بس ومعاكِ للصبح.
أومأت بالإيجاب ثم قالت: -ماشي ادخل أنت وهجيبلك هدومك.
اتجه عاصي إلى الحمام ووقفت هي بمنتصف الغرفة تأخذ نفسًا طويلًا ليهدأ قلبها من تلك الثورة. أخرجت بعض ملابسه من الخزانة ثم فتحت الباب بهدوء ووضعتهم بمكانهم المخصص بالحمام، ألقت نظرة سريعة على ذلك الزجاج الفاصل بينهم ثم خرجت. التفت لصوت دق الباب بالخارج
. فتحت بلهفة عند سماعها صوت عالية:
-عالية! مالك؟ في حاجة بتوجعك؟ اكلم الدكتور.
ربتت عالية على كتفها: -حياة اهدي أنا كويسة. مفيش حاجة اطمني…
تنفست الصعداء وقالت بمزاح: -خضتيني قولت هتولدي…
-لا لسه بدري.
ثم اضطربت عينيها بخجل: -في حاجة تانية زادت عن حدها ولازم تعرفيها…
-حاجة أيه يا عالية؟
أشاحت بنظرها ناحية الغرفة التي تنتمي لرشيد أخيها وقلت بخجل: -أنا أسفة. في حاجة مش مظبوطة لازم تعرفيها، وأنا مش هعرف اسكت أكتر من كده.
تسرب القلق إليها: -مالك يا عالية.
نطقت عالية آخيرًا بنبرة أشبه بالهمس: -فريال كل يوم بتروح الأوضة لفريد في الوقت ده، ومش بتخرج غير الفجر. أنا حاولت كتير أخيب ظنوني، بس الأمر فعلًا يقلق…
في تلك اللحظة رن هاتف عاصي، فتناوله بيده المبللة وقال بملل: -أيوة…
-عاصي بيه، في حريق جامد في المصنع وإصابات كتير ومش عارفين نسيطر عليه…
قصر دويدار.
تأكل النيران بقلبها حتى شتت أفكارها ومبادئها، أخذت تهاتفه للمرة المئة ولكن دون جدوى، ضربت الأرض بقدميها إثر شعورها بالإهانة والعجز، فتحت باب الغرفة وحسمت قرارها لتذهب إليه. بدون إذن فتحت الباب وقفلته خلفها وقالت موبخة والدموع تتطاير من عينيها:
-مابتردش على تليفوناتي ليه؟
فزع من مرقده بارتباك واضح: -نوران أنتِ بتعملي أيه هنا؟
ردت بإصرار: -مش هتحرك من هنا غير لما تسمعني يا كريم.
رد بحزم وهو يحاول يمسك يدها بيخرجها من غرفته: -نوران لوسمحتي اتفضلي اخرجي، ومش عايز اسمع حاجة خلاص خلصنا.
شدت يدها بإلحاح: -أنا كنت هعرف منين أنه شخص زبالة وبيضحكوا على البنات!
صرخ بوجهه ليعنفها: -عشان هي شغلانة كلها عوج وبيستغلوا البنات العبيطة اللي زيك.
ضرب الأرض بقدميها بعجز والعبرات تتقطر من عينيها المحمرة: -طيب كلمني كويس، متزعقش وكفاية اللي قولته وانا سكتت عليه. وأنا غلطانة إني عبرتك وجيت عشان اطيب بخاطرك.
وقف متأففًا: -نوران اخرجي بره ماينفعش حد يشوفك هنا.
تمتمت بدموعها الجارية وهي تتمسك بيده: -طيب سامحتني! كريم بلاش الاسلوب ده مش أنت والزمن عليا!
في تلك اللحظة سحبها من يدها ليخرجا معًا من الغرفة وهو يقول: -تعالى نتكلم تحت، هنا مش هينفع.
في نفس اللحظة التي خرج فيها الثنائي من الغرفة كانت شمس تحمل دورقًا من المياه وتتجه إلى غرفتها، ما أن رأتهم معًا سقط ما بيدها وجحظت مُقلتيها:
-نوران! أنتِ بتعملي أيه هنا؟
التعليقات